الفصل الثاني

العقلانية واللاعقلانية

«هل لي أن أقول إنني لم أستمتع كثيرًا بالعمل مع البشَر؟ فأنا أجد افتقارهم إلى المنطق وعواطفهم الحمقاء مصدرُ إزعاج على الدوام.»

السيد سبوك

العقلانية غيرُ جذابة. إنَّ وصف أحد الأشخاص بأحد المرادفات العامية لكلمة ذكي، مثل كثير الاستذكار أو مهووس بالمعرفة أو جاد، يوحي بأنهم يفتقرون إلى الجاذبية إلى حدٍّ خَطِر. فعلى مدى عقود طويلة، ظلت أفلام هوليوود وكلمات أغاني الروك تعادل المرح والحرية بالهروب من العقل. فقد قال زوربا اليوناني: «إنَّ الإنسان يُعوِزه قليلٌ من الجنون وإلا فلن يجرؤ أبدًا على تمزيق القيود والتمتُّع بالحرية.» وتنصحنا فرقةُ الروك «توكين هيدز»: «دعِ التفكير بالعقل»؛ وها هو ذا الموسيقي «برينس» يناشد الناس فيقول: «فلنمارس الجنون». ونحن نجد حركاتٍ أكاديمية رائجة مثل ما بعد الحداثة والنظرية النقدية، التي ينبغي التفريقُ بينها وبين التفكير النقدي، ترى أنَّ العقل والحقيقة والموضوعية، هي بنًى اجتماعية تبرِّر ما تتمتَّع به الجماعات السائدة من امتيازات. تحيط بهذه الحركات هالةٌ من التكلُّف، توحي بأن الفلسفة والعلوم الغربية محدودة وبالية وجاهلة بتنوُّع أساليب المعرفة الموجودة في مختلف الفترات والثقافات. في الواقع، تقع على مسافةٍ قريبة من مسكني في وسط مدينة بوسطن لوحة فسيفساء رائعة باللون الفيروزي والذهبي تنادي بدعوةٍ مفادُها: «اتَّبع العقل.» بالرغم من ذلك، فهي منقوشة على ختم المحفل الماسوني الأكبر، تلك الجماعة الأخوية ذات الطقوس والملابس الغريبة، والتي تُعد تجسيدًا لكلِّ ما يناقض المعاصرة.

فيما يتعلق بموقفي من العقلانية فأنا «أؤيدها.» رغم أنني لا أستطيع المجادلة بأن العقل رائع أو ممتاز أو جذاب أو معاصر أو مدهش أو الأفضل، بل إنني لا أستطيع حرفيًّا حتى تبرير العقل أو تعليله، فسوف أدافع عن الرسالة المنقوشة على لوحة الفسيفساء: لا بد أن «نتبع» العقل.

أسباب تدفعنا إلى اختيار العقل

لنبدأ من البداية سنسأل: ما العقلانية؟ وكأغلب الكلمات التي نستخدمها بكثرة، ما من تعريف يمكن أن يحدِّد معناها بالضبط، وحتى القواميس لا تفعل سوى أن تؤدي بنا إلى دائرة: فأغلبها تعرِّف العقلاني بأنه «مَن يتحلَّى بالعقل»، وكلمة العقل بالإنجليزية في حد ذاتها: reason، مشتقَّة من الكلمة اللاتينية ration، التي تُعرف عادةً بأنها «العقل».
بالرغم من ذلك، فثمَّة تعريف يعبِّر إلى حدٍّ ما عن المعنى الذي تُستخدم به الكلمة، وهو «القدرة على استخدام المعرفة لبلوغ الأهداف». وتُعرَّف المعرفة عادةً بأنها «اعتقاد صحيح له ما يبرره».1 فنحن لن نصف شخصًا بأنه عقلاني إذا كان يتصرَّف بناءً على اعتقاداتٍ يعرف أنها خاطئة، مثل البحث عن مفاتيح في مكانٍ يعلم أنها لا يمكن أن تكون فيه، أو إذا كان من غير الممكن تبرير هذه الاعتقادات، كأن تكون صادرة مثلًا عن رؤيةٍ ناجمة عن تعاطي مخدِّرات أو عن هلاوس سمعية، وليس عن ملاحظة الواقع أو استنباط من اعتقاد صحيح آخر.
علاوة على ذلك، لا بد أن تكون الاعتقادات لخدمة هدفٍ ما. فلن يوصف أحدٌ بالعقلانية لمجرد أنه يُعمِل تفكيره في أفكارٍ صحيحة، مثل حساب قيمة أو إعطاء النتائج المنطقية المترتبة على افتراضٍ ما على غِرار: («إما أن ١ + ١ = ٢ أو القمر مصنوع من الجبن»، أو «إذا كان ١ + ١ = ٣، فيمكن للخنازير أن تطير»). لا بد أن يكون لدى الكائن العقلاني هدف، سواء أكان التحقُّق من صحةِ فكرة مهمة، وهو ما يسمَّى المنطق النظري، أو تحقيق نتيجة مهمة في الواقع، وهو ما يسمَّى المنطق العملي: «ما هو صحيح» و«ما يجب عمله». حتى المنطق الروتيني للرؤية بدلًا من الهلوسة يحقِّق الهدف الدائم المدمج في أجهزتنا البصرية، وهو معرفةُ ما يحيط بنا.

علاوة على ذلك، لا يكفي أن يحقِّق الكائن العقلاني ذلك الهدف بأن يفعل شيئًا يتصادف أنه أفلح في ذلك الموقف، بل ينبغي أن يستخدم المعرفةَ الملائمة للظروف. وسنرى فيما يلي التمييزَ الذي وضعه ويليام جيمس بين كِيان عقلاني وآخر غير عقلاني يبدو في بادئ الأمر أنهما يفعلان الشيءَ نفسه:

إنَّ روميو يريد جولييت مثلما تريد البُرادة المغناطيس؛ وإذا لم يقف بينهما حائلٌ فسيمضي نحوها في خط مستقيم كما ستمضي البُرادة. لكن إذا بُني سورٌ بين روميو وجولييت، فلن يظلا يندفعان بوجهيهما بحماقة على جهتيه المتقابلتين كما يفعل المغناطيس والبُرادة على البطاقة. سرعان ما سيجد روميو طريقًا غيرَ مباشر ليلمس شفتَي جولييت مباشرةً، ربما سيتسلق الجدارَ أو يجد طريقةً أخرى. إنَّ المسار في حالة البُرادة ثابت، ويتوقَّف وصولها إلى الهدف من عدمه على الحوادث. أما في حالة المحب، فالهدف هو الثابت؛ والطريق يمكن تعديله بعدد لا نهائي من الطرق.2

مع هذا التعريف تبدو الحُجة المؤيدة للعقلانية واضحةً تمامًا: هل تسعى إلى هدفٍ أم لا؟ إذا كنت تسعى إليه، فالعقلانية هي ما تتيح لك بلوغه.

أما بعد، فثمَّة اعتراض على هذه الحُجة المؤيدة للعقلانية. إنَّ العقلانية تنصحنا ببناء اعتقاداتنا على الحقيقة، والتحقُّق من أن استدلالنا من اعتقادٍ لآخر له ما يبرِّره، وتنصحنا أيضًا بوضع الخطط التي يرجَّح أن تؤدي إلى نتيجةٍ بعينها. لكن ذلك إنما يثير المزيدَ من الأسئلة. ما «الحقيقة»؟ ما الذي يجعل أحدَ الاستنتاجات «مبرَّرًا»؟ كيف لنا أن نعلم أنه يمكن العثور على الوسائل التي تؤدي حقًّا إلى نتيجةٍ بعينها؟ بالرغم من ذلك، فالسعي إلى الوصول إلى السبب المطلَق النهائي الأمثل للعقلانية مسعًى عقيم. فمثلما أنَّ الطفلَ الفضولي ذا الأعوام الثلاثة، سيجيب عن كل إجابة لسؤالٍ بدأ ﺑ «لماذا» بسؤالٍ آخر يبدأ ﺑ «لماذا»، فإنَّ السعي للعثور على العلة المثلى للعقلانية، يمكن أن يُعاق على الدوام بالحاجةِ لتقديم العلة وراء العلة للعلة. لمجرد أنني أعتقد أن «س» تستوجب «ص»، وأنا أصدِّق «س»، فلماذا يجب أن أصدِّق «ص»؟ هل لأنني أعتقد أيضًا أن [(س تستوجب ص) وص] تستوجب س؟ لكن لماذا يجب أن أعتقد «ذلك»؟ هل لأنني أعتقد كذلك أنَّ {[(س تستوجب ص) وس] تستوجب ص} تستوجب ص؟

كان هذا الارتداد هو أساس قصة لويس كارول الصادرة عام ١٨٩٥ بعنوان: «ما قالته السلحفاة لأخيل»، التي تخيلت الحديثَ الذي كان سيجري حين يلحَق المحارب السريع بالسلحفاة (لكن دون أن يتجاوزها أبدًا)؛ إذ بدأت السباق قبله على النحو الذي تنص عليه مفارقةُ زينون الثانية: ما أن يسدَّ أخيل الفجوةَ بينهما، حتى تكون السلحفاة تقدَّمت، لتفتح فجوة جديدة يجب على أخيل سدُّها، إلى ما لا نهاية. كان كارول خبيرًا في المنطق مثلما كان كاتبًا للأطفال، وفي هذا المقال، الذي نُشر في المجلة الفلسفية «مايند»، يتخيَّل كارول المحاربَ جالسًا على ظهر السلحفاة يردُّ على مطالبها المتزايدة بتبرير حججه بملء دفتر ملاحظاته بآلاف القواعد لقواعد القواعد.3 المغزى من هذه القصة هو أن الاستدلال باستخدام القواعد المنطقية لا بد أن يُنفَّذ في مرحلةٍ ما بآليةٍ متأصلة في الآلة أو الدماغ، ويستمر لأن تلك هي الطريقة التي تعمل بها الدائرة، وليس لأنها تسترشد بقاعدةٍ تخبرها بالواجبِ فِعلُه. إننا نبرمج التطبيقات في جهاز الكمبيوتر، لكن وحدة المعالجة المركزية الخاصة به ليست تطبيقًا في حدِّ ذاتها؛ إنها قطعة من السليكون نُسخت عليها عملياتٌ ابتدائية مثل مقارنة الرموز وجمْع الأرقام. تُصمَّم تلك العمليات (على يد مهندس، أو الانتخاب الطبيعي في حالة المخ) لتطبيق قواعد المنطق والرياضيات المتأصلة في عالَم الأفكار المجرَّد.4

لكن على الرغم من رأي السيد سبوك، فليس المنطق مكافئًا للاستدلال، وسنستكشف الاختلافات بينهما في الفصل التالي. غير أنهما وثيقا الصلة، والأسباب التي تحول دون إمكانية تطبيق قواعد المنطق بمزيد من قواعد المنطق — إلى ما لا نهاية — تنطبق أيضًا على تبرير العقلانية بمزيدٍ من العقلانية. ففي كلتا الحالتين، ينبغي أن تكون القاعدة النهائية هي «امتثل فحسب». في نهاية المطاف لا يملك المتناقشون خيارًا سوى الالتزام بالعقل؛ لأن هذا ما تعهَّدوا به في البداية حين شرعوا في مناقشة الأسباب التي تحتِّم اتباع العقل. ما دام الناس يتجادلون ويقدِّمون الحجج ثم يقيمونها ليقبلوها بعد ذلك أو يرفضوها — على النقيض مثلًا من رشوة أحدهم أو التهديد لترديد بضع كلمات — فقد تجاوزنا مرحلةَ السؤال عن أهمية العقل. ذلك أنهم يستخدمونه بالفعل، وقد سلَّموا ضمنيًّا بقيمته.

أما الحِجاج ضد العقل فإنك ما تلبث تشرع فيه حتى تخسر. لنقُل مثلًا إنك تجادل بأن العقلانية غيرُ ضرورية. فهل ادعاؤك «ذلك» عقلاني؟ إن أقررت بأنه ليس كذلك، فلا سبب يدعوني لأنْ أصدِّقه؛ لقد قلت ذلك بنفسك للتو. أما إذا أصررت على أنني يجب أن أصدِّق الادعاء لأنه مقنع عقلانيًّا، فقد سلَّمت بأنَّ العقلانية هي مقياس قبولنا للآراء؛ ومن ثَم فلا بد أن يكون ادعاؤك هذا خاطئًا. وعلى نحوٍ مماثل، إن كنت ستزعم بأن كل ما في هذا العالم ذاتي، فمن الممكن أن أسأل: «هل «ذلك» الادعاء ذاتي؟» إن كان كذلك، فأنت حرٌّ في أن تقتنع به، لكنني لست مضطرًّا لذلك. أو لنفترض أنك تزعم أنَّ كل شيء نسبي. فهل «ذلك» الادعاء نسبي؟ إن كان كذلك، فربما يكون صحيحًا من وجهةِ نظرك هنا والآن، لكنه لن يكون كذلك بالنسبة إلى أي شخصٍ آخر، ولا حتى فور أن تتوقَّف عن الحديث. ولهذا السبب أيضًا لا يمكن للادعاء الرائج حديثًا بأننا نعيش في «عصرِ ما بعد الحقيقة» أن يكون صحيحًا. ذلك أنه إذا كان فحوى الادعاء صحيحًا، فلا يمكن للادعاء نفسه أن يكون صحيحًا؛ فهو يؤكد على وجودِ شيء «حقيقي» في العصر الذي نعيش فيه.

لا شكَّ أنَّ هذه الحُجة، التي قدَّمها الفيلسوف توماس نيجل في كتابه «الكلمة الأخيرة»، غير تقليدية بالطبع، مثلما ستكون عليه أي حُجة بشأن الحجج نفسها.5 لقد شبَّهها نايجل بحُجة ديكارت القائلة بأن وجودنا نفسه هو الشيء الذي لا يمكننا أن نشكَّ فيه؛ لأن التساؤل في حدِّ ذاته عما إذا كنا موجودين أم لا، يقتضي وجود شخص متسائل. وبالمثل أيضًا، فإنَّ مناقشةَ مبدأ العقل باستخدام العقل تفترض صحةَ استخدام العقل. وبسبب هذا الجانب غير التقليدي، ليس من الصحيح القول بأننا لا بد أن «نؤمن» بالعقل أو «يكون لدينا ثقة في» العقل. فذلك ينطوي على «تجاوز الفكرة إلى أبعد من مداها» مثلما يوضح نايجل. لقد عبَّر واضعو لوحة الفسيفساء و(الماسونيون) عن المسألة خيرَ تعبير: لا بد أن «نتبع» العقل.
غير أنَّ الحجج المدافعة عن الحقيقة والموضوعية والعقل قد تكون مزعجة؛ لأنها تبدو متعاليةً إلى حدٍّ خَطِر: «فمن «أنت» من الأساس لتدَّعي امتلاك الحقيقة المطلقة؟». لكن هذا لا ينطبق على الحُجة المؤيدة للعقلانية. لقد قال عالِم النفس ديفيد مايرز إن جوهر العقيدة التوحيدية يتجسَّد فيما يلي: (١) يوجد إله، و(٢) لست أنا بهذا الإله (ولا أنت كذلك).6 أما المقابل العلماني فهو: (١) ثمة حقيقة موضوعية، و(٢) أنا لا أعرف هذه الحقيقة (ولا أنت). ينطبق هذا التواضع المعرفي نفسه على العقلانية التي تؤدي إلى الحقيقة. ليست العقلانية التامة والحقيقة الموضوعية سوى تطلعات لا يمكن مطلقًا لأي إنسان أن يدَّعي أنه بلغها. لكنَّ الإيمان بوجودهما يتيح لنا وضْع قواعد يمكننا جميعًا الالتزام بها فتسمح لنا بمعالجةِ الحقيقة جماعيًّا بأساليبَ تستحيل على أيٍّ منَّا ما دام بمفرده.

تُصمَّم القواعد لتحاشي التحيزات التي تحول دون العقلانية: الأوهام المعرفية الأصيلة في الطبيعة البشَرية وأوجه التعصُّب والأحكام المسبقة وأنواع الخوف المَرضي والمذاهب التي تصيب أفرادَ عِرقٍ ما أو طبقة أو جنس أو مَيل جنسي أو حضارة. تشمل هذه القواعد ما سنشرحه في الفصول القادمة من مبادئ التفكير النقدي، والأنظمة المعيارية للمنطق، والاحتمالية، والاستدلال التجريبي وهي تُطبَّق على أشخاصٍ من لحم ودم على يد مؤسسات اجتماعية تمنع الناسَ من فرض أهوائهم أو انحيازاتهم أو أوهامهم على سائر الأشخاص. لقد كتب جيمس ماديسون عن الضوابط والموازين في الحكومة الديمقراطية فقال: «يجب أن نتطلَّع إلى مقاومة التطلُّعات»، وبهذا تتمكَّن المؤسسات من توجيه المجتمعات التي تتألَّف من أفرادٍ متحيزين أفسدهم الطموح نحو الحقيقة المجردة من المصالح. من الأمثلة على هذا نظام الاختصام في القانون، ومراجعة الأقران في العلم، والتحرير وتقصي الحقائق في الصحافة، والحرية الأكاديمية في الجامعات، وحرية التعبير في الأوساط العامة. إنَّ الاختلاف في الرأي ضروري في المداولات بين البشَر. فمثلما تقول الحكمة: كلما اختلفنا، زاد احتمال أن يكون أحدنا على الأقل مصيبًا.

•••

مع أننا لن نتمكن أبدًا من «إثبات» أن الاستدلال العقلي صحيح أو أنه من الممكن معرفة الحقيقة — لأنَّ ذلك سيستلزم افتراضَ صحة الاستدلال العقلي — فبإمكاننا تعزيزُ ثقتنا بأنهما كذلك. حين نطبِّق العقل على العقل نفسه، نجد أنَّ ما يهمس بالحقائق في آذاننا ليس بحَدْس عفوي مبهم، ولا كاهن غامض. ذلك أننا نستطيع الكشف عن قواعد العقل واستخلاصها وانتقائها في نماذجَ معيارية للمنطق والاحتمالية. علاوةً على ذلك، فنحن نستطيع استخدامها في آلاتٍ تحاكي قوانا العقلانية وتتخطاها. إنَّ أجهزة الكمبيوتر هي منطق مميكن في حقيقة الأمر، وتُسمَّى أصغر دوائرها ببوابات المنطق.

ثمة ضمان آخر على صلاحية العقل، وهي أنه «يفلح». ليست الحياة حلمًا نظهر فيه فجأةً في مواقعَ غيرِ مترابطة، وفيه تقع أمورٌ محيرة دون نمط ولا سبب منطقي. فبتسلق الجدار، يتمكَّن روميو من لمس شفتَي جولييت فعلًا. وبإعمال العقل بطرقٍ أخرى، نصل إلى القمر، ونخترع الهواتفَ الذكية، ونقضي على الجدري. إنَّ تعاون العالَم حين نطبِّق عليه منطق العقل دليلٌ قوي على أن العقلانية تصل بالفعل إلى حقائقَ موضوعية.

وفي نهاية المطاف فإنه حتى المؤمنون بمذهب النسبية الذين ينكرون إمكانيةَ وجود الحقيقة الموضوعية ويصرُّون على أنَّ جميع الادعاءات هي محض خطابات لثقافةٍ ما، يفتقرون إلى شجاعةِ الإيمان بآرائهم. فهؤلاء الباحثون في الأنثروبولوجيا الثقافية أو في مجال الأدب ممن يعلنون أن الحقائق العلمية محض خطابات لثقافة واحدة سيفضِّلون علاج صغارهم بمضادات حيوية يصفها الطبيب على أنشودةٍ علاجية يؤديها شامان. ومع أنَّ مذهب النسبية غالبًا ما يُحاط بهالةٍ أخلاقية، فإن القناعات الأخلاقية لمعتنقي المذهب تتوقَّف على التزامٍ بالحقيقة الموضوعية. فهل كان الاسترقاق خرافة؟ أكانت الهولوكوست روايةً واحدة من روايات عديدة محتملة؟ هل تغيُّر المناخ مفهوم اجتماعي؟ أم إنَّ المعاناة والخطر اللذين يصفان تلك الأحداث حقيقيان بحق؛ أي إنها ادعاءات ندرك أنها حقيقية بسبب المنطق والدليل والدراسة الموضوعية؟ هنا يتوقف النسبويون عن التمسُّك بالمذهب النسبي.

للسبب نفسه لا يمكن مقايضةُ العقلانية بالعدالة الاجتماعية أو أي قضية أخلاقية أو سياسية أخرى. فالسعي إلى تحقيق العدالة الاجتماعية يبدأ من الإيمان بأن بعض الجماعات تعاني القهرَ بينما تحظى جماعاتٌ أخرى بامتيازات. تستند هذه الادعاءات إلى حقائقَ وقد تكون خاطئة، مثلما يزعم أنصار العدالة الاجتماعية أنفسهم ردًّا على ادعاء أنَّ الرجل الأبيض غيرَ المثلي هو المقهور. إننا نُقرُّ بهذه القناعات لأن العقل والأدلة تفيد بأنها صحيحة. وبِناءً على هذا، يسترشد السعي بالاعتقاد في ضرورة وجود إجراءات معيَّنة لتصحيح ذلك الإجحاف. هل يكفي تطبيق المساواة؟ أم إن الظلم السابق قد ألحق ببعض الجماعات ضررًا لا يمكن تصحيحه إلا بسياساتٍ تعويضية؟ أثمة إجراءاتٌ بعينها ستكون محضَ محاولة للشعور بالرضا عن النفس ولن تعود بالنفع على الجماعات المقهورة؟ وهل ستجعل الأمور أسوأ؟ يحتاج أنصار العدالة الاجتماعية إلى معرفة الإجابات عن هذه الأسئلة، والعقل هو السبيل الوحيد الذي يمكننا به أن نعرف أيَّ شيء عن أيِّ شيء.

لا شك أنَّ الطبيعة الخاصة للحُجة المدافعة عن العقل ستترك ثغرةً على الدوام. لقد كتبت في مقدمةِ دفاعي عن العقل: «ما دام الناس يتجادلون ويُقنِعون بعضهم بعضًا …»، لكن كلمة «ما دام» تتخذ أهميةً كبرى في هذا السياق. فمن الممكن أن يرفض معارضو العقلانية اتباعَ القواعد. قد يقولون مثلًا: «لست بحاجةٍ لتبرير قناعاتي لك. إنَّ طلبك للحجج والبراهين يدُل على أنك جزء من المشكلة.» وبدلًا من شعورهم بأي حاجة للإقناع، من الممكن أن يفرض الأشخاص المتيقنون من أنهم على صوابٍ آراءهم بالقوة. في أنظمة الحكم الديني والاستبدادي، تفرض السلطات رقابةً على أصحاب الآراء المخالفة أو تسجنهم أو تنفيهم أو تحرقهم. وصحيحٌ أنَّ أنظمة الحكم الديمقراطي أقلُّ وحشية، لكن الأشخاص لا يزالون يجدون وسائلَ لفرضِ آرائهم بدلًا من الدفاع عنها بالحجة. فمن عجيب المفارقات أنَّ الجامعات الحديثة التي تتمثَّل مهمتها أصلًا في تقييم الأفكار، من الكيانات التي تصدَّرت عملية التفنُّن في إيجادِ أساليبَ لقمع الآراء؛ منها التراجعُ عن دعوة المجاهرين بالآراء المعارضة والتشويش عليهم، وإبعادُ المعلمين المثيرين للجدل عن التدريس، وسحبُ العروض الوظيفية والدعم، وحذفُ المقالات المثيرة للخلافات من الأرشيفات، وتصنيفُ الاختلافات في الآراء على أنها إزعاج وتعصُّب يستوجب العِقاب.7 إنها تردُّ بالأسلوب نفسه الذي يتجلى فيما يسرده رينج لاردنر عن واقعةٍ حدثت له في صباه مع أبيه: «شرح لي الأمر قائلًا: «اخرس.».»

إن كنت تعلم أنك على صواب، فما الذي «يضطرك» إلى محاولة إقناع الآخرين بالعقل؟ لماذا لا تكتفي بتعزيز التضامن داخل حِلفك وتحشده لمعركة في سبيل العدالة؟ أحدُ الأسباب أنك ستثير بهذا أسئلةً مثل: هل أنت معصوم؟ هل أنت «متأكد» أنك على صوابٍ بشأن «كل شيء»؟ إن كنت كذلك، فما الذي يميزك عن معارضيك الموقنين هم أيضًا بأنهم على صواب؟ ما الذي يميزك أيضًا عن سلطات على مرِّ التاريخ كانت تصرُّ هي أيضًا أنها على صواب لكننا نعلم الآن أنها أخطأت؟ إذا كنت مضطرًّا إلى إسكات مخالفيك في الرأي، فهل معنى ذلك أنك لا تملك حججًا سديدة على أنهم مخطئون؟ إنَّ جُرْم الافتقار إلى إجابات عن مثل تلك الأسئلة من الممكن أن ينفِّر الذين لا يزالون على الحياد، بما في ذلك الأجيال التي لم تتبلور قناعاتها بعد.

من الأسباب الأخرى لعدم إهمال الإقناع أنك إن أهملته فلن تترك لمن يختلفون معك خيارًا سوى مجاراتك في أسلوبك ومواجهتك بالقوة بدلًا من الحجة. وربما يكونون أقوى منك، إن لم يكن الآن فربما في وقتٍ ما في المستقبل. وحين تكون أنت المنبوذ آنذاك، سيكون الأوان قد فات على ادعاء أنَّ آراءك يجب أن تؤخذ على محمل الجِد لجدارتها.

أنتوقف عن اتباع المنطق؟

هل يجب علينا اتباعُ العقل «دائمًا»؟ هل أنا بحاجة لحجةٍ عقلانية للوقوع في الحب، ورعاية أبنائي، والاستمتاع بطيبات الحياة؟ أليس من المقبول أحيانًا أن نطلق العِنان لأنفسنا ونتصرف بحماقة ونتوقف عن التصرُّف بمنطق؟ وإذا كانت العقلانية رائعة هكذا، فلماذا نربط بينها وبين الكآبة القاتمة؟ هل كان أستاذ الفلسفة في مسرحية توم ستوبارد «الوثَّابون» محقًّا في ردِّه على الادعاء بأن «الكنيسة صرحٌ للاعقلانية»؟

المعرض الوطني صرح للاعقلانية! كل قاعة حفلات موسيقية هي صرح للاعقلانية! وكذلك هي الحديقة المنسقة، وتَذكار الحبيب، ومأوى الكلاب الضالة! … إن كانت العقلانية المعيار الذي يجيز للأشياء وجودها، فسيصير العالم حقلًا شاسعًا لفول الصويا!8

سوف نتصدَّى فيما تبقى من هذا الفصل لتحدي أستاذ الفلسفة. سنرى أنه رغم أن الجمال والحب والحنان ليست أشياء عقلانية بمعنى الكلمة، فهي ليست لا عقلانية تمامًا أيضًا. يمكننا تطبيق العقل على عواطفنا وأخلاقنا، بل إنَّ لدينا درجةً أعلى من العقلانية تخبرنا بالحالات التي يكون التصرُّف العقلاني فيها أن نكون لا عقلانيين.

من الوارد أن يكون الأستاذ في مسرحية ستوبارد قد ضللته حجةُ ديفيد هيوم الشهيرة القائلة بأن «العقل عبدٌ للعواطف، ولا ينبغي له إلا أن يكون كذلك، ولا يمكنه أبدًا تولِّي أي مهمة أخرى غير خدمته وطاعته.»9 لم يكن هيوم، وهو أحدُ أكثر الفلاسفة جديةً في تاريخ الفكر الغربي، ينصح قرَّاءه بالتصرف برعونة، أو العيش دون الاكتراث للمستقبل، أو الوقوع في غرام الشخص الخطأ.10 وإنما كان يوضح مسألة منطقية وهي أن العقل وسيلة لتحقيق غاية، ولا يمكنه أن يملي عليك هذه الغاية، ولا أن يخبرك حتى بأنه ينبغي لك السعي لتحقيقها. لقد كان يشير بمصطلح «العواطف» إلى مصدر تلك الغايات: ما هو متأصل فينا من الأهواء والرغبات والدوافع والمشاعر والأحاسيس، التي لن يجد العقل من دونها أهدافًا ليتفكَّر السبيلَ لبلوغها. إنه الفرق بين التفكير والرغبة، بين الإيمان بشيءٍ تراه حقيقيًّا والرغبة في شيء تتمنى تحقيقه. لقد كان قصده أقربَ إلى «للناس فيما يعشقون مذاهبُ» من «افعل ما تحب».11 فما من شيء عقلاني أو غير عقلاني إن فضلت نكهة الشوكولاتة على نكهة الجوز بشَراب القيقب. ولا يتنافى مع العقلانية مطلقًا أن تعتني بحديقة، أو تعشق، أو ترعى الكلاب الضالة، أو تحتفل وكأنه آخر يوم في العالم، أو ترقص تحت السماء الماسية ملوِّحًا بيدك بحرية.12

ومع ذلك، لا بد أنَّ ثمة سببًا للانطباع باحتمالية تعارُض العقل مع المشاعر، فلا يُعقَل أن يكون خطأً منطقيًّا فحسب. إننا نبتعد عن المتهورين، ونرجو الناس أن يتحلوا بالعقل، ونندم على شتَّى النزوات والاندفاعات والتصرُّفات الطائشة. إذا كان هيوم محقًّا، فكيف يمكن أن يكون نقيضُ ما كتبه صحيحًا أيضًا: أن «العواطف» لا بد أن تكون دائمًا في خدمة «العقل»؟

الحق أنه ليس من الصعب التوفيقُ بينهما. قد يكون أحد أهدافنا غيرَ متوافق مع الأهداف الأخرى. قد يحدث ذات مرةٍ أن يتعارض هدفنا ذاك مع أهدافنا في مرات أخرى. وقد تتعارض أهداف أحد الأشخاص مع أهداف آخرين. وفي ظل تلك النزاعات، لن يجدي شيئًا أن نقول إننا لا بد أن نخدم عواطفنا ونطيعها. لا بد من التنازل، وحينئذٍ يكون على العقلانية الفصلُ في الأمر. إننا نسمي أول استخدامين للعقل ﺑ «الحكمة» والاستخدام الثالث ﺑ «الأخلاق». وسوف نتناول فيما يلي كلًّا منها.

التعارض بين الأهداف

لا يريد الناس شيئًا واحدًا فحسب. إنهم يريدون الراحةَ والسعادة، لكنهم يريدون الصحة أيضًا، ونجاح أبنائهم، وتقدير زملائهم، وسردية مرضية عن حياتهم. ولما كانت هذه الأهداف متعارضةً في بعض الأحيان — فحلوى كعكة الجبن تؤدي إلى السمنة، والأطفال الذين لا يلاقون الرعاية يتورطون في المشكلات، والطموح الجامح يجلِب الحقد — فلا يمكن أن تحصل دائمًا على ما تريد. بعض الأهداف أهمُّ من غيرها؛ إن بعضها يجعل الرضا أعمقَ، والسعادةَ أبقى، وسرديةَ الحياة أكثرَ جاذبية. ونحن نستخدم أدمغتنا لترتيب أهدافنا وفقًا للأولوية والسعي إلى تحقيق بعضها على حساب الأخرى.

الحق أن بعض أهدافنا الظاهرة هي في الواقع ليست أهدافنا «الخاصة» من الأساس، بل هي أهداف مجازية لجيناتنا. ذلك أنَّ العملية التطورية تنتقي الجينات التي تؤدي بالكائنات لأن يكون لديها أكبرُ عدد ممكن من النسل ينجو في البيئات التي عاش فيها أسلافها. يتحقَّق ذلك من خلال دوافع مثل الجوع والحب والخوف والراحة والجنس والهيبة والمكانة. يسمي علماء النفس التطوري هذه الدوافع «الأدنى»؛ أي إنها تندرج ضمن تجاربنا الواعية ونحاول تلبيتها متعمدين. ويمكن المقابلة بينها وبين الدوافع «الأقصى» للبقاء على قيد الحياة والتكاثر، وهي الأهداف المجازية لجيناتنا؛ أي ما كانت الجينات ستقوله لو أنها تستطيع الكلام.13

مثلما التعارض بين الأهداف الأدنى والأهداف الأقصى في حياتنا، فهو يظهر أيضًا بين مختلف الأهداف الأدنى. فاشتهاء شريك جنسي جذَّاب هو دافع أدنى، والدافع الأقصى له هو إنجاب طفل. لقد ورثناه لأن أسلافنا الأشد شبقًا كان لديهم، في المتوسط، عددٌ أكبر من النسل. بالرغم من ذلك، فمن الممكن ألَّا يكون إنجاب طفل من الأهداف الأدنى، ومن ثَم نستخدم العقل للحول دون ذلك الهدف الأقصى باستخدام وسائل منْع الحَمل. من الأهداف الأدنى أيضًا أن يكون لدينا حبيب جدير بالثقة لا نخونه، وأن نكسب احترام أقراننا، وهي أهداف يمكن أن تسعى مَلَكاتنا العقلانية لتحقيقها بنصح مَلَكاتنا اللاعقلانية تمامًا بتجنُّب العلاقات الخَطِرة. وعلى نحوٍ مماثل نسعى إلى تحقيق الهدف الأدنى المتمثل في الحفاظ على جسدٍ رشيق صحي بالتغاضي عن هدف أقصى آخر، وهو قطعة من الحلوى الشهية، الذي نشأ هو نفسه من الهدف الأقصى المتمثل في تخزين سعرات حرارية في بيئةٍ شحيحة الطاقة.

حين نقول إن أحدَ الأشخاص يأتي بتصرُّفات عاطفية أو غير عقلانية، فإننا نشير في معظم الأحيان إلى اختياراتٍ سيئة في هذه المقايضات. فغالبًا ما نجد راحةً لحظية حين ننفجر غضبًا على شخصٍ ضايقنا. ومع ذلك، قد ندرك حين نهدأ أنَّ الأفضل هو السيطرة على الموقف، لتحقيق الأشياء التي تمنحنا شعورًا أفضلَ على المدى الطويل، مثل السمعة الطيبة والعلاقة التي يشملها الإخلاص.

التعارض بين الأطر الزمنية

نظرًا لأن الأشياء لا تحدُث كلها في آنٍ واحد، غالبًا ما ينطوي التعارض بين الأهداف على أهدافٍ تتحقَّق في أوقاتٍ مختلفة. وكثيرًا ما يبدو هذا التعارض نزاعًا بين ذواتٍ مختلفة، ذات حاضرة وذات مستقبلية.14
جسَّد عالِم النفس والتر ميشيل هذا التنازعَ في خيارٍ صعب أعطاه لأطفال في الرابعة من العمر في تجربةٍ مشهورة أُجريت عام ١٩٧٢: قطعة مارشميلو الآن أم قطعتا مارشميلو بعد ١٥ دقيقة.15 والحياة سلسلة لا تنتهي من اختبارات المارشميلو، معضلات تضطرنا إلى الاختيار بين مكافأة صغيرة الآن ومكافأة كبرى لاحقًا. مشاهدة فيلم الآن أم النجاح في اختبار لاحقًا؛ شراء قطعة زهيدة من الحلي الآن أم سداد الإيجار لاحقًا؛ الاستمتاع بخمس دقائق من السلوك الجنسي الشائن الآن أم سيرة نزيهة في كتب التاريخ لاحقًا.
لمعضلة المارشميلو مسميات شتَّى؛ منها ضبط النفس، وتأجيل المتعة، والتفضيل الزمني، وتجاهل المستقبل.16 تشكِّل هذه المعضلة جزءًا من أي تحليل للعقلانية؛ لأنها تساعد على تفسير المفهوم الخاطئ القائل بأن المبالغة في العقلانية تؤدي إلى حياة متعسرة وكئيبة. لقد درس علماء اقتصاد الأسس المعيارية لضبط النفس؛ أي الحالات التي «يتعيَّن» علينا الاستمتاع فيها الآن وتلك التي ينبغي لنا فيها تأجيلُ المتعة لما بعد؛ إذ إنها أساس معدَّلات الفائدة، التي تعوِّض الناس عن التنازل عن المال الآن في مقابل المال لاحقًا. وقد نبَّهونا إلى أنَّ الاختيار العقلاني كثيرًا ما يتمثل في الاستمتاع الآن؛ فالأمر برُمَّته يتوقف على التوقيت والدرجة. حقيقةُ الأمر أنَّ هذا الاستنتاج يكمُن بالفعل في حكمتنا الشعبية، متجسِّدة في الأقوال المأثورة والنكات.
  • أولًا: طير في اليد خيرٌ من ألف على الشجر. فكيف تعلم أن القائم بالتجربة سيحافظ على وعدِه ويكافئك على صبرك بقطعتَي مارشميلو حين يأتي الوقت؟ كيف تعلم أن صندوق المعاشات سيظل قادرًا على الوفاء بالالتزامات حين تتقاعد، وأن النقود التي ادخرتَها من أجل التقاعد ستكون متوافرة حين تحتاج إليها؟ وليس فساد الأمناء وحده هو ما قد يعاقب على تأجيل المتعة؛ فهناك أيضًا نقصُ معرفة الخبراء. إننا نمزح قائلين: «كل ما قالوا إنه مضر تبيَّن أنه مفيد»، ومع تطوُّر علم التغذية في الزمن الحاضر عرفنا أننا تخلينا خلال العقود الأخيرة عن الكثير من الملذات التي كنَّا نستمتع بها من تناول البَيض والجمبري والمكسرات لغيرِ ما سبب وجيه.
  • ثانيًا: كلنا إلى زوال في النهاية. من الممكن أن يصعقك البرق غدًا، وبذلك ستكون المتعةُ التي أجَّلتها إلى الأسبوع التالي، أو العام التالي، أو العَقد التالي قد ضاعت هباءً. فمثلما نرى عادةً على الملصقات التي تُوضع خلف السيارات: «الحياة قصيرة. فالأَولى أن تستمتع بها.»
  • ثالثًا: الشباب لا يأتينا سوى مرة واحدة. ربما يكون الحصول على قرضٍ عقاري وأنت في الثلاثينيات أكثرَ كلفةً في الإجمال من الادخار وشراء المنزل نقدًا في الثمانينيات، لكنك إذا حصلت على القرض العقاري فسيتسنى لك العيش في المنزل طوال تلك السنوات. ثم إنَّ تلك السنوات لن تكون أكثرَ عددًا فقط، بل أكثرَ اختلافًا أيضًا. فكما قال لي طبيبي ذات مرة بعد قياسٍ للسمع: «المأساة الكبرى في الحياة أنك حين تبلغ العمر الذي تصير فيه قادرًا على شراء معدَّات صوتية جيدة بحق، لا تستطيع سماع الاختلاف.» وهذا الكارتون يعبِّر عن نقطة مشابهة:

اجتمعت هذه الحجج كلها في قصة واحدة. حُكم على رجلٍ بالإعدام لإهانته السلطان، فعرض صفقةً على المحكمة: إن أمهلوه عامًا، فسيعلِّم حصانَ السلطان أن يغنِّي؛ ومن ثَم يحصل على حريته. وحين عاد إلى قفص الاتهام، سأله أحدُ المساجين: «هل أنت مجنون؟ إنك لا تؤجل إلا أمرًا محتومًا. سوف تنفتح أبواب الجحيم عليك بعد عام؛ فأجاب الرجل: «أعتقد أن الكثير قد يحدُث خلال عام. ربما يموت السلطان، ويعفو عني السلطان الجديد. ربما أموت؛ وفي تلك الحالة لن أخسر شيئًا. وربما يموت الحصان؛ وعندئذٍ سأفلِت من العقاب. ومَن يدري؟ فربما أعلِّم الحصان الغناء!»

أيعني هذا أنَّ الخيار العقلاني أن تأكل المارشميلو في التو على كل حال؟ ليس هذا صحيحًا تمامًا؛ فالأمر يتوقَّف على المدة الواجب انتظارها وعدد قطع المارشميلو التي ستنتظرها. لننحي عاملَ التقدُّم في السن والتغيُّرات الأخرى ونفترض لأجل التبسيط أن كل لحظة مثل غيرها. لنفترض أن ثمة احتمالَ واحدٍ في المائة في كل عام أن تصيبك صاعقة. هذا معناه أن فرصةَ بقائك على قيد الحياة عامًا ٠٫٩٩ فما احتمالُ بقائك على قيد الحياة بعد عامين؟ ليتحقَّق ذلك لا بد أن تنجو من الصاعقة لعام ثانٍ، ليكون إجمالي الاحتمال ٠٫٩٩ × ٠٫٩٩؛ أي ٠٫٩٩٢؛ أي ٠٫٩٨ (سوف نتناول طريقةَ الحساب الرياضي في الفصل الرابع). ويبلغ احتمالُ بقائك على قيد الحياة بعد ثلاث سنوات، ٠٫٩٩ × ٠٫٩٩ × ٠٫٩٩ أو ٠٫٩٩٣ (٠٫٩٧)، وبعد عشر سنوات، ٠٫٩٩١٠ (٠٫٩٠)، وبعد عشرين سنة، ٠٫٩٩٢٠ (٠٫٨٢)، إلى آخرِ هذا النحو الذي يمثل انخفاضًا أُسيًّا. ومن ثَم فإنك حين تضع في الحسبان احتمالَ أنك لن تستمتع بها أبدًا، تجد أن قطعة مارشميلو في اليد تساوي تسعةَ أعشار قطعة مارشميلو على الشجر بعد عَقد. وثمة مخاطرُ إضافية أيضًا، مثل أن يكون القائم بالتجربة غيرَ أمين، واحتمال أن تفقد حبَّك للمارشميلو، وهي تغيِّر الأرقامَ لكنها لا تغيِّر المبدأ. من العقلانية أن تنخفض قيمةُ الأشياء في المستقبل «أسيًّا». ولهذا لا بد أن يَعِد القائمُ بالتجربة بأن يكافئك على صبرك بالمزيد من المارشميلو كلما زاد انتظارك؛ أي أن يدفع فائدة. وتتراكم هذه الفائدة أُسيًّا، لتعوِّض عن التضاؤل الأسي في القيمة التي يمثِّلها لك المستقبل الآن.
معنى هذا أنَّ العيش للحاضر من الممكن أن يكون غير عقلاني من ناحيتين. تتمثَّل إحداهما في أننا قد ننتقص من قيمة مكافأة مستقبلية بدرجةٍ مُبالغ فيها؛ أي نبخسها بشدة حين نضع في الاعتبار مدى احتمالية أن نعيش حتى نراها ومقدارَ المتعة التي ستجلِبها. من الممكن تعيينُ قيمةٍ كميةٍ لعامل التعجُّل. فقد قدَّم شين فريدريك، واضعُ اختبار التفكير الإدراكي الذي تناولناه في الفصل السابق، للمشتركين اختبارات مارشميلو افتراضية مستخدِمًا مكافآتٍ مناسبة للبالغين، فوجد أن الغالبية (خاصةً أولئك الذين انخدعوا بالإجابات الخطأ الجذَّابة في الألغاز) فضَّلوا ٣٤٠٠ دولار في الحين على ٣٨٠٠ دولار بعد شهر، وهو ما يكافئ التغاضي عن استثمارٍ بعائد سنوي ٢٨٠ في المائة.17 في الحياة الواقعية، لم يدَّخر نحو نصف الأمريكان المشرفين على سن التقاعد «أيَّ شيء» من أجل التقاعد: فقد خطَّطوا لحياتهم كأنهم سيموتون حينذاك، كما كان حال أسلافنا في واقع الأمر.18 كما قال هومر سيمبسون لمارج حين حذَّرته من أنه سيندم على سلوكه: «تلك مشكلةٌ سيواجهها هومر المستقبل. ويْحي، إنني آسَفُ لذلك الرجل.»

إنَّ الدرجة المثلى لخفض قيمة المستقبل عندما نقرِّر مقدارَ ما ينبغي إنفاقه من الثورة العامة لصالحنا حين نهرم ومن أجل أجيال المستقبل، مشكلةٌ لا نواجهها أفرادًا فقط، بل مجتمعات أيضًا. ومع ذلك، لا بد أن نتجاهله. ذلك أنَّ الأمر لا يقتصر على أن التضحيةَ الحالية ستكون بلا جدوى إن اصطدم كويكبٌ بالأرض ولاقينا مصير الديناصورات. فجهلنا بما سيأتي به المستقبل، بما في ذلك التقدُّم التكنولوجي، ينمو نموًّا أسيًّا بدرجةٍ أكبرَ مما نخطِّط له. فمن يدري؟ لعلنا سنعلِّم الحصان أن يغنِّي. فعلى سبيل المثال، كان سيغدو من غير المنطقي لو أنَّ أسلافنا منذ قرنٍ مضى قتَّروا من أجلنا، بتحويل الإنفاق من المدارس والطُّرق مثلًا لصالح تجهيزِ كمٍّ هائل من أجهزة الرئة الحديدية استعدادًا لتفشي وباء شلل الأطفال؛ إذ إننا أثرى منهم بمقدار ست مرات، وقد حلَلْنا بعضًا من مشكلاتهم بينما نواجه مشكلات جديدة لم يكونوا ليتخيلوها. بالرغم من ذلك، يجوز لنا في الوقت نفسه أن نلعن بعضًا من اختياراتهم القصيرة النظر التي نعيش تباعتها، مثل البيئة المنهوبة، والأنواع المنقرضة، والتخطيط العمراني المتمركز حول السيارات.

إنَّ الخيارات العامة التي نواجهها اليوم، مثل درجة ارتفاع الضرائب الواجبِ سدادُها على انبعاثات الكربون للحد من تغيُّر المناخ، تتوقف على المعدَّل الذي نخفِّض به قيمة المستقبل، الذي يُسمَّى أحيانًا معدَّل الخصم الاجتماعي.19 فمعدَّل ٠٫١ في المائة، الذي لا يعكس سوى احتمال أننا سننقرض، معناه أننا نقدِّر أجيال المستقبل مثلما نقدِّر أنفسنا، ويستدعي استثمار الجزء الأكبر من دخلنا الحالي للنهوض برفاه ذريتنا. أما معدَّل ثلاثة في المائة، الذي يفترض نموَّ المعرفة والرخاء، فيستدعي تأجيلَ أغلب التضحيات لأجيال أقدرَ على التكفُّل بها. الحق أنه لا يوجد معدَّل «صحيح»؛ لأنه يتوقَّف أيضًا على الخيار الأخلاقي الذي نزِن به رفاه الناس الحاليين مقابل رفاه الذين لم يُولدوا بعد.20 غير أن إدراكنا لاستجابة السياسيين للدورات الانتخابية لا الأجل البعيد، وتجاربنا المؤسفة ونحن نجد أنفسنا غيرَ مستعدين لكوارثَ متوقعة مثل الأعاصير والأوبئة، تدُل على أن معدَّل الخَصم الاجتماعي الذي نطبِّقه مرتفع بدرجةٍ غير عقلانية.21 إننا نترك المشكلات لهومر المستقبلي، ونأسف لحاله.
ثمة طريقة ثانية نخدع بها أنفسنا المستقبلية خداعًا غير عقلاني، تُدعى الخَصم القصير النظر.22 إننا قادرون تمامًا في أغلب الأحيان على تأجيل مكافأة ذاتنا في المستقبل من أجل ذاتنا في المستقبل الأبعد. فحين يرسل منظِّم المؤتمر قائمةَ العشاء للمتحدث الرئيسي مقدَّمًا، يكون من السهل اختيار الخضراوات المطهية بالبخار والفاكهة بدلًا من اللازانيا وحلوى كعكة الجبن. متعة صغيرة نجنيها بعد ١٠٠ يوم من عشاءٍ دسم مقابل متعة كبيرة نجنيها من جسدٍ رشيق بعد ١٠١ يوم؟ لا وجه للمقارنة! لكن إذا كان النادل سيغرينا بالاختيار نفسه في حينها: المتعة الصغيرة من تناول عشاءٍ دسم خلال ١٥ دقيقة مقابل المتعة الكبيرة للتحلي بالقوام النحيف في اليوم التالي، فسنغيِّر رأينا ونستسلم للازانيا.
يوصَف هذا الانعكاس في التفضيل بقِصَر النظر؛ لأننا نرى الإغراء الجذَّاب الوشيك بوضوحٍ شديد، بينما تكون الخيارات البعيدة مشوَّشة عاطفيًّا فنحكم عليها بموضوعية أكثر، وذلك على عكس الاستعارة المأخوذة من طب العيون. إنَّ العملية العقلانية للخَصم الأسي لا يمكن أن تفسِّر هذا الانقلاب، حتى إذا كان معدَّل الخصم مرتفعًا بدرجةٍ غير منطقية؛ لأنه إذا كانت المكافأة الوشيكة الصغيرة أشدَّ إغراءً من المكافأة الكبرى اللاحقة، فستظل أشدَّ إغراءً حتى عند تأجيل كلتا المكافأتين للمستقبل. إذا كانت اللازانيا الآن أشدَّ إغراءً من الخضراوات المطهية على البخار، فإن احتمال تناول اللازانيا بعد بضعة شهور سيظل أكثرَ إغراءً من احتمال تناول الخضراوات بعد بضعة شهور. يقول علماء الاجتماع إن انقلاب الاختيار يدُل على أن الخَصم «زائدي»، ليس بمعنى أنه يُضخَّم، بل بمعنى أنه يقع على منحنًى يُدعى القطع الزائد، وهو أشبه بشكل L منه بشكل الانخفاض الأسي؛ إذ يبدأ بانخفاضٍ حادٍّ ثم يستقر. فالمنحنيان الأسيان المختلفان في الارتفاع لن يتقاطعا أبدًا؛ فالأشد إغراءً الآن، سيبقى دائمًا هو الأشد إغراءً؛ أما منحنيا القطع الزائد فمن الممكن أن يتقاطعا. هذان الرسمان البيانيان يوضحان الاختلاف. (لاحظ أنهما يمثلان الزمن المطلق كما يُحدَّد على الساعة أو الروزنامة، وليس الوقت بالنسبة إلى الآن؛ لذلك فالنفس التي تشعر بالأشياء الآن تنساب على امتداد المحور الأفقي، ويظهر انخفاض القيمة في المنحنيان من اليمين إلى الشمال.)
figure
figure
لا شكَّ أن تفسير ضَعف الإرادة مع اقتراب المكافأة بالخصم الزائدي يشبه تفسيرَ تأثير عقار الأمبيان المنوِّم بقدرته على أن يبعث على النوم. لكن شكل منحنى القطع الزائد الشبيه بالمِرفق يشير إلى أنه قد يكون مُركَّبًا فعلًا من منحنيين؛ أحدهما يمثل جاذبية لا تُقاوم لمكافأةٍ لا تستطيع إخراجها من رأسك (رائحة المخبوزات، نظرة إغواء، أغراض براقة في قاعات العرض)، والآخر يمثِّل تقييمًا أكثرَ ترويًا للنفقات والفوائد في مستقبلٍ افتراضي. وتؤكِّد الدراسات التي تغري متطوعين يخضعون لفحوصاتٍ دماغية داخل أجهزةٍ للمسح الضوئي، بأشكال من اختبارات المارشميلو تناسب البالغين، وجود أنماط مختلفة من نشاط من الدماغ وفقًا للأفكار التي تراودهم عن المكافآت القريبة والبعيدة.23
ومع أنَّ الخصم الزائدي ليس عقلانيًّا مثلما يمكن أن يكون الخصم الأسي الدقيق — بما أنه لا يعبِّر عن الغموض الدائم التضاعف للمستقبل — فإنه يمنح الذات العقلانية فرصةً للتفوق على الذات المندفعة. تظهر هذه الفرصةُ في الجزء الواقع أقصى اليسار للقطعين الزائدين، الزمن الذي تقع فيه كلتا المكافأتين في المستقبل البعيد، وحينها تكون المكافأة الكبيرة أشدَّ إغراءً ذاتيًّا من الصغيرة، وذلك كما ينبغي لها أن تكون من الناحية العقلانية. يمكن لذواتنا المتروية، الواعية تمامًا بما سيحدث حين تدنو الساعة الحاسمة، أن تقصَّ النصف الأيمن من الشكل، فلا تسمح أبدًا أن يحدث تحول للإغراء. لقد شرحت كيركي تلك الخدعة لأوديسيوس حين قالت:24

ستصل أولَّ ما تصل إلى جزيرة السيرينات الشاديات اللائي يسحرن بغنائهن قلوبَ جميعِ مَن يمرُّ بهنَّ. كلُّ مَن يقترب منهن ويسمع أصواتهن ينسى آله وأوطانه، ولا يخطر في باله أبدًا أن يعود لتقرَّ به زوجه وأولاده. السيرينات اللائي يجلسن هناك في مرْجهن سيغرينه بأغنياتهن التي تنفُذ إلى الأعماق. عن اليمين والشِّمال، تقبع حولهنَّ أكوامٌ عظيمة من الرجال قد تغضَّنت جلودهم وأخذ اللحم يتعفن على عظامهم. فلتسدَّ آذان رجالك بالشمع قبيل بلوغك أرضهن، فيصيرون بذلك صمًّا عنهنَّ. أما أنت فلك أن تنصِت إلى ذاك الغناء إن شئت، على أن يشدَّ رجالك وَثاقك في قِلْعِ سفينتك شدًّا قويًّا محكَمًا، فيربطوا ذراعيك وساقيك بالمتين من الحبال. وفي هذا القيد المحكَم يكون لك أن تستمتع بشدو السيرينات. (منقول من ترجمة دريني خشبة بتصرُّف)

يُسمى هذا الأسلوب بضبط النفس الأوديسي، وهو أشدُّ فاعليةً من الجهد الشاق المتمثِّل في إعمال قوة الإرادة، التي تسهُل هزيمتها لحظةَ الإغراء.25 خلال اللحظة الفاصلة التي تسبق وصول السيرينات إلى مدى السمع، تستبق قوانا العقلانية أي احتمال لأن تستميلنا أهواؤنا نحو هلاكنا؛ فتقيدنا إلى القُلوع بحبالٍ متينة، ومن ثَم تحول بيننا وبين خيار الاستسلام. إننا نتسوَّق حين نكون شبعى ونتخطى الرقائقَ والكعك التي كنا سنجدها لا تُقاوم ونحن جوعى. ونحن نطلب من رؤسائنا في العمل أن يقتطعوا جزءًا من رواتبنا ويدخروه لنا من أجل التقاعد حتى لا يكون هناك فائضٌ في آخر الشهر لنبدده في إجازة.

في واقع الأمر، من الممكن أن يزيد ضبط النفس الأوديسي درجةً بالتنازل عن اختيار حق الاختيار، أو بجعل ممارسته أصعبَ على الأقل. لنفترض أن فكرة الراتب الكامل في غاية الإغراء حتى إننا لا نستطيع حَمْل أنفسنا على ملء الاستمارة التي تسمح بالخصم الشهري. من الممكن إذن أن تقوم بالتصرُّف المناسب قبل مواجهة ذلك الإغراء ونسمح لرؤسائنا في العمل باتخاذ ذلك القرار لنا، إضافةً إلى خياراتٍ أخرى تفيدنا على المدى الطويل، وذلك بإدراجنا تلقائيًّا ضمن نظامٍ إلزامي للادخار؛ إذ سيكون علينا حينها اتخاذ خطواتٍ للانسحاب من الخطة لا الانضمام إليها. تلك هي القاعدة التي تستند إليها فلسفة الحوكمة التي تسرِّع كلًّا من باحث القانون كاس سانستين وعالِم الاقتصاد السلوكي ريتشارد ثالر في تسميتها بالأبوية التحرُّرية في كتابهما «التنبيه». فهما يزعمان أنه من العقلانية أن نعطي الحكومات والشركات سلطةَ تقييدنا بالصاري، على أن يكون ذلك بحبالٍ مرخية لا حبال مشدودة. فمن خلال الاسترشاد بالأبحاث التي تدرُس قدرة البشَر على التمييز، سينظِّم الخبراء «هيكل خيارات» لبيئاتنا بحيث يصير من الصعب علينا أن نأتي أفعالًا مغرية ضارة، مثل الاستهلاك والإهدار والسرقة. سوف تتصرُّف مؤسساتنا على نحوٍ أبوي كأنها تعلم ما في صالحنا، بينما تترك لنا حريةَ فك القيود حين نكون مستعدين لبذل ذلك المجهود؛ وهو ما يفعله قلة من الناس في الواقع.

صارت الأبوية التحرُّرية، هي وغيرها من «الرؤى السلوكية» المستقاة من العلوم الإدراكية، تحظى بشعبيةٍ متنامية بين محللي السياسات؛ لأنها تَعِد بنتائجَ أكثرَ فاعليةً بتكلفة قليلة ومن دون المساس بمبادئ الديمقراطية. وربما تكون هي التطبيق العملي للأبحاث التي تُجرى عن التحيزات المعرفية والمغالطات حتى الآن، (بالرغم من انتقاد علماء معرفيين آخرين لهذا النهج بزعمهم أنَّ البشَر أكثرُ عقلانية مما تشير إليه الأبحاث).26

الجهل العقلاني

بينما ترك أوديسيوس نفسه ليُقيد بالصاري وتخلَّى بدافع عقلاني عن خيار «التصرف»، سدَّ بحَّاروه آذانَهم بالشمع وتنازلوا بدافع عقلاني عن خيار «المعرفة». يبدو هذا محيِّرًا في أول الأمر. فقد يخطر للمرء أن المعرفة قوة، وأنه لا يوجد أيُّ حدود للمعرفة. فمثلما أنَّ الثراء خيرٌ للمرء من الفقر؛ إذ يمكن للثري دائمًا التنازل عن المال ويصير فقيرًا، فقد تظن أنه من الأفضل دائمًا أن تكون على دراية بشيءٍ ما؛ لأنه سيظل بإمكانك دائمًا اختيارُ ألا تعمل به. بالرغم من هذا، يتبيَّن لنا خطأ هذا التفكير، مشكلًّا بذلك إحدى مفارقات العقلانية. فمن العقلانية أحيانًا أن نسدَّ آذانَنا بالشمع.27 من الممكن أن يكون الجهل نعمةً، وفي بعض الأحيان لا يمكن أن يؤذيك ما تجهله.

من الأمثلة الواضحة على ذلك تحذيرُ حرْق الأحداث. إننا نستمتع بمشاهدة الحبكة وهي تتكشف بما تنطوي عليه من إثارة وذروة وحل، وربما نختار ألا نحرقها بمعرفة النهاية مقدَّمًا. يفعل جماهير الرياضة الأمرَ نفسه أيضًا حين لا يستطيعون مشاهدةَ مباراة في وقتها ويخطِّطون لمشاهدة نسخة مسجَّلة لاحقًا؛ إذ ينأون بأنفسهم عن جميع وسائل الإعلام، وحتى عن أمثالهم من المشجعين الذين قد يَشون بالنتيجة في إشارة صغيرة. ويختار العديد من الآباء والأمهات ألا يعرفوا جنس الجنين لمضاعفة فرحتهم لحظة الميلاد. في هذه الحالات نختار الجهلَ عقلانيًّا لأننا نعلم آليةَ عمل عواطفنا الإيجابية اللاإرادية، ونرتِّب الأحداث بما يعزز السعادة التي تمنحنا إياها.

بالمنطق نفسه، نتمتع بالقدرة على فهمِ عواطفنا السلبية وحرمان أنفسنا من المعلومات التي نتوقَّع أنها ستسبِّب لنا الألم. يدرك العديد من مستخدمي الاختبارات الجينية أنه من الأفضل لهم أن يظلوا جاهلين بما إذا كان الرجل الذي يدعو نفسه أباهم مرتبطًا بهم بصلةِ دم أم لا. ويختار الكثيرون ألَّا يعلموا ما إذا كانوا ورثوا جينًا سائدًا لمرض عضال قتل أحدَ الأبوين، مثل الموسيقي أرلو جاثري، الذي مات أبوه وودي بداء هنتنجتون. فليس بِيدهم ما يمكنهم فِعله، ومعرفتهم بأنهم سيموتون مِيتةً بشعةً مبكرة سيفسد عليهم ما تبقَّى من حياتهم. ولهذا السبب فإنَّ أغلبنا سيسدُّ أذنيه إن وعَدَنا عرافٌ بإخبارنا باليوم الذي سنموت فيه.

عِلاوةً على ذلك، فنحن نتجنَّب المعرفة التي من شأنها أن تؤثِّر على مَلَكاتنا المعرفية. فيحظر على المحلَّفين الاطلاع على أدلةٍ غيرِ مقبولة مثل الشهادات المروية عن الغير أو الاعترافات القسرية أو التفتيش من دون مذكِّرة — وفقًا لقاعدة «ما بُني على باطل فهو باطل» — لأن العقل البشَري غيرُ قادر على تجاهلها. ونجد أنَّ العلماء الأكْفاء هم أكثرُ مَن يشك في موضوعيتهم ويُجرون دراساتهم المزدوجة التعمية، مفضِّلين ألا يعلموا أيُّ المرضى قد حصل على الدواء وأيُّهم قد حصل على الدواء الوهمي. وهم يقدِّمون أبحاثهم لمراجعة الأقران المجهولي الهوية لتحاشي أيِّ إغراء بالانتقام بعد مراجعة سيئة، ويحجبون أسماءهم في بعض المجلات حتى لا يستسلم المراجعون للإغراء برد جميل أو تصفية حساب.

في هذه الأمثلة يختار الكائن العقلاني أن يكون جاهلًا من أجل التحايل على تحيزاته غير العقلانية. لكننا نختار الجهل أحيانًا لنمنع خصومنا العقلانيين من استغلال مَلَكاتنا العقلانية، لكي نضمن أنهم لن يستطيعوا تقديمَ عرضٍ لا يمكننا رفضه. فمن الممكن أن تخطِّط لئلا تكون بالمنزل حين يتصل بك عضو المافيا ليتوعدك أو حين يحاول النائب إبلاغك بوجوب المثول أمام المحكمة. إنَّ سائق شاحنة شركة «برينك» لا يجد غضاضةً في الإعلان عن جهله من خلال الملصق الذي يحمل عبارة «لا يعلم القائد كلمةَ سر الخزنة»؛ فمن غير الوارد حينها أن يهدِّده اللصوص حتى يفشيها. ومن الأفضل أيضًا للرهينة ألا يرى وجوه معتقليه؛ لأن ذلك سيكون حافزًا لهم لأن يطلقوا سراحه. حتى الأطفال الصغار الذين يسيئون التصرُّف يعلمون أنه من الأفضل لهم ألا يواجهوا نظرات آبائهم الغاضبة.

القصور العقلاني واللاعقلانية العقلانية

يُعَد الجهل العقلاني من أمثلةِ المفارقات العقلية المستعصية على الفهم التي يفسِّرها العالِم السياسي توماس شيلينج في كتابه الكلاسيكي الصادر عام ١٩٦٠ «استراتيجية الصراع».28 في بعض الظروف قد يكون الخيار العقلاني أن نكون جهلاء، بل أن نكون عاجزين وغير عقلانيين لأقصى درجة.
في لعبة «الجبان»، التي اشتهرت في فيلم جيمس دين الكلاسيكي «ثائر بلا قضية» (ريبيل ويزاوت أكوز)، يقترب سائقان مراهقان أحدهما من الآخر بسرعةٍ عالية على طريقٍ ضيق ومَن يحيد أولًا يخسر: يكون هو «الجبان».29 ونظرًا لأنَّ كليهما يعلم أنَّ الآخر لا يريد أن يموت في حادث تصادم بين سيارتيهما، فقد يبقى كلٌّ منها على مساره، معتقدًا أن الآخر سيحيد أولًا. ستكون النتيجة كارثيةً بالطبع إن كان الاثنان «عقلانيَّين» على هذا النحو؛ وتلك مفارقةٌ في نظرية الألعاب سنعود إليها في الفصل التاسع. فهل توجد إذن استراتيجية للفوز في لعبة «الجبان»؟ نعم، تخلَّ عن قدرتك على الانحراف بغلقِ عجلة القيادة بطريقةٍ واضحة، أو وضع حجر على دواسة الوقود والانتقال إلى المقعد الخلفي، حتى لا تترك للشخص الآخر خيارًا غير الانحراف. اللاعب الذي يفقد السيطرة يفوز. بمعنًى أدق، أول مَن يفقد السيطرة من اللاعبين يفوز: وإذا حبس الاثنان عجلةَ القيادة في آنٍ واحد …

مع أن لعبة «الجبان» قد تبدو مثالًا على حماقة المراهقين، لكنها من المعضلات الشائعة عند المساومة، في كلٍّ من السوق والحياة اليومية. لنقل إنك مستعد لدفع ٣٠ ألف دولار في سيارة وأنت تعلم أنها تكلِّف التاجر ٢٠ ألف دولار. إنَّ أي سعرٍ يقع بين ٢٠ ألف دولار و٣٠ ألف دولار يناسب مصلحةَ كليكما، لكنك بالطبع تريده أن يكون أقربَ ما يمكن للسعر الأدنى ويريد مندوبَ المبيعات أن يكون أقرب للسعر الأعلى. يمكنك أن تعرض عليه سعرًا منخفضًا، مدركًا أنه يفضِّل إتمام الصفقة على الانسحاب، لكنه يستطيع أيضًا أن يعرض سعرًا مرتفعًا؛ إذ يدرك الشيء نفسه. ولهذا يقرُّ بأن عرضك لا بأس به لكنه بحاجةٍ لموافقة مديره، غير أنه يقول بأسفٍ حين يعود إن مديره صعبُ المراس ألغى الصفقة. ثمة خيارٌ آخر يتمثَّل في أن توافقه أنت أن السعر جيدٌ لكنك بحاجةٍ لموافقة البنك الذي تتعامل معه، فيرفض مسئول القروض أن يقرضك ذلك المبلغ. الفائز هو مَن لا يملك القرار. قد يحدث الشيء نفسه في الصداقات والزيجات حين يفضِّل الطرفان أن يفعلا شيئًا معًا على البقاء بالمنزل، لكنهما يختلفان فيما يستمتعان به. فالطرف الذي يؤمن بالخرافات أو يعاني عقدةً نفسية أو بالغَ العناد يصادر تمامًا على اختيار الطرف الآخر، وهو الذي يفرض اختياره.

تُعَد التهديدات أيضًا من المجالات الأخرى حيث يمكن أن يكون لفقدان السيطرة ميزة غير متوقَّعة. إنَّ مشكلة التهديد بالهجوم أو الضرب أو العِقاب أن تنفيذ التهديد قد يكون مكلِّفًا، مما يجعل التهديد خدعةً يفطن لها المستهدَف من التهديد. فلكي يكون التهديد ذا مصداقية، يجب على صاحب التهديد أن يكون ملتزمًا بتنفيذه، مبدِّدًا بذلك السيطرة التي ستعطي هدفه سطوةَ ردِّ التهديد برفض الامتثال. فمختطِف الطائرة الذي يرتدي حزامًا ناسفًا ينفجر مع أقل احتكاك، والمتظاهرون الذين يقيدون أنفسهم إلى القضبان أمام قطارٍ يحمل الوقود لمفاعل نووي لا يمكن تخويفهم لكيلا ينفِّذوا مهمتهم.

لا يكون الالتزام بتنفيذ التهديد ماديًّا فقط، بل عاطفيًّا أيضًا.30 فالشخصية النرجسية أو المصابة باضطراب الشخصية الحدية أو السريعة الغضب أو الحبيب الصعب الإرضاء، أو الشخص «الشريف» الذي يَعُدُّ التقليل من قدره إهانةً لا تُغتفر ويندفع مهاجمًا بِغض النظر عن العواقب، كلُّ هؤلاء من أنماط الشخصيات الذين لا ينبغي العبث معهم.
من الممكن أن يتحوَّل انعدام السيطرة إلى انعدامٍ للعقلانية. فالانتحاريون الذين يعتقدون أنهم سيُجازَون في الجنة لا يمكن ردعُهم باحتمال الموت على الأرض. وفقًا لنظرية الرجل المجنون في العلاقات الدولية، فإنَّ الزعيم الذي يراه الناس طائشًا، وحتى مختلًّا، يستطيع إجبارَ خَصمه على التنازل.31 يُقال مثلًا إنَّ ريتشارد نيكسون أمرَ في عام ١٩٦٩ بطيران قاذفات قنابل نووية بطيشٍ قرب الاتحاد السوفييتي لتخويفهم حتى يحملهم على الضغط على حليفهم الشمالي الفيتنامي للتفاوض على إنهاء الحرب الفيتنامية. يمكن أيضًا تأويل تهديد دونالد ترامب عام ٢٠١٧ باستخدام زِرِّه النووي الأكبر لإنزال الويلات على كوريا الشمالية، إن افترضنا حُسن النية، على أنه إحياءٌ للنظرية.

تنطوي استراتيجية الرجل المجنون على مشكلةٍ بالتأكيد، وهي أنَّ كلا الطرفين يمكن أن يلعباها، فينخرطا في صورة كارثية من لعبة «الجبان». يمكن أيضًا أن يشعر الطرف المهدَّد بأن ليس لديه خيار سوى التخلُّص من المجنون بالقوة بدلًا من الاستمرار في مفاوضاتٍ عديمة الجدوى. في الحياة اليومية، يجد الطرفُ الأعقل حافزًا للانسحاب من علاقته مع رجلٍ مجنون أو امرأة مجنونة والتعامل مع شخصٍ أعقل. فثمة ما يدفعنا لئلا نكون جميعًا مجانين طوال الوقت، وإن كان بعضنا يفلِت بهذا الجنون أحيانًا.

على غِرار التهديدات، فالوعود أيضًا تكتنفها مشكلةُ المصداقية التي قد تستدعي الخضوعَ والتنازل عن المصلحة الذاتية العقلانية. فكيف يمكن لمقاولٍ أن يقنع عميلًا بأنه سيعوِّضه عن أي تلف، أو أن يقنع المَدينُ الدائنَ أنه سيسدِّد القرض، إذا كانت لديهم كل الدوافع للنكوث حين يأذَن الوقت؟ الحل هو أن يودعوا ضمانًا يخسرونه إن نكثوا، أو يوقِّعوا على إيصال يمكِّن الدائنَ من استرداد المنزل أو السيارة. بالتنازل كتابةً عن خياراتهم، يصيرون شركاءَ جديرين بالثقة. وفي حياتنا الشخصية، كيف نقنع شخصًا نرغب فيه بأننا سنترك كلَّ مَن عداه حتى يفرِّق بيننا الموت، بينما قد يظهر شخصٌ آخر أشدُّ جاذبيةً في أي لحظة؟ يمكننا أن نعلن أننا لا نستطيع عقلانيًّا أن نختار شخصًا أفضلَ لأننا لم نختَر ذلك الشخص عقلانيًّا من الأساس؛ إذ كان حبنا لا إراديًّا وغير عقلاني قد بعثه فينا ما تحلَّى به ذلك الشخص المحدَّد من صفات فريدة ومميزة ولا تُعوض.32 نجد هذا في كلمات الأغاني على غِرار: لا أستطيع مقاومةَ الوقوع في حبك. إنني مهووس بحبك. أهوى خطوتك، وأهوى كلامك.

إنَّ هذه الطبيعة الغريبة لعقلانية المشاعر غير العقلانية من الموضوعات الآسرة للغاية وقد شكَّلت مصدرَ إلهام للعديد من حَبكات المسرحيات التراجيدية، وأفلام الغرب الأمريكي، وأفلام الحروب، وأفلام المافيا، وأفلام الجاسوسية، والأفلام الكلاسيكية عن الحرب الباردة: «نظام وقائي» (فيل سيف) و«دكتور سترينجلَف». ومع ذلك، لا يوجد فيلم صوَّر منطقَ اللامنطق بأبلغَ مما فعل الفيلم السوداوي الصادر عام ١٩٤١: «الصقر المالطي» (ذا مالتيز فالكون)، وفيه يتحدى المحقِّق سام سبيد أتباعَ كاسبر جاتمان أن يقتلوه، مدركًا أنهم بحاجة إليه للعثور على الصقر المرصَّع بالجواهر. فيجيبه جاتمان قائلًا:

هذا التصرُّف يا سيدي، يستدعي أقصى درجات الحكمة من الجانبين، فأنت تعلم يا سيدي أنَّه في خِضم الأحداث قد ينسى الرجال أين تكمُن مصلحتهم، فيدعون مشاعرَهم تجرفهم بعيدًا.33

المحظورات

أيمكن أن تكون بعضُ الأفكار مضرةً استراتيجيًّا، بل إنَّ التفكير فيها مستقبَح؟ هذا هو فحوى الظاهرة التي يُطلَق عليها مصطلح «تابو»، المشتق من كلمة بولينيزية بمعنى «محرم». وقد أثبت عالِم النفس فيليب تيتلوك أن المحظورات ليست أعرافَ سكان جزر جنوب المحيط الهادئ فحسب، بل هي تعيش في داخلنا جميعًا.34

كان النوع الأول من المحظورات التي صنَّفها تيتلوك هو «المعدَّل الأساسي المحظور»، الذي ينشأ من واقع أنه لا توجد مجموعتان من الناس: رجال ونساء، بيض وسود، بروتستانت وكاثوليك، هندوس ومسلمون، يهود وغير يهود، لديهما معدَّلات متطابقة في أي سِمة من السمات التي يُعنى بقياسها. الحق أنه يمكن إدراجُ تلك «المعدَّلات الأساسية» في المعادلات الاكتوارية والتكهنات الإرشادية والسياسات المتعلقة بتلك المجموعات. إنَّ وصْف هذا التنميط بأنه محفوف بالتوتر لهو تبسيط للواقع. وسوف نتناول الجانبَ الأخلاقي للمعدَّلات الأساسية المحظورة في نقاش الاستدلال البايزي في الفصل الخامس.

النوع الثاني هو «المقايضة المحظورة». المصادر محدودة في الحياة، ولا مفرَّ من المقايضة. ولمَّا كان الناس لا يولون الأشياءَ نفسها الأهميةَ نفسها، فمن الممكن أن نعزِّز رفاه الكل بتشجيع الناس على مقايضة شيء لا يعني لهم أهميةً كبيرة مقابل شيء أهم. بالرغم من ذلك، فثمة حقيقة نفسية تتعارض مع هذه الحقيقة الاقتصادية، وهي أنَّ بعض الموارد مقدَّسة لدى بعض الأشخاص، وهم يشعرون بإهانة من احتمال مقايضاتها مقابل أغراض دنيوية مثل النقد أو الراحة، حتى إنْ ربح الكل.

نجد في التبرُّع بالأعضاء مثالًا على ذلك.35 لا أحدَ يحتاج لكلتا كليتيه، بينما يوجد مائة ألف أمريكي في أمسِّ الحاجة إلى واحدة. وهذه الحاجة لا تُلبى عن طريق مَن يتبرعون بها بعد وفاتهم — حتى عندما تشجِّعهم الدولة على ذلك بجعل الموافقة على التبرُّع افتراضًا ضمنيًّا — ولا عن طريق الأحياء من فاعلي الخير. لكن لو سُمِح للمتبرعين الأصحاء ببيع كليتهم، مع تكفُّل الحكومة بنفقات الشراء للمتلقين الذين لا يملِكون المال، لأُعفي الكثيرون من الضغط المادي، ولنجا آخرون من العجز والموت، وما كان ذلك ليسوء أحدًا. ومع ذلك، فإن الأمر لا يقتصر على معارضة هذه الخطة فحسب، بل إنَّ غالبية الأشخاص يستاءون من الفكرة في حد ذاتها. وهم لا يقدِّمون حُججهم ضدها، بل يَعُدون هذا الطلب نفسه إهانةً كبيرة. تخفُّ حدة الإهانة عند تحويل المكسب من ربح مادي إلى قسائمَ نافعة (من أجل التعليم أو الرعاية الصحية أو التقاعد مثلًا)، لكن ذلك لا يمحوها تمامًا. يسخط الناس بالقدْر نفسه أيضًا حين يُسألون عمَّا إذا كان ينبغي إقامة أسواق مدعمة لأعضاء هيئة المحلَّفين، أو القائمين بالخدمة العسكرية، أو الأطفال المعروضين للتبني، وهي أفكارٌ يثيرها علماءُ الاقتصاد التحرريون المشاغبون من آنٍ لآخر.36

إننا لا نواجه المقايضات المحظورة في السياسات الافتراضية فحسب، بل في القرارات اليومية المتعلقة بالميزانية أيضًا. فالدولار الذي ننفقه على الصحة أو السلامة، في جسرٍ للمشاة مثلًا أو في تنظيف النفايات السامة، هو دولار لم ننفقه على التعليم أو الحدائق أو المتاحف أو المعاشات. غير أنَّ كاتبي مقالات الرأي لا يتحرَّجون من الخروج بتصريحاتٍ غير منطقية على غرار: «مهما أنفقنا على «س» فليس في ذلك مبالغة» أو «إن «ص» لا يُقدر بالمال»، حين يتعلَّق الأمر بأغراضٍ مقدَّسة مثل البيئة أو الأطفال أو الرعاية الصحية أو الفنون، وكأنهم مستعدون لغلق المدارس للإنفاق على محطات معالجة مياه الصرف الصحي أو العكس. لا شك أنَّ تحديد قيمةٍ نقدية لحياة الإنسان أمرٌ منفِّر، لكنه ضروري أيضًا؛ لأننا إن لم نفعل ذلك فقد ينفق واضعو السياسات مبالغَ باهظة على القضايا التي تستجدي المشاعر أو المشروعات المحلية تاركين مخاطرَ أسوأ دون معالجة. فيما يتعلق بالإنفاق على السلامة، فحياة الإنسان في الولايات المتحدة تساوي الآن من سبعة ملايين دولار إلى عشرة (وإن كان المخطِّطون يفضِّلون أن يكون السعر مخفيًّا في وثائقَ متخصصة معقَّدة). أما فيما يتعلق بالصحة، فالسعر متفاوت، وهذا أحدُ الأسباب التي تجعل نظامَ الرعاية الصحية في أمريكا باهظًا جدًّا وغيرَ فعَّال.

للبرهنة على أنَّ مجرَّد التفكير في مقايضة المحظورات يُعد من الأمور المزعجة أخلاقيًّا، عرض تيتلوك على المشاركين في إحدى التجارب موقفًا يواجه فيه مسئول إداري في مستشفى خيارَ إنفاق مليون دولار لإنقاذ حياة طفل مريض أو توجيهها في مصروفات عامة للمستشفى. أدان الناس الإداري على التفكير كثيرًا في الموضوع بدلًا من اتخاذ قرار سريع. وقد اتخذوا التوجُّه المقابل حين لم تكن المقايضة التي واجهها الإداري محظورةً بل مأساوية: إنفاق المال لإنقاذ حياة طفلٍ ما أم لإنقاذ طفل آخر، مفضِّلين التروي في هذه الحالة على التسرُّع.

إنَّ جوهر فن الخطاب السياسي هو إخفاء المقايضات المحظورة أو التعبير عنها بعباراتٍ مخفَّفة أو إعادة صياغتها. فقد يلفت وزراء المالية الانتباهَ إلى الأرواح التي سينقذها قرارٌ خاص بالميزانية ويتجاهلون ذِكر ما يكلفه هذا القرار من أرواح. ويمكن للمصلحين أن يقدِّموا لإحدى المعاملات وصفًا جديدًا يواري المقايضة: فيصف مناصرو المشتغِلات بالجنس هؤلاء النساء بأنهن نساء يمارسن استقلالهن بدلًا من القول بأنهن عاهرات يبِعن أجسادهن؛ ويتحدَّث المروِّجون للتأمين على الحياة — الذي كان محظورًا في الماضي — عن البوليصة باعتبارها حمايةَ العائل لأسرته بدلًا من وصفها بأنها رهان أحد الزوجين على موت الآخر.37

يتمثَّل النوع الثالث من محظورات تيتلوك في «هرطقة الوضع المغاير». إنَّ القدرةَ على تأمُّل ما كان «سيحدث» لو أنَّ أحد الظروف «لم يكن» حقيقيًّا من ركائز العقلانية. هذا ما يتيح لنا التفكيرَ في القوانين المجرَّدة بدلًا من الواقع الملموس، والتمييز بين السببية والارتباط (الفصل التاسع). فالسبب في أننا لا نقول إنَّ الدِّيك لا يؤدي إلى شروق الشمس، رغم أن أحدهما يتْبَع الآخر، هو أن الشمس ستشرق حتى إن لم يَصِحِ الدِّيك.

ومع ذلك، فكثيرًا ما يعتقد الناس أنَّه من غير الأخلاقي السماحُ لعقولهم بأن تَهيم في عوالمَ خيالية معيَّنة. سأل تيتلوك الناس: «ماذا لو أن يوسف كان قد هجر مريم حين كان يسوع طفلًا، هل كان سيكبر متمتعًا بالثقة والجاذبية؟» رفض المسيحيون المتدينون أن يجيبوا. ومن المسلمين المتدينين مَن هم أشدُّ حساسيةً حتى من ذلك. فحين نشر سلمان رشدي «آيات شيطانية» عام ١٩٨٨، وهي رواية احتوت على قصةٍ صورت حياة محمد في عالَم مغاير جاءت فيه بعض كلمات الله من الشيطان بالفعل، أصدر الزعيم الإيراني آية الله الخميني فتوى تدعو إلى قتله. ولئلا يبدو هذا الموقف الذهني بدائيًّا ومتعصبًا، حاوِل أن تلعب هذه اللعبةَ في حفلة العشاء القادمة: «من المؤكد أن أحدًا منَّا لن يخون خليله على الإطلاق. لكن لنفترض، جدلًا فحسب، أننا سنفعل. فمن الذي ستختاره شريكًا في الخيانة؟» أو جرِّب هذه: «لا شك أنه ليس بيننا أحدٌ عنصري ولو قليلًا. لكن لنفترض فحسب أننا كذلك، فما الجماعة التي ستتحامل ضدها؟» لقد أُقحمت إحدى قريباتي ذات مرة في هذه اللعبة وهجرت حبيبها حين أجاب قائلًا: «اليهود.»

كيف من الممكن أن يكون عقلانيًّا أن نُدين ما هو محض تأمُّل للأفكار، وهو نشاط لا يمكن في حد ذاته أن يمسَّ برفاه الناس في العالم؟ يذكر تيتلوك أننا لا نحكم على الناس بناءً على ما «يفعلونه» فحسب، وإنما بناءً على «شخصياتهم». فالشخص القادر على التفكير في افتراضاتٍ معيَّنة، حتى وإن كان يعاملنا معاملةً حسنة حتى ذلك الوقت، قد يطعننا في ظهرنا أو نلقى منه الخيانةَ في نهايةِ المطاف، متى وجد ما يغريه بذلك. تخيَّل أن يسألك شخص: بكم تبيع ابنك؟ أو صديقك أو جنسيتك أو خدماتك الجنسية؟ الإجابة الصحيحة هي الامتناع عن الإجابة، والأفضل من ذلك أن تستاء من السؤال. فمثلما هو الحال مع الإعاقات العقلانية في التفاوض والتهديد والوعود، من الممكن أيضًا أن تقدِّم الإعاقة في الحرية الذهنية ميزة. ذلك أننا نثق في الأشخاص غير القادرين بطبيعتهم على خيانتنا أو خيانة قيمنا، وليس الذين اختاروا ألا يفعلوا ذلك حتى الآن.

الأخلاق

من المجالات الأخرى التي تُستبعد أحيانًا من المسألة العقلانية مجال الأخلاق. هل يمكننا أن نستنبط على الإطلاق ما هو صواب أو خطأ؟ هل نستطيع تأكيده ببيانات؟ ليس من الواضح لنا كيف يمكن تحقيق ذلك. يعتقد العديد من الناس أنه «لا يمكن التوصُّل إلى ما «يجب» أن يكون بناءً على ما هو «كائن» بالفعل». يُنسب هذا الرأي أحيانًا لهيوم، بأساس منطقي شبيه لحُجته القائلة بأن العقل لا بد أن يكون عبدًا للعاطفة. وقد اشتهر بكتابته أنه «ليس مناقضًا للمنطق أنَّ أُفضِّل دمار العالم بأسرِه على جرح أصبعي.»38 لم يكن هيوم قاسيًا معاديًا للمجتمع. فهو يستأنف كلامه فيقول إنه بما أن تبادل الأدوار من العدل، «فإنه لا يناقض العقل أن أختار هلاكي، حتى لا يلحق أي ضرر بشخص هندي أو شخص لا أعرفه أدنى معرفة». سيبدو أن القناعات الأخلاقية تعتمد على أهواءٍ غير عقلانية، تمامًا مثل العواطف الأخرى. يتَّفق هذا مع الملحوظة القائلة بأن ما يُعد أخلاقيًّا وغير أخلاقي يتفاوت في الثقافات المختلفة، مثل النظام الغذائي النباتي، والتجديف بالمقدَّسات، والمثلية، وممارسة الجنس قبل الزواج، والضرب على المؤخرة، والطلاق، وتعدُّد الزوجات أو الأزواج. وهو يتفاوت أيضًا باختلاف الفترات التاريخية داخل ثقافتنا نفسها. ففي الأيام الغابرة كانت لمحة واحدة من جوارب النساء شيئًا فاضحًا.
ينبغي ولا ريب التمييزُ بين العبارات الأخلاقية والعبارات المنطقية والتجريبية. في النصف الأول من القرن العشرين تناول الفلاسفة حُجةَ هيوم بجديةٍ واجتهدوا لمعرفةِ ما يمكن أن تعنيه العبارات الأخلاقية إذا لم تكن بشأن المنطق أو حقيقة تجريبية. توصَّل البعض إلى أن القول بأن ««س» شرٌّ» لا تعني سوى أن ««س» يخالف القواعد» أو «لا أحب «س»» أو حتى «تبًّا ﻟ «س»!»39 يلهو ستوبارد بهذه الفكرة في مسرحيته «الوثابون» حين يسمع مفتشٌ جاء ليحقِّق في حادث إطلاق نار من بطل المسرحية رأي زميله الفيلسوف بأنَّ الأفعالَ غيرَ الأخلاقية «ليست آثامًا وإنما معادية للمجتمع فحسب». فيتساءل المحقِّق مندهشًا: «هل يعتقد أنَّ قتل الناس ليس «خطأً»؟» فيجيبه جورج: «حسنًا، إنه كذلك بالتأكيد حين تصوغه على هذا النحو … لكنه لا يعتقد من «الناحية الفلسفية» أنه خطأ في حد ذاته، كلا.»40

على غرار المفتش المشدوه، لا يكون العديد من الناس مستعدين لاختزال الأخلاق في عُرفٍ أو ذوق. حين نقول «الهولوكوست شرٌّ»، هل تفتقر قوانا العقلية إلى أي وسيلة للتفرقة بين تلك القناعة وبين قول «لا يعجبني الهولوكوست» أو «ثقافتي تستنكر الهولوكوست»؟ هل امتلاك العبيد غير عقلاني بقدرِ ما ينطوي عليه شيء كارتداء عمامة أو قلنسوة يهودية أو حجاب من لا عقلانية؟ إذا كانت طفلةٌ ما تعاني مرضًا فتَّاكًا وكنا نعلم بدواءٍ يمكنه إنقاذها، فهل إعطاؤها إياه لا يزيد عقلانية عن إمساكه عنها؟

عند مواجهة هذا الإيحاء المزعج، يحب بعض الناس أن ينيطوا الأخلاق بقوةٍ عليا. وهم يقولون إنَّ تلك هي وظيفة الدِّين، ومنهم حتى العديد من علماء مثل ستيفن جاي جولد.41 لقد كتب أفلاطون عملًا قصيرًا عن هذه الحجة قبل ٢٤٠٠ سنة في «يوثيفرو».42 هل يُعد الشيء أخلاقيًّا لأن الرب يأمر به، أم إنَّ الرب يأمر ببعض الأشياء لأنها أخلاقية؟ إذا كان القول الأول صحيحًا، وليس للرب أي سبب في أوامره، فلماذا علينا أن نأخذ نزواته بجدية؟ إنْ أمرَك الربُّ بتعذيب طفل وقتله، فهل يجعل الأمر الإلهي ذلك الفعل أخلاقيًّا؟ قد تعترض وتقول: «ما له أن يفعل ذلك أبدًا!» لكن ذلك يرسلنا للشق الثاني من المعضلة. إن كان للرب أسباب وجيهة في أوامره، فلماذا لا نلجأ لتلك الأسباب مباشرةً ونتخطَّى الوسيط؟ حقيقة الأمر أنَّ رب العهد القديم كثيرًا ما أمر الناس بذبح الأطفال.43
ليس من الصعب في الواقع أن نبني الأخلاق على أساس العقل. ربما كان هيوم مصيبًا حرفيًّا حين قال إنه لا يناقض العقل أن يفضِّل المرءُ وقوعَ إبادة جماعية في العالم كله على أن يُخدش خنصره. لكن حججه كانت محدودة للغاية. فمثلما ذكر، لا يناقض العقل أيضًا أن يفضِّل شخص أن تحدُث له أمور سيئة على أن تحدُث له أمور طيبة، كأنْ يفضِّل الألم والمرض والفقر والوحدة مثلًا على السعادة والصحة والرخاء والصحبة الطيبة.44 حسنًا! لكن لنفترض الآن — هكذا على نحوٍ لا عقلاني اعتباطي متعنِّت وبلا سبب وجيه — أننا نفضِّل أن تحدُث لنا الأشياء الطيبة على أن تلم بنا الخطوب السيئة. لنفترض أيضًا افتراضًا ثانيًا طائشًا ومجنونًا: أننا حيوانات اجتماعية تعيش مع أناسٍ آخرين، ولسنا كروبنسون كروزو الذي يعيش منفردًا على جزيرة مهجورة، ومن ثَم فإن رفاهنا يتوقَّف على ما يفعله الآخرون، مثل معاونتنا عند الحاجة وعدم إيذائنا بلا سبب وجيه.

هذا يغيِّر كلَّ شيء. ففور أن نبدأ في التأكيد على الآخرين: «يجب ألا تؤذيني أو تدعني أتضور جوعًا، أو تَدَع أطفالي يغرقون»، لا يمكننا في الوقت نفسه أن نقول: «يمكنني أن أوذيك، وأتركك تجوع، وأدَع أطفالك يغرقون»، ثم نتوقَّع أن يأخذوا كلامنا على محمل الجِد. ذلك أنني عندما أخوض معك نقاشًا عقلانيًّا، لا يمكن أن أصرَّ على أن مصلحتي وحدَها هي المهمة لأنني المهم وأنت لست كذلك، مثلما لا يمكنني أن أدعي أن البقعة التي أقف عليها بقعةً مميَّزة في الكون لمجرد أنني أقف عليها. فالضمير أنا وياء الملكية لا يمثلان أيَّ أهمية منطقية، بل يتبدلان مع كل تحوُّل في الحوار. ولهذا فإن أي حجة تضع مصلحتي فوق مصلحتك أو مصلحته أو مصلحتها، هي حجةٌ غير عقلانية، مهما كانت الظروف.

حين تجمع بين المصلحة الذاتية والتواصل الاجتماعي و«الحيادية» — إمكانية تبادُل وجهات النظر — تصل إلى جوهر الأخلاق.45 تحصل حينها على القاعدة الذهبية، أو تنويعاتها التي تذكِّرنا بنصيحةِ جورج برنارد شو: «لا تفعل بالآخرين ما لا تود أن يفعلوه بك؛ فربما تكون لديهم أهواء مختلفة.» يذكِّرنا هذا بمقولة الحاخام هليل: «لا تفعل بأخيك ما تكرهه لنفسك.» لقد قال إنَّ تلك هي التوراة كلها، حين تحدَّوه أن يشرحها بينما كان المستمِع واقفًا على قدمٍ واحدة؛ وقال إنَّ كلَّ ما سوى ذلك منها محض تفسيرات. توجد نُسَخ هذه القاعدة في كلٍّ من اليهودية والمسيحية والهندوسية والزرادشتية والبوذية والكونفوشيوسية والإسلام والبهائية وغيرها من الديانات والمذاهب الأخلاقية، وقد جاءت بها كلٌّ منها على حدة.46 ترِد إحدى تجليات هذه القاعدة في ملاحظة سبينوزا: «أولئك الذين يحكمهم العقل لا يرغبون لأنفسهم شيئًا لا يرغبونه لسائر البشَرية». وتتجلى أيضًا في الضرورة الحتمية لكانط؛ إذ قال: «لا تتصرَّف إلا وفقًا لذلك المبدأ الذي تود في الوقت نفسه أن يصير قانونًا عالميًّا». من تجلياتها أيضًا نظريةُ جون رولز عن العدالة: «إنَّ مبادئ العدالة تُنتقى خلف حجاب من الجهل» (بتفاصيل حياة شخص من الأشخاص). يتجلى هذا المبدأ أيضًا في أبسطِ عبارات الأخلاق على الإطلاق، وهي العبارة التي نستخدمها لتعليم الأطفال الصغار ذلك المفهوم: «كيف ستشعر إن كان هو مَن فعل بك ذلك؟»

إنَّ أيًّا من هذه العبارات لا تستند إلى الذوق أو العُرف أو الدِّين. ومع أن المصلحة الذاتية والتواصل الاجتماعي ليسا عقلانيين بالمعنى الحرفي للكلمة، فهما وثيقا الصلة بالعقلانية. كيف تأتي الكائنات العقلانية للوجود في الأساس؟ ما دمنا لا نتكلم عن ملائكة عقلانية مجردة، فإنهم نتاج التطور، ذات أجساد وعقول ضعيفة ومتعطشة للطاقة. وما داموا قد ظلوا على قيد الحياة بما يكفي لأن يدخلوا في نقاش عقلاني، فلا بد أنهم قد تلافَوا المعاناة والجوع، مدفوعين بالمتعة والألم. عِلاوة على ذلك، يعمل التطوُّر على الجماعات، وليس الأفراد، ومن ثَم فالحيوان العقلاني لا بد أن يكون جزءًا من جماعة، بكلِّ ما فيها من الروابط الاجتماعية التي تدفعه للتعاون، وحماية نفسه، والتزاوج. لا بد أن يكون العقلانيون في الحياة الواقعية كائناتٍ مادية ومجتمعية، ما يعني أنَّ المصلحة الذاتية والحياة الاجتماعية جزءٌ من العقلانية. ومع المصلحة الذاتية والحياة الاجتماعية يأتي الناتج الذي ندعوه الأخلاق.

بالنسبة إلى النزاهة، وهو العنصر الرئيسي في الأخلاق، هي ليست تفصيلة منطقية لا تتجاوز كونها مسألة تبادُل بين وجهات النظر. وإنما تجعل الجميع، من الناحية العملية أفضلَ حالًا في المتوسط. تمنحنا الحياةُ فرصًا متعددة لنساعد أحد الأشخاص، أو الامتناع عن أذيته، من دون أن نتكبَّد الكثير في سبيل ذلك (الفصل الثامن). وبِناءً على هذا، إذا تعهَّد الكل بالمساعدة وعدم الإيذاء، فسيستفيد الكل.47 هذا بالطبع لا يعني أن الناس مثالٌ للأخلاق، بل يعني فحسب أنه توجد حجةٌ عقلانية توضِّح أنه ينبغي لهم التحلي بالأخلاق.

العقلانية وراء العقلانية

ورغم افتقاره إلى الجاذبية، لا بد أن نتبع العقل، ونحن نتبعه فعليًّا بطرقٍ عديدة غير واضحة. إنَّ التساؤل عما يحملنا على اتباع العقل هو في حد ذاته اعترافٌ بأننا ينبغي أن نتبعه. فالسعي لتحقيق أهدافنا ورغباتنا ليس نقيضًا للعقل، بل هو السبب الأساسي لتحلينا به. نحن نستخدم العقل لبلوغ تلك الأهداف، ولترتيب أولويتها حين لا يمكن تحقيقها كلها في آنٍ واحد. والاستسلام للرغبات في غمرة اللحظة هو أمرٌ عقلاني لكائنٍ فانٍ في عالَم غير مستقر، ما دام أنه لا يقلل من قيمة اللحظات المستقبلية بدرجة كبيرة أو بقِصَر نظر. عندما تُقلل قيمة هذه اللحظات، من الممكن أن تتفوق ذاتنا الحالية العقلانية على ذاتنا المستقبلية الأقل عقلانية بالحد من اختياراتها، وهو مثال على الطبيعة المفارقة للعقلانية حين تتجسَّد في الجهل والعجز والاندفاع والمحظورات. ولا تقف الأخلاق لا بمعزلٍ عن العقل، بل تتفرَّع منه حينما يتعامل أعضاء النوع الاجتماعي المدفوع بمصلحته مع الرغبات المتضاربة والمتداخلة فيما بينهم معتمدين النزاهة.

يمكن لهذا التفسير العقلاني لما يبدو غير عقلاني أن يثير القلقَ من أن يتمكَّن أحد الأشخاص من تحريف أي سلوك شاذ أو منحرف على أنه يعكس أساسًا منطقيًّا خفيًّا. لكن هذا الانطباع غير صحيح؛ فأحيانًا يكون ما هو غير عقلاني غير عقلاني فحسب. من الممكن أن يخطئ الناس أو يضلوا عن الحقائق. قد تعمى بصيرتهم عن الأهداف الأهم لهم وكيفية تحقيقها. قد يرتكبون مغالطاتٍ في الاستدلال المنطقي، أو يسعون وراء الهدف الخطأ وهو الفوز في المجادلة بدلًا من معرفة الحقيقة، وذلك ما يحدث في الأعم. من الممكن أن يضعوا أنفسهم في مأزق، أو يسوقوا أنفسهم إلى هلاكهم، أو يضعوا في طريقها العراقيل، أو ينفقوا نقودهم بلا حساب، أو يلعبوا لعبةَ الجبان حتى يصلوا إلى نهايةٍ مأساوية، أو يدفنوا رءوسهم في الرمال، أو يُلحِقوا الأذى بأنفسهم من أجل إلحاق الأذى بأعدائهم، أو يتصرَّفوا كأنهم وحدَهم في العالم.

وفي الوقت نفسه، ليس الانطباع بأن العقل هو ما يتخذ الكلمةَ الأخيرة دائمًا بالانطباع الواهي. فمن الطبيعة الأصيلة للعقل أنه يستطيع التراجع، ليرى كيف يُستخدم أو يُساء استخدامه، ويتبين ذلك النجاح أو الفشل. لقد حاجج عالِم اللغة نعوم تشومسكي بأن «التكرار» هو أساس اللغة البشَرية: فمن الممكن أن تحتوي العبارة على مثالٍ لنفسها من دون حدود.48 ذلك أننا نستطيع التحدُّث عن كلبي وكلب جار عمة زوج صديقة أمي؛ ولا تقتصر قدرتنا على ذِكر أنها تعلم شيئًا، بل نستطيع القول إنه يعلم أنها تعلم، وأنها تعلم أنه يعلم أنها تعلم، وهكذا إلى ما لا نهاية. ليس تركيب العبارة التكرارية طريقةً للتباهي فحسب. الحق أننا ما كنا لنتمتع بالقدرة على قولِ عبارات داخل عبارات لو أننا لا نتمتع بالقدرة على تأمُّل أفكار داخل أفكار.

تلك هي قوة العقل: أنه قادر على تطبيق التفكير العقلاني على نفسه. حين يبدو شيء ما مجنونًا، نستطيع أن نبحث عن سببٍ وجيه للجنون. حين يحتمل أن تتصرَّف ذاتنا المستقبلية بطريقةٍ غير عقلانية، تستطيع ذاتنا الحالية أن تمنعها. وحين تَزِلُّ حجةٌ عقلانية نحو المغالطة أو السفسطة، ستكشفها حجةٌ تفوقها عقلانية. وإن كنت معترضًا — إن كنت ترى أن ثمة خطأً في هذه الحجة — فالعقل هو ما يمكِّنك من ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤