الفصل الثاني عشر

صَدَى الانشقاق

١٠٥٤–١٠٩٨

في أنطاكية

وتولى السدة الأنطاكية بعد بطرس الثالث البطاركة يوحنا السادس فاميليانوس فثيودوسيوس الثاني فنقيفوروس فيوحنا السابع،١ وجاء في السينوذيكون بعد بطرس كل من ثيودوسيوس فنيقيفوروس فيوحنا، وجاء في مجموعة لوكيان تحت الرقم المتسلسل ٩٦ ثيودوسيوس الثالث ثم باسيليوس الثاني ٩٧، ثم بطرس الثالث ٩٨ فثيودسيوس الثالث ٩٩ فاميليانوس ١٠٠ فنيقيفوروس ١٠١ فيوحنا الرابع ١٠٢.
وتختلف هذه المراجعُ في تعيين سني الرئاسة، ولكنها تتقارب في تحديد بداية عهد يُوحَنَّا السابع (الرابع في المراجع الغربية)، ويرى رجال الاختصاص أن رئاسة يوحنا السادس امتدت من السنة ١٠٥٦ حتى السنة ١٠٥٧، وأن ثيودوسيوس الثاني تولى من السنة ١٠٥٧ حتى السنة ١٠٥٩، وأن رئاسة أميليانوس انتهت في السنة ١٠٧٩، وأن نيقيفوروس جاء بين أميليانوس وبين يوحنا السابع، وأن هذا رقي العرش البطريركي في حوالي السنة ١٠٨٨.٢
وقضى التقليد الكنسي بالقول بتساوي البطاركة الخمسة في السلطة وبعدم تدخل أحدهم في شئون غيره المحلية،٣ وأعلن بطرس الثالث هذا الموقف قبل حوادث السنة ١٠٥٤ وبعدها، وكان ثيودوسيوس الثاني خريزوفرجيس صديق ميخائيل الأول كيرولاريوس، فلا عجب إذا امتنع هو وخلفاؤُهُ في هذه الفترة عن توجيه رسائل الجلوس إلى رومة وعن ذكر أحبارها في الذيبتيخة الأنطاكية، ولكنهم لم يذهبوا إلى أبعد من هذا ولم يتخذوا فيما يظهر أي قرار مجمعي بشأن مشكلة هومبرتو وحرمه، وهو ما يُجمع عليه كبارُ الثقات في تاريخ الروم،٤ وجاء في سيرة القديس جاورجيوس الأثونيتي أن ثيودوسيوس الثاني البطريرك الأنطاكي هدد ملك الكرج في نِزَاعٍ نشب بينهما حول حقوق الكرسي الأنطاكي بأخبار البطاركة «الأربعة» بسوء فعله.٥

في أوروشليم

واتخذ بطاركة الكرسي الأوروشليمي الموقفَ نفسه الذي وقفه بطاركة الكرسي الأنطاكي، وتأثروا بالعوامل نفسها التي دفعتْ زملاءَهم، فقالوا بتساوي البطاركة الخمسة في السلطة، ووقفوا إلى جانب بطريرك القسطنطينية، فامتنعوا عن إرسال رسائل الجلوس إلى رومة، وعن ذكر أحبارها في الذبتيخية، وكتب سمعان الثاني بطريرك أوروشليم رسالةً في هذه الفترة عينها في موضوع الخلاف بين رومة والكنائس الشرقية، أبان فيها بوضوح عدم موافقته على زيارة الفيليوكوي واعتراضه على استعمال الفطير،٦ وقد أوضح العلامة الألماني ميشال أمر هذه الرسالة، فأزاح عنها حِجابَ الريب الذي أسدله زميله لايب، وأكد أن هذه الرسالة هي من قلم البطريرك سمعان وتعود إلى القرن الحادي عشر.٧

وقد سبقت الإشارةُ إلى الاضطهاد الذي أَنْزَلَه الحاكمُ بأمره الفاطمي بالمسيحيين ومعابدهم في الربع الأول من القرن الحادي عشر، ولم يكن من ينجد كنيسة أوروشليم ويقيلها من عثرتها سوى ملوك الروم؛ فقسطنطين التاسع هو نفسه جدد كنيسة القيامة بعد تدميرها.

ونرى بطاركة أوروشليم يكتفون بما اكتفى به زملاؤُهُم في أنطاكية؛ ففي السنة ١٠٦٤ تَوَجَّهَ عددٌ من أساقفة الغرب يتقدمهم سيغفريد رئيس أساقفة ماينز وعدد من الأشراف وغيرهم؛ إلى زيارة الأماكن المقدسة، ومروا بالقسطنطينية فأكرمهم قسطنطين العاشر وزاروا كنيسة الحكمة الإلهية، ولدى وصولهم إلى المدينة المقدسة خرج صفرونيوس البطريرك الأوروشليمي بنفسه لملاقاتهم ومعه الإكليروس والشعب بالمباخر والشموع وأدخلهم باحتفاء عظيم كنيسة القبر المقدس،٨ وهو أمر ذو بال في موقف رجال الدين في الغرب والشرق معًا من حرم هوميرتو وسيميومة المجمع القسطنطيني.

في الإسكندرية

ونكاد لا نعلم شيئًا عن كنيسة الإسكندرية في هذه الفترة، ولا نعلم اسم البطريرك الذي جلس على كرسي مرقس سنة ١٠٥٤، ولا يجوزُ التكهُّن عند سكوت المصادر الأولية، وأن لا أدري لمن العلم!

يوحنا متروبوليت كييف

ودخلت كنيسة رومة في نزاع داخلي حول الخلافة، فادعى إقليمس الثالث حَقَّ تولي السدة ثلاثين عامًا (١٠٧٠–١١٠٠)، فخاصم كلًّا من غيريغوريوس السابع وفيكتوريوس الثاني وأوربانوس الثاني، وحوالي السنة ١٠٨٠. وفي عهد غريغوريوس السابع كتب إقليمس الثالث رسالة إلى يوحنا الثاني متروبوليت كِيف؛ راجيًا تدخُّله في القسطنطينية للاعتراف به بطريركًا وبابا على رومة، وكانت كنيسة روسية لا تزال خاضعة لرئاسة البطريرك المسكوني، وكان يوحنا الثاني رئيسها متروبوليت كِيف يونانيًّا يمت بصلة إلى الشاعر البيزنطي ثيودوروس بروذوموس، فكتب يوحنا الثاني إلى إقليمس الثالث يأسف لانحراف رومة عن قرارات المجامع المسكونية السبعة في أمر الفطير والصوم والمعمودية والفيليوكوي، ونصح إلى أقليمس أن يرسل من يمثله إلى القسطنطينية؛ ليعلن انسجامه مع التقليد القويم،٩ وبعد ذلك بقليل كتب إلى يوحنا أحد أبنائه الروحيين؛ راجيًا تبيانَ موقف المؤمن الروسي من الوثنيين واليهود واللاتين، فأجابه المتروبوليت يوحنا بأنه لا يجوز التناوُلُ مع مَن يقدس على الفطير، أو مع أولئك الذين لا يطبقون قرارات المجامع المسكونية في الصوم، ولكنه أجاز الاشتراك مع هؤلاء في الأعياد إذا أدى عدم الاشتراك إلى العداوة والحقد، لم يشجع التزاوج مع اللاتين.١٠

ثيوفيلاكتوس متروبوليت أخريدة

وفي السنة ١٠٩٠ كتب الشماس نيقولاووس القسطنطيني إلى ثيوفيلاكتوس متروبوليت أخريدة يسأل رأيه في أخطاء اللاتين، وكان ثيوفيلاكتوس أعلم علماء زمانه درس على بسلوس في جامعة القسطنطينية، وعُنِيَ في تهذيب ميخائيل السابع ابن قسطنطين، ثم اضطر أن يقبل التسقف على كنيسة أخريدة، تنفيذًا لرغبة صديقه البطريرك المسكوني نيقيفوروس الثالث، وقيامًا بواجب أرثوذكسي كبير؛ نظرًا للمشادة حول تبعية كنيسة بلغارية، وساءه تطرُّف الشماس نيقولاووس، فكتب إليه يُوجب الاعتدال والمحبة. وأكد أن الاختلاف في الصوم وفي الزواج وفي المعمودية لا يُشكل خطأً مهمًّا، وقال: إنه من المضحك أن نُقاطعَ اللاتين؛ لأن إكليروسهم يحلق اللحى ويلبس الخواتم ويرتدي الأثواب الحريرية الملونة، ولم يرَ في عدم زواج الكهنة خطيئةً مميتةً، كما أنه لم يجد في الأسفار المُقَدَّسة وقرارات المجامع السبعة ما يمنع التقديس على الفطير، وآلمه جدًّا أن يستمر الرومُ في التفتيش عن أخطاء غيرهم وألا يعترفوا بإمكانية وُقُوعِهم في مثل هذه الأخطاء.

ولكن ثيوفيلاكتوس خشي أن يؤدي ادعاء رومة بالسلطة على جميع الكنائس واستمساكها بهذا الادعاء وخروجها عن قرارات المجامع المسكونية بإضافة الفيليوكوي إلى الدستور المقدس؛ نقول: خشي ثيوفيلاكتوس أن يؤدي هذا كله إلى انشقاق أليم، وعزى هذا العلامة قول اللاتين بالانبثاق من الآب والابن إلى فقر في الاصطلاحات اللاهوتية اللاتينية، وأبان أَنَّ اللفظ اللاتيني للتعبير عن الانبثاق يشمل أربعةَ معانٍ يعبر عنها اليونان بأربعة ألفاظ مختلفة، فإذا شاء اللاتين أن يحتفظوا بالفيليوكوي لأغراض تفسيرية داخلية فلا مانع، شرط أن يذكروا دائمًا أَنَّ هذا اللفظ لم يَرِدْ في الدستور المقدس الذي يقول به جمهورُ المؤمنين.١١
ورأى ثيوفيلاكتوس لمناسبة أُخرى أَنَّ ادعاء رومة بصحةِ قولٍ ما لمجرد صدور هذا القول عن أسقفها في ظرف رسمي؛ ادعاءٌ مردود «ولو تكلم البابا بصوت بطرس وهزَّ مفاتيح السماء في وجوهنا». وأضاف أنه من الهزء ببطرس أن نستند إلى السلطة المستمدة منه لنعلن عقيدة لم تقرها مجامع الكنيسة.١٢

ويتضحُ مِمَّا تَقَدَّمَ أن ثيوفيلاكتوس لم يرَ الكنيسة الجامعة منشقةً في السنة ١٠٩٠، ولكنه خشي ادعاءَ رومة بالسلطة وقولها بالفيليوكوي، ورجا ألا تتدخل الكنائسُ في شُئُون بعضها الداخلية.

نهاية ميخائيل الأول

وتُوفي قسطنطين التاسع بعد صدور السيميومة بخمسة أشهر؛ أي في الحادي عشر من كانون الثاني سنة ١٠٥٥ فنُودِي بالعقب الوحيد الباقي من الأسرة المقدونية بثيودورة ابنة قسطنطين الثامن الصغرى، وكانت قد مضت معظمَ حياتها في الدير، فنشأت تقيةً فظةً بقدر ما كانت أختها زوية متيمةً بالحب، ورأى البطريرك ميخائيل أَنْ تتزوج؛ فتشرك معها في الحكم مَنْ كان أهلًا لذلك، ولا سيما وأنها كانت قد ناهزت السبعين، ورأى الخصيان حولها غير ذلك، فحكمت ثيودورة وحدها. وفي صيف السنة ١٠٥٧ أشرفت الفسيلسة على الموت فاتخذت ميخائيل استراتيوتيكوس خليفةً لها وتَبَنَّتْهُ قبل وفاتها، ودام حكم ميخائيل السادس سنة وعشرة أيام، واشتد في أثنائه النزاعُ بين العسكريين والخصيان، وتَفَجَّرَ الخصامُ يوم عيد الفِصح في الثلاثين من آذار سنة ١٠٥٨، وكانت مؤامرة وتدخل البطريرك ميخائيل، فأرسل وفدًا من المطارنة يُشيرون على ميخائيل السادس بالتنازُل، فسأل الفسيلفس المطارنة ماذا تعطونني بدل المملكة؟ فقالوا: ملكوت السماوات، فرمى شعار الملك والتجأ إلى الدير وتُوُفِّيَ بعد ذلك بقليل، فوصل إلى عرش رومة الجديدة زعيمُ العسكريين إسحاق كومنينوس.

وكافأ إسحاق البطريرك، فمنحه حَقَّ انتقاء أيكونوموس كنيسة الحكمة الإلهية وسكيفوفيلاكسها، وكان ميخائيل الأول قد طلب ذلك من ثيودورة وميخائيل فلم يفلح، وظَنَّ البطريرك أنه سيتمكن مِنْ إرشاد الفسيلفس الجديد وتوجيهه، ولكن إسحاق استثقل هذا الإرشادَ فَنَشَأَ شيءٌ من الكُرْه بين الاثنين ما لبث أن تحول إلى عداء، فهدد البطريرك الفسيلفس واحتذى الحذاء الأرجواني؛ مدعيًا أن الاحتذاء بالأرجواني حقٌّ من حقوق السدة البطريركية، وكان الإقدام على الاحتذاء بالأرجواني في عُرْف الروم آنئذٍ أولَ دليل على الطمع في السلطة العُليا.

وفي الثامن من تشرين الثاني سنة ١٠٥٨ حين كان البطريرك متوجهًا ليخدم القداس في دير الملائكة ألقى الفسيلفس القبض عليه ونفاه مع أولاد أخيه إلى جزيرة إيمبروس، فهاج الشعبُ فاستحضر الفسيلفس البطريرك وجمع مجمعًا وطلب محاكمته؛ لأنه عطف على راهبين كانا يتعاطيان الشعوذة، ولأنه كان يقرأ أشعار الشعراء وقت الخدمة، ولأنه أيضًا ثار على الفسيلفس السابق، والتزم البطريرك الصمت وقام في النهاية وسامح الفسيلفس والقضاة، ودعا للشعب ولأعدائه وسقط ميتًا وهو يقول: السلام لجميعكم مشيرًا بيده اليمنى إشارة البركة، فأمر الفسيلفس بدفنه بحفاوة فائقة، واشترك بنفسه في تشييع الجثمان، ورقي الكرسي المسكوني بعده قسطنطين الثالث ليخوذي (١٠٥٩–١٠٦٣).

رومة تدعو إلى الوئام (١٠٥٧–١٠٦١)

وأدى إقصاءُ ميخائيل الأول عن العمل في حقل السياسة إلى تقريب أرجيروس والإصغاء إليه، فَفُتحتْ كنائسُ اللاتين في القسطنطينية بعد إغلاقها، وأُرسل وفد إلى ألمانية؛ ليفاوض هنريكوس الثالث في أمر التعاون في إيطالية الجنوبية، ووضع حد لمطامع النورمنديين فيها،١٣ وكتب البابا فيكتوريوس الثاني (١٠٥٥–١٠٥٧) إلى الفسيلسة ثيودورة بألطفِ العباراتِ وأَرَقِّهَا، راجيًا تخفيضَ الضرائبِ عن الحُجَّاج الغربيين الساعين إلى أوروشليم بالتوبة وانسحاق النفس،١٤ وما كاد البابا اسطفانوس التاسع (١٠٥٧-١٠٥٨) يعلم بخلع ميخائيل الأول حتى بادر يتعاون مع الروم في السياسة ويوفد إلى القسطنطينية ديسيديريوس؛ ليعالج الوضعَ الكنسي، وقام هذا الوفدُ من رومة قاصدًا القسطنطينية، ولدى وُصُوله إلى باري علم بوفاة البابا (كانون الثاني، سنة ١٠٥٨) فعاد إلى رومة.١٥
ونهج البابا نيقولاووس الثاني (١٠٥٩–١٠٦١) نهجًا معاديًا، فصالح النورمنديين في أمالفيس سنة ١٠٥٩، واعترف بسلطة زعيمهم غيسكار على أبولية وكلابرية والإمارات اللومباردية، شرط أن يعترف هذا بدوره بسيادة الحبر الروماني على هذه المقاطعات جميعها،١٦ فأثار عملُهُ هذا حنق الروم وأضرم غيظهم، فتعاون قسطنطين العاشر الفسيلفس مع الإمبراطورة الوصية الغربية، فدفعا كاذلوس أسقف بارمة للمطالبة بالسدة الرومانية، وخشي البابا الجديد ألكسندروس الثاني (١٠٦١–١٠٧٣) هذا التعاون بين البلاطين الشرقي والغربي، فانتهز فرصة وصول الفسيلفس ميخائيل السابع إلى العرش (١٠٧١–١٠٧٨)، فأرسل وفدًا إلى القسطنطينية في السنة ١٠٧٢ برئاسة بطرس أسقف أناغني للتهنئة والتبريك ولمعالجة التباعد بين الكنيستين،١٧ وكان الرأي الغريغوري في سلطة أسقف رومة قد بدأ يفعم الجو في رومة فلم ير البطريرك المسكوني يوحنا الثامن (أكسيفيلينوس) مجالًا للتفاهُم على هذا الأساس، ورأى ميخائيل بسلوس كبير البلاط رأي البطريرك، فماطل الاثنان، وسَوَّفَا، وأجَّلا البحث في موضوع الاتحاد إلى أمد غير معين.١٨

البابا غريغوريوس السابع (١٠٧٣–١٠٨٥)

وتُوُفِّيَ طغرل بك زعيم الأتراك السلاجقة في السنة ١٠٦٢، فخلفه السلطان ألب أرسلان، واستولى على آني الأرمنية في السنة ١٠٦٤ وذبح ونفى، ثم قام إلى الرها فصدَّه عنها دوق أنطاكية في السنة ١٠٦٥، وفي ربيع السنة ١٠٦٧ هاجم ألب أرسلان الروم من الشرق والجنوب في آنٍ واحد، فدخل جيشُهُ البونط وقيليقية، ووصلت طلائعُهُ إلى قيصرية قبدوقية فخَرَّبَتْها، واستولى رومانوس الرابع على عرش الروم (١٠٦٨–١٠٧١)، وقاد إلى الميدان كُلَّ رجلٍ استطاع أن يجنده في أوروبة وآسية، وانتصر على السلاجقة في سورية الشمالية عند منبج (١٠٦٩) وحرر غلاطية. ثم عاد السلاجقة إلى الهجوم فقام رومانوس إلى الجبهة، ولدى وصوله إلى منزيكرت (ملاذكرد) على الفرات الأعلى وجد نفسه وجهًا لوجه أمام جيوش من السلاجقة، فكانت موقعة ملاذكرد الشهيرة في آب السنة ١٠٧١، وجرح رومانوس وسقط عن حصانه ووقع أسيرًا.

وتولى ميخائيل السابع عرش القسطنطينية (١٠٧١–١٠٧٨) وترامى إليه أن النورمنديين يُعدون العدة للتوسع في البلقان، فكتب إلى غريغوريوس السابع بابا رومة يطلب المعونة في ردع هؤلاء واعدًا بالسعي لإعادة العلاقات بين الكنيستين إلى ما كانت عليه قبل الانشقاق، وأرسل وفدًا إلى رومة للمفاوضة على هذا الأساس، فوافق البابا وأقنع غيسكار زعيم النورمنديين بوجوب التعاوُن مع الروم، وذهب إلى أَبْعَدَ من هذا فأزوج هيلانة بنت غيسكار من قسطنطين بن ميخائيل وولي عهده، وأعلن أنه مستعد للقيام بنفسه إلى القسطنطينية على رأس خمسين ألفًا لصد الأتراك السلاجقة وجمع مجمع يحل جميع المشاكل الدينية، فخشي الرومُ حَلَّ هذه القضايا في جو عسكري، وماطلوا وسَوَّفُوا طوال السنة ١٠٧٤، ونشبتْ مشاكلُ في إيطالية، شغلت غريغوريوس، أَهَمُّها مطامعُ غيسكار النورمندي نفسه.١٩
وفي السنة ١٠٧٦ شهر غريغوريوس رأيه في الباباوية والكنيسة بقرار رسمي عُرف بالديكتاتوس Dictatus Papae، واستقل بهذا الرأي وانفرد به دون إخوانه البطاركة الأربعة ودون عرضه على مجمع مسكوني فَبَاعَدَ بين الكنائسِ وانحرف عنها فَزَادَ الشقاق اتساعًا، وتألف الديكتاتوس من سبعة وعشرين بندًا:
  • (١)

    أن الكنيسة الرومانية وحدها مُقامةٌ من الله.

  • (٢)

    أن الحبر الروماني وحده يستحق لقب المسكوني.

  • (٣)

    وهو وحده يستطيع عَزْلَ الأساقفة وحَلَّهُم.

  • (٤)

    يتقدم نائبه سائرَ الأساقفة في المجمع، ولو كان دونهم رتبة، وهو وحده يُصدر أحكام العزل.

  • (٥)

    يستطيع البابا عزل الغائبين.

  • (٦)

    ولا تجوز السكنى تحت سقف واحد مع مَن يحرمه البابا.

  • (٧)

    وهو وحده يسن شرائع جديدة، مراعيًا في ذلك الظروف. وهو وحده يضم الرعايا الجدد ويحول جماعة من الرهبان إلى رهبنة، ويقسم الأبرشيات الغنية ويضم الأبرشيات الفقيرة.

  • (٨)

    وهو وحده يلبس شارات الملك.

  • (٩)

    وهو الرجل الوحيد الذي يُقَبِّلُ الأمراء رِجله.

  • (١٠)

    وهو الوحيد الذي يجب ذكر اسمه في جميع الكنائس.

  • (١١)

    واسمه فريدٌ في العالم.

  • (١٢)

    وهو وحده يَعزل الأباطرة.

  • (١٣)

    ويجوز له — عند الضرورة — أن ينقل أسقفًا من كرسيٍّ إلى آخرَ.

  • (١٤)

    ويجوز له — عندما يشاء — أن يشرطن أي إكليريكي من أية كنيسة.

  • (١٥)

    ومن يشرطنه البابا يحق له أن يدير شئون كنيسة أُخرى، ولكن لا يجوز له أن يسام من أسقف آخر إلى رتبة أعلى.

  • (١٦)

    ولا يصبح مجمعًا من المجامع عامًّا بدون أمره.

  • (١٧)

    ليس هناك أي نص قانوني خارج سلطته.

  • (١٨)

    حكمُهُ لا يُرفض، وهو وحده يقدر أن يرفض أحكام الجميع.

  • (١٩)

    لا يجوز لأحدٍ أن يُحاكمه.

  • (٢٠)

    لا يجوز لأحد أن يُنكر حكم الكرسي الرسولي.

  • (٢١)

    يجبُ رَفْعُ كل الاختلافات الهامة في كل كنيسة إليه.

  • (٢٢)

    أن الكنيسة الرومانية لم تغلط أبدًا، وهي بموجب شهادة الأسفار المقدسة لن تغلط البتة.

  • (٢٣)

    أن الحبر الروماني متى كانت شرطونيتُهُ قانونيةً؛ يُصبح قديسًا باستحقاقات القديس بطرس، كما قال القديس أينوذيوس أسقف بافية وآباء آخرون، وكما جاء في قراراتِ البابا سيماخوس السعيد ذِكْرُهُ.

  • (٢٤)

    يستطيع الرعايا أن يشكوا ساداتهم بإذنه وأمره.

  • (٢٥)

    يستطيع قطعَ الأساقفة والصفح عنهم بدون دعوة مجمع.

  • (٢٦)

    من لا يوافق الكنيسة الرومانية لا يكون ابن الكنيسة الجامعة.

  • (٢٧)
    يستطيع البابا أن يحرر رعايا الأشرار من يمين الولاء لهم.٢٠
وبينما كان السلاجقةُ يزدادون قوة وتقدمًا في أراضي الروم كان كُلُّ قائدٍ من قادة الروم العسكريين ينادي بنفسه فسيلفسًا، وكان أهم هؤلاء القادة الطامعين نيقيفوروس بوتانياتس، وقبل هذا في صفوفه عددًا كبيرًا من الأتراك السلاجقة، وكان ميخائيل السابع خوارًا مترددًا بعيدًا عن الجيش لا يرغب في الحرب والقتال، فتَدَخَّلَ الشعبُ في العاصمة لوضع حَدٍّ لهذه الفوضى، واهتم رجالُ الدين للأمر نفسه، فنادى إميليانوس بطريرك أنطاكية — الذي كان آنئذٍ في العاصمة — بنيقيفوروس فسيلفسًا،٢١ ونزل ميخائيل السابع عن العرش ولبس ثوب الرهبنة وتُوُفِّيَ. وأكره نيقيفوروس الكنة النورمندية هيلانة على الإقامة في دير (١٠٧٨)، فغضب لميخائيل السابع ولهيلانة كُلٌّ مِن غيسكار النورمندي والبابا غريغوريوس السابع، وجعل غيسكار من أحد اليونانيين الموجودين في رومة آنئذٍ ميخائيل سابعًا، ووافق غريغوريوس السابع على هذا الدجل والاحتيال، وسوَّغ لغيسكار الدفاع عن حقوق الفسيلفس الدجَّال وحرم نيقيفوروس الثالث، وشغلت الروم مشاغل داخلية هامة فلم يعبئوا بهذا الحرم، ثم استقرت أُمُورُهم وتولى الأريكة أليكسيوس كومنينوس (١٠٨١)، فتسرع البابا وعاد فرشق أليكسيوس نفسه بحرم ثقيل وشاطر النورمنديين المسئولية في هجوم على البلقان بدأ في السنة ١٠٨١،٢٢ فغضب أليكسيوس لكرامته وكرامة الكنيسة وكان تقيًّا غيورًا فأمر بإقفال كنائس اللاتين مستثنيًا كنائس حلفائه البنادقة، وتعاون مع إمبراطور الغرب هنريكوس الرابع عدو غريغوريوس، ولكنه لم يؤيد مرشح هنريكوس للكرسي الباباوي أقليمس الثالث، واستمرت المشادةُ بين القسطنطينية ورومة حتى وفاة غريغوريوس السابع في السنة ١٠٨٥، وتولى السدة الرومانية فيكتوريوس الثالث (١٠٨٦-١٠٨٧) فلم يخفض مِن غُلواء غريغوريوس ولم ينتهِ عما كان فيه.

أوربانوس وأليكسيوس

وفي السنة ١٠٨٨ رقي كرسي رومة الرسولي أوربانوس الثاني (١٠٨٨–١٠٩٩)، وكان سديد الرأي حسنَ التدبير تقيًّا مُحبًا غيورًا، فلوى العنان وردَّ الجِماح وواصل وأحسن الصلة، وكان أليكسيوس مهذبًا مثقفًا متضلِّعًا من الفلسفة واللاهوت شديد التمسك «بالعبادة الحسنة الأرثوذكسية»، ولكنه كان دمث الأخلاق سلسًا يؤْثر السياسة على العنف، وكان قد نجح في صد النورمنديين عن مطامعهم في البلقان، وأنزل في الثوار الماناويين والبقشناغ الهزيمة تلو الهزيمة. وكان البطريرك المسكوني نيقولاووس الثالث النحوي (١٠٨٤–١١١١) عالمًا كبيرًا وراهبًا بارًّا وديعًا تقيًّا، فأوفد أوربانوس لدى وصوله إلى السدة الرومانية الكردينال الشماس روجه والأب نيقولاووس إلى القسطنطينية حاملين رسالة إلى الفسيلفس ملؤها المحبة والرجاء بأن يصار إلى فتح ما غلق من كنائس اللاتين، والسماح لهؤلاء بالتقديس على الفطير، فرضي الفسيلفس وأصدر خريسوبولونًا دعا فيه أوربانوس إلى القسطنطينية للاشتراك في مجمع يبحث قضية الفطير ويحلها، ووافق البابا وأجاب بالقبول وبدأ يعد العدة للقيام إلى القسطنطينية لحل المشاكل الراهنة.

واشتدت معارضة إقليمس الثالث وتفاقم شرها، فاضطر أوربانوس أن يبقى في إيطالية ليرقب تطوُّر الحوادث عن كثب، ولكنه أرسل وفدًا ثانيًا إلى القسطنطينية في السنة ١٠٨٩ ليمثله في المجمع المقترح، ولدى وصول هذا الوفد أعلن رئيسُهُ رفع الحرم عن أليكسيوس، فقابل الفسيلفس هذه البادرة الطيبة بالطلب إلى البطريرك نيقولاووس الثالث ومجمعه الدائم أن يذكروا اسم أوربانوس في ذبتيخة كنيسة الحكمة الإلهية، فأمسك البطريرك مشيرًا إلى بعض الاختلافات القانونية القائمة بين الكنيستين، ولكن أليكسيوس أوجب الرضوخ ولا سيما بعد أن تبين له أن محفوظات البطريركية كانت خالية مِن أي قرار رسمي يفصل الكنيستين الشقيقتين، فوافق البطريرك ومجمعه على اقتراح الفسيلفس وطلبوا إلى أوربانوس أن يحضر بنفسه جلسات المجمع المنتظر، أو أن يرسل من ينوب عنه لهذه الغاية، وأن يبين اعترافه بالإيمان حسب العادة.

وكتب نيقولاووس الثالث إلى أوربانوس الثاني كتابًا نفى فيه أن يكون قد منع اللاتين في القسطنطينية عن ممارسة طقوسهم بحرية، وأكد أن هذا الخبر مجرد افتراء، ثم أشار بلطف ولباقة إلى تأخُّر أوربانوس عن إعلامه بانتخابه وعن إرسال الاعتراف بالإيمان، وخالف فوطيوس في أنه دعا أوربانوس أخًا لا أبًا كما فعل فوطيوس، وأكد المساواة بين البطاركة وأوجب العمل بمقررات مجمع ترولي المسكوني.٢٣
وكان أوربانوس سهلَ الأخلاق سلسَ الطباع ظريفًا كيِّسًا لبقًا، فتغاضى عن بعض ما جاء في كتاب نيقولاووس، ولا سيما اعتباره أخًا لا أبًا، ولم يرسل اعترافًا بالإيمان كي لا يُثير قضية الفيليوكوي، ولم يذكر اسمه في ذيبتيخة الحكمة الإلهية، ولكن المياه عادتْ إلى مجاريها إلى ما كانت عليه قبل السنة ١٠٥٤، وحل الوفاق والوئام محل التراشق والتخاصم.٢٤
١  Constantius, op. cit., 172-173.
٢  Grumel, V., Patriarches d’Antioche, Echos d’Orient, 1934; Grumel, V. Patriarches Grecs d’Antioche, du Nom de Jean, Echos d’Orient, 1933.
٣  Jugie, M., op. cit., 219–229.
٤  Vasiliev, A. A., Byz. Emp., 338-339; Bréhier, L., Schisme Oriental, 232–241; Ostrogorsky, G., Byz. State, 297; Amann, E., Rome et const., Fliche et Martin, VII, 150.
٥  Grumel, V., Patriarches d’Amtioche, Echos d’Orient, 1934, 142–144.
٦  Leib, B., Deux Inédits Byzantins, Orientalia Christiana, IX, 85–107.
٧  Michel, A., Amalfi und Jerusalem im Griechischen Kirchenstriet (Orientalia Christiana No. 121), 34–47; Runciman, S., Eastern Schism, 75, n. 3.
٨  Annales Aitahenses Majores (M. B. SS. XX); Lambert de Hersfeld, M. G. SS., V. 168-169.
٩  Pavlav, A., Essai Critique Sur l’Ancienne Polémique Gréco-Russe Contre les Latins, 168–186; Leib, B., Rome, Kiev et Byzance, 32–37.
١٠  Canonic Answers to the Monk James, Goetz, Kirchenrechtliche und Kulturgeschichte Denkmaler Altrusslands, 98 ff.; Golubunsky, E. E., Hist. of Russian Church, I, 820–828; Jugie, M., op. cit., 236–238.
١١  De Iis in quibus Latini Accusantur, P. G., Vol. 126, Col. 221 ff.
١٢  Ibid. Col. 241; Runciman, s., Eastern Schism, 71–74.
١٣  Gay. J., Italie Méridionale 508-509; Chalandon, F., Domination Normande. I, 160.
١٤  P. L., Vol. 149, Col. 961-962; Runciman, S., Eastern Schism, 56, n. 2.
١٥  Leo of Ostia, Chron, Monast, Casinensis, M. G. H. S., VIII, 702-703.
١٦  Gay. J., op. cit., 516–519; Chalandon, F., op. cit., I, 170–172.
١٧  Bruno of Segni, Vita S. Petri Ananiensis, Acta Sanctorum Bollandiana, Aug. 3, 230.
١٨  Salaville, “Jean Xiphilin” Dict. Theol. Cath., XV, Col. 3618–3620.
١٩  Anna Comuena, Alexiad, I, 10, 12; Reg. Greg., II, 31, 37; Fliche, A., Grégoire VII, Fliche et Martin, VIII, 74-75; Runciman, S., op. cit., 58-59.
٢٠  Peitz, W., Das, Original register Gregors VII, 265 ff.; Blaul, O., Studien zum Register Gregors VII, 5. Sonderuntersuchung, Der Dictatus Papae, II, 55, a, 29 ff; Hofmann, K., Der Dictatus Papae, Paderborn, 1933.
٢١  Bréhier, L., Byzance, 275–287.
٢٢  Chalandon, F., Règne d’Alexis Comnène, 62–65; Runciman, S., op. cit., 60, n. 1.
٢٣  Holtzmann, W., Unionsverhandlungen Zwischen Kaiser Alexios I und Papst Urban II im Jahve 1089, Byz. Zeit., 1928, 38–67; Grumel, V., Jerusalem entre Rome et Byzance, Echos d’Orient, 1939, 104–117.
٢٤  Runciman, S., op. cit., 62; Jugie, M., op. cit. 241–243.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤