الْقِرْدُ يَلْبَسُ النَّظَّارَاتِ

أَسَنَّ١ الْقِرْدُ، وَبَدَتْ تَنْتَابُهُ مُنَغِّصَاتُ الشَّيْخُوخَةِ، وَرَأَى أَنَّ نَظَرَهُ قَدْ أَدْرَكَهُ الضَّعْفُ، فَحَزِنَ، وَاسْتَشَارَ مَنْ يَثِقُ بِرَأْيِهِمْ مِنْ بَنِي جِنْسِهِ، فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِلَبْسِ النَّظَّارَاتِ؛ أُسْوَةً بِأَوْلَادِ عُمُومَتِهِمْ وَأَقَارِبِهِمْ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَهَوَّنُوا عَلَيْهِ بِتَذْكِيرِهِ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَكْتَرِثُونَ لِهَذَا الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُمْ فِي مِثْلِ حَالَتِهِ، يَضَعُونَ عَلَى عُيُونِهِمْ زُجَاجَاتٍ صَغِيرَةً مُسْتَدِيرَةً، يَنْظُرُونَ مِنْ خِلَالِهَا كَمَا يُحِبُّونَ وَيَشْتَهُونَ.
وَأَرْشَدُوهُ إِلَى بَائِعِ هَذِهِ النَّظَّارَاتِ، فَذَهَبَ إِلَيْهِ تَوًّا.٢
وَبِطَرِيقَةٍ مَا حَصَلَ مِنْهُ عَلَى عَدَدٍ وَافِرٍ مِنْ أَجْمَلِ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا، وَعَادَ بِهَا إِلَى بَيْتِهِ وَهُوَ يَكَادُ يَطِيرُ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ، وَوَضَعَهَا أَمَامَهُ، وَأَخَذَ يَتَأَمَّلُهَا، وَيَزُوكُ٣ حَوْلَهَا، وَهُوَ يَهُزُّ رَأْسَهُ وَيُفَرِّكُ يَدَيْهِ إِعْجَابًا بِبَرِيقِهَا، وَابْتِهَاجًا بِحُصُولِهِ عَلَيْهَا.
وَلَمَّا هَدَأَتْ سَوْرَةُ الْفَرَحِ أَقْعَى٤ أَمَامَهَا، وَبَدَأَ يَفْحَصُهَا وَيُجَرِّبُهَا عَلَى عَيْنَيْهِ بِرَزَانَةٍ وَعَلَى مَهْلٍ وَتُؤَدَةٍ، إِلَى أَنْ لَاحَتْ لَهُ بَوَادِرُ خَيْبَةِ أَمَلِهِ، فَأَخَذَ يُقَلِّبُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ بِحَرَكَةٍ عَصَبِيَّةٍ، أَخَذَتْ تَشْتَدُّ وَتَتَفَاقَمُ؛ حَتَّى بَلَغَتْ دَرَجَةَ الْهِيَاجِ (النَّرْفَزَةِ)٥ عِنْدَمَا وَضَعَهَا عَلَى أَنْفِهِ فِي عِدَّةِ أَوْضَاعٍ وَمَوَاضِعَ، وَعَلَى جَبِينِهِ، كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ أَبْنَاءِ آدَمَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي السِّنِّ، وَبَعْدَمَا رَفَعَهَا وَخَفَضَهَا، وَلَحَسَهَا بِلِسَانِهِ، وَنَفَخَ فِيهَا بِفَمِهِ، وَمَسَحَهَا بِشَعْرِ جَسَدِهِ دُونَ فَائِدَةٍ، ثَارَ ثَائِرُهُ، وَفَارَ فَائِرُهُ، وَفِي حُمَيَّا غَضَبِهِ زَعَقَ، وَقَالَ: «مَا أَسْخَفَ عَقْلَ هَؤُلَاءِ الْآدَمِيِّينَ، وَمَا أَحْمَقَهُمْ؛ لأنهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ أَشْيَاءَ سَخِيفَةً كَهَذِهِ لَا فَائِدَةَ لَهَا.»

ثُمَّ أَمْسَك بِحَجَرٍ كَبِيرٍ، وَنَزَلَ عَلَيْهَا خَبْطًا وَدَقًّا حَتَّى هَشَّمَهَا تَهْشِيمًا، وَسَحَقَهَا سَحْقًا.

وَلَمَّا هَدَأَ غَضَبُهُ، سَكَتَ لَحْظَةً، ثُمَّ هَزَّ رَأْسَهُ، شَأْنَ الْفَيْلَسُوفِ الْمُتَرَدِّدِ، وَقَالَ بِصَوْتٍ حَزِينٍ: «وَمَنْ يَعْلَمُ؟ فَلَعَلَّ عَقْلِي أَنَا هُوَ السَّخِيفُ؟»

١  شاخ واستسنَّ: أي كبرت سِنُّه.
٢  قاصدًا لا يعرِّجه شيء.
٣  يمشي مِشيةَ الغراب، أو يحرك منكبيه ويفرِّجُ بين رِجليه.
٤  جلس على مؤخره، ومثلها قَعَدَ القُرْفُصاءَ.
٥  كلمة مُعرَّبةٌ دارجَةٌ خفيفة على الأذن واللسان. ولم أَجِدْ ما يقابلها في العربية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤