الفصل الرابع والثلاثون

حقل القمح والغربان

اللوحة للفنان الهولندي الشهير فنسنت فان جوخ (Vincent Von Gogh) (١٨٥٣–١٨٩٠م)، وهي آخر لوحة رسمها قُبيل انتحاره مباشرةً في شهر يوليو سنة ١٨٩٠م؛ فبعد أن فرغ من رسمها — بالقرب من بلدة «أوفير-سور-أواز» — أقدم على محاولة الانتحار في أحد حقول القمح، وأطلق الرصاص على نفسه، ومات متأثرًا بجرحه بعد ذلك بأيام قليلة.

كان أبوه قسيسًا، وعاش حياةً متقلبة جعلته يتنقَّل بين بلاد ومدن عديدة. عمل في بداية حياته مع بعض تُجار الصور واللوحات الفنية الذين كان يتعامل معهم شقيقه وراعيه «ثيو» بين الهاج ولندن وباريس. درس اللاهوت وقام بالتبشير بين عُمال مناجم الفحم في حي بوريتاج ببلجيكا، وشارك هؤلاء العمالَ بؤسهم وشظف معيشتهم. لم يبدأ في ممارسة الفن إلا بعد أن طردته الكنيسة من بعثة التبشير (سنة ١٨٨٠م)، فأخذ يُعلِّم نفسه الرسم ويتنقَّل على مدى السنوات التالية بين بروكسل واتين والهاج ودرنته، وأثتفيرب التي حضر بعض دروس الرسم في أكاديميتها. ثم لحق بشقيقه «ثيو» في باريس، واتصل عن طريقه بالفنانين التأثيريين الذين تعرَّف على أعمالهم وربطت الصداقة بينه وبينهم مثل؛ تولوز-لوتريك، وبيسارو، وديجا، وسورا، وجوجان الذي تبعه إلى مدينة «أرليس» سنة ١٨٨٨م. وقد أصابه المرض العقلي منذ ذلك الحين، وأخذت الاضطرابات النفسية والعقلية تهاجمه سواء في المصحات العقلية، أو في أرليس وريمي، أو بعد انتقاله إلى أوفير-سور-أواز حيث مات منتحرًا كما تقدَّم. بعد ستة شهور من وفاته لحق به شقيقه «ثيو» الذي كان فان جوخ قد كتب له مجموعةً من الرسائل المُطَوَّلة التي تكشف عن شخصيته وفنه وعذابه.

تتميَّز رسومه في المرحلة التي قضاها في هولندا بالألوان الداكنة والأشكال الراسخة، والموضوعات المُستَمَدة من حياة الفلاحين وكدِّهم اليومي (مثل لوحة الحذاء الشهيرة!) ويبدو أن فترة إقامته القصيرة في «أنتفيرب» قد عرَّفته بالفن الياباني، وبأعمال مواطنه العظيم روبنز (١٥٧٧–١٦٤٠م). بيد أنه تحوَّل تحولًا تامًّا بعد وصوله إلى باريس؛ إذ تبنَّى الأسلوب التأثيري، مع الاهتمام بطريقة التنقيط التي كان يتبعها «سورا». كان غيَّر موضوعاته القديمة واتجه إلى رسم الزهور والوجوه (البورتريه) والجسور ومناظر باريس ومقاهيها وروادها الفقراء. أمَّا في «أرليس» فقد بدأ يجرِّب رسم المناظر الطبيعية والأشخاص بألوان حية متوهِّجة، تعبِّر مشاعره المتوقِّدة بالحياة والنور، وحساسيته الملتهبة بالعذاب والألم الكوني والميتافيزيقي.

والصورة التي تراها «حقل القمح مع الغربان» تعبِّر عن المرحلة الأخيرة التي قضاها في «أوفير» ووقع فيها تحت تأثير النوبات العصبية المُلِحَّة، ممَّا زاد من حيوية ألوانه، واضطراب أشكاله التي تشبه دُوامات ناريةً تجرف كل شيء. أثَّرَ فان جوخ تأثيرًا كبيرًا في الحركة التعبيرية وعلى أحد رُوادها وهو أدفار مونش (١٨٦٢–١٩٤٤م)، الذي تجد صورته الشهيرة «الصرخة» في هذه المجموعة.

(١) أنا بوجونوفسكا (Anna Pogonowska) (١٩٢٧م–…)

لم يكن الهدف من هذه القصيدة التي كتبتها الشاعرة البولندية هو وصف صورة محددة، بل التعبير عن إحساسها بفن فان جوخ في مجموعه، وتأثرها بوجه خاص بتمزُّقه الميتافيزيقي الذي ينعكس بوجه خاص على هذه الصورة. وقد وُلدت الشاعرة سنة ١٩٢٧م في مدينة لودز، وتعيش في مدينة وارسو. والقصيدة مأخوذة من مجموعة شعرية بعنوان «الشعر البولندي الجديد» ترجمها كارل ديديسيوس إلى الألمانية، ونُشرت سنة ١٩٦٥م في مدينة دار مشتات.

«حقل القمح والغربان»

هندسة زهور الكاستانيا،
أنت الذي قستها —
آلاف البقع التي تثير الدوار
أنت حسبتها —
سحابة الحياة،
ثبَّتها على أعداد
ضربات الفرشاة والقلب.
السحب تتشابك في سلسلة،
الأرض تتنفس الخضرة،
القمح يغرق العيون طوفانه،
والغربان — رماد الفحم
المتبقي من العدم —
تغطِّي وجه الشمس.
وأنت يا فان جوخ،
دائمًا ما تُضيِّق
عقدة الألوان ..
تستعبد الشعاع
بلوالب النيران،
وتخنق البريق
بسحب البخار والدخان،
من ذا الذي تقيِّده بقيودك؟
من تمسك به؟
ما يتبقَّى منك: رماد وسناج،١
وهو يفتِّش في بنفسج الأرض،
ويشرب مرارة السماء،
راح يضرع إلى الله:
«قَسمتَ لي يأسَ ألوانك،
بكاءك، شوكك، أحجارك،
جعلتها من نصيبي —
سوداء وساكنة،
هي أحشاء قوس قزح —
ينفجر الريش الفاقع في أجنحة الشيطان،
وجرح الهاوية الأسود
يفغر فاه.

(٢) باول سيلان (Paul Celan) (١٩٢٠–١٩٧٠م)

تحت صورة لفنسنت فان جوخ: القصيدة للشاعر الألماني باول سيلان، وقد كتبها في سنة ١٩٥٦م. وُلد في مدينة شيرنوفتس التي تقع اليوم في الاتحاد السوفييتي، ومات بإغراق نفسه في نهر السين. درس الطب واللغات والآداب الرومانية، وعاش في باريس ابتداءً من سنة ١٩٤٨م حتى انتحاره. يُعَد من أهم الشعراء الألمان المعاصرين، ويتميَّز شعره برهافته الشديدة، وغِناه بالألم الكوني ونبضه بالحس الفاجع للقدر الفردي المظلم. ترجم كثيرًا عن الفرنسية، وعُرف بترجمته الرقيقة الدقيقة لشاعر فرنسي قريب من مزاجه وعالمه وهو «رينيه شار». نُشرت القصيدة أول مرة في العدد الثالث من مجلة «أكسينته» (نبرات) الأدبية سنة ١٩٥٦م، ثم أُعيدَ نشرها في ديوانه «قضبان اللغة»، الذي صدر في مدينة فرانكفورت على نهر الماين سنة ١٩٥٩م (راجع إن شئت كتابي لحن الحرية والصمت، الشعر الألماني بعد الحرب العالمية الثانية. القاهرة، المكتبة الثقافية، هيئة الكتاب، ١٩٧٤م.

«حقل القمح والغربان»

أمواج القمح تحط عليها أسراب الغربان.
زرقة أي سماء هذي؟
العليا؟ السفلى؟
آخر سهم تُطلقه النفس،
خفقان أقوى،
لمعان أقرب.
وهنا وهناك
يتجلَّى العالم.

(٣) ألبرشت جوز (Albrecht Goes) (١٩٠٨م–…)

القصيدة للشاعر الألماني ألبرشت جوز، وقد وُلد في ولاية «فيرتمبورج» بجنوب ألمانيا. كان أبوه قسيسًا، واشتغل بالوعظ فترةً قصيرة من حياته قبل أن يهَب نفسه للتأليف والكتابة الحرة ابتداءً من سنة ١٩٥٣م. نشر الشعر والقصة والمقالة والمواعظ الدينية، ونُشرت قصيدته هذه في ديوانه «قصائد» الذي صدر سنة ١٩٥٨م لدى الناشر فيشر في مدينة فرانكفورت على نهر الماين. وقد ذكر الشاعر أنه شاهد «حقل القمح والغربان» في أواخر العقد الثاني من هذا القرن.

«حقل القمح والغربان»

ليس سماءً «ما تبصره العين»،
إن هي إلا كتل سحاب
زرقاء وسوداء،
ومُثقلة بالأنواء.
خطر هواجس وعذاب.
قل لي:
ممَّ القلق؟
تكلَّم،
هل تشعر بالخطر المُحدق؟
وعر هذا الجبل تصدع،
والحقل حريق،
ذهبيٌّ يسطع،
قلبي — وهو غراب الجوع —
يحلِّق فوق الأرض
وينعِق.
١  وهو «الهباب» الذي يعلق بزجاج المصابيح الزيتية ويترسَّب من الدخان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤