الفصل الأول

في خروج النبي من مكة واستقراره بالمدينة

قلنا في ‫[البعثة النبوية: إسلام الأوس والخزرج]‬‎: إن المسلمين بعد أن دخل الأنصار في الإسلام فعزَّ بهم، أخذوا يهاجرون إلى المدينة، ولم يبقَ فيها إلا نفر قليل جدًّا على رأسهم الرسول وأبو بكر، وإن جماعة كفار قريش قد ائتمرت بالنبي وعزمت على قتله ذات ليلة والتخلص منه، وأنها قد اتفق رأيها أن تبعث من كل قبيلة شابًّا جَلدًا، فيضربوا النبي ضربة واحدة يقتلونه بها، فيتفرَّق دمه في القبائل، ولا يقدر بنو عبد مناف على العرب جميعًا. ولكن الله أطلع نبيَّه على أمر قريش، فلما كانت العتَّمة من ذلك الليل اجتمعوا على بابه فترصَّدوه، فلما رأى ذلك قال لعلي: «نم يا عليُّ على فراشي، واتشح ببردي الحضرمي الأخضر فنَمْ فيه؛ فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه، وإن أتاك ابن أبي قحافة فقُلْ له إني توجهت إلى ثَوْر فليلحق بي، وأرسل إليَّ بطعام، واستأجر لي دليلًا يدلُّني على الطريق، واشترِ لي راحلة.»

ثم مضى رسول الله، وأعمى الله أبصار القوم عنه،١ ثم جاء أبو بكر فلحق برسول الله، وأدركه في الطريق، حتى انتهيا إلى الغار مع الصبح فدخلاه، وأصبح الرهط الذين كانوا يرصدون النبي، فدخلوا الدار، وقام إليهم عليٌّ، فقالوا له: أين صاحبك؟ فقال: لا أدري. فجُنَّ جنونهم، وذهبوا إلى الملأ من قريش فأخبروهم، فقال أبو جهل: لقد هرب، فاذهبوا وترقَّبوا أبا بكر. فوقفوا على بابه، فخرجت إليهم أسماء ابنته، فساءلوها عن أبيها، فقالت: لا أدري. فرفع أبو جهل يده ولطمها لطمة طرح منها قرطها.
وكان أبو بكر أمر ابنه عبد الله أن يسمع ما يقوله الناس في مكة ويأتيهما في الغار، وكانت أسماء تأتيهما بالطعام، فأقاما في الغار ثلاثة أيام. ثم إن قريشًا حلَّت مائة ناقة تامة لمن يدلهم عليهما. وكان عامر مولى أبي بكر يرعى غنمًا لأبي بكر مع رعيان مكة، فإذا جنَّ الليل أتاه وأخبره بخبر القوم، فلما مضت ثلاثة أيام وسكنت قريش، ارتحل الرسول وصاحبه، وأردف أبو بكر مولاه عامر بن فهيرة خلفه يخدمهما في الطريق، وكان دليلهما عبد الله بن أرقد، فمرَّ بهم على عسفان، ثم على إمج، ثم على قديد، ثم على الخرَّار، ثم على الجداجد، ثم على العَرْج، ثم على قُباء،٢ ولم يكن هذا الطريق المسلوك، وإنما هو طريق آخر أطول ولكنه آمن. ولما بلغوا قباء ظلوا بها أربعة أيام، فأسَّس الرسول مسجده هناك في بني عمرو بن عوف، ثم دخل المدينة في ١٦ ربيع الأول المصادف ﻟ ٢٠ أيلول ٦٢٢م، ونزل في دار أبي أيوب خالد بن زيد إلى أن بنى مسجده ومساكنه، وباشر البناء بنفسه في نفر من أصحابه المهاجرين والأنصار. ثم إن عليًّا لم يلبث أن لحق بالرسول بعدما ردَّ ودائع النبي التي كانت لأصحابها من أهل مكة، ولم يبقَ بمكة إلا مفتون أو محبوس بأمر قريش، وغُلِّقت كثير من الدُّور، وعدا أبو سفيان وغيره من زعماء قريش على بعض دُور المهاجرين فاغتصبوها وباعوها. وقد بلغت أنباء هذه الأعمال إلى المهاجرين، فشكوا ذلك إلى الرسول فقال: «احتسبوها عند الله.» ثم بعد أن أتمَّ الرسول بناء مسجده، شرع في تنظيم أمور المسلمين وتأسيس إدارة المدينة، وأول عمل عمله أن نشر الدين في المدينة، فلم يبقَ بيت إلا دخله الإسلام، وأصلح ذات بينهم على كثرة العداوات التي بينهم في الجاهلية، وعقد حلفًا بين المهاجرين وبين أهل المدينة من المسلمين واليهود وغيرهم من المشركين. وقد أورد لنا ابن هشام صورة ذلك الحلف، وإليك بعض فقراته:

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا كتاب من محمد النبي رسول الله بين المؤمنين المسلمين من قريش ويثرب ومَن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم؛ أنهم أمَّة واحدة من دون الناس، المهاجرين من قريش على ربعتهم — أي جميعهم — يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون على معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين … ولا يحالف مؤمنٌ مولى مؤمن دونه، وأن المؤمنين المتقين على مَن بغى منهم أو انتقى وسيعة (أي طبيعة) ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعًا، ولو كان ولد أحدهم. ولا يَقتل مؤمنٌ مؤمنًا في كافر، ولا ينتصر كافرٌ على مؤمن، وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وأن مَن يتبعنا من اليهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم. وإن سلم المؤمنين واحد، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم، وأن كل غازية غزت معنا تُعقب بعضها بعضًا، وأن المؤمنين يبيء (يرجع) بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في سبيل الله، وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدًى وأقومه، وأنه لا يجير مشرك مالًا لقريش ولا نفسًا ولا يحول دونه مؤمن، وأنه من اعتبط مؤمنًا قتلًا عن بيِّنة فإنه قود به إلى أن يرضى وليُّ المقتول، وأن المؤمنين عليه كافة، ولا يحلُّ لهم إلا قيام عليه، وأنه لا يحلُّ لمؤمن أقرَّ بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثًا ولا يؤويه، وأنه من نصره وآواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة … وأن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يهود بني عوف أمَّة مع المؤمنين؛ لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا مَن ظَلَم وأَثِم … وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد … وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا تُجَار قريش ولا مَن نصرها، وأن بينهم النصر على مَن دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين على كل أناس حصتُهم من جانبهم الذي قِبَلَهم، وأن يهود الأوس مواليَهم وأنفسَهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر الحسن …٣
وإن مَن يدقق في هذه المعاهدة يجدها تدور حول النقاط الآتية:
  • (١)

    أن الرسول يريد أن يوحِّد بين جميع سكان المدينة فيجعلهم أمة واحدة، وهذا أمر لم يكونوا يقرُّون به في الجاهلية.

  • (٢)

    أن الرابطة القوية التي تربط سكان المدينة هي الدين الحنيف.

  • (٣)

    أن لليهود من سكان المدينة وأهل ذمتها كافة الحقوق التي للمسلمين ما داموا محافظين على حقوق الذمية.

  • (٤)

    أن المسلمين أضحوا كيانًا واحدًا ذا شخصية موحدة في شئونها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذا مظهر من مظاهر الوحدة لم تعرفه العرب من قبل.

  • (٥)

    أن المعاهدة تتضمن كثيرًا من مبادئ العدل والإنصاف والمصلحة العامة، وهذه أمور لم يعرفها العرب من قبل.

بعد عقد هذه المعاهدة عمد الرسول إلى شيء آخر وثَّق به بين قلوب المسلمين؛ وهو المؤاخاة بين الصحابة من المهاجرين والأنصار، وقال: «تآخوا في الله أخوين أخوين.» ثم إنه أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: «هذا أخي.» وتآخى حمزة وزيد بن حارثة مولى رسول الله، وتآخى جعفر بن أبي طالب ومعاذ بن جبل، وتآخى أبو بكر وخارجة بن زهير. وفي كتب السيرة تفصيل هذه المؤاخات،٤ ولكن على الرغم من ذلك فقد تآخى نفرٌ من اليهود وزعماء الأوس والخزرج ممن لم يسلموا أو ممن أسلموا ونافقوا ضد النبي، وأخذوا يكيدون للإسلام ويحرجون النبي بالدسائس والأسئلة، فيكشف النبي دسائسهم، ويجيب على أسئلتهم. وكان من زعماء هؤلاء المجرمين حُيي بن أخطب وأخوه أبو ياسر، وسلام بن مشكم، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق، وغيرهم من زعماء اليهود، فآذوه بأسئلتهم، وأرادوا إحراجه وتخجيله، ولكن الله خذلهم وكسفهم … ثم إن أحد زعمائهم؛ وهو لبيد بن الأعصم، أراد أن يؤذي النبي، فسحره وجعل يتخيل أنه فعل الأمر وهو لم يفعله.٥
١  الطبري، ٢: ٢٤٤.
٢  ابن هشام، ٢: ٨٥.
٣  مجموعة الوثائق السياسية للحيدر آبادي، ١: ٧؛ والروض الأنف، ٢: ١٦–١٨.
٤  الروض الأنف، ٢: ١٨-١٩.
٥  الروض الأنف، ٢: ٢٤-٢٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤