الفصل الرابع

الاحتمالية والعشوائية

«ألفُ قصة يحكيها الجاهل ويصدقها، لكنها تموت في الحال، حين يهم بها المشتغل بالرياضيات.»

صمويل جونسون1
مع أن ألبرت أينشتاين لم يقُل قط أغلبَ الأشياء التي يُزعَم أنه قالها، فقد قال فعلًا، رواياتٍ عدة: «لن أصدِّق أبدًا أن الرب يلعب النَّرد مع العالم.»2 وسواء أكان محقًّا بشأن العالَم دون الذري أم لا، فالعالم الذي نعيش فيه «يبدو» ولا شك كلعبة النَّرد، حيث التقلبات غير المتوقَّعة على جميع المستويات. «فليس السعي دائمًا للخفيف، ولا الحرب للأقوياء، ولا الخبز للحكماء، ولا النعمة لذوي المعرفة؛ لأن الوقت والعرض يلاقيانهم كافة.» ومن المقوِّمات الأساسية للعقلانية أن نتعامل مع العشوائية في حياتنا وعدم اليقين في معارفنا.

ما العشوائية؟ ومن أين تأتي؟

في الكاريكاتير أدناه، ينبِّهنا سؤال ديلبرت إلى أن كلمة «عشوائي» في اللغة الدارجة تشير إلى مفهومين: الافتقار للنسق في البيانات، وعدم إمكانية التوقع في عمليةٍ ما. فإنه حين يشكُّ أن أرقام تسعة المتتالية الصادرة عن كائن «الترول» (فئة من الكائنات تظهر في الأساطير النوردية والفلكلور الاسكندنافي)، عشوائية بحق، يشير إلى نسقها.

figure
ديلبرت، حقوق النشر محفوظة لشركة سكوت آدمز بتاريخ ٢٠٠١. بتصريح من وكالة أندروز ماكميل. جميع الحقوق محفوظة.
ليس انطباع ديلبرت بشأن وجود نسق في التسلسل من نسج خياله، كرؤية فراشات في بقع الحبر. فمن الممكن تعيينُ قيمة كمية للنسق غير العشوائي. الإيجاز هو روح النسق؛ فنحن نقول إن مجموعة من البيانات غير عشوائية حين يكون أوجز وصف ممكن لها أقصرَ من مجموعة البيانات نفسها.3 والوصف «ست تسعات» مكوَّن من عنصرين، في حين مجموعة البيانات نفسها، «٩٩٩٩٩٩»، مكوَّنة من ستة عناصر. وثمَّة سلاسلُ أخرى نشعر أنها غير عشوائية تخضع هي الأخرى للاختصار؛ فالسلسلة «١٢٣٤٥٦» على سبيل المثال، تصير إيجازًا «أول ستة»، والسلسلة: «٥٠٥٠٥٠» تُختصر إلى «ثلاث خمسينات». على العكس من ذلك، البيانات التي نشعر أنها عشوائية، مثل «٦٣٤٥٧٩»، لا يمكن تلخيصها في أي شيء أصغر، ولا بد من ذِكرها تفصيلًا.

يعبِّر ردُّ الترول عن المعنى الثاني للعشوائية: إنها عملية توليد بيانات فوضوية لا سبيل إلى التنبؤ بها. الترول محقٌّ في قوله إن «العملية» العشوائية من الممكن أن تولِّد «أنساقًا» غير عشوائية، ولو لبعض الوقت على الأقل، وهو لمُخرَج من ستة أرقام في هذه الحالة. وما دام المولِّد لا يتبع أيَّ منطق على أيِّ حال، فماذا يمنعه من إعطاء ست تسعات أو أي نسق غير عشوائي آخر، ولو أحيانًا على الأقل؟ ومع مواصلة المولِّد العملَ وازدياد طول التسلسل، بوسعنا أن نتوقَّع أن يعود النسق العشوائي؛ لأنه من غير المرجَّح أن تستمر المتتالية الغريبة.

جوهرية هي العبارة الأخيرة التي جاء بها كائن الترول. فكما سنرى، يمثِّل الخلط بين النسق غير العشوائي والعملية غير العشوائية جزءًا ضخمًا من حماقة البشَر، ومعرفة الفرْق بينهما من أعظم هِبات العقلانية التي يمكن أن يمنحنا التعليم إياها.

كلُّ هذا يثير التساؤل بخصوصِ أنواع الآلية الفيزيائية التي يمكن أن تولِّد أحداثًا عشوائية. بصرف النظر عن أينشتاين، يعتقد أغلب علماء الفيزياء بوجود قدرٍ لا يُستهان به من العشوائية في المجال دون الذري لميكانيكا الكم، مثل اضمحلال نواة الذرة أو انبعاث الفوتون حين يقفز إلكترونٌ ما من أحد مستويات الطاقة إلى مستوًى آخر. ومن الممكن للايقين الكمي هذا أن يتسع لمقاييس تؤثِّر على حياتنا. فحين كنت مساعد باحث في مختبرٍ لسلوك الحيوانات، كانت أجهزة الكمبيوتر الصغيرة آنذاك في حجم الثلاجات، وكانت أبطأ من أن تولِّد أرقامًا شبه عشوائية بصفة فورية، وكان المشرف عليَّ قد اخترع أداةً مزوَّدة بكبسولة مليئة بنظير مشع وعداد جايجر بالغ الضآلة ليكشف عن الانبعاث المتقطع للجسيمات ويشغل المفتاح الذي يطعم الحمامة.4 بالرغم من ذلك، ففي الجزء الأكبر من العالَم المتوسط الحجم الذي نقضي فيه أوقاتنا، تلغي التأثيرات الكمية بعضها بعضًا، وربما لا توجد أصلًا.
كيف يمكن إذن للعشوائية أن تنشأ في عالَم تخضع فيه كرات البلياردو لمعادلات نيوتن؟ فمثلما جاء في الملصق الذي ظهر في سبعينيات القرن العشرين، سخريةً من اللافتات التي كانت تذكِّر بحدِّ السرعة: «الجاذبية. إنها ليست مجرد فكرة حسنة. إنها القانون.»5 (في هذه الفترة عانت الولايات المتحدة أزمةً في الوقود، وأقامت الدولة حملةً لتشجيع الحفاظ على الوقود، فوضعت لافتاتٍ ترِد عليها العبارة: «حدُّ السرعة 55 ميلًا في الساعة. ليست تلك فكرة جيدة فحسب، بل هي القانون!» وجاء رسام فكاهي يُدعى جيري موني بتلك العبارة عن الجاذبية، ثم صمَّم ملصقًا لها بعد ذلك. حظي هذا الملصَق بشهرة واسعة وإن لم يحظَ مصمِّمه بمثلها.) أفلا يمكن من الناحية النظرية للشيطان الذي تخيله بيير سيمون لابلاس عام ١٨١٤، وهو العالِم بموضع كل جسيم في الكون وزخمه، أن يضعها في معادلاتٍ لقوانين الفيزياء ويتنبأ بالمستقبل على أفضل وجه؟

ثمة طريقتان في الواقع يمكن بهما للعالَم المحكوم بالقوانين أن يولِّد أحداثًا عشوائية. يألف قرَّاء العلوم المبسَّطة إحدى هاتين الطريقتين: أثرُ الفراشة، التي سُميَت بذلك لأنها تنطوي على احتمال أن يؤدي خفق فراشة لجناحيها في البرازيل إلى إعصار في تكساس. من الممكن أن ينشأ أثرُ الفراشة في الأنظمة غير الخطية الديناميكية الحتمية، ويُعرف أيضًا حينذاك ﺑ «الفوضى»؛ حيث توجد في الظروف المبدئية اختلافاتٌ بالغة الصغر حتى إنه لا يمكن قياسها بأي آلة، وقد تتغذى هذه الاختلافات على نفسها وتتضخم لآثار هائلة.

نأتي الآن إلى الطريقة الأخرى التي يمكن أن يبدو بها النظام الحتمي عشوائيًّا من وجهة نظر بشَرية، والتي تحمل هي الأخرى اسمًا مألوفًا: رمي العملة. ليس مصير العملة التي نلقيها عشوائيًّا تمامًا؛ فالساحر المتمرِّس يستطيع أن يرميها بحيث تعطي صورة أو كتابة حسبما يريد. بالرغم من ذلك، فحين تتوقَّف نتيجةٌ ما على عددٍ كبير من عللٍ صغيرة يصعُب رصدُها، مثل الزوايا والقوى التي انطلقت بها العملة وتيارات الهواء التي تقاذفتها في الجو، فمن الممكن أيضًا أن تُعَد عشوائية.

ما المقصود بمصطلح «احتمالية»؟

ما الذي تعنيه خبيرة الأرصاد الجوية حين تقول إن احتمال هطول الأمطار في المنطقة غدًا ٣٠ في المائة؟ الإجابة مبهمة لدى أغلب الناس. يعتقد البعض أنها سوف تمطر في ٣٠ بالمائة من المنطقة. ويعتقد آخرون أنها ستمطر في ٣٠ بالمائة من الوقت. ويعتقد قليلون أن ٣٠ في المائة من خبراء الأرصاد الجوية يعتقدون أن الأمطار ستتساقط. ويعتقد البعض أن هذا معناه أن الأمطار ستتساقط في مكانٍ ما في المنطقة في ٣٠ بالمائة من الأيام التي جاء فيها مثل ذلك التوقُّع. وهذه الإجابة الأخيرة هي الأقرب لما كانت تقصده خبيرة الأرصاد.6
ليس مشاهدو النشرة الجوية وحدَهم مَن يلتبس عليهم الأمر. فقد ذكر برتراند راسل عام ١٩٢٩ أنَّ: «الاحتمالية هي أهم مبدأ في العلوم الحديثة، لا سيما وأن أحدًا ليس لديه أدنى فكرة عما تعنيه.»7 لعل التعبير الأدق عن ذلك أنَّه توجد تعريفات متعددة للمصطلح تختلف باختلاف الأشخاص، مثلما رأينا في الفصل الأول مع معضلة مونتي هول ومعضلة ليندا.8

ثمة تعريف «كلاسيكي» للاحتمالية، يعود إلى أصولِ نظرية الاحتمالات بصفتها طريقةً لفهمِ ألعاب الحظ. يتمثَّل هذا التعريف في استعراض ما لعملية ما من نتائجَ محتملة تتساوى فرصُ حدوثها، ثم جمع ما يُعد أمثلة منها على الحدث، ثم قسمتها على عدد الاحتمالات. فالنَّرد مثلًا قد يستقر على أيٍّ من وجوهه الستة. تتطابق احتماليةُ استقراره على «رقم زوجي» مع استقراره على الوجه ذي النقطتين، وذي الأربع النقاط، وذي الست النقاط. وفي ظل وجودِ طرقٍ ثلاث من الممكن أن يستقر بها على عدد «زوجي» من ستة احتمالات في المجمل، نقول إن الاحتمال الكلاسيكي لأن يستقر النَّرد على عددٍ «زوجي» هو ثلاثة من ستة، أو ٠٫٥. (في الفصل الأول، استخدمت التعريف الكلاسيكي لشرح الاستراتيجية الصحيحة في معضلة مونتي هول، وذكرت أن الخطأ في عد النتائج المحتملة كان هو ما أضلَّ بعضَ الخبراء المبالغين في الثقة بأنفسهم للاستراتيجية غير الصحيحة.)

لكن لماذا اعتقدنا من الأصل أن كل وجوه النَّرد لها فرصٌ متساوية؟ لقد قيَّمنا «نزعة» النَّرد؛ أي استعداده الفيزيائي لفعل أشياء مختلفة. تتضمن هذه النزعة تناظر الوجوه الستة، والطريقة التي اتفق للرامي أن يلقيه بها، والخواص الفيزيائية للسقوط.

ثمة تفسيرٌ ثالث «ذاتي» وثيقُ الصلة للغاية بما سبق. قبل أن ترمي النَّرد، وبِناءً على كلِّ ما تعرفه، ما القيمة الكمية التي تعينها لاعتقادك بأنه سيستقر على رقم زوجي، وذلك على مقياسٍ من صفر إلى واحد؟ يُسمى هذا التقدير للظن في بعض الأحيان بالتفسير البايزي للاحتمالية، لكنها تسمية مضلِّلة قليلًا، كما سنرى في الفصل التالي.

ثم هناك التفسير «الإثباتي»: مدى اعتقادك بأن المعلومات المقدَّمة تسوِّغ النتيجة. من أمثلة ذلك ما يجري في المحاكمات القانونية؛ إذ تتجاهل — عند تعيين احتمال أن المتهم مذنب — جميعَ المعلومات غير المقبولة والمجحِفة ولا تضع في اعتبارك سوى قوة بيان الادعاء. كان التفسير الإثباتي هو ما جعل من العقلاني أن نرتئي أن ليندا، وقد قُدِّمت بصفتها محاربةً في سبيل العدالة الاجتماعية، من الأرجح أن تكون صرَّافة مناصرة لحقوق المرأة عن أن تكون صرَّافة فحسب.

وأخيرًا هناك التفسير «التكراري»: إذا رميت النَّرد عدة مرات، لنقل ألف مرة، وأحصيت النتائج، فستجد أن النتيجة أنه استقر على رقم زوجي ٥٠٠ مرة تقريبًا، أو في نصف عدد الرميات.

تتوازى هذه التفسيرات الخمسة بوجه عام. ففي حالة رمي العملة، نجد أنَّ القطعة المعدنية نفسها متناظرة؛ أي إن استقرارها على الصورة يمثل نتيجةً واحدة بالضبط من النتيجتين المحتملتين؛ ويقع حَدْسك في المنتصف بالضبط بين «صورة بالتأكيد» و«كتابة بالتأكيد»؛ وحجة الصورة تعادل قوة حجة الكتابة؛ وفي النهاية ستحصل على نتيجةِ الصورة نصف عدد المرات التي تلقي فيها بالعملة. إن احتمال استقرار العملة على الصورة هو ٠٫٥ في كل حالة. غير أنَّ التفسيرات لا تعطي هذا المعنى نفسه، بل تتعارض أحيانًا. وحين تتعارض، من الممكن أن تفضي بيانات الاحتمالات إلى الارتباك والخلاف، بل إلى مأساة في بعض الأحيان.

الأدهى من ذلك أن التفسيرات الأربعة الأولى تنطبق على المفهوم الخفي المبهم لاحتمالية الحدث الفردي. ما احتمال أن تكون فوق سن الخمسين؟ أن يكون بونو هو البابا القادم؟ أن تكون بريتني سبيرز وكاتي بيري الشخص نفسه؟ أن تكون هناك حياة على إنسيلادوس، أحد أقمار كوكب زحل؟ ربما تعترض أنَّ الأسئلة بلا معنًى: إما أن تكون قد تجاوزت الخمسين أو لم تتجاوزها، وليس ﻟ «الاحتمالية» علاقة بذلك. لكني أستطيع وفقًا للتفسير الذاتي أن أعيِّن قيمةً عددية لجهلي. هذا يثير حفيظةَ بعض علماء الإحصاء، الذين يريدون تخصيصَ مبدأ الاحتمالية للتكرار النسبي في مجموعةٍ من الأحداث الحقيقية بالفعل ويمكن إحصاؤها. الحق أنَّ أحدهم قال مازحًا إن احتمالات الأحداث الفردية لا تنتمي إلى الرياضيات وإنما إلى التحليل النفسي.9

من الممكن أيضًا أن يستعصي على غير المتخصصين استيعابُ مبدأ الاحتمالية العددية لحدث فردي. إنهم يحنقون على خبيرة الأرصاد الجوية بعد أن تباغتهم الأمطار في اليوم الذي كانت قد توقَّعت فيه هطول الأمطار بنسبة ١٠ في المائة، ويسخرون من مجمع استطلاعات الرأي الذي تنبأ بأنَّ احتمال فوز هيلاري كلينتون بالانتخابات الرئاسية عام ٢٠١٦ بلغ ٦٠ في المائة. يدافع هؤلاء المتكهنون عن أنفسهم بالتفسير التكراري لاحتمالاتهم: ستتساقط الأمطار في يومٍ من أيام عشرة تتنبأ فيها بذلك التوقُّع؛ وفي ستة انتخابات من عشرة بتلك الأرقام الاستطلاعية، سيفوز المرشح المتقدِّم. في هذا الكاريكاتير، يعبِّر رئيس ديلبرت عن مغالطة شائعة:

figure
ديلبرت، حقوق النشر محفوظة لشركة سكوت آدمز بتاريخ ٢٠٢٠. بتصريح من وكالة أندروز ماكميل. جميع الحقوق محفوظة.

مثلما رأينا في الفصل الأول مع ليندا وكما سنرى مرة أخرى في الفصل التالي، فإنَّ إعادة صياغة الاحتمالية من اعتقادٍ في حدث فردي إلى تكرار في مجموعة من الأحداث من الممكن أن يجعل الناس تعيد ضبطَ حَدْسها. فالنائب العام الذي يقول «إن احتمال مطابقة الحمض النووي في ملابس الضحية للحمض النووي في ملابس المشتبه به لو كان بريئًا تقدَّر بواحد في مائة ألف» أرْجحُ أن ينجح في إدانته من الذي يقول: «من بين كل مائة ألف بريء في هذه المدينة، سيكون واحد مطابقًا.» يبدو الأول تقييمًا لشكٍّ شخصي لا يختلف عن صفر؛ أما الثاني فيدعونا إلى تخيُّل ذلك الشخص المتهم خطأً، مع العديدين الآخرين المقيمين في المدينة.

يخلِط الناس أيضًا بين الاحتمالية بمعناها التكراري والنزعة. يحكي جيرد جيجرينزر عن جولة في مصنع للمرْكَبات الفضائية، حيث أخبر المرشدُ الزوار أنَّ عامل الأمان الذي تتسم به صواريخ أريان التي يصنعها تبلغ نسبته ٩٩٫٦.10 كان الزوَّار واقفين أمام ملصقٍ يصور الأربعة والتسعين صاروخًا وتاريخها، حيث تحطَّم ثمانية منها على الأرض أو انفجر. وحين تساءل جيجرينزر كيف يمكن لصاروخٍ بعامل أمان ٩٩٫٦ أن يخفق ٩ في المائة من المرات، كان تفسير المرشد أن العامل قد حُسِب من درجة جدارة الأجزاء، كلٌّ على حدة، وكانت الإخفاقات نتيجةً لخطأ بشري. ما يهمنا في النهاية بالطبع هو عدد مرات نجاح الصاروخ في الإفلات من قبضةِ الأرض وعدد مرات ارتطامه بها، بغض النظر عن الأسباب؛ لذلك فإن الاحتمالية الوحيدة المهمة هي التكرار إجمالًا. وبنفس الفهم الخاطئ، يتساءل الناس أحيانًا لماذا يكون لدينا مرشَّح ذائع الشعبية ومتقدم بمسافات في استطلاعات الرأي ثم يكون احتمال فوزه بالانتخابات ٦٠ في المائة، في حين أنه لا يمكن لشيء أن يعرقله سوى حدثٍ خَطِر في اللحظة الأخيرة. الإجابة هي أن تقدير الاحتمالية يراعي الأحداث التي قد تقع في اللحظة الأخيرة.

الاحتمالية مقابل التوافر

رغم الاختلاف في التفسيرات، ترتبط الاحتمالية ارتباطًا وثيقًا بالأحداث باعتبارها نسبةَ الفرص، سواء على نحوٍ مباشر، في التعريف الكلاسيكي والتكراري، أو غير مباشر، في حالة التفسيرات الأخرى. لا شك أننا حين نقول إن أحد الأحداث أرجحُ من غيره، فإننا نعتقد أنه سيقع أكثرَ مع توفُّر الفرصة. ولتقدير الاحتمال، يجب أن نحصي عدد مرات وقوع الحدث ونقسمها ذهنيًّا على عدد المناسبات التي كان من الممكن أن يقع خلالها.

بالرغم من ذلك، فمن الاكتشافات المميزة في علم دراسة التقدير لدى الإنسان أن البشر في العموم لا يحسبون الاحتمالات على هذا النحو. ما يحدث بدلًا من ذلك أنَّ الناس يحدِّدون احتماليةَ الأحداث حسب السهولة التي تتبادر بها الحالات إلى أذهانهم، وهي العادة التي أسماها تفيرسكي وكانمان «الاسترشاد بالمتوافر».11 إننا نستخدم ترتيب ما يرِد في محرِّك البحث الكائن بأذهاننا من صورٍ وحكايات ومقاطع فيديو ذهنية، لتقدير الاحتمالات. تستغل العملية الاسترشادية إحدى سمات الذاكرة البشرية، ألا وهي تأثُّر التذكر بالتكرار: كلما زاد تعرُّضنا لأحد الأشياء، كان الأثر الذي تركه في أذهاننا أقوى. ولهذا فإن عكس الأمور وتقدير مدى تواتر الشيء وفقًا للقدرة على تذكُّره غالبًا ما يفي بالغرض جيدًا. فعندما تُسأل أيُّ الطيور أكثر انتشارًا في مدينتك، لن تخطئ إذا قدحت ذاكرتك وخمَّنت أنه الحمَام والعصفور الدُّوري لا الطائر الشمعي الجناح وصائد الذباب، بدلًا من تكبُّد عناء الرجوع إلى تَعداد للطيور.
على مدى الجزء الأكبر من تاريخ البشر، كان التوافر والشائعات هما السبيلين «الوحيدين» لتقدير التكرار. كانت بعض الحكومات تحتفظ بقواعدِ البيانات الإحصائية، لكنها كانت تُعد من أسرار الدولة ولا يُكشف عنها إلا للنخبة من الإداريين. ومع قيام الديمقراطيات الليبرالية في القرن التاسع عشر، صارت البيانات من المنافع العامة.12 حتى في الزمن الحاضر، والبيانات عن كل شيء في متناول أيدينا ببضع نقرات، نجد قلةً في عددِ مَن يستفيد منها. إننا نعتمد فطريًّا على انطباعاتنا، وهو ما يشوِّه فهْمنا متى كانت قوة تلك الانطباعات لا تمثِّل مدى التكرار في العالم. من الممكن أن يحدث ذلك حين تكون تجاربنا عينةً متحيزة من تلك الأحداث، أو حين ترتقي الانطباعات أو تنخفض في نتائج بحثنا الذهني تبعًا لعواملَ نفسية مثل الحداثة أو وضوح التفاصيل أو الحدة العاطفية. ولذلك الأمر تَبعات هائلة على شئون البشر.
خارج سياق تجاربنا المباشرة، تتأتَّى معرفتنا بالعالم من خلال الإعلام. وعلى هذا النحو، توجِّه التغطية الإعلامية إحساسَ الناس بالتكرار والمخاطر: فيعتقدون أن احتمال موتهم في إعصارٍ أكبرُ من احتمال موتهم بالربو، رغم أن الربو أشدُّ فتكًا ٨٠ مرة، ربما لأن الأعاصير أنسبُ للتصوير.13 ولأسباب مماثلة، فإنَّ أنواع البشر التي لا تملك البقاء بعيدًا عن الأخبار يشغلون حيزًا أضخمَ في تعداداتنا الذهنية. ما نسبة الفتيات المراهقات اللواتي يلدن سنويًّا، على مستوى العالم؟ يخمِّن الناس أنها ٢٠ في المائة، لكن تخمينهم يفوق الواقع بعشر مرات. كم نسبة المهاجرين من الأمريكيين؟ قال المجيبون في الاستقصاء إنها ٢٨ في المائة؛ لكن الإجابة الصحيحة هي ١٢ في المائة. والمثليون؟ يعتقد الأمريكيون أن نسبتهم ٢٤ في المائة، لكن الاستبيانات تشير إلى أنها ٤٫٥ في المائة.14 الأمريكيون الأفارقة؟ قال الناس إنهم الثلث، وهو أكبر من الرقم الحقيقي، ١٢٫٧ في المائة، بمرتين ونصف. وحتى في هذه الحالة، كانوا أكثرَ دقة في تقديرهم مما أتَوا به لأقلية أخرى بارزة، ألا وهي اليهود، حيث أخطأ المجيبون بعامل ٩؛ إذ جاءت إجابتهم ١٨ في المائة مقابل ٢ بالمائة.15
يُعَد الاسترشاد بالمتوافر محركًا رئيسيًّا للأحداث العالمية، وغالبًا ما يكون ذلك في اتجاهات غير عقلانية. فبخلاف الأمراض، نجد أنَّ الحوادث هي أشدُّ المخاطر فتكًا؛ فهي تودي بحياة نحو ٥ ملايين شخص سنويًّا (من ٥٦ مليون وفاة إجمالًا)، ونحو رُبعها يكون في حوادث مرورية.16 لكن نادرًا ما تظهر حوادثُ السيارات في الأخبار، ولا يبالي الناس بنزيف الدماء، إلا أن تودي بحياةِ واحد من المشاهير الجذابين. وعلى النقيض من ذلك، تحصل حوادث الطائرات على تغطيةٍ سخية، رغم أنها لا تقتل سوى ٢٥٠ شخصًا سنويًّا على مستوى العالم، مما يجعل الطائرات آمنَ من السيارات ألفَ مرة لكل ميل يقطعه المسافر.17 بالرغم من ذلك، فجميعنا يعرف أشخاصًا يخافون من الطيران لكننا لا نعرف أحدًا يخشى القيادة، ومن الممكن لحادثِ طائرةٍ دموي أن يضطر المسافرين جوًّا طيلة شهور بعده إلى اللجوء إلى الطرق السريعة، حيث يموت آلافٌ أكثر.18 يعبِّر كارتون «ساترداي مورنينج بريكفاست سيريال» عن نقطةٍ شبيهة.
figure
بتصريح من زاك وينرسميث.
من أقوى قصص الموت التي يمكن تخيُّلها وأكثرها ترويعًا تلك التي جاء وصفها في أغنية المسرحية الغنائية «أوبرا البنسات الثلاثة» (ذا ثري بيني أوبرا): «حين ينهش القرشُ ضحيته بأسنانه يا عزيزي، تفيض الأمواج باللون القرمزي.»19 في عام ٢٠١٩، بعد أن صار مصرع أحدِ راكبي الأمواج في كيب كود أولَ وفاةٍ إثر هجوم أسماك القرش في ماساتشوستس خلال أكثر من ٨٠ عامًا، جهَّزت البلدات كل الشواطئ بلافتات تحذيرية مخيفة شبيهةٍ بلافتات فيلم «جوز» (الفك المفترس) ومعدات للسيطرة على النزيف، وخصَّصت نقاطَ مراقبة على أبراجٍ ومرْكَباتٍ مسيرة آليًّا وطائراتٍ ومناطيدَ ومسبارًا بالصدى وطوافاتٍ صوتية، وخصَّصت طاردات كهرومغناطيسية وطاردات فوَّاحة. هذا بالرغم من أنَّ عدد وفيات حوادث السيارات في كيب كود يتراوح سنويًّا بين ١٥ و٢٠، ومن الممكن من خلال تحسيناتٍ زهيدة في وضع اللافتات والحواجز وإنفاذ القوانين المرورية، إنقاذُ أرواحٍ أكثر بجزء بسيط من التكلفة.20
من الممكن أن يؤثِّر الانحياز للمتوافر على مصير الكوكب. فبعد دراسة الأرقام، حذَّر العديد من علماء المناخ البارزين من أنه «لا يوجد سبيل مضمون لاستقرار المناخ من دون دور محوري للطاقة النووية.»21 ذلك أنَّ الطاقة النووية هي آمنُ أشكال الطاقة التي استخدمتها البشرية على الإطلاق. فحوادث التعدين، وتعطُّل السدود الكهرومائية، وانفجارات الغاز الطبيعي، وحوادث قطارات نقل النفط، كلها تقتل الناس، وبأعداد كبيرة في بعض الأحيان، والدخان الناتج عن حرق الفحم يقضي عليهم بأعداد هائلة، تصل لأكثر من نصف مليون سنويًّا. بالرغم من ذلك، فها هي ذي الطاقة النووية لم تزل معطَّلة منذ عقودٍ في الولايات المتحدة وهي تشهد تراجعًا في أوروبا، بينما يحلُّ محلها في الغالب الفحم الملوِّث والخَطِر. وما يؤجج معارضتها معارضةً كبيرة هو ذكريات حوادث ثلاث: حادثة ثري مايل آيلاند في عام ١٩٧٩، التي لم يمُت فيها أحد؛ وفوكوشيما في ٢٠١١ التي قتلت عاملًا واحدًا بعد عدة سنوات (كانت الوفيات الأخرى من جرَّاء تسونامي وإخلاء السكان في حالةٍ من الاضطراب)؛ وحادث مفاعل تشرنوبل الذي أخفق فيه السوفييت عام ١٩٨٦، فقُتل ٣١ شخصًا في الحادث وربما عدة آلاف من السرطان، وهو تقريبًا نفس عدد مَن يموتون من انبعاثات الفحم يوميًّا.22
ليس التوافر وحدَه بالطبع هو ما يؤدي إلى تشوُّش إدراكنا للمخاطر. فقد أثبت بول سلوفيك، أحدُ المتعاونين مع تفيرسكي وكانمان، أن الناس يبالغون في تقديرِ جسامة الأخطار الجديدة (الشر الذي يجهلونه لا الشر الذي يعرفونه)، والخارجة عن سيطرتهم (كأنهم يستطيعون قيادةَ السيارة بحذرٍ أكثر مما يستطيع الطيار قيادة الطائرة)، والتي صنعها الإنسان (لذلك يتحاشون الطعام المعدَّل وراثيًّا لكن يلتهمون السموم العديدة التي تطوَّرت بصورةٍ طبيعية في النباتات)، والجائرة (حين يشعرون أنهم سيتحملون الخطر مقابل مكسب شخص آخر).23 حين تجتمع هذه الفزَّاعات مع احتمال وقوع كارثة تودي بحياة العديد من الناس في الوقت نفسه، تجتمع كل المخاوف لتصير «خطرًا مروعًا». وحوادث الطيارات، والانصهارات النووية، والهجمات الإرهابية أمثلةٌ بارزة على ذلك.

•••

يثير الإرهاب، شأن غيره من الحوادث التي تودي بخسائرَ في الأرواح وهي مدبَّرة مع سبق الإصرار، خوفًا ذا طبيعة مختلفة. كثيرًا ما يَحار علماء بيانات إحصاء الضحايا من أن حوادث القتل ذات الصدى الإعلامي الواسع قد تؤدي إلى ردودِ أفعال اجتماعية تاريخية رغم قلة ضحاياها. كان الهجوم الإرهابي الأسوأ في التاريخ حتى الآن هو هجوم الحادي عشر من سبتمبر؛ إذ حصد أرواح ٣٠٠٠ شخص؛ في أغلب السنوات العصيبة، تفقد الولايات المتحدة بضع عشرات الضحايا في الحوادث الإرهابية، وهو عدد صغير بالنظر إلى تَعداد جرائم القتل والحوادث. (فالحصيلة السنوية أقلُّ على سبيل المثال من عدد مَن يموتون بالصاعقة، أو قرصات النحل، أو الغرق في أحواض الاستحمام.) مع ذلك، أدَّى الحادي عشر من سبتمبر إلى إنشاء وزارة فيدرالية جديدة، ورقابة شاملة على المواطنين وتأمين المرافق العامة، وحربين قتلتا ضعفَ عدد الأمريكيين الذين ماتوا في ٢٠٠١، إلى جانب مئات الآلاف من العراقيين والأفغان.24
من الأخطار الأخرى التي يقلُّ عدد ضحاياها وتثير خوفًا بالغًا، حوادثُ القتل في المدارس الأمريكية التي تحصد نحو ٣٥ ضحية سنويًّا، مقارنةً بنحو ١٦ ألف جريمة قتل في التقارير الروتينية للشرطة.25 بَيْد أن المدارس الأمريكية قد أنفقت مليارات الدولارات على تدابيرَ أمنيةٍ مشكوك في جدواها، مثل تركيب ألواح كتابة مقاومة للرصاص، وتسليح المدرسين بمسدسات رذاذ الفلفل، مع ترويع الأطفال بتمرينات مفزعة لإطلاق النار. وفي عام ٢٠٢٠ حين توحَّش ضابط شرطة أبيض وقتل جورج فلويد، الرجل الأمريكي الأفريقي الأعزل، ترتَّب على الأمر احتجاجاتٌ حاشدة، وتبني الجامعات والصحف والشركات فجأةً لمذهب أكاديمي راديكالي، ألا وهو النظرية النقدية للعِرق. كانت هذه الاضطرابات مدفوعة بالانطباع أنَّ الأمريكيين الأفارقة معرَّضون بشدة للقتل من الشرطة. ومرةً أخرى جاءت الأرقام مفاجئة كما حدث في حالة الإرهاب وإطلاق النار في المدارس. ففي المتوسط يموت ٦٥ أمريكيًّا أعزلَ من كل الأعراق على يد الشرطة سنويًّا، منهم ٢٣ من الأمريكيين الأفارقة، وهو ما يعادل نحو ثلاثة أعشار واحد في المائة من ٧٥٠٠ أفريقي أمريكي من ضحايا جرائم القتل.26

سيكون من البلادة النفسية أن نفسِّر ردَّ الفعل المُبالغ فيه لحوادث القتل المعلنة على أنه خوفٌ تضخَّم فقط بفعل الانحياز لما هو متوافر فحسب. فمثلما هو الحال مع العديد من العلامات الجلية على اللاعقلانية، ثمة مبادئ منطقية أخرى ضالعة في الأمر لخدمة أهدافٍ أخرى سوى الاحتمالات الدقيقة.

ربما يكون ردُّ فعلِنا غير المتكافئ تجاه جريمة قتل شنيعة غير عقلاني في إطار نظرية الاحتمالية لكنه عقلاني في إطار نظرية الألعاب (الفصل الثامن). فليس القتل كالأخطار الفتاكة الأخرى. لن يأبه إعصارٌ أو قرشٌ بكيفية استجابتنا لما يحمله لنا من الأذى، أما القاتل من البشر فقد يأبه بذلك. ومن ثَم فحين يستجيب البشر لجريمة قتل بالصدمة والغضب العام، ويضاعفون من التزامهم بالدفاع عن النفس أو العدالة أو الثأر، يبعث هذا برسالة لمن لديهم نية القتل، وربما يجعلهم يعيدون النظر.

يمكن لنظرية الألعاب أيضًا أن تفسِّر ذلك الهياج الذي يثيره نوعٌ معيَّن من الأحداث وصفه توماس شيلينج عام ١٩٦٠، والذي يمكن تسميته بالإهانة الجماعية.27 تتمثَّل الإهانة الجماعية في هجومٍ صارخ على نطاقٍ واسع على فردٍ أو رمزٍ لجماعةٍ ما. يُرى هذا الحدث على أنه ازدراء لا يُغتفر، وهو يستفز الجماعة للانتفاض والثأر كما يليق. من الأمثلة على ذلك انفجار السفينة «يو إس إس ماين» عام ١٨٨٩، الذي أدَّى إلى الحرب الإسبانية الأمريكية؛ وغرق الباخرة «آر إم إس لوسيتينيا» عام ١٩١٥، الذي زجَّ بالولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى؛ وحريق الرايخستاج عام ١٩٣٣، الذي أفسح المجال لإقامة النظام النازي؛ والهجوم على بيرل هاربر عام ١٩٤١، الذي أدخل الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية؛ وأحداث الحادي عشر من سبتمبر التي بررت غزو أفغانستان والعراق؛ ومضايقة أحد الباعة المتجولين في تونس عام ٢٠١٠، الذي أدَّى إشعاله النيران في نفسه إلى اندلاع الثورة التونسية والربيع العربي. إنَّ المنطق وراء هذه الأنواع من ردود الأفعال هو «المعرفة الشائعة» بالمعنى الحرفي متمثلًا في شيء يعلم الجميع أن الجميع يعلمون أن الجميع يعلمونه.28 وهذه المعرفة الشائعة ضرورية ﻟ «التنسيق»، حيث يتصرَّف العديد من الأطراف متوقِّعين أن كلًّا من الأطراف الأخرى ستفعل ذلك أيضًا. يمكن توليد المعرفة الشائعة من خلال بؤر مركزية؛ أي أحداث عامة يدرك الناس أنَّ أناسًا آخرين يشهدونها. قد يكون الغضب العام هو المعرفة الشائعة التي تحل مشكلة أن يعمل الجميع في تناسقٍ حين يكون السخط قد تراكم تدريجيًّا ويبدو أن اللحظة المناسبة للتعامل معه لا تحين أبدًا. يمكن لفعلٍ فظيع لا يجوز تجاهله أن يبعث على سخطٍ متزامن في دائرة متفرقة ويكوِّن منهم جماعة ثابتة العزم. أما كمية الأذى الناجمة عن الهجوم فهي غير مهمة في هذا السياق.
ليس الأمر أنها غير مهمة فحسب، بل هي من المحظورات. ذلك أنَّ إهانة الجماعة يلهم بما يسميه عالِم النفس روي باومايستر سردية الضحية: قصة رمزية وعظية يكتسب فيها الفعل المؤذي قدسية، ويُعد الضرر مستعصيًا على الإصلاح وغير مغتفَر.29 ليس الهدف من هذه الرواية الدقةَ وإنما التضامن. أما تقصِّي ما حدث فعلًا فيُعد غير مهم، بل خيانة.30
في أفضل الظروف، من الممكن أن يستنفر الغضبُ الجماعي حراكًا تأخَّر ضد مشكلة تختمر منذ فترة طويلة، كما جرى في التصدي للعنصرية المنهجية ردًّا على مقتل فلويد. يمكن للقيادة الواعية أن تحوِّل مسارَ الغضب نحو إصلاحٍ يتسم بالمسئولية، وهو ما عبَّر عنه أحد السياسيين إذ قال: «إياك وأن تدع أيَّ أزمة تذهب هباءً.»31 غير أنَّ تاريخ حركات الغضب العام يفيد بأنها من الممكن أيضًا أن تمكِّن الديماجوجيين وتشجِّع الغوغاء الهائجين على خلق أزمات وكوارث. ولهذا أعتقد في العموم أنه من الأفضل أن يقيِّم أصحابُ العقول المتروية الأضرارَ بدقة ويستجيبوا لها بما يتناسب مع حجمها.32

•••

لا يمكن للغضب أن يصبح عامًّا من دونِ تغطيةٍ إعلامية. فقد شاع استخدام مصطلح «الصحافة الصفراء» في أعقاب انفجار السفينة ماين. وحتى حين لا يدفع الصحافيون القرَّاءَ دفعًا لإثارة تعصُّبهم للوطن، فإن ردود أفعال العوام في طيشهم خطرٌ أصيل. أعتقد أن الصحافيين لم يتأملوا كفايةً بعدُ ما للتغطية الإعلامية من قدرة على إثارة تحيزاتنا المعرفية والتشويش على إدراكنا. قد يردُّ الساخرون المتشائمون قائلين إنَّ الصحفيين لا يأبهون البتة؛ فالشيء الوحيد الذي يأبهون له هو أعداد القراءات والمشاهدات. لكني أرى من واقع خبرتي أن أغلب الصحافيين مثاليون يشعرون أنهم يلبُّون الواجب السامي بإعلام العامة.

الصحافة آلة للتوافر. إنها تقدِّم الحكايات التي تغذي انطباعنا عما هو شائع على نحوٍ كفيل بأن يضلِّلنا. بما أن الأخبار هي ما يحدث، وليس ما لا يحدث، فإن مقام الكسر الذي يمثل الاحتمال الحقيقي لوقوع حدثٍ ما — كل فرص وقوع حدثٍ ما، بما في ذلك الفرص التي لا يقع فيها — غير مرئي، مما يجعلنا في جهالة بشأن مدى شيوع الشيء حقًّا.

عِلاوة على ذلك، فليس هذا التشويه للإدراك بالأمر العابر، وإنما ينبهنا بالخطأ نحو البلاء. الأشياء التي تقع فجأة غالبًا ما تكون سيئة — حرب، إطلاق للنيران، مجاعة، إفلاس — لكن الأشياء الطيبة قد تتجسَّد أصلًا في عدم حدوث أي شيء، كبلد ممل في حالة سلام أو منطقة منسية في عافية وشبع. وحين يحدث التقدُّم، فإنه لا يكون في يوم وليلة، بل ينمو بنسبٍ صغيرة عامًا بعد آخر إلى أن يغيَّر العالم رويدًا رويدًا. فمثلما يشير عالِم الاقتصاد ماكس روزر، كان بإمكان المواقع الإخبارية أن تجعل العنوان الرئيسي لها يوميًّا على مدى السنين الخمس والعشرين الماضية: «بالأمس نجا من الفقر المدقع ١٣٧ ألف شخص.»33 غير أنها لم تضع هذا العنوان الرئيسي قط؛ لأن ذلك لم يقع فجأة ذات يوم خميس من شهر أكتوبر. وهكذا مرَّ واحد من أعظم التطورات في تاريخ البشرية — نجاة مليارٍ وربع شخص من البؤس — دون أن يلحظه أحد.
هذا الجهل ملحوظ ويمكن قياسه. فكثيرًا ما يجد مستطلعو آراء الجماهير أن الناس متفائلون جدًّا في الغالب بشأن حيواتهم الخاصة، لكنهم بالغو التشاؤم حيال مجتمعاتهم. فعلى سبيل المثال، نجد أنه خلال أغلب السنوات بين عامي ١٩٩٢ و٢٠١٥، وهي الفترة التي يدعوها الباحثون في علم الجريمة فترةَ الانخفاض الهائل في الجرائم الأمريكية، كان غالبية الأمريكيين يعتقدون أن الجرائم في ارتفاع.34 في «مشروع الجهل»، أثبت القائمون به، هانز، وأولا روزلينج، وآنا روزلينج رونلند أن فهمَ التوجهات العالمية معكوس تمامًا لدى أغلب المتعلمين؛ إذ يعتقدون أن متوسط العمر المتوقَّع للفرد والتعليم والفقر الشديد، كل ذلك يزداد سوءًا، في حين أنها جميعًا تحسَّنت بدرجةٍ كبيرة.35 (وقد أدَّت جائحة كوفيد ١٩ إلى انتكاس هذه التوجُّهات في عام ٢٠٢٠، انتكاسًا مؤقتًا أغلب الظن.)
من الممكن أن يكون للجهل المبني على التوافر أثرٌ مدمِّر. فقد يؤدي شريط الأخبار الذهني المتكرر للكوارث والإخفاقات إلى التشاؤم حيالِ ما للعلم، والديمقراطية الليبرالية، ومؤسسات التعاون الدولي من قدرةٍ على النهوض بحال البشر. ومن الممكن أن يفضي ذلك إلى نزعةٍ انهزامية تعجيزية أو راديكالية طائشة: الدعوة إلى اتخاذ إجراءات جذرية، أو قلب الأوضاع، أو تمكين شخص ديماجوجي يعد قائلًا: «أنا وحدي مَن أستطيع إصلاح الوضع.»36 إضافةً إلى ذلك، فقد توفِّر الصحافة المروِّجة للفواجع، دون قصد منها، حوافزَ ضارةً للإرهابيين ومرتكبي حوادث إطلاق النار؛ إذ يتمكَّنون من التحايل على النظام ويكتسبون شهرةً سريعة.37 وثمة مكان مخصوص في جحيم الصحافيين محفوظ من أجل الكتَّاب الذين كانوا في عام ٢٠٢١، خلال طرح لقاح كوفيد المعروف بأن معدَّل فعاليته ٩٥ في المائة، يكتبون القصص عن الأشخاص الذين تلقَّوا اللقاح وأصابهم المرض، وهو ليس خبرًا من الأساس (بما أنه كان من المؤكَّد دائمًا أنه لن يقي البعض) فتكفلوا بتخويف الآلاف من هذا العلاج وفيه النجاة.
كيف نستطيع أن نميِّز الأخطار الحقيقية في العالم مع ضبط إدراكنا للواقع؟ لا بد لمستهلكي الأخبار أن يكونوا على درايةٍ بما تنطوي عليه من انحيازٍ أصيل، ويضبطوا وجبتهم من المعلومات لتشمل مصادرَ تُقدم الصورة الإحصائية الأكبر: تقليل حصتهم من أخبار «الفيسبوك»، وزيادة حصتهم من الموقع الإلكتروني «عالمنا في البيانات».38 وعلى الصحافيين أن يضعوا الأحداثَ المثيرة في سياقها. فينبغي أن تُقدَّم حوادث القتل أو تحطُّم الطائرات أو هجوم أسماك القرش مصحوبةً بمعدَّل سنوي، يراعي مقام كسر الاحتمال، لا البسط وحدَه. ينبغي أيضًا أن توضع النكسات أو المصائب المتوالية في سياق التيار الطويل الأمد. يجدُر بمصادر الأخبار أيضًا أن تقدِّم عدادًا للمؤشرات المحلية والدولية — مثل معدَّل جرائم القتل، وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون، والوفيات الناجمة عن الحروب، والأنظمة الديمقراطية، وجرائم الكراهية، والعنف ضد المرأة، والفقر، وما إلى ذلك — بحيث يستطيع القراء أن يروا التوجُّهات بأنفسهم، ويدركوا أي السياسات هي التي ستوجِّه الأمور في الاتجاه الصحيح. ورغم أن المحررين كانوا قد أخبروني بأن القراء يكرهون الرياضيات ولن يقبلوا أبدًا أن تفسد الأرقامُ قصصهم وصورهم، فإن إعلامهم نفسه يكذِّب هذا الزعم الذي يعكس الاستعلاء. يقبِل الناس بشغفٍ على البيانات في مجالات الطقس والأعمال وصفحات الرياضة، فلماذا لن يفعلوا ذلك مع الأخبار؟

الاحتمالات المقترنة والمنفصلة والشرطية

يعلن خبير الأرصاد على التلفاز أن ثمة احتمالًا بنسبة ٥٠ في المائة بسقوط الأمطار يوم السبت واحتمالًا بنسبة ٥٠ في المائة بسقوط الأمطار يوم الأحد، وينتهي إلى أن هناك احتمالًا بنسبة ١٠٠ في المائة بسقوط الأمطار خلال نهاية الأسبوع.39 وتحكي مزحةٌ قديمة عن رجل أخذ معه قنبلةً إلى الطائرة من أجل سلامته؛ إذ تفكَّر متسائلًا: ما احتمال أن توجد قنبلتان على الطائرة؟ ثم هناك الحجة القائلة بأن البابا كائن فضائي في أغلب الظن. ذلك أنَّ احتمال أن يكون شخص اختِير عشوائيًّا من كل سكان الأرض هو البابا احتمالٌ ضئيل: واحد من ٧٫٨ مليارات، أو ٠٫٠٠٠٠٠٠٠٠٠١٣ فرانسيس هو البابا. إذن فمن المحتمل ألا يكون فرانسيس بشرًا.40
من السهل أن نقع في الخطأ عند الاستدلال بشأن الاحتمالية. تأتي هذه الإخفاقات من الخطأ في تطبيق الخطوة التالية في فهم الاحتمالية: كيفية حساب الاحتمالات عند الاقتران والانفصال والتتمة والشرط. إذا بدت هذه المصطلحات مألوفة، فذلك لأنها المقابل في سياق الاحتمالية لمعاملات الربط المنطقي التي وردت في الفصل السابق: «الواو» و«أو» و«ليس» و«إذا، فإن». رغم أن الصيغ بسيطة، فكلٌّ منها ينصب فخًّا، والوقوع فيها هو ما يؤدي إلى الزلات المحرِجة في حساب الاحتمالات.41

إنَّ احتمال اقتران حدثين مستقلين، احتمال: «ل» (أ وب)، هو نتاج احتمالات كلٍّ منهما: ل (أ) × ل (ب). إذا كان لدى آل جرين طفلان، فما احتمال أن يكون الاثنان فتاتين؟ إنه الاحتمال أن يكون الطفل الأول فتاة، ٠٫٥، في احتمال أن يكون الثاني فتاة، وهو أيضًا ٠٫٥. أي ٠٫٢٥. عند الترجمة من حدث وحيد للغة التكرارية، سنجد أنه في كل الأسر التي لديها طفلان التي نفحصها، فالربع منها لديه فتاتان. ولمزيد من التبسيط، ينصحنا التعريف الكلاسيكي للاحتمال بعرض كل الاحتمالات المنطقية: صبي – صبي، صبي – فتاة، فتاة – صبي، فتاة – فتاة. واحدة من هذه المجموعات الأربع ليس بها سوى فتاتين فحسب.

يكمُن فخ صيغة الاقتران في شرط «الاستقلال». تكون الأحداث مستقلة حين لا يربطها رابط؛ فلا يؤثِّر احتمال رؤية واحد على احتمال رؤية الآخر. تخيَّل مجتمعًا حيث يمكن للناس اختيار جنس المولود، وهو ما قد يكون غيرَ بعيد. وتخيَّل من أجل المثال أن الآباء لديهم تعصبٌ للجنس، فيريد نصفهم صبيةً فقط ويريد النصف الآخر فتيات فقط. إذا كان المولود الأول فتاة، فتلك إشارة على أن الوالدين أرادا فتاة، وهو ما يعني أنهما سيريدان فتاةً مرة أخرى، والعكس صحيح إذا كان الطفل الأول صبيًّا. الأحداث هنا ليست مستقلة، ومن ثَم ستفشل عملية الضرب. إذا كانت الاختيارات قاطعة والتقنية المستخدمة مثالية، فسيكون لدى كل أسرة من الأسر إما صبية فقط أو فتيات فقط، وسيكون احتمال أن تكون الأسرة ذات الطفلين كلها فتيات ٠٫٥ وليس ٠٫٢٥.

إنَّ القصور عن تبيُّن ما إذا كانت الأحداث مستقلة أما لا قد يفضي إلى أخطاءٍ كبيرة. حين تطرأ سلسلة من الوقائع النادرة في كياناتٍ ليست معزولة بعضها عن بعض — مثل سكان المبنى الذين ينقلون عدوى البرد بعضهم إلى بعض، أو أفراد مجموعة من الأقران الذين يقلِّد أحدهم الآخر، أو إجابات الاستبيان الآتية من مجيب واحد يظل محتفظًا بتحيزاته من سؤال لسؤال، أو قياس أي شيء على مدى أيام أو شهور أو سنوات متتالية مما قد يشير إلى الجمود — فعندئذٍ تكون مجموعةُ الملاحظات في واقع الأمر حدثًا واحدًا، وليست سلسلة استثنائية من الأحداث، ولا يجوز إجراء عملية الضرب على احتمالاتها. على سبيل المثال، إذا كان معدَّل الجريمة أقلَّ من المتوسط خلال كلٍّ من اثني عشر شهرًا تلت وضع لافتات «الحي مراقَب» التحذيرية في مدينةٍ ما، فسيكون من الخطأ استنتاج أن هذا الانخفاض ناتج عن اللافتات وليس صدفة. ذلك أنَّ معدَّلات الجرائم تتغيَّر ببطء، مع استمرار الأنساق من شهر إلى الشهر التالي، من ثَم فالنتيجة أقربُ إلى رمي العملة مرة واحدة من رميها اثنتي عشرة مرة.

في المجال القانوني، لا يكون الخطأ في تطبيق صيغة الاقتران خطأً رياضيًّا فحسب، بل إخفاقًا في تحقيق العدالة. من الأمثلة الرديئة السمعة على ذلك الهراء المسمَّى ﺑ «قانون مِدو»، على اسم طبيب الأطفال البريطاني الذي ادَّعى أنه مع معاينة الموت المفاجئ للرضَّع في الأسرة الواحدة، «تكون وفاة رضيع واحد مأساة، واثنين مثيرةً للريبة، وثلاثة جريمة قتل ما لم يوجد دليل يثبِت العكس». وفي قضية المحامية سالي كلارك عام ١٩٩٩، التي فقدت طفلين رضيعين، شهد الطبيب بأنه ما دام احتمال الموت المفاجئ للرضَّع في أسرة موسرة لا يدخِّن أفرادها هو ١ في ٨٥٠٠، فإن احتمالَ وقوع وفاتين هو تربيع ذلك الرقم؛ أي واحد في ٧٣ مليونًا. وحُكِم على كلارك بالسجن المؤبد بتهمة القتل. غير أنَّ علماء الإحصاء هالهم الأمر وأوضحوا الخطأ: فالوفيات المفاجئة للرضَّع في الأسرة الواحدة ليست مستقلة؛ لأن الأشقاء قد يشتركون في الاستعداد الوراثي، وقد يحتوي المنزل على عواملِ خطرٍ مرتفعة، وقد يكون الأبوان استجابا للمأساة الأولى باتخاذ احتياطاتٍ خاطئة زادت من احتمال وقوع الثانية. وقد أُفرج عن كلارك بعد الاستئناف الثاني (على أسسٍ مختلفة)، وخلال السنوات التالية تعيَّن مراجعة مئات القضايا القائمة على أخطاءٍ مشابهة.42
ثمَّة سقطة أخرى في حسابِ احتمالات الاقتران كان لها دور صغير لكن بارز في المحاولة الغريبة التي أقدَم عليها دونالد ترامب وأنصاره لإبطال نتائج انتخابات ٢٠٢٠ الرئاسية بادعاءاتٍ لا أساس لها تقول بالتلاعب بالانتخابات. في التماسٍ للمحكمة الأمريكية العليا، أفصح النائب العام لولاية تكساس، كين باكستون، قائلًا: «إن احتمالَ فوز نائب الرئيس الأسبق بايدن بالاستفتاء الشعبي في الولايات الأربع المدَّعى عليها — جورجيا وميشيجان وبنسلفانيا وويسكنسن — بصفة مستقلة إذا وضعنا في الاعتبار التقدُّم المبكِّر للرئيس ترامب في تلك الولايات الساعة الثالثة صباحًا في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٢٠، هو أقل من واحد في كوادريليون، أو واحد في ١٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠. ولكي يفوز نائب الرئيس الأسبق بايدن بهذه الولايات الأربع جملةً، فإن احتمال وقوع ذلك الحدث أقل من واحد في الكوادريليون مرفوع للقوة الرابعة.» لقد افترضت العملية الحسابية المدهشة التي جاء بها باكستون أنَّ الأصوات التي تُحصى على مدى عملية العد كانت مستقلة إحصائيًّا، مثل رمي النَّرد مرات متتالية. لكن سكان المدن غالبًا ما يصوِّتون بطريقة مختلفة عن سكان الضواحي، الذين يصوِّتون بدورهم بطريقة مختلفة عن سكان الريف، والذين يصوتون بالحضور يختلفون عمن يرسلون بطاقاتِ الاقتراع بريديًّا؛ خاصةً في ٢٠٢٠، حين أثنى ترامب أنصارَه عن التصويت بالبريد. ففي نطاق كل قطاع، الأصوات غير مستقل بعضها عن بعض، وتختلف معدَّلات الأساس من قطاع لآخر. بما أن نتائج كل دائرة انتخابية تُعلن حالما تتوافر، وبما أن بطاقات الاقتراع المرسلة بريديًّا تُحصى لاحقًا، فمن الممكن أن يرتفع تَعداد الأصوات المستمر لصالح كل مرشح أو ينخفض مع تَعداد الشرائح المختلفة، ولا يمكن استقراء النتيجة النهائية من النتائج المؤقَّتة. وبعد ذلك كله، رُفع هذا الهراء للقوة الرابعة حين ضَرب باكستون الاحتمالات الزائفة من الولايات الأربع، التي لا تتسم أصواتها هي أيضًا بالاستقلال بعضها عن بعض؛ فما يؤثِّر على الناخبين في ولاية ميشيجان يؤثِّر في رأيهم أيضًا على الأرجح في ولاية ويسكنسن.43

•••

يرتبط الاستقلال الإحصائي بمبدأ السببية: إذا أثَّر حدثٌ على حدثٍ آخر، فهما غير مستقلين إحصائيًّا (رغم أن العكس ليس صحيحًا كما سنرى: فالأحداث المنفصلة سببيًّا يجوز أن تكون مرتبطة إحصائيًّا). هذا هو السبب في مغالطة المقامر. لا يمكن لدورة عجلة الروليت أن تؤثِّر على الدورة التالية؛ لذلك فإن المقامر المتهور الذي يتوقَّع أن تَتابُع فوز اللون الأسود سيعقبه فوزُ اللون الأحمر، سيخسر خسارةً بالغة: فالاحتمال دائمًا أقلُّ من ٠٫٥ (بسبب الخانتين الخضراوين للصفر والصفرين). هذا يبرهن على أن مغالطات الاستقلال الإحصائي من الممكن أن تسلك مذهبين: افتراض الاستقلالية خطأً (كما في مغالطة مِدو) وافتراض الارتباط خطأً (كما في مغالطة المقامِر).

لا تكون استقلالية الأحداث من عدمها واضحةً على الدوام. من بين أشهر تطبيقات أبحاث التحيُّزات المعرفية على الحياة اليومية تحليل تفيرسكي — مع اختصاصي علم النفس الاجتماعي توم جيلوفيتش — لمسألة «اليد الساخنة» في كرة السلة.44 يعلم كلُّ مشجع لكرة السلة أنه من الممكن لأحد اللاعبين من وقتٍ لآخر أن يكون «متَّقد الحماسة» أو «في أوج تألُّقه» أو «سريعًا،» لا سيما «الذين يحرزون أهدافًا متلاحقة» مثل فيني جونسون «الميكروويف»، لاعب الهجوم في فريق ديترويت بيستونز في ثمانينيات القرن العشرين الذي استحق لقبه لأنه ينشط سريعًا. على الرغم من تشكيك كل الجماهير والمدربين واللاعبين والصحافيين الرياضيين، زعم تفيرسكي وجيلوفيتش أن ظاهرة اليد الساخنة ليست سوى وهم؛ فهي تجسيد عكسي لمغالطة المقامِر. فقد أشارت البيانات التي حلَّلاها إلى أن نتيجةَ كل محاولة مستقلةٌ إحصائيًّا عن سلسلة المحاولات السابقة لها.
بيد أنه لا يمكن استبعاد احتمال اليد الساخنة على أساس الوجاهة السببية قبل الاطلاع على البيانات على نحو ما يجوز لنا ذلك مع مغالطة المقامر. فعلى عكس عجلة الروليت، يتمتع جسدُ اللاعب وعقله بذاكرة، وليس من قبيل التوهم في الخرافات الاعتقاد أنه من الممكن أن يستمر ارتفاع النشاط أو الثقة لعدة دقائق متتالية. من ثَم فإنه لم يكن من قبيل الإخلال بالرؤية العلمية حين أعاد علماء إحصاء آخرون النظرَ في البيانات وانتهَوا إلى أن العلماء كانوا مخطئين بينما كان الرياضيون على صواب: ثمة يدٌ ساخنة في كرة السلة. لقد أثبت عالِما الاقتصاد جوشوا ميلر وآدم سانجورجو أنه عند اختيار متتابعات من الأهداف أو الإخفاقات في التسديد من كمٍّ هائل من البيانات، لا تكون نتيجة المحاولة التالية مستقلة إحصائيًّا عن تلك السلسلة. والسبب هو أنه لو تصادف وكانت المحاولة ناجحة وتواصلت السلسلة، فربما تُحسب جزءًا من تلك السلسلة من الأساس. وأي محاولة تُعيَّن لوقوعها بعد سلسلة ستنحاز لأن تكون محاولةً غير ناجحة: محاولة لم تتسنَّ لها فرصة أن تكون جزءًا من السلسلة نفسها. هذا يلغي حساباتِ ما ينبغي أن نتوقعه وفقًا للصدفة، مما يلغي بدوره استنتاج أن لاعبي كرة السلة لا يخضعون لتأثير التوالي، مثلهم في ذلك مثل عجلات الروليت.45

لنا في مغالطة اليد الساخنة ثلاثة دروس. أولًا، من الممكن أن تكون الأحداث مرتبطة إحصائيًّا وليس ذلك حين يؤثِّر حدثٌ على حدث آخر سببيًّا فحسب، بل يحدث ذلك أيضًا حين يؤثِّر على أي حدث سنختاره للمقارنة. ثانيًا، قد تنشأ مغالطة المقامر من سمةٍ ليست غير عقلانية تمامًا للإدراك؛ وهي أننا حين نبحث عن متتاليات على مدًى طويل من الأحداث، نجد أنه يصبح من الأرجح حقًّا أن تنقلب السلسلة عند طول محدَّد عن أن تستمر. ثالثًا، من الممكن أن تكون الاحتمالية معقَّدة بدرجة كبيرة وعميقة؛ فحتى الخبراء من الممكن أن يخطئوا في الحساب.

•••

لنتناول الآن احتمال «انفصال الأحداث»، ل (أ أو ب). إنه الاحتمال أ زائد الاحتمال ب ناقص احتمال أ وب معًا. إذا كان لدى آل براون طفلان، فإن احتمال أن يكون أحدهما على الأقل فتاة — أي إن الطفل الأول أو الثاني فتاة — يساوي ٠٫٥+ ٠٫٥ − ٠٫٢٥، أي ٠٫٧٥. بإمكانك أن تصل إلى نفس النتيجة بإحصاء التراكيب: صبي − فتاة + فتاة − فتاة + فتاة − صبي (ثلاثة احتمالات) من صبي − فتاة + صبي − صبي + فتاة − صبي + فتاة − فتاة (أربعة احتمالات). يمكنك التوصُّل إليها أيضًا بإحصاء التكرارات: في مجموعة كبيرة من الأسر ذات الطفلين، ستجد أن ثلاثة أرباعها لديها فتاة واحدة على الأقل.

يوضح لنا حساب «أو» الخطأ الذي وقع فيه خبير الأرصاد الذي قال إنه كان من المؤكد أن تسقط الأمطار خلال نهاية الأسبوع لوجود احتمال ٥٠ في المائة أن تسقط الأمطار في كل يوم منها: فبجمع الاحتمالين، ضاعف سهوًا عددَ أيام نهاية الأسبوع التي ستمطر فيها في «كلا» اليومين، ناسيًا أن يطرح ٠٫٢٥ من أجل الاقتران. لقد طبَّق قاعدة تناسب «أو الإقصائية»؛ أي أ أو ب لكن ليس كلاهما. «يمكن» جمع احتمالات الأحداث التي يقصي أحدها الآخر للحصول على الانفصال، ومجموعها يساوي واحدًا؛ أي اليقين. احتمال أن يكون الطفل صبيًّا (٠٫٥) أو فتاة (٠٫٥) هو مجموعهما، أي واحد، بما أن الطفل لا بد أن يكون واحدًا من الاثنين (بما أن الغرض من هذا المثال شرْح جزء الرياضيات، فقد اعتمدْت ثنائية الجنس ولم أضَع في الحسبان الأطفال مزدوجي الجنس). إذا نسيت الفرْق وخلطت بين الأحداث المتداخلة والمتنافية، فستحصل على نتائجَ غريبة. تخيَّل أن يتوقَّع خبير الأرصاد احتمال ٠٫٥ لأن تسقط الأمطار يوم السبت، والأحد، والاثنين، ليخلص إلى أن احتمال سقوط الأمطار خلال نهاية الأسبوع الطويلة هو ١٫٥.

أما احتمال متمم الحدث، أي ألا يحدث الاحتمال أ، فهو واحد ناقص احتمال حدوثه. يكون هذا مفيدًا حين يكون علينا تقدير احتمال حدث «واحد على الأقل». هل تتذكرون آل براون وابنتهما، أو ربما، ابنتيهما؟ بما أنَّ احتمال أن يكون لديك ابنة هو نفسه احتمال ألا يكون كل أبنائك صبية، فبدلًا من حساب قيمة الانفصال (أن يكون الطفل الأول فتاة «أو» الطفل الثاني فتاة)، من الممكن أن نحسب متمم الاقتران: واحد ناقص احتمال أن يكون كلاهما صبية (وهو ٠٫٢٥)؛ أي ٠٫٧٥. في حالة الحدثين لا يهم كثيرًا أيُّ الصيغتين سنستخدم. لكن حين يكون علينا حساب احتمال واحد على الأقل، أ، في مجموعة كبيرة، تستلزم قاعدةُ الانفصال عمليةً مملة تنطوي على جمْع الكثير من التوافيق وطرحها. ومن الأسهل حينها أن نحسبها بطريقة: احتمال «ليس الكل ليس أ»، وهو ببساطة واحد ناقص حاصل ضرب كبير.

لنفترض، على سبيل المثال، أنَّه يوجد كل عام احتمال باندلاع حرب يبلغ ١٠ في المائة. فما احتمال أن تندلع حربٌ واحدة على الأقل خلال عَقد؟ (ولنفترض أن الحروب مستقلة، وليست مُعدية، وهو ما يبدو صحيحًا.)46 بدلًا من جمع احتمال أن تندلع الحرب في السنة الأولى زائد احتمال أن تندلع الحرب في السنة الثانية ناقص احتمال اندلاع حرب في السنة الأولى والسنة الثانية، وهكذا مع كل التوافيق، يمكننا ببساطة أن نحسب احتمال «عدم» اندلاع حرب على مدى السنوات كلها ونطرحه من واحد. هذا ببساطة هو احتمال ألا تندلع حرب في سنة محدَّدة، ٠٫٩، مضروبًا في نفسه عن كل السنوات الأخرى (٠٫٩ × ٠٫٩ × … ٠٫٩ أي ٠٫٩، وهو ما يساوي ٠٫٣٥)، وعند طرحه من ١ سيعطينا ٠٫٦٥.

•••

والآن نصل أخيرًا إلى الاحتمال الشرطي: احتمال أ بشرط وقوع ب، الذي يُكتب ل (أ | ب). الاحتمال الشرطي بسيط في مفهومه: فهو ليس سوى احتمالية «إذن» في عبارة «إذا … فإن». وهو بسيط من الجانب الرياضي أيضًا؛ فهو ببساطة الاحتمال أ «و» ب مقسومًا على الاحتمال ب. بالرغم من ذلك، فهو مصدر التباس وأخطاء ومفارقات لا تنتهي في الاستدلال على الاحتمالية، بدءًا من الشخص البائس الذي في كارتون «إكس كيه سي دي»:47 يكمُن خطؤه في الخلط بين الاحتمالية البسيطة أو «معدَّل الأساس» للوفاة بالبرق، احتمال (الإصابة بالبرق)، وبين الاحتمال «الشرطي» للوفاة بالبرق إذا كان الشخص بالخارج في أثناء عاصفة كهربائية، احتمال (الإصابة بالبرق | بالخارج أثناء العاصفة).
figure

رغم أن الجانب الرياضي في الاحتمال الشرطي بسيط، فإنه يظل مستعصيًا على البديهة حتى نجعله ملموسًا ويمكن تخيُّله (كالعادة). انظر في أشكال فِن هذه؛ حيث يمثل حجم المنطقة في الصفحة عدد النواتج. المستطيل الذي تبلغ مساحته واحدًا، يضم كل الاحتمالات. تحوي الدائرة أ كل ما يخص أ، ويظهر في الشكل أعلى اليسار أن الاحتمال أ يوازي مساحته (الداكنة) كنسبة من المستطيل كله (الفاتح)، وهي طريقة أخرى لوصف عدد الأحداث مقسومًا على عدد الاحتمالات. يظهر في الشكل أعلى اليمين الاحتمال أ «أو» ب، وهو المساحة الداكنة كلها، أي مساحة الاحتمال أ زائد مساحة الاحتمال ب من دون إحصاء الحيز المشترك بينهما في النصف مرتين؛ أي الاحتمال أ وب. أما ذلك الحيز، ل (أ وب)، فيظهر في الشكل السفلي على اليسار.

figure

يوضح الشكل السفلي على اليمين طبيعة الاحتمالات الشرطية. إنه يشير إلى أننا لا بد أن نتجاهل الفراغ الفسيح لكل الأشياء الواردة الحدوث، الممثلة باللون الأبيض، ونركِّز اهتمامنا فقط على الأحداث التي يقع فيها ب؛ أي الدائرة المظلَّلة. لنفحص الآن كم من «تلك» الأحداث تحدث فيها أ أيضًا: حجم حيز أ «و» ب كنسبة من حجم الدائرة ب. من بين كل وقائع سير الناس في عاصفة كهربائية (ب)، كم النسبة التي تنتهي بالإصابة بصاعقة (أ وب)؟ لذلك السبب نحسب الاحتمال الشرطي، ل (أ | ب)، بقسمة الاقتران، ل (أ وب) على معدَّل الأساس، ل (ب).

لنتناول مثالًا على ذلك. لدى آل جراي طفلان. الكبرى فتاة. أما وقد عرفنا هذا، فما احتمال أن تكون كلتاهما فتاة؟ بنا نترجم السؤال إلى احتمال شرطي؛ أي احتمال أن الأولى فتاة والثانية فتاة إذا كانت الأولى فتاة، أو بالرموز الدقيقة: ل (الأولى فتاة والثانية فتاة | الأولى فتاة). تخبرنا الصيغة بأن نقسم الاقتران، الذي حسبنا بالفعل أنه يساوي ٠٫٢٥ على الاحتمال البسيط للطفل الثاني، ٠٫٥، وبذلك نحصل على ٠٫٥. يمكن أيضًا صياغة الاحتمال بالصورة الكلاسيكية الملموسة على النحو التالي: فتاة – فتاة (احتمال واحد) على فتاة – فتاة وفتاة – صبي (احتمالان) يساوي نصفًا.

تضيف الاحتمالات الشرطية بعضَ الدقة لمفهوم الاستقلال الإحصائي، الذي تركت أمره معلَّقًا في القسم الفرعي السابق. الآن يمكننا تعريف المفهوم: يكون أ وب مستقلين إذا كان احتمال أ بشرط ب هو نفسه إجمالي احتمال أ، لجميع احتمالات ب، (وهكذا مع ب). حسنًا، هل تذكرون الخطأ الفاحش في ضرب احتمالات الأحداث المقترنة وهي ليست مستقلة؟ ما الذي ينبغي فعله بدلًا من ذلك؟ الإجابة سهلة: احتمال اقتران أ وب حين «لا» يكونان مستقلين يساوي احتمال أ في احتمال ب بشرط أ، بعبارة أخرى، ل (أ) × ل (ب | أ).

لماذا أسهبت في شرح مفهوم الاحتمال الشرطي بكل هذه الأمثلة المترادفة: باللغة المعجمية، ومكافِئها المنطقي، والصيغة الرياضية، وأشكال فِن، وإحصاء الاحتمالات؟ لأن الاحتمال الشرطي مصدرٌ كبير للَّبس حتى إنك مهما فعلت لن تبالغ في شرحه.48

إذا كنت لا تصدِّقني، فلتنظر أمرَ آل وايت، وهي أسرةٌ أخرى لديها طفلان. أحدهما على الأقل فتاة. فما احتمال أن يكون كلتاهما فتاة؛ أي ما الاحتمال الشرطي لأن تكونا فتاتين بشرط أن يكون هناك فتاة واحدة على الأقل، أو ل (الأولى فتاة «و» الثانية فتاة | الأولى فتاة «أو» الثانية فتاة)؟ قليلون جدًّا مَن يتوصَّلون إلى الإجابة الصحيحة حتى إن علماء الإحصاء يسمونها مفارقة صبي أم فتاة. غالبًا ما يقول الناس ٠٫٥؛ لكن الإجابة الصحيحة ٠٫٣٣. في هذه الحالة من الممكن أن يؤدي التفكير المادي إلى إجابة خاطئة؛ فالناس يتصوَّرون فتاة كبرى، ويرون أنها قد يكون لديها شقيقة صغرى أو شقيق أصغر، ويتصوَّرون أن الشقيقة أحدُ احتمالين. وينسون أنه ثمة طريقة أخرى ليكون لدى الأسرة فتاة واحدة على الأقل: من الممكن أن تكون أصغر اثنين. إذا سردنا الاحتمالات على نحوٍ صحيح فسنحصل على: ما يلي: لدينا فتاة – فتاة (واحد) مقسومًا على [فتاة – فتاة زائد فتاة – صبي زائد صبي – فتاة] (ثلاثة)، وهو ما يساوي ثلثًا. يمكننا حساب الاحتمال أيضًا باستخدام الصيغة: سنقسم ٠٫٢٥ (فتاة وفتاة) على ٠٫٧٥ (فتاة أو فتاة).

لا تكمُن خدعة مفارقة صبي أو فتاة في صيغتها فحسب. إنما تنجم عن قصور الخيال عن تَعداد الاحتمالات، وهي تظهر في عدة أشكال، منها معضلة مونتي هول. ولدينا نظيرٌ مطابق لها وإن كان أبسط.49 يكسب بعض المحتالين المتجولين قُوتَهم بإقناع المارة بلعب الثلاث ورقات. يريهم اللاعب المراوغ بطاقةً حمراء من الجهتين، وأخرى بيضاء من الجهتين، وأخرى حمراء من جهة وبيضاء من الجهة الأخرى. بعد ذلك، يخلط بينهم في قبعة، ويسحب واحدة، ويذكر أن وجهها أحمر (مثلًا)، ويراهن المارة على أن الوجه الآخر أيضًا أحمر (يدفعون له دولارًا إذا كان أحمر، وهو يدفع لهم دولارًا إذا كان أبيض). إنه رهان خاسر: فاحتمال أن تكون البطاقة حمراء اثنين من ثلاثة. ما يفعله السذَّج أنهم يحصون البطاقات ذهنيًّا بدلًا من أن يحصوا وجوه البطاقات، ناسين أن ثمَّة احتمالين لظهور البطاقة الحمراء الوجهين بوجهها الأحمر، في حال اختيارها.
وهل تذكرون الرجل الذي أخذ معه قنبلة على الطائرة؟ لقد حسب الاحتمالية الإجمالية لأن توجد قنبلتان على الطائرة. غير أنه بإحضار قنبلته إلى الطائرة، ألغى أغلب الاحتمالات التي في المقام. فالرقم الذي لا بد أن ينتبه له هو الاحتمال الشرطي لوجود قنبلتين على الطائرة مع مراعاةِ أن عليها قنبلةً بالفعل؛ أي قنبلته (واحتماليتها واحد). يتمثل الشرط في احتمال أن يكون شخصٌ آخر معه قنبلة مضروبًا في واحد (اقتران قنبلته وقنبلة الشخص الآخر) مقسومًا على واحد (قنبلته)، وهو ما يعطينا بالطبع احتمال أن شخصًا آخر سيكون معه قنبلة، حيث نقطة البداية نفسها. وُظفت هذه المزحة خيرَ توظيف في فيلم «العالم كما يراه جارب» (ذا وورلد أكوردينج تو جارب). يطالع آل جارب منزلًا فإذا بطائرةٍ صغيرة تصطدم به. فيقول جارب: «سنشتري هذا المنزل. فإن احتمال أن تصطدم طائرة أخرى بهذا المنزل خيالي.»50
إنَّ نسيان ربط احتمال معدَّل أساس بشرط الظروف الخاصة القائمة — عاصفة البرق، والقنبلة التي تأخذها إلى الطائرة — من الأخطاء الشائع الوقوع فيها فيما يخص الاحتمالات. ففي أثناء محاكمة أو جيه سيمبسون عام ١٩٩٥، نجم كرة القدم المتهم بقتل زوجته، نيكول، لفت المدعي العام الانتباهَ إلى أنه كان يضرب زوجته. لكن عضوًا من «فريق الأحلام» الذي ضم محامِي الدفاع عن سيمبسون أجاب بأن قليلين جدًّا من الأزواج الذين يضربون زوجاتهم يتطوَّر بهم الأمر إلى قتلهن، ربما ١ في ٢٥٠٠. وقد اكتشفت المغالطة معلِّمةُ لغة إنجليزية تُدعى إلين سكاري. فلم تكن نيكول سيمبسون مجرد ضحية عادية من ضحايا عنف الأزواج. وإنما كانت ضحية «ماتت مذبوحة». أما الإحصائية المعنية فهي الاحتمال الشرطي أن شخصًا قتل زوجته «مع الأخذ في الاعتبار» بأنه كان قد ضرب زوجته وأن «زوجته ماتت مقتولة». الاحتمال يساوي ثمانية من تسعة.51

•••

الخطأ الآخر الشائع مع الاحتمال الشرطي هو الخلط بين احتمال وقوع أ بشرط وقوع ب واحتمال وقوع ب بشرط وقوع أ، وهو المقابل الإحصائي لإثبات التالي: (الانتقال من إذا كان س فإذن ص إلى إذا كان ص فإذن س).52 أتذكرون إروين المصاب بوسواس المرض، الذي ظنَّ أنه مصاب بمرض في الكبد لأن أعراضه طابقت القائمة بالضبط؛ أي عدم الشعور بتعب؟ خلط إروين بين احتمال ألَّا يكون لديه أعراض بشرط أن يكون مصابًا بداء في الكبد، وهو مرتفع، واحتمال أن يكون مصابًا بداء في الكبد مع عدم وجود أعراض، وهو منخفض. وهذا لأن احتمال مرض الكبد (معدَّل الأساس) منخفض، واحتمال ألا يشعر المرء بأعراض مرتفع.

لا يمكن قلب الاحتمالات الشرطية متى اختلفت معدَّلات الأساس. ومن الأمثلة الواقعية على ذلك، اكتشاف أن ثلث الحوادث الفتاكة تقع في المنزل، مما أوحى بالعنوان: المنازل مواقع خطرة. المشكلة هي أن المنزل هو المكان الذي نقضي فيه أغلب وقتنا، من ثَم فحتى إن لم تكن المنازل بالغةَ الخطورة، فالعديد من الحوادث تحدُث لنا فيها لأن «جميع أنواع الأشياء» تحدُث لنا فيها. وقد خلط كاتب العنوان بين احتمال أن نكون في المنزل في حال وقوع حادث قاتل — وهي الإحصائية الوارد خبرها — واحتمال أن يقع حادث قاتل على أن نكون في المنزل، وهي النزعة التي تهم القراء. يمكننا استيعاب المشكلة بالاطلاع على الشكل أدناه، حيث تعكس الأحجام النسبية للدوائر معدَّلات الأساس (لنقل مثلًا إن أ هي الأيام التي تقع فيها الحوادث الفتاكة، وب هي الأيام التي نقضيها في البيت).

figure

يعطينا الشكل الأيسر احتمال أ بشرط ب (احتمال وقوع حادث فتَّاك بشرط الوجود في المنزل)؛ ونحن نجد أنَّ مساحة الجزء الداكن (أ وب) هي التي تمثِّل نسبة صغيرة من الدائرة الباهتة الكبيرة (ب، الوجود في المنزل). ويوضح الشكل الأيمن احتمال وقوع ب بشرط وقوع أ (أن تكون في المنزل بشرط وقوع حادث فتَّاك)؛ وهو يعطينا مساحة الحيز الداكن نفسه لكنه جزء من الدائرة الباهتة الصغيرة في هذه المرة، أي الحوادث الفتاكة، والتي هي أكبر بكثير.

من أسباب السهولة الشديدة في فهمِ الاحتمالات الشرطية فهمًا خاطئًا أن اللغة غامضة بعض الغموض فيما يخص المغزى. فجملة مثل: «احتمال وقوع حادثة في المنزل هو ٠٫٣٣» قد تعني أنها «نسبة من الحوادث» أو «نسبة من الوقت الذي نقضيه في البيت». ومن الممكن أن يضيع الفرْق عند التفسير ويسفر عن تقديرات وهمية للنزعات. نجد أنَّ جزءًا كبيرًا من حوادث الدراجات يتضمَّن صبية، فنرى عنوانًا في الصحافة على غرار: «الصبية أكثرُ عرضةً للخطر عند قيادة الدراجات»، مما يوحي بأن الصبية أكثرُ تهورًا، بينما قد يكونون في الواقع أكثرَ إقبالًا على ركوب الدراجات فحسب. وثمة مغالطة أخرى يسميها علماء الإحصاء مغالطة النيابة، وفيها يعلن النائب العام أن احتمال تطابق فصيلة دم الضحية مع فصيلة الدم الموجودة على ملابس المتهم صدفةً هو ٣ في المائة فقط، وينتهي إلى أن احتمال أن يكون المتهم مذنبًا يبلغ ٩٧ في المائة. لقد خلط بين احتمال التطابق بشرط براءة المتهم واحتمال براءة المتهم بشرط التطابق، وهو يرجو أن يخلط المحلَّفون أيضًا بين هذا وذاك.53 أما كيفية إجراء العملية الحسابية على نحوٍ صحيح، فهو موضوع الفصل التالي، الاستدلال البايزي.
الحق أنَّ أشكال اللَّبس في الاحتمال الشرطي قد تثير الصخب. ففي عام ٢٠١٩ أثار اثنان من علماء الاجتماع ضجةً حين نشرا دراسة في مجلة «بروسيدنجز أوف ذا ناشونال أكاديمي أو سيانسيز» المرموقة، مستشهدين بأرقامٍ مثل التي ذكرتها في قسم سابق، مدعين أن احتمال إطلاق الشرطة النارَ على البِيض أكبرُ من احتمال أن يُطلقوها على السود، وهذا على عكس الافتراض الشائع عن التحيز العنصري. وقد أشار المنتقدون إلى أن هذا الاستنتاج متعلق باحتمال أن يكون الشخص أسودَ في حال إطلاق النار عليه، وهو أقل بالطبع من الاحتمال المقابل بالنسبة إلى البِيض، لكن السبب الوحيد في ذلك أن عدد السود في البلد أقلُّ من عدد البِيض في المقام الأول، فهو اختلاف في معدَّلات الأساس. إذا كانت الشرطة متحيزة عنصريًّا، فسوف تتجلى تلك النزعة في وجود احتمال أكبر لإطلاق النار على شخص إذا كان أسودَ، وتفيد البيانات بأن هذا الاحتمال أكبرُ بالفعل. ورغم أن الكاتبَين الأصليَّين ذكرا أن معدَّل الأساس المناسب ليس واضحًا — أهي نسبة السود في السكان، أم في المواجهات مع الشرطة؟ — فقد أدركا أنهما أحدثا فوضى كبيرة بطريقةِ عرضهما للاحتمالات حتى إنهما سحبا البحث رسميًّا.54
هل البابا إذن من الفضاء الخارجي؟ ذلك ما تصل إليه حين تخلط بين احتمال أن يكون شخصٌ ما هو البابا بشرط أن يكون بشرًا واحتمال أن يكون شخصٌ ما بشرًا بشرط أن يكون البابا.55

الاحتمالات القبْلية والبَعْدية

يُحكى أن رجلًا كان يقيس بذلةً مفصَّلة فقال للخياط: «أريد تقصير هذا الكُّم.» فقال الخياط: «لا، فلتثنِ مِرْفقك هكذا فحسب. انظر، هكذا تَسحب الكُّم إلى أعلى.» قال الزَّبون: «حسنًا، لا بأس، لكنني حين أثني مِرفقي، ترتفع الياقة عن قفاي.» فقال الخياط: «وما في ذلك؟ ارفع رأسك عاليًا وأرجعه إلى الوراء. هكذا.» قال الرجل: «لكن الآن صارت الكتف اليسرى أقصرَ من اليمنى بثلاث بوصات!» فقال الخياط: «لا بأس. انحنِ وستتساويان.» غادر الرجل المتجرَ مرتديًا البذلة، ومِرفقه الأيمن بارز، ورأسه مرفوع إلى الخلف، وجذعه مائل إلى اليسار، يسير بخطوات مضطربة. مرَّ به اثنان من المارة. قال الأول: «هل رأيت ذلك الرجل المعاق المسكين؟ إنني آسَف لحاله.» فقال الثاني: «نعم، لكن الخياط الذي حاك بذلته عبقري، فإنها ملائمة له تمامًا!»

توضِّح هذه النكتة أسرة أخرى من أخطاء الاحتمالات: الخلط بين الأحكام القَبْلية والبَعْدية (تسمَّى أيضًا سابقة ولاحقة). يُسمى هذا اللَّبس أحيانًا بمغالطة قناص تكساس، على اسم الرامي الذي أطلق رصاصةً على حائط حظيرة ثم رسم مركزَ الهدف حول الثقب. في حالة الاحتمالية، الفرْق كبير بين ما إذا كان مقام الكسر — عدد احتمالات وقوع الحدث — قد أُحصي بشكلٍ مستقل عن البسط، أي الأحداث المعنية، أم لا. إنَّ الانحياز التأكيدي، الذي ناقشته في الفصل الأول، هو ما يؤدي إلى الخطأ: ففور أن نتوقع نسقًا، نبحث عن الأمثلة المؤيدة له ونتجاهل الأمثلة التي تناقضه. إذا كنت تأخذ بتوقُّعات الوسيط الروحاني التي تثبتها الأحداث، دون أن تقسمها على إجمالي عدد التوقُّعات، الصحيحة منها والخاطئة، فمن الممكن أن تحصل على أي احتمال تريده. وكما قال فرانسيس بيكون عام ١٦٢٠، ذلك حال الخرافات جميعها، سواء في التنجيم أو الأحلام أو الطِّيَرة أو الأحكام الإلهية.

ينطبق الأمر نفسه على أسواق المال أيضًا. فمستشار الاستثمار العديم الضمير يرسل إلى نصف قائمته البريدية التي تضم مائة ألف شخص رسالةً إخبارية تفيد بتوقُّعه أنَّ السوق ستنهض، بينما يرسل للنصف الآخر نسخة أخرى متنبئًا فيها بانهيار السوق. وفي نهاية كل فصل يستبعد أسماء الأشخاص الذين أرسل إليهم التوقع الخطأ ويكرِّر العملية مع المتبقين. وبعد سنتين ينضم إليه ١٥٦٢ من المتلقين المبهورين بسجله الحافل المشهود في توقُّع السوق طوال ثمانية فصول متتالية.56
رغم أن هذه الخدعة تكون غير قانونية عند تنفيذها عن قصد، فإنها قوام عالَم المال عند القيام بها بسذاجة. فالمضاربون سريعون جدًّا في اقتناص الصفقات؛ لذلك فإن مستشاري الاستثمار الذين يستطيعون التفوُّق على سلة الأوراق المالية الآمنة قليلون جدًّا. هذا باستثناء بيل ميلر، الذي توَّجه موقعُ «سي إن إن موني دوت كوم» في عام ٢٠٠٦ باعتباره «أعظم مدير محفظة مالية في زمننا» لتفوقه على مؤشر البورصة ستاندرد آند بورز ٥٠٠ طوال ١٥ سنة متتالية. لعلك لا تدرك كم أنَّ هذا رائع! فقد يرى الفرد أنه إذا كانت الفرص متساوية أن يفوق أداء مدير المحفظة المالية المؤشرَ أو يقل عنه في أي عام، فإن احتمال حدوث ذلك بالصدفة هو ١ في ٣٢٧٦٨؛ أي (٢١٥). لكن فرادة ميلر قد اتضحت بعد تكشُّف سلسلة تفوُّقه المذهلة. مثلما أشار عالِم الفيزياء لين ملودينوف في كتاب «مِشية السكِّير: كيف تتحكم العشوائية في حياتنا»، فالبلد به أكثر من ٦ آلاف مدير صندوق استثماري، والصناديق الاستثمارية الحديثة موجودة من ٤٠ سنة تقريبًا. ومن ثَم، فاحتمال أن يتوالى نجاح مدير على مدى ١٥ عامًا في وقتٍ ما من تلك الأربعين سنة ليس من الأمور غير المحتملة على الإطلاق، بل يساوي ٣ في ٤. فقد كان من الممكن أن يَرِد العنوان الرئيسي لموقع سي إن إن موني على النحو التالي: أخيرًا تحقَّقت متتالية نجاح اﻟ ١٥ سنة المتوقعة: بيل ميلر هو سعيد الحظ. وكما هو متوقَّع بالضبط، نفد حظ ميلر، وخلال العامين التاليين «سحقه (السوق) بسهولة».57
عِلاوة على الانحياز التأكيدي، من العوامل الرئيسية المؤدية لمغالطات الاحتمالات البَعْدية، القصور عن تقدير عدد فرص حدوث المصادفات. وعندما يُتاح لنا تبيُّنها فيما بعد، نجد أن الصُّدف ليست مستبعَدة على الإطلاق؛ بل يكاد يكون حدوثها مؤكدًا. في أحد أعمدته في مجلة «ساينتفيك أمريكان»، تساءل عالِم الرياضيات المسلية، مارتن جاردنر، قائلًا: «هل ستلاحظ إذا كانت لوحة أرقام السيارة الموجودة أمامك تحمل أرقامًا تعطي رقم هاتفك عند قراءتها بالعكس؟ مَن سوى منجِّم عددي أو محب للكلمات سيرى أنَّ الحروف: U وS وA تترتب على نحو متناسق في اسم لويزيانا، أو في نهاية اسم جون فيليب سوزا John Philip Sousa، اسم ملحن أعظم موسيقانا العسكرية الوطنية؟ ويقتضي الأمر عقلًا من نوع غريب لملاحظة أن نيوتن وُلد في نفس العام الذي مات فيه جاليليو، أو أن بوبي فيشر من مواليد برج الحوت (السمك).»58 (نظرًا للتشابه بين الاسم Fisher وكلمة السمك بالإنجليزية: Fish). لكنَّ هؤلاء المنجمين العددين وأصحاب العقول الغريبة موجودون، ومن الممكن نسْج نظريات طنَّانة من مغالطاتهم. فقد افترض المحلِّل النفسي كارل يونج وجودَ قوة غامضة تُدعى المزامنة لتفسير الشيء النموذجي الذي لا يحتاج إلى تفسير، ألا وهو شيوع الصُّدفة في العالم.

حين كنت طفلًا، كان ما نسميه الآن بالميمات يُنشَر في الكتب المصورة والمجلات الرائجة. وكان من الميمات التي لاقت رواجًا كبيرًا قائمةٌ بأوجه الشبه المدهشة بين أبراهام لنكولن وجون إف كينيدي. فقد انتُخب كلٌّ من أبراهام الأمين وجيه إف كيه للكونجرس في سنة ٤٦ وللرئاسة في سنة ٦٠. وأُطلِقت النار على كليهما في رأسه وبحضور زوجته يوم جمعة. كان لدى لنكولن سكرتير يُدعى كينيدي؛ وكينيدي كان لديه سكرتيرة تُدعى لنكولن. وكلاهما خلَفه شخص يُدعى جونسون وُلد سنة ٨. وكلاهما اغتاله شخص وُلد عام ٣٩ واسمه الثلاثي مكوَّن من ١٥ حرفًا. هرب جون ويلكس بوث من المسرح وقُبض عليه في مخزن؛ وهرب لي هارفي أوزوالد من مخزن وقُبض عليه في مسرح. ما الذي تخبرنا به هذه التماثلات العجيبة؟ لا شيء مطلقًا، مع كل الاحترام للدكتور يونج؛ لا شيء سوى أن الصُّدف تحدُث بوتيرةٍ أكبرَ مما تدركه عقولنا الجاهلة بعلم الإحصاء. فضلًا عن النزعة لإضافة التفاصيل للصدف الغامضة عند ملاحظتها (فلم يكن لدى لنكولن سكرتير باسم كينيدي)، مع تجاهل أوجه عدم التطابق المزعجة (مثل اختلاف اليوم والشهر والسنة في تاريخ الميلاد والوفاة).

حتى العلماء ليسوا محصَّنين ضد مغالطة قناص تكساس. ذلك أنها أحد أسباب أزمة عدم القابلية للتكرار التي هزَّت علم الأوبئة، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم الوراثة البشري، ومجالات أخرى في العَقد الثاني من الألفية الثالثة.59 تذكَّر كل الأطعمة المفيدة التي كنتَ تظن أنها ضارة، والدواءَ المعجزة الذي تبيَّن أنَّ تأثيره لا يعدو العلاج الوهمي، وجين هذه السِّمة أو تلك الذي كان في الواقع هامشيًّا في الحمض النووي، والدراسات الظريفة التي تدَّعي أن الناس تسهِم بنقودٍ أكثر في صناديق جمع المال عند لصق صور عينين على الجدار وأنهم يسيرون بخطًى أبطأ نحو المصعد بعد إتمام تجربة عُرِضت عليهم فيها كلماتٌ مرتبِطة بالشيخوخة.
هذا لا يعني أن الباحثين زيَّفوا بياناتهم. كلُّ ما في الأمر أنهم انخرطوا فيما صار معروفًا الآن بأنه ممارسات بحثية مشكوك فيها، وشكَّلوا الفرضيات التي تتفق مع ما لديهم من بيانات، والتلاعب بالقيمة الاحتمالية (أي عتبة الاحتمالات، p، التي تُعد «ذات دلالة إحصائية»).60 تخيَّل عالِمًا يجري تجربة شاقة ثم يحصل على بيانات مناقضة لما كان يتوقَّعه. قبل التقليل من خسائره، ستراوده نفسه عن التساؤل عما إذا كان التأثير موجودًا فعلًا، لكن لدى الرجال فقط، أو النساء فقط، أو ربما بعد التخلُّص من البيانات الغريبة التي جاءت من المشتركين الذين فقدوا تركيزهم، أو باستبعاد سنوات حكم ترامب الغريبة، أو استخدام اختبار إحصائي يهتم بترتيب البيانات بدلًا من الاهتمام بقيمها حتى آخر منزلة عشرية. أو ربما يمكن للباحث مواصلة اختبار المشتركين حتى ظهور الرمز العزيز للدلالة الإحصائية في البيان الإحصائي، مع الحرص على التوقف وهو ما يزال متقدمًا.
لا تُعَد أيٌّ من هذه الممارسات غير منطقية بطبيعتها إذا كان يمكن تعليلها قبل جمع البيانات. غير أنها إذا أُتبعَت بعد الواقعة، فمن الوارد أن تستفيد توليفة ما من الصدفة وتعطي نتيجة زائفة. إنَّ هذا الفخ جوهري في طبيعة الاحتمالية ومعروف منذ عقود؛ فأنا أتذكَّر تحذيري من «تصيد البيانات» حين درست علم الإحصاء عام ١٩٧٤. بالرغم من ذلك، فحتى عهد قريب كان قليل من العلماء هم مَن يدركون كيف يمكن لقدرٍ ضئيل من تصيُّد البيانات أن يؤدي إلى فيضٍ من الأخطاء. وقد اقترح أستاذي بشيء من المزاح مطالبةَ العلماء بتدوين فرضياتهم ومناهجهم في ورقةٍ قبل إجراء التجربة وحفظها في صندوقٍ بقُفل يفتحونه ويعرضونه على المراجعين بعد إجراء الدراسة.61 لكنه ذكَر أن المشكلة هي أن العالِم منهم قد يحتفظ سرًّا بعدة صناديق ويفتح الصندوق الذي يعلم أنه «تنبأ» بالبيانات. والآن لم تَعُد هذه المشكلة قائمة بعد ظهور شبكة الإنترنت، فقد صارت أحدث الأساليب المتبعة في المنهج العلمي هو «التسجيل المسبق» لتفاصيل الدراسة في سجلٍ عام يستطيع المراجعون والمحرِّرون الاطلاعَ عليه للكشف عن أي غش لاحق.62

•••

ثمة وهمٌ من أوهام الاحتمالات البَعْدية شديد الشيوع لدرجةِ أن له اسمًا خاصًّا: وهم التكتل.63 إننا نجيد ملاحظة التجمعات المتلاصقة من الأشياء أو الأحداث؛ لأنها كثيرًا ما تكون جزءًا من حدثٍ فردي: كلب ينبح بلا توقُّف، طقس يغمر المدينة بالأمطار لعدة أيام، لص جعل يسرق عدة متاجر في مربَّع سكني واحد. ومع ذلك، فلا يوجد سببٌ جذري لجميع التكتلات، بل إنَّ أغلبها ليس له مثل ذلك السبب في الواقع. كلُّ ما في الأمر أنه حين يكون هناك الكثير من الأحداث، فلا مفر من أن يمرَّ بعضُها ببعض ويحتك بها، إلا إذا حاولت عمليةٌ ما غير عشوائية أن تباعد بينها.
يجعلنا وهمُ التكتل نعتقد أن العمليات العشوائية غير عشوائية والعكس. حين عرض تفيرسكي وكانمان على بعض الناس، ومنهم علماء إحصاء، نتائجَ فعلية لرمي العملة مرات متتالية، مثل: كتابة كتابة صورة صورة كتابة صورة كتابة كتابة كتابة كتابة؛ حيث يتوالى ظهور الصورة أو الكتابة مرات متتالية حتمًا، ظنوا أن العملة كانت مغشوشة. ولم يكونوا يقولون إن العملة تبدو نزيهة فقط إذا كانت مغشوشة لمنع المتتاليات، كأن تكون النتيجة مثلًا: صورة كتابة صورة كتابة كتابة صورة كتابة صورة صورة كتابة، التي «تبدو» عشوائية وإن كانت ليست كذلك.64 أنا عن نفسي شهدت وهمًا شبيهًا خلال عملي في مختبر للإدراك السمعي. كان على المشتركين تمييز أصوات ضعيفة، كانت تصدر في أوقات عشوائية بحيث لا يمكنهم تخمينُ موعد إصدار الصوت. وقال بعضهم إن مولِّد الأحداث العشوائية كان به خلل، ولا بد؛ لأن الأصوات كانت تأتي في دفعات مفاجئة. لم يدركوا أن تلك هي العشوائية بعينها.

تظهر التكتلات الوهمية في الفضاء أيضًا. فالنجوم التي يتألَّف منها الجدي والأسد والسرطان والعذراء والقوس وغيرها من الأبراج ليست جيرانًا في أي مجرة، بل نجوم تتناثر عشوائيًّا في أنحاء السماء ليلًا في مواجهة موقعنا الأرضي، وهي لا تجتمع في أشكال إلا من وجهة نظر عقولنا الباحثة عن أنساق. يظهر التكتل الوهمي أيضًا في التقويم. فالناس يندهشون لمعرفة أنه إذا كان في الحجرة ٢٣ شخصًا، فاحتمال أن يكون اثنان منهم لهما تاريخ الميلاد نفسه يتعدى ٥٠ في المائة. وإذا كانوا ٥٧، يصل الاحتمال ﻟ ٩٩ في المائة. رغم أنه من غير المحتمل أن يكون لأي شخص في الحجرة تاريخ ميلادي نفسه، فإننا لا نبحث عن نظير لي أو لأي شخص آخر انتقيناه مسبقًا. إننا نحصي أوجه التناظر بشكل لاحق، وثمة ٣٦٦ طريقة لحدوث التناظر.

على غرار غيره من المغالطات البَعْدية في الاحتمالات، يُعَد وهمُ التكتل مصدرَ العديد من الخرافات: أن الأشياء السيئة تحدث بمجموعات ثلاثية، أو أن يكون بعض الناس سيئي الطالع، أو أن سنة تعيسة تنذر بانهيار العالم. حين تداهمنا سلسلة من المصائب، هذا لا يعني أن ثمة إلهًا يعاقبنا على خطايانا أو يختبر إيماننا. وإنما يعني أنه ليس ثمة إله يباعد بين هذه المصائب.

•••

حتى أولئك الملِمُّون بالجانب الرياضي للصدفة بطبيعته المزعجة المناقضة للبديهة، من الممكن أن يقع خيالهم تحت تأثير توالي ضربات الحظ. ستقرر الاحتمالات الكامنة المدةَ المتوقَّعة لاستمرار الحظ الحسن، في المتوسط، أما اللحظة المحدَّدة التي سيتوقف فيها فهي لغز مستغلق. نوقِش هذا الصراع في مقالي المفضَّل لعالِم الحفريات وكاتب العلوم وهاوي البيسبول ستيفن جاي جولد.65

ناقش جولد أحدَ أعظم الإنجازات في الرياضة؛ تسجيل جو ديماجيو لأهداف في ستٍّ وخمسين مباراة متتالية عام ١٩٤١. ذكر جولد أن توالي الفوز كان استثنائيًّا من الناحية الإحصائية حتى إذا وضعنا في الحسبان المعدَّل المرتفع لإحراز ديماجيو الأهداف، وعدد فرص حدوث متتاليات من تسجيل الأهداف في تاريخ الرياضة. وحقيقةَ أن ديماجيو استفاد ببعض ضربات الحظ لا تقلل من الإنجاز بل تثبته؛ لأنه لا يمكن لأي سلسلة متتالية أن تمتد من دونها، مهما دفعتها الظروف المواتية. ويفسِّر جولد شغفنا بضربات الحظ المتتالية على النحو التالي:

إنَّ فهْم إحصائيات توالي الفوز والخسارة فهمًا صحيحًا يعلِّمنا درسًا مهمًّا عن مبحث المعرفة، وعن الحياة عمومًا. فتاريخ أحد الأنواع، أو أي ظاهرة طبيعية تحتاج إلى الاستمرار بلا توقُّف في عالَم مضطرب، يمضي مثل متتالية التسديد بمضرب البيسبول. كلها ألعاب حيث يراهن المقامر بمورد محدود مقابل بيت القمار بمصادره التي لا تنتهي. لا بد أن يفلس المقامر في النهاية. لا يسعه إلا أن يكون هدفه البقاء لأطول مدة ممكنة، والاستمتاع في أثناء ذلك، وإن تصادف وكان كائنًا أخلاقيًّا أيضًا، الاهتمام بالصمود بشرف.

أهداف ديماجيو المتتالية هي أروع الأساطير المشروعة لأنها تجسِّد جوهر المعركة التي هي عماد حياتنا بحق. لقد أحيا ديماجيو أعظمَ أحلام البشرية جمعاء وأكثرها استحالة؛ أمَل كل الحكماء والكهنة وخيالهم: لقد خدع الموت، ولو لبعض الوقت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤