الفصل الأول

الإنسان: إلى أي درجة هو حيوان عقلاني؟

«الإنسان حيوان عقلاني. هذا ما أُخبرنا به على كل حال. ظللت طوال عمري المديد أبحث عن دليل على هذه الجملة. وحتى الآن لم يحالفني الحظ بمصادفته.»

برتراند راسل1

«مَن يستطيع أن ينتقد ضعف العقل البشَري بأبلغ الأساليب أو أكثرها تعمقًا يكاد ينزله قومُه منزلةً إلهية.»

باروخ سبينوزا2
يُطلَق على نوعنا البشَري وفقًا لتقسيم لينيوس اسم «هومو سِبيَنز» الذي يعني الإنسان العاقل، وقد استحققنا تلك الصفة المحدَّدة من جوانب عدة. فقد حدَّد نوعنا تاريخَ نشأة الكون، وسبْر أغوار طبيعة المادة والطاقة، وحلَّ ألغازِ الحياة، وكشف عن الدوائر العصبية المتعلِّقة بالوعي، ودوَّن تاريخنا وتنوُّعنا. وقد استخدمنا هذه المعرفةَ لتعزيز ازدهارنا، مذلِّلين بذلك الصعابَ التي أنهكت أسلافنا على مدى الجزء الأكبر من وجودنا. أجَّلنا أيضًا ميعادنا المتوقَّع مع الموت من سن الثلاثين عامًا إلى ما يزيد عن سبعين عامًا، أو ثمانين في الدول المتقدمة، وقلَّلنا من نسبة الفقر المدقع من ٩٠ في المائة من البشَرية إلى أقل من ٩ في المائة، وخفَّضنا معدَّلات موتى الحروب بمقدار ٢٠ مرة وموتى المجاعات بمقدار ١٠٠ مرة.3 وحتى حين ظهرت لعنةُ الوباء القديمة مجددًا في القرن الحادي والعشرين، تعرَّفنا على السبب خلال أيام، وتوصَّلنا إلى تسلسُل الجينوم الخاص به خلال أسابيع، ووفَّرنا اللقاحات خلال عام، فلم يكن معدَّل الوفيات سوى نسبة ضئيلة من معدَّل وفيات الأوبئة التاريخية.
ليست الوسائل المعرفية التي أدَّت إلى فهمنا للعالم وتطويعنا إياه لمصلحتنا بغنيمةٍ من غنائم الحضارة الغربية، بل هي إرث جنسنا البشَري. إنَّ قبائل البوشمن في صحراء كلهاري في جنوب أفريقيا من أقدم شعوب العالم، ونحن نعرف من نمط حياتهم المتمثِّل في التجوُّل بحثًا عن الطعام، والذي ظلوا محتفظين به حتى عهد قريب، لمحةً عن الكيفية التي عاش بها البشَر أغلبَ حياتهم.4 لم تقتصر ممارساتُ جماعات الصيد وجني الثمار على إلقاء الرماح على الحيوانات العابرة أو التقاط ما يحلو لها من الثمار والنباتات التي تنمو من حولها.5 فقد وصف عالِم اقتفاء الأثر، لوي ليبنبيرج، الذي ظلَّ يعمل مع البوشمن لعقود، كيف أنهم يَدينون ببقائهم على قيد الحياة لعقليتهم العلمية.6 فهم يسلُكون سبيلَ المنطق ليصلوا إلى استنتاجاتٍ بعيدة من بيانات متفرقة بإدراك فطري للمنطق، والتفكير النقدي، والاستدلال الإحصائي، والارتباط والسببية، ونظرية الألعاب.
يمارس البوشمن الصيدَ بالمثابرة، الذي تُستغل فيه السِّمات الثلاث الأبرز لدينا: سَيْرنا على ساقين الذي يمكِّننا من الجري بمهارة؛ وخلو أجسامنا من الشعر الذي يمكِّننا من التخلص من الحرارة في المناخات الحارة؛ ورءوسنا الكبيرة التي تمكِّننا من أن نكون عقلانيين. يستخدم البوشمن هذه العقلانية في تعقُّب الحيوانات الفارة من آثار حوافرها ورائحتها وسائر آثارها، فيتتبَّعونها حتى تسقط من الإعياء ولفحة الحر.7 أحيانًا يتتبَّع البوشمن الحيوانَ في أحد مساراته المعتادة، أو بالبحث في دوائر متسعة حول آخرِ آثار ملحوظة حين ينطمر الأثر. لكنهم غالبًا ما يعتمدون على التفكير المنطقي في تتبُّع أثرِ الحيوانات.

يميز الصيادون بين عشرات الأنواع من الحيوانات وفقًا لأشكال آثارها والمسافة بينها، مسترشدين في ذلك بإدراكهم للعلة والمعلول. فقد يستنتجون أنَّ الأثرَ المتوغل بعمقٍ هو أثر غزال قوقز رشيق؛ إذ يحتاج إلى تثبيت قدمه جيدًا، بينما يعود أثرُ القَدم المفلطحة لظبي الكودو؛ إذ ينبغي أن تحمل وزنه. يستطيعون أيضًا معرفةَ جنس الحيوانات من شكل توزيع آثارها وموقع بولِها بالنسبة إلى أقدامها الخلفية وفضَلاتها. وهم يستخدمون هذه التصنيفات لوضع استنباطات قياسية: فالظبي الصخري وظبي الديكر يمكن اصطيادهما في الفصول الممطرة؛ لأن الرمال الرطبة تجبرهما على فتح حوافرهما وتجعل مفاصلهما متيبِّسة، أما الكودو والعلند فيمكن صيدهما في الفصول الجافة لأنهما يُرهَقان بسهولة في الرمال السائبة. إذا كان ذلك فصلَ الجفاف والحيوان الذي ترك هذه الآثار هو الكودو، فيمكن إذن اصطياده.

لا يكتفي البوشمن بتصنيف الحيوانات في فئات، وإنما يفرِّقون بينها فروقًا منطقية أدق. فهم يميِّزون بين أفراد النوع الواحد بقراءة آثار حوافرها والبحث فيها عن الشقوق والتباينات المميزة. يتعرَّف البوشمن أيضًا على السمات الأصيلة لأفراد الحيوانات، مثل النوع والجنس، من حالاتٍ عابرة مثل الإعياء التي يستدلون عليها من آثار جرِّ الحافر والتوقف للراحة. وفي تحدٍّ للإشاعة الكاذبة القائلة بأن شعوبَ ما قبل العصر الحديث تفتقر إلى مفهوم الزمن، يقدِّر البوشمن سنَّ الحيوان من حجم آثار حوافره ودرجة تماسكها، وهم يستطيعون تحديدَ تاريخ أثره وفقًا لمدى حداثته، ودرجة رطوبة اللعاب أو الفضلات، وزاوية الشمس بالنسبة إلى مكانٍ ظليل اتخذه للاستراحة، إضافةً إلى الآثار المتداخلة التي تعود إلى حيواناتٍ أخرى. لا يمكن لصيد المثابرة أن يفلح من دون تلك التفاصيل المنطقية. فلا يمكن لصيَّاد أن يتعقَّب أيَّ مهاة جنوب أفريقية من بين العديد من الحيوانات التي تركت آثارها، وإنما يتعقَّب المهاة التي ظل يطاردها حتى أصابها الإنهاك فحسب.

إضافةً إلى ذلك، يمارس البوشمن التفكيرَ النقدي. فهم يدركون ضرورةَ ألا يعتمدوا على انطباعاتهم الأولى، ويقدِّرون مخاطر أن يوهموا أنفسهم بما يريدون. ثم إنهم لا يسلِّمون بحججِ ذوي السلطة، بل يمكن لأي شخص، وإن كان شابًّا يافعًا، أن يخالف افتراضًا أو يأتي بافتراض حتى يفضي الجدل إلى اتفاق. ورغم أن الرجال هم مَن يصطادون في الغالب؛ فالنساء على نفس القدرِ من المعرفة في تفسير الآثار، ويشهد ليبنبيرج بأن سيدة شابة تُدعى ناسي، «قد تفوَّقت في ذلك على الرجال.»8

يعدِّل البوشمن من ثقتهم في الفرضية حسب درجة دلالة القرينة، وتلك ممارسة معروفة في الاحتمال الشرطي. فقَدمُ حيوان النيص مثلًا بها وسادتان متقاربتان، أما قدمُ غُرَيْر العسل فليس بها سوى واحدة، لكن أثَر الوسادة لا ينطبع أحيانًا على الأرض الصلبة. معنى هذا أنه رغم ارتفاع احتمالية أن يحتوي المسار على أثرِ وسادة واحدة إذا كان من صُنع حيوان غُرَيْر العسل، فإن الاحتمالَ العكسي، أنَّ الأثر يعود لغُرَيْر عسل إذا كان به أثرُ وسادة واحدة، أقل؛ إذ يمكن أيضًا أن يكون أثرًا غير كامل لحيوان النَّيْص. لا يخلط البوشمن بين هذين الاحتمالين الشرطيين؛ فهم يعرفون أنه ما دام أثرُ الوسادتين لا يمكن أن يتركه إلا النَّيْص، فإن احتمال وجود النَّيْص مرتفعٌ إذا كان الأثر لوسادتين.

علاوةً على ذلك يعدِّل البوشمن من ثقتهم في الفرضية وفقًا لدرجةِ وجاهتها المسبقة. إذا كانت الآثار مبهمة، فسيفترضون أنها جاءت من حيوان شائع، ولن يستنتجوا أنها تعود لنوع أندرَ إلا إذا كان الدليل جازمًا.9 ومثلما سنرى لاحقًا، فإنَّ هذا هو جوهر الاستدلال البايزي.
من المَلَكات النقدية الأخرى التي يمارسها البوشمن التفرقةُ بين السببية والارتباط. يتذكَّر ليبنبيرج فيقول: «أخبرني أحدُ مقتفي الآثار، بوروهكاو، أن طائر [القبرة] حين يغرِّد، يجفف التربة، مما يجعل الجذور صالحة للأكل. فيما بعدُ أخبرني نات ويوآس أن بوروهكاو كان مخطئًا؛ فليس الطائر هو ما يجفِّف التربة، بل الشمس هي التي تجفِّفها. أما الطائر فكلُّ ما يخبرنا به هو أن التربة ستجفُّ خلال الشهور القادمة، وأن هذا هو الوقت الذي تصير فيه الجذور صالحة للأكل.»10

لا يقتصر استخدامُ البوشمن لمعلوماتهم عن البنية السببية لبيئتهم لفهمِ ما هي عليه بالفعل فحسب، بل ليتخيلوا أيضًا ما قد تصير عليه. فمن خلال تصوُّر الاحتمالات الواردة بعين خيالهم يتمكَّنون من استباق الحيوانات في عالمهم وتصميم فخاخ معقَّدة للإيقاع بها. فتجد فرعَ شجرةٍ مرنًا وقد ثبتوا طرفه في الأرض وثنوه من المنتصف، بينما ربطوا الطرف الآخر بعُقدة مخفية بين الغصون والرمال وثبَّتوه في مكانه بزناد. وتجد أنهم يضعون الفخاخ عند فتحات الحواجز التي بنَوها حول مأوى أحد الظباء، ويستدرجونه لموقع هلاكه بعائقٍ يضطر الظبي إلى إزاحته. يمكنهم أيضًا أن يستدرجوا نَعامة لأحد الفخاخ بتحديد خطاها تحت شجرة شوك الجمل — التي يهوى النَّعام أكْلَ قرونها — ثم يتركون عظمةً ظاهرة كبيرة لا تستطيع النَّعامة بلْعَها غير أنها تجذب انتباهها لعظمةٍ أخرى أصغرَ لكنها لا تزال صعبة في البلع هي الأخرى، فتؤدي بها إلى عظمةٍ أصغر، هي الطعم الموجود في الفخ.

وبالرغم من هذه الكفاءة البالغة لتقنية البوشمن، فقد عاشوا في الصحراء القاسية أكثر من ١٠٠ ألف سنة دون إبادة الحيوانات التي يعتمدون عليها. ذلك أنهم خلال فترات الجفاف، يفكِّرون مسبقًا فيما سيحدث إذا أهلكوا آخرَ فردٍ من نوعه نباتًا أو حيوانًا، ويبقون على أفراد الأنواع المهدَّدة بالانقراض.11 وهم يصمِّمون خططَ حفظِ الأنواع بما يتناسب مع مواطن الضعف المختلفة للنباتات التي لا تستطيع أن تهاجر لكنها تتعافى سريعًا حين تعود الأمطار، ولدى الحيوانات التي تستطيع النجاة من الجفاف لكن أعدادها تزداد مجددًا ببطء. إنهم يطبِّقون هذه الجهود للحفاظ على الأنواع رغم الإغراء المستمر بالصيد الجائر — إذ يشعر الجميع أن عليهم استغلالَ الأنواع النادرة؛ لأن الآخرين سيفعلون ذلك على أي حال إن لم يفعلوه هم — معلِين بذلك من مبادئ المعاملة بالمِثل والرفاه الجماعي التي يتبنونها في تنظيم جميع مواردهم. فمن المحال تقريبًا ألا يقتسم صيادٌ من البوشمن اللحمَ مع فردٍ من قبيلته خالي الوفاض، أو يطرد جماعةً مجاورة ضربَ الجفافُ أرضَها فهجرتها؛ إذ يدركون أن الذكريات تلبث طويلًا، وأن الأقدار قد تنقلب يومًا ما.

•••

إنَّ حكمةَ البوشمن تجعل لغزَ عقلانية البشَر أمرًا بيِّنًا. فرغم قدرتنا القديمة على التفكير المنطقي، تغمرنا اليوم رسائلُ تذكِّرنا بمغالطات رفاقنا وحماقاتهم. يقامر الناسُ ويلعبون اليانصيب، حيث الخسارة أكيدة دون شك، ولا يستثمرون الأموال من أجل تقاعدهم، حيث الربح مضمون. الحق أنَّ ثلاثة أرباع الأمريكيين يؤمنون بظاهرة واحدة على الأقل من الظواهر المخالفة لقوانين العلم؛ منها العلاج الروحاني (٥٥ في المائة)، والإدراك المتجاوز للحواس (٤١ في المائة)، والبيوت المسكونة (٣٧ في المائة)، والأشباح (٣٢ في المائة)؛ مما يعني أيضًا أن بعض الناس يؤمنون بالبيوت المسكونة دون أن يؤمنوا بالأشباح.12 وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، نجد أنَّ الأخبار الكاذبة على غرار — «جو بايدن يدعو أنصار ترامب «حثالة المجتمع»» أو «القبض على رجل في فلوريدا لتخديره التماسيح واغتصابها في منطقة إيفرجليدز» — تنتشر بأسرع مما تنتشر الحقيقة وتصل إلى دائرةٍ أكبر، وغالبًا ما يكون البشَر هم مَن ينشرونها لا البرامج الآلية.13
لقد صار من المألوف استنتاجُ أنَّ البشَر غيرُ عقلانيين فحسب؛ وأنهم أشبه بهومر سيمبسون منهم بالسيد سبوك، وأنهم أشبه بألفريد إي نيومان (شخصية كاريكاتورية) منهم بجون فون نيومان. ويتمادى المتهكِّمون معلِّقين: ماذا تتوقَّع غير ذلك من أحفاد صيادين وجامعي ثمار قد انتُخِبت عقولهم بما يمكِّنهم من تحاشي أن يصبحوا غداءً للنمور؟ غير أنَّ الباحثين في علم النفس التطوري، يدركون براعةَ الجماعات المتجولة بحثًا عن الغذاء، ويؤكدون على أنَّ البشَر تطوَّروا ليحتلوا تلك «المكانة المعرفية»: القدرة على التفوق على الطبيعة باللغة والنزعة الاجتماعية والمعرفة.14 إذا بدا لكم أنَّ البشَر المعاصرين غير عقلانيين، فلا تلوموا الصيادين جامعي الثمار.

كيف لنا إذن أن نفهم ما ندعوه بالعقلانية، والتي تبدو أنها حقٌّ مكتَسبٌ لنا لكننا كثيرًا ما نستهين بها استهانةً صارخة؟ نقطة البداية أن نفهم أن العقلانية ليست قوة إما أن تكون لدى كِيانٍ ما أو لا تكون لديه، مثل حاسة البصر الخارقة التي يتمتع بها سوبرمان. إنها مجموعة من الأدوات الإدراكية يمكنها تحقيق أهداف معيَّنة في عوالمَ معيَّنة. ولفهمِ ماهية العقلانية، والسبب في أنها تبدو نادرة، وإدراك أهميتها، لا بد أن نبدأ بالحقائق الأساسية للعقلانية نفسها؛ أي الطرق التي «يجدُر» أن يفكِّر بها الكائن الذكي، وفقًا لأهدافه والعالم الذي يعيش فيه. تأتي هذه النماذج «المعيارية» من المنطق والفلسفة والرياضيات والذكاء الاصطناعي، وهي تمثِّل أفضلَ فهمٍ يمكننا تحقيقه للحل «الصحيح» لمشكلةٍ ما وسبيل العثور عليه. تشكِّل هذه الأدوات المعيارية غايةً لمَن يرغبون في أن يكونوا عقلانيين، وهو ما ينبغي أن نسعى جميعًا إليه. ولهذا؛ فمن الأهداف الرئيسية لهذا الكتاب شرحُ ما يمكن تطبيقه على نطاق واسع من الأدوات المعيارية للتفكير المنطقي؛ وهي موضوعات الفصول من الثالث حتى التاسع.

إضافةً إلى ذلك، تؤدي النماذجُ المعيارية وظيفةَ المقاييس المرجعية التي نستطيع أن نقيم بها الطريقةَ التي «يفكر» بها البشر الحمقى، وهو موضوع علم النفس وغيره من العلوم السلوكية. وقد اشتهرت الطرقُ المتعددة التي يعجز بها الأشخاص العاديون عن استيفاء تلك المقاييس المرجعية من خلال البحث الفائز بجائزة نوبل لدانيال كانمان وعاموس تفيرسكي وغيرهما من علماء النفس وخبراء الاقتصاد السلوكي.15 فعندما تحيد قراراتُ الناس عن نموذج معياري، وهو ما يحدُث غالبًا، يكون لدينا لغزٌ ينبغي حلُّه. أحيانًا يكشف التباينُ عن لا عقلانية حقيقية؛ إذ لا يستطيع العقل البشَري مواكبةَ تعقيد المشكلة، أو ربما يعوقه عيبٌ ما يسوقه بإلحاح للإجابة الخطأ مرةً تلو الأخرى.

بالرغم من ذلك، ثمَّة حالاتٌ كثيرة تنطوي على سببٍ وجيه للتصرُّفات غير العقلانية التي يأتي بها الناس. فربما قُدِّمَت لهم المشكلة في شكلٍ مضلِّل، لكنها حين تُترجم لهم في هيئةٍ أنسب للذهن، يحلونها ببراعة. أو ربما يكون النموذج المعياري نفسه صحيحًا في سياقٍ معيَّن فقط، ويشعر الأشخاص مصيبين أنهم ليسوا في ذلك السياق، ومن ثَم لا ينطبق النموذج عليه. ثمَّة احتمالٌ أيضًا أن يكون النموذج مصمَّمًا ليُسفِر عن هدف معيَّن، بينما يسعى الناس لهدفٍ غيره، لسبب أو آخر. في الفصول القادمة، سنرى أمثلةً لهذه الظروف المخفَّفة كلها. وسيستعرض الفصل السابق للأخير كيف يمكن فهْم بعضِ ما نشهده في الوقت الحاضر من فورات معقَّدة من اللاعقلانية بصفتها سعيًا عقلانيًّا لأهدافٍ معيَّنة ليس من بينها تحقيقُ فهمٍ موضوعي للعالم.

رغم أن تفسيرات اللاعقلانية قد تبرِّئ الناس من تهمة الغباء المطبِق، فإن فهْم الموقف لا يعني غفرانه. نستطيع أن نتوقَّع من الأشخاص مستوًى أعلى في بعض الأحيان. فيمكن تعليمُهم تحديدَ المشكلة العميقة من وراء مظهرها الخارجي. ويمكن حثُّهم على تطبيقِ أفضل عاداتهم للتفكير في النطاقات التي لا يألفونها. ويمكن إلهامهم بالسعي وراء أهدافٍ أعلى من الأهداف العبثية أو المدمِّرة للجميع. وهذه أيضًا من تطلعات الكتاب.

لمَّا كانت إحدى الرؤى التي نفطن إليها باستمرار عند دراسة القدرة على التمييز واتخاذ القرارات أن البشَر يكونون أكثرَ عقلانيةً حين تكون المعلومات التي يتعاملون معها أقربَ صلة بهم وأوضح، فاسمحوا لي بأن ألجأ إلى الأمثلة. وجميع هذه الأدوات الكلاسيكية، من الرياضيات والمنطق والاحتمالية والتكهُّن، تكشف عن خاصيةٍ في الأسلوب الذي نعقل به الأشياءَ وستكون بمثابة لمحة مسبقة عن النماذج المعيارية للعقلانية — والأساليب التي يحيد بها الناس عنها — والتي سنعرضها في الفصول القادمة.

ثلاث مسائل حسابية بسيطة

جميعنا يتذكَّر ما لاقيناه في المدرسة الثانوية من عذابٍ بسبب مسائل الجبر التي تسأل عن ملتقى القطار الذي غادر إيستفورد متجهًا إلى الغرب بسرعة ٧٠ ميلًا في الساعة، بالقطار الذي غادر ويستفورد، ويبعد عنه ٢٦٠ ميلًا، متجهًا إلى الشرق بسرعة ٦٠ ميلًا في الساعة. غير أنَّ المسائل الثلاث التي سأعرضها أسهلُ من ذلك، ويمكنكم حسابها في رءوسكم، وهي كما يلي:

  • لدينا هاتف ذكي وجِراب له، سعرهما الإجمالي ١١٠ دولارات. يزيد سعر الهاتف عن سعر الجراب بمقدار ١٠٠ دولار. فكم سعر الجراب؟

  • لدينا ثماني طابعات تطبع في ثماني دقائق ثماني نشرات. فكم تستغرق ٢٤ طابعة لتطبع ٢٤ نشرة؟

  • ثمَّة رقعة من الحشائش في أحد الحقول. يتضاعف حجم هذه الرقعة يوميًّا. ويستغرق الأمر ثلاثين يومًا كي تغطي الرقعة الحقلَ بأكمله. فكم استغرقت الرقعة لتغطي نصف الحقل؟

إجابة المسألة الأولى هي خمسة دولارات. إذا كنتَ كأغلب الناس، فلا بد أن تخمينك كان عشرة دولارات. لكن لو كان هذا صحيحًا، لصارت تكلفة الهاتف ١١٠ دولارات (أكثر من الجراب بمائة دولار)، ولصار السعر الإجمالي للاثنين ١٢٠ دولارًا.

إجابة السؤال الثاني ثماني دقائق. فالطابعة الواحدة تستغرق عشر دقائق في طباعة نشرة واحدة، وما دام لدينا من الطابعات بقدرِ ما لدينا من نشرات وهي تعمل في آنٍ واحد، فسوف تستغرق نفس الوقت في طباعة النشرات.

أما إجابة السؤال الثالث، فهي ٢٩ يومًا. إذا كانت رقعة الحشائش تتضاعف يوميًّا، فعند الرجوع بالزمن بدايةً من الوقت الذي كان الحقل فيه مغطًّى تمامًا، يمكننا أن نستنتج أنه كان نصف مغطًّى في اليوم السابق.

طرح عالِم الاقتصاد شين فريدريك هذه الأسئلة — بأمثلة مختلفة — على آلاف الطلاب الجامعيين. وكانت النتيجة أنَّ خمسةً من كل ستة أجابوا إجابة خاطئة عن واحد منها على الأقل؛ بينما أجاب واحد من كل ثلاثة عنها كلها بالخطأ.16 بَيْد أن إجابة هذه الأسئلة بسيطةٌ يفهمها الجميع تقريبًا عند توضيح. المشكلة أن الناس تتَّجه بانتباهها نحو السمات السطحية للمسألة التي يعتقدون خطأً أنها وثيقةُ الصلة بالإجابة، مثل العددين الصحيحين ١٠٠ و١٠ في المسألة الأولى وواقع أنَّ عدد الطابعات هو نفسه عدد الدقائق في المسألة الثانية.

يطلِق فريدريك على أسئلته البسيطة اسمَ اختبار التفكير الإدراكي، وهو يرى أنه يكشف عن صدعٍ بين نظامين للإدراك، اشتهرا فيما بعدُ على يد كانمان (الذي كان يشاركه التأليف أحيانًا) في كتابه الذي تصدَّر المبيعات عام ٢٠١١، «التفكير السريع والبطيء». النظام الأول يعمل بسرعةٍ ودون عناء، ويضلِّلنا بإجابات خاطئة، أما النظام الثاني فيتطلب التركيز والدافع وتطبيق القواعد المكتسَبة بالمعرفة، وهو يمكِّننا من الحصول على الإجابات الصحيحة. ما من أحدٍ يعتقد بوجود جهازين تشريحيَّين في الدماغ بالمعنى الحرفي، بل نموذجان للعمل هما من صميم العديد من بِنى الدماغ. يُعنى النظام الأول بالأحكام السريعة، بينما يُعنى النظام الثاني بالتفكير مرتين.

إنَّ الدرس المستفاد من اختبار التفكير المعرفي أنَّ أخطاء التفكير المنطقي قد تأتي من عدم التروي لا من انعدام المهارة.17 فحتى طلاب معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا فخر الرياضيات أصابوا في الإجابة عن مسألتين من الثلاث في المتوسط. صحيح أن الأداء يقترن بالمهارة في الرياضيات، كما هو متوقَّع، لكنه يقترن أيضًا بالصبر. فالأشخاص الذين يصفون أنفسهم بأنهم غير مندفعين، والذين يفضِّلون انتظار مبلغ كبير خلال شهر على جني مبلغ أصغر في الحال، أقلُّ عرضة للسقوط في هذه الفخاخ.18
تبدو المسألة الأولى والثانية خادعتين. ذلك أنهما تقدِّمان تفاصيلَ ستكون مرتبطة بما يسأل عنه المتحدِّث عند تبادل أطراف الحديث، لكنها صُمِّمت في هذه الأمثلة لتضليل مَن يسمعها. (الحق أنَّ الأشخاص يفهمون المسألة فهمًا أفضل حين يكون سعر الهاتف الذكي أكبرَ من الجراب بمبلغ ٧٣ دولارًا مثلًا، بينما يبلغ السعر الإجمالي للاثنين ٨٩ دولارًا.)19 لكنَّ الواقع مزيَّن ولا شكَّ بإغراءات وإغواءات تستميلنا بعيدًا عن القرارات الصائبة، ومقاومتها جزءٌ من التصرف بعقلانية. فالأشخاص الذين ينخدعون بإجابات جذابة لكن خاطئة في اختبار التفكير الإدراكي يبدون أقلَّ عقلانية من نواحٍ أخرى؛ فيرفضون على سبيل المثال عروضًا مجزية إن كانت تتطلب بعض الانتظار أو تنطوي على شيء من المجازفة.
أما المسألةُ الثالثة، المتعلِّقة برقعة الحشائش، فهي ليست سؤالًا خادعًا لكنها تمسُّ نقيصةً إدراكية حقيقية. فالحَدْس البشَري لا يستوعب النمو الأسي (بمتوالية هندسية)، أي نمو الشيء بمعدَّل متزايد بالتناسب مع حجمه الفعلي، مثل الفائدة المركَّبة والنمو الاقتصادي وانتشار الأمراض المعدية.20 يعتقد الناس خطأً أنه زحْفٌ منتظم أو تسارُع بسيط، ويعجز خيالهم عن مواكبة التضاعف المستمر. كم ستبلغ مدخراتك بعد ٤٠ سنة إذا أودعت ٤٠٠ دولار في حساب تقاعد يدرُّ ١٠ في المائة سنويًّا؟ يخمِّن أغلب الناس أنها ستبلغ ٢٠٠ ألف دولار تقريبًا، وهذا حاصل ضرب ٤٠٠ في ١٢ في ١١٠ في المائة في ٤٠. ويدرك بعض الأشخاص أن هذا لا يمكن أن يكون صحيحًا، ويخمِّنون رقمًا أكبر، لكنه ليس كبيرًا بما يكفي. لا أحد تقريبًا يخمِّن الإجابةَ الصحيحة: مليونان ونصف مليون دولار. وقد وُجد أن الأشخاص الذين لا يفهمون النمو الأسيَّ فهمًا جيدًا يدَّخرون لتقاعدهم نقودًا أقلَّ ويتراكم عليهم قدرٌ أكبر من ديون بطاقات الائتمان، وهما سبيلان نحو الفاقة.21
من الممكن أيضًا أن يقع الخبراء في فخ القصور عن تصوُّر النمو الأسي هم الآخرون، وإن كانوا من خبراء التحيُّزات المعرفية. فحين وصل فيروس كوفيد ١٩ إلى الولايات المتحدة وأوروبا في فبراير عام ٢٠٢٠، ارتأى العديد من علماء الاجتماع — ومنهم اثنان من أبطال هذا الكتاب، لكن ليس كانمان نفسه — أنَّ الناس هلعت هلعًا غير منطقي لأنها قرأت عن حالة أو اثنتين من الحالات الخَطِرة وانجرفت وراء «التحيُّز للمتوافر» و«تجاهُل الاحتمالات». وقد ذكروا حينها أنَّ خطر الإصابة أقلُّ من خطر الإصابة بالإنفلونزا أو التهاب الحلق، وهو ما يتقبَّله الكل بهدوء.22 كانت المغالطة التي وقَع فيها هؤلاء العلماء المندِّدون بالمغالطات هي الاستهانةَ بالمعدَّل المتسارع الذي يمكن أن ينتشر به مرضٌ معدٍ مثل كوفيد؛ إذ لا يقتصر الأمر على نقلِ كل مريض للعدوى لأشخاص جدد، بل يصبح كل منهم ناقلًا للعدوى. فحالة الوفاة الأمريكية الوحيدة المؤكَّدة، قد تضاعفت خلال أسابيع متتالية إلى أن بلغ عدد حالات الوفاة اليومية اثنتين، فستًّا، فأربعين، فمائتين وستًّا وأربعين، فتسعمائة وواحدة، فألفًا وسبعمائة وتسعًا وعشرين، حتى وصل مجموعها إلى مائة ألف حالة في الأول من يونيو، وما لبِث أن صار هذا المرض هو الخطر الأشد فتكًا في البلد.23 لا يمكن بالطبع أن نلوم مؤلفي مقالات الرأي المبهمة تلك على اللامبالاة التي ساقت العديدَ من القادة والمواطنين إلى حالة خَطِرة من التراخي، لكن تعليقاتهم توضِّح مدى العمق الذي قد تمتد إليه جذور التحيُّزات المعرفية.
لماذا يرتكب الناس «خطأ الاستهانة» بالنمو الأسي، على غرار الأسلوب المميَّز للطبيب في مسرحية موليير الذي فسَّر السبب في أنَّ الأفيون يبعث الناس على النوم ﺑ «تأثيره المنوِّم»، يعزو علماء الاجتماع الأخطاء إلى «تحيُّز النمو الأسي.» غير أننا نستطيع تفادي هذه الطريقة في التفسير الدائري من خلال الإشارة إلى قِصَر أجلِ العمليات الأسية في البيئات الطبيعية، وذلك قبل ابتكارات تاريخية مثل النمو الاقتصادي والفائدة المركَّبة. فالأشياء التي لا تستطيع الاستمرار لا تستمرُّ، وتتوقَّف الكائنات عن التضاعف حين تصل إلى درجةِ استنفاد بيئاتها أو تلويثها أو تشبُّعها، مما يثني المنحنى الأسي لشكل حرف S. ينطبق هذا على الأوبئة، التي تتناقص حين يموت عددٌ كافٍ من الكائنات المضيفة المعرَّضة للمرض، أو يصير لديها مناعة.

مسألة منطقية بسيطة

إن كان ثمة جوهر للعقلانية، فهو المنطق بلا شك. يتجسَّد النموذج الأولي للاستدلال العقلاني في القياس المنطقي: «إذا س فإنَّ ص. س، إذن ص». إليكم مثالًا بسيطًا.

لنفترض أن بلدًا عملته هي صورة لأحد حكامه البارزين على وجه وعلى الوجه الآخر صورة لنوع من حيواناته المذهلة. والآن لدينا هذه القاعدة الشرطية البسيطة: «إذا كانت العملة على وجهها ملِك، فعلى وجهها الآخر صورة طائر.» ولدينا أربع عملات، تظهر عليها صور ملك وملكة وغزال الموظ وبطة. فما العملات التي يجب أن تقلبها لتعرفَ إن كانت مخالفة للقاعدة؟

إن كنتَ مثل أغلب الناس، فستقول «الملك» أو «الملك والبطة». لكنَّ الإجابة الصحيحة هي «الملك والموظ». لماذا؟ يُجمِع الكل على أنه لا بد من قلبِ عملة الملك؛ لأنك إن لم تجد صورةَ طائر على الوجه الآخر، فستكون مخالفة للقاعدة مخالفة مباشرة. يدرك أغلبُ الناس أنه لا جدوى من قلب عملة الملكة؛ لأن القاعدة تقول «إذا كانت صورة ملِك فعلى الوجه الآخر صورة طائر»؛ ولا تذكر شيئًا عن صورة الملكة. يقول الكثيرون لا بد أن تقلب عملة البطة، لكن عند التأمُّل ترى أن تلك العملة لا تعنينا. فالقاعدة تقول «إذا كانت الصورة على أحد وجهي العملة لملِك، فعلى الوجه الآخر صورة طائر»، وليس «إذا كانت صورة طائر فالوجه الآخر صورة ملك»؛ ولهذا إذا كانت صورة البطة مع صورة ملكة على الوجه الآخر، فلن يكون ثمة خطأ. لنتناول الآن عملةَ الموظ. إذا قلبتَ العملة ووجدت صورةَ ملِك في الوجه الآخر، فستكون مخالفة لقاعدة «ما دام لدينا ملِك، فلدينا طائر». الإجابة إذن هي «الملِك والموظ.» غير أنَّ ١٠ في المائة فقط من الأشخاص هم مَن يختارون هذين الاختيارين في المتوسط.

figure
ثمة اختبار يُسمَّى «مسألة واسون للاختيار»، وضعه اختصاصي علم النفس المعرفي بيتر واسون، وقد ظل يُجرى على مدى خمسة وستين عامًا بالعديد من القواعد المتنوِّعة على غرار: «إذا كان س فهو ص». كانت النسخة الأصلية تستخدم بطاقاتٍ بها حرفٌ على وجه ورقم على الوجه الآخر وقاعدة على غرار: «إذا كان لدينا حرف «د» على وجه، فلدينا رقم ثلاثة على الوجه الآخر.» وكثيرًا ما كان الأشخاص يقلبون س، أو س وص، ولا يقلبون ما هو ليس ص.24 ليس السبب في ذلك أنهم غير قادرين على فهمِ الجواب الصحيح: فحالما تُشرح لهم الإجابة، يستوعبونها ويقتنعون بها، مثلما حدث تمامًا في حالة اختبار التفكير الإدراكي.25 غير أنَّ حَدْسهم المتسرِّع يعجز عن تطبيق المنطق، حين تكون له حرية التصرُّف.
بمَ يخبرنا ذلك عن عقلانية البشَرية؟ من التفسيرات الشائعة أنه يكشف عن «انحيازنا التأكيدي»: العادة السيئة من التماس الدليل الذي يؤكِّد اعتقادًا لدينا وتجاهُل الدليل الذي قد يكذِّبه.26 فالناس يعتقدون أنَّ الأحلام نُذُر لهم لأنهم يتذكرون حين حلَموا ذات مرة بمكروه أصاب قريبًا لهم فأصابه، لكنهم ينسون كل المرات التي حلَموا فيها أنه قد أصابه فيها مكروه لكنه ظل على ما يرام. ربما يعتقدون أيضًا أن المهاجرين يرتكبون الكثير من الجرائم لأنهم قرءُوا في الأخبار أن مهاجرًا سرق متجرًا، لكنهم يتجاهلون العدد الأكبر من المتاجر التي سرقها مواطنون وُلدوا في البلد.
يُعَد الانحياز التأكيدي تشخيصًا شائعًا لحماقة البشَر وهدفًا لتعزيز العقلانية. لقد حكى فرانسيس بيكون (١٥٦١–١٦٢٦)، الذي يُنسب إليه الفضل عادةً في ابتكار المنهج العلمي، عن رجلٍ أُخذ إلى كنيسة ورأى صورة لبحارة نجوَا من حادثة غرق سفينة بفضل عهودهم مع الرب. فقال معلِّقًا: «حسنًا، لكن أين صور مَن غرقوا رغم عهودهم مع الرب؟»27 ويقول بيكون عن ذلك: «ذلك هو شأن جميع الخرافات، سواء أكانت تنجيمًا أم أحلامًا أم نُذرًا أم أحكامًا إلهية أو ما شابه؛ إذ يلاحظ الناس، مستمتعين بمثل هذه التفاهات، الأحداث التي تحقَّقت فيها، بينما يتجاهلون المرات التي لم تتحقَّق فيها ويغفلونها، مع أنها تكرَّرت أكثرَ.»28 في تكرار لحجة شهيرة للفيلسوف كارل بوبر، يزعم أغلب العلماء حاليًّا أن الخط الفاصل بين العلم والعلم الزائف هو ما إذا كان أنصار افتراضية من الافتراضيات يجتهدون في البحث عن دليلٍ يمكنه تكذيبها ولا يؤمنون بها إلا إذا نجت من محاولة التكذيب.29
كيف يستطيع البشَر أن يعيشوا حياتهم بينما هم غير قادرين على تطبيق أبسط قواعد المنطق؟ جزءٌ من الإجابة أنَّ مهمة الاختيار تمثِّل تحديًا من نوع خاص.30 إنها لا تطلب من الناس تطبيقَ القياس المنطقي للوصول إلى استنباط مفيد: «لديك عُملة على وجهها ملِك؛ فما الصورة الموجودة على الوجه الآخر؟» ولا هي تختبر القاعدة بوجه عام: «هل تنطبق القاعدة على عملة البلد؟». إنما تسأل عما إن كانت القاعدة تنطبق تحديدًا على كل عنصر من مجموعة العناصر الموجودة أمامهم على الطاولة. أما الجزء الآخر من الإجابة، فهو أن الناس تطبِّق المنطق فعلًا حين تكون القاعدة متعلِّقة بالأوامر والنواهي في الحياة البشَرية لا الرموز والعلامات الاعتباطية.

لنفترض أن مكتب البريد يبيع طوابعَ بسعر ٥٠ سنتًا من أجل بريد الدرجة الثالثة لكنه يفرض على البريد السريع طوابعَ بسعر ١٠ دولارات. بناءً على ذلك، لا بد للبريد المرسَل على نحوٍ صحيح أن يتبع القاعدةَ التي تقول: «إذا كان الخطاب يحمل علامة البريد السريع، فلا بد أن يحمل طابعًا بقيمة عشرة دولارات.» ولنفترض أن الوجه الواحد من الظرف لا يتَّسع للعلامة والطابع معًا؛ لذلك يضطر عامل البريد لقلبِ الظرف للتحقُّق مما إن كان المرسِل قد اتبع القاعدة. ولدينا أربعة أظرف. تخيَّل أنك عامل البريد. فما الأظرف التي يجب أن تقلبها؟

figure
مرةً أخرى سنجد أنَّ الإجابة هي «س» وما هو ليس «ص»، أي ظرف البريد السريع والظرف الذي يحمل طابع الخمسين سنتًا. رغم أن المسألة مشابهة منطقيًّا لمسألة العملات الأربع، فإن الجميع تقريبًا يجيبون إجابةً صحيحة هذه المرة. ذلك أنَّ مضمون المسألة المنطقية من العوامل الفارقة.31 فحين تُطبَّق قاعدة «إذا … فإذن» على عَقد يتضمن مسموحات وواجبات — «إذا تمتَّعت بفائدة، فيجب أن تسدِّد الثَّمن» — فإن مخالفة القاعدة: الحصول على الفائدة، من دون سداد الثَّمن يعادل الغش، والناس بغريزتهم يعرفون كيفيةَ الإيقاع بالغشاش. فهم لا يتحقَّقون من الأشخاص الذين لا يتمتعون بالفائدة أو الأشخاص الذين سدَّدوا الثَّمن، فليس لدى أيٍّ من هاتين الفئتين ما يدفعهما إلى محاولة التهرُّب من شيء.

يناقش اختصاصيو علم النفس الإدراكي أي أنواع المضمون تحديدًا هي التي تحوِّل الناس مؤقتًا إلى خبراء في المنطق. لا يمكن أن تكون أيُّ سيناريوهات ملموسة فحسب، بل ينبغي أن تجسِّد أنواع التحديات المنطقية التي تأقلمنا معها في مراحل نموِّنا حتى البلوغ، وربما حتى خلال تطوُّرنا إلى بشَر. ومن هذه الأفكار الأساسية التي تؤدي إلى إعمال المنطق ملاحظةُ المزايا والواجبات، وملاحظة الخطر. يعرف الناس أنه للتحقُّق من اتباع الإجراء الاحتياطي: «إذا قُدت دراجة، فيجب أن تعتمر خوذة»، ينبغي أن يتثبَّتوا من أنَّ الطفل الذي يركب الدراجة يرتدي الخوذة، ويتأكدوا أنَّ الطفل الذي لا يرتدي خوذة لا يركب دراجة.

إنَّ الذهن الذي يستطيع دحض قاعدة شرطية حين تنطوي مخالفتها على الغش أو الخطر، لا يُعَد ذهنًا منطقيًّا بالمعنى الدقيق. ذلك أنَّ المنطق يُعنى، وفقًا لتعريفه، بصيغة العبارات لا فحواها؛ أي إنه يُعنى بالكيفية التي تتصل بها المقدِّمات والنتائج ﺑ «إذا» و«فاء السببية» و«واو العطف» و«أو» و«ليس» و«بعض» و«كل»، بغض النظر عمَّا تمثِّله المقدِّمات والنتائج. لا شك أنَّ المنطق من أبرز إنجازات المعرفة الإنسانية. فهو ينظِّم عملياتنا الاستدلالية مع المواضيع غير المألوفة أو المجردة، مثل قوانين الحكومة والعلوم، وعند تطبيقه على السليكون يحوِّل المادة الخاملة إلى آلات تفكر. غير أنَّ ما يتقنه الذهن البشَري غير المدرَّب ليس أداة متعددة الاستخدامات خالية من المحتوى، بصيغ من قبيل «[إذا كان س إذن ص] تعادل ما ليس [س وليس ص]»، حيث يمكن أن تمثِّل س وص أيَّ شيء. إنما يتمتع العقل البشَري بمجموعة من الأدوات الأكثر تخصصًا التي تدمج بين المحتوى المرتبط بالمشكلة وبين قواعد المنطق (فمن دون تلك القواعد، لن تعمل الأدوات). فليس من السهل على البشَر استخراجُ القواعد وتطبيقها على مشكلاتٍ جديدة أو مبهمة أو تبدو خالية من المعنى. هذا هو الغرض من التعليم وغيره من وسائل تعزيز العقلانية. إنها تنمي «العقلانية البيئية» (السياقية) التي نُولَد بها ونترعرع، أي حسَّنا الفطري ومعرفتنا بالحياة، من خلال مجموعةٍ أكبرَ من أدوات الاستدلال الأكثر فعالية والتي أحكمها أفضلُ مفكِّرينا على مدى ألفية من الزمن.32

مسألة بسيطة في الاحتمالية

من أشهر برامج المسابقات التليفزيونية في الفترة التي شهدت أوج رواج هذه النوعية، من خمسينيات القرن العشرين حتى تسعينياته، برنامجُ «ليتس ميك أَديل» («لنعقد صفقة»). وقد حقَّق مضيِّفه، مونتي هول، شهرةً من نوعٍ ثانٍ حين سُمِّيت باسمه معضلة في نظرية الاحتمالية، كانت مقتبَسة من البرنامج مع بعض الاختلافات.33 في هذه المعضلة، يقف المتسابق أمام ثلاثة أبواب. تقبع خلف أحدها سيارةٌ جديدة برَّاقة. أما البابان الآخران، فتوجد خلفهما عَنْزان. يختار المتسابقُ بابًا، لِنقُل الباب واحد. لإثارة التشويق، يفتح مونتي أحدَ البابين الآخرَين، لِنقُل الباب رقم ثلاثة، فيكشف عن عَنزٍ. ولإثارة المزيد من التشويق، يُعطى المتسابق فرصةَ أن يلتزم باختياره الأصلي أو التراجع واختيار الباب الآخر غير المفتوح. لنفترض أنك أنت المتسابق. فماذا كنت ستفعل؟
يلتزم الجميع تقريبًا باختيارهم.34 ذلك أنهم يتصوَّرون أنه ما دامت السيارةُ قد وُضعت خلفَ أحدِ الأبواب الثلاثة عشوائيًّا، وأنَّ البابَ الثالث قد استُبعِد، فالأمل متساوٍ في وجود السيارة خلف الباب واحد والباب اثنان. ومع أنه لا يوجد أيُّ ضرر في تبديل الاختيار، يعتقدون أنه غير ذي جدوى أيضًا. ولهذا يلزَمون اختيارَهم الأول، ربما بدافع الكسل أو الكبرياء، أو ربما يتوقَّعون أنَّ ندمهم بعد تغييرٍ غير موفَّق سيكون أشدَّ من فرحتهم بعد تغيير موفَّق.
اشتهرت معضلةُ مونتي هول عام ١٩٩٠ حين عُرضت في عمود «آسك مارلين» في «باريد»، وهي مجلةٌ تُضاف لعدد يوم الأحد من مئات الجرائد الأمريكية.35 كانت كاتبة العمود هي مارلين فوس سافانت التي عُرِفَت آنذاك بأنها «أذكى امرأة في العالم» بسبب دخولها موسوعةَ جينيس العالمية للأرقام القياسية لتسجيلها أعلى درجةٍ في اختبار الذكاء. كتبت فوس سافانت قائلة إنه ينبغي تبديلُ الاختيار؛ لأن احتمالَ وجود السيارة خلفَ الباب اثنان هو اثنان من ثلاثة، مقابل واحد من ثلاثة للباب واحد. وقد اجتذب العمودُ عشرة آلاف خطاب، ومنها ألف لحَمَلة رسائل دكتوراه، في الرياضيات والإحصاء في الأغلب، وقد قال أكثرُهم إنها على خطأ. وإليكم بعضَ الأمثلة:

لقد أخطأتِ، وخطؤكِ كبير! يبدو أنكِ تواجهين صعوبةً في استيعاب المبدأ الأساسي المعني هنا، ولهذا سأشرحه لكِ. بعد أن يكشف المضيِّف عن العنز، يصير لديكِ فرصة واحد من اثنين أن تكوني على صواب. وسواء أبدلتِ اختياركِ أم لا، ستظل الاحتمالات كما هي. يوجد في هذه البلاد ما يكفي من الجهل بالرياضيات، ولسنا بحاجة لأن تزيد من انتشاره صاحبةُ أعلى معدَّل ذكاء في العالم. يا للخزي!

سكوت سميث، حاصل على شهادة دكتوراه، جامعة فلوريدا

أنا متأكد من أنكِ ستتلقين العديدَ من الخطابات عن هذا الموضوع من طلاب المدارس الثانوية والجامعات. ربما عليكِ أن تحتفظي ببعض العناوين للمساعدة في أعمدةٍ مستقبلية.

دبليو روبرت سميث، حاصل على شهادة دكتوراه، جامعة ولاية جورجيا

ربما ترى النساء مسائلَ الرياضيات بطريقة مختلفة عن الرجال.

دون إدواردز، صنريفر، أوريجون36
كان من بين المعترضين بول إردوس (١٩١٣–١٩٩٦)، عالِم الرياضيات المرموق الذي كان غزير الأعمال لدرجةٍ جعلت العديد من الأكاديميين يتفاخرون ﺑ «رقم إردوس» الخاص بهم، وهو طول أقصر سلسلة من المؤلفين المشاركين تربط بينهم وبين المنظِّر العظيم.37

بالرغم من ذلك، كان هؤلاء الرياضيون بعجرفتهم الذكورية على خطأ، وكانت أذكى سيدة في العالم على صواب. الحق أنه ينبغي لك تبديلُ اختيارك. وليس من الصعب جدًّا أن تدرك السببَ في هذا. توجد احتمالاتٌ ثلاثة للمكان الذي وضِعت فيه السيارة. فلنتأمل كلَّ باب ونحسب احتمالات الفوز من ثلاثة في حالة كل استراتيجية. لقد اخترت البابَ واحد، لكنه محض مسمًّى بالطبع؛ ما دام مونتي يتبع قاعدة «افتح بابًا لم يقع عليه الاختيار وراءه عنز، وإن كان الاثنان وراءهما عنز، فاختر واحدًا عشوائيًّا»، ستتساوى الاحتمالات أيًّا كان الباب الذي اخترته.

لنفترض أن استراتيجيتك هي «البقاء على اختيارك» (العمود الأيسر في الشكل). إن كانت السيارة خلف الباب واحد (أعلى اليسار)، فسوف تفوز. ولن يهم حينها أيُّ البابين الآخرين فتحه مونتي؛ لأنك لن تبدِّل اختيارك إلى أيٍّ منهما. إن كانت السيارة خلف البابِ اثنين (وسط اليسار)، فستخسر. إن كانت السيارة خلف الباب ثلاثة (أسفل اليسار) فسوف تخسر أيضًا. وبِناءً على هذا، فإن فرص الفوز باستراتيجية «البقاء» هي واحد من ثلاثة.

لنفترض الآن أنك اخترت استراتيجية «تبديل الاختيار» (العمود الأيمن). إن كانت السيارةُ خلف الباب واحد، فستخسر. إن كانت السيارة خلف الباب اثنين، كان مونتي سيفتح الباب ثلاثة، ومن ثَم ستبدل إلى الباب اثنين وتفوز. إذا كانت السيارة خلف الباب ثلاثة، كان مونتي سيفتح الباب اثنين، ومن ثَم ستبدل إلى الباب ثلاثة وتفوز. وبِناءً على هذا، فإن فرص الفوز مع استراتيجية «التبديل» اثنان من ثلاثة؛ أي ضعف احتمالية الفوز مع استراتيجية البقاء.

ليس الأمر بالمسألة المستعصية.38 إن كنتَ لا تحسِن فهْم الاحتمالات المنطقية، فيمكنك أن تلعب عدةَ جولات باستخدام الأشكال المقصوصة واللعب، ومن ثَم إحصاء النتائج، وهو ما فعله هول نفسه لإقناع صحفي متشكك. صار بإمكانك الآن أيضًا أن تلعبها على الإنترنت.39 أو يمكنك أن تتَّبِع حَدْس: «يعرف مونتي الحل وقد أعطاني إشارة، وسيكون من الحماقة ألا أعمل بها.» فلماذا أخطأ خبراء الرياضيات وأساتذة الجامعة وسائر النوابغ إلى هذا الحد في فهمِ هذه المسألة؟
ثمة عاملٌ بالطبع للقصور عن التفكير النقدي النابع من التعصُّب الجنسي، وتحيُّزات الشخصنة، والغيرة المهنية. ذلك أنَّ فوس سافانت امرأةٌ جذابة وأنيقة لا يسبق اسمَها اختصارات درجات علمية، وهي تكتب في جريدة تافهة حافلة بالوصفات والشائعات، وتثرثر مازحةً في البرامج الحوارية التي تُعرض في ساعات متأخرة من الليل.40 لقد تحدَّت الصورة النمطية لخبير الرياضيات، وقد جعلتها شهرتها بالدخول إلى موسوعة «جينيس» وتفاخرها المستحق بذلك هدفًا كبيرًا للهجوم.
غير أنَّ جزءًا من المشكلة يكمُن في المسألة نفسها. فعلى غرار الأسئلة الخادعة في اختبار التفكير الإدراكي واختبار واسون للاختيار، ثمَّة شيء في معضلة مونتي هول مصمَّم لإثارة الحماقة في نظامنا الأول. بالرغم من ذلك، فنحن نجد أنَّ النظام الثاني ليس أذكى كثيرًا في هذه الحالة. فالعديد من الناس لا يستطيعون تقبُّل التفسير الصحيح حتى عند توضيحه لهم. من هؤلاء إردوس نفسه، الذي لم يقتنع إلا حين رأى العديد من تجاربِ المحاكاة للُّعبة، مخالفًا بذلك روحَ عالِم الرياضيات.41 الأدهى من ذلك أنَّ العديد من الأشخاص يظلون على موقفهم حتى بعد رؤية نموذج لمحاكاتها وحتى حين يلعبون مرارًا مقابل نقود. فما وجهُ التعارض بين حَدْسنا وقوانين الاحتمال؟

نجد إشارةً في التبريرات المفرِطة في الثقة التي يستخدمها المتحاذقون لتبرير أخطائهم، التي يستعيرونها في بعض الأحيان دونما تروٍّ من أُحْجية أخرى في مجال الاحتمالية. يصرُّ العديد من الناس أن كلَّ البدائل غير المعروفة — الأبواب التي لم تُفتح، في هذه الحالة — لا بد أن تكون متساوية في الاحتمالات. ينطبِق هذا على ألعاب المقامرة المتناظرة مثل وجهَي العملة أو وجوه النَّرد، وهو بداية منطقية حين لا يكون لديك أي علم البتة بالبدائل. لكن ذلك ليس من قوانين الطبيعة.

يتصوَّر الكثيرون السلسلة السببية. وُضِعت السيارةُ والعنزان قبل الكشف عنها، ولا يمكن لفتحِ أحد الأبواب أن يبدِّل أماكنها بعد أن صارت واقعًا. إنَّ توضيح استقلال الآليات السببية من الطُّرق الشائعة لدحض أوهام أخرى، مثل مغالطة المقامر، والتي تتمثل في أنَّ الأشخاص يعتقدون مضللين أنه بعد توقُّف عجلة الروليت على اللون الأحمر عدة مرات، سوف تستقر في المرة التالية على اللون الأسود، في حين أن العجلة ليس لديها ذاكرة، من ثَم فكل دورة مستقلة عن الأخرى. مثلما شرح أحدُ مراسلي فوس سافانت بتعالٍ ذكوري: «لنتخيل سباقًا لثلاثة خيول، لكلٍّ منها فرصة متساوية في الفوز. إذا سقط الحصان رقم ٣ صريعًا بعد ٥٠ قدمًا في السباق، فلن تظل فرص كلٍّ من الحصانين المتبقيين واحدًا من ثلاثة بل واحدًا من اثنين.» وهو يستنتج من ذلك أنه لن يكون من المنطقي بالطبع أن نحوِّل من الرهان على الحصان واحد ونراهن بدلًا من ذلك على الحصان اثنين. لكن المسألة لا تسير هكذا. تخيَّل أنك بعد أن راهنت على رقم واحد، أعلن الرب قائلًا: «لن يكون الفائز هو الحصان رقم ثلاثة.»42 كان من الممكن أن يحذِّر من الحصان رقم اثنين لكنه لم يفعل. ومن ثَم فإنَّ تحويل رهانك ليس بضربٍ من الجنون. وفي برنامج «ليتس ميك أديل»، مونتي هول هو الإله.
إنَّ المضيِّف الذي يلعب دورَ الرب يذكِّرنا بمدى غرابة معضلة مونتي هول. فهي تستلزم كائنًا عليمًا يخالف الهدفَ المألوف من الحوار: فهو يعرف ما يرغب المستمِع في معرفته — وهو الباب المواري للسيارة، في هذه الحالة — لكنه يباشر هدفَ إذكاء التشويق بين الطرف الثالث بدلًا من ذلك.43 وعلى عكس العالم، الذي لا تعبأ إشاراته بتحرياتنا، فإن مونتي القدير يعلم الحقيقةَ ويعلم خيارنا ويختار ما يكشف عنه وفقًا لذلك.

إنَّ عدم وعي الأشخاص بهذه المعلومةِ المجزية وإن كانت غامضة، يشير إلى نقطة ضعف معرفية في صميم اللغز، وهي أننا نخلط بين الاحتمالية والنزعة. النزعة هي مَيل أحد الأغراض للتصرُّف بطرقٍ معيَّنة. ويشكِّل حَدْسنا بشأن النزعات جزءًا أساسيًّا مما لدينا من نماذجَ ذهنية عن العالم. فالناس يدركون أن الفروع المحنية سترتد عن انحنائها على الأرجح، وأن حيوان الكودو يمكن أن ينال منه التعب بسهولة، وأن حيوان النَّيص يترك آثارًا لوسادَتي قدميه في المعتاد. وصحيح أنه لا يمكن إدراك النزعة مباشرةً (الفرع إما أن يرتد أو لا يرتد)، لكن يمكن استنباطها بإمعان النظر في التكوين المادي لأحد الأغراض وإعمال قوانين السبب والنتيجة. فالفرع الأشد جفافًا قد ينكسر، ويتمتَّع الكودو بقدرةٍ أكبرَ على التحمُّل في الفصل الممطر، والنَّيص لديه وسادتان متقاربتان تترك أثرًا حين تكون الأرض رخوة لكنها لا تتركه بالضرورة وهي صلبة.

غير أنَّ الاحتمالية تختلف عن ذلك؛ فهي أداةٌ مفاهيمية ابتُكرت في القرن السابع عشر.44 تحمل الكلمة نفسها معانيَ متعددة، لكن المعنى المهم عند اتخاذ قراراتٍ تتسم بالمجازفة هو درجةُ إيمان الشخص بحالةٍ مجهولة. إنَّ أي دليل صغير يغيِّر من ثقتنا في نتيجةٍ من النتائج سيغيِّر احتماليتَه والطريقةَ العقلانية للتعامل معه. ويساعدنا اعتمادُ الاحتمالية على معرفةٍ غيرِ ملموسة لا تكوين مادي فحسب في تفسير السبب وراء فشل الناس في المعضلة. فهم يخمِّنون النزعةَ لأن ينتهي الأمر بالسيارة وراء الأبواب المختلفة، وهم يعلمون أن فتْح أحد الأبواب لا يمكن أن يغيِّر تلك النزعات. أما الاحتمالات فهي لا تتعلق بالعالم؛ بل تتعلق ﺑ «جهلنا» به. والمعلومات الجديدة تقلِّل من جهلنا وتغيِّر الاحتمالية. إذا كان ذلك يبدو غامضًا أو متناقضًا، فتأمَّل احتمالية أن تستقر العملة التي رميتها لتوي على الصورة. ستقول أنت إنها تساوي ٠٫٥. أما أنا فسأقول إنها واحد (فقد اختلست النظر). ذلك هو الحدث نفسه لكن المعرفة مختلفة؛ ومن ثَم فالاحتمالية مختلفة. وفي معضلة مونتي هول، يقدِّم المعلومة الجديدة مضيِّف على علم بكل شيء.
من نتائج ذلك أنه عندما تكون المعلومة الممنوحة من المضيِّف متصلة على نحوٍ أشد شفافية بالظروف المادية، يصير حلُّ المعضلة بديهيًّا. دعت فوس سافانت قرَّاءها لتخيُّل شكلٍ من برنامج المسابقات به ألف باب مثلًا.45 ستختار واحدًا. ويكشف مونتي عن عنزٍ وراء ٩٩٨ من الأبواب الأخرى. فهل ستبدِّل اختيارك إلى الباب الذي تركه مغلقًا؟ هذه المرة يبدو واضحًا أن اختيار مونتي قائم على معلومةٍ يمكن الاعتداد بها. يمكننا تخيُّله يطالع الأبوابَ سريعًا بحثًا عن السيارة وهو يقرِّر أيُّها لن يفتحه، والباب المغلق علامة على أنه لمح السيارة، ومن ثَم فهو دليل على السيارة نفسها.

مسألة تكهُّن بسيطة

فور أن نعتاد على تعيين أرقامٍ للأحداث غير المعلومة، نستطيع قياسَ حَدْسنا بشأن المستقبل. إن التكهُّن بالأحداث مجالٌ ضخم واسع النطاق. فهو يرشد السياسة والاستثمار وإدارة الأزمات والفضول الطبيعي عما ينتظر العالم. تأمَّل كلًّا من الأحداث التالية، ودوِّن تقديرك لاحتمال وقوعه خلال العَقد القادم. العديد منها غير محتمَل إلى حدٍّ كبير؛ لذلك سنضع فروقًا أدقَّ على الطرف الأدنى من المقياس ونختار أحد الاحتمالات التالية لكلٍّ منها: أقل من ٠٫٠١ في المائة و٠٫١ في المائة و٠٫١ و٠,٥ في المائة و١ في المائة و٥ في المائة و١٠ في المائة و٢٥ في المائة و٥٠ في المائة أو أكثر.

  • (١)

    إنتاج المملكة العربية السعودية لسلاح نووي.

  • (٢)

    تنحي نيكولاس مادورو عن منصب رئيس فنزويلا.

  • (٣)

    امرأة في منصب رئاسة جمهورية روسيا.

  • (٤)

    يعاني العالم وباءً جديدًا وأشدَّ فتكًا حتى من كوفيد ١٩.

  • (٥)

    فلاديمير بوتين ممنوع دستوريًّا من الترشُّح لفترة رئاسية أخرى لروسيا وتأخذ زوجته مكانه في الانتخابات، لتسمح له بإدارة البلاد من الكواليس.

  • (٦)

    حركات إضراب وتمرُّد واسعة تجبِر نيكولاس مادورو على الاستقالة من رئاسته لفنزويلا.

  • (٧)

    فيروس يصيب الجهاز التنفسي ينتقل من الخفافيش للبشَر في الصين ويبدأ وباءٌ جديد أكثرُ فتكًا حتى من كوفيد ١٩.

  • (٨)

    بعد تصنيع إيران لسلاح نووي واختباره في انفجار تحت الأرض، تصنع السعودية سلاحها النووي ردًّا عليها.

لقد عرضت نقاطًا كهذه على مئاتٍ عدة من المشتركين في استقصاء. وجاءت النتيجة في المتوسط، أنَّ الناس رجَّحوا تولِّي زوجةَ بوتين منصب رئاسة روسيا على أن تُنتخَب امرأة أخرى رئيسة لها. ورجَّحوا أن تضطر الإضراباتُ مادورو إلى التنحي على أن يستقيل هو من تلقاء نفسه. واعتقدوا أنَّ احتمال إنتاج السعودية لسلاح نووي ردًّا على قنبلةٍ إيرانية أكبرُ من احتمالِ أن تصنع سلاحًا نوويًّا فحسب. ورجَّحوا أن تثير الخفافيش الصينية وباءً على احتمالية ظهور وباء.46

من المرجَّح أنك تتفق مع واحدة من هذه المقارنات على الأقل؛ فقد كان هذا رأي ٨٦ في المائة من المشتركين الذين قيَّموا كلَّ العناصر. إن كنت كذلك فقد خالفت قانونًا أساسيًّا من قوانين الاحتمالية، قاعدة الاقتران: احتمال اقتران حدثين (أ وب) لا بد أن يكون أقلَّ من احتمالية أيٍّ من الحدثين (أ أو ب) أو مساويًا له. فاحتمال التقاط ورقة بستوني ذات رقم زوجي من مجموعة من أوراق اللعب، على سبيل المثال (زوجي وبستوني)، لا بد أن تكون أقلَّ من احتمالية التقاط ورقة بستوني؛ لأن بعض أوراق البستوني لا تحمل رقمًا زوجيًّا.

figure

في كل زوج من الأحداث العالمية، كان السيناريو الثاني اقترانًا بين حدثين، أحدهما هو الحدث الوارد في السيناريو الأول. فعلى سبيل المثال، نجد أنَّ الحدث: «إيران تختبر سلاحًا نوويًّا والسعودية تصنع سلاحًا نوويًّا» هو اقترانٌ يتضمن «السعودية تصنع سلاحًا نوويًّا» ولا بد أن تكون فرصةُ حدوثه أقل، بما أنه ثمة سيناريوهات أخرى من الممكن أن تتجه فيها السعودية إلى السلاح النووي (لمواجهة إسرائيل مثلًا، أو استعراض هيمنتها على الخليج الفارسي، أو غير ذلك). وبهذا المنطق نفسه، لا بد أن تكون استقالة مادورو من الرئاسة أرجح من استقالته بعد سلسلة من الإضرابات.

ماذا يجول برأس الناس؟ يمكن أن تكون مجموعة الأحداث التي تصفها عبارةٌ واحدة عامة ومبهمة، لا تنطوي على شيء يعلَق في الذهن. أما مجموعة الأحداث التي تصفها جملٌ مترابطة فتكون أكثرَ وضوحًا، لا سيما حين تحكي قصة يمكننا مشاهدتها في مسرح خيالنا. تتأثَّر الاحتمالية البديهية بإمكانية التخيُّل: فكلما كان الشيء أسهل على التصوُّر، بدا حدوثه مرجَّحًا بدرجةٍ أكبر. يوقعنا هذا فيما يسميه تفيرسكي وكانمان بمغالطة الاقتران، حيث يبدو بديهيًّا أنَّ الاقتران أرجحُ من أي من عنصريه.

figure
كثيرًا ما تستند تكهنات الخبراء إلى الحكايات المليئة بالتفاصيل المثيرة، ولتهلك الاحتمالية.47 ظهر للصحفي روبرت كابلان عام ١٩٩٤ مقالٌ شهير على غلاف مجلة «ذا أتلانتيك»، يتنبأ فيه ﺑ «الفوضى المقبلة.»48 تكهَّن كابلان أنَّ العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين ستشهد اندلاع الحروب على الموارد المحدودة مثل المياه، وأن نيجيريا ستغزو النيجر وبنين والكاميرون، وأن الحروب العالمية ستشب تنازعًا على أفريقيا، وأن كلًّا من الولايات المتحدة وكندا والهند والصين ونيجيريا ستتفكك، وتُمحى الحدود مع المكسيك في بعض المناطق الأمريكية التي تقطن بها أعدادٌ كبيرة من ذوي الأصول الأمريكية اللاتينية، بينما تندمج ألبرتا مع مونتانا؛ وتنبأ أيضًا بأنَّ الجريمة ستتصاعد في المدن الأمريكية، وأن الإيدز سيتفاقم أكثرَ فأكثر؛ كل ذلك مع مجموعة من المصائب والأزمات والانهيارات. بالرغم من ذلك، فبينما كان المقال يثير ضجة واسعة (نالت الرئيس بيل كلينتون الذي راح هو نفسه يوزِّع المقال في البيت الأبيض)، شهد عدد الحروب الأهلية ونسبة الناس التي لا تصلها مياه نظيفة، ومعدَّل الجرائم الأمريكية تضاؤلًا سريعًا.49 وخلال أعوام ثلاثة بدأ علاج ناجع للإيدز في تقليل عدد الوفيات الناتج عنه. وبعد أكثر من ربع قرن لم نرَ أنَّ الحدود الوطنية تغيَّرت إلا قليلًا.
كان تفيرسكي وكانمان أولَ مَن أوضحا مغالطةَ الاقتران بالمثال الذي اشتهر باسم «معضلة ليندا»:50

تبلغ ليندا من العمر ٣١ سنة، وهي عزباء وصريحة وغاية في الذكاء. وقد تخصَّصت في الفلسفة. كانت شديدة الاهتمام وهي طالبة، بقضايا التفرقة والعدالة الاجتماعية، وكانت تشترك كذلك في مظاهرات مناهضة للأسلحة النووية.

يُرجى تحديد درجة احتمالية كلٍّ من هذه العبارات:
تعمل ليندا معلِّمة في مدرسة ابتدائية.
ليندا ناشطة في الحركة النسوية.
تعمل ليندا اختصاصية اجتماعية نفسية.
تعمل ليندا صرَّافة في بنك.
تعمل ليندا مندوبة مبيعات في مجال التأمين.
تعمل ليندا صرَّافة في بنك وناشطة في الحركة النسائية.

ارتأى المشتركون أنَّ احتمالية عمل ليندا صرَّافة في بنك مع اشتراكها في العمل النسوي أكبرُ من أن تكون صرَّافة في بنك: مرة أخرى، كان اختيار الاحتمال «أ» و«ب» أعلى من اختيار الاحتمال «أ» وحده. إنَّ الصورة القديمة التي تتضمن «ليندا» المنتسبة لجيل ما بعد الحرب العالمية، والإطراءَ ذا الوجهين «ذكية» والاحتجاجاتِ البائدة، والمهنةَ المتراجعة، يشي بنموذج جيل أوائل الثمانينيات. لكن مثلما يعلم أيُّ معلم لعلم النفس، فإن الانطباع قابلٌ للتكرار بسهولة، واليوم نجد أنَّ الأشخاص لا يزالون يرجِّحون أنَّ أماندا حادة الذكاء التي تشارك في مسيرات «حياة السود مهمة» ممرضة معتمدة مناصرة لحقوق المرأة على أنها ممرضة معتمدة فحسب.

إنَّ معضلة ليندا تشرك حَدْسنا على نحوٍ آسر جدًّا. فعلى عكس مهمة الاختيار، حيث يقع الناس في الخطأ حين تكون المسألة مجرَّدة («إذا كان س فإذن ص») ويفهمونها حين تُصاغ بسيناريوهات من الحياة الواقعية، يتفق الكل في هذه المعضلة على القاعدة المجردة: «الاحتمال أ وب | الاحتمال أ» لكنهم يحيدون عنها حين تصير ملموسة. لقد عبَّر عالِم الأحياء ومؤلِّف الكتب العلمية المبسَّطة ستيفن جاي جولد عن الكثيرين حين قال: «أعلم أن العبارة (المقترنة) أقلُّ ترجيحًا، لكنْ ثمة أُنَيْسِيَان صغير في رأسي يتوثَّب، ويصيح بي قائلًا: «لكنها لا يمكن أن تكون صرَّافة في بنك فحسب؛ اقرأ الوصف».»51
يمكن للمَهَرة من المحاجين استغلالُ هذا الأُنَيْسِيَان. فوكيل النيابة الذي لا يملك من الأدلة سوى جثةٍ جرفتها الأمواج للشاطئ قد يختلق قصةً بشأن زوجها الذي ربما يمكن أن يكون خنقها وألقى بجثتها حتى يتمكَّن من الزواج بعشيقته وإنشاء مشروع بأموال التأمين. يمكن لمحامي الدفاع أيضًا أن يحكي قصةً طويلة مناقضة يزعم فيها أنه من الممكن، نظريًّا، أن تكون الزوجة راحت ضحيةَ محاولة نشل في وقتٍ متأخر من الليل أخذت مسلكًا مروعًا. من المفترض أنَّ كل واحدة من التفاصيل التخمينية تجعل السيناريو أقلَّ ترجيحًا وفقًا لقوانين الاحتمالية، لكنَّ كلًّا منها قد تجعله أكثرَ تشويقًا أيضًا. فمثلما يقول بوه-باه في أوبرا «ميكادو»، كلها «محض تفاصيل تقريرية يتمثَّل الهدفُ منها في إضفاء واقعية فنية على قصةٍ ستكون فارغة وغير مقنعة من دونها.»52
تمثِّل قاعدةُ الاقتران قانونًا أساسيًّا من قوانين الاحتمالية الرياضية، ولست بحاجة للتعامل مع أي أرقام لتفهمها. وقد جعل هذا تفيرسكي وكانمان متشائمين إزاء الحس البديهي لدى الناس بصدد الاحتمالية، وأدَّى إلى زعمهما بأنَّ هذا الحَدْس مدفوع بالصور النمطية وما يمتلكونه من ذكريات، وليس بالتقدير المنهجي للاحتمالات. ورفض الرجلان فكرةَ أنَّ «بداخل كل شخص مشوَّش يوجد شخصٌ واضح الرؤية يحاول الخروج.»53
ثمة علماء نفس آخرون أكثرُ تساهلًا. فمثلما رأينا في معضلة مونتي هول، تحمل «الاحتمالية» معانيَ متعددة؛ منها النزعة الفعلية، وقوة الاعتقاد المبرَّرة، والتكرار على المدى الطويل. وثمة معنًى آخر يرِد في قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية: «ما تحمله أي عبارة أو حدث من تجلٍّ للحقيقة في ضوء الأدلة الراهنة، أو احتمال تحقُّقها.»54 يعلم الأشخاص الذين تُطرَح عليهم معضلة ليندا أنَّ «التكرار على المدى الطويل» لا يشكِّل أهميةً في هذا السياق؛ فليس لدينا سوى ليندا واحدة، قد تكون نسوية صرَّافة في بنك أو لا. إنَّ المتحدِّث في أي حوار متماسك سيقدِّم تفاصيلَ تتعلق بمسيرة الحياة لسبب، وهو توجيه المستمع إلى الوصول إلى نتيجةٍ معقولة. ووفقًا لعالِمَي النفس رالف هيرتويج وجيرد جيجرينزر، من الوارد أن يكون الناس قد استنتجوا عقلانيًّا أن المعنى المناسب ﻟ «الاحتمالية» في هذه المعضلة، ليس هو المعنى الرياضي الذي تنطبق عليه قاعدة الاقتران، بل المعنى غير الرياضي: «درجة التوكُّد في ضوء الأدلة الراهنة»، وقد اتبعوا السبيل الذي أشار إليه الدليل على نحوٍ منطقي.55
دعمًا للرؤية المتساهلة، جاء العديد من الدراسات، بدأها تفيرسكي وكانمان أنفسهما، لتثبت أنه عند تشجيع الأشخاص على التفكير في الاحتمالية بمعنى التكرار النسبي، بدلًا من تركهم حائرين مع المفهوم الملغز لاحتمالية حالة واحدة، يكون من الأرجح أن يراعوا قاعدةَ الاقتران. تخيَّل ألف امرأة مثل ليندا. كم واحدة منهن تعتقد أنها تعمل صرَّافة في بنك؟ كم واحدة منهن تعتقد أنها صرَّافة في بنك وناشطة في حركة نسائية؟ هنا يهدأ الأُنَيْسِيان؛ ونجد أنَّ ذلك الإنسان واضح الرؤية يحاول الخروج. ونتيجةً لهذا، ينخفض معدَّل أخطاء الاقتران.56
فهل مغالطة الاقتران، ذلك البرهان الأمثل على جهل البشَر بالاحتمالية، هي نتاجُ صياغة مبهمة وأسئلة استدراجية؟ أصرَّ تفيرسكي وكانمان على أنها ليست كذلك. فقد ذكرا أن الناس يقعون في هذه المغالطة حتى عند دعوتهم للمراهنة على الاحتمالات (نعم، يفضِّل غالبية الناس الرهانَ على أنه من الأرجح أن تكون ليندا صرَّافة في بنك وناشطة في الحركة النسوية على أن تكون صرَّافة في بنك فحسب). وحتى عند طرح المسألة بصيغة التواتر التي تمكِّنهم من تحاشي خطأ الاقتران بمجرد إحصاء صرَّافِي البنوك في أذهانهم، تقع فيه أقليةٌ معتبرة العدد. ثم إنَّ هذه الأقلية تزداد إلى أغلبية حين يفكِّر الناس في كل بديل بمعزلٍ عن باقي البدائل بدلًا من رؤيتها جنبًا إلى جنب، ومن ثَم لا ينتبهون إلى صعوبةِ أن تكون المجموعة الفرعية أكبر عددًا من المجموعة الأعم.57
لاحظ كانمان أنَّ البشَر يتَّسمون بالقدرِ الأكبر على الإطلاق من اللاعقلانية حينما يدافعون عن الأفكار التي تروق لهم. ولهذا فقد نادى بمنهج جديد لحل المسائل العلمية المثيرة للجدل بدلًا من العادة القديمة المتمثِّلة في تناوب الخصوم على تغيير المعايير والتحدُّث بترهاتٍ في وابل من التعقيبات الحادة والردود عليها. كانت الطريقة التي اقترحها هي «تعاون الخصوم»، وهي تقتضي أن يتفق المتنازعون مسبقًا على اختبار تجريبي من شأنه تسويةُ المسألة، وأن يدعوا محكِّمًا لينضم إليهم في إجرائه.58 ومثلما ينبغي له، تعاون كانمان مع هيرتويج لمعرفة مَن المحِق بشأن معضلة ليندا، مستعينين في ذلك بعالِمة النفس باربرا ميلرز لتؤدي مهمةَ المحكِّم. اتفق فريقُ المتنازعين على إجراء ثلاث دراسات عرضت المسألةَ في سياق مدى التكرار: «من بين ١٠٠ شخص مثل ليندا، كم عدد الذين …؟» وذلك بدلًا من السؤال بشأن ليندا وحدَها. وفي التقرير الذي كتبوه عن النتائج المعقَّدة، أفاد الباحثون الثلاثة بقولهم: «لم نكن نعتقد أنَّ التجارب ستحل المعضلات كلها، ولم تقع هذه المعجزة.» وقد اتفق الطرفان على أن الناس لديها نزعة لارتكاب مغالطة الاقتران، حتى عند التعامل مع نسب التواتر. واتفقا أيضًا على أنه في ظل الظروف المناسبة — عند توفُّر البدائل للمقارنة جنبًا إلى جنب، وحين تكون صياغة البدائل واضحة لا تترك مجالًا للخيال — يستطيع الناس تحاشي المغالطة.

المغزى من الأوهام الإدراكية

كيف نوفِّق إذن بين العقلانيةِ التي أتاحت لنوعنا أن يحيا بمهاراته في البيئات القديمة والحديثة على حدٍّ سواء، والهفواتِ والزلاتِ التي تكشف عنها هذه الأحاجي العقلية: الانحياز التأكيدي وفرطُ الثقة وتشتُّت التركيز مع التفاصيل الملموسة وعادات التخاطب؟ غالبًا ما يُطلَق على الأخطاء الكلاسيكية في الاستدلال مصطلح «الأوهام الإدراكية»، ويمكن تشبيهها، للمقاربة بالأوهام البصرية التي نألَفها من عبوات الحبوب والمتاحف العلمية. تكمُن هذه الأوهام على مستوًى أعمق من الحقيقة البديهية القائلة إنَّ عيوننا وعقولنا قد تخدعنا. إنها تفسِّر كيف يمكن لنوعنا أن يكون في غاية الذكاء، ومع ذلك يسهُل جدًّا تضليله.

figure
بتصريح من بو لوتو.
إليكم فيما يلي اثنين من الأوهام الكلاسيكية أحياهما عالِم الأعصاب بو لوتو.59 يندرج الأول منهما ضمن فئةِ أوهام تدرُّج الألوان. صدِّقوا أو لا تصدِّقوا، الخطوط الداكنة أعلى الصندوق والخطوط البيضاء الموجودة في الصدارة هي درجات متطابقة من الرمادي.

الشكل الثاني من أوهام الأشكال: زوايا الكيعان الأربعة متطابقة، ٩٠ درجة.

أول ما نستنتجه من هذه الأوهام أنه لا يمكننا تصديق أعيننا دائمًا، أو بمعنًى أدق، النظام البصري الأول في رءوسنا. وما نستنتجه منها ثانيًا أننا نستطيع معرفةَ أخطائنا باستخدام النظام الثاني: يمكننا مثلًا بإحداث ثقبين في بطاقة فهرسة ووضعها على الشكل الأول، ومحاذاة زاوية البطاقة مع الكيعان في الشكل الثاني.

بالرغم من ذلك، فمن الخطأ أن نستنتج منها أن الجهاز البصري البشَري أداةٌ حافلة بالعيوب تخدعنا دائمًا بالخيالات والأوهام. إن الجهاز البصري البشَري من عجائب الدنيا. فهو أداةٌ ثمينة للغاية تستطيع تبيُّن الفوتون الواحد، والتعرُّف على آلاف الأشكال، واجتياز المسارات الوعرة وشبكات الطرق الفائقة السرعة. إنه يتفوق على أفضل أجهزتنا البصرية الاصطناعية، وهذا هو السبب في أنَّ المَرْكبات الذاتية القيادة لم تُطلَق في شوارع المدينة حتى كتابة هذه السطور رغم مرور عقود من الأبحاث والتطوير. ذلك أنَّ وحدات الإبصار لدى السيارات الآلية عُرضة للخلط بين المقطورة واللافتة، أو إشارة سير مغطَّاة بالملصقات وثلاجة مليئة بالطعام.60
figure
بتصريح من بو لوتو.
ليست أوهام الشكل وتدرُّج الألوان من عيوب جهازنا البصري، بل هي من سِماته. فالهدف من الجهاز البصري هو تزويد بقية الدماغ بوصفٍ دقيق للأشكال الثلاثية الأبعاد والتكوين المادي للأغراض الموجودة أمامنا.61 وتلك مشكلة عويصة؛ لأن المعلومات التي ترِد إلى المخ من الشبكية لا تعكس الواقعَ مباشرة. فدرجة سطوع بقعة في الصورة الشبكية لا تتوقَّف على لون السطح في الواقع فقط، بل على كثافة الضوء الساقط عليه أيضًا؛ فقد تنشأ بقعةٌ رمادية من سطحٍ أسود يسقط عليه ضوء ساطع أو من سطحٍ أبيض يسقط عليه ضوء خافت. (ذلك هو الأساس الذي استندت عليه خدعة الفستان التي اجتاحت شبكةَ الإنترنت عام ٢٠١٥.)62 ولا يتوقَّف الشكل الذي يتكوَّن على الشبكية على الهيئة الثلاثية الأبعاد للجسم فقط، بل على اتجاهه أيضًا من حيث تنظر إليه: فالزاوية الحادة على الشبكية قد تكون زاويةً حادة وقع البصرُ عليها مباشرةً أو زاوية قائمة وقع البصر عليها من منظورٍ أقرب. يعطِّل الجهاز البصري آثارَ هذه التشوُّهات، فيوزِّع كثافةَ الضوء ويعكس قياس الزوايا الخاص بالمنظور ليغذي بقيةَ الدماغ بتصويرٍ يتماشى مع الأشكال والمواد الفعلية في الواقع. تُخفى هذه الذاكرة المؤقتة الانتقالية التي تنطوي عليها هذه الحسابات — مصفوفات وحدات البيكسل الثنائية الأبعاد الآتية من الشبكية — عن أجهزة الاستدلال والتخطيط في المخ؛ لأنها ستشتِّت الانتباه فحسب.

بسبب هذا التصميم، لا تصلح أدمغتنا لتكون أجهزةً لقياس الضوء أو مناقلَ شديدة الدقة، لكنها ليست بحاجة لذلك، إلا إذا كنَّا من رسامي الواقعية. تنشأ الأوهام حين يُطلب من الناس أن يكونوا تلك الأدوات بالضبط. فيُطلب من الناظر أن يلاحظ مدى سطوع الخط «في الصورة» أو يلاحظ حدةَ الزاوية. وتكون الصور قد رُكِّبت بحيث تختفي الخواص البسيطة — من السطوع المتساوي والزوايا القائمة — في الذاكرة المؤقتة التي يتجاهلها العقل الواعي عادةً. لو أنَّ الأسئلة كانت بشأن أشياء من «الواقع» التُقِطت في صور، لأتت انطباعاتنا صحيحة. فالخط الرمادي أغمقُ من الخط الأبيض بالفعل في كلا وجهي الصندوق: المضاء والمعتم؛ والكيعان التي وُضِعَت بانحرافات مختلفة لها زوايا مختلفة بالفعل.

على هذا النحو نفسه، قد تنتج الأوهام الإدراكية، كالتي وردت في هذا الفصل، من استبعادنا للتعبير الحرفي للسؤال حين يرِد إلى أذهاننا، وإمعاننا التفكيرَ فيما قد يكون من المنطقي أن يسأل المتحدِّث عنه في العالم الاجتماعي. إنَّ إجراء عمليات حسابية بأرقام تشدُّ الانتباه بهدف التضليل، والتحقُّق من افتراض بشأن مجموعة من الرموز، والاختيار بين حلول يقدِّمها سيدٌ خبيث يعرف كل شيء، ومتابعة سيرة شخصية نابضة بالحياة وصولًا إلى نهايةٍ مباشرةٍ لكنها غير معقولة، كلُّ ذلك شبيهٌ بعض الشبه بتحديد الزوايا والدرجات الرمادية في صفحةٍ مطبوعة. صحيحٌ أنها تؤدي إلى إجابات غير صحيحة، لكنها غالبًا ما تكون إجاباتٍ صحيحة على أسئلةٍ أكثرَ فائدة لكنها من نوع مختلف. إن العقل القادر على تفسير نية السائل حسب السياق ليس ساذَجًا بالمرة. هذا هو السبب في أننا نضغط الزر «صفر» بانفعال ونصيح في الهاتف: «أيها الموظف!» حين يكرِّر روبوت خط المساعدة قائمةً من الخيارات العديمة الجدوى، ولا يكون من الممكن أن يفهم سببَ اتصالنا سوى أحد البشَر.

بالرغم من ذلك، فليست إمكانية تفسير تصرُّفاتنا غير العقلانية بعذرٍ لمعاودتها، مثلما أنَّ تفسير عيوب جهازنا البصري ليس سببًا لأن نثِق دائمًا في أعيننا. لقد عزَّز العلم والتكنولوجيا قدراتِ الجهاز البصري بدرجةٍ هائلة تفوق ما منحتنا إياه الطبيعة. فلدينا المِجهر للأشياء الصغيرة، والتلسكوب للبعيدة، ولدينا التصوير لتوثيق الماضي، والإضاءة للعَتَمة، والاستشعار عن بُعد للأشياء غير المرئية. وبينما ننطلق نحو عوالمَ لا تنتمي إلى السياق الذي تطوَّرنا فيه، مثل السرعة الفائقة والارتفاع الشاهق، قد تؤدِّي بنا الثقةُ في حواسنا إلى الهلاك. إنَّ القدرة على تمييز العمق والاتجاه مما يتيح لأدمغتنا إبطالَ تأثيرات الهندسة الإسقاطية في الحياة اليومية، تتوقَّف على تداخل الخطوط، وانحسار البنية، وانسياب الحدود المتراصة على امتداد الأرض أثناء التحرُّك، ومطالعة ما حولنا. أما حين يكون الطيار محلِّقًا على ارتفاع آلاف الأقدام في الهواء لا يوجد بينه وبين الأرض سوى الفضاء الخالي، والأفق مغشًّى بالسُّحب أو الضباب أو الجبال، فإنَّ بصره يصبح غيرَ متسقٍ مع الواقع. إذا طار معتمدًا على حَدْسه، الذي لا يستطيع التمييزَ بين التسارع والجاذبية، فكل تصحيح يقوم به سيزيد الأمور سوءًا، وقد يرسل الطائرة «لدوامة الهلاك» خلال دقائق، وهو ما آل إليه مصير جون إف كينيدي الابن عام ١٩٩٩؛ إذ كان قليلَ الخبرة ومفرطًا في ثقته بنفسه. فبالرغم من تميُّز أجهزتنا البصرية، يعلم الطيارون العقلانيون متى يكون عليهم تجاهلها والاعتماد في إدراكهم على الأدوات.63

وعلى الرغم من تميُّز أجهزتنا المعرفية، فلا بد لنا في هذا العالم الحديث أن ندرك متى ينبغي لنا استبعادها والاعتماد في تفكيرنا على الأدوات: أدوات المنطق والاحتمالية والتفكير النقدي التي ترتقي بقدراتنا العقلية لما يفوق ما وهبتنا إياه الطبيعة. ذلك أننا إذا اعتمدنا على حَدْسنا في التفكير في هذا القرن الحادي والعشرين، فقد يؤدي كلُّ تعديل نقوم به إلى تفاقم الأمور، وربما يلقي بنظامنا الديمقراطي في دوامة هلاك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤