ودخلت سنة ثلاث وعشرين وماية وألف

واستهل المحرم بيوم الخميس الموافق لرابع عشر أمشير القبطي، وسابع شباط الرومي، وفي ذلك اليوم انتقلت الشمس لبرج الحوت، وفيه نزل إسماعيل بك بموكب، وشق في وسط القاهرة إلى بولاق، وسافر بالعسكر في منتصف المحرم.

وفي يوم الجمعة سادس عشره، اجتمع طايفة مصطفى كتخدا القازدغلي، ومعه من أعيان الانكشارية خمسة عشر نفرًا، واتفقوا أنهم لا يرضون إفرنج أحمد باش أوده باشه، فإما يلبس الضلمة، أو يكون جربجيًّا في الوجاق، وإن لم يرضَ بأحد الأمرين يخرج المذكورون من الوجاق ويذهبوا إلى أي وجاق شاوا، وكان الاجتماع بباب العزب، وساعدهم على ذلك أرباب البلكات الستة، وصمموا أيضًا على رجوع الثمانية أنفار الذين كانوا أخرجوهم من باب الينكجرية، ومشت الصناجق بينهم والاختيارية، وصاروا يجتمعون تارة بمنزل قيطاس بك الدفتردار، وتارة بمنزل إبراهيم بك أمير الحاج سابقًا. ثم أجمع رأي الجميع على نقل الثمانية أنفار المذكورين، ومن انضم إليهم من الوجاقات إلى باب العزب، وأن يخرجوا أنفارًا كثيرة من مصر منفيين، منهم ثلاثة من الكتخداية وعشرة من الجربجية والباقي ممن الينكجرية، وعرضوا في شأن ذلك للباشا.

فاتفق الأمر على أن من كان منهم مكتوبًا لسفر الموسقو فليذهب مع المسافرين، ومن لم يكن مكتوبًا فيعطي عرضه، ويذهب إلى باب العزب، وحضر كاتب العزب والينكجرية في المقابلة، وأخرجوا من كان اسمه في السفر، وما عداهم أعطوهم عرضهم، وتفرقوا عن ذلك، ووقع الحث على سفر من خرج اسمه في المسافرين، وعدم إقامتهم بمصر، وأن يلحقوا بالمسافرين بثغر الإسكندرية.

وفي ثالث عشر صفر. قدم ركب الحاج صحبة أمير الحاج إيواز بك، وفيه اجتمع حسن جاويش القازدغلي الذي كان سردار القطار، والأمير سليمان جربجي تابع القازدغلي سردار الصرة، وإبراهيم جربجي سردار جداوي، وطلبوا عرضهم من باب مستحفظان، فذهب إليهم اختيارية بابهم واستعطفوهم، فلم يوافقوهم، ثم طلب موسى جوربجي تابع ابن الأمير إيواز أن يخرج أيضًا من الوجاق، وينقلوا اسمه من الجملية، فلم يوافقه رضوان أغا. فذهب موسى جربجي إلى إبراهيم بك، وإيواز بك، وقيطاس بك، وسألهم أن يتشفعوا له في ذلك، فلم يوافق رضوان أغا.

فاتفق رأيهم أن يعرضوا للباشا بأن يعزل رضوان أغا المذكور، ويتولى علي أغاة الينكجرية سابقًا، وأن يعزل سليمان كتخدا الجاويشية ويولي عوضه إسماعيل أغا تابع إبراهيم بك، فامتنع الباشا من ذلك، وكانت اختيارية الجملية توافقوا مع الأمرا الصناجق على عزل رضوان أغا، فلما رأوا امتناع الباشا، أخذوا الصندوق من منزل رضوان أغا، واجتمعوا بمنزل جاويش، واجتمع أهل كل وجاق ببابهم، واستمروا على ذلك أيامًا، وأما الينكجرية الذين انتقلوا إلى العزب فإنهم اجتمعوا بباب العزب، وقطعوا الطريق الموصلة إلى القلعة، ومنعوا من يريد الطلوع إلى باب الينكجرية من العسكر والأتباع، ولم يبقَ في الطريق الموصلة إلى القلعة إلا باب المطبخ. ثم توجهوا للسواقي لأجل منع الماء عن القلعة. فمنعهم العسكر من الوصول إليها، فكسروا خشب السواقي التي بعرب اليسار، وقطعوا الأحبال والقواديس، ثم إن نفرًا من أنفار الينكجرية أراد الطلوع من طريق المحجر فضربوه وشجوا رأسه ومنعوه، فمضى من طريق الجبل، ودخل في باب المطبخ واجتمع بإفرنج أحمد، وبقية الينكجرية وعرفهم حاله، فأخذه جماعة منهم، وعرضوا أمره على خليل باشا وقاضي العسكر، فقالوا: هؤلاء صاروا بغاة خارجين عن الطاعة حيث فعلوا ذلك، ومنعونا الماء والزاد، وأخافوا الناس وسلبوهم، فقد جاز لنا قتالهم ومحاربتهم، وذلك سابع عشر صفر. ثم إن أحمد أوده باشه استأذن الباشا في محاربة باب العزب وضربهم بالمدافع والمكاحل، فأذن له في ذلك، ومن ذلك الوقت تعوق القاضي عن النزول من الميدان وأخافوه، واستمر مع الباشا إلى انقضاء الفتنة مدة سبعين يومًا.

ورجع إفرنج أحمد، وشرع في المحاربة، وضرب على باب العزب بالمدافع، وذلك من بعد الزوال إلى بعد العشا، وقتل من طائفة العزب أربعة أنفار بالمحجر.

ثم في صبيحة ذلك اليوم اجتمع من الأمرا الصناجق الأمير إيواز بك أمير الحاج، والأمير إبراهيم أبو شنب، وقانصوه بك، ومحمود بك، ومحمد بك تابع قيطاس بك الدفتردار، واتفقوا على أن يلبسوا آلة الحرب، ويذهبوا إلى الرميلة معونة للعزب على الينكجرية، فأخبروا أن أيوب بك ركَّب مدافع على طريق المارين على منزله، وعلى قلعة الكبش، وربما إذا طلعوا إلى الرميلة يذهب أيوب بك وينهب منازلهم، فامتنعوا من الركوب، وجلسوا في منازلهم بسلاحهم خوفًا من طارق.

واستمر إفرنج أحمد يحارب ثلاثة أيام بلياليها، واجتمع على رضوان أغا مع طايفة من نفره، وتذاكروا على من كان سببًا لإثارة الفتنة، فقالوا: سليم جربجي، ومحمد أفندي بن طلق، ويوسف أفندي، وأحمد جوربجي توالى. فقالوا: لا نرضى هؤلاء الأربعة بعد اليوم أن يكونوا اختيارية علينا.

ثم ركبوا وتوجهوا إلى منزل قيطاس بك، وأرسلوا من كل بلك اثنين من الاختيارية إلى منزل أيوب بك يطلبون رضوان أغا. فأركبوه في موكب عظيم، وكتبوا تذاكر للأربعة الاختيارية المذكورين بأن يلزمون بيوتهم، ولا يركبون لأحد، ولا يجتمع بهم أحد. ثم ركب رضوان أغا إلى منزل أيوب بك، وتذاكروا في الصلح، وكتبوا تذكرة لأحمد أوده باشه بإبطال الحرب فأبى من الصلح. فكتبوا عرضًا إلى الباشا عن لسان الصناجق وأغوات الوجاقات الخمس برفع المحاربة. فأرسل الباشا إلى الينكجرية فامتثلوا أمره، وأبطلوا الحرب وضرب المدافع.

ثم إن الصناجق والأغوات أرسلوا يطلبون جماعة من اختيارية الينكجرية؛ ليتكلموا معهم في الصلح، فأجابوا إلى الحضور، غير أنهم تعللوا بانقطاع الطريق من العسكر المقيمين بالمحجر، فأرسلوا إلى حسن كتخدا العزب، فأرسل إليهم من أحضرهم وخلت الطريق. فاجتمع رأي الينكجرية على إرسال حسن كتخدا سابقًا، وأحمد بن مقز كتخدا سابقًا أيضًا. فاجتمعوا بالعسكر والصناجق بمنزل إسماعيل بك، وحضر معهم جميع أهل الحل والعقد، وتشاوروا في إخماد هذه الفتنة، وأرسلوا إلى باب الينكجرية. فقالوا: نحن لا نأبى الصلح بشرط أن هؤلاء الثمانية الذين كانوا سببًا لإثارة هذه الفتنة لا يكونون في باب العزب؛ بل يذهبون إلى وجاقاتهم الأصلية، ولا يقيمون فيه، وأن يسلموا الأمير حسن الإخميمي للباشا يفعل فيه رأيه. فأبى أهل باب العزب ذلك ولم يرضوه. فأرسل الأمرا الصناجق كتخداتهم إلى إفرنج أحمد، ومعهم اختيارية الوجاقات الخمسة يشفعون عنده بأن الأنفار الثمانية يرجعون — كما ذكرتم — إلى وجاقاتهم، ويُعفون من النفي ومن طلب الأمير حسن. فلم يوافق إفرنج أحمد عَلَى ذلك، وقال: إن لم يرضوا بشرطي وإلا حاربتهم ليلًا ونهارًا إلى أن أخفي آثار ديار العزب. فتفرقوا على غير صلح.

ثم اجتمع الأمرا الصناجق والأغوات في رابع شهر ربيع بمنزل إبراهيم بك بقناطر السباع، وتذاكروا في إجراء الصلح على كل حال، وكتبوا حجة على أن من صدر منه بعد اليوم ما يخالف رضا الجماعة يكون خصم الجماعة المذكورين جميعًا، وكلموا أيوب بك أن يرسل إلى إفرنج أحمد بصورة الحال، وأن يمنع المحاربة إلى تمام الأمر المشروع. فبطل الحرب نحو خمسة عشر يومًا.

وأخذ إفرنج أحمد مدة هذه الأيام في تحصين جوانب القلعة، وعمل متاريس، ونصب مدافع، وتعبية ذخيرة وجبخانة، ملاوا الصهاريج، وحضر في أثناء ذلك محمد بك حاكم الصعيد ونزل بالبساتين، وأقام ثلاثة أيام، ودخل في اليوم الرابع ومعه السواد الأعظم من العرب والمغاربة والهوَّارة، ونزل ببيت آق بردي بالرميلة، وحارب من جامع السلطان حسن من منزل يوسف أغات الجراكسة سابقًا، فلم يظفر، وقتل من جماعته نحو ثلاثين نفرًا، وظهر عليه محمد بك المعروف بالصغير تابع قيطاس بك مع من انضم إليه من أتباع إبراهيم بك وإيواز بك ومماليكه، وكانوا تترسوا في ناحية سوق السلاح، ووضعوا المتاريس في شبابيك الجامع، وانتقل من محله وذهب إلى طولون، وتترس هناك، وهجم على طايفة العزب الذين كانوا بسبيل المؤمنين على حين غفلَة، وصحبته ذو الفقار تابع أيوب بك، فوقع بينهم مقتلة عظيمة من الفريقين، فلم يطق العزب المقاومة، فتركوا السبيل وذهبوا إلى باب العزب، وربط محمد بك جماعة من عسكره في مكانهم. ثم إن الشيخ الخليفي طلع إلى باب الينكجرية، وتكلم مع أحمد أوده باشه والاختيارية في أمر الصلح، فقام عليه إفرنج أحمد وأسمعه ما لا يليق، وأرسل إلى الطبجية، وأمرهم بضرب المدافع على حين غفلة، فانزعج الناس وقاموا وقام الشيخ الخليفى ومضى. وأما سكان باب العزب فإنهم أخذوا ما أمكنهم من أمتعتهم، وتركوا منازلهم ونزلوا المدينة، وتفرقوا في حارات القاهرة، وحصل عند الناس خوف شديد، وأغلقوا الوكايل والخانات والأسواق، ورحل غالب السكان القريبين من القلعة، مثل جهة الرميلة، والحطابة والمحجر خوفًا من هدم المنازل عليهم، وكان الأمر كما ظنوه، فإن غالبها هُدم من المدافع واحترق، والذي سلم منها حرقه عسكر طوايف الينكجرية بالنار، ولم يُصِب باب العزب شيء من ذلك ما عدا مجلس الكتخدا، فإنه انهدم منه جانبًا، وكذلك موضع الأغا لا غير.

ثم إن إفرنج أحمد توافق مع أيوب بك، وعينوا عمر أغات جراكسة، وأحمد أغا تفكجيان، ورضوان أغا جمليان، فقعدوا بمن انضم إليهم بالمدرسة بقوصون، وجامع مِرْذادة بسويقة العزى، وجامع قجماس بالدرب الأحمر؛ ليقطعوا الطريق على العزب، واختار إفرنج أحمد نحو تسعين نفرًا من الينكجرية، وأعطى كل شخص دينارًا طرلي، وأرسلهم بعد الغروب إلى الأماكن المذكورة.

فأما رضوان أغا فإنه تعلَّل واعتذر عن الركوب، وأما أحمد أغا فإنه توجه إلى المحل الذي عُين له، فتحارب مع طايفة من الصناجق والعزب في الجنابكية، وأما الذين ربطوا بجامع مرذادة فلم يأتهم أحد إلى الصباح، فأخذوا الفطور من الذاهبين به إلى باب العزب، وفي أثناء ذلك نزل رجل أوده باشه من العزب من جامع السلطان حسن يريد منزله، فَقَبضَ عليه طايفة من الأخصام وسلبوه ثيابه وتركوه بالقميص، وأرسلوه إلى إفرنج أحمد. فلما بلغ العزب ذلك أرسلوا طايفة منهم إلى المقيمين بجامع مرذادة، فدخلوا من بيت الشريف يحيي بن بركات، ونقبوا منزل عمر كتخدا مستحفظان، إذ ذاك، وما بجواره من المنازل، إلى أن وصلوا منزل مراد كتخدا، فبمجرد ما رآهم العسكر الذين بجامع مرذادة فروا، وأما عمر أغا جراكسة المقيم بجامع قجماس، فإنه وزع أتباعه جهة باب زويلة وجهة التبانة، فحصل لأهل تلك الخطة خوف شديد، خصوصًا من كان بيته بالشارع، فأرسلت العزب صالح جربجي الرزاز بجملة من عسكر العزب ومن انضم إليهم من الينكجرية الذين انقلبوا إلى العزب، كأتباع الأمير حسن باش جاويش سابقًا، والأمير حسن جاويش تابع القازدغلي، والأمير حسن جلب كتخدا، وجماعة محمد جاويش كدك، فحاربوا مع من كان بجامع قجماس، واستولى صالح جربجي عليه وعلى المتاريس التي بشبابيكه، وملك الأمير حسن جاويش تابع القازدغلي جامع المرداني، وأقام به، وحسن جاويش جلب أقام بجامع أَصْلَم، وانتشرت طوايفهم بتلك الأخطاط والأماكن، فاطمأن الساكنون بها.

وأما عمر أغاة الجراكسة فإنه لما فرّ من جامع قجماس ذهب إلى جامع المؤيد داخل باب زويلة، ثم إن محمد بك أرسل يطلبه فركب ومر أحمد على أغا التفكجية، فأركبه معه، وذهبا إلى محمد بك الصعيدي بالصليبة، وحصل لأهل خُط قوصون خوف عظيم بسبب إقامة أحمد أغا بالسليمانية، ورحل غالبهم من المنازل. فلما رحل عنهم اطمأنوا وتراجعوا، وحضرت طايفة من المتفرقة إلى محل أحمد أغا التفكجية، وعملوا متاريس على راس عطفة الحطب، ومكثوا هناك أيامًا قلايل، ثم رحلوا عنها، فأتى علي الكتخدا الساكن بالداودية بطايفة من العزب؛ فتملكوا ذلك الموضع، وجلسوا به. ثم إن طايفة من المتفرقة والإسباهية هجموا على منزل الأمير قرا إسماعيل كتخدا، فلما وصل الخبر إلى العزب عينوا له بيرقًا من عسكر العزب، وريسهم أحمد جربجي تابع ظالم علي كتخدا، فلم يمكنه الدخول من جهة الباب، فخرق صدر دكان، وتوصل منه إلى منزل إسماعيل كتخدا، ودخلوا على طايفة البغاة فوجدوهم مشغولين في نهب أثاث المنزل المذكور، فهجموا عليهم هجمة واحدة، فألقوا ما بأيديهم من السلب ورجعوا القهقرى إلى المحل الذي دخلوا منه من بيت مصطفى بك، فتبعوهم وتقاتل الفريقان إلى أن كانت الدائرة على المتفرقة والإسباهية، ونهب العزب منزل مصطفى بك؛ لكونه مكّن البغاة من الدخول إلى منزله، ولكونه كان مصادقًا لأيوب بك.

ثم إن أحمد جربجي المذكور انتقل بمن معه من العسكر إلى قوصون، ودخل جامع الماس وتحصن به، وكان محمد بك حاكم جرجا يمر من هناك ويمضي إلى الصليبة، فانتهز أحمد جربجي فرصة وهو أنه وجد منزل حسين كتخدا الجزايرلي خاليًا، فدخل فيه فرأى داخله قصرًا متصلًا بمنزل محمد كتخدا عزبان، المعروف بالبيرقدار، يعلو دهليز منزله، وطبقاته تشرف على الشارع، فمكث فيه هو وطايفة ممن معه؛ ليغتال محمد بك إذا مرّ به، وإذا بمحمد بك قد خرج من عطفة الحطب مارًّا إلى جهة الصليبة، فضربوه بالبندق، فأصيب أربعة من طايفته فقُتلوا، فظن أن الرصاص أتاه من منزل محمد كتخدا البيرقدار، فوقف على بابه وأضرم النار فيه فاحترق أكثر المنزل، ونهبوا ما فيه من أثاث ومتاع، ثم إن النار اتصلت بالأماكن المجاورة له والمواجهة فاحترقت البيوت والرباع والدكاكين التي هناك من الجهتين من جامع الماس إلى تربة المظفر يمينًا وشمالًا، وأُفسدت ما بها من الأمتعة، والذي لم يحترق نهبته البغاة، وخرجت النسا حواسر مكشفات الوجوه، فاستولى أحمد جربجي على جامع الماس، وعلي كتخدا الساكن بالداودية أقام بالمدرسة السليمانية.

وأما أطراف القاهرة وطرقها فإنها تعطلت من المارة، وعلى الخصوص طريق بولاق ومصر العتيقة والقرافة؛ لكون أيوب بك أرسل إلى حبيب الدجوى يستعين به، فحضر منهم طايفة، وكذلك أخلاط الهوارة الذين حضروا من الصعيد صحبة محمد بك فاختلطوا بالأطراف يسلبون الخلق، واستاقوا جِمال السقايين حتى كاد أهل مصر يموتون عطشًا، وصار العسكر فرقتين: إيواز بك، وقيطاس بك الدفتردار، وإبراهيم بك أمير الحاج سابقًا، ومحمد بك، وقانصوه بك، وعثمان بك ابن سليمان بك، ومحمود بك، وبلكات الإسباهية الثلاثة والجاويشية والعزب عصبة واحدة، وأيوب بك ومحمد بك الكبير وأغوات الإسباهية من غير الأنفار، ومحمد أغا متفرقة باشه وأهل بلكِّه، وسليمان أغا كتخدا الجاويشية، وبلك الينكجرية المقيمين بالقلعة صحبة إفرنج أحمد، والباشا، وقاضي العسكر، الجميع عصبة واحدة، وأخذوا عندهم نقيب الأشراف بحيلة واحتبسوه عندهم، وأغلقوا جميع أبواب القلعة ما عدا باب الجبل.

وامتنع الناس من النزول من القلعة والطلوع إليها إلا من الباب المذكور، واستمر إفرنج أحمد ومن معه يضربون المدافع على باب العزب ليلًا ونهارًا، وبباب العزب خلق كثيرون منتشرون حوله، وما قاربه من الحارات ورتبوا لهم جوامك تُصرف عليهم كل يوم، فلما طال الأمر اجتمع الأمراء الصناجق بجامع بشتك بدرب الجماميز، واتفقوا على عزل الباشا وإقامة قايممقام من الأمرا، فأقاموا قانصوه بك قايممقام نايبًا، وولوا أغوات البلكات وهم الإسباهية الثلاثة، فولوا على الجُملية صالح أغا، وعَلى الجراكسة مصطفى أغا، وعَلى التفكجية محمد أغا بن ذي الفقار بك، وإسماعيل أغا جعلوه كتخدا الجاويشية، وعبد الرحمن أغا متفرقة باشه، وقلدوا الزعامة للأمير حسن، الذي كان زعيمًا، وعزله الباشا بعبد الله أغا.

فلما أحكموا ذلك وبلغ الخبر طايفة الينكجرية الذين بالقلعة توجهوا إلى خليل باشا وأخبروه بالصورة، فكتب لأغوات البلكات الثلاث ومتفرقة باشه يأمرهم بمحاربة الصناجق، ومن معهم؛ لكونهم بغاة خارجين على نايب السلطان. ثم اتفق مع إفرنج أحمد على اتخاذ عسكر جديد يقال لهم: «سردن كجدي» ويعطي لكل من كتب اسمه خمسة دنانير وخمسة عتامنة، فكتبوا ثمانماية شخص، وعلى كل ماية بيرقدار، وريس يقال له: أغات السردن كجدي.

ثم إن محمد بك الصعيدي اتفق مع إفرنج أحمد بأن يهجم على طايفة العزب من طريق قراميدان، ويكسر باب العزب فاستعدوا له، وكمنوا قريبًا من الباب المذكور، فلما كان بعد العشا الأخيرة هجموا على الباب المذكور، وكان العزب أحضروا شيئًا كثيرًا من حطب القرطم وطلوه بالزيت والقار والكبريت، فلما تكامل عسكر محمد بك أوقدوا النار في ذلك الحطب فأضاء لهم قراميدان وصار كالنهار، ثم ضربوهم بالبندق ففروا، فصار كل من ظهر لهم ضربوه، فقتلوا منهم طايفة كثيرة وولوا منهزمين.

ثم إن قانصوه بك صار يكتب بيورلدات وأوامر يرسلها إلى محمد بك الصعيدي يأمره بالتوجه إلى ولايته آمنًا على نفسه وليُحصل ما عليه من الأموال السلطانية، فأرعد وأبرق.

ثم إن جماعة من العزب أخذوا حسن الوالي المُولَّى من طرف قايممقام مصر، وذهبوا وصحبتهم جماعة من أتباع الأمرا الصناجق إلى باب الوالي ليملكوه، فلما بلغ الخبر عبد الله أغا الوالي أخذ فرشه، وفرّ إلى بيت أيوب بك، وفر الأوده باشه أيضًا، فلما لم تجد العزب أحدًا في بيت الوالي توجهوا لمنزل عبد الله الوالي لينهبوه، فقام عليهم جماعة من أتباع سليمان كتخدا الجاويشية ومن بجوارهم من الجند فهزموا العزب، وقتلوا منهم رجلًا، فأقام حسن الوالي بباب قيطاس بك الدفتردار.

فلما اتسع الخرق أرسل الباشا إلى إبراهيم بك وإيواز بك وقيطاس بك يطلبهم إلى الديوان؛ ليتداعوا مع الينكجرية، فلما حضر تابع الباشا وقرأ عليهم الفرمان أجابوا بالسمع والطاعة، واعتذروا عن الطلوع بانقطاع الطرق من الينكجرية وترتيب المدافع، ولولا ذلك لتوجهنا إليه. فلما يئس الباشا منهم اتفق مع أيوب بك ومن انضم إليه من العسكر على محاربتهم.

وبرز الجميع إلى خارج البلد. فلما كان يوم الأحد ثالث ربيع الأول أرسلوا أيوب بك ومحمد بك إلى العربان؛ ليأخذوا جِمالَ السقّايين وحميرهم، ومُنع الماء عن البلد، فأخذوا جميع ما وجدوه فعزّ الماء، ووصل ثمن القربة خمسة أنصاف فضة، فأمر الأمراء الآخرون طايفة من العسكر أن يركبوا إلى جهة قصر العيني، ويستخلصوا الجمال ممن نهبهم. فتوجهوا وجلسوا بالمساطب ينتظرون من يمر عليهم بالجمال. فلما بلغ محمد بك حضورهم هناك جمع طايفة من الهوارة وهجموا عليهم وهم غير مستعدين. فاندهشوا ودافعوا عن أنفسهم ساعة ثم فروا، وتأخر عنهم جماعة لم يجدوا خيلهم لكون سُوّاسهم أخذوها وفروا، فقتلهم محمد بك وأرسل روسهم للباشا فانسرَّ سرورًا عظيمًا، وأعطى ذهبًا كثيرًا.

فلما رجع المنهزمون إلى منزل قانصوه بك وإيواظ بك، لم يسهل عليهم ذلك، واتفقوا على البروز إليهم، فركبوا في يوم الاثنين رابع عشر ربيع الثاني، وخرج الفريقان إلى جهة قصر العيني والروضة فتلاقيا وتحاربا، وتقاتلا قتالًا شديدًا تجندلت فيه الأبطال، وقُتل من الجند خاصة زيادة عن الأربعماية نفر من الفريقين خلا العربان والهوارة وغيرهم، وقصد إيواظ بك محمد بك الصعيدي، فانهزم إلى جهة المجراة فساق خلفه.

وكان الصعيدي قد أجلس أنفارًا فوق المجراة مكيدة وحذرًا، فضربوا على إيواظ بك بالرصاص ليردوه. فأصيب برصاصة في صدره فسقط عن جواده، وتفرقت جموعه، وأخذ الأخصام رأسه، وبينما القوم في المعركة إذْ ورد عليهم الخبر بموت إيواظ بك فانكسرت نفوسهم، وذهبوا في طلبه فوجدوه مقتولًا مقطوع الرأس، فحمله أتباعه ورجع القوم إلى منازلهم، ولما قطعوا رأس إيواظ بك وذهبوا بها إلى محمد بك، قال: هذه رأس من؟ قالوا: رأس قليدهم إيواظ بك. فأخذها وذهب بها عند أيوب بك ورضوان. فقال أيوب بك: هذه رأس من؟ قال: رأس قليدهم. فبكى أيوب بك وقال: حرم علينا عيش مصر. قال محمد بك: هذا رأس قليدهم وراحت عليهم. قال له أيوب بك: أنت ربيت في أين؟ أما تعلم أن إيواظ بك وراه رجال وأولاد ومال، وهذه الدعوة ليس للقاسمية فيها جناية، والآن جرى الدم فيطلبون تارهم ويصرفون مالًا ولا يكون إلا ما يريده الله.

ولما ذهبوا بالرأس إلى الباشا فرح فرحًا شديدًا، وظن تمام الأمر له ولمن معه، وأعطى ذهبًا وبقاشيش، ودفنوا إيواظ بك، وطلبوا من أيوب بك الراس، فأرسلها لهم بعد ما سلخها، فدفنوها مع جثته، ثم إن أيوب بك كتب تذْكِرة، وأرسلها إلى إبراهيم أبو شنب يعزيه في إيواظ بك، ويقول له: إن شاء الله تعالى بعد ثلاثة أيام نأخذ خاطر الباشا ويقع الصلح، وأرادوا بذلك التثبيط حتى يأخذوا من الباشا دراهم يصرفونها ويرتبوا أمرهم.

وأما ما كان من أمر أتباع إيواظ بك، فركب يوسف الجزار، وأخذ معه إسماعيل بن إيواظ بك المتوفى وأحمد كاشف، وذهبوا عند قانصوه بك، فوجدوا عنده إبراهيم بك وأحمد بك مملوكه وقيطاس بك وعثمان بك بارم ديله، ومحمد بك الصغير المعروف بقطامش جالسين وعليهم الحزن والكآبة. فلما استقر بهم الجلوس بكى قيطاس بك، فقال له يوسف الجزار: وإيش فايدة البكاء؟ دبروا أمركم. قالوا: كيف العمل؟ قال يوسف الجزار: هذه الواقعة ليس لنا فيها علاقة، أنتم فقارية في بعضكم، وإننا الآن انجرحنا، ومات واحد خلّف ألفًا، وخلّف مالًا، اعملوا صنجقًا وأمير حاج وسر عسكر، واعملوا ابن سيدي إسماعيل صنجقًا يفتح بيت أبيه وفيه البركة، وأعطوني فرمانًا مِنَ الذي جعلتموه قايممقام، وحجة من نايب الشرع الذي أقمتموه أيضًا، على أن الذي سقطت عدالته يسقط عنه حلوان البلاد، ونحن نصرف الحلوان على العسكر، والله يعطي النصر لمن يشاء من عباده.

ففعلوا ذلك وراضوا أمورهم في الثلاثة أيام، وتهيأ الفريقان للمبارزة، وخرجوا يوم السبت تاسع عشر ربيع الثاني، وكان أيوب بك حصّن منزله. فاتفق رأيهم على محاربة العسكر المجتمعة أولًا، ثم محاصرة المنزل، فخرج أيوب بك على محاصرة جامع طولون، ووقعت حروب وأمور، ثم رجعوا إلى منازلهم، فلما رأى طايفة العزب تطاول الأمر وعدم التوصل إلى القلعة، وامتناع من فيها وضرب المدافع عليهم ليلًا ونهارًا اجتمع رأيهم على أن يولوا كتخدا على الينكجرية، ويجلسوه بباب الوالي بطايفة من العسكر، وينادوا في الشوارع بأن كل من كانت له علوفة في وجاقات مستحفظان يأتي تحت البيرق بالبوابة، ومن لم يأتِ بعد ثلاثة أيام ينهب بيته. ففعلوا ذلك وعملوا حسن جاويش قريب المرحوم جلب خليل كتخدا لكونها نوبته، وألبسه قانصوه بك قايممقام قفطانًا، وركب وأمامه الوالي والبيرق والعسكر، والمنادي أمامه ينادي بما ذكر، إلى أن نزل بيت الوالي، وأحضروا الأدباشه المتولي إذ ذاك، وأجلسوه محله، وطاف البلد بطايفته، وكذلك العسكر.

وفي يوم الخميس هجمت الينكجرية من البُذْروم على باب العزب، ومعهم محمد بك الكبير وكتخدا الباشا وإفرنج أحمد، فعندما نزل أولهم من البدروم، وكان العزب قد أعدوا في الزاوية التي تحت قصر يوسف مدفعين ملآنين بالرش والفلوس الجدد فضربوا عليهم، فوقع محمد أغا سركدك والبيرقدار وأنفار منهم، فولوا منهزمين يطأ بعضهم بعضًا. فأخذت العزب روس المقتولين، فأرسلوها إلى قانصوه بك، ثم إن قايممقام والصناجق اتفقوا على تولية علي أغا مستحفظان لضبطه واهتمامه، فلما أرسلوا له أبى أن يفعل ذلك، فتغيب من منزله، فركب يوسف بك الجزار ومحمد بك الصغير وعثمان بك، في عدةَّ كبيرة، ودخلوا على منزل علي أغا فلم يجدوه، وأُخبروا بالمكان الذي هو فيه، فطلبوه، فأتى بعد امتناع وتخوف وتوجه معهم إلى قايممقام، فألبسه قفطان الأغاوية يوم الخميس رابع عشر ربيع الثاني، وعاد إلى منزله بالقفطان، يتقدمه العساكر مشاة بالسلاح والملازمون معلنين بالتكبير وبلفظ الجلالة، كما هي عادتهم في المواكب.

وفي صبيحة ذلك اليوم عين قايممقام بمعرفة حسن كتخدا مستحفظان طايفة من العسكر إلى بولاق صحبة أحمد جربجي؛ ليجلسوه في التكية وصحبته والي بولاق، وأغا من المتفرقة عوضًا عن أغات الرسالة الذي ياتي بها من جانب الباشا، فأجلسوه في منزله، ونهبوا ما وجدوه لأغات الرسالة الأولى من فرش، وأمتعة، وخيل … وغير ذلك.

وفي صبيحة يوم السبت سادس عشرينه خرج الفريقان إلى خارج القاهرة من باب قناطر السباع، واجتمعوا بالقرب من قصر العيني ومعهم المدافع وآلات الحرب، فتحارب الفريقان من ضحوة النهار إلى العصر، وقُتل من الفريقين من دنا أجله، وأيوب بك ومحمد بك بالقصر العيني، ثم تراجع الفريقان إلى داخل البلاد، وتأخرت طايفة من العزب فأتى إليهم محمد بك الصعيدي، واحتاط بهم وحاصرهم، وبلغ الخبر قانصوه بك، فأرسل إليهم يوسف بك ومحمد بك وعثمان بك، فتقاتلوا مع محمد بك الصعيدي وهزموه، وتبعوه إلى قنطرة السد، وقد كان أيوب بك داخل التكية المجاورة لقصر العيني؛ فلما رأى الحرب ركب جواده ونجا بنفسه، فبلغ يوسف بك أنه بالتكية، فقصدوه واحتاطوا بالقصر. فأخبرهم الدراويش بذهابه، فلم يصدقوهم، ونهبوا القصر العيني وأخربوه وأحرقوه، وعادوا إلى منازلهم. وفي صبيحة يوم الأحد ذهب يوسف بك الجزار، ونهب غيط إفرنج أحمد الذي بطريق بولاق، ثم اجتمعوا في محل الحرب وتحاربوا، ولم يزالوا على ذلك، وفي كل يوم يُقتل منهم ناس كثير.

وفي ثاني جماد أول اجتمع الأمرا الصناجق بمنزل قايممقام، وتنازعوا بسبب تطاول الحرب وامتداد الأيام، ثم اتفقوا على أن ينادوا في المدينة بأن من له اسم في وجاق من الوجاقات السبعة، ولم يحضر إلى بيت أغاته نُهب ماله وقُتل، وأمهلوهم ثلاثة أيام، ونودي بذلك في عصريتها، وكتب قايممقام بيورلدي إلى من في القلعة من طايفة الينكجرية والكتخدائية والجربجية والأدباشية والنفر، بأننا أمهلناكم ثلاثة أيام، فمن لم ينزل منكم بعدها ولم يمتثل نهبنا داره، وهدمناها، وقتلنا من ظفرنا به، ومن فر رفعنا اسمه من الدفتر. فتلاشى أمرهم واختفت كلمتهم.

وفي رابعة خرج الأمرا والأغوات إلى محل الحرب، وأرسلوا طايفة كبيرة من العسكر المشاة؛ لمحاصرة منزل أيوب بك، فتحارب الفرسان إلى آخر النهار، وأما الرجالة فإنهم تسلقوا من منزل إبراهيم بك، وتوصلوا إلى منزل عمر أغاة الجراكسة، فتحاربوا مع من فيه إلى أن أخلوه، ودخلوا فيه، وشرعوا ليلًا في نقب الرَّبع المبني على علوه منزل أيوب بك، فنقبوه وكمنوا فيه.

فلما كان صبيحة يوم الأحد خامس عشره، حملوا حملة واحدة على منزل أيوب بك، وضربوا البنادق فلم يجدوا من يمنعهم بل فرّ كل من فيه، وركب أيوب بك وخرج هاربًا من باب الجبل، فلم يعلم أين يتوجه؟ فملكوا منزله ونهبوه، مع كونه كان مستعدًا، ورَكَّب في أعالي منزله المدافع وفي قلعة الكبش، وأرسل له إفرنج أحمد بيرقًا وعساكر فلم يفده ذلك شيئًا، ونهبوا أيضًا منزل أحمد أغا التفكجية بعد ما قتلوه ببيت قايم مقام، ولحق من لحق بأيوب بك، وفرّ الجميع إلى جهة الشام، وفر محمد بك إلى جهة الصعيد ووقع النهب في بيوت من كان في حزبهم، ونهبوا بيت يوسف أغا ناظر الكسوة سابقًا، وبيت محمد أغات متفرقة باشه، وبيت محمد بك الكبير وأحرقوه، وبيت أحمد جربجي قونلي، وأحرقوا بيت أيوب بك وما لحقه من الربع والدكاكين.

فلما حصل ذلك، واجتمع العساكر بمنزل قايمقام بالأسلحة وآلات الحرب، وذلك سادس جمادى الأولى، وأرسلوا طايفة إلى جبل الجيوشي، فركّبوا مدافع على محل الباشا، ومدافع على قلعة المستحفظان، وأحاطوا بالقلعة من أسفل، وضربوا ستة مدافع على الباشا، ورموا بنادق فنصب الباشا بيرقًا أبيض يطلب الأمان، وفرّ من كان داخل القلعة من العسكر، فبعضهم نزل بالحبال من السور، وبعضهم خرج من باب المطبخ، فعند ذلك هجمت العساكر الخارجة على الباب، ودخلوا الديوان؛ فأرسل الباشا القاضي، ونقيب الأشراف يأخذان له أمانًا من الصناجق والعسكر، فتلقوهما، وأكرموهما، وسألوهما عن قصدهما، فقالا لهم: الباشا يقرئكم السلام، ويقول لكم، إنا كنا اغتررنا بهؤلاء الشياطين، وقد فروا، والمراد أن تُعِلمُونا بمطلوبكم فلا نخالفكم. فقالوا لهما: أعلموه أن الصناجق والأمراء والأغوات والعسكر قد اتفقوا على عزله، وأن قانصوه بك قايمقام، وأما الباشا فإنه ينزل ويسكن في المدينة إلى أن نعرض الأمر على الدولة ويأتينا جوابهم.

فأرسل القاضي نايبه إلى الباشا يعرفه عن ذلك، فأجابه بالطاعة واستأمنهم على نفسه وماله وأتباعه، وركب من ساعته في خواصه ويَقْدُمُه قايمقام، وأغات مستحفظان عن يمينه، وأغات المتفرقة عن شماله، واختيارية الوجاقات من خلفه وأمامه، ونزل من باب الميدان، وشق من الرميلة على الصليبة، والعامة قد اصطفت يشافهونه بالسب واللعن إلى أن دخل بيت علي أغا الخازندار بجوار جامع المظفر، وهجم العسكر على باب مستحفظان فملكوه، ونهبوا بعض أسباب حسين أغا مستحفظان.

وخرج حسين أغا من باب المطبخ، فلما رآه يوسف بك أشار إلى العسكر فقطَّعوه، وقطعوا إسماعيل أفندي بالمحجر، وكذلك عمر أغات الجراكسة بحضرة إسماعيل بن إيواظ، وخازنداره ذو الفقار الذي وقع في عرْض بَلدِيِّه علي خازندار، وحسن كتخدا الجلفي فَحمياه من القتل، وذو الفقار هذا هو الذي قتل إسماعيل بك ابن إيواظ، وصار أميرًا كما يأتي ذكر ذلك في موضعه، فقتلوه بباب العزب، ونزل إفرنج وكجك أحمد أودباشه إلى المحجر مُتنكِّرين فعرفهما الجالسون بالمحجر فقبضوا عليهما، وذهبوا بهما إلى باب العزب وقطعوا رأسيهما، وذهبوا بهما إلى بيت إيواظ بك، وطلع علي أغا إلى محل حكمه، وطلع حسن كتخدا من باب الوالي، وأمامه العساكر بالأسلحة إلى باب مستحفظان والبيرق أمامه، ونزل جاويش إلى أحمد كتخدا ببرِّ مَقْس فوجده في بيت إسماعيل كتخدا عزبان، فأخذه وطلع به إلى الباب فخنقوه وأخذوه إلى منزله في تابوت، وركب علي أغا وأمامه الملازمين بالبيرشان، فطاف البلد وأمر بتنظيف الأتربة وأحجار المتاريس وبناء النقوب، وألبس قايمقام أغوات البلكات السبع قفاطين، وطلع الذين كانوا بباب العزب من الينكجرية إلى بابهم، وعِدَّتُهم ستماية إنسان.

وفي حادي عشر جمادى الأولى لبس يوسف بك الجزار على إمارة الحاج، ومحمود بك على السويس، وعَينَ يوسف بك المذكور مصطفى أغا الجراكسة للتجريدة على الشرقية.

وفي رابع عشره لبس محمد بك الصغير على ولاية الصعيد، وخرج من بيته بموكب إلى الأثر، وصحبته الطوايف الذين عينوا معه من السبع بلكات بسردارياتهم وبيارقهم، وعِدتهم خمسماية نفر؛ مايتان من الينكجرية والعزب، وثلثماية نفر من الخمس بلكات. و أعطوا كل نفر من المايتين: ألف نصف فضة ترحيلة، ولكل شخص من الثلثماية: ألف وخمسماية نصف فضة، وسافروا رابع جمادى الآخرة، وكان محمد بك الكبير خرج مقبلًا وصحبته الهوارة، فخرج وراه يوسف بك الجزار، وعثمان بك بارم ديله، ومحمد بك قطامش، فوصلوا دير الطين فلاقاهم شيخ الترابين، فأخبرهم أنه مرّ من ناحية التبين نصف الليل، فرجعوا إلى منازلهم، وبلغهم في حال رجوعهم أن خازندار رضوان أغا تخلف عند الدراويش بالتكية، فقبضوا عليه وقطعوا دماغه، ولم يزل محمد بك الصعيدي يسير حتى وصل إخميم، وصحبته الهوارة، وقتل ما بها من الكُشاف، ونهب البلاد، وفعل أفعالًا قبيحة، ثم ذهب إلى أسيوط، فأرسل إلى قايمقام جرجه؛ ليتصرف في جميع تعلقاته، وأرسلها إليه نقودًا، ونزل مختفيًا إلى بحري، ومرَّ من إنبابة نصف الليل، ولم يزل سايرًا إلى دمياط، ونزل في مركب إفرنجي وطلع إلى حلب، ووصل خبره إلى السردار فجمع السرادرة والعسكر، ولحقوه على البرج فلم يدركونه، ثم إنه ركب من حلب وذهب إلى دار السلطنة من البر، وكان أيوب بك ومحمد أغا متفرقة وكتخدا الجاويشة سليمان أغا وحسن الوالي وصلوا قبله، وقابلوا الوزير، وأعلموه بقصتهم، وعرضوا عليه الفتوى، وعرض الباشا والقاضي فأكرمهم وأنزلهم في مكان، ورتب لهم تعيينًا، ثم أتاهم محمد بك، وقابل معهم الوزير أيضًا، فخلع عليه وولاه منصبًا، وأما رضوان أغا فإنه تخلّف ببلاد الشام، ومحمد أغا الكور صحبته.

وفي تاسع عشر ربيع الأول رجع يوسف بك ومصطفى أغا من الشرقية، وفي سابع جمادى الآخرة تقلد محمد بك ابن إسماعيل بك ابن إيواظ بك الصنجقية.

ثم إنهم اجتمعوا في بيت قايمقام، وكتبوا عرضحال بصورة ما وقع، وطلبوا إرسال باشا واليًا على مصر، وذكروا فيه: أن الخزنة تصل صحبة محمد بك الدالي، وانقضت الفتنة وما حصل بها من الوقايع التي لخصنا بعضها، وذكرناه على سبيل الاختصار.

واستمر خليل باشا بمصر حتى حضر والي باشا وحاسبوه، وسافر في ثامن عشر جمادى الأولى سنة أربع وعشرين وماية وألف، وكانت أيام فتن وحروب وشرور، كما قال الشيخ حسن الحجازي رحمه الله تعالي:

قد جاء مصَر باشة
أيامُه ليست مِلاح
ضَرَبَ مدافعًا بها
كذا رماح وصِفَاح
فقلت في تاريخه
خليل باشا في كِلاح
أي في زمان كالح
ليس به وقت انشراح
ويسأل البدري حسن
مِن رَبِّه قَمْعَ القِباح

وقال أيضًا:

قد نزلت بمصرنا
نازلةٌ على العبيدْ
فظيعةٌ شنيعةٌ
ليس عليها من مزيد
فقلت في تاريخها
خليل باشا في هَمِيد
أى في خمود وانطِفَا
وغاية المقت الشديد
ويسأل البدري حسن
من ربه قهر المريد

وله غير ذلك في خصوص هذه الحادثة منظومات أذكر بعضها في ترجمة إيواظ بك وأحمد الإفرنج وغيره.

ثم تولى على مصر والي الباشا فوصل إلى مصر، وطلع إلى القلعة في أواخر رجب سنة ثلاث وعشرين وماية وألف. ١٧١١م.

وفي شوال قلدوا أحمد بك الأعسر تابع إبراهيم بك صنجقية، وزادوه كشوفية البحيرة، وكان قانصوه بك قايمقام قبل وصول الباشا قد رسم بإخراج تجريدة إلى هوارة المفسدين، الذين أتوا إلى مصر صحبة محمد بك الصعيدي ورجعوا صحبته، وأخربوا إخميم وقتلوا الكشاف، وأمير التجريدة محمد بك قطامش وصحبته ألف عسكري، وأعطوا كل عسكري ثلاثة آلاف نصف فضة من مال البهار سنة تاريخه، وأن يكون محمد بك حاكم جرجا عن سنة ثلاثٍ وعشرين، وأربعٍ وعشرين.

وقضى أشغاله، وبرَّز خيامه إلى الآثار، ثم طلب الوجه القبلي إلى أن وصل إلى أسيوط، فقبض على كل من وجده من طرف محمد بك الصعيدي وقتله، ومنهم: حسين أدباشه ابن دقماق. ثم انتقل إلى منفلوط، وهربت طوايف الهوارة بأهلها إلى الجبل الغربي، وأتت إليه هوارة بحري صحبة الأمير حسن. فأخبروه بما وقع لهم وساروا صحبته إلى جرجا، فنزل بالصيوان، وأبرز فرمانًا قري بحضرة الجمع بإهراق دم هوارة قبلي، وأمر بالركوب عليهم إلى إسنا، وتسلط عليهم هوارة بحري، ونهبوا مواشيهم وأغنامهم ومتاعهم وطواحينهم، واشتفوا منهم، وكل من وجدوه منهم قتلوه، ولم يزل في سيره حتى وصل قنا وقوص، ثم رجع إلى جرجا.

ثم إن هوارة قبلي التجوا إلى إبراهيم أبو شنب، والتمسوا منه أن يأخذ لهم مكتوبًا من قيطاس بك بالأمان، ومكتوبًا إلى حاكم الصعيد كذلك، وفرمانا من الباشا بموجب ذلك. فأرسل إلى قيطاس بك تَذكِرة صحبة أحمد بك الأعسر يترجى عنده، فأجاب إلى ذلك، وأرسلوا به محمد كاشف كتخدا، وبرجوع التجريدة والعفو عن الهوارة، ورجع محمد كاشف والتجريدة وصحبته التقادم والهدايا، وأرسلوا إلى إبراهيم بك مركب غلال وخيول مُثْمنَة وأغنامًا.

وفي أواخر شوال ورد أغا من الدولة على يده مرسومات منها محاسبة خليل باشا، واستعجال الخزينة، وبيع بلاد من قتل في أيام الفتنة وكذلك أملاكهم.

وفي شهر رمضان قبل ذلك جلس رجل رومي واعظ يعظ الناس بجامع المؤيد، فكثر عليه الجمع وازدحم المسجد، وأكثرهم أتراك، ثم انتقل من الوعظ وذكر ما يفعله أهل مصر بضرايح الأوليا، وإيقاد الشموع والقناديل على قبور الأوليا، وتقبيل أعتابهم، وفعل ذلك كُفْرٌ يجب على الناس تركه، وعلى ولاة الأمور السعي في إبطال ذلك، وذكر أيضًا قول الشعراني في طبقاته: إن بعض الأوليا اطلع على اللوح المحفوظ، أنه لا يجوز ذلك. فلا تطلع الأنبياء فضلًا عن الأوليا على اللوح المحفوظ، وأنه لا يجوز بناء القباب على ضرايح الأوليا والتكايا ويجب هدم ذلك، وذكر أيضًا وقوف الفقراء بباب زويلة في ليالي رمضان.

فلما سمع حزبه ذلك خرجوا بعد صلاة التروايح، ووقفوا بالنبابيت والأسلحة، فهرب الذين يقفون بالباب، فقطعوا الجوخ والأكر المعلقة وهم يقولون: أين الأولياء؟ فذهب بعض الناس إلى العلما بالأزهر، وأخبروهم بقول ذلك الواعظ، وكتبوا فتوى، وأجاب عليها الشيخ أحمد النفراوي والشيخ أحمد الخليفي بأن كرامات الأوليا لا تنقطع بالموت، وأن إنكاره اطلاع الأوليا على اللوح المحفوظ لا يجوز، ويجب على الحاكم زجره عن ذلك، وأخذ بعض الناس تلك الفتوى ودفعها للواعظ، وهو في مجلس وعظه.

فلما قرأها غضب، وقال: يا أيها الناس، إن علماء بلدكم أفْتوا بخلاف ما ذكرتُ لكم، وأني أريد أن أتكلم معهم وأباحثهم في مجلس قاضي العسكر، فهل منكم من يساعدني على ذلك وينصر الحق؟

فقال له الجماعة: نحن معك لا نفارقك؛ فنزل عن الكرسي، واجتمع عليه من العامة زيادة عن ألف نفس، ومرَّ بهم من وسط القاهرة إلى أن دخل بيت القاضي قُريب العصر. فانزعج القاضي وسألهم عن مرادهم فقدموا له الفتوى، وطلبوا منه إحضار المفتَييْن والبحث معهما.

فقال القاضي: اصرفوا هؤلاء الجموع، ثم نحضرهم ونسمع دعواكم. فقالوا: ما تقول في هذه الفتوى؟ قال: هى باطلة. فطلبوا منه أن يكتب لهم حجة ببطلانها. فقال: إن الوقت قد ضاق، والشهود ذهبوا إلى منازلهم، وخرج الترجمان، فقال لهم ذلك، فضربوه واختفى القاضي بحريمه. فما وسع النايب إلا أنه كتب لهم حجة حسب مرادهم. ثم اجتمع الناس في يوم الثلاثاء عشرينه وقت الظهر بالمؤيد لسماع الوعظ على عادتهم، فلم يحضر لهم الواعظ. فأخذوا يسألون عن المانع من حضوره، فقال بعضهم: أظن أن القاضي منعه من الوعظ. فقام رجل منهم وقال: أيها الناس، من أراد أن ينصر الحق فليقم معي! فتبعه الجمُّ الغفير، فمضى بهم إلى مجلس القاضي؛ فلما رآهم القاضي ومَن في المحكمة طارت عقولهم من الخوف، وفرَّ من بها من الشهود، ولم يبقَ إلا القاضي، فدخلوا عليه وقالوا له: أين شيخنا؟ فقال: لا أدري! فقالوا له: قم واركب معنا إلى الديوان، ونُكلم الباشا في هذا الأمر، ونسأله أن يحضر لنا أخصامنا الذين أفتوا بقتل شيخنا، ونتباحث معهم، فإن أثبتوا دعواهم نجوا من أيدينا وإلا قتلناهم.

فركب القاضي معهم مُكْرهًا، وتبعوه من خلفه وأمامِه إلى أن طلعوا إلى الديوان، فسأله الباشا عن سبب حضوره في غير وقته، فقال: انظر إلى هؤلاء الذين ملأوا الديوان والحوش فهم الذين أتوا بي، وعرَّفه عن قصتهم وما وقع منهم بالأمس واليوم، وأنهم ضربوا الترجمان، وأخذوا مني حجة قهرًا، وأتوا اليوم وأركبوني قهرًا. فأرسل الباشا إلى كتخدا الينكجرية، وكتخدا العزب، وقال لهما: اسألوا هؤلاء عن مرادهم. فقالوا: نريد إحضار النفراوي والخليفي؛ ليبحثا مع شيخنا فيما أفتيا به علينا.

فأعطاهم الباشا بيورلدي على مرادهم، ونزلوا إلى المؤيد وأتوا بالواعظ وأصعدوه إلى الكرسي، فصار يعظهم، ويحرضهم على اجتماعهم في غد بالمؤيد، ويذهبون بجمعيتهم إلى القاضي، وحضهم على الانتصار للدين وقمع الدجالين، وافترقوا على ذلك.

وأما الباشا فإنه لما أعطاهم البيورلدي أرسل بيورلديًّا إلى إبراهيم بك وقيطاس بك يعرفهم ما حصل، وما فعله العامة من سوء الأدب، وقصدهم تحريك الفتن، وتحقيرنا نحن والقاضي، وقد عزمت أنا والقاضي على السفر من البلد، فلما قرأ الأمراء ذلك لم يقر لهم قرار، وجمعوا الصناجق والأغوات ببيت الدفتردار، وأجمعوا رأيهم على أن ينظروا هذه العصبة من أي وجاق ويخرجوا من حقهم، ويُنفي ذلك الواعظ من البلد، وأمروا الأغا أن يركب، ومن رآه منهم قبض عليه، وأن يدخل جامع المؤيد، ويطرد من يسكنه من السَّفَط.

فلما كان صبيحة ذلك اليوم ركب الأغا، وأرسل الجاويشية إلى جامع المؤيد، فلم يجدوا منهم أحدًا، وجعل يفحص ويفتش على أفراد المتعصبين، فمن ظفر به أرسله إلى باب أغاته، فضربوا بعضهم، ونفوا بعضهم، وسكنت الفتنة، وفي ذلك يقول الشيخ حسن الحجازي رحمه الله:

مصرٌ قد حَلَّ بها واعظْ
عن منَهْج صدقٍ قد أعرضْ
أَبْدَي جهلًا فيها قولًا
منه الحُبْلى حالًا تُجْهِض
فأساء الظنَّ بسادات
أحكامُ الدين بهم تَنهض
إذْ قال لنا مِنْ أين لكم
خَتْم بالخير لهم يُفرض؟
وكراماتٌ لهمُ انقطعت
بالموت زيارتُهم تُرفض
وتُهَدُّ جميعُ قبابُهُمُ
ومُرتَّبهُمْ كُلًّا يُنْقَض
وعلى اللوح المحفوظِ فما
للهادي مُطَّلِعٌ يُعْرَض
وخرافاتٌ شَتى الأَلسُن
بها إن فاهت شرعًا تُقْرض
وغلا واسْتوْغَل واستعلى
وعلينا العسكر، قد حرض
وإلى القاضي ذهبوا جَهْرًا
كى يكتبَ ما فيه فَقَبَضْ
وبه نحو الباشا انطلقوا
فارتاعَ وما عنهم أعرض
ولهم أمضى ما قد طلبوا
أن يبقى الواعظُ واستنهض
في الحال صناجق والأُمرا
في قمع أولئك واسْتَحْضَض
فإذن قاموا معه صدقًا
وأزالوا كلَّ مَن اسْتَعْرض
والواعظُ فرَّ وقيل قُتل
وعليه الخزي قد اسْتَربَض
وكفانا اللهُ مُؤْنَتَهُ
وله أرِّخ عيبٌ أمْرَض
والبَدْرِي مَنْ يُسمى حسنًا
يدعو من نافق أو يَرْفُض
رمضانُ به ذا كان فلا
بَعْدان يَرْمُض مَن أبعض

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤