الفصل الثاني عشر

إيكاروس

الصورة لبيتر بروجيل الأب أو الأكبر (١٥٢٥–١٥٦٩م) أو بروجل «المزارع»، إشارةً إلى اهتمامه بحياة القرويين وعاداتهم وأخلاقهم (راجع ترجمته مع اللوحة التالية)، وهو من أعظم مصوري الطبيعة على الإطلاق، وأهم الساخرين من مفارقات الحياة البشرية ورذائل البشر بعد مواطِنه الهولندي هيرونيموس بوش (١٤٦٠–١٥١٦م). والصورة تُخَلِّد مغامرة «إيكاروس» الجَسور التي تُعَد أول محاولة يبذلها الإنسان للطيران. وإيكاروس هو ابن الفنان والمهندس الأسطوري الذي بنى المتاهة الشهيرة لمينوس ملك جزيرة كريت. وقد انتقم منه الملك عندما اكتشف أنه نصح «أريادنه» بأن تمد ثيسبوس بخيط يساعده على الخروج من المتاهة الرهيبة بعد قتل الثور الخرافي «المينوتاوروس». ويبدو أن الملك زجَّ بالفنان البارع في السجن، فهرب مع ابنه من الجزيرة الجاحد ملِكُها وأهلها بطريقة مبتكرة؛ إذ ركَّب لنفسه ولولده جناحَين من الشمع يساعدانهما على التحليق في السماء. غير أن طموح إيكاروس أغراه بالإمعان في التحليق حتى اقترب من الشمس التي صهرت جناحَيه الشمعيَّين، وسقط الطائر الطائش النبيل سقطةً مفجعة في البحر الذي سُمِّي بعد ذلك باسمه. وقد ألهمت صورة بروجيل عددًا كبيرًا من الشعراء المعاصرين١ نذكر منهم:

(١) ألبرت فيرفي (Albert Vervey)

وُلد الشاعر سنة ١٨٦٥م في أمستردام، ومات سنة ١٩٣٧م في نوردفيك آن زيه. كان من مُريدي الشاعر الرمزي الكبير ستيفان جئورجه، ومن أعضاء حلقته الشهيرة، وعمل منذ سنة ١٩٢٥م أستاذًا للأدب الهولندي بجامعة ليدن، وترجم دانتي وسوناتات شكسبير. نُشرت قصيدته التالية عن إيكاروس في الجزء الثاني من مجموعة أشعاره التي صدرت سنة ١٩٣٨م.

«إيكاروس»

أسقطت يا إيكاروس؟ الفلاح يجر محراثه،
وهو مشغول عن سماع السقطة المدوية.
الصياد الجالس على الصخرة لا تصدر عنه حركة.
الصيد همه، وهو يمد بصره للطُّعم والسنارة.
الطائر الواقف على غصن قريب منه منتبه،
لعل الغنيمة يسقط منها شيء يلتقطه.
الريح تنفخ أشرعة السفينة الحربية الصغيرة،
والبحارة منهمكون في شد الحبال.
سرب النورس الذي يُحلق فوقك هو الوحيد
الذي يلاحظ سقوط ساقك البيضاء تحت الماء.
رجل واحد يتطلع إلى أعلى؛ الراعي لمح في الهواء
شيئًا غريبًا وسأل نفسه أين اختفى وغاب.
خليج ساموس كله تغمره أشعة الشمس،
التي أراد إيكاروس أن يقترب منها فلم يستطع.

(٢) أودين (ويستان هَف) (Wystan Hugh Auden)

من أهم الشعراء المعاصرين وأبعدهم أثرًا وأعمقهم ثقافة. وُلد سنة ١٩٥٧م في يورك ﺑ «إنجلترا»، وهاجر سنة ١٩٣٩م إلى أمريكا. بدأ حياته ماركسيًّا، ثم انضم سنة ١٩٤٠م تحت لواء الكنيسة الإنجليكية. عمل أستاذًا للأدب بجامعة أكسفورد، وهاجر في أواخر حياته إلى النمسا حيث مات في فيينا سنة ١٩٧٣م. كتب الشعر والمسرحية والمقال كما كتب للأوبرا. قصيدته التالية بعنوان «متحف الفنون الجميلة» مأخوذة من مجموعته الشعرية «وقت آخر» التي أصدرتها دار النشر فابروفابر سنة ١٩٤٦م.

كانوا يعرفون العذاب معرفةً كافية،
أولئك المعلمون القدامى، لَكم أحسنوا
فهْم دوره الإنساني، وقدَّروا كيف يصيب بعض الناس،
بينما البعض الآخر يأكل أو يفتح نافذة
أو يتابع طريقه في سأم،
وكيف تنتظر العجائز الميلاد المعجز في قلق وخشوع،
بينما الأطفال من حولهم لا يكترثون
بأن يتم أو لا يتم، ويفضِّلون
أن يتزحلقوا على الثلوج التي تغطي البحيرة
يا طرف الغابة،
لم ينسَ المعلمون أبدًا
أن أسرار التعذيب والاستشهاد الفظيعة
لا بد أن تتم في ركنٍ منزوٍ،
أو بقعة قذرة تتصرَّف فيها الكلاب على طريقة الكلاب،
ويحكُّ حصان الجلاد مؤخرته البريئة على ساق شجرة.
في لوحة بروجيل عن «إيكاروس» على سبيل المثال:
كل شيء يدير ظهره في برود تام للكارثة،
ربما سمع الفلاح صوت الارتطام بالماء
والصرخة الضائعة، لكن هذا كان في نظره
شيء لا يستحق الاهتمام،
والشمس سطع ضوؤها — كما هو واجبها —
على الساقَين البيضاوَين اللتَين غاصتا في الماء،
والسفينة المتكبرة الباهظة الثمن،
التي لا بد أنها قد رأت شيئًا ممَّا وقع
— فتًى سقط من السماء —
قد كان لها هدف مرسوم تتجه إليه؛
ولهذا واصلت رحلتها في هدوء.

(٣) رونالد بوترال (Ronald Bottral)

وُلد الشاعر الأمريكي سنة ١٩٠٦م في كامبورن، كورنويل. اشتغل بتدريس الأدب في جامعتَي برنستون وسنغافورة، والتحق بالسلك الدبلوماسي مبعوثًا لبلاده في السويد، وإيطاليا، والبرازيل، واليونان، واليابان. وقد نشر عددًا من الدواوين الشعرية والدراسات في تاريخ الفن. كتب قصيدته عن إيكاروس سنة ١٩٤٥م، وكان قد شاهد لوحة بروجيل في قصر الفنون الجميلة في بروكسل.

ظهرت القصيدة أول مرة في ديوانه الرابع «وداع وترحيب» الذي صدر في لندن سنة ١٩٤٥م، ثم نُشرت في مجموعة المنتخبات الشعرية الذائعة الصيت «الكنز الذهبي» التي أشرف عليها الأستاذ بالجريف (لندن ١٩٦٤م). زعم بعض نُقَّاده أنه تأثَّر في قصيدته بقصيدة «أودن» سابقة الذكر، ولكنه أكَّد أنه لم يكن قد قرأها قبل كتابة قصيدته.

أمام عيني أبيه
راح يحلِّق عاليًا في السماء،
حتى انفتحت مدن البحر الأيجي
كما تنفتح الأوعية الدموية تحت المجهر.
شاهد جذوع الأشجار من تحته
ممتدةً بلا نهاية، بينما ازدهر المكان-الزمان
في عينَيه المشرعتَين إلى الشمس.
ذراعاه المجنَّحتان، وهما امتداد الأفكار الخفيفة
وكبرياء الإبداع،
أخذتا ترتفعان به فوق البشر.
قال لنفسه:
«وإذا ما طرت»
«إلى منبع الطاقة المميتة،
فسوف أضع يدي على الوصفة
التي تمكِّن الإنسان من إغداق الدفء والنور».
بيد أن ضوء الشمس لا تحتمله كل العيون
وحرارة الشمس لا تطيقها كل الدماء.
مالت حركته نحو الأرض،
عاجزةً عن مساندة غروره.
ورأى في سقوطه الطيور المرفرفة الحرة
تحملها عضلات الكتفَين القوية
في دوراتها الواسعة عبر الفضاء،
فوق الشطآن وفوق شظايا الأشياء،
فوق السيوف وفوق الكلمات.
وكورقة شجر منزوعة،
مستضعفةً في قبض الريح،
سقط ركاما من ذرات
انتظمت في سرعات متساوية
متوازية الوقع
(وفق قوانين الحركة)،
ساعيةً نحو الأرض.
وعلى منحدر عالٍ فوق البحر
دار الفلاحون ذوو الأيدي الخشنة
دورتهم في حرث التربة،
عُميًا عن ذاك الجسد الزاخر بطموحه،
الجسد المفعم حيوية؛
إذ يخمد في قاع البحر
لم يترك أي أثر
لغرور أو كِبْر.

(٤) ميخائيل هامبورجر (Michael Hamburger)

شاعر إنجليزي من أصل ألماني. عُرف بترجماته الدقيقة الحساسة للشعر الألماني (خصوصًا لأشعار جوته وهلدرلين). وُلد سنة ١٩٢٤م في برلين، ثم هاجر مع أسرته سنة ١٩٣٣م إلى لندن فرارًا من الطغيان النازي. يقوم في الوقت الحالي بتدريس الأدب الألماني بجامعة لندن. وقصيدته التالية «سطور عن إيكاروس» كتبها سنة ١٩٥١م، وهي مأخوذة من مجموعته الشعرية «أرض بلا صاحب» التي ظهرت سنة ١٩٧٣م.

الحارث يحرث، والصياد يحلم بالسمك،
وهنالك في العالي، وسط عالم من الحبال،
يعقد البحَّار تأملاته المتشابكة،
محمومًا بذكرياته عن بنات مهجورات،
وبآماله في لقاء قصير،
وفي اكتشافات جديدة،
في «الروم» الذي تجرَّعه،
و«الروم» الموعود، و«الروم» الممكن.
الأغنام تُرعَى، ترفع رءوسها إلى أعلى
وتحملق في حاضر عالمها العامر بالأغنام؛
في العصير الجوهري غير المحدود للأشياء،
التي لا ترى منها غير الأخضر والأصفر والبني.
الراعي الفظ المتثاقل سمع رفيف أجنحة
— رجَّح أن تكون جناحَي نسر —
وأخذ يبحلق في حيرة،
لكن الوقت تأخَّر جدًّا؛
فلقد وقع أسوأ ما يمكن وقوعه
مفقودًا في نظر البشرية؛
سقط إيكاروس سقطةً أبدية،
سقط بجناحَيه المصهورَين،
عندما اقترب من الشمس
معلنًا سخريته من هذا الكوكب المسيطر
الذي انتصر عليه وبدأ يُطل في تهكم
لكي يشرق من جديد.
أمَّا هو — وطموحه الخائب يسحبه إلى أسفل —
فقد تُرِك للغرق،
بعيدًا بعيدًا عن إخوته الباقين على الشاطئ،
إخوته الذين عجزوا عن تصوره.

(٥) رايسا ماريتان (Raissa Martain)

وُلدت الشاعرة الروسية الأصل سنة ١٨٨٣م على نهر الدون، وماتت سنة ١٩٦٠م.

تزوَّجت الفيلسوف المسيحي الشهير جاك ماريتان، وتحولت عن ديانتها اليهودية إلى المسيحية. نشرت قصيدتها «سقطة إيكاروس» في مجموعتها الشعرية «رسالة الليل» التي ظهرت في باريس سنة ١٩٣٩م، كما وردت في كتاب زوجها «الحدس الخلَّاق في الفن والشعر»، باريس سنة ١٩٦٦م، ص٣٢٧.

غصن عطر يحتضن البحر،
سفن تتفكر في الكون،
وعلى الشط قطيع الأغنام ينام.
إيكاروس سقط من السَّمت،
كالنورس غاص بقاع اليمِّ،
هاجعة كل المخلوقات
في شمس الظهر،
وجمال العالم لا يُزعجه شيء.
١  الجدير بالذكر أن للأستاذ عباس محمود العقاد قصيدة قصصية طويلة بعنوان «إكاروس»، صاغ فيها الأسطورة الإغريقية وإن كانت خاليةً من أي شيء يوحي بأن العقاد قد نظر في لوحة بروجيل. راجع ديوان من دواوين، القاهرة، مطبعة الاستقامة، د. ت، ص١٧٩–١٨٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤