في التراتيب الإدارية
والحق أن السيد الكتاني قد بذل جهودًا جبارة وطالع مئات المؤلفات من مطبوع ومخطوط في الفحص عن حكومة عهد النبي وتراتيبه الإدارية، وقد أوفقه الله إلى العثور على الكتاب النفيس المسمَّى «تخريج الدلالات السمعية على ما كان في عهد رسول الله ﷺ من الحرف والصنائع والعمالات الشرعية» لأبي الحسن علي بن محمد بن أحمد بن موسى بن أبي غفرة الخزاعي (٧١٠–٧٨٩)، فقرأه واستدرك عليه وشرحه ونشره في مجلدين ضخمين بعنوان «التراتيب الإدارية». ولا شيء يؤخذ على كتاب الكتاني سوى سوء ترتيبه واضطراب بحوثه وضعف تأليفه، فإن المؤلف الجليل على الرغم من الجهد لم يستطِع أن يرتب كتابه ترتيبًا علميًّا حديثًا يفيد منه كل من يريد الاطلاع على حكومة النبي وأصول نظمه الإدارية، ولكنه جهد عظيم وعمل نافع جزى الله صاحبه عن الإسلام والعروبة خيرًا.
ونحن إذا رحنا ندرس شئون التراتيب الإدارية التي كانت في عهد حكومة النبي ﷺ، نجدها تنحصر في الشئون الآتية:
(١) الشئون الدينية
كان الرسول ﷺ هو المشرف الأعظم على كافة مرافق الدولة الإسلامية وبخاصة الشئون الدينية، فهو المرجع الأول للمسلمين، وهو الموجِّه للدولة، وهو المشرِّع للمسلمين، فإمامة الصلاة وأذانها وتوقيتها وإمارة الحج وحجابة البيت والسقاية وتولِّي أمور الزكاة وصدقات الصوم؛ كان الرسول يشرف عليها بنفسه، أو يعهد إلى من يراه كفئًا للقيام بها.
(١-١) إِمامة الصلاة
هي من حقوق النبي، وقد كان يقوم بها بنفسه إلا في حال مرضه أو غيبته، فكان يأذن أن يتولاها غيره، وكان الرسول إذا بعث أميرًا في سرية أو فتح جعل إليه الصلاة، ولما مرِض مرَض موته فوَّض الصلاة لأبي بكر، فصلاها طول مدة مرضه إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، ﷺ.
(١-٢) مؤذن الصلاة
(١-٣) مَوقِت الصلاة
أمر النبي ﷺ بلالًا بحفظ أوقات الصلاة؛ ففي «الموطأ» عن سعيد بن المسيب أن رسول الله ﷺ حين قفل من خيبر أسرى، حتى إذا كان من آخر الليل عرَّس وقال لبلال: اكلأ لنا الصبح. ونام رسول الله وكلأ بلال.
(١-٤) أمير الحج
أول من قام للمسلمين بأمور الحج عتاب بن أسيد سنة ثمانٍ للهجرة حين ولَّاه النبي على مكَّة بعد فتحها، وكان عمره إذ ذاك عشرين سنة. أسلم يوم الفتح فولَّاه النبي ﷺ عليها لما سار إلى حنين، وفي سنة تسعٍ حجَّ بالناس أبو بكر، وفي السنة العاشرة حجَّ النبي وخطب خطبة الوداع.
(١-٥) حجابة البيت الحرام
هذه إحدى الوظائف في عهد الجاهلية، وكان يتولاها عثمان بن أبي طلحة وشيبة بن عثمان قبيل الفتح، فلما فتح الرسول مكة دفع إليهما مفتاح الكعبة ثاني يوم الفتح بعد أن طلبه العباس وعلي، فقال لعثمان وشيبة: إنها لكما خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم.
(١-٦) سقاية البيت الحرام
(١-٧) المساجد ووظائفها وما يتعلق بها
(١-٨) صاحب الصلاة
(١-٩) مرتِّب صفوف المصلين
(٢) الشئون السياسية
ومن أعمال النبي السياسية في تلك الفترة جوابه على كتاب جاءه من أبي سفيان يقول له فيه: «أما بعد، فإنك قد قتلت أبطالنا، وأيتمت أطفالنا، ورمَّلت نساءنا، والآن قد اجتمعت القبائل والعشائر يطلبون قتالك وقلع آثارك، وقد أنفذنا إليك نريد منك نصف نخل المدينة؛ فإن أجبتنا إلى ذلك، وإلا أبشر بخرب الديار وقلع الآثار.»
بسم الله الرحمن الرحيم، وصل كتاب أهل الشرك والنفاق والكفر والشقاق، وفهمت مقالكم، فوالله ما لكم عندي جواب إلا أطراف الرماح وأشفار الصفاح، فارجعوا — ويلكم — عن عبادة الأصنام، وأبشروا بضرب الحسام وبفلق الهام وخراب الديار وقلع الآثار، والسلام على من اتبع الهدى.
ونحن نرى من رسالة أبي سفيان سوء أدبه وضيق عطنه، كما نستشفُّ منه اضطراب وضع مكة وأهلها حتى لجأ أبو سفيان إلى تلك العبارات الشديدة ليخيف النبي ويهدده ثم يوعده، وكان من أحزم الحزم ومن السياسة الرشيدة والكياسة الحميدة أن يجيبه النبي بما أجابه من القوة، وأن الجواب ما سيراه لا ما سيسمعه، فإن القول والقلم لا يغنيان في موضع السيف والحسام.
ومن سياسات النبي الحكيمة أيضًا: ما رواه ابن هشام والطبري من مراوضة لغطفان حتى تخذل قريشًا أثناء غزوة الخندق، وقد أشرنا إلى ذلك في كلامنا عن تلك الغزوة حين أقام المسلمون والمشركون كل جانب يتربص بصاحبه، حتى ضاق أمر الرسول وصحابته وقريش وأحلافها من غطفان وأحلافهم، وقد فكَّر الرسول مليًّا في الأمر، فلم يرَ سياسة أحكم من أن يفلَّ صفوف قريش ويحتال عليها بعد أن أتى البلاء على الناس في المدينة، فإنه — عليه الصلاة والسلام — كتب إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف زعيمَي غطفان يعدهما بإعطائهما ثلث ثمار المدينة وأموالها على أن يرجفا عنه بمن معهما، وجرى بينه وبينهما الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم يوقَّع ولم يشهد عليه إلا المراوضة — المداراة والمداورة — حتى مكَّنه الله وخذل قريشًا وفرَّق جموعها.
وهذه المعاهدة تدل على أن الرسول ﷺ إنما هادن القوم وقَبِل بما تضمنه بعض بنودها من القسوة على المسلمين؛ لأنه رأى أن الكفة راجحة وقتئذٍ مع قريش، فجاراهم ليأمن على أموال المسلمين ودمائهم. ونحن إذا دققنا في رسائله السياسية التي بعث بها إلى الملوك والأمراء والتي سنراها بعد، نطلع على جانب من السياسة العملية التي سلكها النبي الكريم في خارج الجزيرة العربية بعد أن استقرت له الأمور في بلاد العرب.
ومن مظاهر سياسة النبي الكريم اعتناؤه ببعض الشئون التي تتعلق بالسياسة، كأعمال التوثيق والمعاهدات والمبايعات وانتقاء السفراء ورسل الصلح أو الرسل عامة، والتراجمة … وما إلى ذلك من شئون السياسة، مما سنبينه بعد!
(٢-١) التوثيق … والمبايعة
والمبايعة والتعاقد والتحالف أمور كانت تعرفها العرب في الجاهلية، وكان لهم أصول وقواعد يتبعونها في تحالفهم، فلما جاء الإسلام ودعا الرسولُ الكريم العربَ إلى الدخول في دين الله، كوَّن دولة وحَّدت متفرقي العرب، ونظمت شملهم، وسعت إلى خلق كيان سياسي لهم لا يقل عن كيان الدول القوية المعروفة وقتئذٍ في بلاد فارس والروم والأحباش. وقد عقد النبي الكريم مبايعات وعقودًا من رؤساء القبائل العربية حفظ لنا التاريخُ بعض نصوصها، وقد مر بنا بعض ذلك. كما يروى أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كان عنده ملء صندوق فيه نسخ العهود والمواثيق التي عقدها النبي وأبو بكر، ولكنها احترقت لما احترق الديوان يوم الجماجم سنة ٨٢ للهجرة، ولم يبقَ من تلك الوثائق إلا قليل جدًّا.
(٢-٢) السفارة
ومن سفراء الرسول الذين بعثهم إلى ملوك عصره وأمرائه: دحية بن خليفة الكلبي (–٤٥) وكان عاقلًا لبيبًا جميل الصورة بعثه إلى قيصر، فلما دخل عليه قال له: يا قيصر، أرسلني من هو خير منك، والذي أرسله هو خير منه ومنك، فاسمع بذُلٍّ ثم أجب بنصح، فإنك إن لم تذلل لم تفهم، وإن لم تنصح لم تنصف. قال: هات. قال: هل تعلم أكان المسيح يصلي؟ قال: نعم. قال: فإني أدعوك إلى من كان المسيح يصلي له، وأدعوك إلى من دبر خلق السماوات والأرض والمسيح في بطن أمه، وأدعوك إلى هذا النبي الأمي الذي بشر به موسى، وبشر به عيسى بن مريم، وعندك من ذلك أثارة من علم تكفي عن العيان، وتشفي من الخبر، فإن أجبت كانت لك الدنيا والآخرة، وإلا ذهبت عنك الآخرة وشوركت في الدنيا، واعلم أن لك ربًّا يقصم الجبابرة ويغير النعم.
فأخذ القيصر الكتاب ووضعه على عينيه ورأسه وقبَّله، ثم قال: أما والله ما تركت كتابًا إلا وقرأته، ولا عالمًا إلا وسألته، فما رأيت إلا خيرًا، فأمهلني حتى أنظر من كان المسيح يصلي له، فإني أكره أن أجيبك اليوم بأمر أرى غدًا ما هو أحسن فأرجع عنه فيضرني ذلك ولا ينفع، أقم حتى أنظر. فلم يلبث أن أتاه وفاة النبي ﷺ.
ومما قاله دحية حين قدومه على القيصر:
حاطب بن أبي بلتعة اللخمي (–٣٠ﻫ)
كان من فرسان قريش وشعرائها ورماتها وتجَّارها، بعثه الرسول إلى المقوقس جريج بن ميناء ملك مصر بكتابه إليه، فلما قدم عليه قال له: إنه قد كان رجل قبلك يزعم أنه الرب الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، فانتقم به ثم انتقم منه، فاعتبِرْ بغيرك ولا يعتبر غيرك بك. فقال له: هات. قال: إن لك دينًا لن تدعه إلا لما هو خير منه؛ وهو الإسلام … فقال المقوقس: إني قد نظرت في أمر هذا النبي فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى إلا عن مرغوب عنه، ولم أجده بالساحر الضال ولا الكاهن الكاذب … وسأنظر.
والعلاء بن عبد الله الحضرمي (–٢١ﻫ)
وعمرو بن العاص السهمي (–٤٣ﻫ)
شجاع بن وهب (وهبه) بن ربيعة الغنمي (–١٢ﻫ)
وكان من العقلاء الشجعان النبلاء، بعثه النبي ﷺ إلى جبلة بن الأيهم بن الحارث بن أبي شمر الغساني بغوطة دمشق، فقال له: يا جبلة، إن قومك نقلوا هذا النبي من داره إلى دارهم — يعني الأنصار — فآووه ومنعوه، وإن هذا الدين الذي أنت عليه ليس بدين آبائك، ولكنك ملكت الشام وجاورت بها الروم، ولو جاورت كسرى دِنت بدين الفرس لملك العراق، وقد أقر بهذا النبي الأمي من أهل دينك مَن إن فضلناه عليك لم يغضبك، وإن فضلناك عليه لم يرضِك. فإن أسلمت أطاعتك الشام وهابتك الروم، وإن لم يفعلوا كانت لهم الدنيا ولك الآخرة، وكنت قد استبدلت المساجد بالبيع، والأذان بالناقوس، والجُمَع بالشعانين، والقبلة بالصليب، وكان ما عند الله خير وأبقى.
المهاجر بن أبي أمية المخزومي (–؟)
وكان من عقلاء العرب ودهاتهم وشجعانهم وتجَّارهم. بعثه إلى الحارث بن عبد كلال الحميري ملك اليمن، فلما قدم عليه قال له: يا حارث، إنك كنت أول من عرض عليه النبي ﷺ نفسه فخطئت عنه، وأنت أعظم الملوك قدرًا، فإذا نظرت في غلبة الملوك فانظر في غالب الملوك، وإذا سرَّك يومك فخَفْ غدك، وقد كان قبلك ملوك ذهبت آثارها وبقيت أخبارها، عاشوا طويلًا وأمَّلوا بعيدًا وتزودوا قليلًا، منهم من أدركه الموت، ومنهم من أكلته النقم، وإني أدعوك إلى الرب الذي إن أردتَ الهدى لم يمنعك، وإن أرادك لم يمنعه منك، وأدعوك إلى النبي الأمي الذي ليس له شيء أحسن مما يأمر به، ولا أقبح مما ينهى عنه. واعلم أن لك ربًّا يميت الحي ويحيي الميت، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
- عبد الله بن حذافة السهمي: بعثه إلى كسرى ملك الفرس.
- وعمرو بن أمية الضمري: بعثه إلى النجاشي.
- وسليط بن عمرو السليطي: بعثه إلى ثمامة بن أثال ملك اليمامة.
- شجاع الأسدي: بعثه إلى الحارث الغساني ملك البلقاء.
(٢-٣) الرسالة
(٢-٤) الترجمة
ومهما يكن من شيء، فإن الرسول اهتمَّ بهذه الناحية لحاجته الشديدة إلى الكتابة باللغات الأجنبية، ولا شك في أنه كان يستعين ببعض صحابته من أرباب تلك اللغات؛ كصهيب الرومي وبلال الحبشي وسلمان الفارسي، وأنه أمر بعض الشبان من أذكياء الصحابة أن يتعلَّموا بعض اللغات الأجنبية التي لم يكن بين الصحابة من يعرفها أو يُحسن الكتابة بها؛ كالعربية أو السريانية.
(٣) الشئون الديوانية الإدارية
والحق أن الناس قد ظلموا التاريخ العربي والسيرة النبوية بكتاباتهم المرتجلة وبحوثهم المبتسرة، التي لم تَقُم على البحث المتواصل والجد والتنقيب عن الحقائق العلمية والتاريخية؛ لتعرف أصول الإدارة الديوانية والإدارية في حكومة النبي الكريم وصحابته الراشدين. وقد آليتُ على نفسي تقصِّي هذا البحث ودراسته دراسةً عميقة أهتدي بها إلى معرفة حقائق الأشياء، لا لأني عربيٌّ معتزٌّ بعروبتي وقوميتي، ولا لأني مسلم مؤمن بسمو ديني وشرف رسالة نبيٍّ؛ بل لأني إنسان محبٌّ للحق منقِّب عن الفضائل جاهدٌ في إدامة البحث، مواصل الليل بالنهار للتنقيب عن القضايا العلمية والنظريات الجوهرية. وقد هداني الله بحوله وقوته إلى ذلك، فاستطعتُ أن أتبيَّن الخطوط الأولى للإدارة الإسلامية في فجر الإسلام، ورتَّبت ذلك ترتيبًا لم يسبقني إليه باحثٌ من مسلمي هذا العصر ولا مستشرقيه، على أنني لم أدَّعِ أنني وفَّيتُ البحث، وما عملي إلا لَبِنَة في بناء المجد العربي والعز الإسلامي، وأرجو الله أن يهيِّئ لهذا البناء من يكمله ويعمل على حفظه وحمايته.
رتَّب الرسول الكريم شئون حكومته الإدارية والديوانية ترتيبًا منطقيًّا يؤيده العقل السليم وتوحيه الفطرة الصافية، ويتجلى ذلك الترتيب في معالجته للشئون الآتية وإسنادها إلى الأكفاء الأخيار من الصحابة؛ وهي …
(٣-١) الوزارة
وهكذا كان عمر مع أبي بكر، وعثمان وعلي مع عمر، ولكن الاسم لم يُطلَق عليهم، ولا كانوا ينادون به.
(٣-٢) أمانة السر
(٣-٣) الكتابة
فأما كتابة الوحي
وأما كتابة البوادي
وأما كتابة العهود والمواثيق
وأما من كان يكتب له في شئونه الخاصة وحوائجه من قضايا المال وما إلى ذلك
اصطلاحاته في كتبه ﷺ
أما عَنْوَنة كتبه
فلم أقف فيها على نصٍّ صريح، والذي يَظهر أنه ﷺ كان يُعَنْوِن كتبه بلفظ: «من محمد رسول الله إلى فلان» على نحو ما في صدور كتابه: «من محمد رسول الله» عن يمين الكاتب و«إلى فلان» عن يساره.
- (١)
أن يفتح الكتاب بلفظ: «من محمد رسول الله إلى فلان»؛ فمن ذلك كتابه إلى خالد بن الوليد في جواب كتابه إليه ﷺ بإسلام بني حارث، وهو على ما ذكره ابن إسحق في سيرته: «سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإن كتابك جاءني مع رسولٍ لك يخبرني أن بني الحارث قد أسلموا قبل أن تقاتلهم، وأجابوا إلى ما دعوتهم إليه من إسلام، وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وأنه قد هداهم الله بهداه، فبشِّرهم وأنذرهم وأقبِل ولْيُقْبِل معك وفدهم. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.»
- (٢) أن تفتح المكاتبة بلفظ: «هذا كتاب» ويذكر المقصد فيما بعد، وهو قليل الوقوع في المكاتبات. ومن ذلك كتابه ﷺ لقبيلة همدان من اليمن فيما ذكره ابن هشام، وهو هذا: «هذا كتاب من محمد رسول الله لمخلاف خارف وأهل جناب الهضب وحقاف الرمل مع وافدها ذي المشعار لمالك بن نمط ولمن أسلم معه، على أن لهم فَرَاعها ووَهَاطها وعزازها ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، يأكلون علافها ويرعون عافيها، لكم بذلك عهد الله وذمام رسول الله وشاهدكم المهاجرون والأنصار.»٨٢
- (٣)
وأن تفتح المكاتبة بلفظ: «سلم أنت»؛ فمن ذلك كتابه ﷺ إلى المنذر بن ساوي، وهو فيما ذكره أبو عبيد في كتاب الأموال: «سلم أنت، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن مَن صلَّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم له ذمة الله وذمة الرسول، فمن أحب ذلك من المجوس فإنه آمن، ومن أبى فإن عليه الجزية.»
- (١) أن يفتتح الكتاب بلفظ: «من محمد رسول الله إلى فلان»؛ فمن ذلك كتابه ﷺ إلى هرقل وهو قيصر، وقيل: بل نائبه بالشام. وهو على ما ثبت في الصحيحين: «من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلامٌ على من اتبع الهدى. أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أَسْلِم تسلم، أَسْلِم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن تولَّيت فإن عليك إثم الأريسيين، وقُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.»
- (٢)
أن يفتتح الكتاب بلفظ: «أما بعد»، وهو أقل وقوعًا مما قبله؛ فمن ذلك كتابه ﷺ إلى أهل نجران ودينهم النصرانية، وهو فيما ذكره ابن الجوزي: «بسم الله الرحمن الرحيم إله إبراهيم وإسحق ويعقوب، أما بعد: فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، وإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب الإسلام.»
- (٣) أن يفتتح الكتاب بلفظ: «هذا كتاب»؛ فمن ذلك كتابه ﷺ مع رفاعة بن زيد إلى قومه، وهو فيما ذكره ابن إسحق: «هذا كتاب من محمد رسول الله لرفاعة بن زيد، إني بعثته إلى قومه عامةً، ومن دخل فيهم يدعوهم إلى الله ورسوله، فمَن أقبل منهم ففي حزب الله وحزب الرسول، ومن أدبر فله أمان شهرين.»٨٣ وأما كتب الأمراء إليه ﷺ فقد ذكر القلقشندي أن كتب سراياه ﷺ ومن أسلم من الملوك، تفتح المكاتبة إليه باسمه ﷺ، ويثنُّون بأنفسهم، ويأتون بالتحميد والسلام عليه ﷺ، ويتخلصون إلى المقصود ﺑ «أما بعد» أو غيرها، ويختمون بالسلام، وملوك الكفر يبدءون بأنفسهم، وربما بدءوا به ﷺ. وكان المكتوب عنه منهم يعبِّر عن نفسه بلفظ الإفراد مثل: «أنا» و«لي» و«قلتُ» و«فعلتُ»، وربما عبَّر بعض الملوك عن نفسه بنون الجمع، ثم إن كان المكتوب عنه مسلمًا خاطبه ﷺ بلفظ الرسالة والنبوة مع كاف الخطاب وتاء الخطاب، وإن كان كافرًا خاطبه بالكاف والتاء المذكورتين، وربما خاطبه باسمه، وإن كان المكتوب عنه مسلمًا ختم الكتاب بالسلام عليه ﷺ.٨٤
(٣-٤) إمارة السلم
كان للنبيِّ ﷺ أمراء ولَّاهم على بعض البلاد أو النواحي أو الأجناد أو بعض المصالح العامة كالقضاء والصدقات، فقد كان من عادة الرسول أن يوصي كل أمير بإحسان عمله وإتقانه، كما كان يعهد إليهم بكتب يكتبها إليهم بذلك في الغالب. وكان لا يخرج عن المدينة للغزو إلا ولَّى عليها أميرًا، كما أنه لم يكن يبعث سَرِيَّة للجهاد إلا ولَّى عليها أميرًا، ولم يُسلِم قومٌ إلا جعل عليهم أميرًا أو عاملًا يتولاهم ويجمع صدقاتهم، أو بعث من قِبَله أحدًا يؤمِّره عليهم ويفقِّههم في الدين.
وقد كان للنبي أمراء ولَّاهم المدينة في غيابه عنها، كما كان له أمراء ولاهم مكة وسائر مدن الجزيرة وعشائرها، فممَّن أمَّرهم على المدينة «السائب بن عثمان» أمَّره عليها حين خرج إلى غزوة بواط، وقد ذكرنا أسماء أمراء المدينة في كلامنا على غزوات النبي.
وأما أمراء مكة فأوَّلهم «عتاب بن أسيد»، أمَّره الرسول عليها بعد الفتح سنة ثمانٍ للهجرة وهو دون العشرين، وممَّن ولَّاه بعض أعمال مكة «الحارث بن نوفل الهاشمي».
وأما أمراء اليمن فأوَّلهم «باذان» أو «باذام» الفارسي، وكان ملك اليمن في الجاهلية، وأسلم حين كتب إليه الرسول فأقرَّه على عمله وبقي حتى مات بعد حجة الوداع، فولَّى ابنه شهرًا مكانه. وبعث النبي إلى اليمن أمراء فقهاء، كأبي موسى الأشعري بعثه إلى زبيد وعدن، وولَّى «خالد بن الوليد» على صنعاء، و«المغافر بن أبي أمية» على كندة، و«زياد بن لبيد» على حضرموت، و«أبا سفيان» على نجران.
ومن أمراء المدن: «سعد بن عبد الله بن ربيعة» ولَّاه الطائف، و«غسان بن أبي العاص» ولَّاه على الطائف أيضًا، و«العلاء بن الحضرمي» استعمله على البحرين، و«عمر بن حزم الأنصاري» استعمله على نجران، وأعطاه كتابًا جامعًا فيه من أحكام الإدارة والزكاة والديات والفرائض الشيء الكثير المفيد، و«عمرو بن سعيد بن العاص» ولَّاه وادي القرى، و«المنذر بن ساوي» ولَّاه على هجر، و«سواد بن غزية» ولَّاه على خيبر، و«عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي» ولَّاه الجنَد باليمن.
ومن أمراء القبائل «عمرو بن سبيع التغلبي» ولَّاه على بني تغلب وغطفان، و«الحارث بن بلال المازني» ولَّاه على جديلة من طيء، و«سعد الدوسي» ولَّاه على قومه دوس، و«سعيد بن خفاف التميمي» ولَّاه على بطون بني تميم، و«صيفي بن عامر» ولَّاه على بني ثعلبة، و«الضحَّاك بن قيس» ولَّاه على قومه، و«امرؤ القيس بن الأصبغ الكلبي» ولَّاه على كلب، و«عكاشة بن ثور» ولَّاه على السكاسك والسكون. وقد أحصى الحافظ العراقي في ألفيَّته في السيرة النبوية أسماء أمرائه ﷺ بقوله:
(٣-٥) إِمارة الحج
كان العرب في الجاهلية يحتفلون أشدَّ الاحتفال بموسم الحج وبمشاعرِه، وكان يتولَّى إمارة الحج «كعب بن لؤي»، وكان إليه الإمارة والحجابة والسقاية والرفادة واللواء والندوة، ثم توارث أبناؤه هذه المفاخر إلى أن جاء الإسلام فأقرَّها، وأول أمير تولَّى إمارة الحج في الإسلام هو «عتاب بن أسيد» سنة ثمانٍ للهجرة. وفي السنة التاسعة حجَّ بالناس أبو بكر، وفي السنة العاشرة حجَّ الرسولُ ﷺ بالناس، وخطب فيهم خطبة الوداع.
(٣-٦) الحِجَابة
كان المسجد النبوي هو مقرُّ الحكومة؛ ففيه كان يجلس النبي للناس، وفيه كان يستقبل الوفود، وفيه كان مسكنه، في حجرات خاصة. وما كان الرسول ليحجب نفسه عن الناس إذا ما كان في المسجد، أما إذا دخل ليستريح أو ليختلي ببعض أهله أو خاصته، فكان له حاجبٌ وآذِن وبوَّاب يقفون على بابه فُرادى أو مجتمعين، لا يُدخِلون أحدًا عليه ﷺ إلا بعد الاستئذان.
والحق أن النبي الكريم كان يتخذ الحجَّاب والبوابين في الأوقات التي يريد أن يخلو فيها إلى نفسه، أو إلى بعض الوفود ممَّن لا يريد أن تَكثر عليه الناس في محضرهم، وهذا أمرٌ من أمور السياسة الحكيمة، ومنهجٌ من مناهج الاجتماع المدني الرشيد.
(٣-٧) صاحب الخاتم
لا شك في أن العرب في جاهليتهم كانوا يتخذون الأختام يوقِّعون بها وثائق بيوعاتهم وصكوك معاملاتهم، ونحن وإن كنا لم نعثر على نصوص متعلقة بذلك، ولا على نماذج من تلك الأختام في الحفريات حتى الآن، إلا أن بعض المؤرخين ورجال السير يذكرون أن الرسول كتب إلى ملوك عصره قبل أن يتخذ الخاتم؛ فقد روى البخاري عن أنس قال: لما أراد رسول الله ﷺ أن يكتب إلى الروم قيل له: إنهم لن يقرءوا كتابك إذا لم يكن مختومًا، فاتَّخَذ خاتمًا من فضة ونقشه «محمد رسول الله»، فكأنما ننظر إلى بياضه في يده ﷺ. وأخرج الترمذي في الشمائل المحمدية عن أنس أيضًا قال: كان خاتم النبي ﷺ «محمد» سطر و«رسول» سطر و«الله» سطر. وقال البخاري: إن فصَّه كان منه. وفي سنن أبي داود والنسائي أنه كان من حديد، ملونًا عليه فضة.

(٣-٨) المحتسب
وكان للرسول منادٍ خاص يأمره أن يُذيع في الناس ما يجب عليهم أن يعملوه من أمور الاحتساب وأحكام الشريعة؛ ففي صحيح البخاري عن أنس قال: كنتُ ساقي القوم في منزل أبي طلحة، وكان خمرهم يومئذٍ البطيخ، فأمر رسول الله مناديًا ينادي: ألا إن الخمر قد حُرِّمت. قال: فَجَرَتْ في سكك المدينة. وفي الصحيح أيضًا: عن زاهر الأسلمي قال: إني لأوقد تحت القدور بلحوم الحُمُر، إذ نادى منادي النبي ﷺ أن رسول الله ﷺ ينهاكم عن لحوم الحُمُر. وفي سنن أبي داود: عن معاذ الجهني قال: غزوتُ مع النبي ﷺ فضيَّق الناس المنازل وقطعوا الطرق، فبعث النبي مناديًا ينادي في الناس أن من ضيَّق منزلًا أو قطع طريقًا فلا جهاد له.
(٣-٩) صاحب العسس
وفي عهد أبي بكر تولَّى العسس عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود، وفي عهد عمر كان يتولَّى ذلك بنفسه، فيطوف في الليالي ويراقب أحوال الناس ويستصحب معه مولاه أسلم، وربما استصحب معه عبد الرحمن بن عوف.
(٣-١٠) صاحب البريد
لم يحتَجْ رسول الله أن ينظِّم شئون البريد تنظيمًا كاملًا؛ لصغر رقعة الحكومة الإسلامية في وقته، إلا أنه كان قد شرع في ذلك حينما أراد الاتصال بالبلاد المجاورة، ولكنه عوجل فتمَّم ذلك عمر بن الخطاب. وقد اكتفى النبي باتخاذ الرسل يبعث بهم إلى من يريد الاتصال بهم أو يتلقَّى منهم رسائلهم، وقد ذكر السهيلي في الروض الأنف أنه — عليه الصلاة والسلام — كان يكتب إلى أمرائه: إذا أبردتم إليَّ بريدًا فأبردوه حسن الوجه حسن الاسم. وإنما طلب الرسول إليهم ذلك للتفاؤل وحسن التلقِّي؛ فقد وردت عنه — عليه الصلاة والسلام — أخبارٌ كثيرة تؤيد اعتقاده بالفأل والطيرة؛ ولهذا اشترط في صاحب البريد أن يكون حسن الصورة … وقد انتظمت شئون البريد في عهد عمر حين دوَّن الدواوين ونظم شئون الدولة.
(٣-١١) الشئون العسكرية
جاء الرسول بدعوته سالكًا سبيل الحكمة والموعظة الحسنة، يدعو الناس إلى اتباع ما جاء به، فدخل في دينه نفرٌ من المستضعفين أو الأقوياء، فلقوا جميعًا من أهل مكة شرَّ ما يمكن أن يلقاه الإنسان من قومه، فطلب الرسول إلى خصومه أن يكفُّوا أذاهم فلم يسمعوا، وزادوا في طغيانهم وضلالهم وإيذائهم وتعذيبهم للمسلمين. ولم يَرَ الرسولُ وسيلةً إلا أن يطلب إلى قومه أن يفرُّوا بدينهم، فخرجوا من ديارهم هاربين بدينهم إلى حيث أَمِنوا على أنفسهم وأولادهم وعقيدتهم، واضطر النبي نفسه إلى الهجرة وترك بيته واللجوء إلى قوم يحبونه ويؤوونه، فلما استقرَّ فيهم أخذ خصومه يسعون لتأليب القوم الذين لجأ إليهم عليه، فلم ينجحوا، واضطر الرسول حين ضاق ذرعًا بهؤلاء العتاة وأحس بقوته أن يقابل قوتهم بالقوة، فلجأ إلى حربهم. ولم تكن حروب النبي كلها هجومًا، بل كانت حروب دفاع. هذا هو السر في لجوء النبي إلى الحرب وتعزيز الشئون العسكرية. فما لنفرٍ من المبشرين والمستشرقين يزعمون أن نبينا محمدًا لم ينجح في دعوته إلا بالسيف، وأنه كان سفاحًا، وأن دينه دين قتال وسفك دماء لا دين رحمة ورجاء!
إن الحملات التي شنَّها المبشرون وأعداء الإسلام على النبي تتركَّز في هذه القضية، وهي قضية باطلة؛ لأن النبي دعا إلى الإسلام أولًا بالحكمة والموعظة الحسنة والمنطق، فلما وقف المشركون في طريقه وحاربوه اضطر أن يدافع عن نفسه ودينه، فقاتل قريشًا وقاتل اليهود وقاتل الروم. ثم إن القتال — حتى في عصرنا الحاضر — هو الوسيلة الوحيدة التي تلجأ إليها الحكومات لإقرار الأنظمة والإصلاحات إذا قابلها الناس بالابتعاد عنها أو بالعنف، وهل يفلُّ الحديد إلا الحديد؟! وقد شرع الإسلام الجهاد، فقال تعالى: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا.
وقال النبي ﷺ: «أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله.» وهذا قولٌ يُقرُّه المنطق والعقل؛ فإن الإسلام لم يأمر إلا بما أمرت كافة الشرائع والقوانين، وإن محمدًا ما كان مَلِكًا يطلب الحرب لأجل الحرب، بل نبيًّا رسولًا طلبها لإقرار الأمن والسلام والسكينة على الأرض. وقد تجلَّت مواهب النبيِّ العسكرية في غزواته؛ فقد كان شجاعًا لا يهاب الموت، يسير في الصفوف بين صحابته، ويمارس الحرب ممارسةً تدل على علو كعبه فيها. وقد كانت غزوة بدر هي المعركة الأولى التي تجلَّت فيها مواهبه العسكرية وحُسن قيادته، ثم تتابعت الغزوات الكبرى التي علا فيها شأن الإسلام، والتي لم يُخذَل النبي في واحدة منها؛ وذلك لأنه كان ذا عبقرية عسكرية فائقة ليس فيها شيء من العسف ولا الظلم، إنها عبقرية ترضاها وتتطلَّبها البطولة في كل زمان ومكان، وسنرى في النقاط التالية تنظيماته العسكرية التي استطاع بها أن يقهر قومًا يفوقونه عددًا وعدة؛ لأنه ﷺ لم يترك ناحيةً من النواحي التي يجب على قائد الجيش أن يهتمَّ بها إلا اهتم بها ونظم جيشه بموجبها.
إمارة الجيش
لا بد للجيش من قائد يقوده وينظم خطط هجومه ودفاعه، وقد كان النبي الكريم يتولَّى ذلك بنفسه في الغزوات التي يخرج فيها بنفسه؛ لِما حباه الله من شجاعة وبأس وذكاء وسياسة. وقد بلغت الغزوات التي قادها بنفسه وتولَّى الإمارة فيها ستًّا وعشرين موقعة، وقد اصطلح المؤرخون على تسمية كل معركة يكون النبي فيها «غزوة»، وكانت غزوة بدر الكبرى أجلَّ تلك الغزوات وأكثرها فائدةً للإسلام. وأما المعارك والوقائع التي لم يحضرها النبي، فكانت تسمَّى «سرايا»، وقد بلغت سراياه ﷺ ستًّا وخمسين سَرِيَّة.
ديوان الجيش
المشهور أن عمر بن الخطاب هو أول من نظم للجيش الإسلامي ديوانًا تُسجَّل فيه أسماءُ المجاهدين، بادئًا بقريش وبطونها وأفخاذها، ثم بالقبائل الأخرى كل قبيلة على انفراد، وما ذلك إلا ليعلم عدد المقاتلة من كل قبيلة واستحقاقها وتنظيم موازنة الدفاع ومقدار العطايا وتقسيم الفيء على المسلمين، وسنرى تفصيل ذلك فيما بعد. ولم يتكلم أحدٌ من مؤرخي السيرة النبوية على أن النبي نفسه قد أمر بإيجاد ديوان الجيش لتسجيل أسماء المجاهدين، مع أن البخاري روى في صحيحه بسنده إلى حذيفة بن اليمان أن النبي ﷺ قال: «اكتبوا لي مَن يلفظ الإسلام من الناس.» وأن حذيفة قد كتب ذلك له ﷺ فبلغوا وقتئذٍ ألفًا وخمسمائة رجل. فهذا الحديث يدلُّنا على أن الرسول أمر باتخاذ هذا التقليد ليعرف عدد المقاتلين من أهل الإسلام، وقد رتَّب الرسول على المقاتلين من أهل الإسلام رؤساء عُرفوا «بالعرفاء»؛ لأنه كان ﷺ بهم يتعرَّف أحوال المجاهدين، وعريف كل قوم هو زعيمهم والقائم بأمورهم، وهو الواسطة بينهم وبين الأمير. ولا بد من إقامة العرفاء؛ لأن النبي أو الأمير لا يستطيع أن يتعرَّف بنفسه أحوال كلٍّ منهم، وقد حذَّر الرسول هؤلاء العرفاء من الوقوع في الخطأ أو الظلم أو التعدي على الرعيَّة، وقد رُوي عنه «أن العرفاء في النار.» وهذا يُشعِر بأن الوظيفة وظيفة خطيرة، ويجب على صاحبها أن يكون أمينًا صادقًا عادلًا. ومثل هؤلاء العرفاء «النقباءُ»، وقد جعلهم الرسول نقباء على قومهم يراقبون أحوالهم ويحلُّون من مشاكلهم ويطلعونه ﷺ على ما يحتاج إليه من معرفة أحوالهم.
تقاليد النبي في جيوشه
وكان من عادته أنه إذا رجع من غزوة أو حرب أو حجٍّ أو عمرة وأقبل على المدينة، أنه كان يكبِّر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات، ثم يقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» (الموطَّأ). وربما نُصِب للنبي عريشٌ عالٍ يُشرف منه على العسكر، وقد فعل ذلك في غزوة بدر، كما أشار عليه بذلك سعد بن معاذ. ومن ذلك أنه كان يقسِّم الجيش، ويعرِّف العرفاء في الجيش، ويرتِّب الأجناد، وغير ذلك مما فيه تنظيم شئون القتال.
أقسام الجيش
كان العرب يسمُّون الجيش خميسًا؛ لأنهم كانوا يقسمونه إلى خمسة أقسام: ميمنة، وميسرة، ومقدِّمة، ومؤخِّرة، وقلب، وربما قالوا: المجنبة اليسرى، والمجنبة اليمنى، والمقدِّمة، والساقة، والوسط. وكان من عادتهم أن يكون الأمير في القلب.
قال ابن هشام في أثناء فتح مكة: إن عبد الله بن أبي نُجيح روى أن رسول الله حين فرَّق جيشه من «ذي طوى»، أمر الزبير بن العوام أن يدخل بعض الناس من «كدى»، وكان الزبير على المجنبة اليسرى، وأمر سعد بن عبادة الأنصاري أن يدخل في بعض الناس من «كدى»، وكان خالد على المجنبة اليمنى وفيها أسلم وغفار وسليم ومزينة وجهينة وقبيل من العرب. وأقبل أبو عبيدة بن الجراح بالصفِّ من المسلمين بين يدَي الرسول ﷺ، ودخل ﷺ حتى نزل بأعلى مكة وضُربت له قُبَّةٌ هناك.
عُدَد الجيش ومتعلَّقاته
مكائد الجيش
معاملته ﷺ للأسرى والكفار
كان الرسول الكريم منصفًا مع خصومه على الرغم من اشتدادهم عليه ومحاولتهم الفتك به وقتله، ولم يُعلَم عنه ﷺ أنه قتل أحدًا في حروبه إلا أُبيَّ بن خلف، وكان في كل حالاته داعية خير كارهًا للدماء والقتل، لا يترك فرصة — حتى في خلال المعارك — يدعو فيها خصومه إلى اعتناق الدين القويم. ولما أتمَّ الله للمسلمين فتح مكة ووقع أهلها أسرى في يد المسلمين عفا عنهم، وقال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء.» وكان من عاداته ﷺ إذا جاءه الأسرى أن يجعل عليهم رجلًا يراقب أحوالهم؛ ومن هؤلاء «أسلم بن بحرة الأنصاري»، وقد جعله على أسرى بني قريظة من اليهود. ومنهم «بديل بن ورقاء»، جعله النبي ﷺ على الأسرى والأموال بالجعرانة. ومنهم «بريدة بن الحصيب»، جعله النبي ﷺ على أسرى المريسيع. ومنهم «شقران» مولى النبي، استعمله على جميع ما وجد في رجال أهل المريسيع من المتاع والسلاح والغنم والشاء.
في أدب الجهاد
(٤) الشئون الاجتماعية
كان الرسول العظيم على جانب كبير من رقة القلب والحنان والعطف على الناس أجمعهم، وقد أُثِرت عنه ﷺ حوادث وأقوال تدلُّ على شدة عنايته — عليه السلام — بالناس وأحوالهم والعطف عليهم والدعوة إلى الإصلاح في الشئون الاجتماعية العامة.
وفدت على النبي جماعة من هوازن وهي مهزومة بعد وقعة حنين، وفيها عمٌّ له من الرضاعة، فأحسن النبي تلقيهم لأجل عمِّه من الرضاعة، ثم تشفَّع النبي لدى المسلمين أن يردُّوا على هوازن ما أخذوه من السبي، واشترى بماله من السبي ممَّن أبوا أن يردوا السبايا إلا بالمال، وما فعل ذلك إلا لرقَّة قلبه وحفظه العهود وتعليمًا للناس أن وراء الحقوق قضايا اجتماعية هامة يجب على المرء أن يرعاها. وكان ﷺ إذا ودَّع رجلًا أخذ بيده، فلا يدعها حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده منه. وكان كثير الرحمة للصبيان والعيال والبائسين والأرقاء والخدم، يهتم بهم ويفكِّر في أحوالهم، وقد اهتم أيضًا بشئون الناس الاجتماعية عامة، فأمر بعمل كل ما فيه إصلاح المجتمع الدنيوي، وأوجب على الناس القيام بكل ما فيه قوام مجتمعهم وإصلاحه، وحرَّضهم على التعاطف والتراحم وإقامة القسطاس وحفظ حقوق الآخرين وعمل كل ما فيه إصلاح شئون المجتمع الإسلامي من آداب وأخلاق فاضلة ومرافق عامة وما إلى ذلك.
(٤-١) الآداب العامة
في القرآن الكريم والسنة النبوية طائفة كبيرة من الآداب الجامعة التي أمر الناس بها، ويتجلَّى لنا بعضها في الآيات والأحاديث الآتية:
قال الله تعالى:
وقال سبحانه:
وكان يحضُّ الناس على عدم التدخل في شئون الآخرين، إلا ما كان فيه مصلحة عامة أو فائدة للمجتمع. ولم يكن دينه دين آخرة وحسب، بل اهتم بشئون الدنيا والحض على العمل لها، وكان يقول: «رحم الله امرأً عمل عملًا فأتقنه.» وسنرى في النقاط التالية شدة عنايته بدقائق الأمور الدنيوية عنايته بإصلاح أحوالها.
(٤-٢) الاهتمام بمعاملات الناس وحفظ الحقوق العامة وإصلاح شأن البيئة الإسلامية
- (١)
الفقير: وهو من لا مال له ولا قدرة على الكسب.
- (٢)
المسكين: وهو الذي لا يفي دخله بخرجه.
- (٣)
السعاة: وهم الذين يجمعون مال الزكاة.
- (٤)
المؤلَّفة قلوبهم: وهم الأشراف الذين أسلموا وكان في إعطائهم المال ترغيب لقومهم بدخول الإسلام. وقد انقرض هذا الصنف الآن، كان خاصًّا بأيام الدعوة الإسلامية الأولى.
- (٥)
المكاتبون: وهم الأرقَّاء الذين يكاتبهم مواليهم على شيء من المال يدفعونه إليه فيحرِّروهم.
- (٦)
الغارمون: وهم المدينون الذين لا يملكون وفاء ديونهم.
- (٧)
الغزاة في سبيل الله: ممَّن ليس لهم راتب معين في ديوان الدولة.
- (٨)
أبناء السبيل: وهم المسافرون الذين انقطعت بهم الأسباب وفقدوا المال.
هذه هي مصارف الزكاة، وهي — كما نرى — مصارف معقولة أوجب الله لأربابها حقًّا مفروضًا في مال كل مسلم قادر. ومما أمر به الإسلام مما فيه إصلاح الشئون الاجتماعية تنظيم قضايا البيوع والمتاجرات والعقود والأقضية وكل ما له علاقة بالمعاملات وكسب العيش، وقد حضَّ الرسول الكريم على إحسان المعاملة فيها؛ فقد ورد عنه ﷺ: «من الذنوب ذنوب لا يكفِّرها إلا الهم في طلب العيش.» وقال: «التاجر الصدوق يُحشر يوم القيامة مع الصديقين والشهداء.» وقال: «رحم الله امرأً سهل البيع والشراء، سهل القضاء، وسهل الاقتضاء.» وكان ﷺ ينهى عن احتكار الطعام، كما ينهى عن إخفاء عيوب البضائع، ويحرِّم كافة أنواع التلبيس والغش، ويأمر بالتساهل في البيع والشراء، واجتناب الظلم في المعاملات، ويحرِّض على المتاجرة والكسب، وينهى عن التواكل والتقاعس وتناول كل ما فيه شبه، وكان يقول: «الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور متشابهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام؛ كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه.»
أما المستشفيات والشئون الطبية
أما دور الضيافة
وأما القيام بما فيه الترويح عن النفس
ولما قدم الرسول إلى المدينة خرج له الغلمان بالدفوف والألحان يحيونه وينشدون:
وخرجت الفتيات يغنين ويقلن:
ويذكر صاحب الأغاني والإصابة عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ مرَّ بحسان بن ثابت وهو بفناء أطمه، ومعه سماطان من أصحابه، وجاريته «سيرين» تغنيهم، فانتهى إليها رسول الله ﷺ وهي تقول:
فابتسم رسول الله ﷺ وقال: لا حرج. ولما زُفَّت الفارعة بنت أبي أمامة قال لهم رسول الله ﷺ ليلة زفافها، قولوا:
(٥) الشئون المالية
مما لا شك فيه أن الناس في الجزيرة العربية كانوا قبل زمن النبي ﷺ يعيشون عيشةً لها نُظُم اقتصادية واجتماعية، كان فيهم الأثرياء والتجار المنعَّمون، ولا شك أيضًا في أن هذا الأمر استمر بعد الإسلام؛ لأن النبي لم يهدم كل ما كان في الجاهلية، إنما جاء بفكرته ودينه يدعو الناس إلى الإسلام والدخول في دين الله. ثم إنه — عليه السلام — كان شديد الحرص — كما رأينا في الفصول السابقة — على تقوية أركان حكومته بعد الهجرة وعلى توطيد دعائمها، وجعلها حكومة لها مميزات الحكومات الأخرى الصالحة؛ لهذا نستغرب كل الاستغراب حينما نقرأ بعض الكتب لكتَّاب مسلمين أو مستشرقين أن حكومة النبي كانت حكومة بدوية خالية من النُّظُم والقوانين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأن العرب كانوا قبله بداة وحوشًا يأكل بعضهم بعضًا، وأنه استطاع ﷺ أن يجعل منهم كتلة يهاجم بها الأمم المتمدنة، ناسين أو متجاهلين أن النبي بعثه الله على حين فترة من الرسل لينقذ العالم من شروره وضلالاته، وأنه لم يجئ بشيء خارق للعادة ولا بمعجزات فوق قدر البشر سوى هذا القرآن الحكيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه تنزيل من عزيز حميد. أما ما عدا ذلك فإن سننه وسُبله ﷺ كانت سننًا وسبلًا عادية سلك فيها الطريق المستقيم، واتبع أنظمة الكون المألوفة، ونظم شئون بلاده من سياسية واجتماعية واقتصادية محتفظًا بالطيِّب الكامل الذي كان عندها من قبل، نابذًا الضار الفاسد، مضيفًا إلى ذلك كل ما هو حسن مفيد؛ هذه هي سيرة محمد في أمته. أما سيرته في الأمم الأخرى، فإنه دعاها إلى دينه الذي أمره الله بتبليغه، وهو دين قائم على التوحيد وتقديس النبوات الإلهية السابقة، مُحْيٍ لما اندرس من تعاليمها، آمرٌ بالتوحيد المطلق، ناهٍ عن الشر والفساد، محبذٌ لكل فضيلة عند تلك الأمم.
وبعدُ، فهذه هي سيرة النبي الكريم، وتلك هي طُرقه وآدابه وإصلاحاته، فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا؟! وسترى في هذا الفصل أن النبي الكريم عني بشئون بلاده الاقتصادية والمالية عناية صحيحة، فاستبقى منها ما كان صالحًا، واستبعد منها ما كان طالحًا.
فأول أعماله المالية أن أوجد الديوان، فسجَّل فيه أصحاب العطايا، والمشهور أن عُمر أوَّل من فعل ذلك، ولا يعقل أن يكون المسلمون ظلوا في عهد الرسول وفي عهد أبي بكر بدون ديوان تسجَّل فيه أسماء أصحاب العطايا. وقد فَتشتُ طويلًا فوجدت في صحيح البخاري حديثًا رواه حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله ﷺ: «اكتبوا لي من يلفظ بالإسلام من الناس.» فكُتِب له ألف وخمسمائة رجل. وهذا ولا شك هو أول ديوان في الإسلام. وأغلب الظن أن الرسول استمرَّ في تسجيل ذلك فيما بعد، وأن أبا بكر اتَّبع سنَّة الرسول في ذلك، ولما جاء عمر نظَّمه ووسَّعه. وأما أقوال أبي هلال العسكري والماوردي في الأحكام السلطانية وغيرهما، أن عمر أول من فعل ذلك، فقول لا يعتمد على حجَّة، أو لعلهم يقصدون أنه وسَّعه ونظَّمه، وإلا فإنه كان موجودًا من قبله؛ فقد رأيت في حديث البخاري أن النبي ﷺ هو أول من طلب ذلك.
(٥-١) أما بيت المال
وقد كانت موارد بيت المال في زمن النبي ﷺ منحصرة في الجهات الآتية:
الجزية
العُشْر
الخراج
الغنائم
وهي ما أُخذت من العدو في الحرب، وتقسَّم كما في الآية الكريمة: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ.
الفيء
الزكاة والصدقات
وهي ما يدفع المسلمون زكاة أموالهم وهم يملكون النصاب الشرعي المفصَّل في كتب الفقه بعد أن حول عليهم الحول، كما هو مقرر في الكتب الشرعية.
(٥-٢) السَّكَّة والعملة في الإسلام
- (١)
أن تكون سَكَّة الإسلام.
- (٢)
أن تكون رائجة.
- (٣) ألا يكون فيها بأس وضرر على المسلمين، فلو أزال سَكَّة الكفار لم يكن موردًا للنهي، وكذا لو أزال السَّكَّة غير الرائجة أو المزيَّفة. ونقله عنه الكنكوهي في «التعليق المحمود على سنن أبي داود» وأقرَّه، وهذا كما ترى كالصريح في أنه كان للمسلمين في الزمن النبوي سَكَّة مضروبة كانوا يتعاملون بها، ولله در صاحبنا العلامة السيد أحمد بن محمد الحسيني الشافعي المصري حيث قال في صفحة ١٨١ من «نهاية الإحكام فيما للنية من الأحكام» بعد أن ذكر حديث أبي داود هذا ونحوه: مقتضى هذا أن سَكَّة المسلمين كانت معروفة ومستعملة في زمنه — عليه السلام — وليس ما يخالفه في الأقوال الدالة على أن سَكة المسلمين لم تُضرب إلا في عهد عمر أو عهد مَن بعده أولى بالقبول منه إلا بمرجح وإن هو انتهى بلفظه. وفي تاريخ مصر الحديث لجرجي زيدان (صفحة ١٣٨): أما النقود التي ضُربت في عهد الخلفاء الراشدين، فكانت نحاسية في غاية البساطة كما جرى في الشكل، وليس عليها من الكتابة إلا صورة الشهادة بالحرف الكوفي. ولم تُضرب النقود الفضية في الإسلام حتى أيام الخليفة عبد الملك … وقد انتقده الرحالة الشيخ محمد أمين ابن الشيخ حسن الحلواني المدني في رسالته: «نشر الهذيان من تاريخ جرجي زيدان» بقوله: لم يثبت في الرواية الصحيحة أن أحدًا من الخلفاء الأربعة ضرب سَكة إلا علي بن أبي طالب؛ فإنه ضرب الدرهم، على ما نقله صبحي باشا الموره لي، في رسالة له رسم فيها صورة ذلك الدرهم، وعزا ذلك إلى لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة. وأما هذه الثلاث المسكوكات التي رسمها جرجي زيدان، فلا تثبت على فرض وجودها؛ لأنها لم تكن عليها تواريخ دالة على زمنها، وأكبر شيء فيها دالٌّ على كذبها على الخلفاء كون أحدها فيها صورة شخص، وهذا مما تحرِّمه الديانة الإسلامية، فكيف يعقل ذلك الخلفاء، وكون هذه المسكوكات مزورة غير بدع عن الإفرنج وبياعي الأنتيكات.١٥٥ فكان غاية جواب جرجي زيدان عن ذلك بأنه أخذ تلك الرسوم عن مؤلف فرنسي وأحال على صفحة ٢٦ من «تاريخ مصر» لمارسا. وفي «المواهب الفتحية» لحمزة فتح الله المصري (١: ١٥٢)، نقلًا عن شرح العتبي على البخاري، أنه نقل عن المرغيناني: أن الدراهم كانت شبه النواة، ودوت في عهد عمر لما بعث معقل بن يسار وحفر نهره الذي قيل فيه: «إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.» ضرب حينئذٍ عمر الدراهم على نقش الكسروية وشكلها بأعيانها، غير أنه زاد في بعضها: «الحمد لله»، وفي بعضها: «محمد رسول الله»، وفي بعضها: «لا إله إلا الله وحده» على وجه وعلى وجهه الآخر «عمر». فلما بويع عثمان ضرب دراهم نقشها: «الله أكبر»، فلما اجتمع الأمر لمعاوية ضرب دنانير عليها تمثاله متقلدًا سيفًا، فلما قام عبد الله بن الزبير بمكة ضرب دراهم مدورة ثم غيَّرها الحجاج. ولما استقر أمر عبد الملك بعد ابن الزبير ضرب الدنانير والدراهم في سنة ٧٦ للهجرة، وفي رسالة النقود الإسلامية للمؤرخ الشهير التقي المقريزي: أن معاوية ضرب دنانير عليها تمثال متقلِّد سيفًا، وذكر أن عبد الملك بن مروان لما أمر الحجاج بضرب سَكَّة، ضربها وقدمت مدينة الرسول وبها بقايا الصحابة، فلم ينكروا منها شيئًا سوى نقشها؛ فإن فيه صورة، وكان سعيد بن المسيب يبيع ويشتري بها ولا يعيب من أمرها شيئًا.
وفي وفيات الأسلاف (صفحة ٣٦١): وأقدم سَكَّة في الإسلام فيما وُجد، ما ضُرب في خلافة عثمان سنة ثمانٍ وعشرين من الهجرة بقصبة هرتك من بلاد طبرستان، وكتب فيها بالخط الكوفي: «بسم الله». وفي خلافة علي سنة ٣٧ﻫ ضرب درهم عليه «ولي الله»، وفي سنة ٣٨، ٣٩ ضرب عليه «بسم الله ربي»، وضرب على درهم بالكوفي في جانب منه: «الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد»، وفي دورته: «محمد رسول الله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون»، وفي الجانب الآخر: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له»، وفي دورته: «ضُرب هذا الدرهم بالبصرة سنة أربعين». وعُثر على درهم فيه: «ضرب بدربيجرد في سنة سبعين»، وعلى درهم في مدينة يزد ضُرب سنة ٧١ وعليه بالخط الكوفي: «بسم الله»، وفي الطرف الآخر بالخط البهلوي: «عبد الله بن الزبير أمير المؤمنين»، وقيل: إن أول من ضرب النقود مصعب بن الزبير سنة سبعين بأمر أخيه عبد الله.
(٦) الشئون الاقتصادية والصناعية
وموارد بيت المال في ذلك العصر هي ما يدخله من ضرائب التجارة والزراعة والصناعة والامتهان، قال الماوردي: أصول المكاسب التجارة والزراعة والصناعة، والأشبه في مذهب الشافعي أن أطيبها التجارة، والأرجح عندي أن أطيبها الزراعة؛ لأنها أقرب إلى التوكل، والأكثر على أن أطيبها التجارة؛ لأن النبي اتَّجر ولم يزرع، وكان ﷺ يقول: التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقًا.
(٦-١) التجارة
التجارة في العصر النبوي
وأما تجارة السلاح، فقد كانت تجارة رابحة، وكانت سيوف الشام والهند تُنقل إلى الجزيرة، ويتغالى التجار في أثمانها، كما كانت في الخط والرماح الخطية تصدَّر إلى الخارج. وكانت في الحجاز جماعة من الحدادين والقيون المشهورين بصُنع الأسلحة من سيوف وأسنَّة ورماح ودروع؛ ومن أشهرهم أبو يوسف القين الذي أرضعت زوجته إبراهيم ابن النبي ﷺ والخباب بن الأرتِّ، والأزرق بن عقبة الثقفي مولى الحارث بن كلدة. وكانت هذه الصناعة مشهورة بين يهود الحجاز أيضًا، ويروى أن النبي لما فتح خيبر صادر ثلاثين قينًا منهم، وقال اتركوهم بين المسلمين ينتفعون بصناعاتهم ويتقوون بها على جهاد عدوهم. فتركوهم وتعلَّموا منهم الحدادة.
(٦-٢) الزراعة
(٦-٣) وأما الصناعة
فقد عَنَوْا ببعض الصناعات التي يحتاجون إليها، والتي تساعد عليها طبيعة بلادهم، وتدفع إمكانية أرضهم إليها، وقد رأينا أنهم أتقنوا الحدادة لحاجتهم إليها في صنع أوائل الحرب والحرث، وهناك صناعات أخرى. ومن الصناعات التي عُرِفوا بها: التجارة والدباغة والصياغة والبناء والصباغة والحياكة والنسيج والخياطة وما إلى ذلك، وفي كتب السيرة والحديث والأدب أخبار كثيرة عن الصناعات العربية وعن أربابها، فمن ذلك ما ذكره صاحب الإصابة في ترجمة الضحَّاك بن عرفجة (وفي رواية طرفة بن عرفجة أو عرفجة بن سعيد): أنه أصيب أنفه يوم الكلاب، فأمره النبي ﷺ أن يتخذ أنفًا من ذهب. ويروى أن جماعة من الصحابة قد فسدت أسنانهم فشدوها بالذهب. وروى الكاشاني في بدائع الصنائع (١: ١١٧) عن ابن عباس أنه نهى مصورًا عن التصوير فقال: كيف أصنع وهو كسبي؟ فقال: إن لم يكن بدٌّ فعليك بتمثال الأشجار. وذكر فيه أن الصورة إذا كانت صغيرة لا تبدو من بعيد فلا بأس بها؛ لأن من يعبد الأصنام لا يعبد الصغير منها.
(٧) الشئون القضائية
وللنبي أقوال في أحكام الشهادات والدعاوى والبيانات تدل على براعته في حسن التوجيه، وعمله على تحري الحق والحكم بالعدل.
(٧-١) أما في الشهادات
فقد نهى عن قَبول شهادة المطعون في دينهم وخلقهم، ومن يُتَّهمون بالخيانة، وأوجب في الشهادة أن يكون صاحبها أمينًا عادلًا صادقًا شريفًا غير حقود ولا مزوِّر، ولا بأس بمستور الحال، وخير الشهود هو الذي يأتي بالشهادة قبل أن يُسألها؛ ففي الحديث عن زيد بن خالد الجهني أن النبي ﷺ قال: «ألا أخبركم بخير الشهداء؟ هو الذي يأتي بالشهادة قبل أن يُسألها.» رواه مسلم. وعن عمران بن حصين قال: قال رسول الله ﷺ: «إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن.» حديث متفق عليه. وقال: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت (أي خادمهم).» رواه أحمد وأبو داود. وعن أبي هريرة: أنه ﷺ قضى بيمين وشاهد. رواه الترمذي وأبو داود. وعن أبي بكرة: أنه ﷺ عدَّ شهادة الزور في أكبر الكبائر. حديث متفق عليه. وعن ابن عباس: أنه ﷺ قال لرجل: «ترى الشمس؟» قال: نعم. قال: «على مثلها فاشهد أو دَعْ.» حديث أخرجه عدي بإسناد ضعيف.
(٧-٢) وأما في البيِّنات
فإنه أمر ﷺ بأن البيِّنة على المدعي واليمين على من أنكر، وحذَّر من اليمين الكاذبة. وحكم بأن البيِّنتين إذا تعادلتا حُكِم لحائز الشيء، وإذا انعدمت البيِّنة نُصِّف الشيء بين الخصمين، وفي ذلك يقول ﷺ: «لو يعطى الناس بدعواهم لادَّعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه.» حديث متفق عليه، ورواه البيهقي هكذا: «ولكن البيِّنة على المدعي واليمين على من أنكر.» وقال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار، وحرَّم عليه الجنة.» فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: «وإن قضيبًا من أراك.» رواه مسلم. وعن أبي موسى: أن رجلين اختصما في دابة، وليس لواحد منهما بينة، فقضى بها رسول الله بينهما نصفين. رواه أبو داود وأحمد والنسائي. وعن جابر أن رجلين اختصما في ناقة، فقال كل واحد منهما: نتجت عندي. وأقاما بيِّنة، فقضى بها رسول الله لمن هي بيده. رواه الدارقطني. وعن ابن عمر: أن النبي ردَّ اليمين على طالب الحق. رواه الدارقطني أيضًا.