الفصل الحادي عشر

لماذا العقلانية مهمة؟

«الشروع في التفكير المنطقي مثل دخول مصعد يأخذك لأعلى ويختفي بك عن الأنظار. فور أن نتخذ الخطوة الأولى، تصير المسافةُ التي سنقطعها خارجةً عن إرادتنا ولا يمكننا أن نعلم مقدَّمًا أين سينتهي بنا الحال.»

بيتر سينجر1

إنَّ تقديم أسبابٍ لأهمية العقلانية هو شيء أشبه قليلًا بأن تنفخ في شراع مركبك أو تعرِّف الماء بالماء: فهو لا يمكن أن يفلح إلا إذا تقبَّلت أولًا القاعدة الأساسية التي تفيد بأن العقلانية هي ما يقرِّر المهم من غير المهم. ولحسن الحظ، كما رأينا في الفصل الثاني، أننا جميعًا نقرُّ بأفضلية التفكير العقلاني، ولو ضمنيًّا، فور أن نناقش هذا الموضوع أو أيَّ موضوع، لكننا لا نقبل بالإجبار على الموافقة بالإكراه. وقد حان الآن الوقت لأن نتعمق أكثرَ ونسأل ما إذا كان التطبيق الواعي للمنطق يحسِّن حياتنا فعليًّا ويجعل العالم مكانًا أفضل. يُفترض به ذلك، بما أنَّ الواقع يخضع للمنطق والقوانين الفيزيائية، لا الشعوذة والسحر. لكن هل يتأذَّى الناس حقًّا من مغالطاتهم، وهل ستتحسَّن حياتهم إذا أدركوا السبيل لتلافيها والتمسوه؟ أم أن الاعتماد على الحَدْس في اتخاذ قرارات الحياة أفضلُ من التفكُّر، بما ينطوي عليه من مخاطر المغالاة في التفكير والتسويغ؟

من الممكن أن نسأل الأسئلةَ نفسها بشأن رفاه العالم. هل التقدُّم قصة من حل المشكلات، يحرِّكها فلاسفة يشخِّصون الأسقام وعلماء وواضعو سياسات يجدون العلاج؟ أم أنَّ التقدُّم قصةَ كفاح، حيث ينهض المظلومون ويتغلَّبون على الطغاة؟2 لقد تعلَّمنا في فصول سابقة ألَّا نثق في الثنائيات الكاذبة أو التفسيرات الأحادية العلة، من ثَم فإن الإجابة عن هذه الأسئلة لن تتناول جانبًا دون الآخر. لكنني سأشرح السببَ في أنني أعتقد أن تشغيل عقلنا الخارق بدلًا من تركه «يتعفَّن فينا دونما استخدام» من الممكن أن يؤدي بنا إلى حياة فضلى وعالَم أفضل.

العقلانية في حياتنا

هل المغالطات والأوهام المعروضة في الفصول السابقة محض إجابات خاطئة على مسائل رياضية صعبة؟ أهي محض أُحجيات ومعضلات وأسئلة مخادعة وتساؤلات خاصة بالتجارب؟ أم إن الاستدلال الضعيف قد يؤدي إلى ضررٍ حقيقي بالفعل، مما يدل على أن التفكير النقدي بإمكانه حمايةُ الناس من أسوأ غرائزهم المعرفية؟

من المؤكَّد أن الواقع فيما يبدو يعاقب على العديد من التحيُّزات التي طالعناها؛ إذ إنه لا يبالي باعتقاداتنا غير العقلانية.3 فإننا نخفض من قيمة المستقبل بقصر نظر، لكنه دائمًا ما يأتي ومن دون المكافآت العظيمة التي ضحَّينا بها من أجل النشوة السريعة. إننا نحاول تعويضَ التكاليف الغارقة، فنستمر أكثرَ من اللازم في استثمارات فاشلة، وأفلام رديئة، وعلاقات سيئة. ونحن نقيِّم الخطر حسب التوفُّر؛ لذلك نتحاشى الطيارات الآمنة لحساب السيارات الخَطِرة، التي نقودها بينما نكتب الرسائل على هواتفنا. إننا نسيء فهْم الانحدار نحو المتوسط؛ ولذلك نلتمس تفسيرات وهمية للنجاح والفشل.

وعند التعامل مع المال، فإنَّ جهلنا بالنمو الأسي يجعلنا ندَّخر أقل القليل للتقاعد ونفرط في الاقتراض ببطاقتنا الائتمانية. ويؤدي بنا القصور عن تجاهل المغالطات البَعْدية، وخطؤنا في وضعِ ثقتنا في الخبراء أكثرَ من الصيغ الاكتوارية، إلى الاستثمار في صناديق تتكلف إدارتها ثمنًا باهظًا بينما هي لا تفي بمؤشرات بسيطة. وتغرينا صعوبة فهم المنفعة المتوقَّعة بالتأمين والمقامرات التي تردُّنا إلى حال أسوأ على المدى الطويل.

وفيما يتعلَّق بالحالة الصحية، قد تؤدي بنا صعوبة التفكير البايزي إلى شعورنا بالرعب حين نبالغ في أهميةِ اختبار إيجابي لمرضٍ غير شائع. ويمكن إقناعنا أو إثنائنا عن جراحة حسب اختيار الكلمات التي تُصاغ بها المخاطر بدلًا من التفكير في موازنة المخاطر والفوائد. ويؤدي بنا إحساسنا البديهي بوجود جوهر للأشياء إلى رفض اللقاحات التي تنقذ حياتنا والترحيب بالدَّجل رغم خطورته. وتحدو بنا الارتباطات الوهمية، والخلط بين الارتباط والسببية إلى قبولِ تشخيصات وعلاجات عديمة القيمة من الأطباء والمعالجين النفسيين. إنَّ القصور عن موازنة المخاطر والمكافآت يستدرجنا إلى خوض مجازفات حمقاء تمسُّ أمننا وسعادتنا.

وفي المجال القانوني، من الممكن أن ينخدع القضاةُ والمحلَّفين لجهلهم بالاحتمالية، فيخطئون في تطبيق العدالة متأثرين بالتخمينات المثيرة والاحتمالات البَعْدية. وهذا العجز عن تقدير المقايضة بين النتائج الصحيحة والإنذارات الكاذبة يؤدي بهم إلى عقابِ العديد من الأبرياء حتى يدينوا القليل من المذنبين.

في العديد من هذه الحالات يكون المتخصصون عرضةً للخطأ مثلهم في ذلك مثل مرضاهم وعملائهم، مما يدل على أن الذكاء والخبرة لا يمنحان حصانةً ضد أشكال العدوى المعرفية. فقد تجلَّت الأوهام الكلاسيكية لدى مشتغلين بالطب ومحامين ومستثمرين ومضاربين وصحفيين في مجال الرياضة وعلماء اقتصاد وخبراء أرصاد، وكلهم يتعاملون مع أرقام في تخصصاتهم.4
هذه بعض الأسباب التي تدفعنا إلى تصديقِ أن القصور عن العقلانية له تَبعات على العالم. فهل يمكن قياسُ الضرر؟ حاول الناشط في مجال التفكير النقدي، تيم فارلي، أن يفعل ذلك على موقعه الإلكتروني ومنشوراته على «تويتر» تحت اسم السؤال المتكرر: «ما الضرر؟»5 لم يكن لدى فارلي طريقةٌ للإجابة عنه بدقة، بطبيعة الحال، لكنه حاول تنبيه الناس إلى هول الضرر الناجم عن الإخفاق في التفكير النقدي، وذلك بسردِ كل الحالات الموثَّقة التي استطاع العثور عليها. فعلى مدى الأعوام من ١٩٧٠ حتى ٢٠٠٩، ولا سيما خلال العَقد الأخير من تلك الفترة، وثَّق فارلي مقتل ٣٦٨٣٧٩ شخصًا، وإصابة أكثر من ٣٠٠ ألف شخص، و٢٫٨ مليار دولار خسائر اقتصادية جراء الأخطاء في التفكير النقدي. من هذه الحالات أشخاص قتلوا أنفسَهم وأطفالهم برفض علاجات طبية تقليدية أو استخدام العلاجات العشبية والتجانسية والشمولية وغيرها من العلاجات الزائفة؛ ووقائع انتحار جماعي لأفراد في طوائف تنبئ بنهاية العالم؛ وقتل ساحرات ومشعوذين والأشخاص الذين استنزلوا عليهم اللعنات؛ وضحايا سُذَّج نهبَ مدخراتِهم وسطاءُ روحيون ومنجِّمون ونصَّابون آخرون؛ واحتجاز منتهكين للقانون ومرتكبي أفعال القصاص غير القانوني الذين اندفعوا وراء أوهام المؤامرات؛ ونوبات ذعر على الصعيد الاقتصادي نتيجةً لخرافات وشائعات كاذبة. وها هي ذي بعض التغريدات من ٢٠١٨-٢٠١٩:

ما الضرر في نظريات المؤامرة؟ تشير هيئةُ الاستخبارات الفيدرالية إلى أنَّ «المتطرفين المحليِّين الذين تثيرهم نظريات المؤامرة» يمثِّلون تهديدًا إرهابيًّا محليًّا جديدًا.

ما الضرر في الحصول على مشورةٍ طبية من معالجٍ بالأعشاب؟ مات صبي في الثالثة عشرة من العمر بعد إخباره بعدم تناول الأنسولين. والمعالج بالأعشاب في طريقه للسِّجن الآن.

ما الضرر في الكنائس التي تعالج بالإيمان؟ ظلَّت جينيفر تصارع الموت طوال أربع ساعات. ظلَّ والدها، ترافيس ميتشل، «واضعًا يده عليها» وأسرتها تصلي بالتناوب بينما هي تعاني صعوبةً في التنفُّس وقد تغيَّر لونها. حيث قال ميتشل: «عرفت أنها ماتت حين توقَّفت عن الصراخ.»

ما الضررُ في الإيمان بكائنات خارقة للطبيعة؟ قَتل قرويون من جزيرة سومطرة نَمرًا مهددًا بالانقراض لاعتقادهم أنه كائن «سيلومان» متبدِّل الشكل.

ما الضرر في مقابلة وسيط روحي؟ إدانة «وسيط روحي» في ميريلاند بالاحتيال على عملاء بمبلغ ٣٤٠ ألف دولار.

لكن سيكون فارلي أول مَن يقول إنه لا يمكن لآلاف القصص حتى أن تثبت أن الاستسلام للتحيُّزات غير العقلانية أكثرُ ضررًا من التغلُّب عليها. نحن بحاجة على الأقل لمجموعة مقارنة، متمثلة في تأثيرات المؤسسات المحتكِمة إلى العقل مثل الطب والعلم والحكومة الديمقراطية. وهذا هو موضوع القِسم التالي.

لدينا بالفعل دراسةٌ عن آثار اتخاذ القرار العقلاني على النتائج الحياتية. فعلى غرار معدَّل العقلانية الذي وضعه كيث ستانوفيتش، وضع علماء النفس، واندي بروين دي بروين وأندرو باركر وباروخ فيشهوف، مقياسًا للمهارة في الاستدلال واتخاذ القرارات، وذلك بجمع اختبارات لقياس بعض المغالطات والتحيُّزات التي نُوقشت في الفصول السابقة.6 من هذه المغالطات الثقةُ المفرطة، والتكلفة الغارقة، وعدم الاتساق في تقييم المخاطر، وصياغة النتائج: التأثُّر بما إذا كانت النتيجة وُصفت باعتبارها مكسبًا أو خسارة. ومما لا يثير الدهشة أن مهارة الناس في تحاشي المغالطات كانت مرتبطةً بذكائهم؛ وإن كان ذلك جزئيًّا فقط. ارتبطت النتائج أيضًا بأسلوبهم في اتخاذ القرارات، أي توصيف هؤلاء الأشخاص لمدى تناولهم للمشكلات بتمعُّن وأسلوب بناء بدلًا من تناولها باندفاع واستسلام.

ولقياس النتائج الحياتية، ابتكر الثلاثةُ مقياسًا للعثرات، وهو يقيس مدى تعرُّض الناس للمشكلات، ما كبُر منها وما صغُر. فقد سُئل المشتركون مثلًا عما إذا كانوا أفسدوا قِطعًا من ملابسهم خلال العَقد السابق بعدم اتباع تعليمات الغسيل الموجودة على الملصق، أو أوصدوا سياراتهم والمفتاح بداخلها، أو استقلوا قطارًا خاطئًا أو حافلة، أو عانوا كسرًا بالعظام، أو اصطدموا بسياراتهم، أو قادوا وهم سكارى، أو خسروا أموالًا في البورصة، أو دخلوا عراكًا، أو فُصلوا من الدراسة، أو تركوا عملًا بعد أسبوع من الالتحاق به، أو حملن بالصدفة أو تسببوا في حمل امرأة. وقد اكتشفوا أن مهارات الناس في الاستدلال تتنبأ فعلًا بمآل حياتهم؛ فكلما قلَّت المغالطات في الاستدلال، قلَّت النكبات.

لا شك أنَّ الارتباط مختلف عن السببية. والمهارة في الاستدلال مرتبطة بالذكاء الفطري، ونحن نعلم أن ارتفاع مستوى الذكاء يحمي الناس من سوء المآل في الحياة مثل المرض والحوادث والفشل الوظيفي وثبات الوضع الاجتماعي والاقتصادي.7 لكن الذكاء والعقلانية ليسا الشيء نفسه، بما أن مهارة الفرد في الحساب ليست ضمانًا بأنه سيحاول التوصُّل إلى الحسابات الصحيحة. فالعقلانية تستلزم كذلك التمعُّن والتفتح والتمكن من أدوات معرفية على غرار المنطق الصوري والاحتمالية الرياضية. وقد أجْرت بروين دي بروين وزملاؤها عدة تحليلات انحدارية (الأسلوب الذي شرحناه في الفصل التاسع) ووجدوا أنه حتى مع تثبيت الذكاء، عانى أصحاب التفكير المنطقي الأفضل مآلاتٍ سيئة أقل.8

الوضع الاجتماعي والاقتصادي أيضًا يعرقل مصيرَ الفرد في الحياة. فالفقر مضمارٌ من الحواجز، يواجه الناس بمخاطر البطالة، وتعاطي المخدرات، وغيرهما من المصاعب. لكن حتى في هذه الحالة أيضًا، بيَّنت التحليلات الانحدارية أن أصحاب التفكير المنطقي يحظون بمآلٍ أفضل في الحياة، رغم تثبيت عامل الوضع الاجتماعي والاقتصادي. غير أنَّ هذا كلَّه لا يرقى إلى إثبات السببية. لكننا نمتلك بعضَ القرائن اللازمة: احتمالية قبلية مرتفعة، وعاملا تشويش رئيسيان وقد سُيطر عليهما إحصائيًّا، واستبعاد السببية العكسية (اصطدام بسيارتك لا يجعلك بالضرورة ترتكب مغالطات معرفية). وهذا يعطينا الحق في أن نضفي بعض المصداقية على الاستنتاج السببي الذي يفيد بأن المهارة في الاستدلال من الممكن أن تحمي الفرد من المصائب في الحياة.

العقلانية والتقدُّم المادي

إن التقدُّم الإنساني حقيقةٌ تجريبية رغم أن التحيُّز للمتوافر يخفيه عنا. حين نتجاوز العناوين الرئيسية ونطالع الاتجاهات العامة، سنجد أن البشرية صارت بوجه عام أوفرَ صحةً وثروةً وأطول عمرًا وأفضل تغذيةً وتعليمًا وأكثر أمنًا من الحروب والقتل والحوادث عما كانت عليه خلال القرون السابقة.9

لما كنت قد وثَّقت هذه التغيرات في كتابين، فإنني كثيرًا ما أُسأل عما إذا كنت «مؤمنًا بالتقدُّم.» والإجابة هي لا. فأنا مثل الكاتبة الساخرة فران ليبويتز، لا أومن بأي شيء يجب الإيمان به. رغم أن العديد من مقاييس رفاه البشر، عند توضيحها بمخطط بياني على مدى الزمن، تكشف عن ارتفاعٍ مُرضٍ (وإن كان ليس دائمًا ولا في كل مكان)، فهذا ليس بسبب قوةٍ ما أو قانون ديالكتيكي أو تطوُّري سيظل يرتفع بنا دائمًا. الواقع، على العكس من ذلك، أنَّ الطبيعة لا تأبه لرفاهنا، وكثيرًا ما يبدو أنها تحاول سحقنا، كما تفعل بالأوبئة والكوارث الطبيعية. إن «التقدُّم» اختزالٌ لمجموعة من المقاومات والانتصارات المنتزَعة من كون لا يرحم، وهو ظاهرة ينبغي تفسيرها.

والتفسير هو العقلانية. حين يضع البشر لنفسهم هدفَ رفاه رفاقهم (على النقيض من المساعي المبهمة الأخرى وراء المجد أو الخلاص)، فإنهم يوظِّفون مهاراتهم في مؤسسات تجمعها مع مهارات الآخرين، ويحالفهم النجاح من حينٍ لآخر. وحين يحافظون على النجاح ويهتمون بمواضعِ الفشل، تتراكم الفوائد، ونحن نسمي الصورة الكبيرة لذلك تقدُّمًا.

يمكننا البدء بأغلى الأشياء على الإطلاق، الحياة. منذ بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ارتفع متوسط العمر المتوقَّع عند الولادة من توقُّفه التاريخي عند نحو ٣٠ سنة وصار الآن ٧٢٫٤ سنة على مستوى العالم، و٨٣ في البلاد الأوفر حظًّا.10 لكنَّ هبةَ الحياة هذه لم تهبط علينا من السماء. فقد كانت عائدًا اكتسبناه بشق الأنفس من تطورات في الصحة العامة («بشعار إنقاذ ملايين الأرواح»)، لا سيما بعد أن حلَّت نظرية جرثومية المرض محلَّ نظريات سببية أخرى مثل الوبالات والأرواح والمؤامرات والعقاب الإلهي. وكان من الأشياء التي أنقذت الأرواح، المعالجةُ بالكلور وغيرها من وسائل الحفاظ على ماء الشرب، والمرحاض والمصرف المنخفضان، والسيطرة على ناقلات المرض مثل البعوض والبراغيث، وبرامج التلقيح الواسعة النطاق، والترويج لغسيل اليدين، والرعاية الأساسية قبل الولادة وفي أثنائها وبعدها من تمريض واهتمام بالملامسة بين الوليد وأمه. عند مداهمة المرض والإصابات، تمنعهما التطورات في الطب من قتل الناس بالأعداد التي كانوا يموتون بها في عصر المعالجين الشعبيين والحلاقين الجراحين، وهي تشمل المضادات الحيوية والمطهِّرات والتخدير ونقل الدم والأدوية والعلاج بإعادة الإماهة (محلول ملح وسكر يوقف الإسهال الخَطِر).
لطالما حاولت البشرية إنتاجَ ما يكفي من سعرات وبروتين لإطعام نفسها؛ إذ إنَّ المجاعة تطارد البشر متى فسدت محاصيلهم. أما اليوم فقد تخلصنا من الجوع في أغلب مناطق العالم: إذ تراجع مستوى سوء التغذية والتقزُّم، وصارت المجاعات اليوم لا تصيب سوى المناطق المتطرفة والمدمَّرة بالحروب، وهي ليست مشكلة قلة الغذاء، بل العوائق التي تحول دون وصوله للجائعين.11 ولم تأتِ السعرات مثل هبوط المنِّ من السماء ولا من قرن الوفرة تحمله أباندانشيا، إلهة الرخاء لدى الرومان، وإنما من التطورات في علم الزراعة. وقد شملت التطورات تدويرَ المحاصيل لإنعاش التُّرب المستنزفة؛ وظهور تقنيات تؤدي إلى إنتاجية عالية في الزراعة والحصاد مثل آلة البذر، والمحراث، والجرار، وآلة الحصاد والدرس؛ والمخصِّبات المركَّبة (التي يُحسب لها إنقاذ حياة ٢٫٧ مليار شخص)؛ وتطور شبكة نقل وتخزين تأتي بالغذاء من المزرعة للمائدة تتمثل في الخطوط الحديدية والقنوات والشاحنات ومخازن الحبوب والتبريد؛ ووجود أسواق محلية ودولية تسمح بأن يسد الفائض في منطقةٍ ما النقصَ في منطقة أخرى؛ والثورة الخضراء في ستينيات القرن العشرين، التي نشرت غلالًا هجينة منتجة وقوية.
ليس الفقر بحاجة إلى تفسير؛ فهو الحالة الطبيعية للبشر. الثروة هي ما ينبغي تفسيره. طوال الجزء الأكبر من تاريخ البشر، عاش نحو ٩٠ في المائة من البشر فيما نسميه اليوم فقرًا مدقِعًا. وفي عام ٢٠٢٠، صار يعيش فيه أقلُّ من ٩ في المائة؛ وهي لا تزال نسبة بالغة الارتفاع، لكن من المقرَّر التخلُّص منها خلال العَقد التالي.12 بدأ الثراء المادي الهائل للبشرية مع الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر. وقد انطلقت فعليًّا باستخلاص الطاقة من الفحم والنفط والرياح والمياه المتساقطة، ولاحقًا من الشمس والأرض والانشطار النووي. كانت الطاقة تُضخ في آلات تحوِّل الحرارة إلى عمل، ومصانع تنتج إنتاجًا ضخمًا، ووسائل نقل مثل السكك الحديدية والطرق السريعة وسفن الشحن. وقد اعتمدت التقنيات المادية على المالية، خاصةً البنوك والأموال والتأمين. ولم يكن من الممكن أن يسفر أيٌّ منها عن هذا الرخاء الواسع من دون حكومات تنفِّذ العقود، وتحدُّ من استخدام القوة والاحتيال، وتعمل على تذليل الاضطرابات النقدية من خلال وجود البنوك المركزية وتوفير النقد المضمون، وتستثمر في منافعَ عامة تدرُّ الثروة مثل البنى التحتية، والأبحاث السياسية، والتعليم العام.
لم يضَع العالَم نهايةً للحروب بعد، كما كان يحلُم مطربو الموسيقى الشعبية في ستينيات القرن العشرين، إلا أنها انخفضت بدرجة كبيرة من حيث العدد ودرجة الفتك، من ٢١٫٩ قتيل في ساحات المعارك من كل ١٠٠ ألف شخص عام ١٩٥٠ إلى ٠٫٧ فقط في ٢٠١٩.13 ولا يرجع إلى الفريق الغنائي: «بيتر، بول آند ماري، سوى القليل من الفضل في ذلك. فالفضل يعود إلى مؤسسات صُمِّمت للحد من الحوافز التي تحثُّ الدول على الانخراط في الحروب، بدءًا من خطة إيمانويل كانط من أجل «السلام الدائم» عام ١٧٩٥. تُعَد الديمقراطية من بين هذه المؤسسات؛ إذ تحدُّ فعلًا من احتمالات الحرب كما رأينا في فصل الارتباط والسببية؛ لأن جنود البلد أقل اهتمامًا بهذه الهواية من ملوكه وجنرالاته على ما يبدو. ومن هذه المؤسسات أيضًا، التجارة الدولية والاستثمار اللذان يجعلان شراء الأشياء أرخصَ من سرقتها، ويجعلان من الطيش أن تقتل الدول عملاءها ومدينيها. (الاتحاد الأوروبي، الحاصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠١٢، انبثق عن منظمة للتجارة: المجموعة الأوروبية للفحم والصلب.) ومنها أيضًا شبكة المنظمات الدولية، لا سيما الأمم المتحدة، التي تربط بين الدول في مجتمع واحد، وتحشد قوات حفظ السلام، وتخلِّد الأمم، وتعفي الحدود من القوانين الجديدة، وتحظر الحروب وتصمها مع تقديم وسائل بديلة لحل المنازعات.
إضافةً إلى ذلك، تكفَّلت بناتُ أفكار الإبداع البشري بتعزيز الرفاه في أمورٍ أخرى، مثل الأمن ووقت الفراغ والسفر وإتاحة الفنون والترفيه. رغم أن العديد من الأدوات والبيروقراطيات نمت نموًّا طبيعيًّا وبلغت الكمال من خلال التجربة والخطأ، فإنَّ أيًّا منها لم يأتِ صدفةً. فقد دافع الناس عنها آنذاك بحججٍ يدعمها المنطق والبرهان، والتكاليف والفوائد، والعلة والمعلول، والمقايضة بين المنفعة الفردية والمنفعة العامة. ولا بد لإبداعنا أن يتضاعف لمعالجة المحن التي نواجهها اليوم، خاصةً مأساة مشاع الكربون (الفصل الثامن). ولا بد أيضًا من تسخير قوانا الذهنية لوضع تقنيات تجعل الطاقة النظيفة رخيصة، وتسعير يجعل الطاقة الملوثة باهظة، وسياسات تمنع الفرق السياسية من إفساد الخطط، ومعاهدات تجعل التضحيات عالمية ومتعادلة.14

العقلانية والتقدُّم الأخلاقي

ينطوي التقدُّم على ما هو أكثر من مكاسب الأمن والرفاه المادي. فهو يتمثَّل أيضًا في مكاسب في الطريقة التي يعامل بها بعضنا بعضًا: في المساواة والبِر والحقوق. فقد تراجعت العديد من الممارسات الوحشية والظالمة على مرِّ التاريخ. ومن بينها التضحية بقرابين بشرية، والاستعباد، والاستبداد، والرياضات الدموية، والإخصاء، وجناح الحريم، وربط القدم، والعقاب البدني السادي وعقوبة الإعدام، واضطهاد المهرطقين والمنشقين، وقهر المرأة والأقليات الدينية والعنصرية والعِرقية والجنسية.15 صحيح أنَّ أيًّا منها لم يُجتث من فوق وجه الأرض، لكننا حين نوضِّح التغيرات التاريخية برسم بياني، نرى هبوطًا في جميع الحالات، وانخفاضًا حادًّا في بعضها.
كيف تأتَّى لنا الاستمتاع بهذا التقدُّم؟ لقد تنبأ ثيودور باركر وتنبأ مارتن لوثر كينج جونيور بعده بقرن، بمنحنًى أخلاقي يميل إلى العدالة. لكن طبيعة المنحنى وقدرته على توجيه السلوك البشري غامضةٌ. يمكننا تصوُّر مسارات مألوفة بدرجة أكبر: تغيُّر الأساليب وحملات التشهير واستجداء العطف وحركات الاحتجاج الشعبية والحملات الدينية والأخلاقية. وتقول إحدى وجهات النظر الشائعة إن التقدُّم الأخلاقي يتأتَّى بالمقاومة: القوي لا يتنازل عن امتيازاته مطلقًا، فلا بد من انتزاعها منه ببؤس أشخاص يعملون بروح التضامن.16
أكثر ما أدهشني في محاولة فهم التقدُّم الأخلاقي هو عدد المرات التي شهد فيها التاريخ تحقُّق أول خطوة على طريق التقدم بسبب حجة منطقية.17 فيلسوف يكتب موجزًا يفرد فيه حججًا حول الأسباب التي تجعل سلوكًا ما غير مبرَّر، أو غير عقلاني، أو غير متسق مع القيم التي يدَّعي الكل احترامها. فينتشر الكتيب أو البيان، ويُترجم إلى لغات أخرى، ويتداوله الناس في الحانات والصالونات والمقاهي، ثم يؤثِّر على القادة والمشرعين والرأي العام. وفي نهاية المطاف تتسلل الخلاصة إلى الوعي السائد والذوق العام للمجتمع، ماحيةً آثار الحجج التي أوصلتها لمكانها. قليل من الناس في الزمن الحاضر يشعرون بأنَّ عليهم صياغة حجة متماسكة لبطلان الاستعباد أو يستطيعون استجماع قواهم لفعل ذلك، وينطبق الأمر نفسه في حالة نزع أحشاء الحيوانات في الطريق العام، أو ضرب الأطفال؛ فهو أمرٌ بديهي فحسب. لكن هذه المجادلات هي التي جرَت بالضبط منذ قرون.

وحين ننتبه اليوم إلى الحجج التي سادت، نجد أنها لم تزل تبدو صحيحة لنا. فهي تخاطب العقل الذي يتجاوز القرون؛ لأنها تتفق مع مبادئ اتساق المفاهيم التي هي جزء من الواقع نفسه. حسنًا، كما رأينا في الفصل الثاني، لا يمكن لحجةٍ منطقية إثبات ادعاء أخلاقي. لكن يمكن لحجةٍ أن تثبت أن الادعاء الخاضع للمناقشة غيرُ متسق مع ادعاء آخر عزيز على شخصٍ ما، أو أنه غير متسق مع قيمِ الحياة والسعادة التي ينتحلها أغلب الناس لأنفسهم ويتفقون على أنها رغبات مشروعة لكل شخص آخر. وكما رأينا في الفصل الثالث، فإن عدم الاتساق يقوِّض الاستدلال؛ فمن الممكن استخدام مجموعة اعتقادات تنطوي على تناقضٍ ما لاستنباط أي شيء وهي بلا جدوى على الإطلاق.

محتاطًا كما يجدُر بي من استنباط سببية من ارتباط، ومن إفراد علة واحدة فقط من شبكة تاريخية متداخلة، فليس بإمكاني ادعاء أن الحجج الوجيهة هي وحدها سبب التقدم الأخلاقي. ولا يمكننا إجراءُ تجربة عشوائية محكمة على التاريخ، حيث تُعرَّض نصف عينة من المجتمعات لبحث أخلاقي مقنع ويحصل النصف الآخر على بحث زائف مليء بكلام غير مفهوم وإن كان يبدو رفيعًا. وليس لدينا أيضًا مجموعة بيانات كبيرة بما يكفي لاستخلاص استنتاج سببي من شبكة من الارتباطات. (الأقرب لذهني هو دراسات أُجريَت على دولٍ متعددة تثبت أن التعليم وإتاحة المعلومات في عصرٍ ما، وهي مؤشرات على الاستعداد لتبادل الأفكار، تنبأت بالديمقراطية والقيم التحررية في عصرٍ لاحق، مع تثبيت عوامل التشويش الاجتماعية والاقتصادية.)18 أما الآن فلا أملك سوى أن أقدِّم أمثلة على حجج سابقة لأوانها يخبرنا المؤرخون أنها كانت مؤثِّرة في زمنهم وهي لم تزل متينة في زمننا.

•••

لنبدأ بالاضطهاد الديني. أكان الناس بحاجة حقًّا إلى حجةٍ فكرية لفهم السبب في أنَّ حرق المهرطقين به ولو قليل من الخطأ؟ كانوا كذلك بالفعل. ففي عام ١٥٥٣، ألَّف عالِم اللاهوت الفرنسي سبستيان كاستيلو (١٥١٥–١٥٦٣) حجةً ضد التعصب الديني، ذاكرًا غياب المنطق عن أفكار جون كالفن المتطرفة و«النتيجة المنطقية» لممارساته:

يقول كالفن إنه على يقين و[طوائف أخرى] تقول إنها كذلك؛ ويقول كالفن إنهم على خطأ ويريد أن يحاكمهم، وهم كذلك. فمن سيكون القاضي؟ مَن جعل كالفن محكِّمًا على كل الطوائف، حتى إنه وحدَه من يجب أن يحكم بالقتل؟ إنه يملك كلمة الرب، وهم أيضًا كذلك. إذا كانت المسألة مؤكدة، فمن يجدها كذلك؟ كالفن؟ لكن لماذا إذن يكتب العديد من الكتب عن الحقيقة الواضحة؟ … وفي ظل هذا الشك، لا بد لنا إذن من تعريف المهرطق بوصفه شخصًا نختلف معه، ليس إلَّا. وإذا كنا عندئذٍ سنقتل المهرطقين، فسيكون الناتج المنطقي حربَ إبادة، بما أن الكل واثق من رأيه. سيكون على كالفن أن يغزو فرنسا والأمم الأخرى كلها، ويمحو المدن، ويُعمِل سيفه في كل السكان، فلا يضع اعتبارًا لجنس أو سن، ولا يُبقي حتى على الأطفال أو الحيوانات.19
شهد القرن السادس عشر حجةً أخرى سابقة لأوانها ضد إحدى الممارسات الهمجية. يبدو بديهيًّا في عصرنا الحاضر أن الحرب ليست في صالح الأطفال ولا الكائنات الحية الأخرى. لكن على مدى الجزء الأكبر من التاريخ، كانت الحرب مسعًى نبيلًا ومقدَّسًا ومثيرًا ولائقًا بالرجال ومجيدًا.20 رغم أن تبجيل الحرب لم يتوقف إلا بعد كوارث القرن العشرين، فإن بذور النزعة السلمية كانت قد غُرِست بالفعل على يد أحد «آباء الحداثة»، وهو الفيلسوف ديزديريوس إرازموس (١٤٦٦–١٥٣٦)، وذلك في مقاله الصادر بتاريخ ١٥١٧ بعنوان: «حُجة العقل والدِّين والإنسانية ضد الحرب». في هذا المقال، قدَّم إرازموس وصفًا مؤثِّرًا لنعم السلام وأهوال الحرب، ثم اتجه إلى تحليل الحرب على أساس الاختيار العقلاني، شارحًا عوائدها المعدومة ومنفعتها السالبة المتوقعة:

نضيف لهذه الاعتبارات أن المزايا المترتِّبة على السلام تنتشر فتعم كلَّ شيء، وتتضاعف بأعداد ضخمة؛ أما في الحرب، حتى إذا آلت الأمور إلى خير … فإنها لا تعود بالفائدة إلا على القليلين، وأولئك الذين لا يستحقون حصادها. فأمان أحد الرجال يرجع إلى دمار أمان رجل آخر؛ ومكافأة الرجل من الرجال جاءت من نهب رجل آخر. وسبب أفراح طرف هو سبب الحِداد لدى طرف آخر. إنَّ أي مصيبة في الحرب هي مصيبة قاسية بالتأكيد، وأيًّا كان ما يُسمى نعمة، فهو نعمة وحشية وقاسية، سعادة وضيعة، تستمد وجودها من مصيبة الآخرين. ومن المألوف بالطبع في النهاية أن يكون لدى الطرفين، المنتصر والمهزوم، سببٌ للأسى. ولا علم لي بأي حرب حالفها الحظُّ على الإطلاق فنجحت في كل أحداثها إلا حربًا ندِم المنتصر على خوضها من الأساس، ذلك إن كان لديه قلب ليشعر وفهم ليقدر، كما يجدر به …

إذا كان لنا أن نحسب المسألة بعدل، وأجرينا حسابًا نزيهًا لتكلفة خوض الحرب وتكلفة إقامة السلام، فسنجد أن السلام قد يُشترى بعشر الهموم والمجهود والمتاعب والأخطار والتكاليف والدماء التي نتكلفها لخوض حرب …

لكن الهدف هو إلحاق كل الأذى الممكن بالعدو. ويا له من هدفٍ غير إنساني بالمرة! ولتتفكَّر فيما إذا كان بإمكانك أن تضره ضررًا بالغًا دون أن تضر شعبك، في الوقت نفسه، وبالوسيلة نفسها. إنه لا شك ضربٌ من الجنون أن تمضي مساهمًا بجزء كبير من الأذى الذي سيقع في حين أن النهاية التي ستصير إليها الحرب غير مؤكدة على الإطلاق.21

كانت حركة التنوير في القرن الثامن عشر ينبوعًا من الحجج في مواجهة أشكال أخرى من الوحشية والقهر. ومثلما هو الحال مع الاضطهاد الديني، فإننا نجد أنفسنا عاجزين عن الكلام عند سؤالنا ما الخطأ في استخدام التعذيب السادي ضربًا من العقاب الجنائي، مثل تقطيع الأوصال، أو تكسير العظام على عجلة التعذيب، أو الحرق على خازوق، أو الشق نصفين من الفرْج إلى أعلى. بالرغم من ذلك، ففي كتيب بتاريخ ١٧٦٤ وضع عالِم الاقتصاد وفيلسوف النفعية، سيزار بيكاريا (١٧٣٨–١٧٩٤) حججًا ضد هذه الأفعال البربرية بتحديد تكاليف معاقبة المجرم وفوائدها. حاجج بيكاريا بأن الهدف الشرعي من العقاب هو حض الناس على عدم استغلال الآخرين، وبأن المنفعة المتوقعة لارتكاب الجرم لا بد أن تكون هي المعيار الذي نقيس به إجراءات التأديب.

حين تصير العقوبات أشدَّ قسوةً، تصبح عقول الرجال، وهي مثل السوائل تتكيف دائمًا مع مستوى بيئتها المحيطة، قاسية بدورها، وتؤدي قوة المشاعر، وهي حيوية على الدوام، إلى أن يفقد التعذيب القاسي أثره بعد مائة عام؛ فلا تثير العجلة من الخوف أكثرَ مما كان يثيره السِّجن فيما سبق. لكي يؤدي العقاب غرضه، يكفي فقط أن يكون الأذى الذي يحدِثه، أكبر من الفائدة التي قد يجنيها المجرم من جريمته، ولا بد أن نضيف لحساب هذه الموازنة يقين العقاب وخسارة المصلحة الناتجة عن الجريمة. أي شيء أكثر من ذلك هو فائض لا لزوم له، ومن ثَم فهو تعسُّف.22
لقد أثَّرت حجة بيكاريا، وحجج رفيقيه الفيلسوفين الفرنسيين، فولتير ومونتسكيو، على حظر «العقوبات القاسية والشاذة» في التعديل الثامن للدستور الأمريكي. ولا يزال هذا التعديل يُستدعى إلى النقاشات في السنوات الأخيرة، بهدفِ الحد من نطاق أحكام الإعدام في الولايات المتحدة، ويعتقد العديد من المراقبين القانونيين أنها مسألة وقت فحسب قبل أن يُحكم بعدم دستورية الممارسة برُمَّتها.23

ثمة أشكال أخرى من الهمجية خلال عصر التنوير قد عالجتها حجج لم تزل لاذعة حتى يومنا هذا. فقد كان فيلسوف عظيم آخر من فلاسفة النفعية في القرن الثامن عشر، جيرمي بنثام (١٧٤٨–١٨٣٢)، هو مَن وضع أول حجة منهجية ضد تجريم المثلية الجنسية:

أما من ناحية أي ضرر رئيسي، فمن الواضح أنها لا تسبِّب ألمًا لأي شخص. فهي على العكس من ذلك، تبعث على السعادة … كلا الطرفين راغب. إذا كان أيٌّ منهما غيرَ راغب، فليس هذا ما نحن بصدده هنا؛ تلك جريمة مختلفة تمامًا في طبيعة عواقبها: إنها ضرر بدني؛ إنها ضربٌ من الاغتصاب … أما فيما يتعلَّق بأي خطر غير الألم، فالخطر، إذا كان موجودًا، فهو ينحصر حتمًا في تأثير المثال. لكن ما هو تأثير هذا المثال؟ تشجيع الآخرين على الانخراط في نفس الممارسات: لكن هذه الممارسة لا تبعث على ضررٍ من أي نوع لأي أحد.24

ساق بنثام أيضًا حجةً ضد معاملة الحيوانات بقسوة، ولم تزل حركات حماية الحيوانات تسترشد بفحوى تلك الحجة حتى اليوم:

قد يأتي اليوم الذي يمكن أن تكتسب فيه بقيةُ الحيوانات تلك الحقوق التي ما كانت لتُحجب عنها إلا بيدِ الاستبداد. لقد اكتشف الفرنسيون بالفعل أن سواد البشرة ليس سببًا للتخلي عن إنسان وتركه تحت رحمةِ نزوات معذِّبه من دون إنصاف. وقد يأتي اليوم لإدراك أن عدد الأرجل، أو التزغب [كثافة شعر] الجلد، أو انتهاء عظمة العجُز [عظمة الذيل] هي أسباب غير كافية هي الأخرى لإهمال كائن حسَّاس وترْكه لنفس المصير. ماذا غير ذلك يجب أن يضع الخط القاطع؟ أهي ملَكة العقل، أم ربما ملَكة الكلام؟ لكن الحصان المكتمل النمو أو الكلب هو حيوان أكثر عقلانية وأقدر على التواصل، من وليدٍ عمره يوم، أو أسبوع، أو حتى شهر. لكن لنفترض أن المسألة كانت عكس ذلك، فماذا ستكون الفائدة؟ السؤال ليس ما إذا كانت قادرة على التفكير؟ ولا ما إذا كانت قادرة على الكلام؟ وإنما؛ أهي تتألم؟25

إنَّ عرْض بنثام للاختلافات العديمة الحيثية أخلاقيًّا في لون البشرة بين البشر جنبًا إلى جنب مع الاختلاف في السمات الجسدية والمعرفية بين الأنواع ليس تشبيهًا فحسب. إنه تشجيعٌ على الشك في استجابتنا الغريزية تجاه السمات السطحية للكيانات التي يُطلب منا أن ننظرها (لنقل إنه ردُّ فعلِ النظام الأول) واستخدام العقل للوصول لآراء متسقة حيال مَن يستحق الحقوق والحماية.

إنَّ إثارة التفكير المعرفي بالمقارنة بين فئة مشمولة بالحماية وفئة مستضعَفة من الوسائل الشائعة التي استخدمها المحاجون الأخلاقيون لتنبيه الناس إلى تحيُّزاتهم وتعصباتهم. ونجد أنَّ الفيلسوف بيتر سينجر، أحد خلفاء بنثام الفكريين وأبرز مناصري حقوق الحيوان حاليًّا، يسمي هذه العملية «الدائرة المتسعة».26
لقد كان الاستعباد إطارًا مرجعيًّا شائعًا. فاحتضن التنوير حركةً نشطة لإلغاء الاستعباد، بدأتها حججٌ قدَّمها جان بودان (١٥٣٠–١٥٩٦)، وجون لوك (١٦٣٢–١٧٠٤)، ومونتسكيو (١٦٨٩–١٧٥٥).27 وفيما يتعلَّق بالأخيرين، كانت حجتهما ضد الاستعباد أساسًا لانتقادهما للملَكية المطلقة وإصرارهما أن الحكومات لا تُخوَّل شرعيًّا إلا بمصادقة المحكومين. كانت نقطة البداية تقويض افتراض وجود تسلسل هرمي طبيعي: أي تدرُّج لطبقات من الارستقراطيين والعوام، الأسياد والتابعين، والمُلَّاك والعبيد. فقد كتب لوك قائلًا: «إننا نُولد أحرارًا، مثلما نُولد عقلانيين.»28 البشر بفطرتهم كائنات مفكِّرة وواعية وحرة الإرادة، لا يملك أحدٌ منهم حقًّا طبيعيًّا للسيطرة على آخر. وفي فصل عن الاستعباد في كتابه «رسالتان عن الحكومة» يستفيض لوك في الأمر، فيقول:
حرية الرجال في ظل الحكومة، هي أن يكون لهم قاعدة ثابتة يعيشون بها، مشتركة بين كل الأفراد في ذلك المجتمع، وتسنُّها سلطة تشريعية قائمة فيه؛ حرية أن أتبع إرادتي في كل الأشياء التي لم يأتِ القانون فيها بنص؛ وألا أخضع للإرادة المتقلبة أو المريبة أو المجهولة أو التعسفية لشخص آخر؛ فالحرية الطبيعية هي ألا تكون خاضعًا لأي قيد إلا قانون الطبيعة.29

لقد تبنَّى توماس جيفرسون (١٧٤٣–١٨٢٦) الفكرةَ الرئيسية المتمثلة في أن المساواة هي العلاقة المعيارية بين الناس لتكون تبريرًا للحكم الديمقراطي: «إننا نَعُد هذه الحقائق بديهية، أن كل الرجال خُلقوا متساوين، وأن خالقهم وهبَهم حقوقًا معينة مصونة، ومنها الحياة والحرية والسعي في سبيل السعادة. ولضمان هذه الحقوق، تُقام الحكومات بين الرجال، مستمِدة صلاحياتها العادلة من موافقة المحكومين.»

ربما توقَّع لوك أن تُلهِم كتاباته أحدَ أعظم التطورات في تاريخ البشرية، ألا وهي نشأة الديمقراطية، لكنه لم يتوقع على الأرجح تطورًا آخرَ ألهمت به. فقد كتبت الفيلسوفة ماري أستيل (١٦٦٦–١٧٣٠) في تمهيد كتابها «تأملات في الزواج» عام ١٧٣٠، قائلة:

إذا كانت السيادة المطلقة غير ضرورية في الدولة فكيف تكون كذلك في الأسرة؟ أو إذا كانت ضرورية في الأسرة فلماذا هي ليست كذلك في الدولة؟ بما أنه لا يوجد سببٌ للتذرُّع به في إحدى الحالتين دون أن ينطبق بدرجة أكبر على الأخرى … ما دام كل الرجال وُلدوا أحرارًا، فكيف وُلدت النساء جميعهن رقيقًا؟ لا بد أنهنَّ كذلك بما أن التعرُّض لإرادة الرجال المتقلبة والمريبة والمجهولة والتعسفية، هو الحالة الكاملة للاستعباد؟»30

أيبدو الكلام مألوفًا؟ لقد اقتبست أستيل حجةَ لوك بحَذْق (بما في ذلك عبارته «الحالة الكاملة للاستعباد» لتقوِّض قهر المرأة، مما جعلها أولَ مناصرة إنجليزية لحقوق النساء. قبل أن تصبح النسوية حركةً منظمة بزمن طويل، بدأت النسوية في صورة حجة، تسلَّمتها بعد أستيل الفيلسوفة ماري وولستونكرافت (١٧٥٩–١٧٩٧). ففي كتابها «دفاع عن حقوق المرأة» (١٧٩٢)، لم تكتفِ وولستونكرافت بتقديم حجة تدفع بأنه من التناقض منطقيًّا أن تُحرم النساء من حقوقٍ مكفولة للرجال، وإنما جادلت أيضًا بأن أي افتراض بأن النساء بطبيعتهن أقل ذكاءً أو أهلية هو افتراض باطل يخلط بين الطبيعة والنشأة؛ إذ نشأت النساء من دون التعليم والفرص المتاحة للرجال. وقد بدأت كتابها بخطاب مفتوح إلى تاليران، وهو من الشخصيات البارزة في الثورة الفرنسية، والذي كان قد جادل بأن، الفتيات لسن بحاجة لتعليم رسمي، فلا أهمية للمساواة هنا:

إنني أخاطبك بصفتك مشرِّعًا، فتصور، والرجال يكافحون الرجال من أجل حريتهم ويُسمح لهم بأن يتخذوا قراراتهم بأنفسهم احترامًا لسعادتهم، أفلا يكون من التباين والظلم أن تُستعبد النساء، وإن كنت تؤمن أشدَّ الإيمان بأنك تتصرف بالأسلوب الأفضل للنهوض بسعادتهن؟ مَن الذي جعل الرجل الحكم الأوحد، ما دامت المرأة تشاركه هِبة العقل؟

بهذا الأسلوب، يجادل الطغاة من كل فئة، من الملك الضعيف لرب الأسرة الضعيف؛ إنهم جميعًا حريصون على سحق العقل؛ وهم يؤكدون دائمًا أنهم إنما يسطون على عرشه ليكون مفيدًا. ألا تؤدي دورًا شبيهًا، حين تجبر كل النساء، بحرمانهن من حقوقهن المدنية والسياسية، على البقاء محصورات في أسرهن يتخبطن في الظلام؟ فمن المؤكد يا سيدي أنك لن تجزم بأن الواجب من الممكن أن يكون ملزمًا وهو ليس قائمًا على العقل؟ إن كان هذا حقًّا مصيرهن، فسيمكن استخلاص حجج له من المنطق؛ وعند دعمه بهذا الدعم الرفيع، ستكتسب النساء وعيًا أكبر، ويصرن أكثر التزامًا بواجبهن، وقد فهمنه، فإنهن ما لم يفهمنه، وما لم تكن قيمهن قائمة على نفس المبادئ الراسخة مثل الرجال، لن تستطيع سلطةٌ أن تجعلهن يقمن به بأسلوب أخلاقي. قد يصرن رقيقًا مريحًا، لكن الرقَّ سيأتي بعاقبته الدائمة، من انحدار السيد والتابع الذليل.31

وعلى ذكر الاستعباد نفسه، فقد جاءت الحجج القوية بحق ضد ذلك العُرف المقيت من الكاتب والمحرِّر والسياسي فريدريك دوجلاس (١٨١٨–١٨٩٥). دوجلاس الذي وُلد هو نفسه في الاسترقاق، كان يستطيع أن يثير شفقةَ جمهوره بدرجة بالغة بمعاناة المستعبَدين، ولما كان أحد أعظم الخَطَبة في التاريخ، فقد استطاع بموسيقى خطبه وصورها أن يشعل حماستهم. غير أنه وظَّف هذه المواهب في الحِجاج الأخلاقي الصارم. في أشهر خُطبه، «ما يمثله الرابع من يوليو للعبد؟» (١٨٥٢)، رفض دوجلاس، مناقضًا نفسه، أي ضرورة لتقديم حجج ضد الاستعباد باستخدام «قواعد المنطق» لأنها كانت بديهية، على حد قوله، قبل أن يمضي ليفعل ذلك بالضبط. فقد قال على سبيل المثال:

يوجد ٧٢ جريمة في ولاية فيرجينيا، إذا ارتكبها رجلٌ أسود، (مهما كان جهله)، عرَّضته لعقوبة الموت؛ في حين أنه لا يوجد سوى اثنتين من الجرائم نفسها التي يتعرض بسببها الرجل الأبيض للعقوبة نفسها. فما هذا إن لم يكن اعترافًا بأن العبد كائن ذو أخلاق وعقل ومسئولية؟ إن إنسانية العبد مُعترف بها. وهي من الأمور المسلَّم بها، وفقًا لحقيقة أنَّ كُتُب القوانين الجنوبية مليئة بتشريعات تحظر تعليم العبد القراءة أو الكتابة، مع فرض غرامات وعقوبات مشددة على ذلك. حين يمكن ذِكر أيٍّ من هذه القوانين فيما يتعلق بدواب الأرض، فربما أقبل عندئذٍ المجادلة بشأن إنسانية العبد.32

وواصل دوجلاس كلامه قائلًا: «وعندئذٍ سنحتاج إلى السخرية اللاذعة وليس الحجة المقنعة»، ثم واجه جمهوره بسيل غزير من التناقضات في منظومة اعتقاداتهم:

إنكم تصبون لعناتكم على ملِكَي روسيا والنمسا الطاغيين، وتتفاخرون بمؤسساتكم الديمقراطية، وأنتم أنفسكم تقبلون أن تكونوا محض أدوات وحراس لدى طغاة فيرجينيا وكارولاينا. إنكم تدعون لشواطئكم الهاربين من القهر في الخارج، وتحتفون بهم بالولائم، وتستقبلونهم بالتهليل، وتهتفون لهم، وتشربون نَخبهم، وتُحيونهم، وتحمونهم، وتغدقون عليهم أموالكم كالسيل؛ أما الفارُّون من بلدكم فتبلغون عنهم، وتطاردونهم، وتحبسونهم، وتطلقون عليهم النار، وتقتلونهم …

إنكم على استعداد لمواجهة عواصف المدفعية البريطانية بصدوركم للتخلص من ضريبة ثلاثة بنسات على الشاي؛ لكنكم تنتزعون البنس الأخير من قبضة العمال السود الكادحين في بلدكم.

ومؤذنًا بما فعله مارتن لوثر كينج بعد أكثر من قرن، ألزم دوجلاس الأمةَ بإعلان تأسيسها:

إنكم تعلنون أمام العالم، ويعلم العالم أنكم تعلنون، أنكم «تَعُدون هذه الحقائق بديهية، أن كل الرجال خُلقوا متساوين، وأن خالقهم وهبهم حقوقًا معينة مصونة؛ ومنها الحياة والحرية والسعي في سبيل السعادة»؛ إلا أنكم تحبسون في قيد وثيق سُبعَ سكان بلدكم وهو أمر، بكلمات رجلكم توماس جيفرسون، «أسوأ من عصور (القهر) الذي نهض آباؤكم لمقاومته».

إن اقتباس دوجلاس وكينج لجيفرسون مستحسنَين كلماته، وهو نفسه رجلُ مِراءٍ وغير شريف في بعض النواحي، لا يضعف من عقلانية حججهما وإنما يدعمها. فصحيح أن الاهتمام باستقامة الأشخاص واجب عند النظر إليهم بصفتهم أصدقاء، لكن هذا لا يعنينا في سياق تناول الأفكار التي يعبِّرون عنها. فالأفكار إما أن تكون صحيحة أو خطأً، متسقة أو متناقضة، تساعد على رفاه الإنسان أو لا، بغض النظر عمن يحملها. المساواة بين الكائنات الحية، استنادًا إلى أنَّ الفرْق بين «أنا» و«أنت» لا يمثل أي أهمية من الناحية المنطقية، هي فكرة يعيد الناسُ اكتشافها على مرِّ العصور، ويتوارثونها، ويشملون بها كائنات حية أخرى، متوسعين بدائرة الرأفة كأنها طاقة مظلمة أخلاقية.

إنَّ الحجج السليمة، التي تدعم اتساق ممارساتنا مع مبادئنا ومع هدف ازدهار البشرية، لا تستطيع وحدَها أن تجعل العالَم أفضل. لكنها أرشدت حركات تغيير، وينبغي لها أن ترشد حركات التغيير. إنها تشكِّل الفرْق بين قوة الأخلاق وقوة العنف، بين القيام بمسيرة من أجل العدالة واحتشاد الغوغاء للقصاص من شخصٍ دون محاكمة، بين التقدم البشري والتخريب. وسوف تكون الحجج السليمة، من أجل كشف الآفات الأخلاقية واكتشاف الحلول المناسبة، هي ما سنحتاج إليه لضمان أن يستمر التقدم الأخلاقي، إلى أن تصبح الممارسات الكريهة في عصرنا شيئًا صعبَ التصديق على أحفادنا، مثلما أننا نشعر بذلك تجاه حرق الهراطقة ومزادات العبيد.

إنَّ قدرة العقلانية على توجيه التقدم الأخلاقي تُماثِل قدرتها على توجيه التقدم المادي والاختيارات الحكيمة في حياتنا. وقدرتنا على تدبُّر مدد من الرفاهة من عالَم لا يرحم وأن نمارس الرفق مع الآخرين رغم طبيعتنا المعيبة، متوقفةٌ على استيعاب مبادئ نزيهة تتخطى تجاربنا المحدودة. إننا نوع وُهب ملَكة العقل الأساسية، واكتشف صيغًا ونظمًا توسِّع مجاله. إنَّ هذه الصيغ والنُّظم تنبِّهنا إلى أفكارٍ وحقائقَ تُربِك حَدْسنا، غير أنها صحيحة رغم ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤