الطَّحَّانُ الْغَبِيُّ

سَرِبَ١ الْمَاءُ مِنْ ثُقْبَةٍ٢ فِي جِدَارِ خَزَّانِ الْمِيَاهِ الَّتِي تُدِيرُ الطَّاحُونَ، وَوَجَّهَ الْجِيرَانُ نَظَرَ الطَّحَّانِ كَيْ يَتَلَافَى الْأَمْرَ قَبْلَ أَنْ يَتَّسِعَ الْخَرْقُ عَلَى الرَّاتِقِ،٣ وَلَكِنَّهُ، لِغَبَاوَتِهِ، لَمْ يَعْبَأْ بِمِثْلِ هَذَا الْوَكفَانِ٤ الطَّفِيفِ، وَهَزَّ كَتِفَهُ اسْتِخْفَافًا.
وَلَكِنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَقِفْ عِنْدَ هَذَا الْحَدِّ الطَّفِيفِ، بَلِ ازْدَادَ تَسَرُّبُ الْمِيَاهِ مِنَ الثَّقْبِ الَّذِي اتَّسَعَ بِطَبِيعَةِ ضَغْطِ الْمِيَاهِ، وَصَاحَ الْجِيرَانُ بِالطَّحَّانِ يَسْتَحِثُّونَهُ عَلَى وُجُوبِ الْإِسْرَاعِ فِي سَدِّ الثُّغْرَةِ، فَأَجَابَهُمْ وَهُوَ يَتَثَاءَبُ، دُونَ اهْتِمَامٍ أَوِ اكْتِرَاثٍ: «مَا عَلَيْكُمْ مِنْ ذَلِكَ! فَأَنَا لَسْتُ بِحَاجَةٍ إِلَى خِضَمٍّ٥ لِسَيْرِ عَمَلِي؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْمَوْجُودَ فِي هَذَا الْحَوْزِ٦ يَكْفِي لِإِدَارَةِ طَاحُونِي مَدَى حَيَاتِي، وَحَيَاةِ أَوْلَادِي، وَأَوْلَادِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ.»
وَاسْتَنَامَ٧ الطَّحَّانُ إِلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ، بَيْنَمَا ازْدَادَ الْخرْقُ اتِّسَاعًا، وَازْدَادَ الْمَاءُ انْهِمَارًا حَتَّى نَضَبَ (نَشَفَ) كُلُّ مَا كَانَ فِي الْحَوْزِ.

وَاسْتَيْقَظَ الطَّحَّانُ عَلَى انْقِطَاعِ صَوْتِ الطَّاحُونَةِ؛ لِأَنَّهَا وَقَفَتْ عِنْدَ انْقِطَاعِ مَوْرِدِ الْمَاءِ عَنِ الْمَسِيلِ الَّذِي يُدِيرُ طَارَتَهَا، وَحَاوَلَ عَبَثًا أَنْ يَسُدَّ الْخرقَ بَعْدَمَا اتَّسَعَ، وَلَمَّا أَخْفَقَ، طَفِقَ يُرْغِي وَيُزْبِدُ وَيَقْرَعُ سِنَّ النَّدَمِ.

•••

وَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ، إِذْ أَتَتْ دَجَاجَةٌ لِتَشْرَبَ مِنَ الْمَسِيلِ كَعَادَتِهَا، فَاسْتَشَاطَ الطَّحَّانُ غَضَبًا، وَصَاحَ فِيهَا قَائِلًا: «إِنَّ هَذَا هُوَ كُلُّ مَا بَقِيَ لِي، وَأَنْتِ تُرِيدِينَ شُرْبَهُ وَحِرْمَانِيَ إِيَّاهُ. إِلَيْكِ عَنِّي!» وَأَخَذَ حَجَرًا وَأَلْقَاهُ عَلَيْهَا، فَأَصَابَهَا فِي مَقْتَلٍ.٨

وَهَكَذَا فَقَدَ الْمَاءَ وَالدَّجَاجَةَ مَعًا.

١  سال.
٢  ثَقب صغير.
٣  زاد الفساد حتى فات التلافي.
٤  وكف: أي سال.
٥  بحر عظيم.
٦  الموضع إذا أُقيمَ حواليه سد أو حاجز.
٧  سكن إليه واستأنس به.
٨  العضو الذي إذا أُصيبَ مات صاحبه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤