الفصل الثالث

المنافقون

النفاق هو أن يُظهر الإنسان خلاف ما يبطن، وقد استُعملت هذه اللفظة في الآيات المكية كما في آيات سورة الحج (١١–١٣) و(سورة العنكبوت ١١–١٣) … وهذا يدل على أن المنافقين كانوا موجودين منذ العهد المكي، ولكنهم لم يكثروا إلا بعد أن هاجر النبي إلى المدينة وقوي أمره، فاضطر بعض الناس إلى إظهار الإسلام وإبطان غيره؛ إما لضعف نفوسهم أو لسوء طويتهم، وإما للعمل على تهديم الدين وإدخال القلق والاضطراب إلى نفوس أصحابه، وإما حسدًا للنبي وكبار رجال دعوته. ولم يكن الرسول وكبار صحابته يجهلون أمر هؤلاء المنافقين، بل إن بعض مواقفهم كانت تُكشَف للملأ، وفي القرآن الكريم والسور المدنية بصورة خاصة تفصيل أخبارهم وكشف لعوارهم. وقد كان لهؤلاء المنافقين مواقف أتعبت النبي وآذت الإسلام، وخصوصًا في السنوات الأولى من الدعوة الإسلامية في مكة، والسنوات الأولى في المدينة بعد الهجرة. وقد تعاون هؤلاء المنافقون مع المشركين من أهل مكة وأهل المدينة، وتربصوا الدوائر بالنبي وصحابته، وكادوا لهم الشر كيدًا، ودسوا عليهم أقبح الدسائس.

ويمكننا إجمال ما ورد عن المنافقين في القرآن والسنة بالنقاط الأربع الآتية:

(١) أحوالهم وصفاتهم

وصفهم القرآن بأنهم قوم في قلوبهم مرض، أضلهم الله فكفروا بقلوبهم وإن أظهرت ألسنتهم الإسلام: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (البقرة ٨–١٣)، ويقول تعالى عنهم: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (سورة النساء: ١٤٢-١٤٣).

وقد كان الرسول يعرفهم وينظر إليهم نظرته إلى الكافرين، وهم أنفسهم ما كانوا يخفون ذلك؛ فإن أعمالهم في التخلف في الجهاد مع المسلمين، وفي نصرة الضعفاء والإحسان إلى من يستحقون الإحسان، وامتناعهم عن أداء شعائر الإسلام، لتكشف عنهم.

(٢) إضرارهم بالإسلام وأهله

في القرآن والسنة كثيرٌ مما قام به المنافقون، فإنهم لم يتورعوا عن القيام بأفظع الإجرام والإساءة إلى المسلمين، وكانوا إذا ما عوتِبوا على ذلك اعتبروا ذلك إهانة لهم، فإذا انكشفت حقيقة إجرامهم اعتذروا بالجهل، وإذا لم تنكشف اتخذوا ذلك وسيلة إلى الإيغال في الفساد ونشر الرعب والفتنة بين صفوف المسلمين، وسعوا في الأرض فسادًا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (البقرة ٢٠٤–٢٠٦)، وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (التوبة ٥٦-٥٧).

وقد كان لتخلُّفهم عن نصرة إخوانهم المسلمين الذاهبين إلى جهاد العدو يوم تبوك ومؤتة والأحزاب أثرٌ كبير في بلبلة أفكارهم وإثارة الرعب في قلوبهم، ولكن الله ردَّ كيدهم في نحورهم وأعزَّ جنده وهزم الباطل وحده.

(٣) استهزاؤهم بالإسلام وأهله

أكثرَ المنافقون من الكيد للإسلام والنبي والمسلمين في الخفاء، واستهزءوا بالإسلام ونبيه في العلن، واتهموا النبي تهمًا باطلة؛ فزعموا أنه محابٍ في توزيعه الصدقات، كما اتهموا زوجات النبي تهمًا لا أصل لها، ونشروا الشوائع الباطلة عن المسلمين، وأرجفوا في حق أهل البيت وكبار رجال الإسلام وهم برآء: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (التوبة: ٥٨)، وإِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا * لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (الأحزاب: ٥٧–٦١)، والَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (التوبة: ٧٩).

(٤) تثبيطهم عزائم المسلمين عن الجهاد

ورد في القرآن الكريم وأخبار السيرة النبوية أن لهؤلاء المنافقين مواقف كثيرة في تثبيط عزائم المسلمين وتخويفهم من الذهاب لقتال العدو: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا (آل عمران: ١٥٦)، الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (آل عمران: ١٦٨)، ووَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولًا * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا * يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (الأحزاب: ١٢–٢٠).

وقد نجح هؤلاء المنافقون في إدخال الرعب إلى قلوب المؤمنين يوم الأحزاب كما قدمنا ذلك، وقد تعرَّض المؤمنون في هذه الغزوة لأذًى شديد، وكاد أن يتضعضع الإسلام لولا ثبات النبي وبعض صحابته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤