الفصل العاشر

ما خَطْب البشَر؟

«أخبِر الناسَ أن مَن خلق الكون رجلٌ غير مرئي في السماء، وسيصدِّقك غالبية الناس. لكن أخبِرهم أن الطلاء رطبٌ، وستراهم يلمسونه ليتأكدوا من ذلك.»

جورج كارلين

هذا هو الفصل الذي ينتظره غالبيتكم. وأنا أعلم هذا من حواراتي ومراسلاتي. فحالما أذكر موضوع العقلانية، يسألني الناس لماذا يبدو أن البشرية في صدد أن تفقد صوابها.

في أثناء كتابة هذا الكتاب، يطالعنا حدثٌ مهم عظيم في تاريخ البشرية: التوصُّل إلى لقاحات من المرجَّح أن تقضي على وباء فتَّاك بعد أقل من عام من ظهوره. بيد أنه في العام نفسه، أثارت جائحة كوفيد ١٩ صخبًا من نظريات المؤامرة السخيفة، مثل القول بأن المرض كان سلاحًا بيولوجيًّا صُنِّع في مختبر صيني، وأنه أكذوبة نشرها الحزب الديمقراطي للقضاء على فرص دونالد ترامب في إعادة انتخابه، والقول بأنه مكيدة دبَّرها بيل جيتس لزرع شريحة تتبُّع دقيقة في أجساد الناس، وأنه مؤامرة دبَّرتها عصبة من النخبة الدولية للسيطرة على اقتصاد العالم، وأنه من أعراض إنشاء الجيل الخامس لشبكات المحمول، وأنه أيضًا وسيلة لكي يحقِّق أنتوني فاوتشي (مدير المعهد القومي للحساسية والأمراض المعدية) أرباحًا طائلة من اللقاح.1 قبل الإعلان عن اللقاحات بفترة قصيرة، أدلى ثلث الأمريكيين بأنهم سيرفضونها، وكان ذلك جزءًا من حركة مناهضة للتلقيح تُعارض الاختراع الأنفع على الإطلاق في تاريخ نوعنا.2 وقد دعم الخرافات التي أحاطت بكوفيد مشاهيرُ وسياسيون، ودعمها أيضًا، على نحوٍ أثار القلق، أقوى رجل على الأرض في زمن الجائحة، الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
ترامب نفسه، الذي كان يدعمه باستمرار نحو ٤٠ في المائة من الجمهور الأمريكي، أثار المزيد من الشكوك طوال فترة رئاسته بشأن قدرتنا الجمعية على التفكير بعقلانية. فقد توقَّع في فبراير ٢٠٢٠ أن كوفيد ١٩ سيختفي «كالمعجزة»، وشجَّع على علاجات دجلية مثل أدوية الملاريا، والحقن بمبيضات الملابس، والمسابير الضوئية. وقد استهان أيضًا بالإجراءات الأساسية للصحة العامة مثل ارتداء الأقنعة والتباعد، حتى بعد إصابته هو نفسه، مما شجَّع ملايين الأمريكيين على تجاهل الإجراءات، وضخَّم عدد الوفيات والضائقة المالية.3 كان ذلك جزءًا من صورةٍ كبرى يتجلى فيها رفض معايير العقل والعلم. فقد نطق ترامب نحو ٣٠ ألف كذبة خلال فترة ولايته، وكان لديه سكرتيرة صحافية روَّجت ﻟ «حقائق بديلة»، كما أنه ادَّعى أن تغيُّر المناخ أكذوبة صينية، وأخفى معلومات عن علماء في منظمات فيدرالية تشرف على الصحة العامة وحماية البيئة.4 علاوةً على ذلك، روَّج ترامب مرارًا لطائفة «كيو أنون»، تلك الطائفة القوية المكوَّنة من ملايين الأفراد المؤمنين بنظرية المؤامرة، والتي تنسب إليه فضلَ محاربة عصبة من عبدة الشيطان يتحرشون بالأطفال في «الدولة العميقة» الأمريكية. وقد رفض الإقرار بهزيمته في انتخابات ٢٠٢٠، وخاض معاركَ قضائية هوجاء لقلب النتائج، يقودها محامون أوردوا مؤامرة أخرى، هذه المرة من تدبير كوبا وفنزويلا وعدة حكام ومسئولين من حزبه نفسه.
تُعَد الخرافات المتعلقة بكوفيد، وإنكار تغيُّر المناخ، ونظريات المؤامرة، من أعراضِ ما يسميه البعض «الأزمة المعرفية» و«عصر ما بعد الحقيقة».5 ثمة عرَض آخر أيضًا هو الأخبار الكاذبة. في العَقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؛ فقد صارت وسائط التواصل الاجتماعي مصادرَ تدفُّق إشاعات على غرار ما يلي:6

البابا فرانسيس يصدم العالَم، ويؤيد دونالد ترامب للرئاسة

يوكو أونو: «كنت على علاقة بهيلاري كلينتون في السبعينيات»

الديمقراطيون يصوِّتون لتحسين الرعاية الصحية للمهاجرين غير الشرعيين، ويصوِّتون ضد حصول المحاربين القدامى على نفس الخدمة التي انتظروها ١٠ سنوات

ترامب سيلغي كل برامج التلفزيون التي تشجِّع نشاط المثليين

امرأة تقاضي سامسونج للحصول على تعويض مليون و٨٠٠ ألف بعد انحشار التليفون المحمول في مهبلها

القبض على فائز باليانصيب لإلقاء روث للحيوانات بمبلغ ٢٠٠ ألف دولار في حديقة مديره السابق

ينتشر كذلك الاعتقاد في الغيلان والسحر الأسود وغيرهما من الخرافات. فكما ذكرت في الفصل الأول، يؤمن ثلاثة أرباع الأمريكيين بواحد على الأقل من هذه الظواهر الخارقة. وإليكم بعضَ الأرقام من العَقد الأول من هذا القرن:7
المس الشيطاني، ٤٢ في المائة
الإدراك المتجاوز للحواس، ٤٢ في المائة
الأشباح والأرواح، ٣٢ في المائة
التنجيم، ٢٥ في المائة
الساحرات، ٢١ في المائة
التواصل مع الموتى، ٢٩ في المائة
تناسخ الأرواح، ٢٤ في المائة
الطاقة الروحية للجبال والأشجار والبلورات، ٢٦ في المائة
الحسد واللعنات والتعاويذ، ١٦ في المائة
استشارة عرَّاف أو وسيط روحاني، ١٥ في المائة
وبقدرِ ما يثير ذلك جزعي، بصفتي شخصًا يهوى تبيُّن التقدُّم البشري، تقل المؤشرات التي تدل على تراجع هذه المعتقدات على مرِّ العقود، فليست الأجيال الصغيرة بأكثر تشككًا من أسلافها (بل هي أكثر ثقةً منهم في التنجيم).8
نجد من الرائج أيضًا إشاعات متنوِّعة يدعوها مؤرخ العلوم، مايكل شيرمر، «معتقدات غريبة».9 فالعديد من الناس يؤيدون نظريات مؤامرة مثل إنكار الهولوكوست، وخطط اغتيال كينيدي، ونظرية «المؤامرة» لأحداث الحادي عشر من سبتمبر القائلة بأن البرجين أُسقطا بالتفجير من الداخل لتبرير الغزو الأمريكي للعراق. وقد تمكَّن العديد من العرَّافين، وكذلك الطوائف والأيديولوجيات من إقناع أتباعها بأن نهاية العالم وشيكة؛ وهم لم يتفقوا على موعد حدوث ذلك، بل يسارعون إلى تعديل تنبؤاتهم لوقت لاحق حين تباغتهم المفاجأة غير السارة ويجدون أنفسهم يعيشون يومًا آخر. ومن الأمريكيين نسبةٌ تتراوح بين الربع والثلث، يعتقدون أن كائنات فضائية قد زارت الأرض، سواء المعاصرون الذين يشوِّهون الماشية ويخصِّبون النساء ليلدن سلالة من هجين الفضائيين والبشر، أو القدامى الذين بنوا الأهرامات وتماثيل جزيرة القيامة.

كيف يمكننا تفسيرُ هذه الجائحة من التُّرهات؟ إنها لتؤلم المَعِدة، كما حدث لتشارلي براون في كاريكاتير بيناتس، خاصةً حين يبدو أن لوسي تمثل قطاعًا كبيرًا من بني جلدتنا:

بيناتس، حقوق النشر محفوظة بتاريخ ١٩٥٥ لبيناتس، شركة محدودة المسئولية. توزيع وكالة أندروز ماكميل. أُعيد النشر بتصريح. جميع الحقوق محفوظة.

لنبدأ بالتغاضي عن ثلاثة تفسيرات شهيرة، ليس لأنها خطأ لكن لأنها أكثر سطحية من أن تكون كافية. لا بد أن أقرَّ أن أولها هو قائمة المغالطات المنطقية والإحصائية المشروحة في الفصول السابقة. من المؤكَّد أن العديد من الخرافات تنبع من المبالغة في تفسير المصادفات، والقصور عن معايرة الأدلة بالسوابق، والإفراط في التوصل إلى أحكامٍ عامة بِناءً على حكايات شخصية، والقفز من الارتباط للسببية. ولعل أفضل مثال على ذلك هو الاعتقاد الخاطئ بأن اللقاحات تسبِّب التوحد، والذي عززته ملاحظة أن أعراض التوحد تظهر، بالصدفة، قرب السن التي يتلقى فيها الأطفال اللقاحات لأول مرة. إنَّ جميع هذه الخرافات تمثل قصورًا في التفكير النقدي والعجز عن تأسيس الاعتقاد على دليل؛ وذلك ما يعطينا الحق في أن نقول إنها خاطئة في المقام الأول. بالرغم من ذلك، فما كان لأي شيء من مختبرات علم النفس المعرفي أن يتنبأ بجماعة «كيو أنون»، وليس من المرجَّح أيضًا أن يتحرر أتباعها من أوهامهم بدرس في المنطق أو الاحتمالية.

لن يجدي أيضًا أن نلقي تَبعة ما نشهده في الوقت الحاضر من اللاعقلانية على كبش الفداء لكلِّ ما يجري الآن؛ أي وسائط التواصل الاجتماعي. فمن المرجَّح أن نظريات المؤامرة والأكاذيب السريعة الانتشار قديمةٌ قِدم اللغة.10 فما قصص المعجزات الواردة في الكتب المقدسة على كل حال سوى أنها أخبار كاذبة عن ظواهر خارقة! فقد ظل اليهود متهمين طيلةَ قرون بالتآمر لتسميم الآبار، وتقديم أطفال المسيحيين قرابين، والسيطرة على اقتصاد العالم، وإثارة انتفاضات شيوعية. وشهد التاريخ مرات عديدة أن نُسِب إلى أعراق وأقليات وطوائفَ أخرى تدبيرُ مكائد شنيعة؛ فاستُهدِفت بالعنف.11 الحق أنَّ عالِمَي السياسة جوزيف يوزينسكي وجوزيف بارنت، تتبَّعا انتشار نظريات المؤامرة في باب بريد القراء في جرائد أمريكية كبرى من عام ١٨٩٠ حتى ٢٠١٠ ولم يجدا اختلافًا على مدى تلك الفترة؛ ولم ترتفع الأعداد أيضًا في العَقد التالي.12 أما عن الأخبار الزائفة، فقبل أن تجد هذه الأكاذيب مجالًا لنشرها على «تويتر» و«فيسبوك»، كان الناس يتداولون الوقائعَ الغريبة التي تحدُث لصديقِ صديقٍ لهم ويبالغون فيها إلى أن تصبح كالأساطير (جليسة الأطفال التي شوت طفلًا حيًّا، وبيع مطعم كنتاكي لفأر مقلي، وإعطاء بعض الناس حلوى مسمَّمة للأطفال في الهالوين)، أو كانت تغطي أغلفة الصحف الشعبية في المتاجر (وليد يتحدَّث في المهد واصفًا الجنة؛ ديك تشيني إنسان آلي؛ جراحون ينقلون رأس صبي لجسد أخته).13 ربما تؤدي وسائط التواصل الاجتماعي بالفعل إلى انتشارها، لكن الولع بالخيالات الثرية بالتفاصيل يكمُن في أعماق الطبيعة البشرية: فالبشر هم مَن يؤلفون هذه القصص لا الخوارزميات، والبشر أيضًا هم مَن ينجذبون إليها. وعلى كل الذعر الذي زرعته الأخبار الزائفة، فإن تأثيرها السياسي طفيف: فهي لا تثير فصيلًا من الحزبيين إلا بقدر ضئيل، وهي لا تبدِّل موقف الجموع من المترددين.14

أخيرًا، لا بد أن نتخطى الأعذار المرتجلة التي لا تزيد على أن ترجع تصرفًا لا عقلانيًّا إلى تصرُّف غير عقلاني آخر. فليس بالتفسير الجيد مطلقًا أن نقول إن الناس تتبنى اعتقادًا خاطئًا لأنه يمنحهم راحةً أو يساعدهم على إعطاء معنى العالم؛ إذ لا يقودنا هذا إلا إلى التساؤل عما قد يمنح الناسَ الراحة والسكينة في اعتقادات ربما لا تعود عليهم بأي خير. ذلك أنَّ الواقعية ضغط انتقائي قوي. فالسلف البشري الذي أوهم نفسه ليخفِّف من روعها بأنه رأى سلحفاة لا أسدًا أو أنَّ أكلَ الرمال سيغذي جسده، سيتفوق عليه في التكاثر أنداده الواقعيون.

لن يجدي أيضًا أن ننفض يدنا من البشر باعتبار أنهم غير عقلانيين إلى حدٍّ ميئوس منه. فمثلما عاش أسلافنا الباحثون عن غذائهم معتمدين على حيلتهم في أنظمة بيئية لا ترحم، ينجح الآن منظِّرو المؤامرات والمؤمنون بالمعجزات في الاختبارات الصعبة لعوالمهم: فإنهم يحافظون على وظائفهم، ويربُّون أبناءهم، ويوفِّرون لأنفسهم المسكن والمأكل. في هذا الصدد، من الردود الجاهزة للمدافعين عن ترامب بشأن اتهامه بالقصور الإدراكي كان القول: «إذا كان غبيًّا، فكيف تسنَّى له أن يصير رئيسًا؟» وما لم تكن تعتقد أن العلماء والفلاسفة سلالة متفوقة من البشر، فلا بد أن تقرَّ بأن أغلب أفراد نوعنا لديهم القدرة على اكتشاف قواعد العقلانية وقبولها. فلكي نفهم الأوهام الشائعة وجنون الحشود، لا بد أن ندرس القدرات المعرفية التي تنجح في بعض البيئات ومن أجل بعض الأغراض لكنها تخفق حين تُطبق على نطاق واسع، أو في ظروف جديدة، أو لخدمة أهداف أخرى.

الاستدلال المغرض

العقلانية نزيهة. إنها لا تتغيَّر من شخص لآخر ولا من مكان لآخر، ولها اتجاهها وزخمها الخاصان بها. لذلك السبب من الممكن أن تكون العقلانية مصدر إزعاج، أو عائقًا، أو إهانة. في رواية ريبيكا نيوبرجر جولدستين «ست وثلاثون حجة على وجود الله: عمل أدبي»، يشرح باحث بارز في الأدب لطالب دراسات عليا سببَ بغضه التفكيرَ الاستنباطي:15

إنه شكلٌ من أشكال التعذيب لمن وُهبوا ملَكة التخيل، استبداد تام بالتفكير، حيث يأتي السطر وراء السطر في اتساق محكَم، مؤدية كلها لا محالة إلى استنتاج واحد لا تحيد عنه. إن براهين إقليدس لا تثير في ذهني شيئًا سوى صورة قوَّات تسير بخطوات عسكرية أمام ديكتاتور أعلى. طالما استمتعت برفض عقلي متابعة ولو سطرًا واحدًا من أي شرح رياضي يُقدَّم لي. لماذا تفرض عليَّ هذه العلوم الصارمة أيَّ شيء؟ ومثلما يحاجج رجل القبو في رواية دوستويفسكي بذكاء فيقول: «ويحي، ما شأني وقوانين الطبيعة والحساب إذا كنت لأي سبب من الأسباب لا أحبُّ هذه القوانين، بما في ذلك أنَّ «اثنين في اثنين يساوي أربعة»؟» ازدرى دوستويفسكي المنطق، ذلك المهووس بالسيطرة، وأنا لا يسعني سوى أن أفعل مثله.

السبب الواضح لتحاشي الناس اتباعَ التفكير المنطقي هو أن الناس لا تحب النتائج التي يقودهم إليها. فقد ينتهي بهم إلى نتيجة ليست في مصلحتهم، مثل توزيع عادل للمال أو السلطة أو الجاه لكنه في مصلحة شخص آخر. وكما أشار سنكلير لويس: «من الصعب أن تجعل شخصًا يفهم شيئًا، حين يكون راتبه متوقفًا على ألا يفهمه.»16

إنَّ الأسلوب الراسخ في اعتراض سبيل التفكير المنطقي قبل وصوله إلى وجهةٍ غير مرغوب فيها، هو استخدام القوة لإخراج المفكر بالمنطق عن مساره. بالرغم من ذلك، توجد طرقٌ أخرى أقل فظاظةً تستغل أوجه الغموض الحتمية المحيطة بأي مسألة لتوجيه النقاش في اتجاه مفضل، وذلك من خلال السفسطة والتلاعب بالألفاظ وسائر فنون الإقناع. فعلى سبيل المثال، قد يركِّز زوجان يبحثان عن شقة، على الأسباب التي تجعل الشقة التي تصادف وقوعُها قرب عمله أو عملها أفضل لهما هما الاثنين بصفة موضوعية، مثل مساحتها أو سعرها المناسب. وذلك جوهر المجادلات اليومية.

يُسمَّى هذا الحشد للموارد الخطابية من أجل توجيه المناقشة لنتيجة مفضلة، بالاستدلال المغرض.17 قد يكون الغرض هو الانتهاء إلى نتيجةٍ مناسبة، لكنه قد يتمثل أيضًا في التباهي بحكمة المجادل أو معلوماته أو أخلاقه. نعلم جميعًا شخصيةَ الثرثار التي نراها في الحانة، وبطل المجادلات، والمحامي الحاذق، والرجل الذي يخاطب النساء بتعالٍ، والمتفاخر بقدراته، ومحب المبارزات الفكرية الذي يفضِّل أن يكون على صواب على معرفة الصواب.18
العديد من التحيُّزات التي تمتلئ بها قوائم أوجه القصور الإدراكي هي من أساليب الاستدلال المغرض. وقد تناولنا منها في الفصل الأول، الانحياز التأكيدي كما يظهر في مهمة الاختيار على سبيل المثال؛ إذ يُطلب من الأشخاص قلبُ البطاقات للتحقُّق من قاعدة «إذا كان س فإذن ص» فاختاروا البطاقة س، التي من الممكن أن تؤكدها، وليس البطاقات التي ليست ص، التي من الممكن أن تكذبها.19 يصبح الناس منطقيين بدرجةٍ أكبر حين يريدون أن تكون القاعدة خطأً. حين تقول القاعدة إن مَن يتمتَّع بمثل شخصيتهم العاطفية، معرَّض للموت في سن صغيرة، تجدهم يتحققون من القاعدة على نحو صحيح (وفي الوقت نفسه يطمئنون أنفسهم) بالتركيز على الأشخاص الذين لديهم مثل سِماتهم، وعلى مَن عاشوا حتى سن الشيخوخة.20
إننا نتشجع أيضًا لتنظيمِ ما نستهلكه من معلومات. في الاستيعاب المتحيز (أو التعرض الانتقائي)، يبحث الناس عن الحجج التي تؤكد اعتقاداتِهم ويحمون أنفسهم من تلك التي قد تدحضها.21 (مَن منَّا لا يستمتع بقراءة المقالات الملائمة لآرائه السياسية، ويتبرم من تلك المنحازة للرأي الآخر؟) وتمتد حمايتنا لذاتنا إلى الحجج التي تنالنا بالفعل. فنحن نستعين في التقييم المتحيِّز بمهارتنا لتأييد الحجج التي تدعم موقفنا وانتقاد الحجج التي تنكره. وتوجد أيضًا المغالطات غير الصورية الكلاسيكية التي رأيناها في الفصل الثالث: مغالطة الحجة الشخصية، والاحتكام للسلطة، وعربة الفرقة، والجينية، والتأثير العاطفي، ورجل القش، وما إلى ذلك. بل إننا نكون أيضًا متحيزين لتحيزاتنا. اكتشفت عالِمة النفس إميلي برونين أنه، كما هو الحال في البلدة الخيالية التي يتجاوز عدد الأطفال فيها المتوسط، فإنَّ الغالبية العظمى من الأمريكيين تعد أنها أقل عرضة من الأمريكي العادي لأن يكون لديها تحيزات معرفية، ولا أحد تقريبًا يعتبر نفسه أكثر تحيزًا.22
ثمة جزء كبير من عملياتنا الاستدلالية يبدو أنه مصمَّم خصوصًا للفوز بالمجادلات حتى إنَّ بعض العلماء المعرفيين، مثل هوجو مرسييه ودان سبيربر، يعتقدون أنه الوظيفة التكيفية للاستدلال.23 فنحن لم نتطوَّر لنصبح علماء بالبديهة، بل لنصبح محامين بالبديهة. فرغم أن الناس دائمًا ما تحاول الإفلات بحججٍ ضعيفة، فإنها سريعًا ما تلحظ المغالطات في حجج الآخرين. ومن حسن الحظ أنه يمكن استخدام هذا النفاق لكي نصبح بصفة جماعية أكثرَ عقلانيةً مما يمكن أن يتحقَّق لأي منَّا على مستوًى فردي. لقد تبيَّن أنَّ الطُّرفة التي تناقلها الخبراء في تكوين اللجان، والقائلة بأن مستوى ذكاء المجموعة يساوي أدنى مستوى ذكاء لدى أفرادها مقسومًا على حجم المجموعة خاطئةٌ تمامًا.24 فحين يقيِّم الناس فكرةً ما في إطار مجموعات صغيرة تتسم بالانسجام الملائم فيما بينها، بمعنى أنهم لا يتفقون على كل شيء لكن لديهم اهتمامٌ مشترك بالعثور على الحقيقة، يدرك بعضهم مغالطات بعض، ويميز بعضهم ما يغفُل عنه بعضهم الآخر، ودومًا ما تفوز الحقيقة. على سبيل المثال، عند طرح مسألة واسون للاختيار أمام أفراد، شخص واحد فقط من بين كل عشرة يختار البطاقات الصحيحة، لكن عند وضعهم في مجموعات، فإنَّ سبعة أفراد من عشرة يتوصَّلون إلى الاختيار الصحيح. يكفي أن يدرك عضو واحد الإجابة الصحيحة، وهو يقنع بها الآخرين في معظم الأحوال.

التحيُّز للذات

إنَّ رغبة الناس في الحصول على ما يريدونه أو التظاهر بمعرفتهم لكل شيء لا تفسِّر سوى جزء من لا عقلانيتنا العامة. من الممكن أن نفهم جزءًا آخرَ بتمعُّن هذه المشكلة في السياسات القائمة على الأدلة. هل تؤدي تدابير الرقابة على الأسلحة إلى انخفاض معدَّلات الجريمة؛ إذ يصبح بإمكان عدد أقل من المجرمين الحصول عليها، أم إنها تؤدي إلى ارتفاعها؛ لأنه لن يصير بإمكان المواطنين الملتزمين بالقانون حماية أنفسهم؟

فيما يلي بيانات من دراسة افتراضية قسَّمت المدن إلى تلك التي طبَّقت حظرًا على حمل مسدسات مخبأة (الصف الأول) وتلك التي لم تطبقه (الصف الثاني).25 يضم كل عمود عدد تلك المدن التي تحسَّنت فيها معدَّلات الجريمة (العمود الأيمن) والتي ساءت فيها (العمود الأيسر). هل تستنتج من هذه البيانات أن الرقابة على السلاح لها أثرٌ فعَّال في خفض معدَّل الجريمة؟
انخفاض معدَّل الجريمة ارتفاع معدَّل الجريمة
مع الرقابة على السلاح ٢٢٣ ٧٥
دون الرقابة على السلاح ١٠٧ ٢١

واقع الأمر أنَّ البيانات (المختلقة) توحي بأن حظر السلاح يرفع معدَّل الجريمة. من السهل أن نفهم الأمر خطأً، بسبب بروز العدد ٢٢٣، وهو العدد الكبير للمدن التي تطبِّق حظر السلاح وانخفض فيها معدَّل الجريمة. لكن هذا لا يعني سوى أن الجريمة انخفضت في البلد بأسرِه، مع تطبيق السياسة أو دونه، وأن المدن التي حاولت تطبيق حظر السلاح أكثر من التي لم تحاول تطبيقه، وهي نزعة سادت الاتجاهات السياسية. إننا بحاجة لإلقاء نظرة على النِّسب. وسنجد أنها تبلغ ثلاثة إلى واحد تقريبًا (٢٢ مقابل ٧٥) في المدن التي طبَّقت الرقابة على السلاح؛ وهي تقارب خمسة إلى واحد (١٠٧ مقابل ٢١) في المدن التي لم تطبِّقها. بذلك تقول البيانات إن المدن في المتوسط أفضل حالًا من دون تطبيق الرقابة على السلاح.

على غرار اختبار التفكير الإدراكي (الفصل الأول)، يحتاج الوصول إلى الإجابة شيئًا من الوعي بالحساب: القدرة على تنحية الانطباعات الأولى وإجراء العمليات الحسابية. الحق أنَّ هذا الرقم الكبير سيضلل متوسطي المهارات الحسابية؛ وسيستنتجون منه أن الرقابة على السلاح سياسةٌ ناجحة. لكن الهدف الحقيقي من هذا المثال، الذي وضعه العالِم القانوني دان كاهان ومعاونوه، هو توضيحُ ما حدث مع الماهرين في الحساب من المشتركين. فقد غلب على الماهرين في الحساب من الجمهوريين معرفةُ الإجابة الصحيحة، في حين ضلَّ عنها المَهَرة في الحساب من الديمقراطيين. والسبب هو أن الديمقراطيين بدءُوا معتقدين أن الرقابة على السلاح ناجحة وأسرعوا في تصديق البيانات التي تثبِت أنهم كانوا على الحق من البداية. أما الجمهوريون فلم يقبلوا الفكرةَ وتمعَّنوا في البيانات بعينٍ ثاقبة، تكشف النسق الحقيقي ما دامت ماهرة في الحساب.

قد يعزو الجمهوريون نجاحَهم إلى كونهم أكثرَ موضوعية من الليبراليين المتطرفي المشاعر، لكن الباحثين بالطبع اختبروا ما سيحدث عند تهيئة البيانات بما يجعل الإجابة الخاطئة التلقائية مناسبة للجمهوريين. فقد بدَّلوا عناوين الأعمدة، بحيث صارت البيانات توحي بأن الرقابة على السلاح سياسةٌ ناجحة: فقد اقتطعت من ارتفاع خمسة أضعاف في الجريمة، لتجعله ارتفاعًا بثلاثة أضعاف فقط. هذه المرة كان الجمهوريون هم المغفلين في حين كان الديمقراطيون عباقرة. في الحالة التي تمثِّل عامل الضبط، اختار الفريق موضوعًا لا يهم الديمقراطيين ولا الجمهوريين: ما إذا كان أحد كريمات الجلد ناجعًا في علاج الطفح الجلدي. وحيث إن الأمر لا يعني أيًّا من الفريقين، فقد كان أداء الجمهوريين المَهَرة في الحساب والديمقراطيين المَهَرة في الحساب واحدًا. أكَّد هذا النسق أيضًا تحليل تلوي حديث لخمسين دراسة، أجراه عالِم النفس بيتر ديتو وزملاؤه. في دراسة تلو الأخرى، نجد الليبراليين والمحافظين يقبلون نفس الاستنتاج العلمي أو يرفضونه حسب ما إذا كان يدعم مواضيع حواراتهم أم لا، ويؤيدون نفس السياسة أو يعارضونها حسب ما إذا كان مَن اقترحها سياسي ديمقراطي أو جمهوري.26
إنَّ الوعي الحسابي المدفوع بالنزعة السياسية، وغيره من أشكال التقييم المتحيز تدل على أن البشر يلجئُون إلى الاستدلال بهدف التوصُّل إلى استنتاجٍ ما أو الإعراض عنه حتى حين لا يكون لهم مصلحة شخصية. حسبهم أن الاستنتاج يعزِّز ما تتسم به جماعتهم السياسية أو الدينية أو العِرقية أو الثقافية من صواب أو نُبل. يُسمى هذا، بالطبع، التحيُّز للذات، وهو يسيطر على كل نوع من أنواع الاستدلال، حتى المنطق.27 تذكَّروا أن صحةَ القياس المنطقي تتوقَّف على شكله، لا محتواه، لكن الناس يسمحون لمعلوماتهم بالتسلل ويحكمون على الحجة بأنها صحيحة إذا كانت ستفضي إلى نتيجة يعلمون أنها صحيحة أو يريدونها أن تكون صحيحة. يحدُث الشيء نفسه حين تكون النتيجة ملائمة سياسيًّا:
إذا كانت إجراءات القبول في الجامعات عادلة، فإذن لم تَعُد قوانين العمل الإيجابي ضرورية.
إجراءات القبول في الجامعات ليست عادلة.
من ثَم، قوانين العمل الإيجابي ضرورية.
إذا كانت العقوبات المخفَّفة تردع الناسَ عن ارتكاب الجريمة، فلا ينبغي اللجوء إلى عقوبة الإعدام.
العقوبات المخفَّفة لا تردع الناس عن ارتكاب الجريمة.
إذن ينبغي تطبيق عقوبة الإعدام.
حين يُطلب من الناس التحقُّق من منطق هاتين الحجتين اللتين ترتكبان مغالطة إنكار المقدم الصورية، يخطئ الليبراليون بالتصديق على الأولى ويصيبون برفض الثانية؛ ويفعل المحافظون العكس.28
في فيلم «حَساء البط» (داك سوب) يسأل شيكو ماركس سؤاله الشهير: «مَن ستصدقين، أنا أم عيناكِ؟» من الوارد ألا يصدق الناس عيونهم وهم في خِضم التحيز لصفوفهم. في تحديثٍ لدراسة نموذجية تثبِت أن مشجعي كرة القدم دائمًا ما يرون أن الفريق المنافس يرتكب مخالفات أكثر، عرض كاهان ومعاونوه فيديو لمظاهرة أمام أحد المباني.29 حين وصفها العنوان بأنها احتجاجٌ ضد الإجهاض في عيادة صحية، رآها المحافظون مظاهرة سلمية، في حين رأى الليبراليون أن المتظاهرين يسدون المدخل ويُرهِبون الداخلين. وحين حملت عنوان احتجاج على استبعاد المثليين عند مركز للتجنيد العسكري، كان المحافظون هم الذين رأوا مظاهر الشغْب، في حين رأى الليبراليون تظاهرًا سلميًّا.
تناولت إحدى المجلات دراسةً بخصوص الرقابة على السلاح تحت عنوان: أكثر الاكتشافات إحباطًا عن العقل البشري. بالطبع ثمة أسباب تدعو إلى الإحباط. أحدها أن الآراء التي تعارض الإجماعَ العلمي، مثل نظرية الخلق وإنكار تغيُّر المناخ الناجم عن نشاط البشر، قد لا تكون من أعراض الجهل بالرياضيات أو الأمية العلمية. فقد اكتشف كاهان أن أغلب مَن يصدِّقون ذلك أو ينكرونه على حدٍّ سواء لا دراية لهم بالحقائق العلمية (فعلى سبيل المثال، يعتقد العديد من المقتنعين بتغيُّر المناخ أنه متعلق بشكلٍ ما بمقالب النفايات السامة وثقب الأوزون). غير أنَّ ما يحدِّد آراءهم هو اتجاهاتهم السياسية: فكلما جنحوا لليمين، زاد إنكارهم.30
ثمة سببٌ آخر يدعو إلى التشاؤم، وهو أنه على كل ذلك الحديث عن أزمة القابلية للتكرار، نرى تحيُّز المرء لصفه كثيرَ التكرار. ففي كتاب «التحيز الذي يفرِّقنا»، يذكر عالِم النفس كيث ستانوفيتش، أنه موجود في كل عِرق، ونوع اجتماعي، وأسلوب معرفي، ومستوًى تعليمي، ومستوًى لمعدَّل الذكاء، وحتى بين الأشخاص الأمهر من أن يتورطوا في تحيزات معرفية أخرى على غرار تجاهل معدَّل الأساس ومغالطة المقامر.31 ليس تحيُّز المرء لصفه بسمة شخصية عامة، لكنه يؤثِّر في أي موضوع حساس يتعلق بهوية القائم بالاستدلال. يربط ستانوفيتش بينه وبين حالتنا السياسية الراهنة. فهو يرى أننا لا نعيش في مجتمع «ما بعد الحقيقة». وإنما المشكلة أننا نعيش في مجتمعٍ ينحاز فيه كل فرد لصفه. والصفان هما اليسار واليمين، وكلا الصفين مؤمن بالحقيقة لكن لديه أفكار غير قابلة للقياس عن ماهية الحقيقة. لقد اجتاح التحيز المزيد والمزيد من مداولاتنا. ويُعَد تحول الظهور بالكمامات خلال وباء استهدف الجهاز التنفسي إلى رموز سياسية أحدث عرَض من أعراض الاستقطاب.

•••

طالما عرفنا أن البشر حريصون على تقسيم أنفسهم إلى فرقٍ متنافسة، لكننا لا نعرف السبب في أنَّ الانقسام بين اليمين واليسار هو الآن ما يجعل كلَّ طرف يجنح عن عقلانيته بدلًا من الانقسامات المعتادة في الدِّين والعِرق والمستوى الاجتماعي. يتوازى محور اليمين واليسار مع العديد من الأبعاد الأخلاقية والأيديولوجية: التدرُّج الهرمي مقابل المساواة، والنزعة الجماعية مقابل التحررية، والدِّين والدولة مقابل التنوير، والقبلية مقابل العالمية، والرؤى المأساوية مقابل الرؤى النموذجية المثالية، وثقافات الشرف مقابل ثقافات الكرامة، ومبادئ الجماعية مقابل مبادئ الفردية.32 لكن التقلُّبات الأخيرة في القضايا التي يدعمها كل طرف، مثل الهجرة والتجارة والتعاطف مع روسيا، توحي بأن الأطراف السياسية صارت قبائل اجتماعية ثقافية لا أيديولوجيات متسقة.
وفي تشخيص حديث، استخلص فريقٌ من علماء الاجتماع أن الأطراف أقرب للطوائف الدينية، التي يجمعها الإيمان بالتفوق الأخلاقي واحتقار الطوائف المخالفة لها، منها بالقبائل بمعناها الحرفي، التي تجمعها معًا صلةُ القرابة.33 عادة ما يُلقى باللوم في نشأة الطائفية السياسية في الولايات المتحدة على وسائط التواصل الاجتماعي، مثلها في ذلك مثل سائر الأمور، غير أن جذورها تمتد إلى أعمقَ من هذا. فهي تشمل تقسيم وسائل الإعلام واستقطابها، بالبرامج الحوارية الإذاعية المتحزبة وحلول القنوات الفضائية الإخبارية محل الشبكات الوطنية؛ والتلاعب بتقسيم الدوائر الانتخابية وغيره من التحريفات الجغرافية للتمثيل السياسي، التي تدفع بالسياسيين إلى مراعاة العشائر من الناس بدلًا من الائتلافات؛ واعتماد السياسيين والمؤسسات البحثية على المتبرعين ذوي الانتماءات الأيديولوجية؛ وعزل المهنيين الليبراليين المتعلمين لأنفسهم في تجمعات حضرية؛ وتراجع منظمات المجتمع المدني المتعددة الطبقات مثل الكنائس ونوادي الخدمات والمجموعات التطوعية.34
أيمكن أن يكون تحيُّز المرء لصفه عقلانيًّا؟ ثمة حجة بايزية تفيد بأنه يجدُر بالفرد أن يفاضل بين البراهين الجديدة ومجمل اعتقاداته السابقة بدلًا من قبول كل دراسة جديدة دون تمعُّن. إذا ثبت أنَّ الليبرالية هي الصواب، فيجب ألا يغيِّر ظهور دراسة جديدة تؤيد الموقف المحافظ معتقدات الفرد. وليس من المستغرَب أن هذا كان ردَّ فعلِ الأكاديميين تجاه التحليل التلوي الذي أجراه ديتو، والذي أفاد بأن التحيُّز الحزبي سِمة مشتركة بين أفراد الحزبين.35 لا شيء يضمن أن تكون المواقفُ المفضَّلة لليسار واليمين في أي لحظة تاريخية مؤيدة للحقيقة بنسبة متساوية. حتى إن كان الطرفان يفسِّران الواقع وفقًا لآرائهما، فسيكون تصرف الطرف صاحب الآراء المبررة عقلانيًّا. يواصل الباحثون التوضيح بالقول إنَّ ما ثبت بالوثائق من انحياز الأكاديميين لليسار، ربما لا يكون تحيُّزًا غير عقلاني، وإنما معايرة دقيقة لسوابقهم البايزية لواقع أن اليسار دائمًا على صواب.
أما ردُّ المحافظين (بالاقتباس من «هاملت») فكان: «لا تضعوا ذلك البلسم الخداع على روحكم.»36 ربما يكون صحيحًا أن المواقف اليسارية تثبت صحتها في أحيان أكثر من المواقف اليمينية (خاصةً إذا كان اليسار أكثرَ اتفاقًا مع العلم من اليمين، لأي سبب من الأسباب)، لكن في غياب معايير نزيهة لن يحق لأي من الطرفين أن يبتَّ في الأمر. ويحفل التاريخ بالطبع بأمثلةٍ كان الطرفان فيها على خطأ، منها ما هو بارز بحق.37 يذكر ستانوفيتش أن المشكلة في تبرير الاستدلال المغرض بالسوابق البايزية هي أن السوابق غالبًا ما تعكس ما يريد القائم بالاستدلال أن يكون صحيحًا لا ما يملك أو تملك من أسباب لتصديق أنه صحيح.
ثمة نوعٌ مختلف أيضًا من العقلانية وأشد تناقضًا في تحيز المرء لصفه، لا يتعلق هذا النوع بقاعدة بايز، بل بنظرية الألعاب. يطلق كاهان على هذا النوع اسم العقلانية التعبيرية، ويعرِّفها بأنها استدلال مدفوع بهدفِ أن يكون المرء مقدَّرًا لدى مجموعة أقرانه لا التوصل إلى أدق فهمٍ للعالَم. فالناس تعبِّر عن الآراء التي تعلن عن أهوائها. وما دام الأمر يتعلق بمصير الشخص الذي يعبِّر عن آرائه في وسط اجتماعي، فإن استعراض أمارات الولاء بعيد كل البعد عن اللاعقلانية. فالإعراب عن هرطقة بمعايير الدائرة التي توجد فيها، مثل رفض الرقابة على السلاح داخل دائرة اجتماعية للديمقراطيين أو تشجيعه في دائرة للجمهوريين، من الممكن أن يوسمك بالخيانة، وموالاة العدو، وأنك «لا تفهم الأمر»؛ مما يؤدي إلى الحكم عليك بالموت الاجتماعي. الحق أنَّ أكثر الاعتقادات تعبيرًا عن الهوية هي أغربها. من الممكن لأي صديق مصلحة أن يقول إن الأرض كروية، لكن الصديق الحقيقي وحدَه مَن سيقول إن الأرض مسطَّحة، متحملًا، عن طيب خاطر، ما يجلبه ذلك من سخرية الأغراب.38
من سوء الحظ رغم ذلك أنَّ ما هو عقلاني لكلٍّ منَّا في سعيه للقبول في الجماعة ليس عقلانيًّا لنا جميعًا في ديمقراطيةٍ تسعى إلى أفضل فهمٍ للعالم. مشكلتنا هي أننا واقعون في فخ مأساة مشاع للعقلانية.39

نوعان من المعتقدات: الواقع والأسطورة

إنَّ الفكاهة في كاريكاتير «بيناتس» حيث تغمر الثلوج لوسي بينما تصر هي أنها تتصاعد من الأرض تكشف عن قصور في أي تفسير للاعقلانية البشرية يستند إلى الدوافع الخفية في الاستدلال المغرض. مهما كان نجاح الاعتقاد الخطأ في استعراض البراعة العقلية لصاحبه أو ولائه لقبيلته، فسيظل خطأً، ولا بد أن تعاقبه حقائق العالم الدامغة الباردة. وكما قال الروائي فيليب كيه ديك، الواقع هو ما لا يزول حين تتوقف عن الإيمان به. لماذا لا يحتج الواقع إذن ويمنع الناس عن الإيمان بالعبث أو مكافأة أولئك الذين يؤكدونه وينشرونه؟

الإجابة هي أن الأمر يتوقَّف على ما تعنيه ﺑ «الإيمان». يذكر مرسييه أن أصحاب الاعتقادات الغريبة غالبًا ما لا يملكون شجاعة أفكارهم.40 فرغم أن ملايين الناس دعموا شائعةَ أن هيلاري كلينتون كانت تدير عصابةً للاتجار في الأطفال من أجل الجنس من قبو مطعم بيتزا كوميت بينج بونج في واشنطن (نظرية مؤامرة بيتزا جيت، التي سبقت كيو أنون)، فلا أحد تقريبًا قد اتخذ أيَّ خطوات تناسب تلك الفظاعة، كاستدعاء الشرطة مثلًا. كان الردُّ النبيل لأحدهم هو إعطاء تقييم نجمة واحدة على جوجل. («كانت بيتزا غير ناضجة بالمرة. كان ثمة رجال مريبون بملابس رسمية عند منطقة البار بدا أنهم زبائن دائمون ظلوا يحدِّقون في ابني وفي الأطفال الآخرين هناك.») ليست تلك بالاستجابة التي قد تصدر من أيٍّ منا إذا اعتقد فعلًا أن ثمة أطفالًا يُغتصَبون في القبو. إدجار ويلتش، الذي اقتحم المطعم مطلقًا الرصاصَ من سلاحه في محاولة بطولية لإنقاذ الأطفال، كان مؤمنًا جديًّا باعتقاداته على الأقل. لا بد أن الملايين الآخرين كانوا مؤمنين بالشائعة بمعنًى مختلف تمامًا ﻟ «إيمان».
يشير مرسييه أيضًا إلى أن المخلصين من المؤمنين بوجود مؤامرات شائنة هائلة، مثل أعضاء حركة حقيقة أحداث الحادي عشر من سبتمبر وأصحاب نظرية مؤامرة الكيمتريل (الذين يزعمون أن ذيول بخار الماء التي تخلِّفها الطائرات النفَّاثة هي مواد كيميائية ينشرها برنامج حكومي سري لتخدير الشعب)، ينشرون بياناتهم الرسمية ويقيمون اجتماعاتهم على الملأ، رغم اعتقادهم بوجود خطة وحشية يطبِّقها نظام نافذ السلطات لقمع قائلي الحقيقة الشجعان أمثالهم. وليست تلك بالاستراتيجية التي تراها من منشقين في أنظمة قمعية بحق مثل كوريا الشمالية والمملكة العربية السعودية. وبِناءً على تفرقةٍ وضعها سبيربر، يفترض مرسييه أن نظريات المؤامرة وغيرها من الاعتقادات الغريبة، تأمُّلية لا حَدْسية، أي إنها تختلف عن القناعات التي نؤمن بها في قرارة أنفسنا.41 إنها تفرقةٌ قوية، وإن كنت أتصورها على نحوٍ مختلف قليلًا، أقرب للتناقض الذي رسمه عالِم النفس الاجتماعي روبرت أبلسون (وفنان الكوميديا جورج كارلين) بين الاعتقادات القصية والقابلة للاختبار.42

يقسِّم الناس عالَمهم إلى منطقتين. تنطوي إحداهما على الأغراض المادية حولهم، والأشخاص الآخرين الذين يتعاملون معهم وجهًا لوجه، وذكريات تعاملاتهم، والقواعد والأعراف التي تنظِّم حياتهم. أغلب اعتقادات الناس المتعلقة بهذه المنطقة دقيقة، وهم يفكِّرون بعقلانية في نطاقها. ففي هذه المنطقة، يعتقدون أن ثمة عالَمًا حقيقيًّا وأن الاعتقادات إما أن تكون صحيحة أو خاطئة. ليس لديهم خيار آخر: هذا هو السبيل الوحيد ليظل لديهم وقود في السيارة، ومال في البنك، وكساء وغذاء لأطفالهم. لندعوها عقلية الواقع.

المنطقة الأخرى هي العالم فيما وراء التجربة المباشرة: الماضي البعيد، والمستقبَل المجهول، وما بعُد عنهم من الأشخاص والأماكن، والمراكز القصية للسلطة، والمجهري، والكوني، والمخالف للواقع، وما وراء الطبيعة. قد يتفكَّر الناس فيما يحدث في تلك المناطق، لكنهم لا يملكون سبيلًا للمعرفة، ولا يشكل ذلك فرقًا كبيرًا في حياتهم على أي حال. فليست الاعتقادات في هذه المناطق سوى قصص، قد تكون مسلية أو ملهمة أو مهذِّبة أخلاقيًّا. والسؤال عما إذا كانت «صحيحة» أو «خاطئة» هو السؤال الخطأ. فوظيفة هذه الاعتقادات هو تكوين واقع اجتماعي يجمع القبيلة أو الطائفة ويعطيها غرضًا أخلاقيًّا. لنسمِّها عقلية الأساطير.

من أقوال برتراند راسل الشهيرة قوله: «من المكروه أن تؤمن بافتراض لا يوجد أي سند على الإطلاق يفيد بصحته» ولعل مفتاح فهْم اللاعقلانية المتفشية هو إدراك أن جملة راسل ليست شيئًا بديهيًّا وإنما بيان ثوري. طوال الجزء الأكبر من التاريخ البشري وعصور ما قبل التاريخ، لم يكن ثمة أسباب تفيد بصحة تلك الافتراضات عن وجود عوالم بعيدة. لكن ربما كان الإيمان بها يمنح شعورًا بالقوة أو إلهامًا، مما جعلها مستحبة بما فيه الكفاية.

إنَّ قول راسل المأثور هو الرفاهية التي ينعم بها المجتمع المتقدِّم تكنولوجيًّا، الذي توصَّل إلى العلوم والتاريخ والصحافة، والذي يتمتع أيضًا بالبنية التحتية التي يقوم عليها ذلك كله، وهي السعي وراء الحقيقة، متمثلًا في وجود سجلات أرشيفية، ومجموعات بيانات رقمية، وأدوات عالية التقنية، ومجتمعات المراجعة والتحقق من الوقائع، ومراجعة الأقران. نحن أبناء التنوير نعتنق عقيدةَ الواقعية الشاملة: إننا نؤمن بأن معتقداتنا كلها لا بد أن تكون في إطار عقلية الواقع. نحن نعبأ بما إذا كانت قصتنا عن الخلق، وأساطيرنا عن النشأة، ونظرياتنا عن العناصر الغذائية والجراثيم والقوى غير المرئية، ومفاهيمنا عن ذوي النفوذ، وارتيابنا في أعدائنا، حقيقية أم خطأ. ذلك لأننا نملك الأدوات للحصول على إجابات عن هذه الأسئلة، أو تحديد درجات مضمونة من الوجاهة لها على الأقل. ثم إنَّ لدينا دولة تكنوقراطية من المفترض أنها تطبِّق هذه المعتقدات.

ومع ذلك، فبقدرِ ما أنَّ تلك العقيدة مستحبة، فهي ليست الطريقة الطبيعية التي يؤمن بها البشر بشيءٍ ما. والحق أننا بمنح عقلية الواقع تفويضًا إمبرياليًّا بغزو عالَم المعتقدات وتهميش الأساطير، نكون نحن الغرباء، وهو الوصف الذي يشير إليه علماء الاجتماع التطوري بمصطلح، WEIRD «ويرد»، الذي يمثِّل الحروف الأولى من المرادفات الإنجليزية لكلمات، غربي، متعلم، مُصَنِّع، غني، ديمقراطي.43 هذا على الأقل ما يكون عليه أصحاب التعليم الرفيع منَّا، في أفضل حالاتنا. لقد تكيَّف العقل البشري على فهْم مجالات الوجود البعيدة من خلال عقلية الأساطير. ولا يعود هذا على وجه التحديد إلى أننا انحدرنا من جامعي ثمار وصيادين من عصر البليستوسين، بل لأننا انحدرنا من أناس لم يلتزموا بالعمل بالمبدأ التنويري للواقعية الشاملة، أو هم ربما لم يتمكنوا من فعلِ ذلك. إنَّ إخضاع كل اعتقادات المرء لاختبارات العقل والدليل هو مهارة غير غريزية، مثلها في ذلك مثل معرفة القراءة والكتابة والحساب، ولا بد من غرسها وتنميتها.

ورغم كل غزوات عقلية الواقع، لا تزال عقلية الأساطير تحتل مساحات شاسعة في مشهد الاعتقادات السائدة. المثال الواضح على ذلك هو الدِّين. يوجد أكثر من ملياري شخص يعتقدون أنه إن لم يؤمن المرء بالمسيح مخلصًا له فسوف يُحكم عليه بالعذاب الأبدي في الجحيم. من حسن الحظ أنهم لا يتخذون الخطوة المنطقية التالية ويحاولون تحويل الناس للمسيحية بحد السيف من أجل مصلحتهم، أو يعذِّبون الهراطقة الذين قد يُضِلون الآخرين إلى الهلاك. غير أنه خلال القرون الماضية، حين دخل الإيمان المسيحي منطقةَ الواقع، كان ذلك ما فعله بالضبط العديد من الصليبيين، وأعضاء محاكم التفتيش والفاتحين، والجنود في حروب الدِّين. فقد كانوا بذلك مثل مُخلِّص مطعم كوميت بينج بونج، يتعاملون مع اعتقاداتهم على أنها صحيحة فعلًا. وفيما يخص تلك المسألة، رغم أن العديد من الناس يزعمون أنهم مؤمنون بحياة آخرة، فإنهم لا يَبدون على عجلةٍ لمغادرة دار الشقاء هذه من أجل النعيم الأبدي في الجنة.

من حسن الحظ أيضًا أنَّ العقيدة الدينية الغربية تقبع بأمان في منطقة الأساطير، حيث يحمي سيادتها العديد من الناس. خلال العَقد الأول من القرن الحالي، صار «الملحدون الجدد»، سام هاريس، ودانيل دينيت، وكريستوفر هيتشنز، وريتشارد دوكينز، هدفًا للذم، لا من جانب مبشِّرين مسيحيين أصوليين فقط، بل من جانب بعض المفكرين من التيار السائد أيضًا. هؤلاء الإيمانيون (كما يسميهم عالِم البيولوجيا جيري كوين)، أو المؤمنون بالإيمان (مصطلح دينيت)، لم يَنفوا أن الرب موجود في الواقع.44 لكنهم أشاروا إلى أنه ليس من اللائق، أو الأخلاقي، أو المقبول أن يُعد وجود الرب مسألةَ صحة أو خطأ. فالإيمان بالرب فكرةٌ تقع خارج منطقة الواقع القابل للاختبار.

من النطاقات الأخرى التي تتجلى فيها اللاواقعية السائدة، هي الأسطورة الوطنية. تقدِّس أغلب البلاد روايةً ما عن تأسيسها باعتبارها جزءًا من وعيها الجماعي. فكانت في زمنٍ ما ملاحمَ عن أبطال وآلهة، مثل الإلياذة، والإنيادة، وأساطير الملك آرثر، وأعمال فاجنر الأوبرالية. وحديثًا تمثَّلت هذه الروايات في حروب الاستقلال أو حركات مقاومة الاستعمار. ومن الأفكار السائدة في مثل هذه الروايات، تميُّز الروح العتيقة للأمة بلغة وثقافة وموطن؛ ووجود فترة ممتدة من الخمول ونهضة مجيدة؛ وتاريخ طويل من الإيذاء والقهر؛ وجيل من المحررين والمؤسسين الخارقين. ولا يشعر حماةُ التراث الأسطوري بحاجة لمعرفةِ ما حصل في الواقع بالفعل، بل ربما يسخطون على المؤرخين الذين يضعون الأسطورةَ في منطقة الواقع وينقبون تاريخها الضحل، وهويتها المختلَقة، ومناوشاتها المتبادلة مع الجيران، وما شاب آباءها المؤسسين من عيوب مستترة.

ثمة نطاقٌ آخر من الاعتقادات التي هي ليست بالصحيحة تمامًا ولا بالكاذبة تمامًا، ألا وهي القصص التاريخية والتاريخ الممزوج بالخيال. قد يبدو من قبيل التحذلق أن أشير إلى أن هنري الخامس لم يُلقِ في عيد القديس كريسبين تلك الكلمات الحماسية التي نَسبَها إليه شكسبير. غير أنَّ المسرحية تدَّعي أنها سرد لأحداث حقيقية وليست من نسيج خيال كاتب المسرحية، وما كنَّا لنستمتع بها بنفس الطريقة لولا ذلك. ينطبق الشيء نفسه على تاريخ الحروب والصراعات الحديثة الممزوج بالخيال، وهو في واقع الأمر أخبارٌ مزيفة وردت في الماضي القريب. حين تقترب الأحداث بشدة من الحاضر أو يعيد الخيال كتابة وقائع مهمة، يمكن للمؤرخين أن يدقوا ناقوسَ الخطر، مثلما حدث حين أحيا أوليفر ستون نظرية مؤامرة الاغتيال في فيلم «جيه إف كيه» الصادر عام ١٩٩١. وفي عام ٢٠٢٠، اعترض الكاتب الصحفي سايمون جينكينز على المسلسل التلفزيوني «التاج» (ذا كراون)، الذي يتناول بمعالجةٍ درامية تاريخَ الملكة إليزابيث وأسرتَها مستبيحًا التلاعب بالعديد من الأحداث المصوَّرة: «حين تشغِّل تلفزيونك الليلة، تخيَّل مشاهدة الأخبار وهي تُمثَّل بدلًا من أن تُقرأ … وتخيَّل بعد ذلك أن تعرِض هيئةُ الإذاعة البريطانية عبارةً تقول إن كل هذا «قائم على أحداث حقيقية»، آملة أن نكون استمتعنا بها.»45 غير أن صوته كان صوتًا صارخًا في البرِّية. فأغلب النقاد والمشاهدين لم يبالوا بالأكاذيب التي عُرضت عليهم في مشاهد فاخرة، ورفضت نتفليكس أن تنشر تنبيهًا إلى أن بعض المشاهد خيالية (رغم أنها نشرت تحذيرًا بشأن عرض مشاهدَ تصوِّر الشره المرضي).46

إنَّ الفاصل بين منطقة الواقع والأساطير قد يتفاوت بتفاوت العصر والثقافة. فمنذ عصر التنوير، أدَّت حركات التجديد في الغرب الحديث إلى تآكل منطقة الأساطير، وهي نقلة تاريخية سمَّاها عالِم الاجتماع ماكس ويبر «تحرُّر العالم من الأوهام». لكن توجد مناوشات دائمًا على الحدود. من الممكن رؤية الأكاذيب والمؤامرات السافرة لعصرِ ما بعد الحقيقة الترامبي (نسبة لترامب) كمحاولة لضم الخطاب السياسي لأرض الأساطير بدلًا من أرض الواقع. إنَّ هذه الأكاذيب والمؤامرات نوعٌ من المسرحيات، على غرار الأساطير والكتاب المقدَّس والدراما، وسواء أكان من الممكن إثبات أنها صحيحة أم خاطئة فذلك أمرٌ هامشي.

الجانب النفسي للأخبار الموضوعة الرقمية

حالما ندرك أن بإمكان البشر الإيمان باعتقادات لا يرونها حقيقية في الواقع، يمكننا أن نبدأ في فهمِ مفارقة العقلانية: كيف يمكن لحيوانٍ عقلاني أن يعتنق الكثير من التُّرهات. ليست المسألة أن أصحاب نظريات المؤامرة، وناشري الأخبار الكاذبة، ومستهلكي العلوم الزائفة دائمًا ما يفسِّرون خرافاتهم على أنها أسطورية. فأحيانًا ما تعبُر اعتقاداتهم الحدودَ نحو الواقع مؤدية لنتائج مأسوية، كما كان الأمر في بيتزا جيت، ومعارضي التلقيح، وطائفة بوابة السماء، التي انتحر ٣٩ شخصًا من أتباعها عام ١٩٩٧ استعدادًا لانتقال أرواحهم على مركبةٍ فضائية متبعة مذنَّب هيل بوب. لكن ميول الطبيعة البشرية يمكن أن تجتمع مع الحقيقة الأسطورية القائمة على الحَدْس لجعل المعتقدات الغريبة سهلة التصديق. وسنعرض فيما يلي ثلاثة أنواع من هذه المعتقدات الغريبة.

لدينا العلوم الزائفة، وخرافات ما وراء الطبيعة، والدَّجل الطبي التي تشغل بعضًا من أعمق قوانا الإدراكية الحَدْسية.47 إننا مثنويون بالبديهة؛ إذ نشعر أن العقل من الممكن أن يوجد بعيدًا عن الجسد.48 ونحن نشعر بذلك تلقائيًّا، ليس فقط لأننا لا نستطيع أن نرى الشبكات العصبية الكامنة وراء ما لدينا وما لدى الآخرين من معتقدات ورغبات. فالعديد من تجاربنا، مثل الأحلام والغشية وتجارب الخروج من الجسد والموت، توحي فعلًا بأن العقل ليس مرتبطًا بالجسد. ليس من المبالغة إذن أن يستنتج الناس أن بإمكان الأذهان أن يتواصل بعضها مع بعض ومع الواقع من دون الحاجة لوسط مادي. ولهذا لدينا التخاطر، والاستبصار، والأرواح، والأشباح، وتناسخ الأرواح، ورسائل من العالَم الآخر.
من طبيعتنا أيضًا أننا ماهويون؛ إذ نشعر أن الكائنات الحية تحتوي على موادَّ غير مرئية تمنحها شكلها وقواها.49 وهذه البديهيات تلهم الناسَ بفحص الكائنات الحية بحثًا عن بذورها وأدويتها وسمومها. لكن هذه العقلية هي أيضًا ما يجعل الناس يؤمنون بالعلاج التجانسي، والعقاقير العشبية، والتطهير من السموم، والفصد، ورفض المواد المغشوشة الدخيلة مثل اللقاحات والأطعمة المعدَّلة وراثيًّا.
نحن أيضًا غائيون بالبديهة.50 فمثلما أنَّ خططنا ومصنوعاتنا مصمَّمة لغايةٍ ما، نميل إلى الاعتقاد بأن تعقيد العالم الحي وغير الحي كذلك أيضًا. ولهذا فإننا نتقبل نظريةَ الخلق والتنجيم والتزامن والاعتقاد المبهم بأن كل شيء يحدث لعلة.
من المفترض أن يكبت التعليم العلمي هذه البديهيات البدائية، إلا أن تأثيره محدود لعدة أسباب. أحدها أن الاعتقادات المقدَّسة لدى فصيلٍ ديني أو ثقافيٍّ ما، مثل قصة الخلق، والروح، والغرض الإلهي، من المعتقدات التي يصعب التخلي عنها، وهي ربما تتمتَّع بالحماية داخل منطقة الأساطير لدى الأشخاص. وثمة سبب آخر هو ضحالة الفهم العلمي حتى بين مَن يتلقون تعليمًا رفيعًا. فالقليل من الناس فقط هم من يستطيعون تفسير سببَ زرقة السماء أو سبب تبدُّل الفصول، فضلًا عن علم وراثة السكان أو المناعة الفيروسية. عوضًا عن ذلك يثق المتعلمون في المؤسسة العلمية متمثلةً بشكل أساسي في الجامعات؛ فحسْبُهم إجماعها على أمر من الأمور.51
ومن المؤسف أنَّ الحد الفاصل بين المؤسسة العلمية وهامش العلم الزائف مبهمٌ لدى الكثير من الناس. ذلك أن أقرب علاقة تجمع الناس بالعلم في حياتهم، هي علاقتهم بطبيبهم، والعديد من الأطباء أشبهُ بالمعالجين الشعبيين منهم بخبراء التجارب السريرية العشوائية. الحق أنَّ بعض الأطباء المشهورين الذين يظهرون في البرامج الحوارية النهارية هم مشعوذون يروِّجون بغزارة لتُرهات العصر الجديد. ويمكن أيضًا للوثائقيات والبرامج الإخبارية أن تطمس هي الأخرى هذه الحدود وتضخِّم بسذاجة من ادعاءاتٍ واهية كرواد الفضاء القدماء والفيزياء المقاوِمة للجريمة.52

في هذا الصدد، لا بد من توجيه بعض اللوم للمسئولين الحقيقيين عن نقل العلوم؛ لأنهم لا يزوِّدون الناس بالفهم العميق الذي سيمكِّنهم من تكذيب العلم الزائف من أول وهلة. فغالبًا ما تُقدَّم العلوم في المدارس والمتاحف على أنها شكلٌ من أشكال السِّحر الغامض، بكائنات عجيبة ومواد كيميائية ملوَّنة وخدع مدهشة. أما المبادئ التأسيسية، على غرار أن الكون ليس له غايات فيما يتعلَّق بالشئون البشرية، وأن جميع التفاعلات المادية يحكمها بعض القوى الأساسية، وأن الأجسام الحية آلات جزيئية معقَّدة، وأن العقل هو النشاط الدماغي المتمثل في معالجة المعلومات، فلا يُفصح عنها على الإطلاق، ربما لأنها تبدو مهينة للحساسيات الدينية والأخلاقية. ليس هناك ما يستدعي الدهشة إذن في أن ما يستقيه الناس من التعليم العلمي هو خليط توفيقي، حيث تتعايش الجاذبية والمغناطيسية الكهربائية مع البساي والتشي والعلاج بالبلورات.

•••

لفهمِ التُّرهات المتفشية مثل الأساطير، وعناوين الصحف الشعبية، والأخبار المزيفة، علينا أن نتذكَّر أنها مسلية للغاية. ذلك أنها توظِّف أفكارَ الجنس والعنف والثأر والخطر والشهرة والسِّحر والمحرَّمات التي طالما أثارت رعاة الفنون، في كل مكان. فعنوان رئيسي زائف مثل: العثور على جثةِ عميل وكالة الاستخبارات الفيدرالية المشتبه به في تسريب البريد الإلكتروني لهيلاري فيما يبدو حادثة قتل وانتحار، سيكون حبكة رائعة في فيلم إثارة. وقد استنتج تحليل كمِّي حديث لمحتوى الأخبار الكاذبة أن «السمات التي تجعل الأساطير الحديثة والأدب وأي سردية في واقع الأمر، جذابة ثقافيًّا، هي نفسها السمات التي تتجلى في المعلومات المضللة على الإنترنت».53
كثيرًا ما تتطوَّر التسلية لأنواع من الكوميديا، منها كوميديا الموقف والتهكُّم والهزل، ويظهر ذلك في عناوين على غرار: تنفيذ طقوس حرق الموتى بالخطأ على عامل مشرحة خلال قيلولته؛ دونالد ترامب يقضي على حوادث إطلاق النار في المدارس بحظر المدارس؛ الكائن ذو القدم الكبيرة يختطف حطَّابًا ويأسِره عبدًا جنسيًّا. تدخُل كيو أنون في فئةٍ أخرى من فئات التسلية، وهي لعبة الواقع البديل المتعددة المنصات.54 ذلك أنَّ أتباعها يحللون إشاراتٍ مشفرة يلقيها كيو بصفة دورية (وكيو هو المبلِّغ الافتراضي عن مخالفات الحكومة)، فيحشدون فرضياتهم، ويكتسِبون شهرة على الإنترنت بنشر اكتشافاتهم.

ليس من المستغرَب أن الناس تبحث عن كل أنواع التسلية. لكنَّ الصادم أن كلًّا من هذه الأعمال الفنية يدَّعي ادعاءً وقائعيًّا. بيد أن جزَعَنا بشأن طمس الحدود بين الواقع والخيال لا يمثل الاستجابة البشرية العامة، خاصةً حين يتعلق الأمر بنطاقات بعيدة عن التجارب المباشرة، مثل الأماكن البعيدة أو حياة الأثرياء وذوي النفوذ. فمثلما أنَّ الأساطير الدينية والقومية تترسَّخ في التيار السائد عند الشعور بأنها تستنهض الهمم، تذيع الأخبار الزائفة حين يعتقد مروِّجوها أن إحدى القيم العليا مهدَّدة، مثل التضامن داخل صفوفهم وتذكير الرفاق بغدرِ الطرف الآخر. وفي بعض الأحيان لا تهدِف هذه الأخبار الزائفة إلى تحقيق استراتيجية سياسية متماسكة، بل إلى تأسيس الشعور بالتفوق الأخلاقي: الانطباع بأن المستويات الاجتماعية المنافسة، والمؤسسات القوية التي يشعر مروِّجو هذه الأخبار بالاغتراب عنها، منحلة وفاسدة.

•••

أما نظريات المؤامرة، فهي تزدهر؛ لأن الناس كانوا عرضة على الدوام لمؤامرات حقيقية.55 فلا بد للجماعات المتنقلة بحثًا عن الغذاء من اتخاذ أقصى درجات الحذر. وليس أشد أشكال الحروب فتكًا بين الشعوب القَبَلية هي المعارك المنظمة، بل الكمائن الخفية والغارات التي تُشن قبل الفجر.56 يذكر اختصاصي علم الإنسان، نابليون شانيون، أن قبيلة يانومامي في الأمازون تستخدم كلمة «نوموهوري»، أي «خدعة خسيسة»، للتعبير عن أعمال الخيانة على غرار دعوة الجيران لوليمة ثم ذبحهم بغتةً. وليست المؤامرات التي تنفِّذها ائتلافات الأعداء كغيرها من المخاطر على شاكلة الحيوانات المفترسة وصواعق البرق؛ لأنها تسخِّر مهارتها لاختراق دفاع الهدف بسرية. وبهذا، فإنَّ الضمان الوحيد أمام هذه الحِيَل التآمرية هو التفوق عليهم في التفكير استباقًا، مما قد يؤدي إلى سلسلة معقَّدة من التخمينات ورفض تصديق حقائق جلية. معنى هذا في سياق نظرية الكشف عن الإشارة أنَّ تكلفة الإخفاق في اكتشاف مؤامرة حقيقية تفوق تكلفةَ الإنذار الكاذب بوجود مؤامرة محتملة. يستدعي هذا أن نتحيز للإقدام على الإحجام، مما يؤدي إلى تكيُّفنا على محاولة اكتشاف المؤامرات المحتملة، وإن كان ذلك من أدلةٍ ضعيفة.57
لا تزال المؤامرات، صغيرها وكبيرها، موجودة بحقٍّ حتى اليوم. فقد يلتقي مجموعةٌ من الموظفين من وراء زميلهم غير المحبوب للتوصية بالاستغناء عنه؛ وقد تخطِّط حكومة أو حركة تمرُّد خلسةً لانقلاب أو غزو أو تخريب. وعلى غرار الأساطير الحديثة والأخبار الزائفة، تجد نظريات المؤامرة سبيلها للشائعات، والشائعات هي مادة الأحاديث. وقد أثبتَت الدراسات التي أُجريَت على الشائعات أنها عادةً ما تنقل التهديدات والمخاطر، وأنها تضفي هالة من الخبرة على مَن يروِّجها. وربما من العجيب، أنها غالبًا ما تكون صحيحة حين تدور بين ناسٍ لها مصلحة راسخة فيما يتعلق بفحواها، كما يحدُث في داخل أماكن العمل مثلًا.58

ثمة حوافز في الحياة اليومية إذن تتأتى من كون المرء حارسًا يحذِّر الناس من التهديدات الخفية، أو ناقلًا ينشر تحذيراتهم. المشكلة هي أن وسائط التواصل الاجتماعي والإعلام تتيح انتشارَ الشائعات بين شبكات من البشر غير معنية على الإطلاق بصحتها. ولهذا فهم يستهلكون الشائعات بغرض التسلية بها وتأكيدها بدلًا من حماية أنفسهم، كما أنهم ليس لديهم أيُّ مصلحة في متابعتها، وهم يفتقرون إلى الوسائل التي تمكِّنهم من ذلك. ولهذه الأسباب نفسها، لا تُضار سمعة منشئي الإشاعات أو مروجيها لأنهم أخطئوا. من دون هذه التحريات التي تهدف للدقة، تخطئ إشاعاتُ وسائط التواصل الاجتماعي أكثرَ مما تصيب، على عكس إشاعات أماكن العمل. يرى مرسييه أن أفضل طريقة لمنع انتشار الأخبار المريبة هو الضغط على مروجيها للتصرُّف بموجبها: باستدعاء الشرطة بدلًا من وضع تقييم سيئ.

لعل المفتاح الآخر الذي يمكننا من فهمِ جاذبية الاعتقادات الغريبة هو وضع الاعتقادات نفسها تحت المجهر. فليست العقول وحدَها ولا الأجسام هي ما يخضع للتطور، بل الأفكار أيضًا. وليس الميم، كما وصفه ريتشارد دوكينز بطريقةٍ فريدة، محض صورة مذيلة بتعليق متداولة على الإنترنت، لكنه فكرة شكَّلتها أجيال من النشر حتى صارت إمكانية نشرها هائلة.59 من أمثلة ذلك الأغاني التي تعلَق بأذهان الناس فلا يملكون التوقُّف عن الهمهمة بها أو القصص التي يشعرون برغبة في تناقلها. ومثلما أنَّ الكائنات تتطوَّر لديها سمات تكيفية لحمايتها من الالتهام، قد تطوِّر الأفكارُ سمات تكيفية تحميها من دحضها. ويزخر النظام البيئي الفكري بهذه الأفكار المجتاحة.60 ومنها مثلًا، «للربِّ أحكامٌ تخفى عنَّا.» «الإنكار من آليات الدفاع عن الذات.» «القوى الروحية يكبتها الاستقصاء المتشكك.» «إذا لم تُدِنْ هذا الشخص لعنصريته، فذلك دليل على أنك عنصري.» «الكل أنانيون دائمًا؛ لأن مساعدة الآخرين تمنح شعورًا بالرضا.» «انعدام الأدلة على هذه المؤامرة يثبت كم هي شيطانية.» إنَّ نظريات المؤامرة، بطبيعتها، متكيفة على أن تنتشر.

إعادة تأكيد العقلانية

أن نفهم ليس معناه أن نصفح. يمكننا فهْم السبب في أن يتَّجه البشر باستدلالهم نحو الاستنتاجات التي تناسب مصالحهم أو مصالح طائفتهم، والسبب في أنهم يميزون بين واقعٍ تكون فيه الأفكار صحيحة أو خاطئة وبين الأسطورة حيث الأفكار مسلية وملهمة، دون الإقرار بأن ذلك من الأمور الجيدة. فهي ليست بأمور طيبة. الواقع هو ما لا يختفي حين تطبِّق عليه الاستدلال المغرِض أو المنحاز لطرفك أو الأسطوري. فالمعتقدات الخاطئة بشأن التلقيحات، وإجراءات الصحة العامة، وتغيُّر المناخ تهدِّد رفاه المليارات من الناس. وتحرِّض نظريات المؤامرة على الإرهاب والمذابح العِرقية والحروب والإبادة الجماعية. وبِناءً على هذا، فإن تآكل معايير الحقيقة يضعف الديمقراطية ويمهِّد الطريق للطغيان.

غير أنه على جميع نقاط ضعف العقل الإنساني، لا يعني هذا بالضرورة أن تكون صورتنا عن المستقبل عبارةً عن برنامج آلي ينشر الأخبار الكاذبة إلى الأبد. ذلك أن منحنى المعرفة طويل، وهو ينحني نحو العقلانية. ينبغي ألَّا نغفل عن قدر العقلانية الموجود حاليًّا. ففي الدول المتقدمة، القليل من الناس فقط هم مَن يؤمنون الآن بالمستذئبين أو التضحية بالحيوانات أو الفصد أو الوبالات أو الحق الإلهي للقادة، أو النُّذر التي تأتي بها الكسوف والمذنبات، مع أنَّ ذلك كله من الأفكار التي كانت سائدة في قرون سابقة. إضافةً إلى ذلك، لم تتعلق أيٌّ من أكاذيب ترامب الثلاثين ألفًا بقوًى سحرية أو خارقة للطبيعة، كما أن أغلبية الأمريكيين يرفضون هذه القوى جميعها.61 ورغم أن القليل من الموضوعات العلمية تصبح مواضعَ للخلافات الدينية أو السياسية، فإن أغلبها ليس كذلك: فهناك فِرقٌ تشكِّك في التلقيحات لكنها لا تشكك في المضادات الحيوية؛ والبعض أيضًا يشكِّكون في تغيُّر المناخ، لكنهم لا يشككون في تآكل السواحل.62 ورغم التحيزات الحزبية، يُحسِن أغلب الناس الحكمَ على صحة العناوين الرئيسية وهم يغيِّرون آراءهم حين يُعرض عليهم تصحيحات واضحة وجديرة بالثقة لادعاء كاذب، سواء أكان مناسبًا لتوجهاتهم السياسية أم لا.63
لدينا كذلك معقلٌ للعقلانية في الأسلوب الإدراكي المُسمى تفتُّح الذهن النشط، لا سيما نوعه الفرعي المسمَّى تفتُّح الذهن للأدلة.64 ذلك هو مذهب راسل الذي يقضي بوجوب تأسيس الاعتقادات على أسبابٍ وجيهة. إنه رفض للاستدلال المغرض؛ والتزام بوضع الاعتقادات كلها في منطقة الواقع؛ وإقرار بالجملة المنسوبة لجون مينارد كينز: «حين تتغيَّر الوقائع، أغير رأيي. فماذا تفعل أنت يا سيدي؟»65 قاسَ عالِم النفس جوردون بينيكوك وزملاؤه ذلك السلوكَ بجعل الناس يملئون استبيانًا يتضمن عبارات كالواردة فيما يلي، حيث ترفع الإجابات الموجودة بين الأقواس درجة التفتُّح:66
على الناس دائمًا أن يضعوا في حسبانهم الدليلَ المخالِف لاعتقاداتهم. (أوافق)
ثمة اعتقادات أهم من أن يتخلى المرء عنها مهما كانت الحجة ضدها مقنعة. (لا أوافق)
على المرء دائمًا أن يراجع اعتقاداته في ضوء المعلومات أو الأدلة الجديدة. (أوافق)
لا يمكن لأحد أن يثنيني عن شيءٍ أعلم أنه صحيح. (لا أوافق)
أعتقد أن ولاء الشخص لمُثُله العليا ومبادئه أهمُّ من «تفتُّح الذهن». (لا أوافق)
في عينةٍ من مستخدمي الإنترنت الأمريكيين، قال نحو خُمس المشاركين إنهم لا يتأثرون بالبراهين، لكن الغالبية منهم يطمحون على الأقل لأن يكونوا متفتحين عليها. والمنفتحون على البراهين يقاومون الاعتقادات الغريبة. فهم يرفضون نظرياتِ المؤامرة، والسحر، والتنجيم، والتخاطر، والطِّيرة، ووحش لوخ نيس، ومعها الإله الشخص، ومذهب الخلق، والأرض الفتية، والربط بين التلقيح والتوحد، وإنكار تغيُّر المناخ الناتج عن نشاط البشر.67 إنهم أكثرُ ثقةً في الحكومة والعلم. وغالبًا ما تكون مواقفهم السياسية أكثرَ تحررًا، مثل مواقفهم من الإجهاض، وزواج المثليين، وعقوبة الإعدام، والنفور من الحرب، وهي عامةً نفس الاتجاهات التي اتخذها العالم بأسْره.68 (إلا أن المؤلفين يحذِّرون من أن الارتباطات مع النزعة المحافظة معقَّدة.)
يرتبط الانفتاح على الأدلة بالتأمُّل الإدراكي (القدرة على التمهُّل في التفكير وعدم الانخداع بالأسئلة المضللة، التي اطلعنا عليها في الفصل الأول) ومقاومة العديد من الأوهام المعرفية والتحيُّزات والمغالطات التي رأيناها من الفصل الثالث إلى التاسع.69 هذه المجموعة من العادات المعرفية الطيبة، التي يسميها ستانوفيتش معدَّل العقلانية (على وزن معدَّل الذكاء)، تجمعها علاقةُ ترابط مع الذكاء الفطري وإن كان ليس ترابطًا تامًّا: فقد يكون الأذكياء محدودي الذهن ومندفعين، وقد يكون الأكثر بلادةً منفتحين ومتمعنين. وإضافةً إلى مقاومة الاعتقادات الغريبة، فإنَّ الأشخاص القادرين على التأمل أفضلُ في تمييز الأخبار الزائفة ورفض الكلمات الفارغة التي تتخذ مظهرًا عميقًا على غرار: «المعنى الخفي يتحوَّل لجَمال مجرَّد لا نظير له».70
إن كان بوسعنا أن نضع شيئًا في مياه الشرب لجعل الكل متفتحين ومتمعنين، فستتبدَّد أزمة اللاعقلانية. لكن بما أننا لا نستطيع فِعل ذلك، فسوف نتناول مجموعة عريضة من السياسات والمعايير التي قد تقوي أجهزة المناعة المعرفية لدينا وفي ثقافتنا.71
يتمثَّل الجزء الأكبر في تثمين معيار العقلانية نفسها. إننا لا نستطيع فرض قيم صادرة من المستويات العليا مثلما أننا لا نستطيع إملاء أي تغيُّر ثقافي يتوقَّف على ملايين الاختيارات الفردية مثل الوشم واللغة العامية. لكن المعايير قد تتبدَّل مع الزمن حين تنتشر ردود الأفعال بالموافقة الضمنية أو الرفض في أنحاء الشبكات الاجتماعية، كما حدث في حالة تراجع الإهانات العِرقية، وإلقاء القمامة، والنِّكات التي تسخَر من الزوجات. وبهذا يستطيع كلٌّ منَّا أن يقوم بدوره، وذلك بالموافقة أو الرفض على العادات العقلانية وغير العقلانية. وسيكون من الطيب أن نرى الناس تُحمد على الإقرار بالشك في اعتقاداتها، وتشك في عقائد فصيلها السياسي، وتغيِّر آراءها حين تتغيَّر الوقائع، بدلًا من أن يكونوا مدافعين صامدين عن عقائد جماعتهم. وعلى العكس من ذلك، سيكون خطأً مخزيًا أن يبالغ المرء في تفسير النوادر، أو يخلط بين الارتباط والسببية، أو يرتكب مغالطة غير صورية مثل الذَّنب بالتبعية أو الاحتكام إلى السلطة. تلك هي المعايير التي يصف بها «مجتمع العقلانية» نفسه، لكنها يجب أن تكون أعراف المجتمع كله، لا محض هواية لنادٍ من الهواة.72

رغم أنه من الصعب توجيه حاملة الطائرات التي تمثِّل المجتمع كاملًا، فربما توجد نقاط حسَّاسة لدى مؤسسات بعينها يمكن للقادة والناشطين الحاذقين الضغط عليها. فالهيئات التشريعية مثلًا، مأهولة إلى حدٍّ كبير بمحامين، هدفهم المهني هو الفوز لا الحقيقة. وقد بدأ بعض العلماء مؤخرًا في اختراق مجالسهم، واستطاعوا نشْر قيمة حل المشكلات القائم على الأدلة بين زملائهم. سيكون من الحكمة أيضًا لو أن المدافعين عن أي سياسة توقفوا عن صبغتها برمزٍ طائفي؛ فقد أعرب بعضُ خبراء المناخ مثلًا عن أسفهم لأن آل جور صار واجهةً لنشاط التوعية بتغيُّر المناخ في أوائل العَقد الأول من القرن الحادي والعشرين؛ إذ صنَّفها ذلك كقضية يسارية، مما أعطى اليمين عذرًا لمعارضتها.

فيما بين السياسيين، يمارس كلا الحزبين الأمريكيين الرئيسيين التحيُّز لصفِّه بدرجة بالغة، لكنهما لا يتساويان في الذنب. وحتى من قبل استيلاء ترامب على السلطة، ازدرى الفاهمون من الأنصار الجمهوريين منظَّمتهم باعتبارها «حزب الأغبياء» لمعاداتها للفكر وعدائها تجاه العلم.73 منذ ذلك الحين، هال الكثيرون غيرهم إذعان الحزب لأفعال ترامب الهوسية من كذب ومنشورات مستفزة على الإنترنت: فقد كانت خطته السياسية، كما عبَّر عنها الخبير الاستراتيجي السابق، ستيف بانون، مستحسنًا «إغراق الساحة بالتُّرهات».74 ومع هزيمة ترامب، بات على الزعماء العقلانيين في اليمين أن يعيدوا للسياسة الأمريكية نظامَ الحزبين اللذين يختلفان على السياسات لا وجود الوقائع والحقيقة.
لسنا بعاجزين أمام هجوم المعلومات المضلِّلة لعصر «ما بعد الحقيقة». فصحيحٌ أن الكذب قديمٌ قِدم اللغة، لكنَّ أساليب الدفاع ضده بالقِدم نفسه أيضًا؛ فكما يوضح مرسييه، ما كان للغة أن تتطوَّر أبدًا من دون أساليب الدفاع تلك.75 المجتمعات أيضًا تحمي أنفسها من إغراقها بالتُّرهات؛ إذ يُحاسَب الكاذبون الوقحون بعقوبات قانونية وتشويه سمعتهم. غير أنَّ تطبيق هذه الإجراءات الدفاعية يأتي متأخرًا. فخلال أسبوع واحد في أوائل عام ٢٠٢١، أقدمت الشركات التي صنعت الآلات وبرامج التصويت المذكورة في واحدة من نظريات المؤامرة التي يقول بها ترامب، على مقاضاة فريقه القانوني بتهمة التشهير؛ ومُنع ترامب من استخدام «تويتر» لانتهاكه سياسته ضد الحض على العنف؛ وخسِر سيناتور كاذب روَّج لنظرية مؤامرة الانتخابات المسروقة عَقدًا لكتاب كبير؛ وأعلن محرِّر مجلة «فوربس»: «ليعلم عالَم الأعمال الآتي: إذا وظَّفت أيًّا من رفاق ترامب المختلقي الأكاذيب، فستفترض «فوربس» أنَّ كلَّ ما تقوله شركتك أو مؤسستك كذب.»76
لمَّا كان من غير الممكن أن يملك أحدٌ معرفةَ كل شيء، وأغلب الناس لا يدري سوى القليل، فإنَّ العقلانية تتمثل في إسناد المعرفة لمؤسسات متخصصة في خلقها ونشرها، وهي في المقام الأول الهيئات الأكاديمية، والوحدات العامة والخاصة للأبحاث، والصحافة.77 إنَّ هذه الثقة موردٌ ثمين يجب عدم إهداره. رغم أن الثقة في العلم ظلَّت ثابتة طوال عقود، فإنَّ الثقة في الجامعات راحت تتراجع.78 من الأسباب الرئيسية لعدم الثقة، ما تتسم به الجامعات من ثقافةٍ أحادية خانقة لليسار تعاقب الطلاب والأساتذة الذين يشككون في العقائد المتعلقة بالجنس والعِرق والثقافة وعلوم الوراثة والاستعمار والهوية الجنسية والتوجُّه الجنسي. لقد حوَّلت الجامعات نفسها لأضحوكة لاعتدائها على الحس السليم (كما حدث مؤخرًا حين أُوقِف أستاذ جامعي عن العمل لأنه استخدم كلمة الوقف الصينية «ني جا»، بحجةِ أنها ذكَّرت بعض الطلاب بالإهانة العِرقية).79 تتعدَّد المواقف التي تأتيني فيها رسائلُ يسألني أصحابها عن السبب الذي يدفعهم إلى الثقة في الإجماع العلمي بشأن تغيُّر المناخ، وهو يأتي من مؤسساتٍ لا تطيق معارضًا. ولهذا ينبغي على الجامعات تولِّي مسئولية حماية مصداقية العلم والبحث العلمي بأن تلتزم بتنوُّع وجهات النظر، وحرية التساؤل، والتفكير النقدي، والتفتح النشط للذهن.80
يقع على الصحافة أيضًا، المرتبطة دائمًا بالكونجرس من حيث إنهما أقل المؤسسات الأمريكية التي يثق فيها الناس، دورٌ خاص ينبغي أن تؤديه في البنية التحتية للعقلانية.81 فعلى غرار الجامعات، يجدُر بمواقع الأخبار والآراء أن تكون مثالًا لتنوُّع وجهات النظر والتفكير النقدي. ومثلما جادلت في الفصل الرابع، ينبغي عليها أيضًا أن تصير أفضلَ فهمًا للرياضيات والبيانات، وواعيةً بالأوهام الإحصائية التي يستحثُّها فينا السعي المثير وراء الحكايات الطريفة. يُحسب للصحافيين، في واقع الأمر، أنهم قد صاروا أكثرَ وعيًا بالطريقة التي يستطيع السياسيون المخادعون استغلالهم بها، ومن ثَم المشاركة في أجواء ما بعد الحقيقة، وقد بدءوا يطبِّقون إجراءات مضادة مثل تقصي الحقائق، ووسم الادعاءات الكاذبة وعدم ترديدها، وتبيان الحقائق بنبرةِ تأكيد لا نفي، وتصحيح الأخطاء على الملأ وفي الحال، وتحاشي المساواة الخاطئة بين الخبراء في موضوعٍ ما والمهووسين به.82
يمكن أيضًا للمؤسسات التعليمية، من المدارس الابتدائية للجامعات، أن تجعل لعلم الإحصاء والتفكير النقدي نصيبًا أكبرَ في مناهجها. فمثلما أنَّ المعرفة بالقراءة والكتابة والأرقام تحتل مركزَ الصدارة في التعليم لأنها ضرورية في كلِّ شيء، فإنَّ أدوات المنطق والاحتمالية والاستنباط السببي عنصرٌ أساسي في كل أنواع المعارف الإنسانية؛ لهذا يجب أن تصبح العقلانية هي الركن الرابع في التعليم، مع القراءة والكتابة والرياضيات. لا شك أن تعلُّم الاحتمالية في حد ذاته غير كافٍ لمنح حصانة مدى الحياة ضد المغالطات الإحصائية. فمَن يتعلمونها من الطلاب ينسونها فورَ أن ينتهوا من الاختبار ويبيعون كتبهم الدراسية، وحتى حين يتذكرون المعلومات، لا أحد منهم تقريبًا يطبِّق المبادئ المجردة على المشكلات اليومية.83 بالرغم من ذلك، توجد دورات وألعاب فيديو متقنة التصميم، تبرز التحيُّزات المعرفية (مغالطة المقامر، والتكلفة الغارقة، والانحياز التأكيدي، وما إلى ذلك)، تدفع الطلاب إلى ملاحظة هذه التحيُّزات في مواضعَ شبيهة بالحياة، وتعيد صياغة المشكلات في صيغٍ يسهُل فهمُها، وتقدم لهم تعقيبًا فوريًّا على أخطائهم؛ فمن الممكن لهذه الوسائل فعلًا أن تدرِّبهم على تحاشي المغالطات خارج الفصل الدراسي.84

•••

إنَّ العقلانية من المنافع العامة، والمنفعة العامة تمهِّد الطريق لمأساة المشاع. في مأساة مشاع العقلانية، نجد أنَّ الاستدلال المغرض لمصلحة المرء الذاتية وصفِّه، يتيح المجال لاستغلال وعينا الجمعي.85 كلٌّ منا لديه دافعٌ ما ليفضِّل الحقيقة «من وجهة نظره»، لكننا جميعًا أفضل حالًا مع الحقيقة «في حد ذاتها».
يمكن التخفيف من مآسي المشاع بقواعد غير رسمية تتمثَّل في إشراف أفراد المجتمع على أراضي الرعي أو مناطق الصيد ويقرون بفضل المواطنين الصالحين ويصمون المستغلين.86 إنَّ الاقتراحات التي قدَّمتها حتى الآن من الممكن، في أفضل الأحوال، أن تدعم أصحابَ التفكير المنطقي من الأفراد وترسِّخ قاعدةَ أن الاستدلال السليم من الفضائل. بيد أن المشاع تجب حمايته أيضًا من خلال تقديم الحوافز؛ مكافآت تجعل من مصلحة كل مستخدم للمنطق أن يدعم الأفكار الأقوى برهانًا. إننا لا نستطيع بالطبع تطبيق ضريبة على المغالطات، لكن من الممكن أن يتَّفق أشخاص من العامة بعينهم على قواعدَ تدفع تقديم الحوافز في اتجاه الحقيقة.
لقد ذكرت أن المؤسسات الناجحة للعقلانية لا تعتمد مطلقًا على عبقرية فرد من الأفراد، لأن حتى أكثر الأشخاص عقلانيةً بيننا لا يخلو من تحيُّزات. ما تمتلكه بدلًا من ذلك، قنوات للمراجعة وتجميع المعلومات تجعل المجتمع بأكمله أذكى من كل فرد وحدَه.87 من هذه القنوات مراجعة الأقران في المجال الأكاديمي، والقابلية للاختبار في العلوم، وتقصي الحقائق في التحرير والصحافة، والضوابط والموازين في الحكم، وإجراءات الاختصام في النظام القضائي.
إنَّ وسائل الإعلام الجديدة في كل عصر تفتح المجال لفوضى من الأخبار المختلَقة وسرقة المِلكية الفكرية إلى حين وضع إجراءات مضادة تهدف إلى خدمة الحقيقة.88 ذلك ما حدث مع الكتب ثم الصحف في الماضي، وما يحدُث الآن مع الوسائط الرقمية. من الممكن لوسائل الإعلام أن تكون بوتقةً للمعرفة أو تكون بالوعة تُرهات، ويتحدَّد هذا حسب هيكل حوافزها. فالحُلم الذي ظهر في فجر عصر الإنترنت بأن يؤدي إعطاء كل شخص منصة لولادة عصر تنوير جديد يبدو محرجًا اليوم وقد صرنا نعيش مع البرامج الآلية على الإنترنت والمنشورات المحرِّضة، والمشادات الكلامية، والأخبار الزائفة، وعصابات التشهير على «تويتر»، والتحرش الإلكتروني. ما دامت العملة في المنصات الرقمية تقتصر على الإعجاب والمشاركة والنقر والرموز التعبيرية، فلا يوجد سبب يدعونا إلى الاعتقاد بأنها ستعزِّز العقلانية أو الحقيقة. على النقيض من ذلك نجد موقع ويكيبيديا، وإن كان ليس معصومًا، صار مصدرًا دقيقًا لدرجةٍ مبهرة مع أنه مجاني وغير مركزي. ذلك لأنه يطبِّق إجراءات مكثَّفة لتصحيح الأخطاء ومراقبة الجودة، تدعمها «ركائز» مصمَّمة لتهميش تحيزات الأفراد لصفوفهم.89 تضم هذه الركائز قابليةَ الإثبات، ووجهة النظر المحايدة، والاحترام والتحضر، ومهمة توفير معرفة موضوعية. فكما يعلن الموقع: «ويكيبيديا ليست منبر خطابة، ولا منصة إعلانية، ولا دار نشر خاصة، ولا تجربة في الفوضوية أو الديمقراطية.»90
في وقتِ كتابة هذه السطور، كانت تلك التجارب الهائلة في الفوضوية والديمقراطية، ومنصات وسائط التواصل الاجتماعي، قد بدأت تنتبه إلى مأساة مشاع العقلانية، وقد أيقظها جرسا إنذار انطلقا عام ٢٠٢٠: المعلومات المضلِّلة عن وباء كوفيد، والتهديدات الموجهة إلى نزاهة الانتخابات الرئاسية الأمريكية. فقد ضبطت المنصات خوارزمياتها لوقف مكافأة الأكاذيب الخَطِرة، وأدرجت علامات تحذيرية وروابط للتحقق من الوقائع، وأخمدت الديناميكيات الجامحة التي بإمكانها نشرُ محتوًى سامٍّ ودفع الناس لارتكاب أعمال متطرفة. لا يزال الوقت مبكرًا على معرفةِ ما سينجح وما سيفشل.91 ومن الجلي أنه يجب مضاعفة هذه الجهود، مع وضع هدفِ تجديد هيكل الحوافز المنحرف الذي يكافئ الشهرة لسوء السمعة بينما هو لا يكافئ الحقيقة.
صحيحٌ أننا نلقي بكل اللوم على وسائط التواصل الاجتماعي في التحيزات غير العقلانية، لكن تعديل خوارزمياتها لن يكون كافيًا لإصلاح هذه التحيُّزات. لا بد أن نكون مبتكرين في تغيير القواعد في مجالاتٍ أخرى بحيث تُعطى الحقيقة المحايدة أفضليةً على تحيُّز المرء لصفه. فيمكننا في صحافة الرأي مثلًا أن نحكم على الخبراء من حيث دقةِ توقعاتهم لا قدرتهم على زرع بذور الخوف والكراهية أو إثارة حماسة الفصائل.92 وفي السياسة والطب وحفظ الأمن وغيرها من التخصصات، لا بد أن يكون التقييم القائم على الدليل هو العادة السائدة، لا ممارسة محدودة.93 وفي مجال الحكم، حيث الانتخابات، التي قد تُخرِج أسوأ ما في الاستدلال، من الممكن تعزيزها بديمقراطية تداولية، كالاستعانة بهيئات من المواطنين مهمتهم التوصيةُ بسياسةٍ ما.94 وتستفيد هذه الآلية من اكتشافٍ فحواه أنه في المجموعات المكوَّنة من مفكرين يتَّسمون بالتعاون والتنوع الفكري، دائمًا ما تفوز الحقيقة.95

للاستدلال البشري مغالطاتُه وتحيُّزاته واستغراقه في الأساطير. لكن التفسير الأمثل لمفارقة نوعنا وكيف يمكن أن يكون عقلانيًّا جدًّا وغير عقلاني بالمرة في الوقت نفسه لا يكمُن في أنَّ برنامجنا المعرفي ينطوي على خللٍ ما. إنه يكمُن في ازدواجية الذات والآخرين: ذلك أنَّ قدراتنا على التفكير المنطقي توجِّهها دوافعنا وتقيِّدها وجهات نظرنا. رأينا في الفصل الثاني أن جوهر الأخلاق هو الحيادية: المواءمة بين مصالحنا الأنانية ومصالح الآخرين. والحيادية أيضًا هي جوهر العقلانية: المواءمة بين أفكارنا المتحيِّزة وغير المكتملة من أجل فهمِ التوصُّل إلى فهمٍ للواقع يتجاوز أيَّ واحد منَّا. ليست العقلانية إذن فضيلة معرفية فحسب، بل فضيلة أخلاقية أيضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤