الْكُوكُو وَالْحَمَامَةُ

جَثَمَ الْكُوكُو١ عَلَى غُصْنِ شَجَرَةٍ وَارِفَةٍ يَنُوحُ وَيَعْتَوِلُ،٢ وَسَمِعَتْهُ حَمَامَةٌ كَانَتْ جَاثِمَةً عَلَى فَرْعِ شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ، فَرَثَتْ لَهُ وَسَأَلَتْهُ قَائِلَةً: «مَا خَطْبُكَ٣ يَا صَاحِ؟ وَعَلَامَ٤ هَذَا النُّوَاحُ وَتِلْكَ الْوَقْوَقَةُ؟ أَلِأَنَّ الرَّبِيعَ قَدْ وَلَّى وَوَلَّتْ مَعَهُ وَلِيفَتُكَ؟ أَوْ لِأَنَّ وَجْهَ الشَّمْسِ بَدَأَ يَعْبَسُ لِدُخُولِ الشِّتَاءِ؟»

فَأَجَابَهَا قَائِلًا: «لَيْتَ الْأَمْرَ كَانَ هَذَا أَوْ ذَاكَ، أَيَّتُهَا الصَّدِيقَةُ، بَلْ إِنَّهُ أَدْهَى وَأَمَرُّ، وَسَأَذْكُرُهُ لَكِ لِتَرَيْ وَتَحْكُمِي.

فَأَنَا وَوَلِيفَتِي كُنَّا نَهْنَأُ فِي الرَّبِيعِ بِأَرْغَدِ عَيْشٍ، وَرُزِقْنَا صِغَارًا مِنْ بَيْضَاتٍ نَزَلَتْ مِنْ صُلْبِنَا، فَأَوْدَعْنَاهَا عُشَّ أَصْحَابِنَا حَتَّى يَحِينَ حِينُ خُرُوجِهِمْ، لِتَقَرَّ بِهِمْ عُيُونُنَا، وَتَبْتَهِجَ بِمَرْآهِمْ نُفُوسُنَا، فَلَمَّا خَرَجُوا وَأَشَبُّوا،٥ أَنْكَرُونَا، وَجَفَوْنَا، كَأَنَّنَا لَمْ نَكُنْ عِلَّةَ وُجُودِهِمْ.
ثُمَّ نَكَفَ دَمْعَةً٦ كَانَتْ تَتَرَقْرَقُ فِي عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: تَبًّا لَهُمْ! أَهَذَا مَا يَنْتَظِرُهُ الْآبَاءُ مِنَ الْأَبْنَاءِ؟ إِنَّ رُؤْيَتِي الدَّجَاجَةَ وَهِيَ تَضُمُّ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، أَوْ تَتَبَخْتَرُ فِي وَسَطِهِمْ، أَوِ الْحَمَامَةَ وَهِيَ تَزُقُّ٧ جَوَازِلَها،٨ أَوِ الْوَزَّةَ وَهِيَ تَمِيسُ تِيهًا بَيْنَ صِغَارِهَا، يُثِيرُ فِي نَفْسِي السَّخَطَ وَالْحَسَدَ؛ إِذْ أَجِدُنِي جَالِسًا كَالْيَتِيمِ الَّذِي لَمْ يَذُقْ حَنَانَ الْوَالِدَيْنِ، أَوْ كَالْعَاقِرِ لَمْ تَحْظَ بِمَحَبَّةِ الْأَوْلَادِ.»

وَأَجَابَتْهُ الْحَمَامَةُ مُتَحَسِّرَةً: «يَا لَكَ مِنْ مِسْكِينٍ! إِنَّ مَا ذَكَرْتَهُ يَحْمِلُنِي عَلَى الرثَاءِ بِكُلِّ جَوَارِحِي لِحَالِكَ، وَلَكِنْ خَبِّرْنِي بِرَبِّكَ، وَقُلِ الْحَقَّ: هَلْ فَكَّرْتَ فِي حَيَاتِكَ فِي بِنَاءِ عُشٍّ تَضَعُ فِيهِ بَيْضَ رَفِيقَتِكَ لِترخمَ عَلَيْهِ، وَتَتَعَهَّدَهُ بِالْعِنَايَةِ الْوَاجِبَةِ إِلَى أَنْ تَخْرُجَ مِنْهُ فِرَاخُكَ إِلَى عُشِّكَ الدَّافِئِ، فَتَنْعَمَ بِقُرْبِهِمْ مِنْكَ، وَتَحْظَى بِهَنَائِكَ بِلَذَّةِ الْكَدِّ وَالتَّعَبِ وَالتَّضْحِيَةِ فِي سَبِيلِ تَنْشِئَتِهِمْ؟ أَمَّا الَّذِي أَعْلَمُهُ أَنَا، وَكُلُّ مَعَارِفِي، فَهُوَ أَنَّكَ وَوَلِيفَتَكَ لَمْ تُفَكِّرَا إِلَّا فِي «هَنَاءِ وَرَغَدِ» شَخْصَيْكُمَا، وَلَمْ تَجِدَا مُتَّسعًا مِنْ وَقْتِكُمَا لِلتَّفْكِيرِ فِي مَصِيرِ فِرَاخِكُمَا بَعْدَ نَقْفِهِمُ الْبَيْضَاتِ الَّتِي قَذَفْتُمَا بِهَا فِي أَعْشَاشٍ، تَعِبَ غَيْرُكُمَا فِي تَهْيِئَتِهَا.»

وَقَالَ الْكُوكُو: «حَقًّا، إِنِّي لَمْ أُفَكِّرْ فِي بِنَاءِ عُشٍّ؛ لِأَنِّي أَحْسَبُ أَنَّ مِنَ الْغَبَاوَةِ أَنْ أَقْضِيَ أَيَّامَ الصَّيْفِ مُرْتَبِطًا بِهِ، فَأُضْنِيَ جَسَدِي وَجَسَدَ وَلِيفَتِي بِاحْتِضَانِ الْبَيْضِ حَتَّى يَفْقِسَ، ثُمَّ نَحْرِمَ نَفْسَيْنَا مَا نَحْصُلُ عَلَيْهِ مِنْ غِذَاءٍ لِأَجْلِ تَغْذِيَةِ مَا يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْبَيْضَاتِ؛ ولذلك كُنْتُ أُلْقِي بِهَا خلْسَةً إِلَى أَعْشَاشِ غَيْرِي، وَأَتْرُكُ لَهُمُ الِاسْتِمْتَاعَ بِمَا يُعْرَفُ فِي عُرْفِكُمْ، أَنْتُمُ الْبُسَطَاء السُّذَّج «بِلَذَّةِ» الْكَدِّ، وَالتَّعَبِ، وَالتَّضْحِيَةِ.»

فَجَاوَبَتْهُ الْحَمَامَةُ قَائِلَةً: أَشْكُرُ لَكَ إِفْصَاحَكَ عَنْ رَأْيِكَ فِي أَمْثَالِي، وَلَوْ أَنَّكَ لَمْ تَصِفْهُ بِاللَّبَاقَةِ الْوَاجِبَةِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمُحَادَثَاتِ، وَلَكِنْ، كَيْفَ تَنْتَظِرُ مِنْ صِغَارِكَ أَنْ يَعْرِفُوكَ وَيَلْتَفُّوا حَوْلَكَ بَعْدَ مَا تَرَكْتَ مَتَاعِبَ فَقْسِهِمْ وَإِطْعَامِهِمْ وَتَرْبِيَتِهِمْ لِسِوَاكَ؟ أَلَمْ يَبْلُغْكَ مَا قَالَهُ الْحُكَمَاءُ: «لَا رَاحَةَ إِلَّا بَعْدَ تَعَبٍ؛ وَلَا لَذَّةَ إِلَّا بَعْدَ أَلَمٍ، وَلَا هَنَاءَ إِلَّا بَعْدَ عَنَاءٍ، وَلَا نُورَ إِلَّا بَعْدَ ظُلْمَةٍ»؟

«وَهَلْ نَسِيتَ قَوْلَهُمْ: إِنَّ مَا تَزْرَعُهُ إِيَّاهُ تَحْصُدُ، أَوْ: مَنْ يَزْرَع الشَّوْكَ لَا يَحْصُدُ بِهِ الْعِنَبَا»؟

ثُمَّ تَرَكَتْهُ وَطَارَتْ …

١  طائر على قدر الحمامة، كثير الصياح والوَقْوَقَةِ، اسمه بالإنكليزية Cuckoo وبالفرنسية Coucou وباللاتينية Cuculus، وقد كَثُرَ الخلط في اسمه العربي، فذكروا أنه «كوكو، وقوقَل، وكَكَم، وكَنكَر، ووقوق، ووقواق، وقبقوبة» وهذا الأخير اسم الجنس، ويُطْلَق على الذكر والأنثى، والمعروف عنه أنه لا يحضن بيضه، بل يلقيه خلسة في عش طائر آخر، فإذا خرجت فراخه من البيض زَقَّها صاحب العش إلى أن تطير.
٢  بكى مع رفع الصوت.
٣  ما أمرك؟
٤  على ماذا؟
٥  شبَّ الغلام: أي صار فتيًّا.
٦  نحَّاها بأصبعه.
٧  أطعمها بمنقاره.
٨  الجوزل: فرخ الحمام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤