تصدير
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، أما بعد، درج الكتاب من الإفرنج على اعتبار السنوسية إحدى الطرائق الصوفية فحسب، وانبرى الطليان من سنوات مضت يعملون لتعزيز هذا الاعتقاد بكل الوسائل، يحدوهم إلى ذلك الأمل في صرف أذهان سواد الناس عن التفكير في أصول السنوسية الحقة، والتسليم بأنه ما دامت السنوسية طريقةً من الطرق الصوفية فهي بعيدة كل البُعد عن العناية بغير شئون الدين، بل ولا يحق لها أن تعمل لمطالب الحياة الدنيا؛ ووجه الخطر في هذا الاعتقاد، إذا رسخ في الأذهان، ظاهر واضح؛ ذلك بأنه يحرم السنوسية — كنتيجةٍ منطقية في النهاية — من التطلُّع إلى الحكم وتشييد صرح الدولة الإسلامية العتيدة، تلك الدولة التي جاهد الليبيون سنوات طويلة من أجل إرساء قواعدها في ليبيا. ومع ذلك فقد فات الطليان ومن حذا حذوهم أن الإسلام لا يعرف تفرقةً بين شئون الدين والدنيا، ولا يفصل بين العقيدة والدولة. وما كانت السنوسية في أدوار تاريخها الحافل «طريقة» تقصر اهتمامها على شئون العبادة من غير نظر في أحوال الشعوب التي أخذ «الإخوان» السنوسيون على عاتقهم إرشادها حتى تتحرَّر من قيود الجهالة وتنعم بهديِ المعرفة. آية ذلك نجاح السنوسية في إقامة نوع من الحكومة المُصلِحة الرشيدة، على أسس عملية ظاهرة في كل مكانٍ أنشئوا فيه زواياهم في القطر الليبي أو في أفريقية الغربية خصوصًا، وذلك منذ تأسيس «الطريقة» في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي والنصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري إلى الوقت الحاضر.
فقد ترك السنوسيون في هذه الأقطار التي قامت بها دعوتهم أثرًا واضحًا جعل الدولة العثمانية صاحبة الأمر في طرابلس الغرب (ليبيا أو لوبيا) وقتذاك، تعتمِد الاعتماد كلَّه على جهود السنوسيِّين في حكومة البلاد الداخلية، ثم مكافحة الاستعمار الأجنبي الذي بدأ يتغلغل في أفريقية الغربية من أواسط القرن الماضي تقريبًا، وتدعَّمت العلاقات بين دولة الخلافة الإسلامية وبين السنوسية، وانفرد السنوسيون بالحكم من الناحية العملية في بلادهم، واعترفت تركيا في مناسباتٍ عدة بتلك «الحكومة» التي جعل السنوسيون مركزها في الجغبوب تارةً وفي الكفرة تارةً أخرى، وتوطَّدت أركان هذه الحكومة وقوِيَ بأسُها، حتى إنه عندما أغار الطليان على ليبيا في عام ١٩١١م حملت السنوسية راية الجهاد المُقدس ضد العدو الغاصب نيفًا وثلاثين عامًا. وما يزال كثيرون على قيد الحياة يذكُرون صيحة الجهاد التي أطلقَها الليبيون مُدوِّيةً عند بدء الحرب الإيطالية الطرابلسية (أو الليبية)، وقد تجاوبت أصداء هذه الصيحة المُدوية في أنحاء العالم العربي وفي مصر خصوصًا، وأسهمَ عديدون من المصريين بنصيبٍ وافر في الجهاد إلى جنب الليبيين، سواء أكان ذلك بالاشتراك مع المجاهدين في مختلف ميادين الحرب كما فعل محمد صالح حرب (باشا) وكثيرون من الضباط والجند المصريين، أم بجمع الاكتتابات وإرسال التبرُّعات والقيام بأعباء الخدمة الطبية كما فعل أصحاب الأريحية المصريون (وعلى رأسهم المغفور له الأمير عمر طوسن) وأطباء الهلال الأحمر المصري، أم بالاندماج في صفوف المجاهدين وتبادُل الرأي مع زعمائهم وقادتهم وبذْل الجهد لجمع كلمة الطرابلسيين وتوجيههم في جهادهم الوجهات النافعة، كما فعل المجاهد العربي القديم عبد الرحمن عزَّام (باشا).
وكانت قصة الجهاد في ليبيا قصة رائعة حقًّا، سواء في ميدان الحرب والنزال أو في خضم السياسة ومُعتركها. ذلك بأن هذه القصة تزخر بأمثلة البطولة الحية الصادقة في أسمى مظاهرها، تلك البطولة التي حمل لواءها الشهيد السيد عمر المختار الذي ظلَّ يكافح الطليان أعوامًا عدةً حتى وقع في أسرِهم فأعدموه جزاءً على إيمانه الراسخ ونضاله المرير من أجل تحرير الوطن. وبرزت مواهب الليبيين السياسية عندما حاول زعيمهم في برقة، السيد محمد إدريس، أن ينتزع من الطليان انتزاعًا اعترافًا صريحًا بحق إنشاء الحكومة الوطنية في ليبيا، وحاول قادة طرابلس إقامة صرح الجمهورية في قُطر رضع أبناؤه لبان الحرية، وما كانوا يرضَون عن هذه الحرية العزيزة عليهم بديلًا مِن الحكم الأجنبي الغاشم، وسطر السيد بشير السعداوي (بك) أحد أفذاذ الليبيين وأقدَر رجالهم بيعةَ أهل طرابلس بالإمارة للسيد محمد إدريس، يعقدون لواءها للسنوسية على القُطر الليبي بأجمعه صونًا لوحدة الوطن السياسية والاقتصادية وتعزيزًا لنهضة البلاد الاجتماعية والعمرانية. وكان في سبيل تحرير ليبيا من قبضة المُستعمِر الغاصِب أنِ انضم الليبيون بزعامة أميرهم السيد محمد إدريس السنوسي إلى جانب بريطانيا العُظمى والأمم الديمقراطية ضد إيطاليا وألمانيا في الحرب العالمية الأخيرة منذ أغسطس سنة ١٩٤٠م إلى وقت انتهائها.
أما جهاد الليبيين عمومًا والسنوسيين خصوصًا في تلك الحرب فقد كان بلا مراءٍ صفحةً مجيدة في تاريخ الشعوب الحية الفتية، وإني لأذكُر كما يذكر القارئ الكريم أيام العلمين العصيبة، وأعرف كما يعرف كثيرون أن السنوسيين كانوا يحفظون مؤخِّرة جيوش ويفل وأوكنلك ومونتجمري إبَّان زحف روميل المشهور على الحدود المصرية ثم ارتداده منها، وفي أثناء معركة العلمين الحاسمة. وقد كانت هذه الحملة التاريخية (حملة الصحراء) كافيةً لأن تجعلني أكثر اشتياقًا لمعرفة كل ما يمكن معرفته عن هؤلاء الليبيين الأمجاد الذين لم يتردَّدوا لحظةً واحدة في الوقوف إلى جانب دولةٍ بقِيَت وحدَها تُكافح من أجل الحياة ذاتها ضدَّ عدوٍّ منتصر دانت أوروبا لسيطرته وبات يطمع في بسط سلطانه على العالم أجمع.
وكان في أواخر عام ١٩٤٣م بعد أن اندحرت جيوش روميل نهائيًّا أن هيَّأت لي ظروف عملي، كمُفتش للتعليم الثانوي بوزارة المعارف العمومية، أن أُقابل رجلَين فاضلَين من أبناء ليبيا المُجاهِدين، هما الأستاذ علي أسعد الجربي وكيل إدارة التعليم في برقة وقتئذٍ، والأستاذ الدكتور علي نور الدين العنيزي، وكان يملأ في ذلك الحين منصب مستشار حضرة صاحب السموِّ السيد محمد إدريس السنوسي؛ إذ اقتضى خروج الطليان من ليبيا أن يُعيد الليبيون النظر في أحوال بلادِهم تمهيدًا لوضع أُسس النهضة الجديدة، واتَّجهت عِنايتهم إلى التعليم، فأخذوا يدرسون نظُمه ووسائل نشرِه وتعميمه في أوطانهم، وحضر الأستاذ علي أسعد الجربي إلى مصر حتى يدرس برامج التعليم بهذه البلاد ويزور المدارس المصرية، ورحَّبَت وزارة المعارف العمومية بالأستاذ وزميله الدكتور علي نور الدين العنيزي ترحيبًا كبيرًا، وكان من نصيبي أن صحِبتُ الأستاذَين عند زيارتهما لطائفة من معاهد التعليم بالقاهرة، وتناول الحديث شئونًا عدةً، كان من أهمِّها، إلى جانب التعليم، ذِكر نِضال الليبيين المجيد في سبيل الخلاص من ظُلم الطليان، والتمتُّع بالاستقلال والحرية، وقد راعَني ما لمستُه في الأستاذَين من روحٍ وطنية عالية وإيمان صادق بالقومية العربية وما ينتظر العالم العربي قاطبةً من مستقبل زاهر إن شاء الله بفضل تآزُر شعوبه الفتية الناهضة، والتي يربط بينها جميعًا اتحاد الغايات النبيلة واستمساكها بمُثُل الإنسانية العالية، ثم تعدَّدت مقابلاتنا بعد ذلك وتوطَّدت أواصر الصداقة بيننا. وقد زارَني الأستاذان في آخر ديسمبر ١٩٤٣م، وحضر هذا الاجتماع صديقي الراحل الكريم الأستاذ عبد الله حسن — رحمه الله رحمةً واسعةً — ودار الحديث حول نضال الليبيين وتاريخ برقة وطرابلس، وقد حدث في أثناء هذا الاجتماع أن أطلعتُ الأستاذَين على كتابٍ كنتُ أقرؤه وقتذاك، صاحِبُه الرحالة الدانمركي كنود هلمبيو، يروي فيه قصة أسفاره في برقة خصوصًا ويصِف مشاهداته بها، ولشدَّ ما كانت دهشتي عندما عرفتُ أن ذلك الليبي العربي، الذي ذكر الرحالة الدانمركي أنه استطاع بفضل جهوده أن يقِف على حقيقة الأحوال في برقة وأن يجتمع بنُخبة من أبناء البلاد في الخفاء، كان الأستاذ علي أسعد الجربي نفسه، وهذا على الرغم مما كان يتعرَّض له الأستاذ من انتقام الطليان الشديد لو أن هؤلاء علِموا بنشاطه. وما إن تبيَّن الدكتور العنيزي رغبتي الصادقة في دراسة تاريخ القُطر الشقيق دراسةً جدِّية وافية حتى أقبل يُمدني بكل ما أحتاجُه لإتمام هذه الدراسة من كُتب قد يصعُب الوصول إليها في ظروف الحرب القائمة وقتذاك. ولمَّا كان أكثر هذه باللغة الإيطالية التي يُجيدها حضرته، فقد تفضَّل بمساعدتي في ترجمتِها شهورًا طويلة، ثم لم يقنع الدكتور بذلك بل إنه عمل على إتاحة الفرصة لي حتى أتمكَّن من استكمال نواحي هذه الدراسة، وذلك بمقابلة زعماء الليبيين وقادتهم، وأصحاب الرأي فيهم ممَّن اشتركوا في الجهاد من أيام الحرب الإيطالية-الليبية في عام ١٩١١م، ولا يزال أكثر حضراتهم ينقلون بالتواتُر عن آبائهم أو أجدادهم الكرام ما وقع من حوادث هامَّة إبَّان نضال السيد محمد المهدي بن السيد محمد بن علي السنوسي الكبير ضد الاستعمار الفرنسي في أفريقية الغربية خصوصًا، ثم ما كان يقوم من علاقات بين مؤسس السنوسية والسيد محمد المهدي والسيد أحمد الشريف من جانبٍ، وبين دار الخلافة والسلطان العثماني والدول الأوروبية من جانبٍ آخر. وواجب عليَّ أن أذكر في هذا المقام أنه قد تبين لي عند «فحص» هذه «الروايات» فحصًا علميًّا دقيقًا أنها جميعها صحيحة حتى في أدقِّ تفاصيلها، وكذلك كان شأن ما يذكُره حضراتهم من حوادث وقعت بعد ذلك في ليبيا وأسهم حضراتهم فيها بنصيبٍ وافر أو نقلوه عن أفراد حضروا هذه الوقائع بأنفسهم؛ ولذلك فإنه يطيب لي أن أذكُر شاكرًا ما تفضل عليَّ به من معلومات قيِّمة حضرات السيد محمد الرضا السنوسي والسيد محمد صفي الدين والسيد محمد الصديق من البيت السنوسي الكريم، وحضرات السادة يوسف بك لنقي، وعمر فائق شنيب بك والشيخ محمد الأخضر العيساوي وإبراهيم بك الشلحي.
وفضلًا عن ذلك فقد استطعتُ في أثناء مقابلاتي الكثيرة مع حضرة صاحب السمو الأمير السيد محمد إدريس، وحضرة صاحب السعادة بشير بك السعداوي، أن أجمع قدرًا من الحقائق والمعلومات أنار لي سبيل البحث والدراسة إنارة تامَّة سوف يلمس القارئ الكريم آثارها، ولا ريب، عند قراءة هذا التاريخ.
ولمَّا كان قد اشترك كثيرون من المصريين في حوادث الجهاد من وقتِ أن غزا الطليان طرابلس الغرب، فقد حرصتُ على تدوين مُذكراتٍ وافية عن الزعيم العربي والمجاهد «الليبي» المعروف حضرة صاحب المعالي عبد الرحمن عزَّام باشا، ويحتل معاليه في قلوب الليبيين مكانًا رفيعًا بفضل جهاده المُستمر في سبيل نجاح «القضية الليبية». وإني لأذكُر كذلك بكل تقديرٍ وثناء ما لقيتُه من اهتمامٍ بالغ بالحقيقة والتاريخ من جانب مجاهد مصري آخر لازم السيد أحمد الشريف من وقت الحملة على حدود مصر الغربية إلى وقت مغادرة سيادته طرابلس وذهابه إلى إستانبول، حضرة صاحب المعالي محمد صالح حرب باشا. وقد تفضَّل المغفور له الشيخ المُحترم عبد الستار بك الباسل — رحمه الله — فأملى عليَّ قبل وفاته مُذكراته عن الحرب الإيطالية-الليبية وحملة سيوة خصوصًا.
على أنه لا ينبغي أن يفوتني أن أذكر كذلك ما لقيتُه من مُعاونة الأصدقاء والإخوان الأوفياء عند إعداد هذا الكتاب للطبع، فأذكر بالشكر والثناء جهود الأستاذ عبد المقصود العناني، والأستاذ سيد محمد خليل، والأستاذ أحمد فريد علي مصطفى، والأستاذ محمد خليل السيد؛ مُترجم تركي بديوان حضرة صاحب الجلالة الملك، فلِحضراتهم جميعًا شكري وتقديري.