الفصل الثامن

أنا والآخرون

(نظرية الألعاب)

«الذرة في حقلك قد نضجت اليوم؛ وغدًا ستنضج في حقلي أيضًا. إنه لمفيد لكلينا أن أعمل معك اليوم، وأن تساعدني غدًا. أنا لا أشعر بعطفٍ نحوك، وأعلم أنك لا تشعر به نحوي أنت الآخر. من ثَم فإنني لن أتكبَّد المشقَّة من أجلك؛ إذ إنني أعلم أنني إن ساعدتك بمجهودي متوقِّعًا المقابل، فسوف تخيِّب أملي، وسأكون توقَّعت امتنانك دون جدوى. لذلك سأتركك تعمل بمفردك: وأنت ستعاملني بالمِثل. ستتغيَّر الفصول؛ وسيخسر كلانا محصوله لانعدام الثقة المتبادلة والأمان.»

ديفيد هيوم1

منذ وقتٍ ليس ببعيد تناقشت مع زميلٍ لي نقاشًا وديًّا عن الرسائل التي ينبغي أن ترسلها جامعتنا عن تغيُّر المناخ. زعم البروفيسور جيه أن كل ما نحتاج إليه هو إقناع الناس أنه من مصلحتهم أن نقلِّل من انبعاثاتنا من غازات الدفيئة؛ لأن ارتفاع حرارة الكوكب سيجلب الفيضانات والأعاصير وحرائق الغابات وغيرها من الكوارث التي ستحول حياتنا إلى حال أسوأ. فأجبت عليه بأن ذلك «ليس» من مصلحتهم، لأنه لا يمكن لتضحيةِ شخص واحد أن تمنع وحدَها تغيُّر المناخ، فبينما سيتصبَّب المضحي عَرقًا في الصيف، ويرتعد في الشتاء، وينتظر الحافلة في المطر سيستمتع جيرانه مُحدِثو التلوث بالراحة والجفاف. فقط إن قلَّل كل شخص من انبعاثاته فسيستفيد الكل، والسبيل الوحيد لأن يكون من مصلحة كل شخص أن يفعل ذلك هو أن تكون الطاقة النظيفة أرخصَ لكل شخص (من خلال التقدُّم التكنولوجي) وأن تكون الطاقة الملوِّثة أغلى (عن طريق تسعير الكربون). كان لدى زميلي وجهة نظر: من ناحيةٍ ما ليس من العقلانية أن ندمِّر الكوكب. لكنني لم أستطِع إقناع الدكتور جيه أن المسألة من ناحيةٍ أخرى، وللأسف الشديد، عقلانيةٌ تمامًا.

في تلك اللحظة أدركت أن ثمة مفهومًا خَطِرًا غائبًا عن الرؤية التي يتبناها الدكتور الطيب تجاه العالم: نظرية الألعاب، تحليل كيفية اتخاذ قرارات عقلانية حين تكون النتائج متوقفةً على الخيارات العقلانية لشخص «آخر».

قدَّم نظريةَ الألعاب للعالَم فون نيومان ومورجنسترن في الكتابِ نفسِه الذي شرحا فيه المنفعةَ المتوقَّعة والاختيار العقلاني.2 لكن على عكس المعضلات التي نجازف فيها أمام عجلةِ حظ لا عقلَ لها، حيث أفضل الاستراتيجيات حَدْسية إلى حدٍّ كبير، تتناول نظريةُ الألعاب معضلاتٍ نواجه فيها أصحابَ قرارات على القدر نفسه من المكر، ومن الممكن للنتائج أن تقلب حَدْسنا رأسًا على عقبٍ أو تغيِّره من جانب إلى آخر. ففي بعض الأحيان، لا تترك ألعاب الحياة للعقلانيين خيارًا سوى أن يفعلوا الأشياء التي تردُّهم والآخرين جميعًا إلى حال أسوأ؛ أن يكونوا عشوائيين أو متعسفين أو خارجين عن السيطرة؛ أو تدفعهم لأن ينمو لديهم شعور بالتعاطف أو يسيطر عليهم الشعور بالظلم؛ أو تجعلهم يخضعون طائعين للجزاءات والعقوبات: وأن يرفضوا اللعب تمامًا في بعض الأحيان. تكشف نظرية الألعاب عن العقلانية العجيبة الكامنة وراء العديد من أوجه الانحراف في الحياة الاجتماعية والسياسية، وكما سنرى في فصل لاحق، فإنها تساعد على تفسير اللغز الأساسي لهذا الكتاب: كيف يمكن لنوع عقلاني أن يكون غير عقلاني تمامًا.

لعبة مجموعها صفري: مقص وورقة وحجر

إنَّ المعضلة الجوهرية لنظرية الألعاب، التي توضِّح كيف أنَّ نتيجةَ اختيارٍ ما تتوقف على خيار الشخص الآخر، تتمثَّل في لعبة مقص وورقة وحجر.3 يقوم لاعبان بحركةِ يد في الوقت نفسه — إصبعان للمقص، ويد منبسطة للورقة، ويد مقبوضة للحجر — ويُحدَّد الفائز حسب القاعدة التي تقول: «المقص يقطع الورق، والورقة تغطي الحجر، والحجر يكلُّ المقص.» يمكن تمثيل اللعبة في مصفوفة حيث تظهر الاختيارات المحتملة للاعبة الأولى: أماندا في الصفوف، وتظهر اختيارات اللاعب الثاني: برَاد في الأعمدة، وتُكتب النتائج في كل خلية. نتيجة أماندا في الجانب الأيسر السفلي، ونتيجة برَاد في الجانب الأيمن العلوي. سوف نعطي القيَم الرقمية التالية للنتائج: ١ للفوز، -١ للخسارة، ٠ للتعادل.

مجموع نتائج أماندا ونتائج براد في كل خلية يساوي صفرًا، وهو مما يعطينا المصطلح الفني الذي انتقل من نظرية الألعاب إلى الحياة اليومية: لعبة مجموعها صفري. إنَّ مكسب أماندا خسارة لبراد، والعكس بالعكس. إنهما محصوران في حالة من النزاع المحض، يتنافسان على فطيرةٍ ثابتة الحجم.

ما الحركة (الصف) التي ينبغي لأماندا اختيارها؟ الأسلوب الحاسم في نظرية الألعاب (وفي الحياة بالتأكيد) هو أن ترى العالَم من وجهة نظر اللاعب الآخر. على أماندا أن تتفقَّد اختيارات براد، الأعمدة، واحدًا تلو الآخر. من اليمين إلى اليسار، إذا اختار براد المقص، فيجب أن تختار هي الحجر. إذا اختار الورق، فعليها اختيار المقص. وإذا اختار الحجر، فيجب أن تختار الورقة. لا يوجد اختيار «سائد»، لا يوجد اختيار سيظل هو الأفضل بغض النظر عما يختاره براد، وهي لا تعلم ما سيفعله براد بالطبع.

غير أنَّ هذا لا يعني أنه ينبغي لأماندا اختيار حركة اعتباطية، الورق مثلًا، والالتزام بها. فهي إن فعلت ذلك فهِم براد حركاتها، واختار المقص، وغلبها في كل مرة. وحتى إذا زادت وتيرةَ اختيارها للورق بعض الشيء فقط، واختارته مثلًا ٤٠ في المائة من المرات وكان اختيارها للاستراتيجيتين الأخريين بنسبة ٣٠ في المائة، فمن الممكن أن يختار براد المقص ويغلبها أربع مرات من سبع. الاستراتيجية الأفضل لأماندا هي أن تتحوَّل إلى عجلة روليت بشرية وتلعب كل دور عشوائيًّا بالاحتمالية نفسها، ممتنعة عن أي انحراف أو ميل أو انحياز أو تحوُّل عن قسمة ٣/١ − ٣/١ − ١ /٣ المثالية.

بما أن الجدول متناظر قطريًّا، فإن خطوات براد متطابقة. فنظرًا لأنه يتأمَّل ما قد تفعله أماندا، صفًّا بصف، لن يجد سببًا لتفضيل واحدة من حركاته على الاثنتين الأخريين، وسينتهي لنفس الاستراتيجية «المختلطة»، لاعبًا كل خيار باحتمالية ١ /٣. إذا حاد براد عن هذه الاستراتيجية، فستغير أماندا استراتيجيتها وتستغله، والعكس صحيح. إنهما عالقان في «توازن ناش»، نسبة إلى عالم الرياضيات جون ناش (الذي يتحدَّث عنه فيلم «عقل جميل» (أبيوتيفول مايند).) كل منهما يلعب بأفضل استراتيجية في ضوء أفضل استراتيجية لدى المنافس؛ وأي تغيير من جانب واحد سيردُّهما إلى حالٍ أسوأ.

إنَّ اكتشاف أن الكائن العقلاني لا بد أن يكون عشوائيًّا بدرجةٍ خارقة في بعض المواقف، من النتائج التي توصَّلت إليها نظرية الألعاب وتبدو غريبة جدًّا حتى تدرك أن هذه المواقف ليست نادرة الحدوث في الحياة. يُسمى التوازن في لعبة المقص والورق والحجر مواجهةً تخمينية، وأمثلة ذلك شائعة في رياضات مثل التنس والبيسبول والهوكي وكرة القدم. ففي كرة القدم، قد يركل لاعبُ ضربةِ الجزاءِ الكرةَ يمينًا أو يسارًا، وقد يتصدَّى لها حارس المرمى يمينًا أو يسارًا؛ وتُعَد عدم قابلية التوقُّع من الفضائل الأساسية. حيل البوكر والهجمات المفاجئة في الاستراتيجيات الحربية هي أيضًا من أمثلة المواجهات التخمينية. حتى عند عدم اختيار الخطوة عشوائيًّا بالمعنى الحرفي للكلمة (فمن الأرجح أن الحلفاء في عام ١٩٤٤ لم يلعبوا النَّرد ليقرِّروا إذا ما كانوا سيغزون نورماندي أو كاليه)، على اللاعب أن يعتمد وجهًا لا يشي بشيء ويكبت أيَّ إشارة أو خبر، ليبدو الاختيار «عشوائيًّا» للخصوم. لقد حاجج الفيلسوفان ليام كليج ودان دينيت بأن إحدى السمات الجوهرية في السلوك البشري أنه لا يمكن التنبؤ به، وليس ذلك للتشويش العصبي العشوائي في المخ فحسب، بل إنه نوع من التكيُّف الذي يصعِّب على منافسينا أن يتفوقوا علينا بتخمين حركاتنا.4

لعبة مجموعها غير صفري: معضلة المتطوع

من الممكن أن تنتهي الحال بالكائنات العقلانية في مواجهات تخمينية لا تقتصر على الألعاب التي يخوضون فيها منافسات مجموعها صفري، بل في ألعاب أخرى أيضًا تؤالف بينهم إلى حدٍّ ما بمصالح مشتركة. من أمثلة ذلك معضلة المتطوع، التي يمكن توضيحها بقصةٍ من العصور الوسطى بعنوان «مَن يعلِّق الجرس حول رقبة القطة». تحكي القصة عن فأرٍ يقترح على زملائه في السكن أن يعلِّق أحدهم جرسًا حول رقبة القطة وهي نائمة حتى يتنبهوا إليها حين تقترب. المشكلة بالطبع هي مَن الذي سيعلِّق الجرس حول رقبة القطة ويخاطر بإيقاظها لتلتهمه. ثمة معضلات مشابهة لذلك يواجهها البشر، مثل تحديد المسافر الذي سيتغلب على خاطف الطائرة، والمتفرج الذي سينقذ الشخص الواقع في المحنة، والموظف الذي سيعيد ملء إبريق القهوة في المطبخ المشترك للعمل.5 الكل يريد أن يبادر أحد بالمساعدة لكنه يفضِّل ألا يكون هو ذلك المبادر. إذا ترجمنا الفوائد إلى وحدات رقمية، حيث صفر هو أسوأ شيء قد يحدث، فسنحصل على المصفوفة أدناه. (المفترض عمليًّا أن تكون المصفوفة على شكل فوق مكعب له أبعاد بعدد اللاعبين، لكنني لخَّصت الكل ما عدا الذات في طبقة واحدة.)

في هذه الحالة أيضًا لا توجد استراتيجية سائدة تجعل الاختيار سهلًا. إذا علِم أحد الفئران أن الآخرين سيحجمون، فسيتقدم هو، والعكس صحيح. لكن إذا قرَّر كل فأر أن يعلق الجرس برقبة القطة بنسبة معينة (نسبة تعادل النتائج المتوقَّعة من إقدام الفئران «الآخرين» وإحجامهم)، فسيقع في مواجهةٍ تخمينية، حيث الكل على استعداد لتعليق الجرس وفي الوقت نفسه يرجو أن يذهب الفأر الآخر أولًا.

على عكس لعبة المقص والورق والحجر، ليست معضلة المتطوع بلعبة لها مجموع صفري: فبعض النتائج أفضل من غيرها للكل. (النتائج «فوز كل الأطراف»: مفهوم آخر انتقل من نظرية الألعاب إلى اللغة اليومية). ستكون الفئران جميعًا في حال أسوأ إن لم يتطوع واحد منهم، وفي حال أفضل إن تطوع أحدهم، وهذا لا يضمن أنها ستصل إلى هذه النهاية السعيدة، بما أنه لا يوجد فأر زعيم ليختار أحدهم لاستشهادٍ محتمَل من أجل مصلحة الجماعة. ما يحدث بدلًا من ذلك أن كل فأر يقامر لأنه ليس في مصلحة أي منهم أن يتحوَّل إلى استراتيجية مختلفة من طرف واحد. هنا أيضًا نرى الفئران وقد تطورت في توازن ناش: مواجهة يلتزم فيها كلٌّ من اللاعبين بأفضل خيار بالنسبة إليه مقابل أفضل خيار لدى الآخرين.

المواعدة وغيرها من ألعاب التنسيق

إنَّ المسابقات الصارمة مثل المقص والورق والحجر، ومواجهات الرياء المتوترة مثل معضلة المتطوع، تنطوي على درجة من المنافسة. لكن بعض ألعاب الحياة تتيح فوز جميع الأطراف، إن هم تبينوا السبيل لذلك. تُسمى هذه الألعاب ألعاب التنسيق، ومنها المواعدة. لدينا مثلًا كيتلين ودان، وكل منهما يستمتع بصحبة الآخر ويخطِّطان لتناول القهوة ذات يوم، لكن هاتف كيتلين يتعطل قبل أن يتمكَّنا من الاتفاق حول ما إن كانا سيلتقيان في ستاربكس أو بيتس. يفضِّل كلٌّ منهما أحدَ المكانين على الآخر قليلًا، لكنهما يفضِّلان اللقاء في أي منهما على إلغاء الموعد. تمثل المصفوفة اتزانين: الخليتان أعلى اليسار وأسفل اليمين، بما يوازي انسجامهما على نفس الاختيار. (الواقع أن اختلاف خياراتهما يستحضر قدرًا طفيفًا من المنافسة في السيناريو، لكن بإمكاننا تجاهلها الآن.)

تعلم كيتلين أن دان يفضِّل بيتس، وتقرِّر الذهاب إلى هناك، لكن دان يعلم أن كيتلين تفضِّل ستاربكس، فيخطط للذهاب إلى هناك. حين تضع كيتلين نفسها مكان دان، تتوقَّع إحساسه بالتعاطف، فتغيِّر خطَّتها وتذهب إلى ستاربكس، ويشعر دان أيضًا بتعاطفها، فيغيِّر مساره إلى بيتس، إلى أن يدرك أنها قد توقَّعت توقُّعه، فيتحوَّل ثانيةً إلى ستاربكس. ويظلان هكذا إلى ما لا نهاية، دون أن يكون لدى أيٍّ منهما سبب للاستقرار على شيء يريده كلاهما.

ما يحتاجان إليه هو «معرفة مشتركة»، وهو مصطلح في نظرية الألعاب يشير إلى شيء يعلم الكل أن الآخرين يعلمون أنهم يعلمونه، إلى ما لا نهاية.6 رغم ما يبدو من أن المعرفة المشتركة قد تؤدي إلى انفجار رأس المرء، فليس البشر بحاجة لمحاولة حشر سلسلة لا تنتهي من «أعلم أنها تعلم أنني أعلم أنها تعلم …» في رءوسهم. إنما يكفيهم إدراك أن المعلومة «بديهية» أو «موجودة» أو «معلنة». يمكن التوصل إلى تلك المعرفة البديهية بإشارةٍ واضحة يلاحظها كلٌّ منهم بمعرفة الآخرين، بمحادثة مباشرة بينهم مثلًا. الوعد وحدَه «كلام رخيص» ويمكن تجاهله في العديد من الألعاب. (في معضلة المتطوع، على سبيل المثال، إذا أعلن فأر أنه يرفض التطوع، أملًا في الضغط على أي فأر آخر ليتطوع هو، من الممكن أن تتحدَّاه الفئران الأخرى وتُحجِم، مدركةً أنه قد يتقدَّم.) لكن في لعبة التنسيق، من مصلحة كلا الطرفين أن ينتهي بهما الأمر في نفس المكان، من ثَم فإن بيان النوايا موثوق به.
في غياب التواصل المباشر (كما يحدُث حين يتعطل الهاتف المحمول)، من الممكن للأطراف التجمُّع في «نقطة بؤرية»: خيار ملحوظ للجميع، يتصور كل طرف أن الآخرين قد لاحظوه لا محالةَ وأدركوا أنهم أيضًا لاحظوه.7 إذا كان بيتس قريبًا، أو ذُكر مؤخرًا في حوار، أو كان معلِّمًا معروفًا في البلدة، فقد يكون ذلك كلَّ ما يحتاج إليه كلٌّ من كيتلين ودان للخروج من المأزق، بغض النظر عن أي المكانين يقدِّم مشروباتٍ أفضل أو لديه مقاعدُ أفخم. في ألعاب التنسيق، من الممكن لشيء اعتباطي سطحي بلا معنًى يسترعي الانتباه أن يعطي الحل العقلاني لمشكلة مستعصية.
إنَّ العديد من أعرافنا ومعاييرنا هي حلول لألعاب تنسيق، ولا يزكيها سوى أن الجميع استقروا عليها.8 القيادة على اليمين، والراحة من العمل يوم الأحد، وقبول العملة الورقية، واعتماد معايير تكنولوجية (١١٠ فولتات، ومايكروسوفت وورد، ولوحة مفاتيح كويرتي) هي توازنات في ألعاب تنسيقية. قد يكون هناك عوائدُ أعلى مع توازنات أخرى، لكننا نظل ملتزمين بالتي لدينا لأننا لا نستطيع الوصول إلى هناك من هنا. وما لم يتفق الكل على التحويل في آنٍ واحد، فستكون العقوبات على انعدام التنسيق مرتفعة جدًّا.
من الممكن أن تدخل النقاط البؤرية العشوائية في التفاوض. ففور أن يتقارب البائع والمشتري على نطاقٍ من الأسعار يجعل إتمام الصفقة أكثرَ جاذبيةً لكليهما من الانسحاب، يصبحان بذلك في لعبةِ تنسيق من نوعٍ ما. فأيٌّ من التوازنين (عروضهما الحالية) أكثر جاذبيةً من عدم التنسيق بالمرة، لكنْ كل منهما أكثر جاذبيةً لأحدهما من الآخر. ومع تغيير كل طرف للعوائد، على أملِ استمالة الآخر لخلية التنسيق الأنفع له، ربما يلجآن إلى نقطة بؤرية تعطيهما شيئًا يتفقان عليه وإن كانت اعتباطية، مثل تقريب السعر إلى الرقم الصحيح أو تقديم عرض يسوِّي الاختلاف بينهما. وكما عبَّر عن الأمر توماس شيلينج، الذي كان أول مَن أشار إلى النقاط البؤرية في ألعاب التنسيق: «رجل المبيعات الذي يحسب أدنى سعر للسيارة بمبلغ ٣٥٠١٧٫٦٣ دولارًا يرجو في الواقع أن يُعفى من اﻟ ١٧٫٦٣ دولارًا.»9 على المنوال نفسه، «إذا كان أحد الأشخاص قد طلب ٦٠ في المائة ثم تراجع إلى ٥٠ في المائة، فمن الممكن أن يتمسَّك بموقفه؛ إذا تراجع إلى ٤٩ في المائة، فمن الممكن أن يفترض الآخر أنه تدهور وسيظل يتراجع.»10

الجبان وألعاب التصعيد

رغم أن التفاوض يحمل بعضَ سمات ألعاب التنسيق، فإن قدرة أيٍّ من الطرفين على تهديد الآخر بالنهوض وترْك الطاولة ليصير كلاهما في وضعٍ أسوأ يجعله يتداخل مع لعبةٍ مشهورة أخرى، وهي الجبان، التي ناقشناها في الفصل الثاني.11 ها هي ذي المصفوفة. (كالعادة، الأرقام نفسها اعتباطية؛ الاختلافات وحدَها هي التي تحمل دلالةً ما.)
اسما اللاعبين مأخوذان من فيلم «ثائر بلا قضية»، لكن «الجبان» ليست محض لعبة انتحارية بين المراهقين. ذلك أننا نمارسها عند القيادةِ في مسارٍ ضيِّق أو السير في مثله، بينما نواجه شخصًا قادمًا في الاتجاه المقابل، مما يستدعي أن يتنازل أحد، وحينها ننخرط في تفاوضٍ رسمي وغير رسمي. ومن الأمثلة العامة حبْس الرهن أو التخلُّف عن سداد الديون، والمواجهات المتعلِّقة بسياسات حافة الهاوية في العلاقات الدولية مثل أزمة الصواريخ الكوبية سنة ١٩٦٢. إنَّ لعبة «الجبان» تنطوي هي أيضًا على توازن ناش، حيث يغامر كلُّ لاعب بالتمسُّك بموقفه أو الانحراف عنه، وإن كان من الوارد أن يكون هذا الحل خاضعًا للنقاش في الحياة الواقعية؛ إذ يمكن تعزيز قواعد اللعبة لتسمح بضم الإشارات والتغييرات إلى مجموعة الاستراتيجيات المستخدَمة. لقد رأينا في الفصل الثاني كيف يمكن أن تحدُث المفارقة بأن يكتسب لاعبٌ يبدو مجنونًا أو فاقد السيطرة حظوةً ما تجعل تهديداته قابلةً للتصديق لدرجة تجبر خَصمه على التنازل، وإن كان شبح دمارهما المتبادل سيتهدَّد كليهما إذا جُنَّا أو فقدا السيطرة في الوقت نفسه.12
بعض الألعاب لا تتألف من مواجهةٍ واحدة حيث يتخذ اللاعبون خطوةً واحدة في آنٍ واحد ثم يفصح كلٌّ عن نواياه، وإنما تتألف من سلسلةٍ من الحركات يستجيب فيها كلٌّ من اللاعبين لحركاتِ آخر، وتُحدَّد الجوائز في النهاية. إحدى هذه الألعاب لها تبِعات صادمة ومروِّعة. يمكن تشبيه ألعاب التصعيد بلعبة «مزاد بالدولار» على نموذج فظيع من منصة «إيباي».13 تخيَّل مزادًا بقاعدة بغيضة تُلزِم الخاسر، وليس الفائز فقط، بأن يدفع آخر مزايدة له. لنقل مثلًا إن الغرض المعروض للمزايدة قطعة للزينة يمكن إعادة بيعها بدولار. زايدت أماندا بخمسة سنتات، آملةً ربحَ ٩٥ سنتًا. لكن براد يتدخَّل بالطبع ويزايد بعشرة سنتات، وهلم جرًّا، حتى تصل مزايدة أماندا إلى ٩٥ سنتًا، وهو ما سيقتطع لها هامش ربح خمسة سنتات. قد يبدو من العبث في تلك المرحلة أن يزايد براد بدولار ليربح دولارًا، لكن الخروج بلا مكسب ولا خسارة سيكون أفضل من خسارة ٩٠ سنتًا، وهو ما ستجبره قاعدة المزاد غير المنطقية على دفعه إذا انسحب. والأغرب حتى من ذلك أن أماندا ستواجه عندئذٍ الاختيارَ بين خسارة ٩٥ سنتًا إذا انسحبت أو خسارة خمسة سنتات إذا رفعت المزايدة، من ثَم فهي ستزايد ﺑ ١٫٠٥ دولار، فيزايد عليها براد ﺑ ١٫١٠ دولار، مفضلًا خسارةَ عشرة سنتات على خسارة دولار، وهكذا. ينخرط الاثنان في المزايدة باندفاع منفقين المزيدَ والمزيد من المال حتى يفلس أحدهما فيستمتع الآخر بانتصار الخسارة بدرجة أقل قليلًا.

إنَّ الاستراتيجية العقلانية في خِضم لعبة التصعيد هي أن تقلِّل من خسائرك وتنسحب باحتماليةٍ معينة مع كل حركة، متمنيًا أن ينسحب المزايدُ الآخر أولًا، متمتعًا بالقدر نفسه من العقلانية. يتجسَّد هذا التوجُّه في مقولة: «لا تهدِر مالك على شيء رديء»، وهو ما يعبِّر عنه أيضًا القانون الأول للحُفَر: «إذا كنت داخل حفرة، فتوقَّف عن الحفْر.» من أفعال البشر غير العقلانية التي كثيرًا ما يُستشهد بها، مغالطةُ التكلفة الغارقة، وهي أن يواصل الناس الاستثمارَ في مشروعٍ خاسر بسببِ ما استثمروه حتى ذاك الوقت بدلًا من توقُّع ما سيربحونه إذا هم توقَّفوا عن الاستثمار. ومن الأمثلة المألوفة على ذلك، التمسك بسهمٍ منخفض، ومواصلة مشاهدة فيلم ممل، وإتمام رواية مضجرة، والبقاء في زواج سيئ. ربما يقع الناس في فخ مغالطة التكلفة الغارقة كأحد أعراض ألعاب التصعيد (ولعبة الجبان)، حيث من الممكن أن يؤدي اشتهار أحد الأطراف بتمسُّكه بموقفه، مهما كان مكلفًا، إلى إقناع اللاعب الآخر بالتراجع أولًا.

ليست لعبة التصعيد باللغز الغريب. فالحياة الواقعية توافينا بأزماتٍ يتعيَّن علينا فيها إتمام ما بدأناه مهما كلف الأمر. من أمثلة ذلك الإضراباتُ العمالية الممتدة، والدعاوى القضائية التنازعية، وحروب الاستنزاف التي تقدِّم فيها كلُّ أمة رجالها وعتادها في آلة الحرب آملةً أن يستنفد الطرف الآخر طاقته أولًا.14 إنَّ المبرِّر الشائع لمثل هذه الحروب هو: «نحارب كي لا يكون موت أولادنا عبثًا»، وذلك نموذج كلاسيكي لمغالطة التكلفة الغارقة، لكنه أيضًا أسلوب يُنتهَج في المسعى البائس لتحقيق نصرٍ باهظ الثمن. الكثير من أبشع الحروب في التاريخ كانت حروبَ استنزاف، مما يبيِّن لنا مرة أخرى كيف أنَّ منطق نظرية الألعاب المستفز قد يفسِّر بعضَ مآسي الحالة البشرية.15 رغم أن المواصلة باحتمالية معينة قد يكون الخيار الأقل سوءًا عند التورط في أحد ألعاب التصعيد، فإن الاستراتيجية العقلانية بحق هي عدم اللعب من الأساس.

يشمل هذا ألعابًا ربما لا ندرك حتى أننا نلعبها. يرى العديد من الناس أن من مزايا الفوز بمزاد هو بهجة الفوز فحسب. بما أن لذة الانتصار وكمد الهزيمة مستقلان عن حجم العرض الفائز وقيمة الغرض، فقد يحوِّل هذا أي مزاد إلى لعبة تصعيد. يستغل باعة المزادات هذه الحالةَ النفسية بإثارة التشويق وإغداق عبارات الإطراء على الفائز. ومن ناحية أخرى، تنصح مواقع إيباي المزايدين أن يقرروا مسبقًا قيمةَ الغرض بالنسبة إليهم وألا يتعدوه في مزايداتهم. بعض هذه المواقع تبيع شكلًا من أشكال ضبط النفس على طريقة أوديسيوس: فهي تزايد تلقائيًّا حتى تصل إلى حدٍّ قرَّره المزايد مسبقًا، مقيدةً إياه بالصاري في خضم هياج لعبة من التصعيد لتعظيم الذات، وذلك من أجل مصلحته.

معضلة السجين ومأساة المشاع

لنتخيل الآن إحدى الحبكات المألوفة في مسلسل «النظام والقانون» (لو أند أوردر). يحتجز المدعي العام شريكين في جريمة في زنزانتين منفصلتين؛ ولأنه لا يملك دليلَ إدانتهما، فإنه يعرض عليهما صفقةً. إن وافق أحداهما أن يشهد ضد الآخر، فسيُفرج عنه ويُحبس شريكه عشر سنوات. إن وشى كلٌّ منهما بالآخر، فسيُسجن الاثنان ست سنوات. إذا بقيا مخلصين للشراكة ولزما الصمت، فلن يملك سوى إدانتهما بتهمةٍ أقل وسيسجنان ستة شهور.

توضَّح النتائج في الشكل الوارد أدناه. في مناقشات معضلة السجين، يُقصد بالتعاون البقاء مخلصًا للشريك (وليس التعاون مع المدعي العام)، ويُقصد بالخيانة الوشاية به. النتائج هي الأخرى لها أسماء يسهُل تذكُّرها، والدرجة النسبية لسوئها هي ما يحدِّد المعضلة. أفضلُ نتيجة لكل لاعب هي الخيانة عند تعاون الآخر (الإغراء)، والأسوأ هي أن يكون ضحية تلك الخيانة (جزاء المخدوع)، يقل عنه سوءًا أن يكون طرفًا في خيانةٍ متبادلة (العقاب)، أما ثاني أفضل نتيجة فهي أن يظل وفيًّا للشراكة مع بقاء الآخر وفيًّا (المكافأة). تقع أفضلُ النتائج للاثنين معًا وأسوءُها على امتداد الخط المائل الآخر: أسوأ ما يمكن أن يحدُث لهما معًا هو الخيانة المتبادلة، وأفضل شيء هو التعاون المتبادل.

عند مطالعة الجدول بأكمله من موقعنا الفوقي المميز، يبدو واضحًا أين ينبغي أن يحاول الشريكان أن ينتهي بهما الحال. لا يمكن لأي منهما الاعتماد على تضحية الآخر بنفسه، من ثَم فإن الهدف الحكيم الوحيد أمامهما هو جائزة التعاون المتبادل. بالرغم من ذلك، فمن سوء حظهما أنهما في موقعيهما البشري ولا يستطيعان الاطلاع على الجدول بأكمله؛ إذ لا يمكن لأيٍّ منهما التحكُّم في خيار شريكه. يمعن ليفتي النظرَ يمينًا في خطوتيه، ويتأمَّل بروتوس خطوتيه لأسفل. على ليفتي التفكير مليًّا على النحو التالي: «فلأفترض أنه ظل صامتًا (تعاون). عندئذٍ سأُسجن ستة شهور إذا لزمت الصمت أنا أيضًا، وسيُطلق سراحي إذا وشيت به (خيانة). من الأفضل لي أن أخون. فلأفترض الآن أنه وشى بي (خان). عندئذٍ سأُسجن عشر سنوات إذا بقيت صامتًا، وست سنوات فقط إذا وشيت به. هذا معناه في العموم أنه إذا تعاون هو، فمن الأفضل لي أن أخون أنا، وإذا وشى هو، فمن الأفضل لي أن أخون أنا أيضًا. المسألة بسيطة.» في الوقت نفسه، ستحتوي فقاعة الأفكار فوق رأس بروتوس المناجاة نفسها. وهكذا يخون الاثنان ويُرسلان للسِّجن ست سنوات بدلًا من ستة شهور، وتلك هي العاقبة البغيضة لتصرُّف كلٍّ منهما بعقلانية لخدمة مصلحته الذاتية. وليست المسألة أن أيًّا منهما كان لديه خيار في ذلك: إنه توازن ناش. الخيانة هي الاستراتيجية السائدة لكلٍّ منهما، الاستراتيجية الأفضل لمصلحة كلٍّ منهما بغض النظر عما سيفعله الآخر. إذا تصرَّف أحدهما بحكمة أو أخلاق أو بُعد نظر، فسيكون تحت رحمة خوف الآخر وما يتعرَّض له من إغراء. حتى إن أكَّد شريكه له أنه سيفعل الصواب، فمن الممكن أن يكون كلامًا رخيصًا، لا يستحق الورقَ المكتوب عليه.

إنَّ معضلات السجين من المآسي الشائعة. فالزوج والزوجة المقبِلان على الطلاق يستعينان بمحاميَين قاسيين؛ إذ يخشى كلٌّ منهما أن يجرِّده الآخر من كلِّ ما يملك، بينما تستنزف الساعاتُ المدفوعة الأجر أموالهما المشترَكة. وتستنفد الدول المتعادية ميزانياتها في سباق مسلح يُفقِرها دون أن يزيد من أمان أيٍّ منها في شيء. ويلجأ اللاعبون في سباق الدراجات إلى الأساليبِ غير المشروعة لتنشيط دمائهم ويفسدون روحَ الرياضة لأنهم إن لم يفعلوا ذلك فسيسبقهم منافسوهم الذين نشَّطوا دماءهم.16 ويتزاحم الكل على السَّير الناقل للأمتعة، أو يقف في حفلات الروك، متطلعًا لرؤيةٍ أفضل، ولا أحد يحظى برؤيةٍ أفضل في النهاية.

صحيح أنه لا يوجد حلٌّ لمعضلة السجين، لكن من الممكن تغيير قواعد اللعبة. ومن الطرق التي قد تحقِّق ذلك أن يعقد اللاعبون اتفاقات واجبة التنفيذ قبل اللعب، أو أن يخضعوا لحكم سلطةٍ ما، وهو ما يغيِّر العوائد بإضافة مكافأة مقابل التعاون، أو عقاب على الخيانة. لنفترض أن الشريكين أدَّيا قسَم الصمت، الذي فرضه عليهما الأب الروحي، فإن التزما به ترقَّيا إلى منصب كابو، وإذا أخلَّا به قُتلا وأُلقيت جثَّتاهما في المياه. ذلك يغيِّر مصفوفة النتيجة للعبة أخرى سيكون التوازن فيها، هو التعاون المشترك. من مصلحة الشريكين أداء القسَم مسبقًا حتى إن كان سيحرمهما من حرية اختيار الخيانة. من الممكن إذن للأشخاص العقلانيين الهروب من معضلة السجين بالخضوع لعقودٍ ملزِمة وسيادة القانون.

من الأشياء الأخرى التي تغيِّر اللعبةَ تكرار اللعب، بما ينطوي عليه ذلك من تذكُّر ما فعله شريكك في الجولات السابقة. في هذه الحالة، يستطيع الثنائي أن يجد السبيلَ إلى تأسيس خلية تعاون مباركة، ويستمران في اللعب باستراتيجية تُسمى العين بالعين. تنطوي هذه الاستراتيجية على التعاون في الحركة الأولى ثم معاملة الشريك بالمثل: بالتعاون إذا تعاون الشريك، والارتداد إذا ارتد (في بعض الصيغ، يعطيه فرصة الارتداد قبل أن يرتد هو واضعًا في الحسبان أنها قد تكون زلة لن تتكرر).

لقد لاحظ اختصاصيو علم الأحياء التطوري أن الحيوانات الاجتماعية غالبًا ما تجد نفسها في معضلات سجين متكررة.17 من أمثلة ذلك الفائدة المتبادلة في تنظيف أحدها للآخر، مع وجود إغراء أن يُنظف أحدها دون أن يردَّ بالمثل. أشار روبرت تريفرز إلى أن أفراد نوع «الإنسان العاقل» قد تطوَّرت لديهم مجموعة من المشاعر الأخلاقية التي تطبِّق مبدأ العين بالعين وتتيح لهم التمتُّع بفوائد التعاون.18 فالتعاطف يستحثُّنا على التعاون في الخطوة الأولى، ويستحثنا الامتنان على أن نردَّ على التعاون بالتعاون، ويأتي دور الغضب في أن نعاقب التخلي بالتخلي، ولدينا الذنب الذي يجعلنا نكفر عن تخلينا قبل أن نُعاقب عليه، وللتسامح أيضًا دورٌ؛ إذ يحول دون أن يصير تخلي رفيقنا في موقف وحيد تخليًا متبادلًا إلى الأبد. الحق أنَّ العديد من التفاعلات المثيرة في حياة البشر الاجتماعية — ملاحم التعاطف والثقة والمعروف والدين والثأر والامتنان والذنب والخزي والخيانة والنميمة والصيت — يمكن أن تُرى بوصفها تفاعل الاستراتيجيات في معضلةٍ متكررة من معضلات السجين.19 ويبرهن القول الافتتاحي للفصل على أن هيوم كان هو الأول، مرةً أخرى، في استيعاب ذلك الأمر.

•••

يمكن أيضًا تفسير العديد من الأحداث المثيرة في الحياة السياسية والاقتصادية على أنها أشكالٌ من معضلات السجين تتضمَّن أكثر من لاعبيْن، وتُسمى بألعاب المنافع العامة.20 يستفيد جميع أفراد المجتمع من منفعةٍ عامة كالفنارات والطرق والمجاري والشرطة والمدارس. ومع ذلك، فسيستفيدون أكثرَ إن سدَّد غيرُهم ثمنَها وصاروا هم متطفلين، ففور أن يُبنى الفنار مثلًا يمكن لأي شخص رؤيته. ففي نموذج بيئي معبِّر يُسمى مأساة المشاع، يجد كل راعٍ أن لديه دافعًا أن يضيف خروفًا آخر إلى قطيعه ويرعاه في المرعى المشترك للبلدة، لكن حين شرع كلُّ شخص في تسمين قطيعه، صار الكلأ يُستهلك بوتيرةٍ أسرع من عودته إلى النمو، فجاعت كل الغنم. إنَّ أمورًا كالمرور والتلوث تسير على نفس المنوال: قراري أن أقود سيارة لن يجعل الطرق مكتظةً أو الهواء معكرًا، تمامًا مثلما لن ينقذها قراري بأن أستقل الحافلة، لكن حين يختار الكل أن يقود سيارات، سينتهي بهم الحال متزاحمين في طريقٍ سريع معبَّأ بالأدخنة. التهرُّب من الضرائب، والتقتير عند جمْع التبرعات، واستنزاف الموارد إلى حد استنفادها، ومقاومة تدابير الصحة العامة مثل التباعد الاجتماعي وارتداء القناع خلال الأوبئة، هي أمثلة أخرى على الخيانة في لعبة المنافع العامة: إنها تقدِّم إغراءً لمن ينغمسون فيها، وجزاء المخدوع لمن يتعاونون ويحافظون، وعقابًا جماعيًّا حين يخون الكل.

وعودةً إلى المثال الذي بدأت به الفصل، سأتناول الآن مأساة الكربون المشاع. من الممكن أن يكون اللاعبون أفراد المواطنين، حيث العبء هو الإزعاج الناجم عن التنازل عن اللحم والسفر بالطائرات، أو سيارات الدفع الرباعي الشديدة الاستهلاك للوقود. من الممكن أيضًا أن يكون اللاعبون دولًا بأسْرها، حيث العبء هو إعاقة الاقتصاد نتيجةً للتنازل عن الطاقة الرخيصة السهلة النقل الناتجة من الوقود الأحفوري. الأرقام، كالعادة، اعتباطية، بينما تتجسَّد المأساة في النسق: إننا متجهون نحو الخلية الموجودة أسفل اليمين.

مثلما أنَّ التعهُّد الملزِم قد ينقذ السجينين من الخيانة المتبادلة في معضلة تضم شخصين، يمكن أيضًا للقوانين والعقود السارية أن تعاقب الناس من أجل مصلحتهم المتبادلة في لعبة المنافع العامة. ثمة مثالٌ نظري على ذلك من السهل إجراؤه في المختبر. يُعطى مجموعة من المشتركين مبلغًا من المال وتُعرض عليهم فرصةُ المشاركة في وعاء للتبرعات (المنفعة العامة) ليضاعفه القائم بالتجربة بعد ذلك ثم يعيد توزيعه. أفضل استراتيجية للكل هي أن يساهموا بأكبرِ مبلغ، لكن أفضل استراتيجية لكل فرد هي أن يدَّخر نقوده ويترك كلَّ مَن عداه يتبرَّع. سيدرك المشتركون المنطق القاسي لنظرية الألعاب وتتضاءل مساهماتهم إلى صفر، إلا إذا مُنحوا فرصة تغريم المتطفلين، وفي هذه الحالة ستظل المساهمات مرتفعة ويستفيد الكل.

أما خارج المختبر، في مجتمعٍ يعرف فيه جميعُ الأشخاص بعضهم بعضًا، فيمكن حماية المشاع بنسخةٍ متعددة اللاعبين من مبدأ العين بالعين: إذ يصبح أيُّ مستغل لمورد من الموارد هدفًا للنميمة، والخزي، والتهديدات المستترة، وعمليات التخريب السرية.21 وفي المجتمعات الأكبر التي يوجد بها عدد أكبر من مجهولي الهوية، فلا بد أن يكون تغيير العوائد بعقودٍ ولوائحَ سارية. وبِناءً على هذا، فنحن نسدِّد الضرائب مقابل الطرق والمدارس ونظام المحاكم، مع إرسال المتهربين إلى السِّجن. ويشتري مالكو مزارع الماشية تصاريحَ بالرعي، ويحترم الصيادون الحدودَ المسموح بها للصيد، ما داموا يعلمون أنها تُفرَض على الآخرين أيضًا. ويرحِّب لاعبو الهوكي بقواعد ارتداء الخوذة الإجبارية، التي تحمي أدمغتهم دون أن تمنح لخصومهم ميزةً من حيث الراحة والرؤية. ويوصي علماء الاقتصاد بضريبة على انبعاثات الكربون واستثمارات في الطاقة النظيفة، مما يقلِّل من المنفعة الخاصة للانبعاثات ويقلل تكلفة الحفاظ على البيئة، موجهًا الكل صوب المكافأة المشتركة من الحفاظ على البيئة المتبادل.
إنَّ منطق معضلات السجين والمنافع العامة يقوِّض الأناركية والتحررية المتطرفة، على الرغم من الجاذبية اللامتناهية للحرية المطلقة. ذلك أنَّ هذا المنطق يجعل من العقلانية أن نقول: «لا بد من قانون يحظر ما أفعله.» وكما قال توماس هوبز فإن المبدأ الأساسي للمجتمع هو «أن يكون لدى الشخص استعداد، لدى الآخرين مثله تمامًا … للتنازل عن هذا الحق في كل الأشياء، والاكتفاء من ممارسة حريته مع الآخرين، بالقدر الذي يسمح هو للآخرين بممارسة حريتهم معه.»22 إنَّ هذا العَقد الاجتماعي يمثل المنطق الأخلاقي للنزاهة. وهو يتخلص أيضًا من الإغواءات الخبيثة، وعوائد المخدوع، ومآسي الخيانة المتبادلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤