الْعُقَابُ وَالْعَنْكَبُوتُ

دَوَّمَ الْعُقَابُ١ فِي كَبِدِ السَّمَاءِ، ثُمَّ انْضَرَجَ٢ حَتَّى حَطَّ عَلَى أَرْزَةٍ سَامِقَةٍ،٣ قَائِمَةٍ عَلَى قِمَّةِ جَبَلٍ شَاهِقِ الِارْتِفَاعِ، وَجَثَمَ عَلَى أَعْلَى فَرْعٍ مِنْ فُرُوعِ الْأَرْزَةِ، مَأْخُوذًا بِجَمَالِ الطَّبِيعَةِ السَّاحِرِ، يَتَأَمَّلُ مَا تَحْتَهُ وَحَوْلَهُ مِنَ السُّهُولِ وَالْودْيَانِ وَالْجِبَالِ وَالْأَنْهَارِ، وَالْبُحَيْرَاتِ، وَشَوَاطِئِ الْأوقيانُساتِ وَالْبِحَارِ، وَمَا يَتَخَلَّلُ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُولٍ وَقُرًى وَبُلْدَانٍ، ثُمَّ طَفِقَ يُناجِي نَفْسَهُ قَائِلًا: «شُكْرًا لِمُبْدِعِ الْكَائِنَاتِ عَلَى مَا اخْتَصَّنِي بِهِ مِنْ نِعْمَةٍ بِمَنْحِي تِلْكَ الْأَجْنِحَة الْقَوِيَّة الَّتِي امْتَزْتُ بِهَا عَنْ سِوَايَ مِنْ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ؛ لِأَنَّهَا تُسَاعِدُنِي عَلَى التَّحْلِيقِ وَالْوُصُولِ إِلَى هَذَا الِارْتِفَاعِ الَّذِي أَسْتَطِيعُ مِنْهُ امْتِلَاكَ نَاصِيَةِ الْجَوِّ وَالْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَأَرَى مَا لَا تَقْدِرُ عَيْنُ مَخْلُوقٍ آخَرَ أَنْ تَرَاهُ مِنْ جَمَالِ هَذِهِ الْخَلِيقَةِ الَّذِي يَخْلُبُ الْأَلْبَابَ …»

وَفَجْأَةً سُمِعَ صَئِي آتٍ مِنْ غُصْنٍ فَوْقَ مَجْثَم الْعُقَاب،ِ يَقُولُ: «يَا لَكَ مِنْ فَخُورٍ ثَرْثَارٍ! ارْفَعْ نَظَرَكَ أَيُّهَا الرَّفِيقُ وَانْظُرْ إِلَيَّ، أَلَسْتَ تَرَانِي أَحْتَلُّ مَكَانًا أَرْفَعَ مِنْ مَكَانِكَ؟»

وَرَفَعَ الطَّائِرُ الْعَظِيمُ نَظَرَهُ، فَرَأَى عَنْكَبَةً٤ تَنْسِجُ مِنْ لُعَابِهَا هَلَلًا٥ بَيْنَ الْأَغْصَانِ الَّتِي فَوْقَ رَأْسِهِ، كَأَنَّهَا تُحَاوِلُ أَنْ تَحْجُبَ عَنْ عَيْنَيْهِ بَهَاءَ الشَّمْسِ، فَسَأَلَهَا قَائِلًا: «وَكَيْفَ أَمْكَنَكِ الْوُصُولُ إِلَى هَذَا الْمَكَانِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْوُصُولَ إِلَيْهِ مِنَ الطُّيُورِ سِوَى أَمْثَالِي مِنَ الْعُقْبَانِ الْقَوِيَّةِ الْجَنَاحِ؟ وَأَنْتِ — فِيمَا يَلُوحُ لِي — ضَعِيفَةٌ صَغِيرَةٌ عَدِيمَةُ الْأَجْنِحَةِ، وَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّكِ اسْتَطَعْتِ أَنْ تَأْتِي إِلَى هُنَا زَاحِفَةً؟»
وَأَجَابَتْهُ الْعَنْكَبَةُ: «الْحَقُّ أَقُولُ لَكَ أَيُّهَا الْجَارُ الْمَغْرُورُ: إِنَّ فِكْرَةَ الزَّحْفِ مِنَ السَّهْلِ إِلَى هَذَا الِارْتِفَاعِ الشَّاهِقِ لَمْ تَخْطُرْ لِي بِبَالٍ، أَمَّا الَّذِي فَعَلْتُهُ حَتَّى وَصَلْتُ إِلَى هُنَا؛ فَهُوَ أَنِّي تَعَلَّقْتُ بِرِيشَةٍ مِنْ رِيشَاتِ ذَيْلِكَ، فَوَجَدْتُ نَفْسِي هُنَا دُونَ أَنْ أَكدَّ أَوْ أَتْعَبَ، وَهَا قَدْ شَرَعْتُ فِي بِنَاءِ بَيْتِي دُونَ احْتِيَاجٍ إِلَى مَعُونَةِ حَضْرَتِكَ، فَلَا تَنْفُخْ أَوْدَاجَكَ٦ عَلَيَّ، وَلَا تُحَدِّجْ بِبَصَرِكَ فِيَّ.»

وَقَدْ نَسِيَتْ أَنَّ رِيشَاتِ ذَيْلِ مَنْ تُخَاطِبُهُ بِهَذِهِ اللَّهْجَةِ الْجَافِيَةِ قَدْ رَفَعَتْهَا مِنَ الْحَضِيضِ إِلَى ذرْوَةِ الْمَجْدِ! …

•••

وَقَبْلَمَا أَتَمَّتْ بَرْبَرَتَهَا كَانَتْ فِي طَرِيقِهَا إِلَى الْهَلَاكِ؛ لِأَنَّ هَبَّةَ رِيحٍ دَفَعَتْهَا فَأَلْقَتْهَا عَنِ الْغُصْنِ إِلَى قَرَارِ هَاوِيَةٍ سَحِيقَةٍ لَا نَجَاةَ لَهَا مِنْهَا.

١  كَثُرَ الخلط بين العُقاب والنَّسرِ، فالعقاب أعظم الجوارح، ولا تقع على الجِيَفِ، إلا إذا عضَّها الجوع، أما النسر فإنه يأكل الجيف وقلما يصيد، وهو أكبر من العقاب، ولا ريش له في رأسه وعنقه، وساقاه عاريتان، بخلاف العقاب، فإنها مُسَرْوَلة الساقين. ولا مخالب للنسر، بل له أظافر لا يقوى على جمعها لحمل فريسته كما تفعل العقاب بمخالبها.
٢  انضرجت العقاب: أي انحطت من الجوِّ كاسرة.
٣  عالية طويلة.
٤  أنثى العنكبوت.
٥  نسج العنكبوت.
٦  الودَج: عِرق في العنق ينتفخ عند الغضب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤