الفصل الثالث

في القرآن المكي

لقد كان للهجرة النبوية إلى المدينة تأثير في سيرة الإسلام وفي أسلوب القرآن ومضامينه، وقد انطبع النمط القرآني في كل من المدينتين بأسلوب خاص تبعًا للظروف الزمانية والمكانية؛ ففي مكة كان الرسول يدعو قريشًا إلى نبذ ما هي عليه من عبادات وتقاليد يأباها العقل السليم والإيمان الصحيح، ويناقشها في مزاعمها، وينكر عليها قولها بتعدد الآلهة، وإفسادها جو الكعبة والحرم الأقدس بهذه التماثيل والنُّصب، ويخوِّفها عذاب يوم شديد، ويرهبها من نتائج أعمالها وأقوالها، وينذرها بعاقبة وخيمة وبيوم حساب لم تحسب له حسابًا، ويطالبها بإنصاف المرأة والرقيق، والإحسان إلى العبد والصديق، والمساواة بين الغني والفقير في أمور الدنيا والدين.

وكان أسلوبه في هذا الحين أسلوبًا خطابيًّا ذا فقرات قصيرة، مقفاة، ذات فواصل، ومقاطع قوية. أما القرآن المدني — بعدئذٍ — فهو ذو أسلوب تفصيلي طويل الآيات، قليل الفقرات، القصيرة، خالٍ من الأسلوب الخطابي، طويل النفس في الشرح والتحليل والتعليل. ولا غرو؛ فإن الوحي قد أخذ في المدينة يفصِّل ما أجمل في مكة من أمور العبادات والمعاملات ومبادئ الحكمة والأخلاق بما أحلَّه الله وما حرَّمه. وقد كان القرآن في حجاجه مع العرب والكتابيين من يهود ونصارى مختلف الأسلوب والفكرة، يخاطب كلًّا حسب منطقه وعقله وعلمه، ويناقشه بما يدرك ويتسع له فهمه.

ويمتاز القرآن المكي — كما قلت — بأنه أسلوب خطابي، مسجوع، شديد في نطقه، وأحكامه، وتهديده، ووعيده، وهو أسلوبُ حثٍّ واستثارة ووعد وترهيب ومناقشة ومحادثة، أكثر منه أسلوب مداراة وملاطفة وتشريع وتطويل وتفصيل، كما هي الحال في القرآن المدني. وكان القرآن المكي مليئًا بحكاية أقوال المشركين ومناقشتهم في آرائهم واعتقاداتهم في الجن والملائكة والآلهة المتعددة وأحوال الأنبياء ومجادلات أممهم له. أما القرآن المدني فقد نحا فيه منحًى آخر في مناقشة الناس من موالين وكفار، ومتقين وفجَّار، ومناقشتهم ومجادلتهم. ومن يدقِّق في السور الأولى التي نزلت في مكة يجدها تنظِّم أمورًا تتعلق بالدعوة إلى الدين والوعد والوعيد اللطيف، ولكن هذا الوعيد ما لبث أن اشتد حين قويت خصومات النبي، واشتدت معاكسة المشركين — ولا سيما زعماء قريش وأغنياؤها — لدعوته كما في سورة العلق (٦–١٩): كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى * أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى * كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ.

وفي سورة القلم (٧–١٦): إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * سَنَسِمُهُ عَلَى الخُرْطُومِ.

وفي سورة المدثر (١١–٢٥): ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَا قَوْلُ البَشَرِ … فقد احتوت هذه الآيات وأمثالها بأسلوبها الخطابي وفِقَرها القصيرة، صورًا للمكذبين الذين لم تُعجبهم حركة النبي فأخذوا يناوئونه، فلم يقف أمامهم مكتوف اليدين، وإنما خاطبهم في هذا الأسلوب القوي العنيف، كما أنه في الوقت نفسه خاطب المؤمنين بألفاظٍ كلها رحمة وحنان؛ كقوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى * فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى (سورة الليل: ٥–٢١).

وفي القرآن المكي إيراد لكثير من تقاليد الجاهلية الدينية، ومن شبه زعماء قريش في الدين وسخرهم به وتهجمهم على النبي وتسفيههم والرد على ذلك؛ ففي سورة الفرقان: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا * انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (سورة الفرقان: آية ٣–٩).

كما نجد في القرآن المكي صدًى واضحًا لما كان يلقاه أكثر المسلمين من أذى المشركين، منذ ابتداء الدعوة إلى وقت الهجرة؛ أمثال آيات سورة البروج (١٠–١٤)، ومنها قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ * إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الغَفُورُ الوَدُودُ، وقال تعالى في سورة النحل (٤١-٤٢): وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. وقال تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (سورة النحل: آية ١١٠). وفي سورة الأنفال (آية ٣٠): وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ. وفي سورة الفرقان (آية ٤١-٤٢): وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولًا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا. وفي القرآن المكي كثيرٌ من الصور التي تصوِّر حزن النبي وتأثُّره من عنف هؤلاء المشركين؛ وبخاصة أهله وأقرباؤه، كقوله تعالى: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (سورة هود آية ١٢)، وقال تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ.

ومما تجدر بنا ملاحظته في القرآن المكي أن ذكر اليهود والنصارى وكتبهم المقدسة كان دومًا مشفوعًا بالإجلال لإيمانهم ولتصديق كتابهم، وقد سرد النبي في كثير من السور المكية شواهد على توافق الدين الإسلامي والنصراني، وأن القرآن ما جاء إلا تصديقًا لما سبقه من الكتب السماوية من صحف إبراهيم، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وتفصيلًا لها لا ريب فيه من رب العالمين؛ «سورة يونس» (٣٧) و«سورة الأنعام» (٩٢) و«سورة فاطر» (٣١-٣٢)، وغيرها كثير مثل قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ (سورة الشورى: آية ١٣)، وقال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا (سورة القصص: آية ٥٢–٥٤).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤