الفصل السادس

فينوس ميلو

من القرن الأول قبل الميلاد — رخام مرمري — اللوفر، تمثال أفروديت من جزيرة ميلوس المعروف بفينوس ميلو. وهو أحد روائع الفن الإغريقي في عصره الأخير، وهو العصر الهيلنستي (حوالي القرن الثاني ق.م.). أُطلق هذا الاسم عليه نسبةً إلى فينوس إلهة الجمال عند الرومان، وإلى جزيرة ميلوس (ميلو بالإيطالية) التي عُثِر فيها على التمثال سنة ١٨٢٠م. لا يُعرف اسم المثَّال الذي نحته، وربما كانت الذراعان المفقودتان تحملان في الأصل درعًا مرفوعةً إلى أعلى ناحية اليسار تتأمَّل الإلهة صورتها المنعكسة عليه.

(١) فيلهيلم فايبلنجر (Wilhelm Waiblinger)

وُلد الشاعر الألماني سنة ١٨٠٤م في مدينة هايلبرون، ومات سنة ١٨٣٠م في روما. درس اللاهوت في المعهد الديني في مدينة توبنجين، وهو المعهد الذي درس به الفيلسوفان هيجل وشيلنج والشاعر هلدرلين. استقرَّ في إيطاليا منذ سنة ١٨٢٦م ونشر القصص والأشعار. وقد كتب قصائده عن الصور واللوحات التي رآها وتأثر بها في سنة ١٨٢٧م، ونُشرت في ديوانه «أناشيد ومرثيات من روما». ظهرت هذه القصيدة عن فينوس في مجموعته الشعرية «قصائد من روما» الذي نشره الأستاذ أ. جريزباخ، وظهر في مدينة ليبزج سنة ١٨٩٣م. الجزء الثاني، ص٤٨.

«فينوس من ميلو»

البشر يرتفعون إلى السماء،
وهنالك في النور الباهر
تتفتَّح البذرة الأرضية
عن زهرة أوليمبية حسناء.
ينصهر الروح مع الروح.
وفي حياة أكثر حرية،
يتجلَّى الشكل الفاني أكثر بهاءً وقدسية.
هكذا تهدين الحس الأرضي إلى الحس السماوي
وتحيلينه — بمعجزتك القاهرة —
إلى صورة كاملة.

(٢) أفاناسي أفاناسييفيتش فيت (Afansij Afansijewifsch Fet)

وُلد الشاعر الروسي سنة ١٨٢٠م في ضيعة تملكها عائلته في نواحي نوفوسلكي بولاية أوريل، ومات سنة ١٨٩٢م في موسكو. وقد وُلد لأب روسي وأم ألمانية. ودرس في جامعة موسكو، ثم التحق بالجيش وخاض حرب «القرم» التي رجع بعد انتهائها إلى ضيعته ليقضي فيها بقية حياته. وهو شاعر ومترجم لأشعار هوراس، وجوفينال، وحافظ الشيرازي، بجانب ترجماته لشكسبير، وجوته، وشوبنهور. كتب قصيدته عن فينوس سنة ١٨٥٦م، ونُشرت في إحدى مجموعاته الشعرية التي صدرت سنة ١٩٥٩م في ليننجراد، ص٢٣٨، كما ظهرت ترجمتها الألمانية بقلم هانزبورجن تسوم فينكيل في كتاب «فينوس من ميلو والشعراء الروس المعجَبون بها»، وهو الكتاب المهدى للأستاذ م. فيجنر، مونستر ١٩٦، ص١٣١.

«فينوس من ميلو»

عذريٌّ لم تلمسه يد،
منزوع منه الخوف
وعارٍ حتى جنبَيه،
يسطع، يزدهر
الجسد الرباني
في نور جمال
لا ينطفئ ولا يخمد.
تحت الظل المتقلِّب
— كتقلُّب نزوة —
للشعر المرفوع بخفة.
صبَّ الفرح أبيًّا
وانسكب بقوة،
في هذا الوجه العلوي!
باقوس١ غمرتك طويلًا
بحنان غامر،
فغدوت كزبَد البحر
— وفانٍ هو زبد البحر وعابر —
وتدفَّق منك السحر القاهر
والمجد الباهر؛
ولهذا رحتِ تطلين
على الأبد الممتد أمامك
(بحثًا عن سر حائر).

(٣) شارل ليكونت دو ليل (Charles Leconte De Lisle) (١٨١٨–١٨٩٤م)

وُلد في جزيرة «ريونيون» في المحيط الهندي، ثم انتقل مع أسرته إلى فرنسا وعمره ثماني عشرة سنة، وأصبح من أهم شعراء «البرناس» وأعضاء جماعة البرناسيين الذين تغنَّوا بمثل الجمال والمجد والقداسة الإغريقية، وقد قام الشاعر أيضًا بترجمة أشعار هوميروس وغيره من شعراء اليونان.

كتب هذه القصيدة ونُشرت في شهر مارس سنة ١٨٤٦م في مجلة لافالانج. ويجدها القارئ مع قصائده عن العالم القديم، باريس، ١٩٥٢م، ص١٣٤–١٣٦).

«فينوس من ميلو»

أيها التمثال المرمري المقدس،
يا من تتزيا بثوب القوة والروح،
أيتها الإلهة التي لا تُقاوَم، يا من يملؤك النصر بأمجاده،
يا نقيةً كالانسجام، صافيةً كالبرق،
آه يا بيضاء وأم الآلهة، وآه يا فينوس،
يا نور الحسن الساطع!
لست «أفروديت»، التي تضع قدمها البيضاء بياض الثلج على محارتها الزرقاء التي تهدهدها الأمواج،
بينما ترف حولك (والرؤية وردية وشقراء)
خلية نحل من الدعابات والضحك الرنان كالذهب.
لست «كيثيرا»٢ التي لا تزال تعبق
بعطر قبلات أدونيس٣ السعيد،
الذي التصقت به وقد برح بها الغرام،
وما من شاهد عليها فوق الغصن المياد
إلا الحمام العاشق في لون المرمر.
ولست ربة الفن ذات الشفتَين الفصيحتَين،
لا «فينوس» الحيية ولا «عشتروت» الشهوانية،
التي ترقد — مُتَوَّجة الجبين بالورد وأوراق الأقنثوس
فوق سرير من زهر اللوتس، وهي تموت من الشهوة.
لا! فالضحك واللعب واللطف والحنان،
مهما تشابكت وتوهَّجت بالحب،
ليست هي التي تصاحبك.
الموكب الذي يحرسك مُؤَلَّف من النجوم،
والأفلاك التي تزفك بالغناء تسير في خطاك.
يا رمزًا معبودًا للسعادة الباقية،
يا صافيةً كالبحر الصافي،
أبدًا لم يكسر قلبك الصامد نشيج باكٍ،
ولا عكرت دموع البشر سناك.
سلامًا لك! إن القلب ليشتد خفقانه لمرآك.
جدول مرمري يرطِّب قدمك البيضاء.
تمشين فخورةً عارية فيهتز العالم،
والعالم — يا صاحبة الفخذَين العظيمتَين! — ملك يمينك.
وأنت أيتها الجزر يا موطن الآلهة!
أنت أيتها الأم القدسية هيلاس!
آه! ليتني وُلِدت على ضفاف الأرخبيل الرائع
حيث كانت الأرض المنتشية بالإلهام
ترى السماء تهبط إليها عند أول نداء!
إن كان مهدي لم يسبح أبدًا فوق ثيتيس،٤ القديم.
أبدًا لم يقبله موجه البلوري الفاتر.
إن كنت لم أصل تحت سقف معبدك الأتيكي،
ولا عند مذبحك أيتها الفتنة المنتصرة،
فاقدحي في صدري الشرارة العلوية،
ولا تحبسي مجدي في قبر الهموم،
ودعي أفكاري تنساب في إيقاعات ذهبية،
كالمعدن الإلهي المصبوب
في القالب المنسجم البديع …

(٤) ويلفريد سكاوين بلنت (Wilfrid Scawen Blunt) (١٨٤٠–١٩٢٢م)

اسم معروف للمصريين أو ينبغي أن يكون معروفًا ويبقى منقوشًا في ذاكرتهم بحروف من ذهب لا ينطفئ بريقه؛ فقد دافع عن حرية مصر، وندَّد طوال حياته بالاحتلال والاستعمار البريطاني. وُلد سنة ١٨٤٠م في «سسكس» ومات سنة ١٩٢٢م في شيلي. عمل من سنة ١٨٥٨م إلى سنة ١٨٦٩م في السلك الدبلوماسي، ورحل إلى مصر وبلاد العرب والفرس. وفي سنة ١٨٤١م اشترى بيتًا أقام فيه في ضواحي القاهرة حيث عاش عيشة شيخ عربي! قضى شهرَين في أحد السجون الأيرلندية بسبب دفاعه المخلص عن الحرية. وقد كتب الشعر ودوَّن مذكرات رحلاته وأسفاره كما كتب في السياسة والتاريخ. ظهرت قصيدته عن فينوس في كتاب أشعار الرحالة الذي نشره الأستاذ ف. أ. إيمونز، وصدر في نيويورك عام ١٩٧٠م، ص٨٩.

«فينوس من ميلو»

من أنت؟
امرأة أنت فحسب؟ الربة أفروديت؟
أبدًا لم يأتِ شبيهك من عالي السحب،
ولا من زبد البحر.
من رحم الأم-الأرض وُلدت،
لمَّا ضاجعها الفرح البشري
في ليلة عرس لن ينساها الدهر
(كان الإنسان صغيرًا في مقتبل العمر!)
خالدة أنت،
و«خرونوس» قد عجز عن التأثير عليك.
أسألك سؤالًا فأجيبيني:
أين تولَّى وإلى أين،
مَن كنتِ ترين
ووجهك — هذا الأبيض — يحمر؟!
ها أنت أمامي ذاهلة
عن هذا العالم.
وجهك منكسر
يرتسم عليه عذاب أزلي،
حزن مر،
أعلن حبي فتصمِّين السمع
— أفي أذنك وقر؟ —
لكن ما من شيء تملكه المرأة
من فيض حنان أو بر،
أو من خبث أو غدر،
إلا وتجمَّع فيك؛
فأنت المرأة،
صورة حواء،
وما في الأنثى الخالدة
من الخير أو الشر.

(٥) ب. د. بوترلين (P. D. Buturlin)

وُلد الشاعر الرمزي الروسي سنة ١٨٥٩م في فلورنسا ومات سنة ١٨٥٩م. قضى طفولته في إيطاليا، وتربَّى في إحدى الكليات في برمنجهام بإنجلترا، ولم يرَ بلاده إلا في سنة ١٨٧٤م حيث استقرَّ في الضيعة التي تملكها أسرته بالقرب من كييف. التحق في مدينة بطرسبورج «ليننجراد الحالية» بالسلك الدبلوماسي، وعمل سنة ١٨٨٣م في السفارة الروسية في روما ثم في باريس.

ترجم قصيدته هذه إلى الألمانية هانز-يورجين فون فينكيل، ونُشرت مع قصائد أخرى لمجموعة من الشعراء الروس عن فينوس في الكتاب التذكاري المُهدَى للأستاذ فيجنر مونستر، ١٩٦٢م، ص١٤٠).

«إلى فينوس ميلو»

يطير الخيال من هذه القاعات الحية
إلى المرسم القديم، عبر ظلمات الأزمان.
هنالك يحيا الفنان مع نشوته المشتعلة بالكبرياء.
لقد انزلق منه الإزميل، أيتها الآلهة،
من فرط جمالك.
لم يعد في حاجة إليه؛ فلقد قيدت اليد
رؤيته العارية من اللحم
في أسر الأشكال المستوية،
وفي الفؤاد — حيث عصفت عاطفة الخلق
كدُوامة ريح — امتدَّت سكينة البهجة والنشوة.
لكن مع ذلك، حين رآك أمامه
— هذا العبقري الفذ الذي حجب اسمه
عن المجد قدرٌ شرير —
هبط شعر شعورًا حقًّا بسعادته؟
هل أنبأه الإحساس النبوي الشفاف
بأن الفن انتصر بفضلك،
وبعون منك سينتصر دومًا.
يا مثل الحُسن الأعلى،
يا رمز جمال خالٍ
من أثر الذنب أو الإثم؟

(٦) ديمتري ميريشكوفسكي (Dimitrij Mereschkowskij)

وُلد الشاعر الروسي سنة ١٨٩٣م في بلدة بغدادي بالقوقاز، ومات منتحرًا سنة ١٩٣٠م في موسكو. كان أبوه فقيرًا يعمل في الغابات، وانضمَّ إلى الحزب الشيوعي ولم يتجاوز الأربعة عشر ربيعًا. تعلَّم في إحدى مدارس الفن التشكيلي، ثم أسَّس سنة ١٩١٣م مع عدد من الرسامين والشعراء في موسكو جماعة المستقبلية (الفوتوريزم) التي جدَّدت الحركة الفنية والأدبية. انصرف بعد ذلك إلى تمجيد الدولة البلشفية، وإن لم يمنعه هذا من تسديد سهام سخريته إلى عيوب النظام وثغراته. يُعدُّ من الشعراء الكلاسيكيين في الشعر السوفييتي، وقد كتب للمسرح كل كتب الشعر. كتب هذه القصيدة عن فينوس سنة ١٩٢٧م بعد رحلة زار فيها متحف اللوفر في باريس، وهاجم فيها بطريقة ضمنية — كما فعل الشاعر السوفييتي ماياكوفسكي — الناقد الفني المتزمِّت بولونسكي. نُشرت القصيدة في نفس الكتاب التذكاري الذي أشرنا إليه وترجمها المترجم نفسه، ص١٤١.

«فينوس من ميلو»

آه يا متحف اللوفر الوقور، كم أحب السير
تحت ظلالك الساكنة، بعيدًا عن ضوضاء الشارع!
أليس كل شيء عندي سواء — المادونا أو فينوس؟
مع ذلك فالإيمان بالمثل الأعلى،
هذا الإيمان الوحيد الذي بقي لنا من الفساد
والخراب العام
هو الإله الأخير، وهو المعبد الأخير!
ذات يوم، يا ربة ميلوس،
نفذ إليك صياح الشعب: «عاشت الحرية!»
وسكرت باريس بسحر المارسيلييز.
من أجل الحرية للمضطهدين جميعًا،
لسعادة كل الناس،
في الدخان وتحت وابل الرصاص،
اندفعت حشود الشعب — والأمل في عيونهم —
نحو المتاريس لتستقبل الموت.
لكن ربة الجمال ذات الوجه المرمري
راحت تنظر في صمتٍ وبعينَيها البارزتَين بعيدًا
أيتها الصامدة المرة! كما تأمرين وتنهَين فينا،
سوف تفرضين إلى الأبد سلطانك
على البشر أجمعين.
آه، وجِّهي بصرك إلى المفسدين،
واشعري بما نحن فيه وبما نقاسيه!
لا .. هي لا تنظر ولا تسمع،
لكن تتنفَّس بسمتها في جمال أبدي …
فينوس، أنا عند قدمَيك أتصالح مع الفساد،
وعندما أُحبك، عندما أتبتَّل لك،
وفي الوجه المرمري أرى الأبدية،
أجدني أُبارك الحياة كما أُبارك الموت!
فجأةً قطع عليَّ التفكير ضجيج،
ودخل القاعة حشد من السواح يُثرثرون.
السيدة النحيلة ذات الشعر الأحمر ومعطف السفر المنقوش
تحمل دليل «بيديكر» السياحي تحت إبْطها،
الله وحده يعلم لماذا جاءوا إلى هنا.
فالملل يدفع السواح من بلاد الإنجليز
عبر الجبال والبحار إلى كل أركان العالم.
وبمائتي شلن يسوقهم مندوبو
شركة كوك إلى كل العواصم؛
ليفرِّجوهم على كل تمثال، وكل أثر وكل معبد.
ولا مهرب من هؤلاء الإنجليز خليِّي البال،
أصحاب دكاكين السلع المستعملة في لندن،
والقبيحات من النساء!
فهنا أيضًا، عند قدمَيك يا كيبريده٥ الخالدة،
قُضي عليَّ أن أتطلَّع إلى وجوههم
وقلبي مفعم بالهم والغم.
إنكم تحسبون الجمال والعبقرية الفذة
بجنيهات الإسترليني في عصرنا الديمقراطي.
ولماذا نعمل أو نشقى؟ ما الداعي
أن نتطلَّع للأبدي الخالد؟
إن صاحب البنك ورجل الأعمال الذي يملك الملايين
سيأتي إلى هنا على الرغم من كل شيء،
ويستوعب كل شيء،
دون أن يفكِّر في تضحياتنا
أو يتذكَّر تنهُّداتنا.
هكذا رحت أتأمَّل ما حولي والألم يعتصرني.
لكنك ما زلتِ وسوف تبقَين إلى الأبد ربة الجمال،
أخذتِ تنظرين بعيدًا، في صمت دون أن ترينا،
كالسماء بعيون صافية.
لعلك رأيت قرنًا جديدًا، عصرًا أفضل،
أيامًا أخرى يرجع فيها الإنسان إليك،
وتعودين سيدة العالم،
لا يشبهك في جمالك غير الطبيعة الخالدة!
١  هي مدينة ومملكة على الساحل الغريب لجزيرة قبرص، استوطنها الأركاديون في العصر الميكيني، وازدهرت فيها عبادة أفروديت.
٢  اسم آخر من أسماء أفروديت، وهو كذلك اسم جزيرة في جنوب البيلوبينيز (شبه جزيرة المورة)، اشتهرت بعبادة أفروديت ومعبدها.
٣  هو حبيب أفروديت الجميل الذي صرعه خنزير بري، فتوسَّلت المحبوبة لبيرسيفونة (زوجة هاديس وإلهة العالم السفلي) أن تسمح له بالإقامة على الأرض ستة شهور في السنة، وفيها يحتفل بعيد ميلاده الطبيعي بالغناء ونثر الزهور. وهو في الأصل إله فينيقي للزراعة، من كلمة أدون الفينيقية؛ أي السيد.
٤  ثيتيس هي أشهر حوريات البحر في الأساطير الإغريقية، أكرهها بيلويس (ملك فثيا في منطقة ثيلنتاليا) على الزواج منه، وأنجبت منه البطل الشهير أخيل. ولعل الشاعر يكون قد خلط بينها وبين نهر أو بحر يقصده في سياق البيت.
٥  من أسماء أفروديت، نسبةً إلى «كيبروس»، وهي جزيرة قبرص التي كانت من أهم الأماكن التي عُبِدت فيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤