الثِّقَةُ الْعَمْيَاءُ

ضَلَّ الْحِمَارُ الضَّرِيرُ طَرِيقَهُ، بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَتَاهَ فِي مَسَالِكِ الْغَابَةِ الْكَثِيفَةِ الْوَاسِعَةِ، فَظَلَّ يَتَسَكَّعُ بَيْنَ الْأَشْجَارِ، إِلَى أَنْ وَقَفَ حَائِرًا لَا يَدْرِي: أَفِي سَلَامَتِهِ أَنْ يَتَحَرَّكَ يَمْنَةً أَمْ يَسْرَةً؟

وَأَدْرَكَتْهُ عِنْدَئِذٍ بُومَةٌ١ كَانَتْ تَحُومُ بَيْنَ الْأَشْجَارِ، وَعَرَضَتْ عَلَيْهِ اسْتِعْدادَهَا لِإِرْشَادِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْغَابَةِ بِسَلَامٍ، وَكُلُّنَا نَعْرِفُ أَنَّ الْبُومَةَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُبْصِرَ فِي أَحْلَكِ ظَلَامٍ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهَا كُلُّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَثَّرَ أَوْ يَتَرَدَّى فِيهِ الْحِمَارُ مِنَ الْحُفَرِ أَوِ الْحَفَائِرِ، وَالْوِهَادِ أَوِ الْمَهَاوِي،٢ وَالنُّقَرِ وَالْأَغْوَارِ، وَالْبِرَكِ وَالْمُسْتَنْقَعَاتِ، وَقَبِلَ الْحِمَارُ عَرْضَهَا، فَقَعَدَتْ عَلَى ظَهْرِهِ وَقَادَتْهُ فِي مَسَالِكِ الْغَابَةِ الْوَعْرَةِ إِلَى أَنْ خَرَجَتْ بِهِ سَالِمًا إِلَى السِّكَّةِ السُّلْطَانِيَّةِ عِنْدَ بُلُوجِ الصَّبَاحِ.

وَاسْتَصْعَبَ الْحِمَارُ أَنْ يُفَارِقَ مِثْلَ هَذَا الْقَائِدِ الطَّيِّبِ، فَتَوَسَّلَ إِلَى الْبُومَةِ؛ كَيْ لَا تُفَارِقَهُ، فَتَقُودَهُ إِلَى أَنْ يَهْتَدِيَ إِلَى مَثْوَاهُ.

وَقَبِلَتِ الْبُومَةُ، عَنْ طِيبَةِ خَاطِرٍ، وَظَلَّتْ مُمْتَطِيَةً ظَهْرَ الْحِمَارِ، مُعْتَزَّةً بِمَكَانَتِهَا، وَسَارَ الاثْنَانِ فِي طَرِيقِهِمَا.

وَإِذْ طَلَعَتِ الشَّمَسُ وَتَبَدَّدَ الظَّلَامُ، شَعَرَتِ الْبُومَةُ بِاضْطِرَابِ نَظَرِهَا، وَأَنَّ الضَّوْءَ قَدْ أَعْشَاهَا، فَبَدَأَتْ تَزُرُّ عَيْنَيْهَا، حَتَّى إِذَا مَا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ، وَاشْتَدَّ ضِيَاؤُهَا، فَقَدَتِ الْبُومَةُ كُلَّ قُدْرَةٍ عَلَى الْإِبْصَارِ، وَأَضْحَتْ عَمْيَاءَ كَالْحِمَارِ الَّذِي تَقُودُهُ، وَلَكِنَّ حُبَّ الْعَظَمَةِ مَنَعَهَا مِنَ التَّنَحِّي عَنْ مَرْكَزِ الْقِيَادَةِ الَّذِي وَصَلَتْ إِلَيْهِ فِي ظَلَامِ اللَّيْلِ، وَصَارَتْ لَا تَصْلُحُ لَهُ فِي النَّهَارِ، وَلِكَيْ تَجْعَلَ الْحِمَارَ لَا يَشْعُرُ بِمَا آلَتْ إِلَيْهِ، قَالَتْ لَهُ: حَذَارِ مِنْ أَنْ تَنْحَرِفَ إِلَى الْيَسَارِ؛ لِأَنِّي أَرَى هُنَاكَ بِرْكَةَ مَاءٍ … فَمَالَ الْحِمَارُ إِلَى الْيَمِينِ، وَسَقَطَ فِي هَاوِيَةٍ كَانَتْ بَادِيَةً لِلْعيَانِ، فَهَلَكَ.

١  البوم والبومة للذَّكرِ والأنثى، والجمع أبوام.
٢  جمع مهوى ومهواة، وهو ما بين الجبلين، ونحو ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤