الفصل الثالث

المنطق والتفكير النقدي

«يمكنك أن تعرف هذا النوعَ الحديث من عموم القراء في المحادثات من الحفاوة التي يوافق بها على العبارات الغامضة المبهمة: قل إنَّ الأَسْود أَسْود، وسيهز رأسه رافضًا دون حتى أن يفكر؛ وإذا قلت له إن الأَسْود ليس بالغ السواد، فسيجيب قائلًا: «بالضبط.» وهو لا يتردَّد … عن أن ينهض في لقاء عام ويُفصِح عن اقتناعه بأن أنصاف أقطار الدائرة غالبًا ما تكون متساويةً في بعض الأحيان، وفي حدود معيَّنة؛ لكنه من ناحية أخرى سيدعي أنَّه قد توجد مبالغة في الأخذ بروح الهندسة.»

جورج إليوت1

في الفصل السابق، تساءلنا عن السبب في أن البشَر يحرِّكهم ما يسميه السيد سبوك «مشاعر حمقاء». وفي هذا الفصل سنطالع سلوكهم المزعج في «مخالفة المنطق». فهذا الفصل عن المنطق، ليس بالمعنى الواسع للعقلانية نفسها بل بالمعنى المتخصص المتمثل في استنباط عبارات صحيحة (نتائج) من عبارات أخرى صحيحة (مقدِّمات). فمن العبارتين: «كل النساء مخلوقات فانية» و«زانثيبي امرأة»، على سبيل المثال، يمكننا استنتاج أن «زانثيبي فانية».

إنَّ المنطق الاستنباطي أداةٌ فعَّالة وإن كان لا يستخلص سوى استنتاجات موجودة بالفعل في المقدمات، على عكس المنطق الاستقرائي الذي سنتناوله في الفصل الخامس، والذي نسترشد به في التعميم من الأدلة. حيث لمَّا كان الناس متفقين على العديد من الافتراضات: كل النساء فانيات، تربيع ٨ هو ٦٤، تسقط الصخور إلى أسفل وليس إلى فوق، القتل فِعل خطأ، فإنَّ هدفَ التوصُّلِ إلى افتراضاتٍ جديدةٍ أقلَّ وضوحًا هو هدفٌ يمكننا جميعًا أن نتبناه. إنَّ أداةً تتمتع بمثل هذه القوة تتيح لنا اكتشافَ حقائقَ جديدة عن العالم ونحن في أماكننا من دون عناء، وحلَّ النزاعات بشأن العديد من الأشياء التي لا يتَّفق عليها الناس. لقد تصوَّر الفيلسوف جوتفريد فيلهلم ليبنتز (١٦٤٦–١٧١٦) أن المنطق يستطيع أن يتمخَّض عن يوتوبيا معرفية:

إنَّ السبيل الوحيد لتقويم عملياتنا الاستدلالية هو أن نجعلها بتلك المتانة التي تتسم بها استدلالاتُ علماء الرياضيات، كي تتسنَّى لنا معرفة الخطأ حين نلمحه، وحين تثور النزاعات بين الأشخاص، نستطيع الاكتفاء بقول: فلنجرِ حساباتنا على الفور، لنرى مَن صاحب الحق.2

ربما لاحظتم أننا حتى بعد مرور ثلاثة قرون لم نزل حتى الآن نحُلُّ نزاعاتنا بأن نقول: «فلنجرِ حساباتنا». وسيشرح هذا الفصل السببَ في ذلك. أحد الأسباب أنَّ المنطق من الممكن أن يكون صعبًا حقًّا حتى على علماء المنطق، ومن السهل أن يُساء تطبيق قواعده، مما يفضي إلى «مغالطات صورية». ومن الأسباب الأخرى أنَّ الناس كثيرًا ما لا تحاول حتى أن تطبق القواعد، فترتكب «مغالطات غير صورية». ثمة مجال يهدُف إلى الكشف عن هذه المغالطات وإقناع الناس بالعدول عنها، وهو ما يُسمى بالتفكير النقدي. غير أنَّ أحد الأسباب الرئيسية في أننا لا نُجري هذه الحسابات على الفور في بعض الأحيان، هو أنَّ المنطق، كغيره من النماذج المعيارية للعقلانية، أداةٌ مناسبة لتحقيق أهداف معيَّنة بأشكال معيَّنة من المعرفة، لكنه غير مفيد مع أهداف أخرى.

المنطق الصوري والمغالطات الصورية

يُسمى المنطق «صوريًّا»؛ لأنه لا يتناول فحوى العبارات وإنما أشكالها؛ أي طريقة تركيبها من موضوعٍ ومحمول وكلمات منطقية مثل واو العطف، و«أو»، وليس، وكل، وبعض، وإذا، وثم.3 غالبًا ما نطبِّق المنطق على العبارات التي يعنينا فحواها، مثل: «يُعزل رئيس الولايات المتحدة من منصبه عند اتهامه بالخيانة أو الرشوة، أو غيرهما من الجرائم أو الجُنح، وإدانته بها». هنا نستنبط أنه لإقالة الرئيس، لا بد أن يُتهم ويُدان أيضًا، وأنه ليس من الضروري أن يُدان بكلٍّ من الخيانة والرشوة؛ بل إنَّ إحداهما تكفي. لكن قوانين المنطق عامة؛ فهي تُطبَّق سواء أكانت الفحوى متعلقة بموضوع محدد أم مبهمة أو حتى بلا معنًى. هذا بالتحديد هو ما دفع لويس كارول إلى ابتكار «القياسات غير المنطقية» في كتابه الدراسي الصادر عام ١٨٩٦ بعنوان «المنطق الرمزي»، وما زال الكثير من هذه القياسات يُستخدم في دورات المنطق حتى يومنا هذا. فعلى سبيل المثال، من المقدمتين: «الجرو الأعرج لن يقول: «شكرًا» إن عرضت عليه أن تقرضه حبلًا للقفز و«لقد عرضت على الجرو حبلًا للقفز»، من الممكن أن تستنتج أن الجرو لم يقُل: «شكرًا».»4
تُصاغ أنظمة المنطق في قواعدَ تتيح للفرد استنباط عبارات جديدة من عبارات قديمة باستبدال بعض سلاسل الرموز بأخرى. أبسطُ هذه الأنظمة المنطقية هو حساب القضايا. لقد اشتُق مصطلح الحساب من الكلمة اللاتينية calculus ومعناها «حصاة»، ويذكِّرنا المصطلح بأن المنطق يتمثَّل في معالجة الرموز آليًّا، دونما اكتراث بفحواها. فتُختزل الجُمل البسيطة إلى متغيرات على غرار: س وص، وتقترن هذه المتغيرات بقيمة للحقيقة: فإما أن تكون العلاقة المفترضة صحيحة أو خاطئة. أما الجُمل المعقَّدة، فيمكن تشكيلها من جملٍ بسيطة تربط بينها الروابط المنطقية مثل: حرف العطف واو، وأو، وليس، وإذا، وفاء السببية.

لست بحاجة حتى لأن تعرف المعنى المعجمي لكلمات الوصل. ذلك أنَّ معناها يقتصر على القواعد التي تخبرك بما إذا كانت الجملة المعقَّدة صحيحة بِناءً على ما إن كانت الجمل البسيطة التي بداخلها صحيحة، أم لا. تُحدَّد تلك القواعد في جداول قيمة الحقيقة. فالجدول الموجود على اليسار، الذي يعرِّف حرف العطف «واو»، يمكن شرحه سطرًا بسطر على النحو التالي: حين يكون س صوابًا «و» ص صوابًا، فهذا يعني أن «س «و» ص» صواب. حين يكون س صوابًا وص خطأً، فذلك معناه أن «س «و» ص» خطأ. حين يكون ص خطأً … وهكذا في السطرين الأخيرين.

س ص س «و» ص س ص س «أو» ص س ليس س
صواب صواب صواب صواب صواب صواب صواب خطأ
صواب خطأ خطأ صواب خطأ صواب خطأ صواب
خطأ صواب خطأ خطأ صواب صواب
خطأ خطأ خطأ خطأ خطأ خطأ

لنتناول الآن مثالًا. في اللقاء الطريف الذي بدأ به فيلم عام ١٩٧٠ الرومانسي التراجيدي «قصة حب» (لاف ستوري)، نرى جينيفر كافيليري وهي تشرح لزميلها الطالب في جامعة هارفارد، أوليفر باريت الرابع، الذي كانت تناديه متهكمة باسم بريبي، السببَ في أنها افترضت أنه التحق بمدرسةٍ إعدادية فتقول: «لأنك تبدو غبيًّا وثريًّا». لِنُسمِّ «أوليفر غبي» بالمتغير س، ونسمي «أوليفر ثري» بالمتغير ص. يعرض السطر الأول من جدول الصواب للرابط «و» حقائقَ بسيطة لا بد أن تكون صحيحة حتى يكون انتقادها الاقتراني صحيحًا: إنه غبي، وإنه ثري. لكنه يحتَج — دون أن يكون صادقًا تمامًا — فيقول: «بل إنني ذكي وفقير». لنفترض أن «ذكيًّا» تعني ««ليس» غبيًّا» وأن «فقيرًا» معناها ««ليس» ثريًّا». نفهم إذن أن أوليفر يعارضها محتجًّا بالسطر الرابع في جدول الحقيقة: ما دام ليس غبيًّا وليس ثريًّا، فإنه ليس «غبيًّا ولا ثريًّا». إذا كان كل ما يريده هو معارضتها، كان من الممكن أيضًا أن يقول: «بل إنني ذكي وثري» (السطر الثاني) أو «بل إنني غبي وفقير» (السطر الثالث). واقع الأمر أنَّ أوليفر يكذب؛ فهو ليس فقيرًا؛ لذا فمن الخطأ أن يقول إنه «ذكي وفقير».

تقول جيني صادقة: «كلا، بل «أنا» ذكية وفقيرة.» لنفترض أننا توصَّلنا إلى الاستنتاج التهكمي الذي دعانا إليه النص وهو أن «طلاب هارفارد أثرياء «أو» أذكياء». هذا الاستنتاج ليس استنباطًا وإنما استقراء — تعميم مبني على ملاحظة وهو عرضة للخطأ — لكن لنضع كيفية توصُّلنا إلى تلك العبارة جانبًا ونتأمل العبارة نفسها، متسائلين عمَّا يمكن أن يجعلها صحيحة. ينطوي تركيبُ العبارة على الفصل لا الاقتران؛ فهي تحتوي على «أو»، ويمكن التحقُّق منها بإدخال معلوماتنا عن الحبيبين المستقبليين في جدول قيمة الحقيقة الخاص بالرابط المنطقي: «أو»، حيث يمثل المتغير س «ثري» والمتغير ص «ذكي». جيني ذكية، لكنها ليست غنية (السطر الثالث)، وأوليفر ثري، وربما يكون ذكيًّا أو ليس ذكيًّا (السطر الأول أو الثاني)، من ثَم فالعبارة الفصلية عن طلاب هارفارد صحيحة، فيما يخص هذين الاثنين على الأقل.

ويستمر المزاح:

أوليفر : لماذا ترين أنكِ في غاية الذكاء؟
جيني : لأنني لن أخرج معك لتناول القهوة.
أوليفر : وأنا ما كنت سأسألك.
جيني : هذا ما يجعلك غبيًّا.

لنكمل الآن إجابةَ جيني لتكون: «إذا طلبت مني أن أتناول القهوة معك، فسأرفض.» هل هذه الجملة صحيحة، بِناءً على ما عرفناه؟ إنها «شرطية» بها أداة الشرط «إذا» (المقدمة) و«الفاء» (العاقبة). كيف سيكون جدول الحقيقة؟ لنتذكر من اختبار واسون للاختيار (في الفصل الأول) أن الحالة الوحيدة التي سيكون فيها اختيار: «إذا كان س فسيكون ص» خاطئًا، هو إذا كان س صحيحًا وص خطأً. («إذا كان الخطاب يحمل علامة البريد السريع، فلا بد أن يحمل طابع العشرة الدولارات» معناه أنه لا يجوز أن يكون هناك أي خطابات بريد سريع من دون طابع العشرة دولارات.) ها هو ذا الجدول:

س ص إذا كان س فإذن ص
صواب صواب صواب
صواب خطأ خطأ
خطأ صواب صواب
خطأ خطأ صواب

إذا افترضنا أنَّ الطالبين كانا يعنيان قولهما حرفيًّا، فإن أوليفر لن يدعوها لتناول القهوة. بعبارة أخرى، س خطأ، وهو ما يعني بدوره أن عبارة جيني الشرطية صحيحة (السطران الثالث والرابع، العمود الثالث). يفيد جدول الحقيقة بأن جوابها الفعلي غير مناسب: ما دام أوليفر لن يدعوها أبدًا، فإنها تقول الحقيقة. ومثلما تفيد نهاية مشهد المغازلة، فإن أوليفر يدعوها بالفعل في النهاية (يتبدَّل س من خطأ إلى صواب)، وهي تقبل (فيصبح ص خطأ). هذا معناه أن جملتها الشرطية كانت خطأً، كما يكون المزاح عادةً.

المفاجأة المنطقية التي صادفناها للتو: ما دامت مقدمة الجملة الشرطية خطأً، فالجملة برُمَّتها صحيحة (ما دام أوليفر لن يدعوها أبدًا، فإنها تقول الحقيقة)، توضح إحدى الاختلافات بين الجملة الشرطية في المنطق والجملة الشرطية في الحديث العادي. ذلك أننا نستخدم الشرط في العموم لنشير إلى تكهُّن مسوَّغ قائم على قانون سببي يمكن التحقُّق منه، مثل «إذا شربت قهوة، فستظل مستيقظًا». ونحن لا نقنع بالإقرار بصحة الشرط لمجرد أن أحدًا لم يختبره قط، مثل «إذا أكلت فضلات القطط، فستظل مستيقظًا»، الذي سيكون صحيحًا منطقيًّا ما دمت لم تأكل فضلات القطط من قبلُ. إننا نرغب في وجود أسسٍ تجعلنا نصدِّق أنه في المواقف المخالفة للواقع حيث يكون س صحيحًا (حين تأكل فضلات القطط)، ليس ص (ستخلد للنوم) لن يحدث. حين يكون معلومًا أن مقدمة الشرط خطأ أو خطأ بالضرورة، نميل للقول بأن الشرط عقيم أو لا يرتبط بالموضوع أو تخميني أو حتى بلا معنًى، لا أنه صحيح. أما بالمعنى المنطقي الموضَّح في جدول الحقيقة؛ حيث الشرط إذا كان س فإذن ص مجرد مرادف للشرط ليس [س وليس ص]، مما يعني أن الناتج الغريب: «لو كان للخنازير أجنحة، فإذن ٢ + ٢ = ٥» صحيح، وكذلك «لو كان ٢ + ٣ = ٣، فإذن ٢ + ٢ = ٥». لهذا السبب، يستخدم علماء المنطق مصطلحًا تقنيًّا للإشارة إلى الشرط في سياق جدول الحقيقة، وهو «اللزوم الشرطي».

إليكم مثالًا من الواقع لتوضيح مدى أهمية هذا الاختلاف. لنفترض أننا نريد تقييمَ الخبراء على دقةِ توقعاتهم. فكيف سنقيم التكهُّن الشرطي الصادر في عام ٢٠٠٨: «إذا صارت سارة بالين الرئيس، فستحظر كل عمليات الإجهاض.»؟ هل نقول إن الخبير أصاب لأن العبارة صحيحة من الناحية المنطقية؟ أم إنها لا تُعَد صحيحة لا منطقيًّا ولا واقعيًّا؟ في مسابقة التكهن الحقيقية التي أُخذ منها المثال، كان على مسجلي الدرجات أن يقرِّروا الواجب عمله حيال تلك التكهنات، وقد قرروا ألَّا يَعُدوه تكهنًا صحيحًا؛ أي إنهم اختاروا تأويل الشرط بالمعنى العملي، لا بصفته لزومًا شرطيًّا بالمعنى المنطقي.5
ليس الفرق بين «إذا الشرطية» في لغة الحياة اليومية وبين «إذا الشرطية» في المنطق، سوى مثال واحد من الأمثلة التي توضِّح أن طرقَ استخدام الروابط في المنطق الصوري ليست مرادفةً لطرق استخدامها في المحادثات، حيث يكون لها، شأن الكلمات كلها، معانٍ متعدِّدة يزول عنها اللبس في السياق.6 فحين نسمع جملةَ «جلس وأخبرني بقصة حياته»، نفهم من «واو» العطف أنه أتى بأحد الفعلين أولًا ثم الآخر، مع أنه من الممكن منطقيًّا أن يكون الترتيب عكسيًّا (مثل المزحة التي كانت تُقال قديمًا: «لقد تزوجا وأنجبا طفلًا، لكن ليس بذلك الترتيب»). حين يقول اللص «إما نقودك أو حياتك»، يكون المعنى الدقيق منطقيًّا أنك تستطيع الاحتفاظ بكلٍّ من نقودك وحياتك؛ لأن س أو ص تتضمن حالة أن يكون س صوابًا وص صوابًا. لكن لن يكون من الحكمة أن تحاول إقناعه بتلك الحجة؛ فالجميع يفهم «أو» في هذا السياق باعتبارها الرابط المنطقي «أو الإقصائية»، س أو ص وليس [س وص]. ولهذا السبب أيضًا حين تعرض قائمة الطعام «حساء أو سلاطة»، لا نجادل مع النادل بأننا منطقيًّا لدينا الحق في الاثنين. إنَّ العبارات على غرار: «الصبية سيظلون صبية»، و«الاتفاق اتفاق» و«لا بد مما ليس منه بد» و«أحيانًا يكون السيجار سيجارًا فحسب»، ليست سوى حشوٍ فارغ، صحيحة حتمًا بسبب تركيبها، لكنها خالية من المضمون. غير أننا نفسِّرها باعتبارها ذات معنًى؛ وهو في المثال الأخير، الذي يُنسَب إلى سيجموند فرويد، أن السيجار ليس دائمًا رمزًا للقضيب.

•••

حتى عند تحديد المعاني المنطقية الدقيقة للكلمات، سيكون المنطق مهمةً بسيطة إن كان يقتصر على التحقُّق مما إذا كانت العبارات التي تتضمن مصطلحاتٍ منطقية صحيحة أم خاطئة. إنَّ المنطق يستمد قوَّته من قواعد الاستدلال الصحيح: الخوارزميات التي تتيح لك الانتقال من مقدمات صحيحة إلى نتيجةٍ صحيحة. أشهرها يُسمَّى «تأكيد المقدَّم» (تُكتب المقدمات فوق الخط، والنتيجة تحته):

إذا كان س فإذن ص
س
ص

«إذا كان شخص من الأشخاص امرأةً، فهو فانٍ. زانثيبي امرأة. من ثَم، فإن زانثيبي فانية.» من القواعد الأخرى للاستدلال الصحيح قاعدةٌ تُسمى «إنكار اللاحق» أو قانون عكس النقيض:

إن كان س فإذن ص
ليس س
ليس ص

«إذا كان شخصٌ ما امرأة، فإنها فانية. ستينو الجورجونة لا تموت. من ثَم ستينو الجورجونة ليست امرأة.»

تُعَد هاتان القاعدتان هما أشهر القواعد الصالحة للاستدلال لكنهما ليستا الوحيدتين على الإطلاق. فمنذ بدأ أرسطو صياغة المنطق وحتى أواخر القرن التاسع عشر، حين بدأ استخدامه في الرياضيات، كان المنطق في الأساس تصنيفًا للطرق المختلفة التي يجوز استخدامها في استنباطِ نتائجَ من مجموعاتٍ متنوعة من المقدمات، أو تلك التي لا يجوز استخدامها في ذلك. فعلى سبيل المثال، توجد طريقة الإضافة الفصلية، وهي طريقة صالحة، لكنها غير مجدية غالبًا:

س
س أو ص

«باريس في فرنسا. إذن، باريس في فرنسا أو الحصان أحادي القرن حقيقة». توجد أيضًا طريقة القياس الفاصل، وهي أكثر فائدة، وتُعرَف أيضًا بعملية الإقصاء:

س أو ص
ليس س
ص

«قُتل الضحية بأنبوب من الرصاص أو شمعدان. لم يُقتل الضحية بأنبوب من الرصاص. إذن، فقد قُتل الضحية بشمعدان.» يُحكى أنَّ عالِم المنطق سيدني مورجنبيسر وحبيبته ذهبا إلى جلسات المشورة الزوجية، وظل كلٌّ من الرفيقين المتشاحنين يبُثُّ شكواه من الآخَر بلا انقطاع. وأخيرًا قال لهما الاستشاري الحانق: «اسمعا، لا بد أن يتغيَّر أحدكما.» فأجابه مورجنبيسر: «حسنًا، أنا لن أتغيَّر. وهي لن تتغير. لذلك سيكون عليك أنت أن تتغير.»

ثمة طريقةٌ أخرى أكثرُ إثارة للاهتمام تتمثل في مبدأ الانفجار، المعروف كذلك باسم «التناقض يستتبع أيَّ شيء.»

س
ليس س
ص
لنفترض أنك تصدِّق س: «تقع هاكستابل في إنجلترا». ولنفترض أنك تصدِّق أيضًا ما ليس س: «لا تقع هاكستابل في إنجلترا». وبطريقة الإضافة الفاصلة يمكنك الانتقال من س إلى س أو ص، «تقع هاكستابل في إنجلترا أو الحصان الأحادي القرن حقيقة». وعندئذٍ تستطيع بالقياس الفاصل أن تنتقل من س أو ص وليس س إلى ص: «لا تقع هاكستابل في إنجلترا. وعليه فالحصان الأحادي القرن حقيقة». أهنئك! لقد أثبتَّ منطقيًّا للتو أن الحصان الأحادي القرن حقيقة. كثيرًا ما يخطئ الناس في اقتباس قول رالف والدو إمرسون: «الاتساق هو بعبع العقول التافهة.» لكنه في الحقيقة كتب عن الاتساق «الأحمق»، الذي نصح «الأرواح العظيمة» بالتسامي عليه، لكن انتقاده إشكالي في كلتا الحالتين.7 إن كان مجموع معتقداتك يتضمن تناقضًا، فبوسعك أن تصدِّق أي شيء. (لقد قال مورجنبيسر ذات مرة عن فيلسوف لم يكن يروق له: «ثمة شخص أكَّد كلًّا من س وما ليس س، ثم استنبط شتَّى النتائج.»)8

إنَّ إمكانية أن تسفر القواعد الصالحة للاستدلال عن نتائجَ غير معقولة تكشف عن نقطة مهمة بشأن الحجج المنطقية. كل ما تفعله الحجة «الصالحة» أنها تطبِّق قواعد الاستدلال تطبيقًا صحيحًا على المقدمات. هي لا تخبرنا سوى أنه «إذا» كانت المقدمات صحيحة، فلا بد أن تكون النتيجة صحيحة. غير أنها لا تقدِّم ضمانًا بما إذا كانت المقدمات صحيحة أم لا، ومن ثَم فهي لا تخبرنا بأي شيء عن صحة النتيجة. يمكن مقابلة هذا بالحجة «السليمة»، التي تطبِّق القواعد تطبيقًا صحيحًا على مقدمات صحيحة ومن ثَم تفضي إلى نتيجةٍ صحيحة. ها هي ذي حجة صالحة: «إذا فازت هيلاري كلينتون بانتخابات ٢٠١٦، فسيكون تيم كين نائب الرئيس في ٢٠١٧. تفوز هيلاري كلينتون بانتخابات ٢٠١٦. من ثَم، يصير تيم كين نائب الرئيس عام ٢٠١٧.» هي ليست حجة سليمة؛ لأن كلينتون لم تفُز بالانتخابات في الواقع. «إذا فاز دونالد ترامب بانتخابات ٢٠١٦، فسيصبح مايك بنس نائب الرئيس في ٢٠١٧. يفوز دونالد ترامب بانتخابات ٢٠١٦. من ثَم يصير مايك بنس نائب الرئيس في ٢٠١٧.» هذه الحجة صالحة وسليمة أيضًا.

يُعَد تقديم حجة صالحة باعتبارها سليمة مغالطةً شائعة. فالسياسي يَعِد قائلًا: «إن تخلصنا من الإهدار والغش في البيروقراطية، فسنتمكن من تخفيض الضرائب، ورفع الفوائد، وموازنة الميزانية. أنا سأتخلص من الإهدار والغش. لذلك، صوِّتوا لي وكل شيء سيصير أفضل.» من حسن الحظ أنَّ الناس يتمكَّنون غالبًا من تمييز الافتقار إلى السلامة، ولدينا فئة من الردود المفحِمة على المراوغ الذي يسوق نتائجَ معقولة من مقدِّمات مشكوك فيها: «هذا احتمال مستبعَد.» «لو كانت الأمنيات خيولًا، لامتطاها الشحاذون.» «لنفترض أن الأبقار كروية» (عبارة شائعة بين العلماء، مأخوذة من مزحة عن مزارعٍ استعان بعالِم فيزياء لزيادة إنتاج اللبن). وهناك عبارتي المفضَّلة، التي تقول باللغة اليديشية: «لو كان لدى جَدتي خصيتان، لصارت جَدي.»

يوجد العديد من الاستدلالات بالطبع التي هي ليست صالحة حتى. وجمع علماء المنطق الكلاسيكيون قائمةً بالاستدلالات غير الصحيحة، أو ما يُعرَف بالمغالطات الصورية، وهي تسلسل من العبارات قد يبدو فيه أنَّ النتائج مترتبة على المقدمات لكنها في الحقيقة ليست كذلك. أشهر هذه المغالطات هي مغالطة «إثبات التالي»: «إذا كان س فإذن ص. ص من ثَم س.» إن تمطر السماء، تبتل الأرض. الأرض مبتلة. إذن، لقد أمطرت السماء. هذه الحجة غير صالحة: فربما تكون شاحنة تنظيف الشوارع قد مرَّت للتو. ثمة مغالطة أخرى تُعَد مكافئة لها وهي «إنكار المقدَّم»: «إذا كان س. فإذن ص. ليس س. إذن ليس ص.» لم تمطر السماء، إذن فالشوارع ليست مبتلة. إنها ليست صالحة هي الأخرى، وللسبب نفسه. يمكن التعبير عن الأمر بطريقةٍ أخرى فنقول إنَّ عبارة إذا كان س فإذن ص لا تستلزم عكسها: إذا كان ص فسيكون س؛ ولا نقيضها: إذا لم يكن س فلن يكون ص.

غير أنَّ الناس يميلون إلى إثبات التالي، فيخلطون بين «س يقتضي ص» و«ص يقتضي س». ولهذا السبب، نجد أنه في اختبار واسون للاختيار، ذهب العديد من الناس الذين طُلب منهم التحقق من «إذا كان د فهناك ٣» لقلب البطاقة ٣. ولهذا السبب أيضًا يشجِّع السياسيون المحافظون المنتخِبين أن يتحولوا من الرأي القائل: «إذا كان أحد الأشخاص اشتراكيًّا، فهو ينتمي على الأرجح إلى الحزب الديمقراطي» إلى «إذا كان أحد الأشخاص من الديمقراطيين، فهو على الأرجح اشتراكي». وللسبب نفسه أيضًا يزعم المخبولون أن كل عباقرة التاريخ العظام كانوا محطَّ سخرية في عصورهم، ناسين أنه «إذا كان الشخص عبقريًّا، فالناس ستسخر منه» لا تعني «إذا سخر الناس من شخص، فهو عبقري». ولا بد للكسالى الذين يشيرون إلى أن أغلب الشركات التقنية الناجحة أنشأها أشخاصٌ لم يكملوا تعليمهم الجامعي، أن يضعوا هذا في اعتبارهم.

من حسن الحظ أنَّ الناس غالبًا ما يلحظون هذه المغالطة. الكثير ممن نشئوا منَّا في الستينيات ما زالوا يسخرون من محاربي المخدرات في هذا الوقت، والذين كانوا يقولون إن كل مدمنٍ للهيروين بدأ بالماريجوانا، وعليه فالماريجوانا هي بوابة المخدرات المؤدية إلى الهيروين. وكذلك نذكر إروين، المصاب بوسواس المرض الذي قال للطبيب: «إنني متأكد أنني مصاب بداء في الكبد.» فأجابه الطبيب: «هذا مستحيل. إن كنت مصابًا بداء في الكبد لم تكن لتعرف مطلقًا، فهو لا يسبِّب أيَّ ألم من أي نوع.» فردَّ عليه إروين قائلًا: «تلك هي أعراضي بالضبط!»

وبالمناسبة، لو كنت انتبهت لصياغة الأمثلة، للاحظت أنني لم أهتم بالاتساق في عبارات المقدمات والنتائج كما كان سيجدُر بي أن أفعل، إذا كان جوهر المنطق هو معالجة الرموز. وإنما جعلت أغيِّر أحيانًا من المسند والزمن والعدد وتصريف الفعل. فعبارة مثل: «شخص ما امرأة» تحوَّلت إلى «زانثيبي امرأة»؛ وتناوبت «أنت دعوت» مع «أوليفر يدعو»؛ وتبدَّلت «لا بد أن تعتمر خوذة» مع «يعتمر الطفل خوذة». لهذه الأنواع من التعديلات أهميتها؛ فعبارة «لا بد أن تعتمر خوذة» لا تتناقض بالفعل في ذلك السياق مع «طفل من دون خوذة». ولهذا استحدث علماءُ المنطق آلياتٍ منطقية أقوى تقسِّم المقدمات والنتائج في حساب القضايا إلى أجزاءٍ أدقَّ. من هذه الآليات حساب المحمول الذي يفرِّق بين الموضوع والمحمول وبين «كل» و«بعض»؛ والمنطق الطوري الذي يميِّز بين العبارات الصحيحة في هذا العالم، مثل «باريس عاصمة فرنسا»، والعبارات الصحيحة حتمًا في كل العوالم، مثل «٢ + ٢ = ٤»؛ والمنطق الزمني، الذي يفرِّق بين الماضي والحاضر والمستقبل؛ ومنطق التكاليف، الذي يُعنى بالمسموح واللازم والواجب.9

إعادة البناء الصوري

أي فائدة عملية تتحقَّق من القدرة على معرفة الأنواع المختلفة من الحجج الصالحة وغير الصالحة؟ إنها غالبًا ما تستطيع فضْح الاستدلال المغالط في الحياة اليومية. ينطوي الحِجاج العقلاني على إقامة أرضٍ مشتركة من مقدِّمات يقر الكل بصحتها، مع عبارات شرطية يتفق الكل على أنها تبني القضيةَ على قضية أخرى، ثم معالجتها بالقواعد الصحيحة للاستدلال التي تسفر عن النتائج المنطقية فحسب للمقدمات. لكن كثيرًا ما تحيد الحجج عن هذا النموذج الأمثل؛ فتستخدم قاعدةً معيبة للاستدلال، مثل إثبات التالي، أو تعتمد على مقدِّمة لم تُذكر صراحةً على الإطلاق، فتحوَّل القياس المنطقي إلى ما يسميه علماء المنطق القياس المضمر. الحق أنه ما من أحد من البشَر يمتلك الوقت أو سَعة الانتباه لذكر كل مقدمة لحجةٍ من الحجج وكل نتيجة لها، ومن ثَم فالغالبية العظمى من الحجج هي في الواقع قياسات مضمرة. بالرغم من ذلك، قد يكون من المفيد أن نفكِّك منطق الحجة إلى مجموعةٍ من المقدِّمات والشروط، فهو أفضل لملاحظة المغالطات والافتراضات الناقصة. تُسمى هذه العملية بإعادة البناء الصوري، وأحيانًا يكلف أساتذة الفلسفة طلابهم بها لشحذ قدراتهم على الاستدلال.

سنتناول الآن مثالًا عليها. تبنَّى مرشح الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية التمهيدية عام ٢٠٢٠، أندرو يانج، برنامجًا انتخابيًّا لتطبيقِ دخلٍ أساسي عام. فيما يلي اقتباس من موقعه الإلكتروني يبرِّر فيه السياسة (وقد رقَّمتُ العبارات):

(١) يتوقَّع أذكى الناس في العالَم الآن أن يفقد ثلث الأمريكيين عملَهم لصالح الآلات خلال ١٢ عامًا. (٢) سياساتنا الحالية ليست مؤهلة لمواجهة هذه الأزمة. (٣) إن لم يكن لدى الأمريكيين مصدر للدخل، فسيكون المستقبل قاتمًا جدًّا. (٤) غير أنَّ مبلغ ألف دولار شهريًّا في صورة دخل أساسي عام — تموِّله ضريبة القيمة المضافة — سيكفل استفادة كل الأمريكيين من الاستعانة بالآلات.10

العبارتان: (١) و(٢) مقدِّمتان واقعيتان؛ لنفترض أنهما صحيحتان. والعبارة (٣) شرطية، وغير خلافية. ثمَّة قفزة من (٣) إلى (٤)، لكن يمكن معالجتها في خطوتين. هناك شرط ناقص (لكنه منطقي)، (٢أ) «إن فقدَ الأمريكيون وظائفهم، فلن يكون لديهم مصدر للدخل»، ويوجد إنكار (صالح) للتالي في العبارة (٣)، وهو ينتج لنا: «حتى لا يصير المستقبل قاتمًا، لا بد أن يكون لدى الأمريكيين مصدرٌ للدخل». غير أنه عند إمعان النظر سنكتشف أن المقدَّم في العبارة (٢أ): «سيفقد الأمريكيون وظائفهم»، لم تُذكر صراحة قط. فكلُّ ما لدينا هو (١): «يتوقَّع» أذكى الناس في العالم أنَّ الأمريكيين سيفقدون وظائفهم. للانتقال من (١) إلى المقدَّم في العبارة (٢أ)، علينا أن نضيف شرطًا آخر، (١أ) «ما دام أذكى الناس في العالم يتوقَّعون شيئًا، فسوف يتحقق». لكننا نعلم أن هذا الشرط خطأ. فقد أعلن أينشتاين على سبيل المثال عام ١٩٥٢ أن إقامة حكومة عالمية: «س»، هو وحده ما سيحول دون تدمير البشَر الوشيك لأنفسهم: «ص»؛ (إن لم يكن س فإذن ص)، لكن الحكومة العالمية لم تتأسَّس: «ليس س»، ولم تدمر البشَرية نفسها: «ليس ص»؛ هذا على الأقل إن كان «الوشيك» معناها «خلال بضعة عقود». وعلى العكس من ذلك، قد تصدُق بعضُ الأشياء التي تنبَّأ بها أشخاص ليسوا الأذكى في العالم لكنهم خبراء في المسألة المعنية، وهي تاريخ التحوُّل لاستخدام الآلات في هذه الحالة. يتوقَّع بعض أولئك الخبراء أنه في مقابل كل وظيفة مفقودة لصالح الآلات، ستظهر وظيفةٌ جديدة لا يمكننا التنبؤ بها: فسوف يتدرَّب مشغِّلو الرافعات الشوكية العاطلون ليصيروا فنيين في إزالة الوشم، ومصممي ملابس لألعاب الفيديو، ومديري محتوى لوسائط التواصل الاجتماعي، ومعالجين نفسيين للحيوانات الأليفة. في تلك الحالة تصبح الحجة قاصرة: لن يفقد ثلث الأمريكيين وظائفهم بالضرورة، وسيكون الدخل الأساسي العام سابقًا لأوانه، لدرء أزمةٍ غير موجودة.

ليس الهدف من هذا التدريب انتقادَ يانج، الذي كان صريحًا في برنامجه الانتخابي لدرجةٍ تستحق الإعجاب، ولا لاقتراح أن نرسُم مخططًا منطقيًّا لكل حجة ندرسها، وهو ما سيكون مضجرًا إلى حدٍّ لا يُطاق. غير أنَّ ممارسة إعادة البناء الصوري، حتى وإن كانت جزئية، بإمكانه أن يكشف في كثير من الحالات عن الاستدلالات الخاطئة والمقدِّمات غير المذكورة في أي حجة والتي قد تبقى خفيةً لولا ذلك، وهي عادة تستحق أن ننميها.

التفكير النقدي والمغالطات غير الصورية

رغم أن المغالطات الصورية مثل إنكار المقدَّم قد تنكشف عند إعادة بناء الحجة صوريًّا؛ فالأخطاء الأكثر شيوعًا في الاستدلال لا يمكن تعيينها بهذا الأسلوب. فبدلًا من انتهاك صيغة الحجة انتهاكًا صارخًا في حساب القضايا، يستخدم المحاججون بعضَ الأساليب المغرية المقنعة نفسيًّا لكنها باطلة من الناحية العقلية. تُسمى هذه الأساليب مغالطات «غير صورية»، وقد أعطاها أنصارُ العقلانية أسماءً، وجمعوها بالعشرات، وأوردوها — هي والمغالطات الصورية — على صفحات إلكترونية، وملصقات، وبطاقات تعليمية، ومقرَّرات دورات «التفكير النقدي»11 للمراحل الجامعية الأولى. (لم أستطِع المقاومة؛ راجِعوا الفهارس.)
تنبع العديد من المغالطات غير الصورية من إحدى سمات الاستدلال البشَري المتأصلة جدًّا فينا حتى إنها كانت الضغط الانتخابي الذي سمح للاستدلال بالتطور، على حدِّ قول الباحثين في علوم الإدراك، دان سبيربر وهوجو مرسييه. هذه السمة هي أننا نحب الفوز بالمجادلات.12 في منبر المناقشة المثالي، يكون الفائز بالجدال هو صاحب الموقف الأشد إقناعًا. لكن قلَّة من الناس فقط هم مَن يتمتَّعون بالصبر الكافي الذي يجعلهم يقومون بإعادة البناء الصورية لإحدى الحجج وتقييم صحتها. فالمحادثات العادية تصبح متماسكة بقرائن بديهية تتيح لنا ربط الأمور بعضها ببعض حتى حين تحيد المناقشة عن الوضوح التلمودي. يمكن للمناظرين المهرة استغلال هذه العادات للإيهام بأنهم قد أقاموا قضيةً على أساس منطقي سليم في حين أنه آيل للسقوط في واقع الأمر.
من أبرزِ المغالطات غيرِ الصورية مغالطةُ «رجل القش»: صورة الخَصم التي تكون هزيمتها أسهلَ علينا من هزيمة الشخص نفسه. «يزعم نعوم تشومسكي أن الأطفال يُولدون متكلمين». «يقول كانمان وتفيرسكي إنَّ البشَر أغبياء». ثمَّة تنويعة أخرى من هذه المغالطة تظهر في المحادثات المباشرة، وهي تتجلَّى في الأسلوب الذي يمارسه المحاورون العدوانيون حين يقولون: «ما تقصده بكلامك إذن هو.» «التسلسلات الهرمية للهيمنة شائعةٌ في عالم الحيوان، حتى بين الكائنات البسيطة مثل الكركند.» «تقصد إذن أننا لا بد أن ننظِّم مجتمعاتنا على نهج الكركند.»13
ومثلما أنَّ المجادلين قد يقلبون قضيةَ خَصمهم خلسةً إلى قضيةٍ تكون مهاجمتها أسهلَ عليهم، فقد يقلبون قضيتهم نفسها إلى قضية أخرى يكون من الأسهل عليهم أن يدافعوا عنها. فربما ينخرطون في مغالطة «التوسُّل بالاستثناء»، فيعزون مثلًا فشلَ الإدراك المتجاوز الحواس في الاختبارات التجريبية إلى أنَّ الأجواء السلبية الصادرة عن المتشككين تعرقله. أو ربما يزعمون مثلًا أن الأنظمة الديمقراطية لا تشن الحروب مطلقًا، إلَّا اليونان القديمة، لكنها عرفت الرِّق؛ وإنجلترا في العصر الجورجي، لكن عامة الشعب فيها لم يكونوا يتمتَّعون بالحق في التصويت؛ وأمريكا القرن التاسع عشر، لكن النساء لم يكنَّ يتمتعن فيها بحق التصويت آنذاك؛ والهند وباكستان، لكنهما كانتا دولتين وليدتين. يمكنهم أيضًا تغيير المعايير، مطالبين ﺑ «وقف تمويل الشرطة» ثم يفسرون موقفهم بأنهم إنما يقصدون إعادةَ تخصيص جزء من ميزانيتها لموظفي الاستجابة لحالات الطوارئ. يطلق خبراء العقلانية على هذا الأسلوب اسم مغالطة «موت وبايلي»، على اسم قلعة العصور الوسطى التي كان بها برج ضيق لكن منيع يستطيع الشخص التراجع إليه عند هجوم الغزاة على الفِناء الملائم لكنه أقل تحصينًا.14 بإمكانهم أن يدَّعوا أن الاسكتلنديين لا يضيفون السكر إلى العصيدة، وعند مواجهة أنجْس (اسم اسكتلندي شائع) الذي يضيف السكر للعصيدة، يقولون إن أنجْس ليس اسكتلنديًّا حقيقيًّا. تفسر مغالطة «الاسكتلندي الحقيقي» أيضًا السبب في أنه لا يوجد إطلاقًا مسيحي حقيقي قاتل، ولا دولة شيوعية بحقٍّ قمعية، ولا مؤيد حقيقي لترامب يدعم العنف.

تتشابه هذه الأساليب مع «المصادرة على المطلوب»، وهي مغالطة غير صورية تتمثَّل في افتراضِ ما تحاول إثباته. تنطوي هذه المغالطة على تفسيراتٍ دائرية، مثل عبارة «التأثير المنوم» لموليير (تفسير طبيب لنوم الناس إثر تناول الأفيون)، والافتراضات المغرضة، كما في السؤال المألوف «متى توقَّفت عن ضربِ زوجتك؟» في إحدى النكات، يتفاخر رجلٌ بصوت المرتِّل العذب في معبده، فيرد آخرُ ساخرًا: «ها! لو كان لي صوته، لأصبحت في مهارته تمامًا.»

ويستطيع المرء على الدوام التمسُّك باعتقادٍ ما، مهما يكن، بالقول بأن «عبء البرهان» يقع على أولئك المعترضين. وقد ردَّ برتراند راسل على هذه المغالطة حين تحدَّوه أن يعلِّل سببَ أنه ملحد بدلًا من أن يكون لا أدريًّا، بما أنه لا يستطيع أن يثبت أن الرب غير موجود. فأجاب: «لا أحدَ يستطيع أن يثبت أنه لا يوجد بين الأرض والمريخ إبريق خزفي يدور في مدارٍ بيضاوي.»15 وأحيانًا ينتهج الطرفان المغالطة نفسها، مما يؤدي إلى أسلوب الجدال المدعو التراشق بالعبء. («عبء البرهان عليك». «لا، عبء البرهان عليك أنت».) الواقع أنه بما أننا نكون جاهلين في البداية بكل شيء، فإن عبء البرهان يقع على أي شخص يود أن يثبت شيئًا. (وكما سنرى في الفصل الخامس، يقدِّم الاستدلال البايزي طريقةً مستندة إلى مبادئ، للاستدلال بشأن تحديد مَن يقع عليه عبء البرهان حين تتراكم المعرفة.)
ثمة أسلوبٌ آخر للتضليل يُدعى tu quoque، وهي عبارة لاتينية معناها «أنت أيضًا»، وهي تُعرَف أيضًا باسم أسلوب «ماذا عن؟». لقد كان من الأساليب المفضَّلة لدى المدافعين عن الاتحاد السوفييتي في القرن العشرين، الذين تقدَّموا بالدفاع التالي عن قمعه الشمولي: «ماذا عن الطريقة التي تُعامِل بها الولايات المتحدة زنوجها؟» وفي فكاهةٍ أخرى، تعود امرأةٌ من عملها مبكرًا فتجد زوجها يخونها مع أعزِّ صديقاتها. يسألها الرجل المذعور: «ما الذي عاد بكِ مبكرًا؟» فتجيبه: «ماذا تفعل أنت في الفراش مع أعزِّ صديقاتي؟!» فيصيح غاضبًا: «لا تغيِّري الموضوع!»
يُعَد زعم «أذكى الناس في العالم» الذي جاء به أنصارُ يانج مثالًا بسيطًا على مغالطة «الاحتكام لسلطة». غالبًا ما تكون السلطة المذعَن لها دينية، على نحوِ ما يرد في الأغنية الدينية وملصقات السيارات: «الرب قالها، وأنا آمنت بها، وهذا يحسم الأمر.» لكنها من الممكن كذلك أن تكون سياسية أو أكاديمية. كثيرًا ما تدور جماعات المثقفين في فلك مرشد وتصير تصريحاته بمثابةِ إنجيلٍ عِلماني لها. فنحن نجد أنَّ العديد من المقالات الأكاديمية تبدأ بعبارات على غرار: «كما علَّمنا دريدا …» أو فوكوه، أو باتلر، أو ماركس، أو فرويد، أو تشومسكي. ينكر خيرة العلماء هذا الأسلوب في الحديث، لكنَّ الآخرين ينصِّبونهم أحيانًا في مكانة المرجعيات. فكثيرًا ما أتلقَّى خطاباتٍ تنتقدني لقلقي من تغيُّر المناخ الناجم عن نشاط البشَر، وتكون حجةُ الانتقاد أن عالِم الفيزياء الفذ هذا أو الحائز على جائزة نوبل ذاك ينفيه. ومع ذلك، ليس أينشتاين هو المرجعية العلمية الوحيدة الذي كانت آراؤه خارجَ مجال تخصصه أقلَّ من أن يُعتد بها. في مقالةٍ بعنوان «مرض نوبل: حين يعجز الذكاء عن الحماية من اللاعقلانية»، يعدِّد سكوت ليليانفيلد وزملاؤه المعتقدات العجيبة لنحو عشرٍ من القامات العلمية؛ من هذه المعتقدات: علم تحسين النسل، والعلاج بجرعات ضخمة من الفيتامينات، والتخاطر، والطب التجانسي، وعلم التنجيم، والعلاج بالأعشاب، والتزامن، والعلوم العِرقية الزائفة، والاندماج البارد، وعلاجات غريبة للتوحُّد، وإنكار أن الإيدز ينتج عن فيروس العوز المناعي البشَري.16
على غرارِ مغالطة الاحتكام لسلطة، تستغل مغالطة «عربة الفرقة» أننا رئيسيات اجتماعية تعيش ضمن تسلسل هرمي. «يعتقد أغلب الناس الذين أعرفهم أن التنجيم علمي، فلا بد إذن أنه ينطوي على شيء من الصحة.» قد لا يكون صحيحًا أن «الأغلبية دائمًا خطأ»، لكن المؤكَّد أنها ليست محقَّة على الدوام.17 وها هي ذي كُتب التاريخ مليئة بالهوس والخرافات والاضطهاد للمعارضين، وغيرها من الضلالات العجيبة الرائجة وهياج الحشود.

من أوجه الضرر الأخرى التي تنال الفكرَ من المجال الاجتماعي، محاولةُ دحض الفكرة بإهانة شخص الفرد الذي يتبنَّاها أو دوافعه أو مواهبه أو قيمه أو آرائه السياسية. تُسمى هذه المغالطة «الاحتجاج بالشخص» أو الهجوم على الشخص. وتؤكِّدها لنا في صورة بسيطة، لكن شائعة، شخصية «وُلي» في سلسلة الرسوم الهزلية، ديلبرت:

figure
ديلبرت، حقوق النشر محفوظة لشركة سكوت آدمز بتاريخ ٢٠٢٠. بتصريح من وكالة أندروز ماكميل. جميع الحقوق محفوظة.

كثيرًا ما يكون تعبيرنا عن هذه المغالطة أكثرَ تهذيبًا لكنه ليس أقل خطأً. «لسنا مضطرين إلى أن نأخذ حجةَ سميث على محمل الجَد؛ فهو ذكرٌ أبيضُ مغاير جنسيًّا (عبارة صارت تُقال على سبيل الإهانة للأشخاص المتمتعين بكل الامتيازات) ويدرِّس في كلية لإدارة الأعمال.» «السبب الوحيد لزعمِ جونز بحدوث تغيُّر مناخي أنه يكفُل لها مِنحًا وزمالات ودعوات لإلقاء خُطبٍ على منصة تيد.» وثمة أسلوب آخر شبيه بذلك يتمثل في «مغالطة المنشأ». وهي تشير إلى تقييم الفكرة وفقًا لمنشئها لا صحتها. «حصل براون على بياناته من مرجع «كتاب حقائق العالم» الذي تصدِره وكالة الاستخبارات المركزية، ووكالة الاستخبارات الأمريكية أطاحت بحكومات ديمقراطية في جواتيمالا وإيران.» «استشهد جونسون بدراسةٍ موَّلتها مؤسسةٌ كانت تؤيد تحسين النسل.»

تجتمع مغالطةُ الاحتجاج بالشخص ومغالطة المنشأ معًا في بعض الأحيان لاختلاق سلاسل من الذَّنب بالتبعية: «لا بد من رفضِ نظرية ويليام؛ لأنه تحدَّث في مؤتمرٍ نظَّمه شخصٌ نشر مجلدًا يحتوي على فصلٍ كتبه شخص قال شيئًا عنصريًّا.» صحيح أنَّ أحدًا لا يستطيع أن ينفي متعةَ الاتحاد ضد شخص شرير، لكن مغالطة الاحتجاج بالشخص ومغالطة المنشأ باطلتان فعلًا: فمن الممكن أن يكون لدى الطيبين أفكارٌ سيئة وقد يحدُث العكس أيضًا. ومن الأمثلة الدقيقة على ذلك أن بعض المعلومات التي من شأنها إنقاذُ الأرواح في مجال الصحة العامة، مثل تسبُّب دخان التبغ في السرطان، اكتشفها في الأصل علماء نازيون، وكان مما يسُرُّ شركات التبغ أن ترفض الاعتراف بالعلاقة بين التدخين والسرطان لأنه «علمٌ نازي».18

توجد أيضًا حججٌ موجَّهة مباشرةً للنظام الحوفي في الدماغ [المعني بالاستجابات العاطفية] لا القشرة الدماغية [المعنية بالتفكير]. من هذه المغالطات «التوسُّل بالعاطفة»: «كيف يمكن لأحدٍ أن يرى صورة أب وأم مفجوعين على طفلهما الميت، ويقول إن الوفيات الناتجة عن الحروب قد انخفضت؟» ومنها أيضًا «مغالطة التأثير العاطفي» المتزايدة الانتشار، والتي تنطوي على إمكانية رفض عبارةٍ ما دامت «جارحة» أو «مؤذية» أو قد تسبِّب «ضيقًا». هنا نرى طفلًا يقع في مغالطة التأثير العاطفي:

figure
ديفيد سيبريس/مجموعة «ذا نيويوركر»/موقع ذا كارتون بنك.

ثمة الكثير من الحقائق المؤلمة لا شك: التاريخ العنصري للولايات المتحدة، والاحترار العالمي، والتشخيص بالسرطان ودونالد ترامب. لكنها كلها حقائقُ رغم ذلك، ولا بد أن نعرفها، حتى نواجهها على نحوٍ أفضل.

كان المألوف أن تُعالج مغالطات الاحتجاج بالشخص ومغالطة المنشأ ومغالطة التأثير العاطفي باعتبارها أخطاءً غبية أو خُدَعًا فاسدة دنيئة. وكان مدرِّسو التفكير النقدي ومدرِّبو المناظرات في المدارس الثانوية يعلِّمون طلابهم كيف يمكنهم اكتشافها ودحضها. غير أنها في واحدة من مهازل الحياة الفكرية الحديثة صارت هي العملة الدارجة. فراحت المغالطات تُطبَّق باستمتاع نَهِم في قطاعات عريضة من الأوساط الأكاديمية والصحافة، حيث تُهاجَم الأفكار أو تُقمَع لأن أنصارها قد وُصِموا بأفعال شائنة، وإن كان ذلك من قرون مضت في بعض الأحيان.19 يعكس هذا تحوُّلًا في تصور الفرد لطبيعة المعتقدات: من أفكار ربما تكون صائبة أو خاطئة إلى تعبير عن هوية الشخص الأخلاقية والثقافية. كما أنه يدُل على تحوُّل في طريقة تصوُّر العلماء والنقاد لمهمتهم: من البحث عن المعرفة إلى النهوض بالعدالة الاجتماعية وغيرها من القضايا الأخلاقية والسياسية.20

من المؤكَّد أن سياق العبارة أحيانًا ما يكون ضروريًّا لتقييم صحتها. ومن الممكن أن يعطينا هذا انطباعًا خاطئًا بأنه لا بأس بالمغالطات غير الصورية على كل حال. يجوز أن ننظر بتشكُّك إلى دراسةٍ تثبِت كفاءةَ عقَّارٍ ما أجراها شخص يحتمل أن يحقِّق فائدة من العقَّار، لكن ملاحظة تضارب المصالح ليس مكافئًا لمغالطة الهجوم على الشخص. يمكننا أيضًا أن نرفض زعمًا قائمًا على وحي إلهي أو تأويل لنصوص قديمة أو قراءة أحشاء الماعز: [التنجيم بتفحص أحشاء حيوانات الأضحية]؛ هذا الدحض ليس من قبيل مغالطة المنشأ. يجوز لنا أيضًا أن نأخذ بعين الاعتبار ما توصَّل إليه العلماء من إجماعٍ وشيك لنقابل به الادعاءَ بأننا لا بد ألا نكون حاسمين بشأنِ مسألةٍ ما لأنَّ الخبراء يختلفون عليها؛ فلسنا نرتكب بهذا مغالطةَ عربة الفرقة. يمكننا أيضًا فرضُ أقصى معايير الإثبات لفرضيةٍ ستستدعي صحَّتها إجراءاتٍ صارمة؛ ولسنا نرتكب بذلك مغالطةَ التأثير العاطفي. يكمُن الفَرق في أنه في حالة الحجج المشروعة يمكن للشخص تقديمُ «الأسباب» التي ستجعل سياقَ العبارة يؤثِّر على قبولنا لصحتها من عدمه، مثل توضيح درجة جدارة الدليل بالثقة. أما في حالة المغالطات، فإنَّ الفرد يستسلم للمشاعرَ التي لا تمتُّ لصحة الادعاء بصلةٍ.

مع كل هذه المغالطات الصورية وغير الصورية التي تتحيَّن الفرصة لخداعنا إذن (تسرد ويكيبيديا أكثرَ من مائة)، لماذا لا يمكننا التخلُّص من هذه التُّرهات إلى الأبد وتطبيق خطة ليبنتز للخطاب المنطقي؟ لماذا لا يمكننا أن نجعل عملياتنا الاستدلالية بالإحكام الذي يتسم به الاستدلالُ الرياضي بحيث نستطيع أن نرصد أخطاءنا من أول وهلة؟ لماذا، ونحن في القرن الحادي والعشرين، لم يزل لدينا جدالات في الحانات، وحروب على «تويتر»، واستشارات زوجية، ومناظرات رئاسية؟ لماذا لا نقول «لنُجرِ الحسابات» ونرَ مَن المصيب؟ إننا لا نعيش في يوتوبيا ليبنتز، ولن نفعل أبدًا، لا هي ولا غيرها من المدن الفاضلة. وثمَّة أسبابٌ ثلاثة على الأقل لذلك.

الحقائق المنطقية مقابل الحقائق التجريبية

من الأسباب التي لن تجعل المنطق يحكم العالم أبدًا، ذلك التباين الجوهري بين القضايا «المنطقية» و«التجريبية»، وهو ما يسميه هيوم «العلاقات بين الأفكار» و«أمور الواقع»، ويسميه الفلاسفة بالتحليلي والتركيبي. فلتحديدِ ما إذا كانت عبارة: «كل العزاب غير متزوجين» صحيحة أم لا، كلُّ ما عليك فِعله هو أن تعرف ما تعنيه الكلمات، مستبدلًا بكلمة عازب عبارة «ذكر وبالغ وليس متزوجًا»، وتتحقَّق من جدول الحقيقة. لكنك إذا أردت التحقُّق مما إذا كانت عبارة «كل البجع أبيض» صحيحة، فعليك بالنهوض عن كرسيك والبحث. إذا زُرت نيوزيلندا، فستكتشف أن القضية خاطئة؛ لأن البجع هناك أسْود.

كثيرًا ما يُقال إنَّ ما دشَّن الثورةَ العلمية في القرن السابع عشر أنَّ الناس بدءُوا يدركون أن العبارات التي تتناول العالَم المادي تجريبية ولا يمكن إثباتها إلا بالملاحظة، لا الحِجاج المستنِد إلى الفلسفة المدرسية. وترِد عن ذلك قصة طريفة منسوبة لفرانسيس بيكون هي كما يلي:

في سنة ١٤٣٢ ميلادية، نشب بين إخوة الدِّين خلافٌ خَطِرٌ بشأن عدد الأسنان الموجودة داخل فم الحصان. وظلَّ النزاع محتدِمًا دون توقُّف طوال ثلاثة عشر يومًا. فجيء بكل الكتب والسجلات القديمة، وتجلَّى فيهم اجتهادٌ رائع في العلم وتروٍّ على نحوٍ لم يُشهد من قبلُ في هذه المنطقة. وفي بداية اليوم الرابع عشر، جاء راهبٌ حَسن الشمائل ليسأل رؤساءه المتفقهين أن يسمحوا له بإضافة كلمة، وفي الحال، ومما أدهش المتنازعين، الذين أحنق حكمتَهم البالغةَ أشدَّ الإحَناق، أنه ناشدهم بأسلوب فظٍّ وغير معهود أن يهدءُوا وينظروا في فم الحصان المفتوح ويجدوا الإجابةَ على أسئلتهم. وعندئذٍ، لما انجرحت كبرياؤهم بشدة، استبدَّ بهم الغضب حتى بلغ أوجَه؛ فاهتاجوا هِياجًا عظيمًا مجتمعين، وأقبلوا عليه وجعلوا يضربونه، ضربًا مبرِّحًا، وطردوه في الحال. فقد رأوا أن الشيطان لا بد أنه أغوى هذا الراهب الغِر الجريء ليتحدَّث بأساليبَ آثمةٍ وغير معهودة للعثور على الحقيقة، تناقض كل تعاليم آبائنا.

حسنًا، من المؤكَّد تقريبًا أن هذه الواقعة لم تحدُث قط، ومن غير المرجح أن يكون بيكون قال إنها حدثت.21 لكن القصة تجسِّد أحد الأسباب في أننا لن نحسِم شكوكنا أبدًا بالجلوس وإجراء الحسابات.

العقلانية الصورية مقابل العقلانية البيئية

يكمُن السبب الثاني الذي يحول دون تحقُّق حُلم ليبنتز على الإطلاق في طبيعة المنطق الصوري: إنه «صوري»، غافل عن رؤية أيِّ شيء سوى الرموز وترتيبها عند إفرادها أمام القائم بالاستدلال. إنه يعمى عن «محتوى» القضية: ما تعنيه تلك الرموز وما قد يدخل في عملية الدراسة من سياق ومعلومات أساسية. إنَّ المعنى الدقيق للاستدلال المنطقي هو نسيان كلِّ ما تعرفه. فالطالب الذي يخضع لاختبارٍ في الهندسة الإقليدية لن ينال أيَّ إشادة لأنه رسم بالمسطرة مثلثًا وجعل زاويتي ضلعيه متساويتين، وإن كان ذلك قد يكون معقولًا في الحياة الواقعية، بل المطلوب منه أن يثبت ما فعله بالبرهان. على النحو نفسه، ينبغي ألَّا يتشتت الطلاب الذين يحلون التدريبات المنطقية في كتاب كارول الدراسي بمعرفتهم غير المهمة في هذا السياق بأن الجِراء لا تستطيع الكلام. فالسبب الوحيد الوجيه لاستنتاج أن الجرو الأعرج لم يقُل: «شكرًا» هو أن هذا هو المنصوص عليه في عاقبة العبارة الشرطية التي صحَّت مقدمتها.

المنطق، بهذا المعنى، ليس عقلانيًّا. ففي العالَم الذي تطوَّرنا فيه، وفي الجزء الأكبر من العالَم الذي نُمضي فيه أيامنا، ليس من المنطقي على الإطلاق أن تتجاهل كل ما تعلمه.22 لكنه منطقي في عوالمَ غير طبيعية بعينها، مثل دورات المنطق، والأحاجي، وبرمجة الكمبيوتر، والإجراءات القانونية، واستخدام العلوم والرياضيات في المجالات التي يكون فيها الحس البديهي عاطلًا أو مضللًا. أما في العالَم الطبيعي، فيبلي البشَرُ بلاءً حسنًا بالدمج بين قدراتهم المنطقية ومعارفهم الموسوعية، مثلما رأينا في الفصل الأول مع قبائل البوشمن. رأينا أيضًا أننا حين نضيف أنواعًا معيَّنة من الواقعية إلى الأحاجي، يستخدم الناس معلوماتهم المعنية ولا يخطئُون حينئذٍ. فحين يُطلب منهم التثبُّت من: «إن كانت البطاقة تحمل حرف «د» على وجهٍ فلا بد أن تحملها ٣ على الوجه الآخر»، يُخطِئون بقلب البطاقة التي تحمل «٣» ويتجاهلون قلب البطاقة التي تحمل «٧». غير أنه حين يُطلب منهم تخيُّل أنفسهم حراسًا في حانة والتأكُّد من: «إذا كان الزبون يحتسي كحوليات فلا بد أن سنَّه تزيد على ٢١ عامًا»، يدركون أنه ينبغي لهم التحقُّق من المشروبات الموجودة أمام المراهقين والتحقُّق من بطاقةِ أي شخص يحتسي الجِعَة.23
إنَّ التناقض بين العقلانية «البيئية» التي تسمح لنا بالتقدُّم في بيئةٍ طبيعية والعقلانية «المنطقية» التي تستدعيها الأنظمة الصورية، هو إحدى السمات المميزة للحداثة.24 فقد أثبتت الدراسات التي أجراها اختصاصيو علم النفس الثقافي وعلم الأنثروبولوجيا على شعوبٍ غير متعلمة، أنهم متعمِّقون في نسيج الواقعية الثري ولا يطيقون صبرًا على العوالم المفترضة المألوفة بين خريجي نظام التعليم الغربي. فيما يلي حوارٌ أجراه مايكل كول مع أحد أفراد شعب كبيلي في ليبيريا:
  • س: دائمًا ما يشرب فلومو وياكبالو الرُّم معًا. فلومو يحتسي الرُّم. فهل يحتسي ياكبالو الرُّم؟
  • ج: فلومو وياكبالو يشربان الرُّم معًا، لكن حين كان فلومو يحتسي الرُّم في المرة الأولى لم يكن ياكبالو هناك في ذلك اليوم.
  • س: لكنني أخبرتك أن فلومو وياكبالو يشربان الرُّم معًا دائمًا. وذات يوم كان فلومو يحتسي الرُّم. فهل كان ياكبالو يحتسي الرُّم؟
  • ج: حين كان فلومو يحتسي الرُّم لم يكن ياكبالو موجودًا في ذلك اليوم.
  • س: وما السبب؟
  • ج: السبب أن ياكبالو ذهب إلى مزرعته في ذلك اليوم بينما ظلَّ فلوم في البلدة ذلك اليوم.25
يعالج رجل الكبيلي السؤال كأنه استفسارٌ حقيقي، وليس أحجيةً منطقية. وإجابته وإن كانت ستُعَد خطأً في الاختبارات، ليست غير عقلانية بالمرة: فهو يستخدم معلومات مناسبة ليخرج بالإجابة الصحيحة. لقد تعلَّم الغربيون المثقَّفون كيف يلعبون لعبة نسيان ما يعرفونه ويركِّزون اهتمامهم على مقدِّمات المشكلة، وحتى هم يجدون صعوبةً في الفصل بين معلوماتهم الواقعية واستدلالهم المنطقي. فالعديد من الأشخاص سيصرُّون على أن الحجة التالية مثلًا غير صالحة منطقيًّا: «كل الأشياء المصنوعة من نباتات صحية. السجائر مصنوعة من نباتات. إذن فالسجائر صحية.»26 عند تغيير «سجائر» إلى «سلاطة» يقرُّون بأنها لا بأس بها. ويُحبَط أساتذة الفلسفة الذين يطرحون على طلابهم تجاربَ فكريةً مختلَقة، مثل ما إذا كان مقبولًا أن نلقي برجل بَدين من فوق جسر لإيقاف عربة ترام خارجة عن السيطرة تهدِّد حياةَ خمسة عاملين على الخط، حين يبحث الطلاب عن مخارج، مثل الصِّياح بالعاملين للابتعاد عن الطريق. بَيد أن ذلك بالضبط هو التصرُّف العقلاني الذي نفعله في الحياة الواقعية.

مع اختراع صيغٍ وقواعدَ محكَمة تتجاهل المحتوى، يشهد العالَم الحديث توسُّع المجالات التي نلعب فيها ألعابًا صورية تحكمها القواعد، مثل القانون والعلوم والأجهزة الرقمية والبيروقراطية. غير أنها لم تزل دون مستوى الحياة بكل ثرائها. ليس الأمر أنَّ يوتوبيا ليبنتز المنطقية، التي تستدعي فقدانَ ذاكرة متعمَّد للمعارف العامة، تتعارض مع جوهر الإدراك البشَري فحسب، بل هي لا تناسب عالَمًا لا تصلح كل واقعة من وقائعه المعنية كمقدمة.

الفئات الكلاسيكية مقابل فئات التشابه العائلي

ثمة سببٌ ثالث سيجعل من المحال أن تُختزَل العقلانية في المنطق، وهي أنَّ المفاهيم التي يُعنى بها الناس تختلف اختلافًا حاسمًا عن المحمولات في المنطق الكلاسيكي. لنتناول على سبيل المثال، المحمول: «العدد الزوجي»، الذي يمكن تعريفه بالعبارة الشرطية المزدوجة «إذا كان العدد الصحيح يقبل القسمة على اثنين من دون باقٍ، فهو زوجي، والعكس صحيح». العبارة الشرطية المزدوجة صحيحة، وكذلك القضية «ثمانية تقبل القسمة على اثنين من دون باقٍ»، ومن هاتين المقدمتين الصحيحتين يمكننا استنباط النتيجة الصحيحة أن «ثمانية عدد زوجي». ينطبق الأمر نفسه على: «إذا كان شخصٌ أنثى وأمًّا لوالد، فهي جَدة، والعكس صحيح» و«إذا كان شخصٌ ما ذكرًا وبالغًا وغيرَ متزوج، فهو عازب، والعكس صحيح». وقد نفترض أنه من الممكن مع الجهد الكافي أن نعرِّف كلَّ مفهوم بشَري على هذا النحو؛ أي بوضع الشروط الضرورية له لأن يكون صحيحًا (تركيب «إذا … فمن ثَم» في العبارة الشرطية المزدوجة)، والشروط الكافية له لأن يكون صحيحًا (تركيب «العكس بالعكس»).

باقتدار بدَّد هذا الحُلم الفيلسوف لودفيج فيتجنشتاين (١٨٨٩–١٩٥١).27 لقد تحدَّانا أن «نحاول» فقط العثورَ على الشروط الضرورية والكافية لأيٍّ من مفاهيمنا اليومية. ما القاسم المشترك بين كل أساليب التسلية التي نسميها «ألعابًا»؟ النشاط البدني؟ لا ينطبق هذا على حالة ألعاب الطاولة. المرَح؟ لا ينطبق هذا في حالة الشطرنج. المتنافسون؟ لا ينطبق هذا في حالة لعبة سوليتير. المكسب والخسارة؟ هذا لا ينطبق في حالة الأطفال الذين يدورون في حلقةٍ وهم يغنُّون ولا الطفل الذي يقذف بالكرة إلى الجدار. المهارة؟ لا ينطبق هذا في حالة لعبة بينجو. الحظ؟ لا ينطبق على أحاجي الكلمات المتقاطعة. هذا كله ولم يعِش فيتجنشتاين ليرى الفنون القتالية المختلطة، أو بوكيمون جو، أو «ليتس ميك أديل».28

ليست المشكلة أنه لا يوجد أيُّ شيء مشترَك بين أي لعبتين. فبعض الألعاب يتسم بالمرَح، مثل المسَّاكة واللعبات التحزيرية؛ ويوجد في بعضها فائزون، مثل مونوبولي وكرة القدم؛ وبعضها يقوم على القذف مثل البيسبول والأقراص. ما قصده فيتجنشتاين هو أنَّ مفهوم «اللعبة» لا ينطوي على قاسم مشترَك؛ أي إنه يفتقر إلى وجود سِمات ضرورية وكافية يمكن تحويلها إلى تعريف. كلُّ ما ينطوي عليه هو صفات مميزة متنوعة موزَّعة في المجموعات الفرعية المختلفة للفئة، مثلما قد توجد السِّمات الجسدية في توليفات مختلفة لدى أفراد نفس الأسرة. فليس كل ابن من أبناء روبرت كارداشيان وكريستين ماري جينر لديه سمات آل كارداشيان المميزة من الشفاه البارزة والشعر الأسود الفاحم والبشَرة الخمرية والأرداف الممتلئة. لكن الغالبية العظمى من الشقيقات يتمتعن ببعضها؛ ولذلك فإننا نستطيع تمييزَ الفرد من آل كارداشيان فور أن نراه، حتى وإن لم تكن هناك قضية فعلية تقول: «إذا كان شخص من الأشخاص لديه «س» و«ص» و«ع»، فذلك الشخص من آل كارداشيان.» خلَص فيتجنشتاين إلى أن التشابه العائلي لا السمات الضرورية والكافية، هو ما يربِط أفراد الفئة معًا.

تبيَّن أن أغلب مفاهيمنا اليومية تنتمي إلى فئة التشابه العائلي، وليس الفئات «الكلاسيكية» أو «الأرسطية» التي يسهُل تحديدها بالمنطق.29 غالبًا ما تكون لهذه الفئات صورٌ نمطية، مثل صورة الطائر الصغيرة التي تراها في القاموس بجانب تعريف «طائر»، لكن التعريف نفسه يقصُر عن احتواء النماذج كلها دون غيرها. فالفئة «كراسي» على سبيل المثال، تشمل الكراسي ذات العجلات التي ليس لديها أرجل، والمقاعد الدوارة التي ليس لها ظهر، والكراسي الإسفنجية الخالية من المقعد، والمقاعد السهلة التحطُّم المستخدَمة في مشاهد العِراك في هوليوود، التي لا تحتمل الجلوس عليها. حتى الفئات التي كانت تبدو كلاسيكية والتي اعتاد أساتذة الجامعة ذِكرها للدلالة على المفهوم، تبيَّن أنها مفعمة بالاستثناءات. فهل يوجد تعريف لكلمة «الأم» يجمع الأمهات المتبنيات، والأمهات بتأجير الرحم، والمتبرعات بالبويضات؟ إذا كان «العازب» رجلًا غير متزوج، فهل البابا عازب؟ ماذا عن رجلٍ مخلِص لشريكة واحدة أو شريك واحد، لكنه لم يأبه قط للحصول على ورقةٍ بالزواج من مجلس المدينة؟ ويمكنك أن تقع في متاعبَ جمةٍ هذه الأيام إذا حاولت أن تضع الشروط الضرورية والكافية لتعريف «امرأة».

وكأن هذا ليس كافيًا للقضاء على الأمل في منطق عالمي، فحقيقة أن المفاهيم تتحدَّد بناءً على التشابه العائلي لا الشروط الضرورية والكافية تعني أنه لا يمكن حتى إعطاء القضايا قيمةَ الصواب أو الخطأ. ذلك أنَّ محمولاتها قد تكون أصوبَ مع موضوعات من موضوعات أخرى، وفقًا لدرجةِ نمطية الموضوع؛ أي عدد ما يمتلكه من السِّمات النموذجية للعائلة. يتَّفق الكل أنَّ القضية: «كرة القدم رياضة» صائبة، بينما يرى الكثيرون أنَّ: «السباحة التزامنية رياضة» قضية شبه صائبة على أحسن تقدير. الأمر نفسه ينطبق على القضايا: «البقدونس من الخضراوات»، و«مخالفة انتظار السيارات جريمة»، و«السكتة الدماغية مرض»، و«العقارب من الحشرات». ففي أحكامنا اليومية، من الممكن أن يكون الصواب مبهمًا.

على الرغم من ذلك، لا تنتمي المفاهيم «كلها» إلى فئات التشابه العائلي المبهمة.30 فالبشَر قادرون تمامًا على وضع حدود واضحة بين الأشياء. يدرك الجميع مثلًا أن العدد إما أن يكون زوجيًّا أو فرديًّا، وما من منطقة وسطى بينهما. ونحن نتندر بالقول إنه لا يمكن لامرأة أن تكون حبلى بعض الشيء أو لرجل أن يكون متزوجًا قليلًا. إننا نفهم القوانين التي تستبق النزاعات اللانهائية بشأن قضايا مبهمة برسم خطوط حمراء حول مفاهيم مثل «بالغ» و«مواطن» و«مالك» و«زوج» وغيرها من الفئات المهمة.

الواقع أنَّ ثمة فئة كاملة من المغالطات غير الصورية التي تنتج عن تهافت الناس على التفكير في الأمور وفقًا لقواعدَ محدَّدة وجامدة؛ فلا يرون منها سوى الأبيض والأسود. منها على سبيل المثال مغالطة «القسمة الثنائية الزائفة»، التي تتجلى في عبارات على غرار: «الطبيعة مقابل التربية»؛ «أمريكا، إما أن تحبها أو تغادرها»؛ «إما أن تكون معنا أو تكون مع الإرهابيين»؛ «إما أن تكون جزءًا من الحل أو تكون جزءًا من المشكلة.» توجد أيضًا مغالطة «المنحدر الزلق»: إن شرَّعنا الإجهاض، فلن نلبث حتى نشرِّع قتل الأطفال؛ إن سمحنا للناس بالزواج من شخص ليس من الجنس المغاير، فسيصير علينا السماح للناس بالزواج من فردٍ من نوع آخر. وثمَّة مغالطة أخرى أيضًا هي «مفارقة الكومة» التي تبدأ بحقيقةِ أنه إذا كان لدينا كومة، فستظل كومة إن أزلت منها ذرة واحدة. غير أنك حين تزيل واحدة أخرى، ثم واحدة أخرى، فلن تبقى كومة حينئذٍ، وهو ما يوحي بأنه لا يوجد كومة من الأساس. بالمنطق نفسه، ستُنجز المهمة حتى إن أجَّلتها يومًا آخرَ فقط، وتلك «مغالطة التأجيل لأجلٍ غير محدَّد»؛ ولا يمكن أن أصير بدينًا بتناول قطعة بطاطا مقلية أخرى فقط، وهي «مغالطة الحمية الغذائية».

إنَّ تعقيب فيتجنشتاين على ليبنتز وأرسطو لا يقتصر على كونه موضوعًا للنقاش في ندوات الفلسفة فحسب. ذلك أنَّ العديد من أعنف خلافاتنا تتعلَّق بقرارات بشأن السبيل للمواءمة بين مفاهيم التشابه العائلي الضبابية والفئات الكلاسيكية التي يقتضيها المنطق والقانون. هل تُعَد البويضة الملقَّحة «شخصًا»؟ هل مارس بيل ومونيكا «الجنس»؟ هل العربة الرياضية متعدِّدة الأغراض «سيارة» أم «شاحنة»؟ (وهذا التصنيف الأخير قد وضع عشرات ملايين العربات على طرقٍ أمريكية خاضعة لمعايير أكثرَ تراخيًا فيما يتعلَّق بالسلامة والانبعاثات.) ومنذ فترة ليست بالطويلة تلقيت البريد الإلكتروني التالي من الحزب الديمقراطي:

سيفرض الجمهوريون في مجلس النواب هذا الأسبوع تشريعًا من أجل تصنيف البيتزا كنوع من «الخضراوات» من أجل وجبات الغداء في المدارس. لماذا؟ لأن شركات البيتزا المجمَّدة تمارس محاولاتٍ جبارة للضغط على المشرعين الجمهوريين …

في هذا الكونجرس الجمهوري، يمكن بيعُ أي شيء تقريبًا للأقوى من جماعات الضغط — وفي ذلك التعريف الحرفي لكلمة «خضراوات» — وهذه المرة، سيكون على حساب صحة أطفالنا.

وقِّع هذه العريضة وانشر الخبر: البيتزا ليست خضراوات.

الحوسبة المنطقية مقابل ارتباط الأنساق

إذا كان الكثير من أحكامنا أشدَّ إبهامًا من أن يمكن تجسيده بالمنطق، فكيف نفكِّر من الأساس؟ من دون ضوابط الشروط الضرورية والكافية، كيف يتأتى لنا أن نتفق على أن كرة القدم رياضة، وأن كريس جينر أم، وأن البيتزا ليست من الخضراوات، رغم أنف الجمهوريين في المجلس؟ إذا كانت العقلانية لا تُطبَّق في الذهن كقائمة من القضايا وسلسلة من القواعد المنطقية، فكيف إذن تُطبق؟

من الممكن أن نجد إحدى الإجابات في عائلة النماذج المعرفية المسمَّاة بروابط الأنساق، والمستقبِلات والشبكات الربطية، ونماذج المعالجة الموزَّعة بالتوازي، والشبكات العصبية الاصطناعية، وأنظمة التعلم العميق.31 الفكرة الرئيسية التي تقوم عليها هذه النماذج المعرفية هي أنه بدلًا من معالجة سلاسل من الرموز بالقواعد، يستطيع النظام الذكي حشدَ عشرات الإشارات المتدرِّجة أو الآلاف والملايين منها، بحيث تبيِّن كلٌّ منها درجة توفُّر الخاصية.

لتناول مفهوم «الخضراوات» المختلف عليه على نحوٍ يثير الدهشة. من الجلي أنه من فئاتِ التشابه العائلي. لا توجد أصنوفةٌ في تصنيف لينيوس تضم الجزر وسراخس الفيدلهيد وعيش الغراب؛ وما من عضوٍ نباتي محدَّد يميز كلًّا من البروكلي والسبانخ والبطاطا والكرفس والبازلاء والباذنجان؛ ولا حتى مذاق أو لون أو ملمس محدَّد. لكن مثلما هي الحال مع آل كارداشيان، نتعرَّف على الخضراوات عادةً حين نراها، بسبب السِّمات المتراكبة التي توجد على نحوٍ موزَّع لدى مختلف أفراد الأسرة. الخس أخضر ومقرمش وورقي، والسبانخ خضراء وورقية، والكرفس أخضر ومقرمش، والملفوف الأحمر أحمر وورقي. كلما زاد عدد صفات الخضراوات لدى الشيء، وكلما كانت واضحة لديه، كنا أكثرَ استعدادًا لتسميته خضارًا. فالخس خضار بامتياز؛ أما البقدونس فليس بالدرجة نفسها، ويأتي الثوم في مرتبةٍ أقلَّ منه. وعلى النقيض، من السِّمات أيضًا ما يحول دون تصنيف الشيء على أنه من الخضراوات. فرغم أن بعض الخضراوات حلو المذاق بعض الشيء، مثل القرع، فإننا نصنِّف النبات من الفاكهة إذا زادت حلاوته، مثل الكنتالوب. وبالرغم من أن عش غراب بورتوبيلو شبيه باللحوم وقرع الإسباجيتي أشبه بالمعكرونة، فإننا نستبعد من هذا التصنيف أي شيء من لحم الحيوان أو عجين الدقيق. (الوداع للبيتزا.)

هذا معناه أننا نستطيع تجسيدَ خاصية الخضراوات في صيغة إحصائية معقَّدة. تُعيَّن لكل صفة من صفات الشيء (الخضرة والقرمشة والحلاوة والليونة)، قيمةٌ كمية ثم تُضرب في مُعامل عددي يعكس مدى ارتباط تلك الصفة بالفئة: فيكون موجبًا مرتفعًا للخضرة، وموجبًا أدنى للقرمشة، وسالبًا منخفضًا للحلاوة، وسالبًا مرتفعًا لليونة. بعد ذلك تُجمع القيم المرجحة، وإذا تخطَّى المجموع عتبةً معيَّنة، نقول إنه من الخضراوات، حيث تعبِّر الأعداد الأعلى عن أمثلةٍ أدق.

هذا، ولا يعتقد أحدٌ أننا نعطي أحكامنا الضبابية بإجراء سلاسل من عمليات الضرب والجمع في أذهاننا فعليًّا. لكن يمكن إجراء المعادل لذلك بشبكات من الوحدات الشبيهة بالأعصاب التي تستطيع «العمل» بمعدَّلات متباينة، ممثلة قيمة الصواب الضبابية. لدينا فيما يلي صورة مبسَّطة لذلك. يوجد بالأسفل صفٌّ من الخلايا العصبية الخاصة بالإدخال تغذيها أعضاء الحس، التي تستجيب للسمات البسيطة من قبيل «أخضر» و«مقرمش». ولدينا بالأعلى الخلايا العصبية الخاصة بالإخراج، التي تعرض تخمين الشبكة للفئة. يرتبط كلٌّ من وحدات من الخلايا العصبية الخاصة بالإدخال بكل واحدة من الخلايا العصبية الخاصة بالإخراج عن طريق «وصلة عصبية» تتفاوت قوَّتها؛ فتكون استثارية لتطبيق عوامل الضرب الموجبة، وتثبيطية لتطبيق السالبة منها. ترسل وحدات الإدخال النشطة الإشارات، وقد رجَّحتها قوة الوصلات العصبية، إلى وحدات الإخراج، التي تجمع كلٌّ منها المجموعة المرجِّحة للإشارات الواردة وتستجيب وفقًا لها. في الشكل، تشير الأسهم إلى وصلات الاستثارة، والنقاط إلى وصلات التثبيط، ويدُل سُمك الخطوط على قوة الوصلات العصبية (لتوضيح مخرج الخضراوات فقط، على سبيل التبسيط).

figure

ربما تتساءل، مَن الذي نظَّم القيمةَ الترجيحية للوصلات البالغة الأهمية؟ الإجابة هي لا أحد؛ إنها تتأتَّى بالتجربة. تُدرَّب الشبكة بإعطائها العديدَ من الأمثلة على أطعمة مختلفة، مع الفئة الصحيحة التي يوفرها المعلِّم. وهذه الشبكة الوليدة، التي تنشأ بقيمٍ ترجيحية صغيرة عشوائية، تعطي تخمينات ضعيفة عشوائية. لكنها تملك آليةَ تعلُّم تعمل بقاعدة التخمين الأقرب والتخمين الأبعد. فهي تقارن مُخرَج كل عقدة بالقيمة الصحيحة التي يوفِّرها المعلم، وتدفع القيم إلى أعلى أو إلى أسفل لتغلق الفجوة. وبعد مئات آلاف الأمثلة التدريبية، تستقر القيم الترجيحية للوصلات على القيمة الأنسب، وتصير الشبكات قادرةً على تصنيف الأشياء بمهارة.

لكن هذا لا ينطبق إلا حين تشير السِّمات المُدخلة للفئات المُخرجة على نحوٍ خطي، حيث الأكثر أفضل، ويُحدد ذلك بالجمع. إنه يفلح مع الفئات التي يكون الإجمالي فيها هو المجموع (المرجَّح) للأجزاء، لكنه يفشل حين تُحدَّد الفئة بمقايضات، أو صفات محبذة، أو توليفات رابحة، أو صفات مستبعدة، أو صفات قاطعة، أو اجتماع سمات غير مواتية، أو قدر مفرِط من شيء إيجابي. حتى الرابط المنطقي البسيط (أو الإقصائية)، «س أو ص لكن ليس الاثنين»، يفوق حدود الشبكة العصبية ذات الطبقتين؛ لأن الخاصية السينية لا بد أن ترفع المُدخل، والخاصية الصادية لا بد أن ترفع المُخرج، لكنهما معًا يعطلان الشبكة. ولهذا، فبينما تستطيع الشبكة البسيطة تمييز الجَزَر والقطط، فإنها قد تفشل مع فئة صعبة مثل «الخضراوات». فالشيء الأحمر المستدير يُرجح أن يكون من الفاكهة إذا كان مقرمشًا وله ساق (مثل التفاح)، لكنه يكون من الخضراوات إذا كان مقرمشًا وله جذور (مثل الشمندر) أو إذا كان طريًّا وله ساق (مثل الطماطم). فأي توليفة من الألوان والأشكال وخصائص الملمس قد تشمل عش الغراب والسبانخ والقرنبيط والجزر والطماطم؟ ترتبك الشبكة ذات الطبقتين بفعل تداخل الأنساق، فترفع قيَمها الترجيحية وتخفضها مع كل مثالٍ تدريبي دون أن تستقر أبدًا على القيم التي تفصل دائمًا بين الأعضاء وغير الأعضاء.

من الممكن تذليلُ العقبة بإدخال طبقة «خفية» من الخلايا العصبية بين المدخلات والمخرجات، كما هو موضَّح أدناه. من شأن هذا أن يغيِّر الشبكة من كائن قائم على الإثارة والاستجابة إلى كائن ذي تمثيلات داخلية؛ مفاهيم إذا جاز القول. وهي قد تقابل في هذا المثال فئاتٍ وسيطة مترابطة من عينة «مثل الملفوف»، و«فاكهة غير حلوة»، «واليقطين والقرع»، «والخضراوات الورقية»، «والفطر»، و«الجذريات والدرنيات»، كلٌّ مع مجموعةٍ من قيم الإدخال الترجيحية التي تسمح لها باختيار الصورة النمطية المناسبة، والقيم الترجيحية القوية ﻟ «خضراوات» في طبقة المخرجات.

يكمُن التحدي في حمل هذه الشبكات على العمل في كيفية تدريبها. فالمشكلة قائمة في الوصلات من طبقة المدخلات للطبقة الخفية: بما أن الوحدات مخفية عن البيئة، فلا يمكن مطابقة تخميناتها مع قيم «صائبة» يوفِّرها المعلم. غير أنَّ اكتشافًا مذهلًا قد تحقَّق في ثمانينيات القرن العشرين، وهو خوارزمية الانتشار الخلفي لتصحيح الخطأ، وحل هذه المشكلة.32 في البدء، يُستخدم عدم التوافق بين كل تخمين لوحدة إخراج والإجابة الصحيحة في تعديل القيم الترجيحية للوصلات بين الخفي والمُخرَج في الطبقة العليا، مثلما يحدث تمامًا في الشبكات البسيطة. بعد ذلك ينتشر مجموع كل هذه الأخطاء عائدًا إلى الخلف لكل وحدة خفية لتعديل الوصلات بين المدخلات والخفي في الطبقة الوسطى. يبدو كأنه لا يمكن لذلك أن يفلح أبدًا، لكن مع ملايين من أمثلة التدريب تستقر طبقتا الوصلات على قيمٍ تسمح للشبكة بالتمييز بين الغثِّ والسمين. وما لا يقل عن ذلك إثارة للدهشة أنَّ الوحدات الخفية تتمكَّن تلقائيًّا من اكتشاف فئات مبهمة مثل «الفطر» و«الجذور والدرنيات»، إذا كان ذلك ما يساعدها في التصنيف. لكن في أغلب الحالات لا تمثِّل الوحدات الخفية أيَّ شيء لدينا له أسماء. فهي تطبق أي صيغ معقَّدة تنجز المهمة: «قدر قليل من هذه السمة، لكن ليس الكثير من تلك السمة، إلا إذا كان هناك الكثير جدًّا من هذه السمة الأخرى.»
figure
في العَقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بلغت قدرات الكمبيوتر العَنان مع تطور وحدات معالجة الجرافيكس، وزاد حجم البيانات أكثرَ فأكثر مع تحميل ملايين المستخدمين النصوصَ والصور على شبكة الإنترنت. تمكَّن علماء الكمبيوتر من زيادة إمكانيات الشبكات المتعددة الطبقات بدرجةٍ هائلة، فصاروا يزوِّدونها بطبقتين خفيتين، أو خمس عشرة، أو حتى ألفًا، ويدرِّبونها بمليارات الأمثلة أو حتى التريليونات منها. تُسمى هذه الشبكات بأنظمة التعلُّم العميق بسبب عدد الطبقات بين المدخلات والمخرجات؛ فهي ليست عميقةً بمعنى فهمها لأي شيء. هذه الشبكات هي مصدر القوة لما نعاصره من «الصحوة الكبرى للذكاء الاصطناعي»، والتي صارت تقدِّم لنا أول منتجات نافعة للتعرُّف على الصوت والصورة، والإجابة عن الأسئلة، والترجمة، وغيرها من المهام الشبيهة بما يؤديه البشَر.33
كثيرًا ما تتفوَّق شبكات التعلُّم العميق على الذكاء الاصطناعي القديم الطراز، الذي ينفِّذ استنباطاتٍ شبه منطقية على قضايا وقواعدَ مبرمجة يدويًّا.34 وإن التباين في الأسلوب الذي تعمل به لحاد؛ فعلى عكس الاستدلال المنطقي، تتسم العمليات الداخلية للشبكة العصبية بالتعقيد الشديد. ذلك أنَّ الجزء الأكبر من ملايين الوحدات الخفية لا يرمز إلى أيٍّ من المفاهيم المترابطة التي يسعنا فهْمُها، وحتى علماء الكمبيوتر الذين يدرِّبونها لا يستطيعون تفسيرَ كيفية وصولها لأي إجابة معيَّنة. ولهذا السبب يخشى العديد من منتقدي التكنولوجيا أن أنظمة الذكاء الاصطناعي وقد صار يُعهد إليها بقرارات تخصُّ مصائر الناس، من الممكن أن ترسِّخ تحيزات لا يمكن لأحد تحديدُها واستئصالها.35 وقد حذَّر هنري كيسنجر في عام ٢٠١٨ من أنه ما دامت أنظمةُ التعلم العميق لا تعمل استنادًا إلى قضايا يمكننا دراستُها وتسويغها، فإنها ستنذر بنهاية عصر التنوير.36 تلك مبالغة بلا شك، لكن التناقض بين المنطق والحوسبة العصبية واضح.

هل العقل البشَري شبكةٌ كبيرة للتعلُّم العميق؟ هو ليس كذلك بالطبع، ولعدة أسباب، لكن أوجه الشبه بينهما توضِّح بعضَ الأشياء. يوجد في المخ نحو مائة مليار خلية عصبية متصلة بمائة تريليون وصلة عصبية، ومع بلوغنا سن الثامنة عشرة نكون قد استوعبنا من بيئاتنا أمثلةً على مدى أكثر من ثلاثمائة مليون ثانية من اليقظة. وبهذا نصبح مستعدين للقيام بالكثير من عمليات الربط ومطابقة الأنماط، تمامًا مثل هذه الشبكات. لقد صُمِّمَت هذه الشبكات خصوصًا من أجل فئات التشابه العائلي المبهمة التي تشكِّل جزءًا كبيرًا من مخزون مفاهيمنا. وعلى هذا النحو، تقدِّم الشبكات العصبية بعضَ المعلومات عن الجزء العقلاني من الإدراك البشَري، لكنه ليس منطقيًّا بالمعنى الحرفي للكلمة. إنها تزيل الغموضَ عن القدرة الذهنية الغامضة لكنها خارقة في بعض الأحيان، والتي نسميها الحَدْس والغريزة والتخمينات والمشاعر الغريزية والحاسة السادسة.

•••

ومع كل الفوائد التي يضفيها «سيري» و«جوجل ترانسليت» على حياتنا، لا بد ألَّا نظن أن الشبكات العصبية قد أبطلت المنطق نهائيًّا. فهذه الأنظمة، التي تعمل بارتباطات ضبابية والتي لا تستطيع تحليل التراكيب اللغوية أو الاحتكام لقواعد، من الممكن أن تكون غبية لدرجة صادمة.37 إذا سألت «جوجل» عن «مطاعم وجبات سريعة قريبة غير ماكدونالدز»، فسيعطيك قائمة بكل مطاعم ماكدونالدز الواقعة في محيط ٥٠ ميلًا. فلتسأل «سيري»: «هل كان جورج واشنطن يستخدم الكمبيوتر؟» وستوجهك لتصور حاسوبي لوجه جورج واشنطن وخدمات الأنظمة الحاسوبية بجامعة جورج واشنطن. ونجد أيضًا أنَّ وحدات الإبصار التي ستقود سياراتنا ذات يوم كثيرًا ما تخلط الآن بين إشارات الطرق والثلاجات، وبين العربات المقلوبة وأكياس التدريب على الملاكمة، وبين قوارب إطفاء الحرائق والزلاجات.
إنَّ عقلانية البشَر نظامٌ هجين.38 فالدماغ يحتوي على روابط الأنساق التي تتشرب أوجه التشابه العائلية وتكدِّس عددًا كبيرًا من الإشارات الإحصائية. لكنه يحتوي أيضًا على معالج للرموز المنطقية يستطيع تحويل المفاهيم لقضايا واستنباط تبِعاتها. فلنسمِّه النظام الثاني، أو الإدراك التكراري، أو الاستدلال القائم على قاعدة. ما يهمنا هو أنَّ المنطق الصوري أداة تستطيع تنقيح أسلوب التفكير هذا، فتحرِّره من الآفات التي تصاحب أنَّ الإنسان حيوان اجتماعي وعاطفي.
لمَّا كان استدلالنا على القضايا هو ما يحرِّرنا من التشابه والصور النمطية، فهو ما يتيح تحقيق أرقى إنجازات عقلانية البشَر، مثل العلوم والأخلاق والقانون.39 فعلى الرغم من أن خنزير البحر يندرج وفقًا للتشابه العائلي بين الأسماك، فالقواعد التي تحدِّد العضوية في طوائفِ تصنيف لينيوس (على غرار «إذا كان الحيوان يُرضِع صغاره، فإنه من الثدييات») تخبِرنا أنه في الواقع ليس من الأسماك. فمن خلال سلاسل الاستدلال التصنيفي كهذه السلسلة، من الممكن الاقتناع بأن البشَر قردة، والشمس نجم، والأغراض الصلبة في أغلبها مساحات فارغة. وفي المجال الاجتماعي، ترى مكتشفات الأنساق لدينا أوجه اختلاف الناس بعضهم عن بعض بسهولة: فبعض الأفراد أغنى منَّا وأذكى وأقوى وأسرع وأجمل وأشبه بنا من آخرين. لكننا حين نتبنى قضيةَ أن كل البشَر وُلدوا متساوين («إذا كان س بشَرًا، فإن س له حقوق»)، نستطيع استبعاد هذه الانطباعات من قراراتنا القانونية والأخلاقية، ونعامل الناس على أنهم سواسية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤