الفصل الثاني

النصارى

كان في الحجاز خاصة والجزيرة العربية عامة كثيرٌ من النصارى من غير العرب أو العرب، وكانت صلتهم بالعرب من غير النصارى حسنةً في الغالب، وعلى الرغم من أن القرآن حمل عليهم لبعض مواقفهم العدائية معه واعتقاداتهم الباطلة، فإنه كثيرًا ما كان يثني عليهم لأخلاقهم الطيبة وحسن معاملتهم للمسلمين، وخلوصهم من الكيد والدس والحقد الذي يغلي في قلوب اليهود والمتهوِّدين من العرب.

إن في القرآن والأحاديث المنقولة عن النبي وعن كبار الصحابة آيات وأحاديث كثيرة تبين أحوال النصارى في عهد النبي، ويمكننا إجمالها في المواقف الآتية:

(١) موقف التحبُّب والموادعة

وبخاصة في أول أمر الدعوة الإسلامية، وحين هاجر المسلمون إلى الحبشة النصرانية، فأكرم النجاشي وفادتهم وسمع بعض آيات القرآن الحكيم واطمأنت إليها نفسه، وآمن نفرٌ من حاشيته وبطانته. ويتجلى لنا هذا الأمر في قوله تعالى من سورة المائدة (آيات ٨٢–٨٦): لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ.

(٢) موقف المناظرة والنقاش

على أن موقف التحبُّب والموادعة لم يَدُم طويلًا، فإن قسمًا من النصارى قد حادوا عن الطريق السوي، إما بالنسبة إلى النصرانية نفسها، وإما بالنسبة إلى الإسلام، فاضطر النبي إلى محاجتهم ومناقشتهم، وفي آيات سورة النساء بيان شيء من ذلك: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا * لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (سورة النساء: آيات ١٧١–١٧٣).

(٣) موقف التهجم

بعد أن وقف الإسلام موقف المناظرة والنقاش الذي رأيت، ورأى سوء طوية القوم، عمد إلى موقف جديد، وعمدوا إلى التهجم عليهم وإفساد باطلهم لبعدهم عن الدين، وروحه القويمة، واتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، قال تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (سورة التوبة: آية ٣١–٣٤).

(٤) موقف الدعوة إلى الإسلام

ولمَّا أن رأى الرسول بُعد النصارى عن الدين الحقيقي، وتخبُّطهم في مذاهبهم وناظرهم فبيَّن لهم ضلالهم، وتغييرهم للدين الإلهي السماوي، أخذ يدعوهم إلى حظيرة الإسلام، الذي يؤمن بجوهر دينهم؛ فآمن من آمن، وكفر من كفر، وإن أهم مواقف الهول في دعوة النصارى إلى الإسلام هو ما كان بينه وبين وفد نصارى نجران الذين قدموا عليه من اليمن في الربيع الأول من سني الهجرة، وكان وفدهم هذا مؤلفًا من ستين رجلًا، فيهم وجوه القوم وأحبارهم وعلماؤهم، فلما اجتمعوا بالرسول، وجرت بينه وبينهم مناظرة مطوَّلة في مولد عيسى — عليه السلام — وحقيقة صلته بالخالق سبحانه، وفي رسالته، ودعاهم الرسول إلى الإسلام فلم يجيبوه، زاعمين أنهم على الحق فيما يعتقدون؛ طلب إليهم المباهلة بأن تكون لعنة الله على الكاذب الضال من أي الجانبين، فلم يجيبوه أيضًا إلى هذا، ووادعوه وانصرفوا راجعين إلى ديارهم. وفي سورة آل عمران تفصيل هذه القصة، وإليك بعض ما ورد فيها: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (سورة آل عمران: آيات ٥٩–٦٤).

ولكن على الرغم من هذه المحاجَّة والدعوة الحكيمة، فإنهم ظلوا في عنادهم وكفرهم، ولكنهم اضطروا أن يوادعوه ويرجعوا إلى بلادهم منخذلين، على الرغم من حرص النبي على المباهلة. والدعوة إلى تنزيه عيسى بن مريم عما يعتقده النصارى فيه من الباطل؛ فما عيسى بن مريم إلا عبد الله ونبيه، آتاه الله الإنجيل فيه رحمة ونور مصدقًا لما بين يديه من التوراة وهدًى وموعظة للمتقين (راجع سورة المائدة، آية ٤٦).

وكان موقف نصارى الجزيرة العربية ونصارى الشام من الدعوة الإسلامية مختلفًا؛ فنصارى الجزيرة كانوا دمثِي الأخلاق ليِّنِي الجانب، أما نصارى الشام فقد كانوا عنيفين في خصوماتهم شديدين في تهجُّمهم، حتى إنهم قتلوا بعض رسل النبي ودعاته، فاضطر إلى أن يغزوهم أو يبعث إليهم بعض السرايا المقاتلة، كسرية دومة الجندل وغزوة مؤتة اللتين فصَّلنا أمرهما فيما سلف. وقد أشرنا إلى ما لقي المسلمون فيهما من عنف نصارى الشام، وقد نزلت آيات كريمة تحض النبي على مقاتلتهم، كقوله تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (سورة التوبة: الآيتان ٢٩ و٣٤).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤