الفصل الحادي عشر

إغواء القديس أنطونيوس

figure
للمصور هيرونو موس بوش، متحف برادو في مدريد.

هيرونيموس بوش (Hieronymus Bosch) (من حوالي ١٤٥٠–١٥١٦م)

ربما كان صاحب أعجب وأوسع خيال عرفه تاريخ الفن! يُحتَمل أن يكون قد وُلد في «هيرتوجنبوش» بهولندا التي سُجل في وثقائقها سنة ١٤٨٠ / ٨١م، واستمدَّ منها اسمه وقضى فيها حياته. ويمكنك أن تعرف صوره الغريبة من أول نظرة تُلقيها عليها؛ إذ تضعك في عالم قد وُضع في قبضة أفكار شبحية وأخروية متسلطة، وخيَّم عليه شفق الروح القوطية الغاربة، وبرزت على سطحه — كأنها جيوش حشرات غريبة تبرز من جحيم مأهول بالألغاز! — هواجس العصر الوسيط ونبوءاته ومخاوفه وأشواقه. وتُحَيِّرك معظم هذه الصور وتستغلق عليك فلا تدري هل تُفسرها كما فعل السيرياليون بأنها «فرويدية» قبل فرويد بزمن طويل، أم توافق بعض النقاد على أنها تعبِّر عن معاني دينية ورموز وحكايات وأُمثولات أخلاقية محدَّدة من العصر الوسيط، وليست مجرد فيض مختلط تدفَّق من هاوية اللاشعور. لم تزل الآراء مختلفةً حول تفسير صوره (مثل سفينة الحمقى والفردوس الأرضي والخطايا السبع المميتة)، ومعرفة تواريخها وأصولها والدوافع الكامنة وراءها. فهل رُسِمت بعض هذه الصور لتكون قِطعًا تُزَيَّن بها مذابح بعض الفرق المجدفة التي كانت تمارس طقوسًا شبقية أو «باخية» عنيفة؟ أم كانت تعبيرًا عن بعض الرموز والخرافات والقصص الدينية الشائعة في العصر الوسيط (مثل سفينة الحمقى التي تقوم على ملحمة ساخرة ظهرت سنة ١٤٩٤م لسيباستيان برانت في مدينة بازل تحت نفس العنوان، وجسَّدت الرذائل وتهكَّمت عليها)، وكيف نفسِّر إهداءها إلى شخصيات عُرفت بتقواها وإيمانها، وبرعايتها وحمايتها له في وقت واحد، مثل فيليب الثاني ملك إسبانيا؟ ثم كيف نفهم دفاع بعض الكُتَّاب عنه ونفي تهمة التجديد التي أُلصِقت به أثناء حياته؟ أم ترى تأثر هذا الفنان العجيب ببعض الرسوم الشعبية والصور الدينية المتداولة بين الفقراء والمساكين في ذلك الحين؟!

(١) بيرنت فون هيزلر (Bernt Von Heiseler)

وُلد الشاعر الألماني سنة ١٩٠٧م في «برانينبورج على نهر الإن»، ومات بها سنة ١٩٦٩م. كان أبوه هو الشاعر هنري فون هيزلر الذي انضمَّ إلى ثورة أكتوبر الروسية وصار قائد فرقة في الجيش الأحمر. درس التاريخ وعلوم الدين (اللاهوت) في جامعة ميونيخ، وقام برحلات طاف فيها بأوروبا وروسيا وأمريكا الشمالية، وتعرَّفَ على كبار شعراء عصره مثل رلكه وستيفان جئورجه اللذَين ربطت بينه وبينهما صداقة قوية. نشر المسرحيات والقصائد والقصص والمقالات والترجمات، وقد ظهرت قصيدته عن صورة هيرونيموس بوش في مجموعة شعرية بعنوان «قصائد»، دار نشر بيرتلسمان، جوترسلوه، ١٩٥٧م، ص٩٨.

fig1

«عن صورة لهيرونيموس بوش»

صورة نحيلة وحشية،
لا تحسبها فاقدة المعنى.
العالم تضطرب رؤاه كما في الحلم،
والقلق يلحُّ علينا،
القلق ومعه الحسرة.
لكن تواضع هذا القديس الخاشع
يلمس طرف رداء الله.

(٢) جان تشيرسكي-برانت (Jan Czerski-Brant)

شاعر بولندي، سبقت ترجمته مع لوحة المعلم والمتعلم. وقصيدته هذه عن صورة القديس أنطونيوس لهيرونيموس بوش، فقد أنشأها في سنة ١٩٧٤م بعد مشاهدة نسخة مطبوعة منها على بطاقة. وأرجو أن يلاحظ القارئ أن الشاعر قد كتب السطرَين الثاني والثالث من كل مقطوعة بحروف كبيرة، كما رتَّبَ سطوره على نحو يوحي بطريقة أصحاب الشعر المُجَسَّم في تشكيل أبياتهم بصورة هندسية أو رياضية، بحيث يشارك أسلوب طباعتها في الإيحاء بدلالاتها.

«القديس أنطونيوس لهيرونيموس بوش»

أبانا الذي في السماء،
طقطقة النار بقاع جهنم،
عفن من شرج الشيطان المُجرم.
ليكن ملكوتك.
موكب إبليس، وعرض لصواريخ النصر،
وعقارب يدَّفق منها طوفان السم.
وليكن ما تشاء.
ريح تطلقها السحرة من دُبُر فتغمُّ النفس.
حبل المشنقة زناة صرخة مختنق همس.
أتطلَّع نحو الجبال.
بِرَكُ براز يغرق فيها الملعونون،
التي أتوقَّع منها المعونة.
ضجة آلات وجنون عصاة ينتحرون.
من يضع فيك آماله لن يهون،
وأنا قد وضعت مصيري بين يدَيك،
ووجَّهت وجهي إليك،
وبمن أستجير،
ومنك المصير،
إليك المصير،
وألجأ منك إليك؟

(٣) باول فينس (Paul Wiens)

وُلد الشاعر الألماني سنة ١٩٢٢م في مدينة كونجزبرج — وهي التي وُلد ومات فيها الفيلسوف كانت — ثم هاجر منها سنة ١٩٣٣ مع بداية الطغيان النازي. درس الفلسفة والاقتصاد السياسي من سنة ١٩٣٩م إلى سنة ١٩٤٢م في جامعتَي لوزان وجنيف السويسريتَين، ثم انتقل إلى فيينا إلى أن استقرَّ به المقام في برلين الشرقية منذ سنة ١٩٤٧م.

كتب ونشر القصص القصيرة والطويلة والتمثيليات الإذاعية والقصائد كما كتب للسينما، وترجم أشعارًا لإيلوار وأراجون وماياكوفسكي. ظهرت قصيدته التالية: «تفاعل، هيرونيموس بوش» في مجموعته الشعرية «أربعة خطوط من يدي»، التي نشرتها سلسلة ركلام الشهيرة في ليبزيج سنة ١٩٧٢م.

«تفاعل، هيرونيموس بوش»

أفتح صفحات كتاب. أدخل بيتًا.
فيه يُولَد إنسان؛
والإنسان أنا.
أفتح نافذة،
أتسلقها، أقفز منها،
ألقى إنسانًا
عُلِّق في فانوس الشارع،
ذا جلد أسود،
ويمدُّ لسانه؛
والإنسان أنا.
في حقل القمح يشاكس،
رجل عار عارية مثله؛
والرجل أنا.
هم يفترسون الواحد
لحم الآخر؛
أي عشاء رباني!
لكني الآن
على مفترق الطرق.
هنالك شبَّ عراك
بين اثنَين.
أحدهما يصرخ
من ثقب أحمر في بطنه؛
والصارخ والجرح أنا.
والآخر وسط فناء كنيسة
فوق عمود يخصي نفسه؛
وهو أنا.
أخفض بصري.
يلمع مركز إرسال العالم
تحتي،
وهنالك يغرق رجل في نومه؛
والرجل أنا.
شخص يضغط فوق الزر،
يئن،
والشخص الضاغط فوق الزر؛ أنا.
أنصرف لحالي، يقف قطار،
أركبه، نتدحرج عبر ليالٍ وليالٍ،
نلعب دور الشطرنج معًا؛
وأنا اللاعب مع نفسي.
في الخارج شرر متقد،
رجل يتوهَّج فيه؛
والرجل أنا.
أسقط دون إصابة هدف،
أجد الورقة بيضاء؛
والورقة نفسي.
أحترق وأقفز من وسط النار،
معافًى تتضوَّع مني رائحة المسك،
طهورًا قرَّبني الله إليه،
وسيفتح من بعد كتاب،
وسيدخل إنسان بيتًا،
وسيولد في البيت وليد؛
أنا، أنا، أنا، أنا …

(٤) دومينيكوس لامبسونيوس

وُلد شاعر عصر النهضة الألماني سنة ١٥٣٢م في مدينة «بروجه»، ومات سنة ١٥٩٩م في مدينة «لوتيش». درس في جامعة «لوفين»، وعمل في خدمة الكاردينال بول رئيس أساقفة كانتربيري، ولمَّا مات الكاردينال سنة ١٥٥٨ غادر إنجلترا وعمل سكرتيرًا لأسقف مدينة «لوتيش» روبرت دي برجيس، وأسقفَين آخرَين خلفاه في منصبه. عرف معظم علماء عصره وفنانيه وتبادل معهم رسائل ذات قيمة تاريخية وفنية كبيرة. كتب عددًا كبيرًا من القصائد بجانب روايته لسيرة المصوِّر لامبيرت لومبارد الذي عاش مثله في لوتيش، وألَّفَ كتابًا بعنوان «صور بعض مشاهير الرسامين الهولنديين»، نُشر سنة ١٥٧٢م في مدينة أنتفيربين، وتحت كل صورة قصيدة موجزة (أبيجرام) تتألف من أربعة أبيات إلى اثنَي عشر بيتًا. والقصيدة — اللاتينية الأصل — التي نوردها هنا هي التي كُتبت تحت الصورة المرفقة من رسم المصور هيرونيموس بوش، وتحمل في الكتاب رقم ٣. وقد نُشر الكتاب في ترجمة فرنسية حديثة، وعُني بتحقيقه والتعليق عليه الأستاذ ج. بوراي، باريس ١٩٥٦م، ص٢٨.

«إلى الرسام هيرونيموس بوش»

ماذا تعني نظرتك المرعبة
ووجهك الشاحب؟
أرأيت بنفسك أرواح الموتى،
أشبه بالصور الرفافة
في نار جهنم؟
لقد انفتحت أمامك
أعماق تارتاروس١ التي لا تشبع؛
لذلك استطاعت يدك أيضًا
— أيًّا كان ما تطويه
أعماق إكليجيس السحيقة —
أن ترسم هذا الرسم الرائع …
١  هو سجن الآلهة الذي حُبِس فيه الآثمون والمجدفون (مثل التيتان وسيزيف وتانتالوس). وهو مكان مُعْتم في أعمق أعماق الأرض أو أعماق هاديس (العالم السفلي في أساطير الإغريق).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤