الفصل الرابع

في العبادات والمعاملات والواجبات التي شُرعت في العهد المكي

شرع الله الإسلام أركانًا خمسة؛ هي: الشهادة بتوحيده والإقرار بنبيه، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصوم، والحج.

أما الصلاة فشُرعت في مكة، ولكن كيفية إقامتها وتنظيم عدد ركعاتها وما إلى ذلك من الطقوس، فقد شُرع في المدينة، وما شُرعت الصلاة إلا للاتجاه إلى الله تعالى ورجائه والانصراف إليه، وشكره على ما أنعم. هذا ولم يرد في القرآن مكيِّه ومدنيِّه تحديد كيفية الصلاة وأوقاتها، وإنما جاءت السُّنَّة بذلك، وفي روايات جعلها خمس مرات في ليلة الإسراء في أواسط العهد المكي. وقد اشتُرط للصلاة وجوب التطهير بالوضوء والخلو من الجنابة وطهارة الثوب وصفاء النية وخلوص القلب. ويظهر أن صلاة يوم الجمعة كانت مشروعة منذ فجر الإسلام، وأن الأنصار كانوا يجمِّعون قبل هجرة النبي.

وأما الصوم فقد شُرع في السنة الثانية للهجرة، والروايات متواترة على أن النبي كان يصوم في الجاهلية والإسلام يوم عاشوراء، وأما صوم رمضان وتحديده بشهر وشرائط معلومة، فقد شُرع في السنوات الأولى من العهد المدني.

وأما الزكاة فقد شُرعت فرضيتها في مكة حين نزل قوله تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، ولكن بيان مقاديرها وحقها ومصاريفها فلم يشرَّع إلا في المدينة، وقد حدَّد النبيُّ في مكة مقادير معينة على أموال القادرين على إعطاء الفقراء، ولكن تلك المقادير لم تكسب شكلها النهائي إلا بعد الهجرة.

وأما الحج فقد شُرع في السنة السادسة للهجرة، بعد صلح الحديبية، وعلى الرغم من أن هذه الشعيرة كانت معروفة في الجاهلية، فإن الإسلام لم يفرضها على متابعيه إلا بعد قوَّتهم في العهد المدني، ولم يحتوِ القرآن المكي إلا على إشارات إلى الحرم وأمنه، وذكر البيت وقدسيته، وعلاقة إبراهيم به، وما إلى ذلك. على أن آيةً في سورة الكوثر، وهي فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، جعلت بعض الباحثين يقولون إن النبي كان يقوم ببعض المناسك الحجِّية قبل الهجرة. ومما شرعه الله للمسلمين في مكة: الإيمان بالبعث والنشور، وتقبيح الزنا والنهي عنه، وعن القتل والفساد في الأرض، والتعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان، والنهي عن الظلم والفساد، والحضُّ على التخلق بالفضائل النبيلة، والقيام بكل ما فيه إصلاح البيئة الإسلامية.

ومما شرعه الله أيضًا في مكة: وجوب طاعة النبي وأولي الأمر، والإخلاص والأمانة للدعوة الإسلامية، والتضامن والاتحاد بين أفراد المسلمين، والإحسان إلى الفقراء، والعطف على الرقيق، وعدم التبذير والإسراف والتقتير، وإيفاء الكيل والميزان، وعدم أكل مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، والتعاطف بين الناس والإحسان إلى الوالدين، وما إلى ذلك من نبيل الأخلاق وفاضلها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤