الفصل الخامس

المصارع المحتضر

figure
تمثال من المرمر، محفوظ في متاحف الكابيتول بروما.

(١) فوكيه (البارون فريد ريش دي لاموته) (Friedrich De la Motte Fouqué)

وُلد الشاعر والكاتب القصصي والمسرحي الرومانتيكي فوكيه سنة ١٧٧٧م في باندنبورج على نهر الهافل، ومات سنة ١٨٤٣م في برلين. انحدر من أصول النبلاء الإقطاعيين، وشارك سنة ١٨١٣م في حروب التحرير من قبضة نابليون وفي كثير من المعارك التي خاضها الجيش البروسي الذي كان أحد فرسانه. ظلَّ طوال حياته يعمل على إحياء التراث الثقافي الجرماني وبعث روح البطولة والفروسية في العصر الوسيط، وتمجيد فضائل النبلاء والنبالة بأسلوب عاطفي يشيع فيه الحنين الرومانتيكي، وتغلب عليه النعرة «الشمالية» إلى حد الثرثرة.

ولعل حكايته الفنية «أندينة» — التي لحَّنها هوفمان ولورتسنج للأوبرا، وترجمها الدكتور عبد الرحمن بدوي للعربية — تكون من خير أعماله الشعرية المعبِّرة عن فلسفة الطبيعة في الحركة الرومانتيكية.

وقد وردت قصيدته عن المصارِع المحتضَر في الكتاب الذي ألَّفه عن ذكريات رحلاته، وظهر في مدينة درسدن سنة ١٨٢٣م، الجزء الأول، ص٢٠٣–٢٠٦، ويبدو أن الشاعر كتب القصيدة قبل ذلك بعام واحد بعد مشاهدة مجموعة التماثيل الجنسية التي نسخها الفنان رافائيل منجس (١٧٢٨–١٧٧٩م) عن أصولها القديمة.

«المصارع المحتضَر»

قديمًا، لمَّا غلبته الحشود المنقَضة،
عاش الأمير عيشة عبد في روما سيدة العالم.
وبعدما كان في الغابة الجرمانية
يتقدَّم الجميع في الحرب والصيد،
صار يسير في أثر السادة المتجهِّمين،
وبقوة عملاق يدحرج حجرًا بعد حجر في أساس البناء،
حتى ارتفعت الدارة١مزدانةً بالروعة والبهاء.
كان صبورًا يتذرَّع بالصمت، محتقرًا أقوال العامة،
محتملًا قدره الكئيب في روحه الجبار.
وفجأة، هل سمع إله ضراعته؟
حملوا إليه درعًا وسيفًا، وأخذوه معهم،
حيث ارتفع المبنى الرائع
إلى قُبة السماء،
ورأى الحشد الهائل يصطف أمامه
لم يكن حشد النظارة، بل كان الشعب بأكمله!
النساء الفاتنات بجمالهن الساحر الأخَّاذ،
يتألقن في الصفوف الأولى، وبجوارهن الكهنة والشيوخ.
حيا الجميعَ تحية الفارس، فجاوبه الشكر بصوت عالٍ،
ثم ظهر في الحلبة رجلٌ واجهه بكامل سلاحه.
ليكن الهدف من هذا الصراع ما يكون،
وسواء كان هو الثأر لإنقاذ البراءة
أو رفع السيف الناصع كسؤال للآلهة؛
فالأمير على أُهبة الاستعداد.
وماذا يبتغي الكهنة والنساء
سوى أن يشاهدوا كل ما هو عظيم ومُرضٍ للآلهة؟
تردَّد نداء الأبواق الداعية للنزال،
فشعر بالفرح والسرور،
وراح يصارع ويبارز وينتصر،
وهتاف الحشود يتجدَّد مع كل انتصار.
ولا يكاد يظهر عدو جديد حتى يغلبه ويصرعه،
وترن الصيحات ويتتابع الصراع والتهليل والصراع
حتى تنطفئ القوة في صدر الأمير.
لكن الحياء يُغلق فمه فلا يبوح بشكواه.
وهكذا يواصل الصراع والنزال،
حتى تستقرَّ الحربة في الصدر المنهوك،
ويهوي في دمه النازف فوق الدرع الصامد،
ولم تزَل صيحات التهليل تتردَّد في أذنَيه،
ولم تزل الفرحة تخامره وهو يسمعها.
وتجول الفكرة في قلبه الشجاع:
«أصواتهم كجَوقة تزف بالتهليل شرف التكريم.»
ويُثبِّت نظرته الجادة على دمه المنسكب.
إن كنتم تصيحون به كأنكم تصيحون بحيوان،
فلقد سقط على الأرض سقوط الأبطال …

(٢) جيمس طومسون (James Thomson)

وُلد الشاعر الاسكتلندي سنة ١٧٠٠م في «إدنام» بناحية روكسبورجشاير، ومات سنة ١٧٤٨م في «ريتشموند» بمقاطعة ساري. كان أبوه قسيسًا. كتب قصائد عديدةً في وصف الطبيعة من أن أهمها «الفصول» التي لحَّنها هايدين، كما كتب الأهاجي والملاحم الشعرية والمسرحيات.

أمَّا قصائده التي وصف فيها تماثيل النحت القديم فترجع إلى الفترة التي قام فيها برحلة عبر إيطاليا واستمرَّت من سنة ١٧٣٠م إلى سنة ١٧٣١م. وقد ظهرت قصيدته عن «المصارع المحتضَر» ضمن أعماله الشعرية التي نشرها ج. ل. روبرتسون، وصدرت في لندن سنة ١٩٦٥م، ص٣٦١.

«المصارع المحتضَر»

يستند على ذراعه الملوية،
ويميل بوجهه وهو يعاني
آلام الاحتضار.
ثقل القدر يحني رأسه،
لكن الرغبة في الثأر والتحدي
والغضب والخجل والانتقام الكسير،
تطل كئيبةً من قسماته المُعَذَّبة،
وتظل العين تتوقَّع أن يسقط.

(٣) جورج جوردون لورد بايرون (George Gordon Lord Bryon) (١٧٨٨–١٨٢٤م)

راجع ترجمته مع القصائد المنشورة مع تمثال «أبولو بلفيدير»، وقد ظهرت هذه القصيدة عن «المصارع المحتضَر» ضمن أغانيه وأناشيده المعروفة بأسفار تشايلد هارولد، ص٢٤٥ وما بعدها.

«المصارع المحتضَر»

أرى المصارع راقدًا أمامي؛
مستندًا إلى ذراعه،
ورجولته الصامدة راضية بالموت،
لكنها تقهر عذاب الاحتضار.
رأسه يميل شيئًا فشيئًا،
ومن جنبه تتساقط القطرات الأخيرة من دمه
في تيار أحمر بطيء،
تتساقط ثقيلة، واحدةً واحدة،
كأنها أول قطرات النوء الراعد،
وتغيم الحلبة في عينَيه،
ويموت وما زالت تتردَّد صيحات التهليل
الوحشية للفائز.
سمعها ولكن لم يحرِّك ساكنًا!
كانت عيناه مع قلبه،
وكان القلب هناك بعيدًا،
لم يكترث بالحياة التي فقدها،
ولم يعبأ بالثناء،
فحيث يقوم بيته الخشن على ضفاف الدانوب
هنالك يلعب برابرته الصغار،
وهناك على أرض الوطن أمهم الداسية٢
أمَّا هو سيدهم والأب والزوج،
فلقد ذُبِح لكي يحتفل الرومان بعيد ممتع!
راحت كل هذه الذكريات تتدفَّق مع دمه،
أيموت ولا يثأر أحد له؟
انهضوا أيها القوط!
واشفوا غليلكم!

(٤) إجناس هينريش فرايهير فون فيسنبرج (Ignaz Heinrich Freiherr Von Wessenberg)

وُلد سنة ١٧٧٤م في مدينة درسدن في أسرة عريقة النبالة، ومات سنة ١٨٦٠م في مدينة كونستانس بالجنوب الألماني. شارك في الإصلاح الكنسي متأثرًا بأفكار عصر التنوير، وانتُخِب عضوًا حرًّا في أول برلمان لولاية بادن، بيد أنه لم يلبث أن انسحب من مسرح الحياة الكنسية والسياسية، وتفرَّغ لأعماله الأدبية ورحلاته واقتناء التحف والصور التي وسَّعَ بها مجموعته الفنية.

وقد شاهد الشاعر تمثال «المصارع المحتضر» أثناء رحلته الإيطالية، ويبدو أنه كتب قصيدته عنه تحت تأثير عبارةٍ لشيشرون يقول فيها: إن المصارع الشريف يحرص حتى في موته على أن يسقط بشرف. وقد ظهرت القصيدة ضمن مؤلفاته الأدبية الكاملة، الجزء الثالث، شتوتجارت وتوبنجن، ص١٠٥.

«المبارز المحتضَر، تمثال في الكابيتول»

من أنت أيها المبارز،
يا من تموت هذا الموت المنمَّق البديع،
وبوضع أعضائك وإشاراتك
تخطب ود الرومان الخليعين وثناءهم الحقير؛
إذ تنسكب حياتك مع دمك على الأرض؟
كيف تطرف كل العيون وقد بهرتها النشوة،
بينما تسقط رأسك كسقوط الكرة على درجات السلم!
آه يا عار الرق ويا لهوان البشرية!
انهضوا أيها البرابرة، أسرعوا بأجنحة العاصفة!
فلا يصح أن يموت ابن غاباتكم
لتسلية شعب التلال السبع!
انظروا! الآن يكسوه الشحوب.
اسمعوا من كل الصفوف
صيحات التهليل الوحشية تدعو للثأر!

(٥) كونراد فرديناند ماير (Conrad Ferdinand Mayer)

شاعر وروائي كبير. وُلد سنة ١٨٢٥م في مدينة زيوريخ بسويسرا، ومات سنة ١٨٩٨م في قرية كيلشبرج بالقرب من زيوريخ. وقد شاهد «ماير» تمثال المصارع المحتضر سنة ١٨٥٨م في روما، وظهرت قصيدته عنه أول مرة في كتاب قصيدة الصورة الألمانية لمؤلفه ﻫ. روزنفلد، ليبيزخ ١٩٣٠م، ص٢٦٤.

«المبارز المحتضَر»

سقط على الأرض وقد أصابته الطعنة،
والألم ينطق من قسماته،
وتطل العين، تحدق مفتوحةً
في الدم النازف من جرحه.
يرى القطرات الحمراء وهي تلمع
وتتحدَّر في بطء إلى أسفل،
ويرى الأرض العطشى تشربها،
ولا يضع اليد على قلبه،
وصياح التهليل بالفائز المنتصر
يخفت في أذنَيه ويموت،
والموت، الروح الطيب،
يكسو نظرته الأخيرة بقناعه.
تتلفَّت روحه إلى أرض الوطن،
إلى الكوخ الذي فتح فيه عينه على النور،
فتتحطَّم أغلال العبودية،
ويصير البعيد قريبًا منه.
يتحسَّر على أنفاس الجبال، وأحواض الأنهار،
والموجة التي طالما حملته فوق ظهرها،
على تحية الينابيع التي تتحدَّر وتفور
جسورة، وعلى تحليق النسور
شيء كالسحر يجعلها تتكلَّم،
فينصت وهو سعيد للنغم العذب،
وبهذا الصوت الرنان المنعش
يحيي الوطن ابنه البعيد،
الجبال تميل عليه وتسقط،
يعلو خفقان الأمواج،
تنحَل أعضاؤه وتتراخى،
ويسودُّ وجه النهار.
والرومانية تنظر وترى العين المنكسرة،
واللعبة تسعدها أيَّ سعادة،
وتُصفِّق هذي الوقحة
للعيد وهو يسقط سقطته البديعة.

(٦) باول هايزه (Paul Heyse) (١٨٣٠–١٩١٤م)

وُلد الشاعر الألماني في برلين ومات في ميونيخ. درس اللغات والآداب القديمة بجانب اللغات الرومانية (الإيطالية والإسبانية والفرنسية والرومانية)، قام برحلات عديدة إلى إيطاليا، وكتب القصة القصيرة والمسرحية والقصيدة، كما ترجم عن اللغات القديمة والحديثة. حصل على جائزة نوبل في الآداب سنة ١٩١٠م، وقد نُشرت قصيدته عن المبارز المحتضَر في المجلد الخامس من مؤلفاته، شتوتجارت وبرلين، ص٣٧٣.

«المبارز المحتضَر»

لمَ راح يبارز ويصارع،
ولأي قضية؟
الأمر سواء.
حتى لو أخذ يصارع من أجل القوت
فيظل الإنسان عظيمًا وهو يموت ..

(٧) إريك لينديجرين (Erik Lindegrén) (١٩١٠–١٩٦٨م)

وُلد الشاعر السويدي في بلدة لوليا الواقعة شمال السويد، ومات في استوكهولم. نشر أربع مجموعات شعرية، وكتب عددًا من نصوص الأوبرات، وترجم عن الشعر والنثر الفرنسي والإنجليزي. انتُخِب سنة ١٩٦٢م عضوًا في الأكاديمية السويدية خلفًا لداج همرشولر. ظهرت قصيدته التالية عن المصارع المحتضَر مع قصائده التي صدرت سنة ١٩٦٢م في استوكهولم، ص٥٣، وكان قد كتب القصيدة سنة ١٩٤٧م.

«المصارع المحتضَر»

من دفع الرمح إلى جسدك؟
من ألقى الشبكة،
فوق الرأس وشدَّ الخيط،
وهلَّل بالنصر الحاسم،
فتلويت وفي الرمل سقطت؟
ليس هو الجاثم فوقك،
تحسب ساقَيه عمودَين رخاميَّين
يميلان عليك،
ليست هي تلك اليد الحاملة الخنجر،
ألقت بظلال سود
فوق الحلبة ذات مساء،
وكذلك ليس هو الخادم
في قصر القيصر.
لكن من يبصرك هناك
وهل تسمعني؟
النظارة عمى.
هم في الظلمة يتجهون إليك،
كالموجة يكسوها الزبَد الأبيض،
تندفع لتنطح كتل الصخر،
المعتم في هاديس.
أو هم في النشوة
ينطلقون لآخر حدٍّ لضباب-الدم،
ويخافون على أنفسهم وعليك.
من أسقطك،
ومن ينظر إليك؟
تشعر بدنوِّ الأجل،
لكن الوقت قصير
قصر العمر،
تأتي اللحظة وتصارع أبد الدهر،
تسقط فتصير حياتك،
وكذلك موتك،
ملك يدَيك.
١  أو الفيلا.
٢  أو الداكية نسبةً إلى بلاد الداكيين الذين انحدروا من ثراقيا شمال بلاد اليونان وعاشوا في منطقة بين الدانوب وكاريلتيا ودنجستر فيما يُعرف اليوم برومانيا. غزاها الرومان بقيادة تراجان، وأصبحت منذ سنة ١٠٦م ولايةً رومانية، حتى انقضَّ عليها القوط والكربيون «الصرب» في القرن الثالث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤