الْغُرَابُ الْقَدِيرُ١

حَدَثَ ذَلِكَ فِي عَامِ ١٨١٢ عِنْدَمَا اقْتَرَبَ جَيْشُ «نَابلْيُونَ» مِنْ «مُوسكُو» عَاصِمَةِ «رُوسْيَا» الْقَدِيمَةِ؛ حَيْثُ نَصَبَ الْقَائِدُ الرُّوسِيُّ شَرَكًا لِنَابلْيُونَ وجَيْشِهِ؛ جَاعِلًا طُعْمَهُ مَدِينَةَ «مُوسْكُو» الْعَظِيمَةَ، وَذَلِكَ أَنْ أَمَرَ بِإِخْلَائِهَا مِنْ كُلِّ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ إِنْسَانٍ وَطَيْرٍ وَحَيَوَانٍ، وَكُلِّ مَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ مِنْ طَعَامٍ وَلِبَاسٍ وَفِرَاشٍ، ثُمَّ إِحْرَاقِهَا بِكُلِّ مَا يَبْقَى فِيهَا قَبْلَ وُصُولِ الْعَدُوِّ إِلَيْهَا بِوَقْتٍ قَصِيرٍ، حَتَّى لَا يَجِدَ هُنَاكَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ لِدَفْعِ غَائِلَةِ شِتَاءِ «رُوسْيَا» الْقَارِسِ.

وَهَكَذَا هَجَرَهَا أَهْلُهَا مِنَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، وَالْعَظِيمِ وَالْحَقِيرِ، وَخَرَجُوا مِنْهَا أَفْوَاجًا أَفْوَاجًا كَثَوْلِ٢ نَحْلٍ يَهْجُرُ خَلِيَّتَهُ.

وَفِي إِبَّانِ هَذِهِ الْهِجْرَةِ، وَقَفَ غُرَابٌ عَلَى سَقْفِ بَيْتٍ، يَرْقُبُ هَذِهِ الْحَرَكَةَ الْهَائِلَةَ، وَرَأَتْهُ دَجَاجَةٌ كَانَتْ فِي مَرْكَبَةٍ تَسِيرُ مُسْرِعَةً فِي طَرِيقِ خُرُوجِهَا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَنَادَتْهُ قَائِلَةً: «مَا بَالُكَ أَيُّهَا الرَّفِيقُ تَجْلِسُ مُطْمَئِنًّا كَأَنَّكَ لَا تَنْوِي الْهِجْرَةَ مَعَنَا امْتِثَالًا لِأَمْرِ قَائِدِنَا الْعَظِيمِ؟! أَلَا تَعْلَمُ أَنَّ الْعَدُوَّ قَدْ دَنَا مِنْ أَبْوَابِ الْمَدِينَةِ؟»

وَقَالَ الْغُرَابُ: «وَلِمَ أَرْحَلُ وَأَنَا لَسْتُ مَطْمَعَةً٣ لِأَحَدٍ؟ لِأَنَّ لَحْمِي لَا يَنْفَعُ لِلْأَكْلِ مَشْوِيًّا أَوْ مَسْلُوقًا مِثْلَ لَحْمِكِ.»

•••

وَبَقِيَ الْغُرَابُ إِلَى أَنْ دَخَلَ جَيْشُ الْعَدُوِّ فِي الشَّرَكِ الْمَنْصُوبِ، وَلَمَّا اشْتَدَّتْ بِالْجَيْشِ الْمَجَاعَةُ، وَلَمْ يَجِدْ مَا يَأْكُلُهُ سِوَى الْفِئْرَانِ وَالْغِرْبَانِ، كَانَ مَصِيرُهُ الاقْتِدَارَ٤ لِسَدِّ جُوعِ الْجَيْشِ الْفَرَنْسِيِّ.
١  أو القادر: هو ما يُقْتَدَرُ؛ أي يطبخ في القدر.
٢  الثَّول: جماعة النحل.
٣  ما يُحرِّكُ الطمع.
٤  الطبخ في قِدْرٍ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤