فاتحة القول
بحث كثيرون من الكُتاب والمفكرين في أواخر القرن الماضي على وجه الخصوص في أسباب الضعف الذي ألمَّ بالعالم الإسلامي، ودعاهم هذا البحث إلى التنقيب في حوادث التاريخ الإسلامي؛ علَّهم يظفرون بما يُشخِّصون به أمراض هذا المجتمع الإنساني الكبير من ناحية، ورجاء أن يستطيعوا وصفَ الدواء الناجع لهذه الأمراض من ناحيةٍ أخرى. وكان مُفكرو الشرق أسبق مِن غيرهم إلى تعرُّف مواطن الداء ووصف الدواء، تحدُوهم الغيرة إلى ذلك، وعلى الخصوص بعد ما شاهدوه من طُغيان الغرب على أقطاره، ينتزِعها من أهليها ويفرِض عليها سيادته الأجنبية، ويوغِل في استنزاف دمائها، بدعوى العمل على إصلاحها ونشر الحضارة في أرجائها، بل إنه لم يلبَث أن ظهر بين الغربيين أنفسهم طوائف صارت تهتمُّ بشئون العالم الإسلامي؛ فكان يدفع بعض هؤلاء إلى ذلك سأَمُهم من هذا العدوان المذموم، وباتوا يعقدون الأمل على يقَظة العالم الإسلامي حتى يردَّ عن نفسه كيد المُعتدِين، بينما ظلَّت جماعةٌ أخرى لا تسأم من رؤية هذا العدوان، بل كانت تبغي المزيد منه، فظلت تكشف عن مواطن الضعف، وتدلُّ إلى مكامِن القوة في جوانب هذا العالم حتى يسترشِد بذلك أصحاب الغزو والاستعمار. وقد اتفقت كلمة الفريقَين على أن العالم الإسلامي منذ نشأته حتى نهاية المائة الماضية وبداية القرن الحاضر، مرَّ في أدوار ظاهرة بين نهوض وتعثُّر، حتى جاءت نهضته الأخيرة المباركة بين عامي ١٧٥٠م و١٩٠١م.
وهذه النهضة تستند في اعتبارهم إلى دعاماتٍ قام عليها صرح العالم الإسلامي، في الحقيقة، من اللحظة الأولى، أهمُّها الْتفاف هذا العالم حول دستورٍ واحد هو القرآن الكريم، وما فرضته الشريعة السمحة الكريمة على كلِّ مسلمٍ قادِر على الحجِّ إلى بيت الله الحرام. ثم تأتي دعامة الخلافة، وكان لها شأن تاريخي عظيم في أوائل عهدها، ثم تقلَّبت عليها الأيام فترةً حتى جاء سلاطين الترك فاتخذوا لقب الخليفة، واعترف السنيُّون لهم بها. ومع أن الخلافة في عهد العثمانيين لم تكن إلَّا ملكًا عضودًا، وكان بين خلفائهم من اتَّصف بالظلم والغواية أو اشتهر بالعدل والحكمة، وكانت خلافتهم تُغاير في شروطها الصحيحة خلافة الراشدين الأولى؛ فقد ظلَّ العالم الإسلامي في دور هذه النهضة يعترِف بخلافة آل عثمان، خوفًا من انتشار الفتن الداخلية وتعرُّض العالم الإسلامي للتفكُّك والانهيار بسبب ذلك، ومن جرَّاء ما يُوجِّهه إليها الأعداء، الطامِعون في ملك هذا العالم، من ضرباتٍ قاتلة؛ ولذلك فقد ظلت وحدة العالم الإسلامي تستنِد إلى الحج والخلافة في شدِّ أزرِها وتقوية دعائمها.
وكان الحج ولا يزال بمثابة «المؤتمر» السنوي العام، تعقده وُفود الحجاج الآتين من مشارق الأرض ومغاربها، يملأ صدورهم الحماس لدِينهم، ويلمس العارفون، في أثنائه وعند إعمال الفكر وتداول الرأي، مآخِذ ضعف المسلمين، وينظرون في وسائل إحياء الملَّة والذَّود عن بيضة الإسلام. وفي القرن الماضي كان بيت الله الحرام قِبلة كل قاصد عِلمٍ يبغي التفقُّه في الدين والانقطاع للعبادة. وكانت أرض الحرمَين الشريفَين موطن التفكير الديني الخالص ومنبت كل دعوةٍ وإرشاد، يدلُّك على هذا أن كبار رجال الدعوة والإرشاد في القرن التاسع عشر الميلادي زاروا هذه البلاد المُقدسة، للحج أو لطلب العِلم أو للإقامة. وإنا نذكُر من هؤلاء على وجه الخصوص ثلاثة؛ فمِن المعروف أن صاحب دعوة الوهابيين «محمد بن عبد الوهاب» أقام بالمدينة المنوَّرة فترةً قبل أن ينشُر دعوته في الدرعية. وكذلك فعل حكيم الشرق السيد جمال الدين الأفغاني الحسيني، حيث قصد الأقطار الحجازية لأداء فريضة الحج وظلَّ بها نحو سنةٍ وهو يتنقَّل من بلدٍ إلى بلدٍ حتى وافى مكة المكرمة (١٢٧٣ﻫ). والذي نُريد أن نوجِّه إليه النظر ما فعله أيضًا العارف بالله الشيخ والسيد محمد بن علي السنوسي الكبير؛ فقد قصد سيدي محمد بن علي السنوسي مكة المُكرمة لأداء فريضة الحج ولطلَب العلم، وأقام بها مدةً وأنشأ بها أولى زواياه (١٢٥٧ﻫ/١٨٤١م).
وهؤلاء العظماء الثلاثة هم مِن غير شكٍّ أكبر دُعاة الإسلام لإحياء الملَّة، اتفق تشخيصُهم للمرَض الذي ألمَّ بجثمان العالم الإسلامي، واختلفوا في طرائق معالجة هذا المرض وإحياء هذا الجثمان، وأفلح الوهَّابي في الشرق، فقامت دولة فتيَّة على أساس تعاليمه، ونجح السنوسي في الغرب فكانت دعوتُه من وسائل انتشار الإسلام في أفريقية الغربية، ثم اقتضى نشرُ هذه الدعوة الدينية إقامة صرح الإمارة الليبية. وأما الأفغاني فقد نهج سبيلًا مُغايرًا لما سلكه الحكيمان الأوَّلان، فأخذ على عاتقه نشر الدعوة لإحياء الخلافة في العالم العثماني، وصار يدعو الشيعة لقبولها. وكان من رأيه أن الخلافة القوية في مقدورها أن تردَّ عدوان المُعتدِين وتحمي أقطار المسلمين في المشارق والمغارب، وفاته أن الجامعة الإسلامية — وإن كانت تعتدُّ بالخلافة العثمانية من حيث أنها سياج يمنع اعتداء المُعتدين على أقطارها — لا ترضى شعوبُها بالحكومة الاستبدادية على النمط الحميدي — نسبةً إلى السلطان عبد الحميد — الذي خدَمَه وآزَره السيد الأفغاني، كما لا ترضى بأن تفنى شخصيتُها — ولكلٍّ من هذه الشعوب مزاجُه وطبعُه الخاص به — في شخصية دولة الخلافة العثمانية. ومع هذا فقد نجح الأفغاني في استنهاض الهِمَم وتنوير الأذهان وإحياء الشعور الإسلامي في بلاد الشرق: في الأفغان والهند وفارس والشام ومصر. وعندما احتجزه السلطان العثماني في دار الخلافة، وقصر السيد نشاطَه على الدعوة لخلافة آل عثمان في شخص عبد الحميد الثاني؛ حمل مصباح الهداية في أقطار الشرق القريب تلميذُه ومريدُه السيد الإمام الشيخ محمد عبده.
ومِن البداية لا يجِد الكاتب مناصًا من ذِكر طرفٍ من مسلك هؤلاء الدُّعاة — الذين أرادوا بالإسلام وأهله خيرًا، والذين تقوم على أكتافهم نهضة الإسلام ويقظته في الدور الذي نحن بصددِه — نحو الخلافة من حيث أنها دينٌ ودولة؛ لِما في هذا من فائدةٍ لمعرفة شيءٍ من تاريخ السنوسية ذاتها، من بدء نشاطها وظهورها في وجود الخلافة العثمانية إلى وقت زوال هذه الخلافة. ولنبدأ بالوهابي، فمن المعروف أن شيخ الوهابية كان مُجددًا للإسلام في بلاد نجد، وذلك بإرجاع أهله عن الشِّرك والبِدَع التي فشت فيهم، إلى التوحيد والسنة. ومن الناحية السياسية حارب الوهابيون الخلافة العثمانية، فجرُّوا على أنفسهم عداء القوة العثمانية، زِد على هذا أن قسوتَهم في محاربة البِدَع وما إليها جعلت من المُتعذِّر أن تستقيم لهم الأمور سنين طويلة، حتى تمَّ لهم الأمر في عصرِنا هذا بحدِّ السيف وغلَب السياسة. على خلاف هذا كان موقف السنوسية من الخلافة ومن الإصلاح الديني؛ فالسيد محمد بن علي السنوسي ما كان يريد غير العبادة واقتفاء أثر السلَف الصالح ودعوة إخوانه ومُريديه إلى الدين القويم الصحيح، وإرشاد عباد الله لِما فيه سعادتهم في الدارَين، ولا ينشر دعوته بحدِّ السيف، بل طريقُه إلى ذلك التعليم والهداية والإرشاد، ثم لم يكن من مقاصده مناوأة الخلافة أو التعرُّض لها، لجُملة أسباب، أوَّلُها أنه يريد هداية العالم الإسلامي أجمع، فلم تكن دولة الخلافة العثمانية إلَّا قُطرًا من أقطار هذا العالم الواسع الذي يبغي إصلاحه؛ ولذلك لم تشغل الخلافة ذاتها، كنظامٍ ودولةٍ، حيِّزًا كبيرًا من تفكيره. أضِف إلى هذا أن السيد ما كان يرى ضرًّا في بقائها وهي وقتئذٍ رِباط العالم الإسلامي ودعامة الجامعة الإسلامية في نظر المُفكرين، ولو أن مشروع هذه الجامعة في ذلك الحين كان مُبهمًا، لا يعدو أن يكون مشروع عاطفةٍ وولاء ديني وحسب. زِد على ذلك أن السلطنة العثمانية — وهي التي ضمَّت إليها، من أزمنةٍ طولية، أرض برقة وطرابلس والجزائر وتونس — كانت قد تضعضعت قوَّتُها. وفي برقة التي يُهِمُّ السنوسيين أمرَها على وجه الخصوص، ما كان السلطان العثماني يتعدَّى السواحل، بينما بقِيَت الدواخل في أيدي شيوخ القبائل ورؤسائها، كما أن الأمم الإسلامية كانت ترتجي السلامة في بقائها في تلك الآونة ضِمن أملاك الدولة العثمانية — دولة الخلافة — خشية الوقوع في براثن المُستعمِر الأوروبي الذي أغار على الجزائر في وقته، وطفق يبسط سطوته بوسائل التبشير وما إليها حتى تغلغل نفوذُه تدريجيًّا في الشواطئ، ثم في داخل أفريقية الغربية وفي صحرائها الكبرى حتى تخوم السودان الإسلامي. فإذا ذكَرْنا أن الدعوة السنوسية في جوهرها دعوة إرشاد وعبادة، تقصد إلى معرفة الدين الصحيح، وتعمل على نشْر الفضيلة، وتحضُّ على الابتعاد عن الرذيلة، تأمُر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتبني قوَّتَها الروحية على تنظيم الزوايا للتعليم والتعلُّم، ثم اقتضى نجاح دعوتها شدَّ أزر دُعاتها في إمارةٍ كان لا مندوحة من إقامة صرحِها حتى تتولَّى، إلى جانب نشر الدعوة المُنظمة، الدفاع عن كيان الإسلام في مجاهل القارة الأفريقية. نقول إذا ذكرنا هذا كله، لتبيَّن لنا أن السنوسية كانت تنضوي تحت لواء الخلافة ما دامت هذه الخلافة قائمة. وقد ظلَّ أساطين الدعوة وأمراء السنوسية آمِنين على عهدهم حتى ذهبت الخلافة.
ووجْه الأهمية فيما ذكرنا أن السنوسية، وهي كما نعرف دعامة من دعائم اليقظة الإسلامية، كانت دعوةً دينية في جوهرها، ومع هذا فهي تقترِب اقترابًا كبيرًا، من حيث الرغبة في تعميم الإصلاح وإرشاد العالم الإسلامي، من طبقة أو جماعة المُصلحين المسلمين الذين تزعَّمَهم جمال الدين الأفغاني ثم الإمام الشيخ محمد عبده، ثم السيد أحمد خان (١٨١٧–١٨٩٨م) مُنشئ كلية «عليكرة» المشهورة، المدرسة الإسلامية العظيمة في الهند. ويتفق هؤلاء المصلحون في أنهم بنوا دعوتَهم إلى إيقاظ العالم الإسلامي على ضرورة نشر التعليم الديني الصحيح ونبذِ التعصب، والاستفادة من تفكير الغرب بالقدْر الذي ينفع في شحذ ذِهن الشرق وينهض بقومه. ولعل حركة الإصلاح الاجتماعي والديني الكبيرة التي قام بها الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده هي أقرب الحركات في معالمها الواسعة وأشَدُّها شبهًا بالدعوة السنوسية، فإن الإصلاح الذي نشدَه الإمام كان يقوم على ضرورة الرجوع إلى السَّلَف وتطهير الدين الحنيف مما دخل عليه من بِدَعٍ وأكاذيب، وتعميم التعليم الديني والإكثار من الدعوة والإرشاد؛ وطريقة التبليغ عنده المدارس ودور العلم. وبالمِثل عملت السنوسية على نشر الدين الصحيح ورفع لوائه عاليًا وتعميم التعليم الديني. ولا يزال طريق السنوسيين في ذلك إنشاء الزوايا، وهي دور عبادة وتعليم، ومراكز حياة واجتماع ومقرُّ سلامٍ ونظام في أقطار السنوسية بأجمعها.
ومع أن نهضة العالم الإسلامي في هذه الفترة (١٧٥٠–١٩٠١م) كانت تقوم على ركنَين أساسيَّين هما الحج والخلافة، فقد وُجِد ركن ثالث لهذه النهضة — أو قُل اليقظة الإسلامية — نجمَ عن انتعاش الطريقتَين القديمتَين: القادرية والشاذلية، ثم قيام الطريقتَين الجديدتَين: التيجانية والسنوسية. فالقادرية لمؤسِّسها الشيخ عبد القادر الجيلاني عظُم أتباعها في المغرب وفي أفريقية الغربية، وقاموا بنشر رسالة الإسلام من السنغال إلى الغرب من مصبِّ النيجر، يفتحون «الكتاتيب» أو المكاتب الصغيرة في زوايا الطريقة وفي جميع القُرى ويُلقِّنون بها صغار الزنوج الدين الإسلامي، ثم يُرسِلون النُّجباء منهم إلى مدارس طرابلس والقيروان وإلى الجامع الأزهر بمصر، حتى إذا أتمُّوا دراستهم نشروا الدعوة إلى الإسلام بين أقوامِهم. وأما الشاذلية فكانت من أُولَيات الطُّرق التي أدخلت التصوُّف في المغرب، ومن أهم أشياخها سيدي العربي الدرقاوي، وكان لهذه الطريقة جهاد معروف في مقاومة الفتح الفرنسي في المغرب. والتيجانية طريقة جديدة أسَّسها أحمد بن محمد التيجاني المُتوفَّى في فاس عام ١٨٧٢م، وقد كثُر أتباعها وعظُم شأنهم حتى صاروا من أشد أنصار الإسلام وفي أواسط القرن التالي كانوا سادة السودان الغربي من تمبكتو إلى شواطئ الأطلس مدة نيِّف وأربعين سنة. والسنوسية هي الطريقة التي أسَّسها السيد محمد بن علي السنوسي بعد أن تبحَّر في أصول الدين الحنيف ودرس الطرائق على شيوخِها وعظُمت همَّته وسمَتْ أغراضه عندما صار يُحزنه ما كان يراه من سوء حالة المسلمين وما هم عليه من تأخُّر، فعقد النية على أن يُخصِّص وقتَه وحياته لهدايتهم وإرشادهم، فأشرق من هذا العزم الصحيح منشأ السنوسية التي اختلفت عن الطرائق السابقة في أنَّ أتباعها ما كانوا ينشدون العُزلة فقط لكي يتفرَّغوا للعبادة وذِكر الله وإحياء الدين والملَّة بالدعوة والإرشاد، بل إنهم كانوا يحرصون على العناية بأمر دُنياهم أيضًا؛ على اعتبار أن الحياة الدنيا الرشيدة وفق تعاليم القرآن الكريم وهديِه وإرشاد السنَّة واقتفاء أثر السلَف الصالح، من شأنها التمهيد لحياةٍ باقية سعيدة؛ ولذلك فقد عُني السنوسيون لصالح إحياء العالم الإسلامي، وعلى الخصوص في المجاهل الأفريقية الغربية، بإنشاء الإمارة وتدعيم أركانها إلى جانب نشر الدعوة إلى الدين الصحيح على أساس العمل بالسنة والشريعة بدون شرطٍ ولا قصور.
وفي الفصول التالية سوف نحاول بإذن الله بيان أثر السنوسية كدعوة وإمارة في إحياء ويقظة العالم الإسلامي في أفريقية الشمالية والغربية، وما يُرجى من نشر ألوية الحضارة والعمران في الديار التي نمَت وترعرعت فيها، وهي الأقاليم التي تزعَّم فيها أمراء السنوسية وشيوخهم حركة المقاومة والكفاح العظيم ضد الاستعمار الأجنبي في برقة-طرابلس.