الْغَدِيرُ الصَّغِيرُ١

جَلَسَ الرَّاعِي الْمِسْكِينُ عِنْدَ الْغَدِيرِ الصَّغِيرِ يَنْدُبُ حَظَّهُ الْعَاثِرَ؛ لِأَنَّ خَرُوفًا مِنْ خِرَافِهِ غَرِقَ فِي النَّهْرِ الْمُجَاوِرِ.

وَحَزِنَ الْغَدِيرُ لِحُزْنِ الرَّاعِي، وَأَخَذَ يُوَاسِيهِ وَيُعَزِّيهِ، مُوَجِّهًا إِلَى النَّهْرِ عِتَابًا مُرًّا عَلَى أَثَرَتِهِ٢ وَقَسْوَتِهِ، فَقَالَ: تَبًّا لَكَ أَيُّهَا الْغَدَّارُ الشَّرِهُ، مَا أَقْسَى قَلْبَكَ! أَلَيْسَ لِجَشَعِكَ حَدٌّ، أَوْ لِطَمَعِكَ نِهَايَةٌ؟ فَلَوِ اسْتَطَاعَ النَّاسُ أَنْ يَسْتَشِفُّوا مَا تَحْتَ مِيَاهِكَ الْعَمِيقَةِ الْعَكِرَةِ، كَمَا يَقْدِرُونَ عَلَى رُؤْيَةِ مَا فِي مِيَاهِي الْقَلِيلَةِ الصَّافِيَةِ، لَاقْشَعَرَّتْ أَبْدَانُهُمُ اشْمِئْزَازًا مِنْ هَوْلِ مَا يَرَوْنَ فِي جَوْفِكَ الْقَذِرِ مِنْ فَضَلَاتِ الضَّحَايَا الَّتِي تَبْتَلِعُهَا مِنْ وَقْتٍ إِلَى آخَرَ! وَكُنْتَ تَهْرُبُ خَجَلًا؛ لِتَخْتَفِيَ عَنِ الْأَنْظَارِ بِالْغَورِ فِي جَوْفِ الْأَرْضِ، أَو الانْحِدَارِ إِلَى هُوَّةٍ دَامِسَةِ الظَّلَامِ.
أَمَّا أَنَا، فَلَوْ أَسْعَدَنِي الْحَظُّ بِمَا حَبَاكَ٣ مِنْ قُوَّةٍ بَاهِرَةٍ،٤ وَمِيَاهٍ زَاخِرَةٍ؛ لَكُنْتُ أَصْرِفُهَا فِي سُبُلٍ غَيْرِ سُبُلِكَ، فَمَا كُنْتُ أُؤْذِي حَتَّى الدَّجَاجَةَ الصَّغِيرَةَ، وَكُنْتُ أَنْسَابُ بِكُلِّ لُطْفٍ وَدِعَةٍ بَيْنَ الْمَسَاكِنِ وَالْحَدَائِقِ حَامِلًا الْهَنَاءَ والرَّخَاءَ وَالْبَهْجَةَ لَهَا وَلِكُلِّ الْوُدْيَانِ وَالْحُقُولِ وَالْمُرُوجِ الَّتِي يُسْعِدُهَا حَظُّهَا بِمُرُورِي بِهَا فِي طَرِيقِي إِلَى الْبَحْرِ الْعَظِيمِ، دُونَ أَنْ أَسْلُبَهَا وَرَقَةً مِنْ أَصْغَرِ حَشَائِشِهَا، أَوْ زَهْرَةً مِنْ أَحْقَرِ أَعْشَابِهَا — قَالَ ذَلِكَ مُخْلِصًا، وَكَانَ مُؤْمِنًا بِصِدْقِ مَا قَالَ.
وَبَعْدَ قَلِيلٍ مِنَ الْوَقْتِ، اكْفَهَرَّ الْجَوُّ، وَأَظْلَمَتِ السَّمَاءُ بِالْمُعْصِرَاتِ٥ الْمُطَبِّقَاتِ،٦ وَدَوى الرَّعْدُ الْقَاصِفُ، وَلَمَعَ الْبَرْقُ الْخَاطِفُ، ثُمَّ هَطَلَتِ الْأَمْطَارُ الْغَزِيرَةُ، وَأُتْرِعَتْ مَسَايِلُ الْمِيَاهِ، فَارْتَفَعَ مَاءُ الْغَدِيرِ، وَصَارَ سَيْلًا عَرَمْرَمًا،٧ أَشَدَّ طُغْيَانًا مِنَ النَّهْرِ، فَانْطَلَقَ يُرْغِي وَيُزْبِدُ وَيُهْدِرُ، جَارِفًا كُلَّ مَا اعْتَرَضَ سَبِيلَهُ مِنَ الْأَشْجَارِ الْبَاسِقَةِ، مُلْتَهِمًا كُلَّ مَا أَدْرَكَهُ مِنْ حَيَوَانٍ وَإِنْسَانٍ، حَتَّى إِنَّ صَدِيقَهُ الرَّاعِي الْمِسْكِينَ لَمْ يَنْجُ مِنْ شَرِّهِ، هُوَ وَكُوخُهُ، وَمَا بَقِيَ لَهُ مِنْ قَطِيعِهِ …
١  الغدير: قِطعةٌ من الماء يغادرها السيل.
٢  الأثرة: حُبُّ النفس المفرط.
٣  أعطى بلا جزاء.
٤  غالبة.
٥  الغيوم تأتي بالأمطار.
٦  تَسُدُّ الآفاق كلها.
٧  شديدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤