الفصل الخامس والعشرون

داود يعزف على القيثار أمام الملك شئول

figure
اللوحة لرمبرانت (١٦٠٦–١٦٦٩م) (انظر ترجمته السابقة مع لوحته محاضرة في علم التشريح).

(١) هيرمان كلاوديوس (Hermann Claudius)

وُلد الشاعر الألماني سنة ١٨٧٨م في بلدة لانجنفيلد بالقرب من ألطونا في شمال ألمانيا. كان أبوه يعمل في السكك الحديدية، وهو حفيد الشاعر الصوفي الكبير ماتياس كلاوديوس. اشتغل معظم حياته بالتدريس في المدارس الشعبية في مدينة هامبورج، ثم اعتزل التعليم في أثناء الكابوس النازي لرفضه السماح لتلاميذ مدرسته بإلقاء الأناشيد النازية. كتب الشعر والقصة، واختير عضوًا في أكاديمية إيرفورت للعلوم والفنون (بجمهورية ألمانيا الشرقية) سنة ١٩٥٦م، وقد استوحى الشاعر هذه القصيدة من لوحة رمبرانت بعد مشاهدته إياها سنة ١٩٣٠م، وتحت تأثير تجربة عاطفية مرَّ بها في ذلك الحين. أمَّا عن الحكاية التي تقوم عليها هذه القصيدة والقصائد التالية، فارجع إلى سفر صمويل (١، ١٦، ١٤–٢٣، ١٨، ٦–١٦، ١٠).

«لوحة رمبرانت في الهاج»

والملك شئول تكلَّم وقال: غنني يا غلام!
وتناول داود القيثار، عزف وغنَّى،
وغنَّى وعزف على القيثار.
وشدا شدوًا عجبًا عن أيام طفولته السعيدة،
عن أفراح بهرت عينَيه، عن دمه،
عن أشواق صحت في الليالي الخرساء،
عن جمال حبيبته، عن نهدَيها
— وهما أشبه بالكَرْمة في وادي إنجادي —
عن خصلات شعرها المضطرب الأمواج،
عن كل مفاتن جسدها —
وشدَّ على القيثار وعزف وغنَّى،
عن قوة رجولته الشابة الرزينة
التي تدفَّقت في عروقه كعصارة العنب الناضج —
عن قمم أحلامه الجسورة،
عن شرف الرجل، نضال الرجل ومجده —
وشدَّ على الأوتار وغنَّى
بشقاء شعبه ونعيمه،
وعزف وغنَّى عن رسالة شعبه،
وعزف وغنَّى عن إله شعبه —
وغنَّى وغنَّى واجترَّ سعادته.
ونسي الملك المتجهِّم كل النسيان.
أمَّا هذا فكان يجلس على عرش جلاله وقوته،
ورداؤه الملكي يسطع في الظل الكثيف.
كانت يمناه تقبض على الرمح.
وبيسراه رفع الرداء إلى جبهته المقطبة.
هكذا جلس بعين واحدة. والعين اتقدت بالشرر.
نظر في نفسه ورأى الموت أمامه.
ورأى الموت وسمع صوته
أجوف وكثيفًا كالصوت الخارج من قبر:
«هات الرمح وانزل عن عرشك
أيها الرجل العجوز!»
وفجأةً طار رداؤه.
يده اليمنى رمت الحربة،
والقيثار تأوَّه من ألم الجرح.
لكن في الشارع وأمام الأبواب
كان الشعب يهتف:
«مبارك الملك داود،
المجد لداود!»

(٢) صوفوس ميخائيلس (Sophus Michaelis) (١٨٦٥–١٩٣٢م)

وُلد الشاعر الدنمركي في «أودنسه» ومات سنة ١٩٣٢م. كان أبوه عاملًا يدويًّا فقيرًا، وقد درس الأدب الفرنسي وتاريخ الفن، ونشر الأشعار والقصص والمسرحيات بجانب كتب ودراسات عن الفنانين المعاصرين. ولا بد من أن أسفاره ورحلاته العديدة قد ساعدته على استلهام قصائده الكثيرة عن الصور التي شاهدها في المتاحف ودور الفن المختلفة. ظهرت هذه القصيدة مع قصيدته عن تمثال العبد المحتضَر لمايكل أنجلو في مجموعته الشعرية التي صدرت في كوبنهاجن سنة ١٩١٧م، ص٨١.

«داود يعزف على القيثار أمام شئول»

– الآن سأضفر أنغامي
كي أملأ روحك بغنائي،
وسيخطر قلبك مرتعشًا
تحمله موجة قيثاري،
ويدي ستحرك بدهاء
جنة أوتاري الشمسية،
وسينبع يا ملكي نهر
بدموع العين ويفترُّ،
من نبع الروح الأبدية،
قل لي هل تشعر بالبحر
يرتفع ويهدر من لحني؟
أتطارد شيطان الشر،
في صدرك عاصفة الفن؟
– قيثارك ينشج أغنية،
فيؤجِّج لوعة أحزاني
ويرطِّب بالدمعة عيني
ويحرِّك شوقي وحناني،
كم قُدتُ السفن إلى الحرب،
وهزمت الموت مع الرعب!
هل تلعب يدك بوترَين،
فتشق فؤادي نصفَين؟
أيامي انسكبت كالماء،
والفرحة غاضت من نفسي،
والألم مقيم كالداء،
وغناؤك لا يدفع يأسي.
يا ولدي الملعون توقف!
عن طعن الجرح بأنغامك؛
فالحربة في كفي ترجف،
والرمح يهم بإعدامك.
– هبطت عاصفة في القيثارة أو إعصار،
نفذ الرمح الطائش في الحائط كالمسمار،
لم يقطع قلب العازف مزق أحد الأوتار!
أخذت كل الأنغام لرائعة الصوت
ترضع من قلب ينزف دقات الموت،
ارتفع الماء وفاضت أغوار النبح
رنَّت في الليل الحالك موسيقى الدمع!

(٣) ستيفان جورجه (Stefan George) (١٨٦٨–١٩٣٣م)

وُلد الشاعر الرمزي الكبير في «بوديهايم» بالقرب من مدينة «بنجن»، ومات في مدينة «لوكارنو». كان أبوه تاجر نبيذ، وقام برحلات وأسفار عرَّفته على الكنوز الطبيعية والفنية في إنجلترا وسويسرا وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا. اشتهرت «الحلقة» التي كانت تجمع حوله عددًا كبيرًا من المريدين والمعجبين من كُتاب وشعراء وفلاسفة وفدوا عليه من مختلِف البلاد الأوروبية، وتأثروا به تأثرًا كبيرًا في الربع الأول من القرن العشرين، يشبه تأثر السالكين بشيخهم والأتباع بطقوس معلمهم وكاهنهم.

ظهرت هذه القصيدة أول مرة سنة ١٩٠٧م، ثم نُشرت في سنة ١٩٣١م في ديوانه «الخاتم السابع»، ص٤٦، ثم أُعيد طبعها وظهرت في مؤلفاته الكاملة التي صدرت سنة ١٩٥٨م في دوسلدورف وميونيخ عن دار النشر هلموت كوبر.

«الملك وعازف القيثار»

العازف:
لمَّا جذبت الرداء أمام وجهك،
أدركت بأنك تخفي دمعة،
وأن نظرة سيدي إليَّ غير مستريحة.
إن كنتَ اليوم لا تكلم عبدك،
فكيف يأخذك الغضب على من دعوته
ألَّا يتركك ولا يتخلَّى عنك غناؤه.
هل رجع الشعب الجاحد لتذمُّره؟
أم إن الكهنة المتغطرسين يهدِّدونك؟
الآن عرفت:
النصر يثير حفيظة الإله الغيور.
ما دامت تتجسَّس على عاري،
فاسمع ما يحنقك ولا يخلق بك:
أكثر من الأعداء الذين سميتهم والذين أصمد لهم أجمعين.
يدمرني من يريد الحب، وهذا هو أنت.
فاحمل أنت كذلك نصيبك الذي لا يبدِّله أحد.
يا من أحب ألَّا أفتقده، ويا من أكرهه،
من لا يعلم كم يملؤني سمًّا.
سيفي درعي الذي لم يزَل السائل المخيف ملتصقًا به،
تطرق أنت عليه إلى أن يسمعك صليله.
في الماء تلقيه حتى يرقص ويُثر دوائر
أشبه بضربة اختارها للقضاء النازل.
ثمرات حقولي — التي راحت تنضج جاهدةً
عبر مواسم الصيف الطويلة —
تمر عليها وتنفضها بغير اكتراث،
وترطب فمك الشبعان بواحدة منها.
وعذابات لياليَّ المحمومة
يذروها في ريح النغم الهامس.
وخواطري القدسية التي تلتهم حياتي
تبدِّدها في الهواء فقاعات ملونة،
وحزني الملكي الجليل تصهره وتذيبه
بعزفك الملعون في نغم باطل.

(٤) رينيه ماريا رلكه (Rainer Maria Rilke) (١٨٧٥–١٩٢٦م)

هو الشاعر الألماني الأشهر. أعذب صوت تردَّد عن محنة الوجود وسره في الربع الأول من القرن العشرين. وُلد سنة ١٨٧٥م في مدينة «براغ»، وقام بدور الشاعر الجوال في بلاد كثيرة (من بينها مصر)، حتى مات سنة ١٩٢٦م في فال — مونت بواليس بمنطقة الألب السويسرية. درس الأدب وتاريخ الفن والفلسفة (وتأثر بوجه خاص بأب «الوجودية» كيركجور)، واهتمَّ طوال حياته بالفن والفنانين، واستلهم العديد من قصائده الغنائية، فتعرَّف أثناء إقامته في روسيا على الرسام ليونيد باسترناك، وتزوَّج المثَّالة كلارا فيستهوف، وعمل سكرتيرًا للمثَّال الفرنسي الشهير رودان الذي ألَّف عنه كتابًا. وأتاحت له إقامته في باريس منذ سنة ١٩٥٢م أن يتردَّد على اللوفر، وأن ينطبع وجدانه بروائعه فضلًا عن روائع سيزان وكوكوشكا وباول كليه، اللذَين جمعت بينه وبينهما الصداقة، وأن يكتب المرثيات الخمس الأولى من مرثياته الثماني المشهورة إلى دونو عن لوحات «بيكاسو»، كما أثمرت زيارته القصيرة لمصر عن عدد من روائع قصائده التي تعكس انبهاره بأسرار النحت المصري. وقد نُشرت قصيدته داود يُغني أمام «شئول» ضمن مؤلفاته الكاملة دار النشر إنزيل، ١٩٥٥م، المجلد الأول، ص٤٨٨–٤٩٠.

«داود يغني أمام شئول»

١

هل تسمع يا ملكي عزفي على القيثار
وكيف يلقي بنا في أبعاد نجوس فيها؟
النجوم تدفعنا فنتصادم في اضطراب،
ثم نسقط في النهاية كما يسقط المطر،
وتزدهر الأرض حيث تلمسها قطراته.
تزدهر الفتيات اللائي عرفتهن،
واللائي أصبحن الآن نساءً يغرينني،
رائحة العذارى يمكنك أن تحسها،
والفتيان يقفون — وقد أسقمهم التوتر واللهاث —
على أبواب تتكتَّم الأسرار.
ليت ألحاني تعيد إليك كل شيء،
لكن نغمي يترنَّح سكران.
لياليك، يا ملكي، لياليك،
وكم كانت تلك التي هدتها قواك!
آه كم كانت تلك الأجساد جميلة.
تذكاراتك أحسب أني أصحبها وأُناجيها؛
لأني أشعر.
لكن أي الأوتار سيقدر
أن يطلق منها آهات النشوة،
أو آهات الحسرة.

٢

يا ملكي، يا من ملكت كل هذا،
ويا من بصرف الحياة
قهرتني وغمرتني،
تعالَ من فوق عرشك وحطِّم قيثاري،
قيثاري الذي أرهقته وأضنيته.
إنه ليشبه شجرةً مضمحلة.
خلال الأغصان التي حملت لك الثمار،
تُطل الآن أعماق، كأنها لأيام آتية،
وأنا لا أكاد أعرفها.
لا تتركني أسقط في نومي
بعد اليوم على قيثاري.
تأمَّل هذه اليد، وهي يد غلام،
أتعتقد، أيها الملك، أنها عاجزة،
عن أن تعزف على مفاتيح جسد؟

٣

يا ملكي، مهما تتخفَّ في الظلمات،
فما زلتَ تحت رحمتي.
انظر، أغنيتي الراسخة لم تتصدَّع،
والمكان من حولنا سيلفنا ببرودته.
قلبي اليتيم وقلبك المضرب
مُعلَّقان في سحائب غضبك،
يعضان بعضهما في جنون،
ويشتبكان في قلب واحد كما يشتبك مخلبان.
أتحسُّ الآن كيف نُغيِّر أشكالنا؟
ملكي، يا ملكي، إن الثقل ليصبح روحًا.
آه لو أمكننا أن نتماسك،
فتتشبَّث أنت بالجديد وأنا بالقديم،
عندئذٍ نصبح كالفلك الدائر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤