الفصل الأول

اليهود

نزل اليهود الشام والحجاز منذ عهد بعيد، وكان لهم أثر بارز في النواحي التجارية والاجتماعية والدينية في تلك النواحي، كما كان لهم تأثير كبير في العرب قبل الإسلام للقرابة الإسماعيلية التي تجمع بينهم، وللدين الإلهي والكتاب المقدس الذي عندهم. وقد كان العرب في جاهلية وسذاجة يسترشدون بما عند أهل الكتاب من علم وحكمة، ويفيدون بما يسمعون من أقوال حكمائهم وعقلاء أحبارهم.

وكان العرب يحترمون عقلاء اليهود ويقدرونهم، ويجلُّون كبار رجالاتهم من أهل المال والدين والكهانة. وقد استغل اليهود هذا التقدير والاحترام، فسيطروا على التجارة العربية، ورسخت أقدامهم في كل ناحية من نواحي ديار العرب، وفي القرآن الكريم آثار وشواهد تؤيد هذا.

وقد كان اليهود يبشِّرون بمبعث نبيٍّ عربيٍّ، ويستفتحون به على العرب، فلما بعث الله محمدًا اطمأنت قلوب اليهود وجلَّت مكانتهم لتحقُّق نبوءتهم من جهة، ولاستشهاد النبي بهم في كثير من الأمور التي كانت قريش تعاكسه فيها. ولما دخل النبي إلى المدينة، وكانوا ذوي سلطان فيها، كتب لهم عهدًا، وحالفهم والعرب، وأمَّنهم على طقوسهم الدينية، ومعاهدهم المقدسة، وحقوقهم المشروعة، مشترطًا عليهم أن يحفظوا للجوار حقوقه، فلا يغدروا، ولا يفجروا، ولا يتجسَّسوا، ولا يعينوا عدوًّا، ولا يمدوا الأعداء، ولا يبدءوا المسلمين بأذًى. وقد رحَّب اليهود بالنبي أول مقدمه إلى المدينة، ولكن شياطينهم ومفسديهم أخذوا يتآمرون عليه ويستهزئون به، ويخذلون دعوته، وينقضون عهده الذي عاهدوه عليه، وأخذوا يلبسون الحق بالباطل. فأنزل الله سبحانه على رسوله فيما أنزل قوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ * وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (سورة البقرة: آية ٤٠–٤٢).

ويظهر أن اليهود — والنصارى أيضًا — إنما جارَوْا محمدًا أول الأمر ظنًّا منهم أنه سيجنح إليهم، ويتَّبع ملَّتهم، أو يهادنهم على الدوام، كما أشارت إلى ذلك الآية الكريمة: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ (سورة البقرة: آية ١٢٠).

ولكن الرسول لم يفعل شيئًا يحلمون به، بل أخذ يدعوهم إلى الدخول في دعوته الجديدة، فثارت ثائرتهم، وبخاصة حين سمعوا قوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (سورة المائدة: آية ١٩)، ولمَّا لم يدخلوا في دين الله ولم يأبهوا لإنذار الرسول وتبشيره، أنزل الله سبحانه فيهم آيات العتاب واللوم، والتحذير والوعيد، حيث يقول سبحانه: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (سورة البقرة: آية ٤٤).

ولعل أخطر دور قام به هؤلاء الناس هو أنهم شجعوا أهل الحجاز وغيرهم من العرب على النفاق والتظاهر بالدخول في الإسلام مع الكيد له في الباطن، وقد لقي رسول الله وصحابته من هؤلاء المنافقين — من اليهود والعرب على حد سواء — عنتًا كبيرًا، وعناءً كثيرًا، ولما ضاق ذرع النبي الكريم بهم وبفسادهم، أخذ يهددهم، ويذكر عوارهم ويبيِّن سوء مصيرهم إن هم بقوا على هذا الضلال المبين، وفي ذلك نزلت الآية: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ (سورة الأعراف: آية ١٦٧)، والآية الأخرى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ (سورة آل عمران: آية ١١٢).

ولمَّا يئس الرسول منهم وعرف أن إيمان من آمن من بينهم إن هو إلا كذب ونفاق، دعا الله سبحانه أن يكشف أمرهم ويبيِّن للناس سوء حالهم، فاستجاب له ونزلت آيات: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ * وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (سورة البقرة: آية ٧٥–٨٠). ولما رأى اليهود موقف النبي منهم أخذوا يحاجُّونه ويحاولون إثارة الشبه في قلوب المسلمين، ويزعمون أنهم وحدهم على الحق، وأن الجنة لهم وحدهم، وأن اليهودية هي دين الله الذي أوحاه إلى أبيهم إبراهيم — عليه السلام — وأن الأنبياء هم من بني إسرائيل وحدهم و… وقد فند القرآن الكريم كل هذه الأقوال الباطلة، وأبان أن اليهود قد ضلوا عن دين إبراهيم حين قالوا إن عزيرًا هو ابن الله سبحانه، وحين حرَّفوا الكتاب المقدس، وضلوا عما كان عليه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط. والحق أن إبراهيم — عليه السلام — ما كان يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين، وأن النبوة فضلٌ من الله سبحانه يمنحها من يشاء من عباده، ويخص بفضله من يشاء، وأنهم يعرفون ذلك كله، ولكنهم يكتمونه، وأن مَثَلهم في ذلك كمثل الحمار الذي لا ينتفع بما يحمل من أسفار العلم والهدى … فلما سمع اليهود تلك الأقوال طاش صوابهم، وضلَّت أحلامهم، وأخذوا يهاجمون النبي وشخصه، ويسخرون منه ومن صحابته أشد السخرية، وقوي الخصام بين الجانبين، وفي القرآن آيات كثيرة تبيِّن لنا ذلك وتردُّ على بني إسرائيل أقطع رد.

أما الأمور التي اشتد الحِجَاج حولها بين اليهود والنبي فهي: غرور اليهود بدينهم، وتبجُّحهم بأنهم وحدهم على الحق، ومن عداهم من الناس في ضلال وجهل وكفر، وأن دين الله هو دينهم وحدهم، وأن الأنبياء هم منهم لا من غيرهم، وأنهم يستنكرون تحويل القبلة عن البيت المقدَّس إلى الكعبة، وما إلى ذلك من الأمور التي جرت على خلاف ما يريدون، كبعض قضايا الحج، وشئون الكعبة، وأحوال جبريل، ومباحث الوحي …

وقد كانت لليهود دسائس فظيعة حاولت دكَّ صرح الإسلام، والتآمر على المسلمين، وقد تجلَّت هذه الدسائس على أشكال متعددة: منها إيقاعهم الفتنة بين المسلمين أنفسهم، وإلباسهم الحق بالباطل، وكتمان الحق وهم يعلمونه، وقد أشارت سورة البقرة إلى ذلك (آيات ٤١–٤٥).

ومنها التظاهر باعتناق الإسلام، وإبطان الدسِّ عليه، والكيد له والعمل سرًّا على تقويض عُرى الدين الجديد ومعاونة المنافقين من ضعفاء الدين، وتشجيعهم على أعمالهم الباطلة، وقد أشارت إلى ذلك بعض آيات سورة البقرة (اقرأ الآيات ٧٥-٧٦، و١٧٢–١٧٦)، وسورة آل عمران (اقرأ الآيات ٦٩–٧٣).

ومنها التدليس على المسلمين، واختراع الأباطيل والأكاذيب ونسبتها إلى دين الله سبحانه، وإلصاق ذلك بالمسلمين، وأنهم يصدقون بتلك الأكاذيب. وقد كذَّب القرآن ذلك كله، وأشار إليه في الآيات (٧٧–٧٨) من سورة آل عمران …

ومنها صدُّ الناس عن الدخول في الدين، ومنعهم من إعلان إيمانهم بالرسالة المحمدية، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، وقد وضَّحت ذلك آيات سورة آل عمران (٩٨–١٠٠)، وسورة التوبة (آيات ٣٢–٣٤).

ولما ضاق الرسول الكريم بهم وبدسائسهم ونقضهم العهد، نكَّل بهم، ثم أمر بإجلائهم عن المدينة المنورة وما حولها من القرى، كما رأينا تفصيل ذلك في الباب الماضي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤