كفاح العرب في برقة وطرابلس
دلَّت محاولة الطليان أن يتخلصوا من السيد إدريس في الوقت الذي كان يتفاوض فيه والي برقة ديمارتينو لعقد اتفاق الرجمة، على أنهم كانوا غير مُخلصين في نواياهم، وأنهم ما قبلوا إنشاء الإمارة والاعتراف بالسيد إدريس أميرًا على برقة إلا مُرغَمين، بسبب ارتباك الحالة السياسية بداخل إيطاليا ذاتها في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ولعجزهم عن إرسال أية إمدادات كبيرة إلى ليبيا للقيام بعملياتٍ عسكرية واسعة، وفضلًا عن ذلك فإن كل ما كان يريده الطليان من عقد اتفاق الرجمة — كما ذكرنا في الفصل السابق — هو أن يستطيعوا الاتصال بالقبائل الضاربة في داخل البلاد، وإنشاء صِلاتٍ وثيقة معها تُمكِّنهم من إضعاف شوكة السنوسية ونفوذها. واهتم الطليان اهتمامًا عظيمًا بمسألة نزع الأسلحة من العرب، وكان إصرارهم على نزع الأسلحة من أقوى الأسباب التي أدَّت إلى استحكام الخلاف بينهم وبين الأمير؛ ذلك بأن العرب ما كانوا يقبلون البتة أن يُسلموا أسلحتهم طوعًا، بل لا بدَّ من إرغامهم على ذلك إرغامًا. وبذل السيد إدريس قصارى جهده حتى يُبين للطليان أنه من المتعذِّر إقناع العرب بتسليم سلاحهم، وأنه من الأفضل والأجدى أن يُقلع الطليان عن هذه الرغبة، ولكن هؤلاء بدلًا من أن يسمعوا لنصح الأمير صاروا ينتهزون فرصة حضور العرب إلى المدن ويعمدون إلى نزع سلاحهم عنوةً واقتدارًا، وقابل العرب هذا العمل بضروبٍ منوعة من الانتقام لأنفسهم، فوقع الاصطدام بين الفريقَين، وصار العرب يُطلقون النار على سيارات الطليان ودورياتهم، وعظمت شكايات الطليان مما سمَّوه «اعتداءات» العرب عليهم، وكرَّروا الشكوى للأمير، وعبثًا حاول السيد إدريس أن يُقنع الطليان بأنهم وحدَهم أصحاب المسئولية عن وقوع هذه الحوادث وإثارة الفتن والقلاقل والهياج بين العرب بسبب إصرارهم على جمع الأسلحة منهم عنوةً ونبذ نصيحة السيد. وتحدث الطليان من ذلك الوقت المبكر عن «نقض» العرب اتفاق الرجمة، ثم أخذوا يُظهرون نواياهم الحقيقية عندما جاءت الوفود من طرابلس تحمل بيعة الإمارة للسيد إدريس على نحوِ ما سبق بيانه، فأوقفوا تنفيذ اتفاقاتهم، وعمِلوا على تعطيل القانون الأساسي بصورةٍ أقنعت العرب والمجاهدين بأن الطليان لم يكونوا جادِّين عندما قطعوا على أنفسهم المواثيق والعهود بإنشاء الحكومة الوطنية التي تكفل للبلاد الهدوء والسكينة. ومن أواسط عام ١٩٢٢م وقبل أن يُضطر الأمير إلى مغادرة البلاد بدأت تتأزم الأمور بين الطليان والعرب في برقة، وكان مما أنذر ببدء هذا التحرُّج في العلاقات قتل أحد المُزارعين الطليان في الفويهات، ويُدعى رونوني، إذ اتهم الطليان مُستشار النظارة في الأدوار الشيخ صالح العوامي شيخ زاوية بنغازي بأنه كان اليدَ المُحركة في هذه الحوادث، وفي واقعة قتل رونوني، وطلب المُتصرِّف الإيطالي روليني من السيد صفي الدين في الأبيار أن يُبعد الشيخ صالح العوامي إلى أجدابية أو جالو؛ لأن الحكومة — على حدِّ قوله — لديها ما يؤكد اشتراك الشيخ صالح في المشاغبات، وتعرف أن «الثوار» يزورون الشيخ ليلًا، وأن لدَيه في محل إقامته بعض الأشياء التي أخذها العرب من الطليان في أثناء مُصادماتهم معهم. وكان هذا ولا شك اتهامًا خطيرًا، فطلب السيد صفي الدين أن يعرض الأمر على سمو السيد إدريس، وذهب لمقابلته ومعه الشيخ صالح العوامي، ووجد الأمير في زاوية القطوفية، ورفض السيد إدريس تنفيذ مطالب الطليان دون أن يسبق ذلك تحقيق فيما نُسِب إلى الشيخ صالح وثبوت التهمة عليه وإدانته، فعاد السيد صفي الدين إلى الأبيار ومعه الشيخ صالح ٨ صفر ١٣٤١ﻫ (٣٠ سبتمبر ١٩٢٢م). وما إن وصل صفي الدين إلى الأبيار حتى علم بوقوع حادثٍ كان في نظر الطليان أعظم خطورةً من حادث العوامي، ويُعرَف في تاريخ الجهاد في برقة باسم واقعة البياضة.
فقد حدث في يوم ١٤ سبتمبر من عام ١٩٢٢م أن التقى بعض العرب عند البياضة بين المرج وشحات بسيارة بريد للطليان، فوقع الاصطدام بين العرب والطليان، إذ أطلق الحرس الإيطالي النار على العرب، فعطَّل هؤلاء عجلات السيارة وأوقعوا بالحرس، وثارت ثائرة الطليان، وعدُّوا الشيخ العوامي مسئولًا عن وقوع هذا الحادث كذلك. ولمَّا عجزوا عن القبض على «المُعتدين» ذهبوا إلى الأبيار واقتحموا منزل السيد صفي الدين وطلبوا القبض على الشيخ صالح، وأصرُّوا على القبض عليه عنوة، ولكن صفي الدين امتنع عن تسليمِه لهم، ووجد أنه قد يكون من الخير إذا شاء المحافظة على حياة الشيخ صالح وهو رجل مُسن أن ينال من الطليان تعهدًا بعدم إلحاق الأذى به وعدم المساس بكرامته أو إهانته. وتعهَّد روليني المُتصرف الإيطالي بذلك، ثم وعد باستئناف المذاكرة في مسألة الشيخ صالح في اليوم التالي، وخرج الشيخ مع المتصرف، وأوفد السيد صفي الدين مندوبِين من قبيلة الشيخ موسى البرعصي ثم الشارف الغرياني للمحافظة على الشيخ، وكادت تنتهي هذه الواقعة بسلام لولا أنه حدث في مساء اليوم الذي تمَّ فيه إلقاء القبض على العوامي أن حضر إلى الأبيار رسول إلى السيد صفي الدين من قبل الشيخ عثمان العنيزي يُنذر السيد بأن الطليان يُضمرون خلاف ما يظهرون، وأنهم سوف يحضرون في الغد لإلقاء القبض على السيد صفي الدين نفسه بدلًا من «المذاكرة» المزعومة، وأن من واجب السيد صفي الدين أن يُغادر الأبيار بكل سرعة.
وكان الشيخ عثمان العنيزي رجلًا وقورًا، صقلته التجارب، وقع عليه الاختيار عند افتتاح البرلمان ليتولى الرئاسة بوصفه أكبر الأعضاء سنًّا، ثم حضر جميع الدورات البرلمانية بعد ذلك، ويقول السيد صفي الدين بعد أن أطنب في صفات الشيخ عثمان العنيزي: «وكان من الشائع أنه كانت هناك صِلات بين الشيخ عثمان وبين الطليان، ولكنه من الثابت قطعًا أن الشيخ عثمان العنيزي كان عظيم الولاء للسنوسية، بل إنه على العكس مما أُذيع عنه وقتذاك كان على اتصالٍ مستمرٍّ مع زعمائها خصوصًا في معسكر المجاهدين في جخرة بالبرقة الحمراء مع الشيخ صالح العوامي، ثم «مع السيد صفي الدين نفسه» من وقت اشتداد النضال مع الطليان منذ عام ١٩١٤م.» والواقع أن الشيخ عثمان العنيزي كان من أكبر مؤيدي سياسة السيد إدريس، وجاء الآن تحذيره للسيد صفي الدين، في الوقت المناسب، من غدْر الطليان برهانًا ساطعًا على صدق ولائه. وكانت وفاة الشيخ عثمان العنيزي — رحمه الله — في ٤ أغسطس ١٩٣٣م. وبمجرد أن وصلت رسالة السيد صفي الدين خرج السيد من الأبيار متخذًا من ظلام الليل ستارًا يُخفي حركاته وتوجَّه إلى جردس العبيد، ثم قدم استقالته من رئاسة البرلمان احتجاجًا على سلوك المُتصرف الإيطالي. وعندما علِم الطليان باستقالته حاولوا أن يوسِّطوا الأمير حتى يُقنع السيد صفي الدين باستردادها ولكن دون جدوى، وخرج صفي الدين من الجردس إلى أجدابية، فوصلها في ٢٢ أكتوبر ١٩٢٢م.
وكان حادث العوامي، وما ترتَّب عليه من استقالة السيد صفي الدين من رئاسة البرلمان، مؤذِنًا ببداية نضال العرب بصورةٍ جدية ضد الطليان، فأحرق المجاهدون ثكنات البعثة الإيطالية — وهي بعثة اتصال لدى الأمير — في الزويتينة في ليل ١٤ و١٥ أكتوبر ١٩٢٢م، واضطرت البعثة إلى الهرَب على ظهر إحدى السفن من الزويتينة. وكان في أثناء هذه الحوادث أن قبل السيد إدريس الاجتماع بالوفود الطرابلسية التي جاءت تعرض على سموِّه بيعة الإمارة على الرغم من «تحذيرات» الطليان وتهديداتهم. وأدرك هؤلاء أن السنوسية قد صمَّمت على إظهار العداء لهم بصورةٍ سافرة طالما أنهم لا يُوفون بعهودهم. ولكن الطليان لم يكن في وسعهم في هذه الآونة أن يُظهروا عداءهم للسنوسية، وتمسكت الحكومة المركزية في رومة بعدم قطع العلاقات بينها وبين الأمير، بل إن الوالي الجديد بكاري أخذ يبذل قصارى جهده عند وصوله إلى بنغازي حتى يعمل على إزالة أسباب الخلاف بين الطليان والسنوسية.
وكان يقوم بعمل الوالي منذ وفاة ديمارتينو وكيله «لويجي بنتور»، فحضر الآن بكاري الذي وصل إلى بنغازي في أكتوبر ١٩٢٢م، وشرع يُنفذ بعض ما اشتملت عليه معاهدة الرجمة من مواد. غير أن هذه المساعي المبدئية سرعان ما توقفت عندما تولَّى الفاشيست وعلى رأسهم السنيور موسوليني رئاسة الحكومة في رومة. فقد بادر هؤلاء بعزل بكاري، ذلك بأنهم اعتبروا ما فعله في سبيل استمالة السنوسية وحسم كل خلافٍ معها — على حد قول كتابهم — إهانةً بالغة تُلحق الأذى بسُمعة إيطاليا وشرفها، فأوفدوا بدلًا منه الوالي بونجيوفاني لتنفيذ سياسة الشدة والصرامة الجديدة. وكشف بونجيوفاني عن حقيقة نوايا الحكومة الإيطالية نحو السنوسيين وإصرارها على مقاومة السيد إدريس ومُحاربته في أجدابية والجردس والجبل، وعدم التقيد بالتزامات معاهدة الرجمة، والإصرار على نزع الأسلحة من العرب، حتى إذا تم للطليان ما أرادوا، بسطوا سلطانهم على القطر البرقاوي بأجمعه. وكان في هذه الظروف أن اضطُر السيد إدريس إلى مغادرة برقة إلى مصر في يناير ١٩٢٣م على نحو ما تقدَّم ذكره في الفصل السابق.
غير أن السيد إدريس، أمام هذا التغيير الظاهر في سياسة الطليان وخُطتهم، ما لبث أن عمد إلى تنظيم المقاومة ضد الاحتلال الإيطالي في القُطر الليبي قبل مغادرته البلاد، فبحث هذا الأمر مع الزعماء والرؤساء البرقاويين من جانب، ومع بشير سعداوي والوفود الطرابلسية من جانبٍ آخر، وقرَّ رأي الأمير على أن يعهد بالأعمال السياسية والعسكرية في برقة إلى السيد عمر المختار نائبًا عن سموِّه في تنظيم الأدوار (أي معسكر المجاهدين)، وأن يعهد بالمسائل الدينية وما يتعلق بالسنوسية وشئون الأسرة الكريمة إلى أخيه السيد محمد الرضا، وكان السيد رضا في جالو نائبًا عن سموِّه في إدارة شئونها. وزوَّد الأمير رجاله بالتعليمات اللازمة وأوصاهم باتخاذ الحيطة دائمًا من غدْر الطليان الذي كان غرضهم في اللحظة الأخيرة وقُبيل مغادرة الأمير للبلاد القبض على رؤساء السنوسية العاملين: السيد إدريس نفسه والسيد الرضا والسيد صفي الدين, وفضلًا عن ذلك فقد اتفق السيد إدريس قبل سفره مع السيد عمر المختار بصدد بعض زعماء المجاهدين الذين توسَّم فيهم الأمير المقدرة والكفاءة حتى يكونوا رؤساء على أدوار المجاهدين في برقة، وترك التعليمات المُفصلة لتشكيل الجيوش بقيادة الرؤساء السنوسيين؛ السيد محمد الصديق بن السيد محمد رضا وأخيه الحسن بن الرضا، وقجة بن عبد الله السوداني والفضيل بو عمر، والسيد يوسف بو رحيب، والسيد حسين الجويفي، والسيد عبد الله بو سلوم، على أن يتولى قيادة هذه الجيوش جميعًا السيد عمر المختار.
وكان الأمير عقب قبوله بيعة الإمارة التي جاء بها الطرابلسيون إلى أجدابية قد وافق على رأيٍ تقدَّم به بشير السعداوي وقتذاك بصدد إنشاء هيئة مركزية في برقة من رؤساء القبائل تضطلع بأعباء الإدارة، واختار الأمير لرئاستها الشيخ مختار الغدامسي، وهو من القضاة الشرعيين ومن أكبر علماء البلاد، وعلاوةً على ذلك فقد بحث الأمير مع بشير سعداوي مسألة استمرار المقاومة في القُطر الطرابلسي ضد الطليان، ووافق على ذهاب السيد صفي الدين مع بشير سعداوي والوفد الطرابلسي إلى مصراتة لمواصلة الجهاد في طرابلس.
وما إن غادر الأمير أجدابية حتى عقدت الهيئة المركزية البرقاوية جلساتٍ عدة للبحث في شئون البلاد وتهيئة وسائل الكفاح ضد العدو، وحضر بشير سعداوي جلسات الهيئة، وكان غرض بشير أن تتألف جبهة مُتحدة من برقة وطرابلس لمتابعة الجهاد ضد إيطاليا دون أي إبطاء. وبعد تبادل الرأي ظفر السعداوي بموافقة تامة على رأيه، ووقَّع الحاضرون على قرار بإثارة الحرب ضد إيطاليا، ووافق السيد محمد رضا على ذلك نزولًا على رأي الجماعة، وتأهَّب السعداوي لمغادرة برقة إلى طرابلس، وخرج معه السيد صفي الدين في ٢١ رجب ١٣٤١ﻫ (٩ مارس ١٩٢٣م). ومع أنَّ الطليان قد انتصروا على المجاهدين في طرابلس، فإن الاعتقاد كان لا يزال قائمًا أن مصراتة وترهونة تتزعَّمان الجهاد وتمضيان فيه بنجاح، ولم يعرف البرقاويون الذاهبون مع بشير سعداوي إلى طرابلس شيئًا عن حقيقة الموقف في القُطر الشقيق، حتى إذا وصلوا في طريقِهم إلى مصراتة إلى محلٍّ يُسمَّى منقار النسر، صادفوا مَن أخبرهم بهزيمة المجاهدين في طرابلس، وكان من بين أعضاء الوفد السنوسي الذاهب مع بشير، أحمد (باشا) سيف النصر وأخوه عمر سيف النصر إلى جانب السيد صفي الدين. ويقول السيد صفي الدين: «وعند وصولنا إلى النوفيلية وجدنا بها خالد بك القرقني وعثمان بك الجيزاني، فارتحلنا جميعًا إلى سرت.
وفي أثناء الطريق وصلَنا خبر مشئوم مؤداه أن محمد سعدون السويحلي أخا رمضان السويحلي قد استُشهد في القتال، وكان محمد سعدون من خير القوَّاد الذين تولوا قيادة العمليات العسكرية في الحركة الأخيرة. على أننا تابعنا السير بعد ذلك حتى بلغنا سرت، وهناك قابلنا أحمد بك المريض، ثم ذهبنا إلى وادي نفد بين مصراتة وورفلة، وفي ورفلة وجدنا أحمد شتيوي وهو من إخوة رمضان السويحلي، وكان أحمد شتيوي متصرِّفًا على مصراتة. ثم وجدنا معسكر المجاهدين العام.» وقد بذل بشير سعداوي جهودًا صادقةً حتى يحشد جموع المجاهدين حول السيد صفي الدين وتحت لواء الزعامة السنوسية. وكان قائد معسكر المجاهدين الطرابلسيين في وادي نفد حوالي ثمانية شهور من شعبان ١٣٤١ﻫ إلى شهر جمادى الأولى من عام ١٣٤٢ﻫ (أبريل إلى ديسمبر ١٩٢٣م).
وسعى السيد صفي الدين من أجل التوفيق بين القبائل وتوحيد كلمة المجاهدين، وكان يحُول دون جمع الكلمة عدم اطمئنان عبد النبي بلخير زعيم ورفلة وخوفه من أن تعمل أسرة السويحلي للانتقام منه لقتلِه رمضان شتيوي زعيمها، أضف إلى هذا أن عبد الجليل سيف النصر كان لا يزال يحقد على مصراتة ويعقد علاوة على ذلك آمالًا عظيمةً على أن تمدَّ هيئة الإصلاح المركزية يد المعونة إليه فتُعطيه قوة يتمكن بفضلها من الهجوم على فزان وانتزاعه من قبضة خليفة الزاوية، ولمَّا كان هذا الأخير على اتصالٍ بهيئة الإصلاح المركزية، فإن هذه الهيئة، بطبيعة الحال، لم تُجب عبد الجليل سيف النصر إلى طلبه، فانسحب عبد الجليل من معسكر وادي نفد، وكان لانسحابه أثر بالِغ في إضعاف روح المجاهدين المعنوية، ثم تَبِعه أحمد المريض زعيم ترهونة، فانسحب هو الآخر من وادي نفد وذهب إلى سرت، وخرج من سرت بأُسرته إلى جالو. وهكذا وجد السيد صفي الدين بعد فترة من الزمن أنه لم يبقَ بدور المجاهدين في وادي نفد سوى أحمد السويحلي إلى جانبه. وكان مما زاد الطين بلَّةً أن فاجأ إبراهيم السويحلي الدور لمجرد النهب، ولم يستطع السيد صفي الدين أو أحمد السويحلي (عم إبراهيم) فعل شيءٍ لمنعه؛ لأن إبراهيم بوصفه قائدًا على قوات المجاهدين كان صاحب الكلمة المسموعة في الجيش وقائده الأعلى، فاضطر السيد صفي الدين، وقد شاهد انحلال المقاومة ضد الطليان واستمرار هؤلاء في احتلال البلاد، إلى الذهاب إلى جالو، وبعث إلى السيد إدريس بالقُطر المصري يُنبئه بكل ما وقع، فأجابه السيد إدريس بأن له أن يختار إما البقاء في جالو وإما الذهاب إلى جغبوب، وارتحل صفي الدين إلى الجغبوب في صفر ١٣٤٢ﻫ (سبتمبر ١٩٢٣م).
وكان بشير سعداوي طول هذه المدة يسعى من جانبه لجمع كلمة المجاهدين الطرابلسيين، فعقد عدة اجتماعات لتحقيق هذه الغاية في قرضابية، ثم في قصر بوهادي، واستطاع أن يؤسِّس مركزًا للجهاد في المكان الأخير، وتسلَّم الحكم في سرت، وجمع شتات المُنهزمين اللاجئين إلى سرت، وكانوا حوالي خمسين أو ستِّين ألفًا، وثبَّت المجاهدون في مصراتة وترهونة أقدامهم نتيجةً لهذا العمل، ولكن الطليان بقوَّاتهم الجرَّارة وطائراتهم استطاعوا القضاء على المقاومة رويدًا رويدًا، ثم هاجموا في آخر الأمر ورفلة، وعندئذٍ انحلت المقاومة تمامًا، واضطُر بشير سعداوي إلى مغادرة سرت في عام ١٩٢٤م بعد أن مكث بها سنة تقريبًا. وكان خروج السعداوي من البلاد وهو أشدُّ المجاهدين الطرابلسيين تحمسًا في هذه الآونة العصيبة، ومن أعظمهم مثابرةً على الجهاد، ويتحلَّى برجاحة العقل والرزانة والهدوء، ويتصف بالقدرة على النظر البعيد وتقليب وجوه الرأي في عواقب الأمور؛ نقول إن خروجه كان مؤذنًا بأن «الثورة» قد انتهت فعلًا، وأن الأمر قد استتبَّ للطليان في طرابلس أخيرًا، وأن برقة وحدَها هي التي أصبحت تحمِل على عاتقها عبء الجهاد منفردةً ضد العدو. وكان والي برقة الجديد بونجيوفاني قد بدأ يحلُّ الأدوار المختلفة في برقة عنوةً واقتدارًا، وتم له ما أراد في الأسبوع الأول من شهر مارس ١٩٢٣م، فحلت الحكومة في ٦ مارس أدوار الأبيار وتكنس واسلنطة والمخبلي وعكرمة. وانتهز بونجيوفاني فرصة افتتاح الدورة البرلمانية في اليوم نفسه، فخطب خطبةً طويلةً، ذكر فيها أن السنوسيين كانوا غير مُخلصين للحكومة الإيطالية، ثم أبلَغ سامعيه فحوى التدابير التي وجد من الضروري اتخاذها في سبيل المحافظة على احترام القوانين واستتباب النظام، على حد قوله، وكانت أولى هذه التدابير احتلال أجدابية ذاتها في ٢١ أبريل ١٩٢٣م، وهي مقر الإمارة السنوسية. وفي يوم ٢٤ أبريل أعلن الوالي «أن كل الاتفاقات التي أبرمَتْها إيطاليا مع السنوسية قد أصبحت لاغية ولا أثر لها.» وفي أول مايو من السنة نفسها عاد بونجيوفاني فأكد إلغاء هذه الاتفاقات في منشور أعلن فيه «أن السنوسية قد أصبحت مجرد طريقةٍ تُشبه غيرها من الطرق الإسلامية، وأن نشاطها يجب أن يظل نشاطًا دينيًّا محدودًا فحسب.» وفي يوم ٣ مايو ذهب ألدوروفاندي الوزير الإيطالي في مصر لمقابلة الأمير السيد إدريس، وأبلغه أن الاتفاقات التي عقدتها إيطاليا مع سموِّه قد اصبحت لاغية ولا وجود لها، ومن ذلك الحين بدأ النضال من غير هوادةٍ أو لينٍ بين المجاهدين والطليان في برقة.
وكان المجاهدون منذ احتلال أجدابية قد انسحبوا إلى الجنوب، ثم رابطوا في زاوية القطوفية وجعلوا منها قاعدة لمناوشة الطليان في أجدابية، وشرعوا يوسعون دائرة عملياتهم حتى تشمل منطقة الجبل الأخضر بأكملها بقيادة السيد عمر المختار، ووجد المختار، وقد استُؤنف الجهاد على نطاق واسع، أن من واجبه الاتصال بالأمير السيد إدريس فورًا حتى يُطلعه على ما وقع من حوادث وحتى يتلقَّى من سموِّه التعليمات المُفصلة بصدد الجهاد ضد العدو؛ وعلى ذلك فقد قرَّر السيد عمر المختار الذهاب إلى مصر، واستطاع اجتياز الحدود في منتصف عام ١٩٢٣م، ثم تمكن من مقابلة السيد إدريس (بمصر الجديدة)، ولقِيَ كل إعزاز وتكريم، فزار أهل البيت النبوي الكريم في القاهرة، واستضافه صديقه القديم عبد الرحمن عزام، فأقام المختار في ضيافة العزام بحلوان مدة، وكان المختار عظيم الولاء للسنوسية وزعمائها وشيوخها، وقد أظهر مبلغ ولائه العظيم لها في أثناء إقامته بمصر عندما حاول جماعة من قبيلة المنفة وهي من قبيلة السيد عمر المختار — وكانوا قد أقاموا بمصر — أن يقابلوا السيد عمر للترحيب به، فاستفسر المختار قبل أن يأذن لهم بذلك عما إذا كانوا قد سعَوا لمقابلة الأمير عند حضوره إلى مصر، فلمَّا أجاب هؤلاء بالنفي مُعتذِرين بأن أسبابًا عائليةً قهرية منعتهم من تأدية هذا الواجب، رفض المختار مقابلتهم قائلًا: «وكيف تُظهرون لي العناية وتحضرون لمقابلتي وأنتم الذين تركتم شيخي الذي هو ولي نعمتي وسبب خيري؟ أما وقد فعلتم ذلك فإني لا أسمح لكم بمقابلتي ولا علاقة من الآن بيني وبينكم.» فما إن بلغ السيد إدريس ما فعله المختار مع الجماعة حتى أصدر إليه أمره بمُقابلتهم، فامتثل المختار لأمره. وحدث عند خروج السيد عمر من القاهرة في طريقه إلى برقة لمواصلة الجهاد أن اجتمع به مشايخ قبيلته الموجودون بمصر من المُتقدمين في السن، وحاولوا أن يثنوه عن عزمه بدعوى أنه قد بلغ من الكبر عتيًّا، وأن الراحة والهدوء ألزَمُ له من أي شيءٍ آخر، وأن باستطاعة السنوسية أن تجد قائدًا غيره لتزعُّم الثورة والجهاد في برقة، فغضب المختار غضبًا شديدًا، وكان جوابه قاطعًا فاصلًا، فقال لمُحدِّثيه: «إن كل من يقول لي هذا الكلام لا يريد خيرًا لي؛ لأن ما أسير فيه إنما هو طريق خير، ولا ينبغي لأحدٍ أن ينهاني عن سلوكها، وكل من يحاول ذلك فهو عدو لي.» وقد ظلَّ المختار طوال سنوات الكفاح المريرة التالية على عهده ومتمسكًا بولائه للسنوسية، ويعمل لما فيه الخير لمصلحة الجهاد والمجاهدين في برقة، وكان المختار يعتقد اعتقادًا راسخًا أن هذا العمل إنما هو فرض يؤدِّيه وواجب ديني لا مناصَ منه ولا مَحيد عنه، وكان لنشأة المختار في أحضان السنوسية وتحت رعايتهم أعظم الأثر في ذلك.
فقد ولد السيد عمر من أبوَين صالحَين بالبطنان في دفنة حوالي عام ١٢٧٩ هجرية (١٨٦٢ ميلادية)، ووالده السيد مختار بن عمر من قبيلة المنفة، وينتسب إلى قبيلة بريدان المنفة من أسرة فرحات، وقد تُوفي الوالد في أثناء سيره إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج وبصحبته زوجه الحاجة عائشة والدة المختار، كما كان معه في هذا الحج الغرياني الشمسي والد الشارف الغرياني، فأوصى الوالد رفيقه الغرياني الشمسي بولدَيه عمر ومحمد خيرًا، وكان ولداه يقيمان وقتذاك بزنزور يدرسان بزاويتها، ثم ما لبث عمر المختار أن ذهب إلى زاوية الجغبوب لإتمام دراسته، فمكث بها ثمانية أعوام، وأظهر المختار من الصفات الخلقية السامية ما حبَّب فيه شيوخ السنوسية وزعماءها، فتمتع بعطفهم ونال ثقتهم، حتى إن السيد محمد المهدي السنوسي عند انتقاله من جغبوب إلى الكفرة (١٣١٢ﻫ/١٨٩٥م) اصطحب المختار معه. وفي عام ١٣١٥ﻫ (١٨٩٧م) عيَّنه السيد المهدي شيخًا لزاوية القصور بالجبل الأخضر قريبًا من المرج، وكان يقطن بهذه الزاوية وحولها قبيلة العبيد، وهم أناس عُرفوا بشدة المراس وقوة الشكيمة، وقد اختاره السيد المهدي لهذه الزاوية حتى يسوس شئونهم باللين تارةً وبالعنف تارة أخرى، وحقَّق المختار ما عقده السيد المهدي على إدارته الحازمة من آمال. وعلى ذلك فإنه عندما قرر السيد المهدي الانتقال إلى السودان الغربي في الظروف التي سبق ذكرها، كان المختار في طليعة من ذهبوا إلى قرو، وذلك حتى يُسهم بنصيب وافر في النضال الذي نشب وقتذاك بين السنوسية والفرنسيين في المناطق الجنوبية وحول واداي.
وأقام المختار في قرو مدة من الزمن، ثم عيَّنه السيد المهدي شيخًا لزاوية عين كلك، فاستمرَّ المختار بالسودان الغربي وقتًا طويلًا نائبًا عن السيد المَهدي، ويقوم بتعليم أبناء المُسلمين ويُبشر بالإسلام في هذه الأصقاع النائية. وبعد وفاة السيد المهدي ١٣٢٠ﻫ (١٩٠٢م) استُدعي المختار إلى برقة، ثم عُين في العام التالي شيخًا لزاوية القصور مرةً أخرى، فبذل الهمَّة في حُكم قبيلة العبيد وسياسة شئونها حتى سلس له قيادها، وشكرت له الحكومة العثمانية هذا النجاح واستتباب الأمور في القصور لأن العبيد كانوا من أكبر القبائل عنادًا ويعجز العثمانيون عن إخضاعهم لسُلطانهم، فظلَّ الحكام العثمانيون في برقة يلجئون إلى المختار حتى يُساعدهم في جمع أموال العشور والضرائب، وبقي المختار في زاوية القصور إلى أن نشبت الحرب الليبية-الإيطالية، فكان السيد عمر من أوائل أولئك الذين لبَّوا نداء الجهاد وحملوا لواءه.
وكان المختار وقت نزول الطليان في بنغازي بواحة جالو، فخفَّ إلى القصور مُسرعًا، وخرج بنجدة عظيمة من العبيد إلى مقر الجيش العثماني في الرجمة، وكان معه الشيخ أحمد العيساوي شيخ زاوية بنغازي والشيخ محمد الأخضر العيساوي — من علماء برقة بالأزهر الشريف الآن، وأحد أفاضل الكتَّاب الذين أرَّخوا للسنوسية — واتخذ المختار مقامه في دور بنينة، ثم اشتبك مع الطليان في معارك عدة، فهاجمهم في بنغازي، ودأب على التنقُّل بين القصور وتكنس، حتى احتل الطليان هذه الأماكن في سبتمبر ١٩١٣م. فقاد المختار المجاهدين في أدوار جبل العبيد، وعهد إليه السيد إدريس بمهمَّات عدة، واتخذ من منطقة دفنة مجالًا لنشاطه الواسع بين قبائل منفة ومريم وشوار وحبون. وعندما اشترك السيد أحمد الشريف في غزو الحدود المصرية الغربية، ووقعت المصادمات بين العرب والإنجليز، أسهم المختار في هذه العمليات العسكرية، وبعد معارك بيروار وبوتونس لازَم المختار السيد إدريس لتلقِّي أوامره، وساء المختار أن ينكث الطليان عهودهم وينقُضوا اتفاق الرجمة. وفي يونيو ١٩٢٣م كان من أكبر الساعِين في تأليف جبهة مُتحدة تضمُّ البرقاويين والطرابلسيين من أجل النضال ضد إيطاليا. ونظرًا لمكانة السيد عمر المختار عند الأمير، لم يسَعِ الطليان، على الرغم من نشاطه الملحوظ، إلا أن يُصدروا مرسومًا بتعيينه شيخًا على زاوية القصور في أغسطس من العام نفسه بناءً على طلب الأمير، وذلك تنفيذًا لما وصلوا إليه من اتفاقاتٍ مع السيد إدريس بصدد الزوايا السنوسية (منذ ١٦ أغسطس ١٩٢١م). وعندما قرَّر السيد إدريس مبارحة برقة، عهد بقيادة المجاهدين العُليا إلى السيد عمر المختار، فجعل المختار مقرَّه في الجبل الأخضر من ذلك الحين إلى وقت وقوعه في قبضة الطليان بعد عشرة أعوام تقريبًا. وفي غضون عام ١٩٢٣م قصد المختار إلى مصر لمقابلة الأمير وتلقِّي أوامره.
وكان في أثناء هذه المقابلة أن تم الاتفاق بين الأمير والسيد عمر المختار على تفاصيل الخطة التي يجِب أن يتبعها المجاهدون في نضالهم ضد الطليان، على أساس إنشاء الأدوار واختيار الرؤساء الصالحين لقيادة المجاهدين في كل دور من هذه الأدوار في الجبل الأخضر، وأن تظل القيادة العُليا من نصيب المختار نفسه، وزوَّده الأمير بكتاب في هذا المعنى إلى السيد محمد الرضا. وعلاوةً على ذلك فقد تم الاتفاق بين الأمير والمختار على أن يبقى السيد إدريس بالقُطر المصري، حيث يبذل قصارى جهده مع السلطات المحلية لتعطيل مساعي الطليان الذين أرادوا أن يحملوا الحكومتَين المصرية والإنجليزية على منع المجاهدين من الالتجاء إلى مصر ومنع الإمدادات والمساعدات عن العرب في برقة.
وكانت مهمة السيد إدريس، إلى جانب إمداد المجاهدين بكل المساعدات المُمكنة، في مصر أن يُرسِل تباعًا الإرشادات والتعليمات اللازمة إلى المختار في الجبل الأخضر، ثم اتفق الأمير مع المختار على أن ينقل الحاج التواتي البرعصي تعليمات الأمير إلى السيد عمر. وما إن تزوَّد المختار بهذه التعليمات حتى غادر القاهرة، وعند وصوله إلى السلوم وجد بعض الرفاق في انتظاره، فأخذ الجميع حاجتهم من المؤن الكافية لرِحلتهم المُزمَعة إلى الجبل الأخضر وغادروا السلوم إلى برقة.
وقد حدث في أثناء وجود المختار في مصر أن اشتبك الطليان في معركتَين كبيرتَين مع المجاهدين في بير بلال والبريقة في ذي القعدة ١٣٤١ﻫ (يوليو ١٩٢٣م). وتفصيل ذلك أن الطليان الذين ضجروا من مناوشات المجاهدين لهم عوَّلوا على الانتقام من السنوسية ومن العرب، فجهزوا حملة عسكرية من خمسة آلاف مقاتل، زوَّدوهم بمختلف أدوات الحرب الحديثة، ويشدُّ أزرهم حوالي مائة من السيارات المُصفحة وغيرها، وانطلق الطليان يطلبون منازلة المجاهدين، فالتقى الفريقان عند بير بلال، ووقعت بين الفريقَين معركة شديدة تمكَّن المجاهدون في أثنائها، بقيادة قجة عبد الله السوداني، من أن يُحطموا القوة الإيطالية، ولو أنهم تكبَّدوا خسارة فادحة عندما استُشهد في هذه الموقعة بعض رجالهم المُبرزين كالمهدي الحرنة والشيخ نصر الأعمى، وقد حضر هذه المعركة كذلك صالح الأطيوش والفضيل المهشهش. وتحمل الفضيل نفقات المجاهدين في هذه المعركة، وفي المعركة التالية التي وقعت بعد الأولى بأربعة أيام فقط. وكان سبب الالتحام في المعركة الثانية أنه بلغ المجاهدين أن قوة إيطالية أخرى كانت ما تزال في طريق الساحل، فخفَّ المجاهدون سراعًا لمُقابلتها، واشتبكوا معها في قتالٍ عنيف عند مرسى البريقة، ودارت رحى الحرب، واستطاع العرب أن يُوقعوا بالطليان مقتلةً عظيمة؛ لأنه كان من المتعذِّر على السيارات الحركة السريعة بسبب طبيعة الأرض، فعطَّل المجاهدون عجلات السيارات، وظلوا يدفعون بالطليان المُنهزمين إلى الماء وراءهم، فيسقط من نجا من هؤلاء في البحر وتبتلعه أمواجه؛ حتى جاءت إحدى السفن الإيطالية وأنقذت البقية الباقية منهم. واستشهد من العرب في هذه المعركة إبراهيم الفيل أحد أبطالهم، ورجع المجاهدون بغنائمهم إلى معسكرهم حول زاوية القطوفية، وكان بعد هذه المعارك أن وصل السيد عمر المختار إلى القطوفية.
ولم تكن رحلة المختار من السلوم إلى برقة خالية من كل حادث، ذلك بأن جواسيس الطليان سرعان ما طيَّروا الخبر إلى رؤسائهم أن المختار قد اجتاز الحدود الشرقية، فأعد الطليان ثلاث سياراتٍ مصفحة كمنت للسيد عمر وصحبه في جهة بير الغبي، وكان غرضهم القبض على المختار وأسره، فما إن ظهر المختار ورفاقه حتى أمطرَهم العدو وابلًا من رصاص مدافعهم الرشاشة، ولكن المختار صمد لهم، واهتم المجاهدون بإصابة عجلات السيارات، فكان لهم ما أرادوا، وعندئذٍ انقضُّوا على القوة الإيطالية بهذه السيارات فأبادوا أفرادها عن آخرِهم، وكانت هذه الهزيمة الساحقة كافية لأن تُلقي الرعب في قلوب الطليان، فاستطاع السيد عمر وصحبه أن يُتابعوا سيرهم بعد ذلك «على مرأى ومَسمع من الإيطاليين الذين لم يجرءوا على تعقُّبهم مرةً أخرى حتى بلغوا الجبل الأخضر.» وقابلهم عند وصولهم إلى زاوية القطوفية — مكان دور المغاربة — صالح الأطيوش والفضيل المهشهش، ووقف المختار على تفاصيل واقعة البريقة وحال المجاهدين في الدور، ثم غادر المكان إلى جالو مقر السيد محمد الرضا ليُبلغه التعليمات التي تلقَّاها في القاهرة من السيد إدريس.
وأبلغ المختار السيد الرضا تعليمات الأمير، واتفق الاثنان بناءً على ما جاء في هذه التعليمات على تنظيم الجهاد وإنشاء الأدوار في الجبل الأخضر. وكانت المقاومة حتى ذلك الوقت لا تتعدَّى البرقتَين: برقة الحمراء وبرقة البيضاء، ابتداءً من إقليم بنغازي في الشمال إلى حدود سرت في الجنوب، فقرَّ الرأي على أن يعود المختار إلى أدوار برقة فيأخذ منها مفرزة كي يبعث بها إلى الجبل الأخضر نواةً للمقاومة في هذه الجهات، وعلاوةً على ذلك فقد أعطاه السيد الرضا، بوصفه نائبًا عن السيد إدريس، الأوامر اللازمة لأدوار المغاربة في برقة وللمجاهدين في الجبل تطلُب منهم الانضمام إلى الجيش المزمع إنشاؤه في الجبل الأخضر وتشكيل الأدوار المختلفة وتعيين رؤساء هذه الأدوار والانضواء تحت لواء المختار نفسه، ثم إمداد السيد عمر بالمؤن والعتاد لمواصلة الجهاد في الجبل. واقترح المختار على السيد الرضا أن يرسل ابنه السيد الصديق إلى دور المغاربة عند صالح الأطيوش ودور العواقير بقيادة قجة، وهي أدوار قريب بعضها من بعض، ثم غادر السيد عمر جالو إلى برقة وأعد المفرزة المرسلة إلى الجبل الأخضر، وعين قائدًا عليها مختار محمد ابن أخيه. وعند وصول المفرزة إلى الجبل الأخضر اتصل مختار محمد بالعرب في جهة الجبل، فانضم المجاهدون إلى المفرزة وأمدَّها الأهلون بالمؤن، ثم تشكلت الأدوار، وكانت ثلاثة: أدوار البراعصة والعبيد والحاسة. وعين السيد عمر بناءً على تعليمات السيد إدريس ثم تفويض السيد الرضا رؤساء هذه الأدوار، فاختار السيد حسين الجويفي لدور البراعصة والسيد يوسف بورحيل المصماري لدور العبيد والسيد الفضيل بوعمر لدور الحاسة. وأما القائد الأعلى لهذه الأدوار جميعًا فكان السيد عمر المختار نفسه، وبدأ من ثم ذلك الجهاد الطويل الذي استمر متصلًا ومن غير هوادة حوالي ثمانية أعوام.
وبدأ النضال في عامي ١٩٢٤م و١٩٢٥م بوقوع معارك ومناوشات عدة، ووسَّع المجاهدون دائرة نشاطهم العسكري في الجبل الأخضر حتى خفَّ ضغط الطليان على إخوانهم في أدوار البرقتَين، ولمع اسم السيد عمر وسطع نجمه كقائد بارع يُتقن أساليب الكر والفر ويستمتع بنفوذٍ عظيم، وأخذ العرب من أهل القبائل القاطنة في الجبل ينضمُّون إلى صفوف المحاربين، وفضلًا عن ذلك فقد بادر الأهلون من غير المُحاربين بإمداد إخوانهم بما يحتاجونه من مؤنٍ وعتاد وأسلحة. وكان لقبائل العبيد والبراعصة والحاسة والدرسة والعواقير أكبر نصيبٍ في هذه العمليات العسكرية، ولم يكن في استطاعة الطليان في هذه المرحلة من الجهاد أن يقوموا بنشاطٍ حربي ملحوظ في منطقة الجبل الأخضر، فقصروا جهودهم على تدبير احتلال ذلك المركز السنوسي العتيد في الجنوب، والذي ظل طوال الأعوام الماضية يمدُّ المجاهدين بالمؤن والذخائر، ونعني به واحة الجغبوب.
فقد أدرك الطليان أهمية هذه الواحة من زمن طويل؛ لأنها كانت أحد مراكز السنوسية الكبيرة التي بدأ منها انتشار السنوسية في برقة والأقطار المجاورة، وبها ضريح السيد محمد بن علي السنوسي الكبير مؤسس السنوسية. أضِف إلى هذا أنه كان للجغبوب قيمة اقتصادية عظيمة، إذ احتلت الواحة مركزًا وسطًا بين مصر وبرقة، ثم بين السودان والصحراء الوسطى، فكانت تأتيها القوافل من كل جانب، وعلاوةً على ذلك فإن الجغبوب من الناحية «الاستراتيجية» تُعَد مدخلًا هامًا من مداخل برقة، ويستطيع السنوسيون أن يُشرفوا منها على أعمال الجهاد وأن يُمدوا قوات المجاهدين بما يحتاجونه من نجدات ومؤن؛ ولذلك قرر الطليان الاستيلاء عليها. ولكنه لمَّا كانت الجغبوب من الأراضي المصرية، فقد بات يُعتبر القيام بأية عمليات عسكرية ضدَّها اعتداءً صريحًا على حكومة مصر، وهي دولة صديقة، فعمد الطليان إلى تذليل هذه العقبة وأخذوا يبذلون نشاطًا كبيرًا سوف يأتي ذكره في حِينه، في لندن والقاهرة معًا، لعرض مسألة الحدود المصرية البرقاوية على بساط البحث، وأسفرت مساعيهم في هذا السبيل عن إبرام «اتفاق الجغبوب» بين إيطاليا ومصر بالقاهرة في ٦ ديسمبر ١٩٢٥م. وبفضل هذا الاتفاق أدخلت الجغبوب ضمن الحدود البرقاوية، وبدأ الطليان بعد ذلك مباشرة يتَّخذون العدة لاحتلال هذه الواحة.
وكان يقيم بالجغبوب وقتذاك جماعة كبيرة من السنوسيين على رأسهم السيد صفي الدين الذي ارتحل إليها من جالو في صفر ١٣٤٣ﻫ (سبتمبر ١٩٢٤م) في الظروف التي سبق ذكرها، وكانت الحكومة المصرية قد أجازت للسيد صفي الدين أن يقيم بهذه الواحة، فبعث إليه علي عبد الوهاب بك مأمور سيوة بخطابٍ وافق فيه على بقائه بالجغبوب ما دام لا توجد معه قوة حربية، فأقام السيد صفي الدين بالواحة حتى شهر رمضان من عام ١٣٤٣ﻫ (أبريل ١٩٢٥م). وعندما بدأت المفاوضات من أجل تسوية مسألة الحدود، حذر الإخوان السنوسيون في سيوة السيد صفي الدين من أن تسليم الجغبوب للطليان بات قريبًا، وأن من الخير له أن يرتحل عنها، فبارح صفي الدين الجغبوب وقصد إلى سيوة، ولكنه ما لبث أن قابل، عند حطية قربة، قوة من الهجانة السودانية المصرية منعته من دخول سيوة، وأذنت الحكومة المصرية بدخول النساء والأطفال فحسب، فاضطر السيد صفي الدين ومن معه من أعضاء البيت السنوسي: السادة إبراهيم السنوسي ومحيي الدين ومحمد الصديق وحسن الرضا، إلى العودة إلى الجغبوب، فأقاموا جميعًا بها إلى وقت إبرام الاتفاق النهائي بين مصر وإيطاليا. وعندئذٍ بلغ السيد صفي الدين ما يفيد أن الجغبوب قد سُلمت فعلًا إلى إيطاليا، ثم أشير عليه بأن يجتاز الحدود المصرية، فارتحل إلى سيوة. وأما السيد الصديق والسيد الحسن ولدا السيد الرضا، فقد عادا إلى جالو، ثم ذهب الصديق إلى أدوار المغاربة في برقة تنفيذًا لاتفاق السيد عمر المختار مع السيد محمد الرضا، فنزل الصديق مع صالح الأطيوش وعبد الحميد العبار وقجة عبد الله السوداني ومحمد بوهدمة والفضيل المهشهش. وأما السيد حسن الرضا فقد اصطحبه معه السيد عمر المختار عند وصوله من جالو إلى دور المغاربة.
أما الطليان، فقد أعدوا حملة عسكرية كبيرة تتألف من ألفين من الجنود وفصائل من السيارات المسلحة بالمدافع الرشاشة بلغ عددُها ثمانية، وهذا عدا ستِّ سيارات مصفحة وثلاثمائة وخمسين سيارة أخرى لنقل المؤن والمهمَّات. وانطلقت اثنتا عشرة طائرة لمعاونة الحملة التي تسلَّم قيادتها العامة الكولونيل رونشتي. وكانت هذه ولا شك تجهيزات عظيمة، غير أنه لم يكن هناك ما يدعو إلى ذلك كله؛ لأن الشيخ حسين المراكشي شيخ زاوية الجغبوب لم يلبث أن تركها قاصدًا إلى سيوة بمجرد أن علم بزحف الطليان على الواحة؛ إذ لم يكن لدَيه قوات ما لمقاومتهم. وعلى ذلك دخل الطليان الجغبوب دون مقاومة، فاحتلوها في ٨ فبراير ١٩٢٦م، وعيَّنوا الشارف الغرياني حارسًا على زاويتها، ثم عول الطليان على منع الشيخ حسين المراكشي من الوصول إلى سيوة، فاستطاعت طائراتهم أن تُرشد عن المكان الذي بلغه الشيخ في طريقه إلى سيوة وتعقَّبته قوة من الهجانة تمكنت من إرجاعه إلى جغبوب، ولم ينقذ الشيخ حسين من تنكيل الطليان به سوى توسُّط الشارف الغرياني. وفي مارس من العام نفسه زار الوالي الجديد أرنستو مونبللي واحة الجغبوب.
ولا جدال في أن سقوط الجغبوب في أيدي الطليان قد أضعف السنوسيين عمومًا، ولو أنه مما يجدُر ذكره أن هذه الواحة كمركز لإرسال الإمدادات منه إلى المجاهدين وللإشراف على العمليات العسكرية، كانت قد بدأت تفقد كثيرًا من أهميتها السابقة من أواخر العام الماضي (١٩٢٥م)، فلم يتأثر بضياعها موقف المجاهدين في الجبل الأخضر وفي البرقتَين بدرجةٍ ملحوظة، بل إن الطليان، على الرغم من الجهود التي بذلوها، لم يستطيعوا خلال العمليات التالية سوى احتلال جردس جراري وخولان. ومنع المجاهدون كل اتصال بين المستعمرتَين برقة وطرابلس، وبات ضروريًّا أن تعمل الحكومة لإعادة هذا الاتصال بينهما، وذلك باحتلال منطقة سرت. واضطرت وزارة المستعمرات في رومة إلى التفكير جديًّا في بدء العمليات العسكرية في هذه المنطقة من أواخر العام السابق. وفي أكتوبر ١٩٢٦م أصدرت أوامرها باتخاذ التدابير اللازمة لبدء العمليات العسكرية من أجل احتلال منطقة سرت بأكملها من الساحل شمالًا إلى واحات سوكنة وزلة ومرادة وأوجلة وجالو جنوبًا، ثم حاول الطليان في الوقت نفسه أن يبذروا بذور الشقاق بين المجاهدين حتى يُضعفوا من قوتهم على أمل أن تنحلَّ الأدوار؛ لأنهم كانوا يتوقعون تعذُّر إعادة تشكيل هذه الأدوار إذا ذهب المجاهدون إلى نواجعهم، وخَيَّل الوهم للطليان أن باستطاعتهم أن يستميلوا إليهم السيد عمر المختار نفسه إذا هم عرضوا عليه عروضًا سخيةً وحاولوا أن يكافئوه بمبالغ من المال طائلة أو أن يُمنُّوه بالجاه العريض في ظل حياةٍ رغدة ناعمة.
وعندما تبين لهم أن لا جدوى من هذه المحاولات ولا ثمرة لها، شرعوا يبذلون الوعود لقبائل الحاسة والعبيدات والدرسة والعبيد والعرفة والبراعصة، ولكنهم أخفقوا في ذلك أيضًا، فعمدوا إلى أساليب أخرى ملؤها الوعيد والتهديد، وأسقطت طائراتهم البلاغات المُتعددة على أدوار المجاهدين تحمل في طياتها التهديد بإنزال العقوبة الصارمة بالمُحاربين والانتقام منهم، ثم صاروا يرسلون الرُّسل إلى الأدوار مُزوَّدين بهذه البلاغات والإنذارات، وكان من هؤلاء الرسُل عبد النبي القبائلي الذي أوفده الطليان في أكتوبر ١٩٢٦م إلى قبيلة العبيدات بكتابٍ يُنذر بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا ظلَّ العبيدات لا يثقون بوعود الإيطاليين ويستمعون إلى كلام السيد عمر المختار. وأمهل الطليان العبيدات سبعة أيام بتمامها حتى يتدبروا الأمر ويصلوا إلى رأيٍ قاطع بشأن التسليم إلى الحكومة، ثم وعد الطليان بالامتناع عن مهاجمة العبيدات في أثناء هذه المدة. ولكن العبيدات، مثلهم في ذلك مثل سائر قبائل المجاهدين، لم يأبهوا بهذه التهديدات، بل إنهم ذكروا في جوابهم للطليان أنهم على استعدادٍ دائمًا لمقاومة العدو إذا أصرَّ الطليان على اغتصاب حقوقهم، وأنهم لا يقبلون السِّلم إلا إذا أظهر هؤلاء رغبةً صادقة في أن يبسط السلام رواقَه على ربوع الجبل وبرقة. وعندما ثبت لدى الطليان أنه لا أمل هناك في استمالة العبيدات إليهم، هاجموهم على حين غِرة قبل انقضاء المهلة التي أخذوا على أنفسهم العهد باحترامها، فقابلهم العبيدات بجنان ثابت، ثم ما لبثت أن دارت الدائرة على الغادرين، فارتدَّ الطليان على أعقابهم بعد أن أُصيبوا بخسارة فادحة.
وعندما عين أتيلو تيروتزي واليًا على برقة خلفًا لأرنستو مونبللي في ديسمبر ١٩٢٦م تجددت تعليمات وزارة المستعمرات الإيطالية بشأن إخضاع المغاربة واحتلال سرت، ثم الواحات الداخلية التي سبق ذكرها: سوكنة وزلة ومرادة وأوجلة وجالو، فكان من رأي والي برقة الجديدة أن إخضاع المغاربة واحتلال هذه الواحات أمران مُنفصلان، وأنه لا بد من الوصول إلى حل مشكلة إخضاع المغاربة أولًا حتى يتيسَّر حل المشكلة الثانية، أي احتلال الواحات الداخلية. وكان تيروتزي منذ وصوله إلى بنغازي (٢ ديسمبر) قد بدأ يدرس الموقف في برقة بعنايةٍ كاملة. ولم يكن تيروتزي جديدًا على هذه البلاد فقد سبق أن خدم بها عندما كان أحد ضباط الاحتلال الإيطالي في درنة حتى عام ١٩٢٠م، ووصل تيروتزي من دراسة الموقف إلى آراء مُعينة بشأن الخطة التي يجب عليه اتباعها، وأهمها أن الاحتلال الإيطالي لم يكن موطدًا في البلاد، وعلى وجه الخصوص في منطقة الجبل الأخضر، وأنه من العبث الاعتماد على معاونة الأهلين للسلطات المحلية، ولو أنه من مصلحة هذه السلطات أن تتغاضى عما يفعله أولئك الذين كانوا يُظهرون لها الولاء والإخلاص من أهل البلاد، ثم يبذلون كل ما وسِعهم من جهدٍ وحيلة في الوقت نفسه لمساعدة مواطنيهم الذين يقومون بأعباء الجهاد ضد إيطاليا. وفضلًا عن ذلك فقد رأى من الضروري أن يتم تعزيز أجدابية ذاتها باحتلال المراكز الواقعة حولها قبل بدء العمليات العسكرية الكبيرة.
واهتم تيروتزي بالحد من نشاط المجاهدين بكل سرعة، فأصدر أوامره إلى قائد الجند «شي» باتخاذ الاستعدادات اللازمة للاشتباك مع العرب في الجبل في أقرب وقت، ثم احتلال المراكز الصغيرة حول أجدابية، فأسفر نشاط الطليان عن احتلال مسوس في ١٦ مارس ١٩٢٧م ثم سوانو بعد يومَين، وأخيرًا جوف المطر في يوم ٢٧ مارس، وكان لاحتلال سوانو وجوف المطر وقْع سيئ في نفوس المجاهدين لوجود المياه الكثيرة بهما. وعلاوةً على ذلك فقد توقَّع المجاهدون أن يعمد الطليان بعد ذلك إلى احتلال واحات جالو وأوجلة، واعتقدوا أن هذا النشاط الجديد لم يكن سوى مقدمة لعمليات أخرى واسعة، الغرض منها احتلال البلاد بأكملها رويدًا رويدًا. وعلى ذلك قرَّ رأي المجاهدين على أن يُقابلوا هذا النشاط الإيطالي بمثله، واستطاعوا أن يوقِعوا بالطليان هزيمة بالِغة في معركة الرحيبة المشهورة، وتكبد الطليان الذين اشتركوا في هذه المعركة بأعدادٍ عظيمة خسائر فادحة، فكان من أثر ذلك أن أُوقِفت العمليات العسكرية في الجبل الأخضر مدة شهر تقريبًا، ثم عُزل «شيي» من القيادة وتولَّاها الجنرال متزتي، وعول الطليان على الانتقام لهذه الهزيمة التي لحقت بهم، فقُدر لهم الفوز على المجاهدين في معركة قبر الظاهر في يومي ٢٧ و٢٨ أبريل ١٩٢٧م، وكان السبب في هذا الفوز اشتراك عددٍ كبير من الطائرات الإيطالية في المعركة. ومع ذلك فقد استمرت المعارك بين الفريقَين في الجبل الأخضر في منطقة وادي الكوف بين يومَي ٢ و١١ مايو، ثم فتر نشاط الطليان بعد ذلك استعدادًا لبدء العمليات العسكرية الواسعة بعد إنجاز التدابير اللازمة.
ولم تقنع حكومة رومة بهذه «الانتصارات» الأولى، فاقترحت على تيروتزي مرة أخرى أن يبدأ العمليات العسكرية ضد المغاربة فورًا ولاحتلال الواحات، ولكن تيروتزي سرعان ما وجد أنه من المتعذِّر عليه أن يبدأ أية عمليات عسكرية واسعة النطاق ضد المغاربة وضد الواحات في وقتٍ واحد؛ ولذلك قرَّ رأيه على محاولة استمالة المغاربة بالتسليم بالطرق الدبلوماسية بدلًا من إرسال الحملات ضدَّهم، وأن يقصر نشاطه العسكري ضد المجاهدين على الاشتباك مع السيد عمر المختار في الجبل الأخضر، حتى إذا تمكن من إضعاف مقاومة المغاربة في منطقة سرت واحتلَّ مراكز المجاهدين في القطوفية وغيرها، وكان الطليان في الوقت نفسه قد كسروا من حدة المقاومة في الجبل الأخضر، تهيَّأت بفضل ذلك الأسباب التي تُمكن تيروتزي من إرسال الحملات العسكرية الكبيرة لاحتلال الواحات الجنوبية في جالو وأوجلة وجخرة ومرادة وغيرها. وعلى ذلك بدأت محاولتان منفصلتان من أواسط شهر مايو تقريبًا، إحداهما كانت محاولة سياسية الغرَض منها إقناع المغاربة بالاستسلام للحكومة طوعًا، والأخرى محاولة عسكرية الغرَض منها إخماد المقاومة في الجبل الأخضر. وسارت هاتان المحاولتان جنبًا إلى جنب وفي وقت واحد.
وكان تيروتزي قد مهد للحملة السياسية ضد المغاربة بافتتاح سوق بأجدابية لإنشاء العلاقات التجارية مع المغاربة. وفي فبراير ١٩٢٧م فوَّض تيروتزي الشارف الغرياني أن يتَّصل ببعض رؤساء المغاربة، الشماخ والعواقير، بصفته الشخصية؛ حتى ينصحهم بترك الحرب والتسليم إلى الحكومة بدعوى أن الوالي الجديد رجل ذو ميلٍ واضح للصلح، ويقبل تسليمهم إذا تبيَّن له صِدقهم وإخلاصهم، ولو أنه لا يُحجم في الوقت نفسه عن استخدام كل ما لديه من قوة وبأس إذا دعت الحال لذلك. ثم أرسل تيروتزي مع الوفد الذي أرسله لمقابلة المغاربة والعواقير ابنةَ الشيخ عبد السلام الكزة، وهو من كبار مشايخ العواقير، وكانت ابنتُه قد وقعت في أسْر الطليان في إحدى المعارك السابقة، غير أن تيروتزي لم يكن موفقًا في اتخاذ هذه الخطوة؛ لأن مجيء ابنة الشيخ عبد السلام الكزة مع الوفد أثارت شكوك الأدوار (المعسكرات) من ناحية الكزة، واعتقد رجالها أن الكزة على صِلةٍ بالوالي والقائد الإيطاليَّين، وأسرع قجة عبد الله السوداني فسجن أحد أفراد عائلة الكزة ولم يُطلق سراحه إلا بعد توسُّط الشيخ عبد السلام وشيوخ آخرين. وفي الحديث الذي دار بين الشارف الغرياني وعبد السلام الكزة، وقد فوَّضه المجاهدون في الحديث بلسانهم، أظهر الشيخ عبد السلام استعداد المغاربة وسائر القبائل للصلح مع إيطاليا، وإنما على شريطة أن تبدأ إيطاليا المفاوضة أولًا مع رؤساء السنوسية وزعمائها؛ لأن جميع القبائل يربطها بالسنوسية شعور الولاء الصادق العميق.
وعندما أطلع الغرياني السلطات المحلية على نتيجة المفاوضة كلَّفه تيروتزي أن يبدأ محاولاته التالية بإنشاء صِلاتٍ تجارية مع المغاربة، وكان تيروتزي يرجو أن تُمهد هذه الصلات لاستمالة المغاربة أو على الأقل استمالة فريق منهم إلى قبول التسليم لإيطاليا والانفصال عن سائر المجاهدين؛ وعلى ذلك غادر الغرياني بنغازي إلى أجدابية في يوم ١٢ مايو، وصحِبه في هذه المرة القومندان أولمي مكلَّفًا الإشراف على جهود الغرياني من قبل الحكومة، وحتى يكون حلقة الاتصال بين الرؤساء العرب والسلطات الحكومية الرسمية. وأعد الغرياني رسالة إلى المغاربة يحضُّهم فيها على التسليم وإنهاء خلافاتهم مع الحكومة منعًا لما قد يُصيب الوطن من أضرار لا يجد الغرياني مفرًّا من وقوعها؛ لأنه كان يعلم عِلم اليقين — على حد قوله — أن الحكومة ما زالت جادةً في استعداداتها الكبيرة لإخماد المقاومة. وابتكر الغرياني وسيلة لإيصال رسالته إلى دور المجاهدين، وبعد مشقَّةٍ تمكن رُسله من إيصال هذه الرسالة إلى الشيخ عبد السلام الكزة، فبحث زعماء المجاهدين محتوياتها، ثم بعثوا إلى الشارف بخطاب يُنبئونه فيه بموافقتهم على الاجتماع به. ويقول تيروتزي إنه عندما كلَّف الشارف الغرياني مقابلة المجاهدين، أمَرَه بأن يوضح لهم ضرورة الابتعاد عن السنوسية؛ لأن تدخُّل السنوسية لن يؤثر شيئًا في خطة الحكومة نحو أهل البلاد ومشايخها، بل على العكس من ذلك، فإنه يُحتمَل كثيرًا أن يؤدي هذا التدخُّل إلى عرقلة ما يُبذل من جهود في سبيل إعادة السلام والهدوء إلى برقة.
وانتقل الشارف للاجتماع بالمجاهدين إلى بير جديد في ٨ يونيو ١٩٢٧م، ويبعد بير جديد حوالي عشرة كيلومترات إلى الجنوب من أجدابية، وحضر كثيرون من مشايخ المغاربة وفي مُقدمتهم الشيخ محمد الحرنة ومشايخ العواقير ومنهم عبد السلام الكزة، ومن البراعصة ومنهم بوشديق بومازق، ولم يحضر هذا الاجتماع الزعماء السنوسيون في أدوار المغاربة، وخصوصًا السيد الصديق. وكان غرض هؤلاء الرؤساء أن يستطيعوا إقناع الحكومة بأن تُمكنهم من استخدام آبار ساونو وجوف المطر التي احتلَّها الطليان، فأظهروا رغبتهم في السلام واستعدادهم لعدم الإتيان بشيءٍ من شأنه أن يُكدر خواطر الحكومة، وأظهروا علاوة على ذلك تقديرهم لعمل الحكومة التي أذِنت بافتتاح سوق أجدابية، وأكد لهم الشارف الغرياني حُسن نوايا الحكومة، ولكنه ذكر لهم في الوقت نفسه أن تسليمهم لها يجب أن يكون تسليمًا مُطلقًا دون قيدٍ أو شرط، وعلى أساس تسليم أسلحتهم للسلطات المحلية كذلك.
وعندئذٍ انبرى الشيخ بوشديق بومازق بعد أن سلَّم الشارف رسالة من السيد الصديق، يتكلَّم عن رغبة الأهالي جميعًا في أن تُبادر الحكومة بالاعتراف بالسنوسية في شخص نائبها في الأدوار السيد محمد الصديق. ولما كان هذا يتعارض مع التعليمات التي أعطاها تيروتزي الشارف، فقد اعتذر الشارف عن تقديم هذا الطلب الأخير إلى الوالي؛ لأن عدم تدخُّل السنوسية في المفاوضات كان، على حدِّ قوله، أمرًا مفروغًا منه، فأعد الرؤساء «مضبطة» ضمَّنوها مطالبهم وأمانيهم، وفوضوا عبد السلام الكزة والشيخ جلقاف أبو شلبي في الحديث مع الحكومة، وطلبوا الاجتماع بمندوبها أولمي في بير جديد، وأصرَّ الكزة على عدم الدخول في أية مفاوضات مع الطليان إلا إذا أوقف هؤلاء نشاطهم العسكري في الجبل الأخضر. ثم أيد البراعصة الشيخ عبد السلام في موقفه، وحاول صالح الأطيوش أن يتَّصل بالجنرال متزتي لإقناع الحكومة بضرورة إجابة مطالب المجاهدين، ولكن تيروتزي أصر على أن يحضر الشارف الغرياني وحدَه الاجتماع التالي (في ١١ يوليو) في بير جديد.
وأثار عدم حضور أولمي مندوب الحكومة هذا الاجتماع الجديد غضب المغاربة، فأعد هؤلاء «مضبطة» بمطالبهم، جاء فيها: «في هذا اليوم — ١٢ محرم ١٣٤٦ﻫ (١١ يوليو ١٩٢٧م) — قَدِم الشارف الغرياني إلى بير جديد واجتمع بالمندوبين المرسلين من برقة البيضاء وبرقة الحمراء من أجل المفاوضة في المسائل المؤدية إلى تحسين العلاقات مع الحكومة، وقد قرَّ رأي المندوبين بعد مباحثاتٍ طويلة على تقديم عدة طلبات.» أهمها وقف القتال في برقة وفي الجبل الأخضر، وإلزام الحكومة باتباع خطة واحدة، فلا تبقى الحرب دائرةً في الجبل، بينما تُبذل المساعي في منطقة سرت لاستمالة المجاهدين إلى التسليم، ثم يمنع جميع الأفراد الذين لا يحملون «ترخيصًا» من الشيخ المُكلف بإعطاء هذه «الترخيصات» من دخول سوق أجدابية. وعلاوةً على ذلك فإن من واجب الحكومة أن تسعى لجلب المتاجر الكثيرة إلى سوق أجدابية، وأن تُعفي من يريدون التجارة في هذه السوق من الضريبة. وطلب الموقعون على «المضبطة» أن يستمر العمل بهذه الشروط مدة ثلاثة شهور، يتم في أثنائها إبرام الصلح بين الفريقَين. ووقَّع على «المضبطة» ستة من مشايخ المغاربة الشماخ، كما وقَّع عليها الشيخ عبد السلام الكزة وبوشديق بومازق.
ولما كان أولمي قد أُبلغ خبر هذه «المضبطة» وقت إعدادها، فإنه سرعان ما بادر بإرسال ردِّه عليها قبل أن تصِله، وفي هذا الرد أغفل أولمي الإشارة إلى عبد السلام الكزة وبوشديق بومازق لأنه اعتبرهما «أجانب» عن هذه المنطقة. وكان رد أولمي يحمل رفضًا باتًّا لمطالب المغاربة الشماخ. وجاء هذا الرد إلى بير جديد بعد سفر الشارف بالمضبطة بساعات قليلة فقط، فكان له أسوأ الأثر في نفوس العرب. وانفرد المغاربة الشماخ وحدَهم في إظهار رغبتهم على الرغم مما حدث من عدم قطع علاقاتهم مع الحكومة (٢٠ يوليو). غير أن موقف المغاربة الشماخ هذا كان كافيًا لأن يُقنع تيروتزي بأن يبدأ فورًا تنفيذ خطوته التالية، فأمر بإرسال قوةٍ بسيطة نزلت في الزويتينة، وتطايرت الشائعات بأن قوات أخرى عظيمة سوف تأتي في أعقابها، وأن الطليان يعتزمون القيام من غير إمهالٍ بعمليات عسكرية لا تقلُّ في خطورتها عن عملياتهم في الجبل الأخضر. وحدث على أثر ذلك مباشرةً أن سلَّم بعض الأهلين من المغاربة أنفسهم مع أسلحتهم للسلطات الإيطالية في قمينس وسلوق. وفي آخر أغسطس ١٩٢٧م حضر إلى أجدابية ثلاثة عشر شيخًا من المغاربة الشماخ، وعلى رأسهم الشيخ محمد الحرنة، وقدَّمَهم الشارف الغرياني وأولمي إلى قائد المنطقة الإيطالي، وبتسليم المغاربة الشماخ يكون الشارف وأولمي قد نجحا في مُهمتهما.
وقد تبع تسليم المغاربة الشماخ أن جماعة العواقير الذين ظلوا حتى هذا الوقت خارِجين عن نفوذ الحكومة ما لبثوا أن قدَّموا خضوعهم في اليوم نفسه، وكان من بينهم محمد بن إبراهيم المصراتي. وفي أول سبتمبر أكد المغاربة الشماخ استسلامهم عندما عُقد اجتماع في أجدابية حضره حوالي ثلاثين شيخًا منهم، كان من بينهم محمد الحرنة وسعيد بن يونس الشلبي وسالم بوباسل ومنصور نشأت وزروق بن الحطاب وفرج الهتش بوبكوشية وعبد السلام رجعة وموسى رجي. ومع ذلك فقد ظهر من أحاديثهم أنهم ما زالوا على الرغم من تسليمهم يعترفون بما كان للسنوسية عليهم من نفوذ روحي عظيم، وحاولوا إقناع المندوبين الطليان بضرورة استمالة السيد الصديق، وفي ٨ سبتمبر حضر أكثر مشايخ المغاربة الشماخ إلى بنغازي لمقابلة الوالي، واشترط تيروتزي قبل مقابلتهم أن يُسلموا أسلحتهم محافظةً على استقرار الأمن بالبلاد، وأن يعودوا مباشرةً إلى قبائلهم لتطمين هذه القبائل من ناحية عمليات الحكومة العسكرية، على أن يبقى بعض المشايخ في أجدابية كمستشارين للحكومة من واجبهم أن يُرافقوا مُمثليها في غدوهم ورواحهم بين مختلف القبائل، وزيادةً على ذلك فقد اشترط عليهم الوالي أن يُبقوا مواشيهم في المراعي الكائنة في شمال أجدابية، وأما مشايخ العواقير فقد قبلوا شروطًا أقسى من هذه.
وقد مهد تسليم المغاربة الشماخ للطليان أن يحتلَّ هؤلاء المراكز التي ظلت خارجة عن سلطان الحكومة في منطقتهم، فاحتلت القوات الإيطالية القطوفية دون مقاومة في ٢٤ سبتمبر، واستطاعت المرور بسلام في أرض المغاربة حتى وصلت إلى العقيلة، فاحتلتها كذلك في ٢٩ سبتمبر، واضطر السيد الصديق إلى محاولة تأسيس دورٍ جديد جنوب وادي الفارغ. وكان يبدو أن محاولة الصديق هذه محاولة شاقَّة عسيرة، حتى إن أولمي بعد عودته مع الشارف الغرياني من أجدابية إلى بنغازي في ١٢ أكتوبر عقب انتهاء مُهمتهما لم يلبث أن أكَّد للوالي أن السيد الصديق سوف يجد نفسه مُرغمًا على التسليم قريبًا. وقد حدث بعد وصول أولمي بأيامٍ معدودات أن حضر إلى بنغازي يوم ٢٧ أكتوبر السيد عبد العزيز العيساوي يحمل خطابًا من السيد محمد الرضا السنوسي في جالو إلى السلطات الإيطالية، مُظهرًا استعداده للبحث مع الحكومة في شروط عقد السلام بينها وبين السنوسية على ما أبدته الحكومة من رغبة أكيدة في الوصول إلى اتفاقٍ حاسم مع السنوسية. فاعتبر تيروتزي مجيء العيساوي يحمل خطاب السيد الرضا إحدى ثمرات ذلك الشطر الأخير من سياسته المزدوجة التي كان يقتضي تنفيذها، على نحو ما سبق ذكره، محاولة استمالة المغاربة بالطرُق الدبلوماسية والمُضي في العمليات العسكرية الكبيرة في الجبل الأخضر وضد مراكز السنوسية في الواحات الداخلية في وقتٍ واحد.
ذلك أنه بعد معارك الجبل في وادي الكوف في شهر مايو ١٩٢٧م شرع الطليان يستعدُّون لاستئناف عملياتهم العسكرية المقبلة، فأعد الجنرال متزتي في أول يوليو تقريرًا رفعَه إلى الوالي تيروتزي، عرض فيه الطريقة التي وزَّع بها المجاهدون قوَّاتهم في الجبل الأخضر بزعامة السيد عمر المختار، فقال إن المختار كان يتَّخذ مقر قيادته في منطقة شحات، بينما تتجمَّع معظم قوات المجاهدين — وهي أدوار البراعصة والعبيد والحاسة والعبيدات — وسط جبل البراعصة. هذا إلى جانب وجود فروعٍ أخرى من هذه الأدوار من قبيلة الدرسة مُستقرة في وادي الكوف بين سيدي عبد الله وقصر جيني، ويبلغ عدد المجاهدين حوالي خمسمائة وألف، منهم أربعمائة فارس تقريبًا. وعلاوةً على ذلك فقد اتخذ المختار التدابير التي تمنع عرقلة حركات المجاهدين، فأبعد الأسر بمواشيها من منطقة القتال، وزوَّد جنده بعدد عظيم من «القِرَب» المُعدة لإمداد المجاهدين بالماء، وأخذ هؤلاء يتأهَّبون للالتحام مع الطليان في معارك فاصلة، ولم يكن متزتي مُخطئًا فيما توقَّعه، ذلك بأن المجاهدين سرعان ما اشتبكوا مع الطليان في معارك دامية في أيام ١٣ و١٩ و٢٦ يوليو ١٩٢٧م، ثم استمرت مناوشاتهم للعدو حتى بداية الشهر التالي، وأصيب الطليان بخسارة فادحة. فوجد متزتي أنه لا مناص من تولِّي قيادة الجيوش الإيطالية بنفسه، وقاد هجومًا عنيفًا على دور العبيد، واشتركت السيارات المصفحة في المعركة التي استمرت مدة يومَين (١٠ و١١ أغسطس)، ثم استؤنف القتال في يوم ١٣ أغسطس عند أبيار الزوزات، وكان قتالًا حاميًا، استُشهد في أثنائه الشيخ حسين الجويفي رئيس دور البراعصة، وكان صاحب مكانةٍ عظيمة عند المختار الذي ما لبث أن جدَّد مناوشة العدو في ٢٧ أغسطس. بيد أن الطليان بما كان لهم من قواتٍ كبيرة تشدُّ أزرها الطيارات والسيارات المصفحة استطاعوا في آخر الأمر أن يُضيقوا نطاق الحصار على المجاهدين في منطقة الجشة في أوائل سبتمبر. وقد تقدَّم كيف أن الطليان بعد تسليم المغاربة احتلوا القطوفية ثم العقيلة في ٢٤ و٢٩ سبتمبر ١٩٢٧م.
وأثار تسليم المغاربة واحتلال القطوفية (أو القاطفية) والعقيلة دهشة المجاهدين في الجبل الأخضر وفي الواحات الداخلية، وعلى وجه الخصوص جالو مقر السيد الرضا. وكانت جالو لتوغُّلها في الصحراء ذات موارد قليلة، وامتنعت عنها الإمدادات من جهة الشرق منذ أن احتلَّ الطليان واحة الجغبوب، فصار كل اعتمادها بعد ذلك على ما صار يُرسله إليها السيد الصديق من المؤن وهو في أدوار المغاربة. غير أنه بعد تسليم المغاربة واحتلال القطوفية والعقيلة إلى جانب ساونو وجوف المطر، بات من المتعذِّر على السيد الصديق إرسال الإمدادات الكافية إلى جالو. وفضلًا عن ذلك فإنه كان لا يُقيم مع السيد الرضا بهذه الواحة غير نفرٍ قليل من المجاهدين للحراسة فحسب، لحاجة السيد عمر المختار لكل قادرٍ على حمل السلاح في الجبل الأخضر. وأدرك الطليان مقدار الصعوبات التي كانت تُحيط بالسيد الرضا في جالو، فأخذوا يرسمون خطوط تلك «المؤامرة» التي انتهت باعتقال السيد الرضا غدرًا وخيانةً ثم إبعاده عن البلاد منفيًّا إلى جزيرة صقلية.
فقد حضر إلى جالو الشيخ عرفة البحيري يحمل كتابًا من الشارف الغرياني إلى السيد الرضا، يُخبره فيه بأن الطليان يعتزمون احتلال جالو قريبًا بعد أن دان لهم المغاربة، ثم يُخيِّره بين أمور ثلاثة: إما الاستعداد بكل قواته لمناجزة الطليان إذا كان السيد يرغب في القتال ولدَيه القدرة على خوض المعارك — وكان الشارف الغرياني يعلم أن الواحة خالية تمامًا من المجاهدين — وإما الرحيل من جالو فورًا إلى أي مكانٍ آخر، وإما المباحثة مع الحكومة بالطرُق الودية إذا أراد الوصول إلى تفاهُم معها. وزاد الشارف الغرياني على ذلك أنه ينتظر جوابًا سريعًا شافيًا من السيد بصدد ذلك كله. ولما كان السيد الرضا يثق بالشيخ عبد العزيز العيساوي ثقةً كاملةً ويركن إلى مشورته، فقد تم الاتفاق بين السيد والشيخ على قبول المفاوضة مع الحكومة على أساس إبقاء الزوايا واحترام الإخوان السنوسيين والاعتراف بحق السيد الرضا في تعيين مشايخ الزوايا، ثم بقاء السيد في بنغازي. وعلى ذلك فقد خرج الشيخ عبد العزيز العيساوي من جالو يحمل خطاب السيد الرضا إلى بنغازي، وعند مرور الشيخ عبد العزيز بدور المجاهدين في بالطفل سلَّمه السيد الصديق خطابَين، أحدهما إلى الوالي والآخر إلى الشيخ الغرياني يؤيد الرغبة في التفاهُم مع السلطات الحكومية على الأساس الذي وضَّحه السيد في تعليماته للشيخ، ووصل الشيخ عبد العزيز إلى بنغازي في يوم ٢٧ أكتوبر.
واستقبل الوالي تيروتزي الشيخ عبد العزيز في بنغازي، وراعه ما كان يبدو على الشيخ الوقور من مظاهر الهدوء والسكينة وحُسن الطوية. وكان الشيخ عبد العزيز من الإخوان السنوسيين الذين نبه ذكرُهم بفضل ما كسبه من خبرةٍ وحنكة عظيمة من أيام السيد محمد المهدي السنوسي، وكان الشيخ كبير السن حكيمًا في حديثه، اعتقد فيه الوالي حُسن النية، فأقبل على المباحثة معه، فاقتنع على ما يبدو بما كان يؤكده الشيخ من رغبةٍ صادقة في السلام، وأخبر الشيخ عبد العزيز الوالي الإيطالي أن السيد الرضا لا يقلُّ عنه رغبةً في أن تستعيد البلاد هدوءها وسكينتها ما دام الطليان يعِدون بتنفيذ الشروط التي عرضها السيد الرضا من أجل حسم النزاع مع إيطاليا. وفضلًا عن ذلك فقد أكد الشيخ عبد العزيز للوالي أن الاعتراف بالسنوسية والصلح معها عن طريق الصلح مع السيد الرضا نائب السيد إدريس في برقة من شأنه أن يُمهد لإقرار السلام وقبول المجاهدين، وعلى رأسهم السيد عمر المختار نفسه في القُطر البرقاوي بأجمعه إنهاء القتال مع إيطاليا، ثم نصح الشيخ بأن تتعهد الحكومة في ردِّها على خطاب السيد الرضا باحترام الزوايا السنوسية والإخوان السنوسيين والاعتراف بزعامة السنوسية الدينية لقاء أن يكفَّ السنوسيون عن كلِّ نشاطٍ سياسي يحمل في طيَّاته أي عداءٍ لإيطاليا.
وأما تيروتزي فقد ظلَّ يماطل في إجابة الشيخ عبد العزيز إلى شيءٍ مما كان يطلبه، ومع ذلك فقد اضطر أخيرًا، نزولًا على رغبة وزارة المُستعمرات في رومة، إلى قبول ما أتى به الشيخ من عروض، فسلَّمه خطابًا إلى السيد الرضا جاء فيه أن بإمكان الوالي أن يؤكد للسيد الرضا مقدار «سعادة» الحكومة إذا أُتيح لها أن تستقبله بما يليق بمقامه من حفاوة بالغة، وأن الحكومة لن تدَّخر وسعًا في معاملة السيد وأبنائه بالاحترام اللائق، وتتعهَّد بضمان سلامته، وتؤكد للسيد الصديق نواياها الطيبة نحوه. وفي ١٦ نوفمبر ١٩٢٧م غادر الشيخ عبد العزيز بنغازي إلى أجدابية، وفي ٢٧ نوفمبر غادر أجدابية إلى بالطفل حيث قابل السيد الصديق ابن السيد الرضا وأنهى إليه نتيجة ما بلَغه في أحاديثه مع تيروتزي، ثم قصد إلى جالو.
على أن تيروتزي كان يعتقد على الرغم من هذه «المباحثات» الدائرة من أجل الوصول إلى الصلح بالطرق الدبلوماسية، أن استئناف العمليات العسكرية في برقة وطرابلس في هذه الآونة من شأنه أن يُقنع السيد الرضا بضرورة التسليم من غير إبطاء، ويقضي على كل أملٍ لدَيه في إمكان الانسحاب من جالو والالتجاء إلى مصر أو إلى أية جهة أخرى. وعلى ذلك فقد حَدَّد لبدء هذه العمليات يوم ٢٧ ديسمبر ١٩٢٧م في برقة ويوم ٨ يناير ١٩٢٨م في طرابلس. وكان غرَض تيروتزي من بدء النشاط العسكري في طرابلس علاوةً على ما تقدَّم أن يمنع صالح الأطيوش وقبائل الرعيصات وأولاد سليمان وبعض القبائل الأخرى في منطقة سرت من مناوشة المغاربة الشماخ الذين عدَّهم المجاهدون من الخونة الآثمين بسبب تسليمهم للطليان. وعلى ذلك فقد قامت فرقة من قوات الحكومة على الهجن من واحة جغبوب في ١٥ ديسمبر ١٩٢٧م، وفاجأت الحامية الموجودة بمركز جخرة شمال جالو بمسافة قصيرة، وأسرت أربعةً من رجالها عادت بهم إلى الجغبوب. وعندما حضر الشيخ عبد العزيز العيساوي إلى أجدابية بجواب السيد الرضا من جالو في ٢٢ ديسمبر اعتقد تيروتزي أن الفضل في عودة الشيخ عبد العزيز إنما مردُّه إلى هجوم الطليان على جخرة وشعور السيد الرضا بأن الطريق إلى مصر قد أُوصِد نهائيًّا وأن مركزه في جالو تُحدق به المخاطر من كل جانب.
غير أن تيروتزي كان مخطئًا ولا شك في هذا الاعتقاد لسببين، أولهما أن قبول السيد الرضا أن يدخل في مفاوضات من أجل عقد الصلح على أساس الشروط التي قبلتها الحكومة في مصلحة المجاهدين في برقة كان قد تقرَّر من وقت ذهاب الشيخ عبد العزيز إلى بنغازي في المرة الأولى، ولم يكن من المُنتظَر أن يعدل السيد الرضا عن أمرٍ يرى فيه تحقيق مصلحة البلاد، وثانيهما أن الشيخ عبد العزيز غادر جالو في يوم ١٥ ديسمبر، أي بعد قيام القوة الإيطالية من جغبوب بيومٍ واحد فقط وقبل هجومها المفاجئ على جخرة. وعلاوةً على ذلك فقد ذكر الشيخ عبد العزيز عند وصوله إلى أجدابية أن السيد الرضا كان يتخذ الأهبة لمغادرة جالو إلى بالطفل بعد سفر الشيخ عبد العزيز بيومَين فقط. أضف إلى هذا أن خطاب السيد الرضا إلى تيروتزي — وهو الخطاب الذي حمله الشيخ عبد العزيز معه إلى أجدابية — كان مؤرخًا في ١٤ ديسمبر، أي في اليوم نفسه الذي غادرت فيه قوة الطليان واحة الجغبوب.
وأمَّا الشيخ عبد العزيز العيساوي فقد وصل إلى بنغازي في يوم ٢٥ ديسمبر وسلَّم رسالة السيد الرضا إلى الوالي، وذكر السيد الرضا في رسالته «أنه يطمئن كل الاطمئنان إلى وعود «تيروتزي»، ويثق ثقةً كاملة بتأكيداته أن الحكومة سوف تكون شريفة في معاملته.» وغادر السيد الرضا جالو إلى بالطفل. وما إن علم تيروتزي بوصول السيد إلى بالطفل حتى أبرق إلى رومة يُخطر وزير المستعمرات بحضور السيد الرضا إلى بالطفل في طريقه إلى أجدابية، ويعلق أهمية عظيمة على «تسليم» السيد، ويطلب تأجيل العمليات العسكرية في منطقة أجدابية حتى لا يعدل السيد عن المجيء إلى أجدابية أو إلى القطوفية فتضيع الفرصة.
وكان تيروتزي يتوقع وصول السيد الرضا إلى أحد هذَين المكانين في اليوم الثاني أو الثالث من شهر يناير عام ١٩٢٨م؛ ولذلك طلب تأجيل العمليات العسكرية حتى يوم ٤ يناير، ومع أن اقتراح تيروتزي وقف النشاط العسكري مؤقتًا كان يدلُّ على الحيطة والحذَر من جانبه حتى لا تنكشف نيَّات الطليان الغادرة، فقد أبى فيدرزوني وزير المستعمرات إلا أن تبدأ العمليات العسكرية في الوقت الذي حُدِّد للبدء فيها سابقًا في برقة، أي يوم ٢٧ ديسمبر ١٩٢٧م؛ لأن الحكومة الإيطالية — على حدِّ قول الوزير — لا تعترف البتة بأن لتسليم السيد الرضا أية أهمية سياسية؛ إذ ينبغي اعتبار السيد «رئيسًا للثورة» فحسب، وهذا فضلًا عما يُسببه وقف العمليات العسكرية من أضرارٍ تلحق بسمعة المملكة الإيطالية. وهكذا كان الطليان في الوقت الذي قطعوا فيه على أنفسهم العهود والمواثيق «باحترام» السيد الرضا، يُضمرون الغدر به والكيد له، ويُبيتون النية على معاملته بوصفه «رئيسًا للثورة»، وخارجًا عن سلطان الحكومة، ومن حق الحكومة أن تقبض عليه عند سنوح الفرصة. وقد بلغ من إحكام الطليان تدبير مؤامراتهم أنهم أخذوا يُسقطون من طائراتهم المنشورات والرسائل الكثيرة على مقرِّ السيد الرضا في جالو قبل أن يُغادر الواحة، تحمِل وعود الحكومة المُتكررة بانتظار قدومه إلى أجدابية وبنغازي للترحيب به. وكان من بين ما ألقته الطائرات على جالو رسائل عدة من أعيان بنغازي باسم الشارف الغرياني وحسين البسيكري وآخرين يؤكد فيها أصحابها للسيد الرضا رغبة الطليان الصادقة في الصلح ويحضُّونه على المجيء إلى بنغازي دون إمهال.
وانتقل السيد الرضا إلى دور السيد الصديق عند عين الناقة، ذلك بأنه كان من رأيه قبل مفاوضة الطليان والذهاب إلى أجدابية أن يستشير للمرة الأخيرة رؤساء المجاهدين، فكلَّف السيد الصديق ببحث الموقف معهم، وبعد أن قلَّب هؤلاء وجوه الرأي أيد أكثرهم ضرورة بدء المفاوضات مع الحكومة نظرًا لسوء الحالة الاقتصادية في برقة بسبب قلة الأمطار من جهةٍ وإقفال الحدود المصرية من جهة أخرى وتعطيل التجارة. وتوقع المجاهدون إذا نجحت مفاوضات السيد الرضا مع الطليان وتقرَّر على الأقل عقد الهدنة فترةً محدودة من الزمن أن تتحسَّن الأحوال الاقتصادية بالبلاد شيئًا فشيئًا. وعلى ذلك فقد حضر السيد الصديق في مساء ٣٠ ديسمبر إلى بير الشلبي شمال آبار بالطفل بمسافةٍ قصيرة عند نجع الشيخ سعيد بو قدومة يُعلن قُرب حضور والده السيد الرضا في طريقه إلى أجدابية. وفي مساء اليوم التالي حضر الشيخ عبد العزيز العيساوي يُنبئ الضابط أولمي بأن السيد الرضا قد قرَّر الذهاب إلى أجدابية. وفي صباح أول يناير ١٩٢٨م وصل السيد الرضا إلى نجع الشيخ سعد بو قدومة في حراسة السيد الصديق، ثم قابل أولمي وأعلن التسليم للحكومة الإيطالية. وقد حضر هذا الاجتماع كلٌّ من حسين البسيكري وعبد العزيز العيساوي وسعد بو قدومة، ثم رجع السيد الرضا إلى بالطفل. وفي اليوم الثالث من شهر يناير قابل السيد الرضا ومعه الشيخ عبد العزيز العيساوي الضابط أولمي (متصرف أجدابية) وارتحل ثلاثتهم إلى القطوفية.
وظهر اطمئنان السيد الرضا لوعود الطليان عندما اعترض سبيلهم جماعة من المجاهدين، ما لبثوا حتى ارتدُّوا على أعقابهم عندما شاهدوا السيد الرضا الذي أمرهم بالانسحاب والعودة إلى قبائلهم محافظةً على الهدوء والسكينة. وبلغ السيد وصحبه إلى أجدابية بعد ظهر اليوم نفسه، ثم قابل قائد المنطقة ومُمثل الحكومة الكولونيل ريجيري. وكان في أثناء خروج السيد الرضا من القطوفية في طريقه إلى أجدابية أن قابلته القوة الإيطالية التي أرسلها الوالي تيروتي بقيادة الجنرال متزتي لبدء العمليات العسكرية، وهي العمليات التي أصرَّ فيدرزوني وزير المُستعمرات على عدم تعطيلها. وكانت هذه القوة ذاهبة إلى العقيلة، فما لبثت أن أحاطت بالسيد الرضا ورافقته حتى وصل إلى أجدابية.
وفي يوم ٣ يناير قررت وزارة المستعمرات إرسال السيد الرضا إلى المنفى، وحددت لانتقاله من أجدابية إلى بنغازي يوم ٧ يناير. ولكن السيد الرضا ما لبث حتى مرض عند وصوله إلى أجدابية فتأجَّل السفر، ثم غادر السيد الرضا أجدابية إلى بنغازي، وفي يوم ١٤ يناير نُفي السيد الرضا مع «مستشاره» الأمين الشيخ عبد العزيز العيساوي إلى بلدة «بيازا أرمريتا» بجزيرة صقلية، ثم أصدرت الحكومة بلاغًا رسميًّا عن هذا الحادث قالت فيه إن السيد الرضا قد سلَّم لإيطاليا دون قيدٍ أو شرطٍ وأن الحكومة قررت اعتقاله وإبعاده عن صقلية.
ولا جدال في أن هذا العمل من جانب الطليان كان خيانةً بالغة، وكان من نتيجته القضاء على كل أملٍ في إمكان الوصول إلى تسويةٍ سليمة بين المجاهدين وإيطاليا؛ فقد نقل السيد الصديق بعد ذلك مباشرةً دور المجاهدين من عين الناقة إلى أماكن أخرى أكثر تحصينًا، واشتد تذمُّر الأهلين في منطقة العقيلة عندما بلغهم اعتقال السيد الرضا وغدْر الطليان به. ومع أن هؤلاء الأخيرين استطاعوا أن يبعثوا بقواتهم إلى العقيلة في ١٨ يناير، وبدءوا ينزعون أسلحة المغاربة الشماخ دون مقاومة (في ٢٥ يناير)، فقد اضطُر تيروتزي إلى الذهاب بطريق الجو إلى العقيلة حتى يقف بنفسه على مدى تذمُّر الأهلين، ويتَّخذ التدابير اللازمة لمواجهة ما قد يحدُث من مقاومة نتيجة لهذا التذمُّر. ثم أمر تيروتزي الجنرال متزتي أن يبدأ زحفه على أدوار المجاهدين في معاطن غيزل، وأعد الطليان خطتهم للاستيلاء على الفزان واحتلال مرزق عاصمتها، فخرجت في أواخر يناير ١٩٢٨م قوتان، إحداهما من غدامس والأخرى من الجبل الأخضر، وكان الجيش بقيادة رودلف غرزياني ومعه يوسف خربيشة، ووجهة الجميع نهير الشاطئ، فوصل الجيش إلى جبلٍ يُعرَف باسم القنينة، وهناك التحم مع المجاهدين في معركة دامية استمرت خمسة أيام بتمامها، انهزم فيها الطليان شرَّ هزيمة، فتقهقروا تارِكين ما لديهم من مؤنٍ وذخائر. ثم ما لبثت أن خرجت قوة أخرى من مصراتة وترهونة وورفلة تقصد الفزان مباشرةً، فعلم المجاهدون بأمرِها بعد خروجها بثلاثة أيام، وانسحبوا إلى الداخل، حتى إذا وصل هذا الجيش الجديد إلى مكانٍ يقع بين جبلَين يعرفان بالجبال السود، انقضَّ المجاهدون على الطليان وأرغموهم على التقهقر، فعمد قواد الحملة إلى الفرار بسياراتهم تاركين وراءهم الجيش الذي وقع أكثره في قبضة المجاهدين، فاستأصلوهم عن آخرهم. وعندئذٍ لم يجد الطليان مناصًا من أن يُجددوا محاولاتهم، فخرجت في هذه المرة قوات عظيمة من جهاتٍ متعددة، من سرت وأجدابية، غرضُها الاستيلاء على زلة، فاشتركوا في معارك حامية مع قبائل المغاربة وأولاد سليمان وزوية بقيادة صالح الأطيوش وأحمد سيف النصر وعمر الحليق؛ غير أن الطليان ما لبثوا أن انهزموا في هذه المعارك وتركوا وراءهم غنائم وأسلابًا كثيرةً. وجدد الطليان المسعى فخرجوا في هذه المرة من الجفرة في ٣٠ فبراير ١٩٢٨م بجيش كبير، وزحفوا على زلة، ولم يستطع عبد الجليل سيف النصر ردَّهم، فاضطُر إلى الانسحاب منها واحتلها الطليان في ٢٢ فبراير، ثم تقدموا إلى آبار تقرفت. وفي معركة شديدة اشترك فيها عمر ومحمد ابنا سيف النصر انهزم الطليان في بادئ الأمر، ولكن المجاهدين اضطرُّوا إلى التقهقر بعد ذلك لنفاد الذخيرة منهم، فاحتل الطليان آبار تقرفت في ٢٥ فبراير. وخرجت من الحسيات في يوم ١٨ فبراير قوة أخرى بقيادة الجنرال متزتي غرضُها احتلال واحات جالو وأوجلة، فوصلت إلى معطن السبيل قريبًا من أوجلة في ٢٣ فبراير. وفي اليوم التالي احتل الطليان أوجلة، وحضر الوالي تيروتزي احتلال هذه الواحة، ثم صحب القوة التي ذهبت إلى جالو، فحضر احتلال هذه الواحة كذلك في يوم ٢٥ فبراير. فضلًا عن أنه حضر احتلال جخرة في اليوم التالي، ثم عاد في يوم ٢٧ فبراير بطريق الجو إلى أجدابية. وبين يومي ١٠ و١٨ مارس بدأت العميات التي انتهت باحتلال مرادة. وهكذا استطاع الطليان بفضل احتلال الجغبوب (منذ أوائل ١٩٢٧م) وزلة وجالو وأوجلة ومرادة أن يقطعوا كل السبل بين المجاهدين في الجبل الأخضر وبرقة وبين مصر من الناحية الشرقية، وبين مصر ومراكز السنوسية الباقية في الجنوب في فزان والكفرة، ووضعوا السيد عمر المختار والمجاهدين في عزلةٍ تامة في الشمال.
غير أنَّ هذه الانتصارات لم تنل شيئًا من عزيمة المختار الذي ظل يشنُّ الغارة بعد الغارة على درنة وما حولها، حتى أرغم الطليان على الخروج بجيوشهم في ٢٢ أبريل من درنة وشحات والمرج وبنغازي وسرت ومراوة لمقابلته، فاشتبك معهم في معركة شديدة استمرت يومَين كان النصر فيها حليفه، ففرَّ الطليان تاركين عددًا من السيارات والمدافع الجبلية وصناديق الذخيرة عدا الجمال ودواب النقل. وفي يونيو استطاعت قافلة من البراعصة أن تخرج من السلوم مُحملةً بمختلف العتاد والمؤن قاصدة إلى الجبل الأخضر لإمداد السيد عمر، فعلم الطليان بخروجها وأرسلوا سياراتهم المسلَّحة لتعقُّبها، ولكن المجاهدين صمدوا لهم وأطلقوا رصاص بنادقهم على العجلات فتعطَّلت السيارات، وعندئذٍ انقض العرب على القوة الإيطالية فأبادوها عن آخرها وأحرقوا السيارات. وفي سبتمبر من العام نفسه غزت جموع الزوية الجخرة ومرسى بريقة وجالو وأوجلة، وأنزلوا بالطليان خسائر جسيمة، فدلَّت هذه الأعمال على أن «الثورة» ما زالت مُستعرة الأوار في الجهة الغربية من سرت شمالًا إلى الفزان جنوبًا وإلى جالو شرقًا، فضلًا عن اشتداد مقاومة المجاهدين في الجبل الأخضر؛ وذلك كلُّه على الرغم من احتلال الطليان للواحات ومراكز السنوسية الهامة، فلم يعُد هناك مناص من أن يُعيد الطليان النظر في خُططهم، مما أدى إلى وقوع أزمةٍ كبيرة في رومة، ذلك بأن الحكومة الإيطالية بدأت تبحث بصورةٍ جدية وسائل إخماد المقاومة، وترسُم خطوط السياسة الجديدة التي يجِب اتباعها في كلٍّ من برقة وطرابلس. فقد أسفرت هذه البحوث عن استقالة فيدرزوني وزير المستعمرات في رومة وديبونو والي طرابلس وتيروتزي والي برقة في ديسمبر ١٩٢٨م، فعُين ديبونو وزيرًا للمستعمرات، وأعلن موسوليني توحيد الإدارة في القطرَين الليبيَّين، وعُين الماريشال بادوليو حاكمًا على طرابلس وبرقة. ويُحدد مجيء بادوليو إلى ليبيا بداية مرحلة النضال الحاسمة بين الطليان والمجاهدين في برقة والجبل الأخضر.
وكان تعيين بادوليو حاكمًا على طرابلس وبرقة في شهر يناير من عام ١٩٢٩م، وأعد بادوليو لحكومته في ليبيا برنامجًا شاملًا، مداره الاقتصار على المناوشات والعمليات العسكرية البسيطة وتخفيض الجيش إلى القدْر الذي يكفي القيام «بحرب العصابات» فحسب، واستبدال العمل على دعم المراكز التي احتلَّها الطليان بالتوسُّع في الفتوح الجديدة، وذلك حتى تتوفر تلك الأموال التي كان يتطلَّبها الاحتفاظ بجيشٍ كبير في ليبيا، فيتمكن بادوليو من إنفاق هذه الأموال على إنشاء الطرق في الجبل الأخضر خصوصًا. والسبب في ذلك أن بادوليو كان يعرف حق المعرفة أنه من العبث أن تُصرَّ الحكومة على مقاومة المجاهدين في الجبل الأخضر والواحات طالما بقِيَت قواعد الطليان غير موطَّدة في هذه الجهات، ويستطيع المجاهدون تحطيم القوات التي تخرج من هذه القواعد الضعيفة لمناجزتهم على نحو ما شاهدنا، ولم يفد الطليان شيئًا في وقف نشاط المجاهدين احتلالهم مراكز العرب في غضون العمليات العسكرية الكبيرة، وفضلًا عن ذلك فإنه على الرغم من تضييق الحصار على السيد عمر المختار في الجبل نتيجة لاحتلال الواحات الجنوبية والشرقية وإعادة الاتصال بين برقة وطرابلس عبر منطقة سرت، فقد ظلَّ المجاهدون تحت قيادة المختار يخرجون لمناوشة الطليان وإنزال الخسارات الفادحة بقوَّاتهم، فكان إنشاء الطرق المعبَّدة من الجبل الأخضر ضروريًّا لتسهيل حركة الجيوش وتنفيذ الخطط الاستراتيجية وإقامة نظام في الحراسة المُجدية تمكن «الدوريات» والقوات الإيطالية في تتبُّع المجاهدين وملاحقة أدوارهم من مكانٍ إلى آخر بكل سرعة. ولا سبيل للإنفاق على إنشاء هذه الطرق إلا إذا خفضت الحكومة قوة جيشها النظامي وأنفقت ما يتوافر لديها من مال على إنشاء هذه الطرق. وقد اقتضى الاقتصار على المناوشات البسيطة أو ما يُشبه حرب العصابات أن يوقف بادوليو إعطاء الأرض للمُستعمرين أو المُعمرين من الطليان حتى يخفَّ عبء الحكومة في واجب المحافظة عليهم، وزيادةً على ذلك فقد كان من رأي بادوليو عدم التوسُّع في احتلال مراكز جديدة.
بيد أن هذا البرنامج كان لا يمكن تنفيذه إذا ظلَّ بادوليو يسير على سياسة والي برقة السابق تيروتزي، وقوامها الاشتباك مع المجاهدين في الجبل الأخضر والإيقاع بقادة السنوسية وزعمائها في الواحات الداخلية، واحتلال المراكز المنتشرة في الجنوب من الجغبوب إلى جالو وأوجلة وزلة وسوكنة ومرادة دون القدرة على دعم هذه المراكز بإرسال الحاميات الكبيرة إليها. وعلى ذلك فقد بنى بادوليو تنفيذ برنامجه الواسع على ضرورة كسب الوقت أولًا ثم العمل رويدًا رويدًا من أجل تقوية المراكز المحتلة، ثم الزحف البطيء والالتحام مع جانب من المجاهدين في مناوشاتٍ صغيرة، الغرَض منها المحافظة على هيبة الحكومة قبل أي اعتبار آخر، حتى إذا نجح في توطيد قواعد الاحتلال الإيطالي واستطاع أن يجلب الإمدادات الكثيرة، بدأ على الفور يُعِد الجيوش العظيمة للاشتباك مع العرب في معارك حاسمة. وعلى ضوء هذه الاعتبارات جميعها يستطيع المرء أن يُدرك حقيقة تلك الأساليب السياسية والخطط العسكرية التي ميَّزت نشاط الحاكم الجديد طوال عام ١٩٢٩م في كل من برقة وطرابلس.
فإنه ما إن وصل بادوليو إلى طرابلس حتى أصدر منشورًا إلى أهالي طرابلس وبرقة في ١٥ فبراير ١٩٢٩م، يعلن فيه العفو عن الأفراد الذين يُسلمون أنفسهم وسلاحهم مُختارين للحكومة، ويتوعَّد في الوقت نفسه كلَّ معاندٍ بالعقوبة الصارمة، وقد أسقطت الطائرات هذا المنشور من الجو على البلدان والقرى والنواجع في أنحاء القطر الليبي بأجمعه. وكان لهذا المنشور آثار مباشرة في كلٍّ من برقة وطرابلس، أهمُّها أن بعض أعيان الطرابلسيين في مدينة طرابلس ظنُّوا في الحكومة الضعف ووهن العزيمة، واعتقد المجاهدون في الجبل الأخضر أن الحكومة صارت ترغب رغبةً صادقةً في بدء المفاوضة من أجل الوصول إلى تسوية النزاع القائم بالطرق السلمية، وزحف أحمد سيف النصر ومحمد بن الحاج حسن (من قبيلة المشاشة) على القبلة (أو الجبلة) لجمع البدو المحاربين وإرسالهم إلى الجبل الأخضر حتى يُعززوا قوات المجاهدين في الجبل ويُرغموا الحكومة بذلك على اتخاذ «لهجة متواضعة» عند بدء المفاوضة مع السيد عمر المختار وصحبه. وعلاوةً على ذلك شرع صالح الأطيوش يُنظم في جبل الهروج جماعاتٍ من المحاربين للاشتباك مع الطليان في برقة أو في طرابلس. وفي منتصف فبراير ١٩٢٩م نزلت قوات المجاهدين من الهروج الأسود للانقضاض على النوفيلية من جانب وعلى أجدابية من جانبٍ آخر، فاجتمعت في الجيفة ثم انقسمت ثلاث فِرَق التحمت إحداها مع الطليان في معركة عند قارة سويد في ٥ مارس، واشتبكت الثانية معهم في معركة كبيرة عند النوفيلية في ١٤ مارس، واتجهت الثالثة بقيادة عبد القادر الأطيوش من الجيفة صوب منطقة العقيلة، فأغار المجاهدون بالقُرب من قوبرة الشيخ على قافلة كانت في طريقها من مُرادة إلى العقيلة في ٢٣ مارس، ثم استقر المجاهدون في جبل سلطان. وبعد عناء شديد استطاعت الطائرات الإيطالية أن تكشف عن مقرِّهم، فالتحم جيش من الطليان مع الجزء الأكبر من قوات المجاهدين جنوب بير بالريش بالقُرب من بير جدارية في يوم ٦ أبريل، واضطُر المجاهدون، أمام قوات العدو العظيمة، إلى التقهقُر صوب وادي الفارغ.
وكان لهذه الالتحامات أكبر الأثر في إقناع بادوليو بضرورة العمل فورًا من أجل استمالة المجاهدين إلى المفاوضة إذا أراد أن يضع برنامجه الواسع موضع التنفيذ، فبدأ من ثم مُتصرف المرج الكولونيل باريلا من أوائل مارس ١٩٢٩م يطلب الاجتماع بالسيد عمر المختار للمفاوضة في شروط الصلح، وحدَّد باريلا موعدًا للاجتماع يوم ١٢ مارس. غير أن باريلا لم ينتظر جواب المختار، وأراد أن ينتهز فرصة اطمئنان المجاهدين لقُرب بداية المفاوضات، وانشغالهم بعيد الفطر المبارك، فانقضَّ الطليان عليهم فجأة وهم يقومون بصلاة العيد (١٣٤٧ﻫ)، وردَّهم المجاهدون على أعقابهم. ولكنَّ زحْفَ الأطيوش وجماعته ثُم نشوب المعارك التي سبق ذكرها في النوفيلية وغيرها، لم يلبث أن اضطَرَّ بادوليو إلى تجديد المسعى.
وفي هذه المرة كلف بادوليو مُتصرف درنة دودياشي، وكان معتدلًا ظاهر المَيل إلى التفاهم مع العرب، أن يُمهد للمفاوضة مع السيد عمر المختار وصحبه، فاتصل دودياشي بالمجاهدين، واقترح على السيد عمر أن يكون الاجتماع يوم ٢٠ مارس في منزل علي باشا العبيدي للبحث في موضع الصلح، ولكن المختار أصرَّ قبل بدء المفاوضات على أن تعمد الحكومة إلى إقامة الدليل الظاهر على حُسن نواياها بإطلاق سراح السيد محمد الرضا وإعادته إلى برقة، وبعث السيد محمد حسن الرضا السنوسي ابن السيد الرضا ونائبه في أدوار المجاهدين برسالة إلى حاكم طرابلس في ٩ شوال ١٣٤٧ﻫ (١٥ مارس ١٩٢٩م) ذكر فيها أن عمال الحكومة قد دأبوا أخيرًا على تأكيد القول بأن الحكومة إنما تبغي تهدئة البلاد ونشر ألوية السلام في ربوعها، غير أنه يعلم يقينًا أن الوصول إلى هذه التهدئة مُتعذِّر تمامًا ما دام السيد محمد الرضا مُبعدًا عن البلاد، وأنه لا سبيل إلى تقرير الهدوء والسلام إلا بعودة الرضا. وقد حملت هذه الرسالة إلى جانب اسم حسن الرضا ختم المُختار بوصفه الوكيل العام في برقة. فكان من أثر هذه الرسالة أن صار بادوليو يطلب من وزارة المُستعمرات في رومة أن تفكَّ عقال السيد الرضا وتأذن بعودته إلى بنغازي، وأصرَّ بادوليو على إجابة هذا الطلب كخطوةٍ لا مندوحة عن اتخاذها إذا شاءت الحكومة أن تُقدم للعرب برهانًا ساطعًا على صِدق نواياها. وأمام هذا الإلحاح من جانب بادوليو لم تجد حكومة رومة مناصًا من إطلاق سراح السيد الرضا وإرجاعه إلى بنغازي، وكان السيد الرضا يقيم وقتذاك مَنفيًّا في أوستيكا، وهي جزيرة صغيرة بالقُرب من صقلية. أما السيد فقد وصل إلى بنغازي في يوم ٢١ مارس.
وعندما استطاع عمال الحكومة أن يؤكدوا للمجاهدين مغادرة السيد الرضا منفاه، وأنه في طريقه فعلًا إلى برقة، وافق السيد عمر المختار على الاجتماع بمندوب الحكومة دودياشي في منزل علي العبيدي في ٢٠ مارس، وحضر هذا الاجتماع عدد كبير من مشايخ البلاد وأعيانها. غير أن هذه المباحثات لم تسفر عن شيء، فتأجلت المفاوضة إلى موعد آخر، وبعد أسبوع واحد انعقد اجتماع آخر في سانية القبقب، ولم يستطع المتفاوضون الوصول إلى نتيجةٍ مُجدية في هذا الاجتماع كذلك. وأما السيد الرضا فقد بذل جهدًا صادقًا لتهيئة الجو الصالح للمفاوضة المثمرة، وأعد ابنه السيد حسن الرضا منشورًا طلب فيه إلى قبائل الحاسة والعبيدات الامتناع عن أية أعمال عدائية، غير أنَّ هذه الجهود ما كانت تقابل بالرضا من جانب الحكومة؛ ذلك بأن سيشلياني نائب الوالي في برقة كان يخشى أن تتمكن السنوسية من دعم نفوذها على أثر عودة السيد الرضا إلى برقة إذا استمر زعماء السنوسية على نشاطهم، ولو كان هذا النشاط سلميًّا يهدف إلى تقرير الهدوء والسكينة.
وكان في هذه الأثناء أن جاء علي باشا العبيدي يحمل إلى دودياشي نائب الوالي ومتصرف درنة مطالب رؤساء المجاهدين، وكانت تتلخَّص في ضرورة اعتراف الحكومة بزعامة السنوسية الدينية في البلاد، وبرئاسة السيد محمد إدريس والسيد أحمد الشريف، وبأن للسنوسيين حقَّ ملكية الأرض حول جغبوب والكفرة، وأن تُحتَرم زوايا السنوسية وأوقاف هذه الزوايا وتُدفع الرواتب لمقدمي الزوايا ومشايخ القبائل، على أن يَقبل المجاهدون في نظير ذلك تسليم نِصف ما لديهم من أسلحة بالثمن الذي يُحددونه لها، وهو ألف ليرة إيطالية للبندقية الواحة، وإقامة أعضاء الأسرة السنوسية الكريمة في المدن بعيدين عن الأدوار. وفضلًا عن ذلك فقد طالب المجاهدون بإعادة المهاجرين من برقة إلى أوطانهم. وواضح أن الغرَض من هذه المطالب إنما كان التمهيد من أجل تنظيم شئون البلاد على أساس تلك الاتفاقات التي أبرمها الطليان مع السيد إدريس في عكرمة والرجمة، وإعادة العمل بذلك القانون الأساسي الذي ألغاه الطليان عندما نقضوا عهودهم ومواثيقهم مع السنوسية في بداية الانقلاب الفاشستي. وكان من رأي سيشلياني عندما أبلغ هذه العروض إلى حكومته أنها لم تكن مطالب المجاهدين النهائية.
ومع أنه كان واضحًا أن الحكومة الإيطالية في هذا العهد الفاشستي ما كانت ترضى قطُّ عن عودة الزعامة السنوسية، وهو المطلب الأساسي في كل ما تقدَّم به المجاهدون من مطالب في هذه المرحلة وفي مراحل المفاوضات التالية، فقد طلب باريلا الاجتماع بالسيد عمر المختار في الشليوني بالجبل الأخضر في يوم ٦ أبريل. فحضر المختار ولكنه طلب أن يحضر السيد الرضا هذه المفاوضات كذلك، فتأجل الاجتماع إلى موعدٍ آخر. وفي ٢٠ أبريل دارت المباحثات في بئر المغارة (في وادي القصور)، وقد حضر هذا الاجتماع السيد محمد الرضا بعد أن تعهَّد الشارف الغرياني بإرجاع السيد إلى بنغازي، وخرج مع السيد الرضا إلى جانب الشارف كلٌّ من خالد الحمري وعبد الله فركاش ورويفع فركاش وعلي باشا العبيدي وعبد الله بلعون مدير المرج، وحضر كل هؤلاء اجتماع المختار بالسيد الرضا. ثم خيَّر مندوبو الحكومة السيد عمر بين أمورٍ ثلاثة: الذهاب إلى الحجاز أو إلى مصر أو البقاء في برقة، فإذا رضى بالبقاء في برقة أجرَت عليه الحكومة مرتبًا ضخمًا وعاملته بكل احترام. ولكن المختار رفض هذه العروض.
وكان من الواضح في أثناء الاجتماع أن السيد الرضا يخضع لرقابةٍ صارمة تُقيد حُريته ولا تدع له فرصة ما لتبادل الرأي مع السيد عمر. وعلى ذلك أصر المختار على ضرورة اتصال السيد الرضا بأمير البلاد السيد إدريس في القطر المصري، وأكد لمندوبي الحكومة استعداده التام لتنفيذ كل ما يأمُر به السيد إدريس نفسه. فانفض الاجتماع دون الوصول إلى نتيجة، وكان غرَض المختار على ما يبدو من طلب حضور السيد الرضا إلى وادي القصور أن يستطيع إنقاذه من قبضة الطليان، ولكنه سرعان ما عدل عن تنفيذ عزمِه لأسبابٍ عدة، منها أنه لم يتمكن من الحديث منفردًا مع السيد الرضا حتى يستطلِع رأيه في ذلك بسبب وجود الشارف الغرياني وصحبه يُحيطون بالسيد الرضا من كل جانب، وكان هؤلاء من أعوان الحكومة، وفضلًا عن ذلك فإن المُختار لم يجد أية فائدة عملية من اتخاذ هذه الخطوة. أما المفاوضات فقد تعطلت مدة بعد ذلك حتى طلب سيشلياني استئنافها في ١٨ مايو.
واستؤنفت المفاوضات في هذه المرة في مكان يُسمَّى قندولة بالقرب من سيدي رويفع، وحضر اجتماع قندولة باريلا وكمباني وعدد من الضباط والأعيان. وكان سيشلياني قد بيَّت النية على الإيقاع بالمختار وأسره، ولكن السيد عمر احتاط للأمر، ولم يُسفر هذا الاجتماع عن شيء. وفي ٢٦ مايو بدأت المفاوضات من جديد، فحضر المختار إلى مكانٍ بالقُرب من القبقب، وفي هذا الاجتماع دارت المباحثات على أساس ما جاء في منشور بادوليو، فعرض دودياشي شروط الحكومة، وهي: (أولًا) عودة السيد إدريس والسيد أحمد الشريف والسيد صفي الدين وسائر أعضاء الأسرة السنوسية إلى البلاد، على أن يكونوا تحت إشراف الحكومة، وأن يتم رجوعهم بترخيصٍ من الحكومة بوصفهم «مهاجرين» يبغون العودة إلى أوطانهم، وتعهدت الحكومة بمعاملتهم اللائقة بمراكزهم على غرار ما تفعله مع السيد الرضا، (ثانيًا) احترام الزوايا وأوقافها ودفع المرتبات لشيوخها، (ثالثًا) إرجاع أملاك الأسرة السنوسية، (رابعًا) إعفاء الزوايا وأملاك السنوسيين من الضرائب، (خامسًا) تسليم المجاهدين نصف ما معهم من أسلحة لقاء ألف ليرة إيطالية تُدفع ثمنًا لكل بندقية يُسلمونها، وعلى أن ينضم بقية المجاهدين المسلحين إلى المنظمات التي تُنشئها الحكومة تحت إشرافها وإدارتها، وذلك لمدةٍ مُعينة تُحددها الحكومة فيما بعد في نظير أن تُعَد أمكان لإقامتهم يسهل على الحكومة إمدادهم فيها بالمؤن، فضلًا عن إحكام الرقابة عليها، (سادسًا) إبعاد كل الإخوان السنوسيين من الأدوار، وتتعهد الحكومة بإعطائهم المُرتبات التي تُناسب مراكزهم. فاعترض المختار على تسليم الأسلحة وحل الأدوار، وأصرَّ على بقاء الأدوار تحت قيادة السيد حسن الرضا، على أن يكون للحكومة نوع من الإشراف العام فحسب. واستند المختار في ذلك إلى أن بقاء الأدوار بقيادة الحسن من شأنه أن يوفِّر على الحكومة مبالغ طائلة؛ لأن الحسن في وسعه أن يُنفق على هذه المعسكرات من أموال العُشر التي يجمعها على حسب القواعد الدينية. وقد أيَّد المختار في ذلك عبد الحميد العبار. ولكنه لمَّا كان بقاء الأدوار تحت قيادة السيد حسن الرضا السنوسي ثم تحصيل العشور وأموال الزكاة ينطوي على بقاء الزعامة السنوسية ذاتها تُمارس سلطتها الدينية والسياسية، بل ودعم أركان هذه الزعامة التي ما فتئ الطليان يُحاربونها منذ قدومهم إلى ليبيا، فقد رفض دودياشي عروض المختار، وانفضَّ الاجتماع على أن يعرض دودياشي هذا الحل — كما طلب المختار — على نائب الوالي في برقة حتى يفصل فيه سيشلياني بنفسه.
وبعد أربعة أيام فقط طلب دودياشي مقابلة المختار في قندولة (٣٠ مايو)، فجاء المختار إلى نجع علي العبيدي شيخ العبيدات بالقُرب من القبقب، وحضر معه السيد حسن الرضا والفضيل بوعمر وعبد الحميد العبار وحامد القماصي وآخرون، ومعهم حرس يتألف من مائة وخمسين فارسًا. وجاء من طرف الحكومة دودياشي وباريلا، كما حضر هذا الاجتماع علي العبيدي وخالد الحمري ورويفع فركاش، وكانت جلسة هامة، أظهر فيها المختار استعداده للتفاهُم طالما أنه يؤدي إلى المحافظة على «كرامة» السنوسية. وفضلًا عن ذلك فقد أصر المختار على عدم حدوث أي اتفاقٍ بينَه وبين الحكومة الإيطالية إلا إذا حضر مندوب عن الحكومة المصرية وآخر عن الحكومة التونسية كدليلٍ على رغبة الطرفَين الصادقة في الاتفاق بصورة قاطعة. ولكن دودياشي اعترض على هذا الطلب، وكان من سوء حظه أنه استند في اعتراضه هذا إلى أقوالٍ هيَّجت السيد عمر وأخفقت بسببها مفاوضات قندولة، ذلك بأن دودياشي حاول أن يسوِّغ رفض حضور المندوبَين المصري والتونسي بدعوى أن الطليان استمروا على صِلة مباشرة بالبرقاويين من سنواتٍ عدة، ولم تصدُر منهم إطلاقًا خلال هذه السنوات الطويلة أعمال تدلُّ على الخيانة والغدر، فضلًا عن أنهم لم يسلكوا في علاقاتهم مع العرب مسلكًا يدلُّ على عدم المروءة. فكان هذا القول ادعاءً جريئًا كفى صدوره من المفاوض الإيطالي لاستثارة المختار الذي سرعان ما استبدَّ به الغضب، فاندفع يُندد بأفعال الطليان ويكشف عن سوء نواياهم وخُبث ضمائرهم، ويسرد على الحاضرين، في حدَّة بالِغة، أمثلة كثيرة من أعمال القسوة والغدْر التي ارتكبها الطليان الآثمون على أيدي قوَّادهم وعمَّالهم، فذكر ما فعلَه الجنرال متزتي بقبيلة العبيدات، وهي من القبائل التي سالمت الطليان، عندما اغتصب هؤلاء كلَّ ما كانت تمتلكه هذه القبيلة، حتى إنهم نزعوا حليَّ النساء من آذانهن، وذكر ما فعله لوبللو مع أسرة إبراهيم من قبيلة العواقير، وقد سالم هؤلاء الطليان كذلك، فأخذ لوبللو منهم أربعين رجلًا قتلَهم رميًا بالرصاص ثم جعل السيارات تمرُّ على جُثثهم: «فما زالت السيارات تدهسهم ذهابًا وإيابًا حتى اختلطوا بالتراب.» ثم حمَّل المختار الطليان مسئولية نقض اتفاقاتهم مع العرب وخصوصًا اتفاق الرجمة. والواقع أن ثورة المختار كانت شديدة، ولكن بعضًا من الحاضرين بادروا بالتدخُّل حسمًا للأمور، واستطاع المُتفاوضون أن ينتقلوا بعد ذلك إلى بحث شروط الصلح، وتمسَّك المختار بحقوق السنوسية وزعامتها، وأصرَّ على أن يكون للقُطر البرقاوي الطرابلسي نفس الامتيازات التي تتمتع بها جاراته مصر وتونس. وكان المختار وحده هو الذي يتكلم، وأما سائر المجاهدين فقد صمتوا، وفعل ذلك أيضًا السيد حسن الرضا. بيد أن بعض أعوان الحكومة أمثال علي العبيدي وعبد القادر بوبريدان والسيفاط بوقرنة (من البراعصة) حاولوا التوسُّط لإقناع المختار بأن يترك جانبًا مسألة الحقوق والزعامة السنوسية، فثارت ثائرة المختار من جديد وانسحب من الجلسة قائلًا إنه يريد الذهاب إلى مُعسكره لأن ذلك اليوم كان أول أيام العيد. وأما إذا أراد المتصرف دودياشي الحديث فإن موعد ذلك جلسة أخرى.
وفي الأيام القليلة التالية اتصل علي العبيدي بالسيد عمر المختار، ولمَّا كان المجاهدون لا يزال يحدوهم الأمل في إمكان الوصول إلى حلٍّ سلمي مع الطليان، فقد قبل المختار استئناف المفاوضة، وكان من رأي السيد الرضا أنه ما دام هناك شيء من الأمل في إمكان تحقيق مصلحة الوطن، فإن الواجب يقتضي المختار عدم تفويت الفرصة. فعُقد اجتماع آخر في يوم ٧ يونيو، حضره دودياشي وباريلا ثم سيشلياني الذي قال إنه جاء الاجتماع موفدًا من قبل الماريشال بادوليو بُغية الوصول إلى اتفاقٍ حاسم مع العرب. وجدد الطليان عروضهم القديمة، وتمسك المختار بمطالبه، وأصرَّ على حضور مندوبَين من قِبل الحكومتَين المصرية والتونسية، ووعد سيشلياني بأن يحمل مطالب المختار إلى بادوليو. وفي ١٣ يونيو اجتمع نائب الوالي سيشلياني بالسيد عمر في قلعة شليوني، وأظهر المختار رغبته الصادقة في الاتفاق إذا أقرَّت الحكومة الإيطالية مطالبه، وهي نفس المطالب السابقة، وعلى أساس أن يكون للمختار مُطلق الحرية في الذهاب إلى أي مكانٍ يريده، ولو أن الحكومة كانت تُفضل بقاءه في برقة مشمولًا — على حدِّ قولها — بجميع مظاهر الرعاية والتقدير والاحترام الكامل، وأن يُقيم السيد حسن الرضا مع والده الرضا في بنغازي، وأن يجمع المجاهدون في جنوبي تكنس حتى يمكن تسريحهم شيئًا فشيئًا، ووعدت الحكومة بإلحاق فريق منهم ضمن قواتها النظامية واستخدام من يشاء منهم في إنشاء الطرق وإعطاء مكافأة سخية لكل فردٍ يُسلم ما معه من أسلحة إلى الحكومة. ولمَّا كان سيشلياني قد وعد بإجابة مطالب المختار جميعها، فقد تأجل الاجتماع إلى يومٍ آخر حتى يتم الاتفاق النهائي بحضور والي طرابلس وبرقة نفسه. وفي يوم ١٩ يونيو حصل اجتماع سيدي رحومة المشهور بحضور بادوليو وسيشلياني وعدد من الطليان والأعيان الضالِعين معهم كالشارف الغرياني وعلي باشا العبيدي.
ومع أن المختار ظلَّ متمسكًا بضرورة حضور مندوبين عن الحكومتَين المصرية والتونسية «إذا كان الطليان يريدون حقًّا راحة البلاد ويعملون من أجل تهدئتها»، فقد قبل أن يعرض شروطه النهائية رسميًّا بحضور والي ليبيا، فقرأ الفضيل بوعمر هذه الشروط. ووافق الطليان عليها، ثم تسلَّمها بادوليو ووعد بأن يعمل على حضور مندوبَي الحكومتَين المصرية والتونسية في اجتماع يُحدَّد فيما بعد قريبًا. واتفق الفريقان على عقد هدنةٍ لمدة شهرَين حتى يتسنَّى لكلٍّ منهما «مخابرة مرجعه»، وقال بادوليو إنه على استعدادٍ تام لقبول عودة أمير البلاد السيد محمد إدريس إلى برقة ما دام المختار والمجاهدون يصرُّون على ذلك.
وكانت الشروط التي عرضها المختار أساسًا للاتفاق النهائي مع الطليان مُتفقة في جوهرها مع ما كان الطليان قد أخذوا على أنفسهم من العهود والمواثيق بتنفيذه عندما أصدروا القانون الأساسي لقُطر برقة في عام ١٩١٩م وأبرموا معاهدة الرجمة مع السيد إدريس؛ وهي شروط تكفل المحافظة على كيان العرب واحترام عقائدهم الدينية ولُغتهم العربية، وتصون أوقاف الزوايا، وتُخوِّل المختار الحق في أخذ الزكاة الشرعية من العرب القاطنين حول النقط الإيطالية بالسواحل، وتنص على وجوب تعليم أبناء البلاد وفتح باب التوظُّف في دوائر الحكومة وممارسة الأعمال الحرة على قدم المساواة مع الطليان، وإرجاع جميع المُمتلكات التي اغتصبتها الحكومة من الأهالي وإعطائهم مُطلق الحرية في حمل السلاح وجلبِه من الخارج إذا امتنعت الحكومة عن بيع السلاح لهم. وفضلًا عن ذلك فقد نصت هذه الشروط «على أن يكون للأمة رئيس منها تختاره بنفسها، ويكون لهذا الرئيس مجلس من كبار الأمة له حق الإشراف على مصالحها، كما يكون للقاضي (الإسلامي) وحدَه القول الفصل بين الوطنيين.» وكان هذا الشرط على وجه الخصوص أهم الشروط التي قُدِّمت للطليان في نظر المختار وسائر المجاهدين. وعلاوةً على ذلك فقد طلب المختار إعلان العفو الشامل عن جميع من عدَّتهم إيطاليا «مُجرمين سياسيين»، سواء كان هؤلاء في داخل القُطر أم كانوا خارجه، وإطلاق سراح المسجونين وسحب كل المراكز التي استحدثها الطليان في أثناء الحرب بما في ذلك مراكزهم في الجغبوب وجالو.
وكان معنى إجابة هذه المطالب إنشاء تلك الإمارة السنوسية التي استطاع السيد إدريس تأسيسها في برقة ثم عمل الطليان على تحطيمها منذ اللحظة الأولى التي ارتبطوا بها في مواثيق القانون الأساسي واتفاق عكرمة والرجمة. وعلى الرغم من هذه المواثيق والاتفاقات، وفضلًا عن ذلك فقد كان معنى إجابة هذه المطالب أيضًا أن الطليان قد اعترفوا بالهزيمة السياسية وأقرُّوها، وأن تلك الجهود العسكرية التي بذلوها مدة ستة أعوام تقريبًا قد ذهبت جميعها هباءً منثورًا، وما كان الطليان ليرضوا بذلك. وما كانت الحكومة الفاشيستية — وهي التي خوَّل رئيسها موسوليني الماريشال بادوليو عند مجيئه إلى الأقطار الليبية سلطات واسعة لإخماد «الثورة» بكل الوسائل المُمكنة ودعم أركان الاحتلال الإيطالي في البلاد — نقول إن هذه الحكومة ما كانت لترضى قط عن إعادة ذلك البنيان الذي عقدت العزم على تقويض صرحِه طوال السنوات الماضية. ولذلك فإنه مما يدعو إلى العجب والدهشة حقيقةً أن بادوليو قبل دون تردُّد في اجتماع سيدي رحومة هذه الشروط التي قدمها المختار أساسًا للصلح مع إيطاليا.
بيد أن هذا العجب وهذه الدهشة سرعان ما يزولان كي تحلَّ محلهما الريبة الشديدة في نوايا الطليان، إذا عرفنا أن بادوليو عند عودته إلى بنغازي من سيدي رحومة أخذ يتكتَّم هذه الشروط التي تم عليها الاتفاق مع السيد عمر، وبدلًا من المبادرة بتنفيذ شيءٍ منها صار يتَّخذ هو وعمَّاله خطة المراوغة ويعمد إلى كسب الوقت، على أمل أن يستطيع في أثناء ذلك إنجاز استعداداته والتهيؤ لبدء العمليات العسكرية الواسعة ضد المختار نفسه، ثم احتلال ما بقي من مراكز السنوسيين في الفزان والكفرة وغيرها. واعتقد الطليان أن الشروط التي تقدَّم بها السيد عمر المختار بصورة قاطعة في سيدي رحومة لم تكن من عملِه، بل إنها كانت من عمل السيد إدريس في القاهرة. ثم تأكدت هذه «الشكوك» لدى بادوليو وسيشلياني وأضرابهما عندما اجتمع سيشلياني بالسيد عمر بعد ذلك في بير قندولة في ٢٨ يونيو، ثم في سيدي رويفع في ٢٠ يوليو، وشرع الطليان وعمَّالهم يبذرون بذور الشقاق في صفوف المجاهدين في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ البلاد على أمل أن يُضعفوا من قوَّتهم. وفي اجتماع سيدي رويفع ادَّعى سيشلياني أنه لا يمكن إبرام الاتفاق النهائي إلا في عاصمة الولاية. ولما كان سيشلياني قد أكد رغبة حكومته الصادقة في إبرام هذا الاتفاق عند اجتماعه بالسيد عمر في بير قندولة (٢٨ يونيو)، فقد اعتقد المختار أن الطليان صادِقو النية حقيقةً في هذه المرة، ووافق على أن يذهب السيد حسن الرضا مع سيشلياني إلى بنغازي حتى يوقِّع على الصلح نيابةً عنه على أساس الشروط التي قبلها الطرفان في سيدي رحومة.
على أنه ما إن وصل السيد حسن إلى بنغازي حتى عمد الطليان إلى تنفيذ مؤامرتهم، فاستطاع أعيان البرقاويين الضالِعين معهم أن يؤثروا في السيد حسن وأن يُقنعوه بأهمية الاتفاق السريع مع الحكومة الإيطالية كخطوةٍ لا مناص من اتخاذها لإنقاذ الوطن وإعادة الهدوء والسكينة إلى برقة. ولما كان الحسن شابًّا حديث السن، لا يزيد عمره على السابعة عشرة، فقد أعار أقوالهم آذانًا صاغيةً، وقبِل أن يوقِّع على شروط للصلح كانت تختلف عن تلك التي اشترطها المختار في سيدي رحومة وقبِلها بادوليو. وعندئذٍ لم يجد السيد عمر مناصًا من رفض هذه الوثيقة، وأبى الموافقة على الشروط الجديدة التي وقَّعها الحسن، فعزَّ على الحسن أن ينقض المختار كلمته، وانفصل بجماعته من البراعصة والدرسة — وكانوا يبلغون حوالي الثلاثمائة — واتخذ مقامَه في غوط الجبل وهو مكان قريب من مراكز الطليان في مراوة.
وأدرك المختار حقيقة نوايا الطليان ونوايا أعوانهم، ولكنه فضَّل التريُّث، فبعث في يوم ١٥ ربيع الأول من عام ١٣٤٨ﻫ (٢١ أغسطس ١٩٢٩م) برسالة إلى مندوب الطليان في دور الحسن يطلُب فيها استئناف المفاوضة من أجل إبرام الاتفاق الصحيح الذي قبِله الطليان في سيدي رحومة. ثم احتاط السيد عمر للأمر، فطلب أن تُجرى المفاوضات بين نائب الوالي أو وكيله وبين «السيد عمر المختار» رأسًا دون وساطة أحد، وخصوصًا وساطة الشارف الغرياني؛ لأن وساطة هذا الأخير على حدِّ قول المختار «لا تأتي بخير»، وزيادةً على ذلك فقد طلب المختار أن يُوفَد مندوبان، أحدهما عن دور المجاهدين والآخر عن الحكومة الإيطالية، إلى القاهرة لمقابلة السيد إدريس والاستماع إلى مقترحاته، وأخْذ ما يبغيان من عهودٍ ومواثيق مُترتبة على هذه المقترحات وقبولها من جانب الأمير. وكان آخر ما طلبه السيد عمر أن يتَّفق الطرفان على هُدنة مؤقتة تستمر إلى وقت الاجتماع التالي، على أن يلزم كلُّ فريقٍ مواقعه التي يحتلُّها فعلًا ما دامت هذه الهدنة قائمة.
غير أن الطليان استطاعوا تنفيذ مآربهم، فكسبوا الوقت اللازم لإنجاز استعداداتهم العسكرية، واستمالوا السيد حسن الرضا إلى قبول الاتفاق معهم، وصاروا لا يأبهون الآن بالإجابة على رسالة السيد عمر. وكان نجاح عملياتهم العسكرية في طرابلس ومنطقة سرت من الأسباب التي جعلت الطليان يمضون في خُطتهم ويكشفون القناع عن نواياهم الحقيقية رويدًا رويدًا. فقد تقدم كيف أن المجاهدين بقيادة عبد القادر الأطيوش قد اضطرُّوا إلى الانسحاب صوبَ وادي الفارغ بعد اشتباكهم مع الطليان بالقُرب من بير جدارية في ٦ أبريل ١٩٢٩م. وقد شجَّع هذا الارتداد الطليان فحشدوا جيشَين كبيرَين في الشهر التالي، خرج أحدهما بقيادة عارف أمسيك الغرياني من ناحية سرت، بينما تولى خليفة الزاوي قيادة الجيش الآخر وخرج به من ناحية الغريان. وكان غرَض الجيشَين الاشتباك مع المجاهدين في مناوشاتٍ تُمهد لاحتلال فزان في النهاية، فدارت معارك عدة في المنطقة الصحراوية المُمتدة من ورفلة إلى فزان ومن سرت إلى غدامس، وأبلى أحمد سيف النصر بلاءً حسنًا في هذه المعارك، ولكن الطليان استطاعوا في الوقت نفسه أن يحتلوا مراكز المجاهدين في القبلة والحمراء «شويرف»، واحتلت جنودهم هذه المناطق. وفي ربيع عام ١٩٢٩م كانوا قد أتموا نزع السلاح من أهلها، وسلَّمت قبيلة الزنتان، وظل أحمد سيف النصر يُناوش الطليان في قتالٍ كان من الواضح أن المجاهدين لم ينالوا منه مأربًا، بسبب نقص الذخائر وضعف أسلحتهم بالقياس إلى ذخائر العدو العُظمى وأسلحته الحديثة الفتَّاكة؛ فلَم يكن من المتوقَّع إذن، والظروف كلها في صالح الطليان، أن يقبل الوالي بادوليو الارتباط «بكلمته». وعلى ذلك فقد ظل بادوليو لا يجيب على رسائل المختار الذي أخذ يُذكِّر الطليان بعهودهم، بل إن هؤلاء انتهزوا فرصة «وقف» المفاوضات فانكبُّوا يبذلون ما وسِعهم من جهدٍ وحيلة حتى يُغروا نفرًا من المجاهدين بالتسليم للحكومة. ويتضح ذلك كله من مراجعة تلك الرسائل التي صار يتبادلها السيد عمر المختار مع سيشلياني نائب الوالي طوال شهري سبتمبر وأكتوبر من عام ١٩٢٩م.
فقد كتب المختار إلى سيشلياني في ٣٠ ربيع الثاني ١٣٤٨ﻫ (٢٥ سبتمبر ١٩٢٩م) يُذكِّره بما سبق أن أبداه هذا الأخير من رغبة صادقة في الاتفاق منذ أن بدأت المفاوضات بصورةٍ جدية في اجتماع بير قندولة في ٢٨ يونيو، فقال المختار الآن مخاطبًا سيشلياني: «لقد ذكرتم في أثناء هذه المباحثات أن غرَضكم الوحيد منها لم يكن سوى العمل على تهدئة الوطن، ثم وعدتم بوقف الأعمال العدائية، وقد صدَّقنا نحن ذلك، ولكنه سرعان ما تبيَّن أن عمال الحكومة ورؤساء المفاوضات — وكان المختار يقصد الشارف الغرياني وزملاءه الضالِعين مع إيطاليا — يريدون الآن أن يُوجِدوا سوء التفاهم بيننا وبين السيد حسن بمعاونة أحد مُستشاريكم الذي يقوم بتوزيع الأغذية والأموال بين المجاهدين.» وتساءل المختار إذا كان هذا العمل بناءً على أمرٍ أصدره سيشلياني ويعلم به نائب الوالي، ويُحمِّل الحكومة مسئولية ما قد يطرأ من تغيير على العلاقات القائمة بين المختار والحكومة بسبب هذه الأعمال، ثم يطلب من سيشلياني الاجتماع به لاستئناف المباحثات، فأجابه سيشلياني بقوله: «إن على «السيد عمر» إذا أراد الاجتماع به أن يتوقَّع شيئًا آخَر غير ما جرى الحديث بشأنه في يوم ١٣ يونيو.»
ومع أنه كان واضحًا من جواب نائب الوالي أن الحكومة تعتزم نقضَ ما تعهدت بقبوله سابقًا، فقد بعث المُختار في ٥ جمادى الأولى ١٣٤٨ﻫ (٩ أكتوبر ١٩٢٩م) برسالتَين، إحداهما إلى سيشلياني والأخرى إلى الوالي بادوليو، يُكرر الشكوى من المساعي التي يبذلها عمال الحكومة وأعوانها من أجل «تفكيك» الأدوار، ويذكر أنه إذا كان الطليان يبغون تهدئة البلاد حقيقةً فإن الواجب يقتضيهم أن يعقدوا الاتفاقات اللازمة لبلوغ هذه الغاية مع السيد محمد إدريس زعيم السنوسية الأوحد، والذي بيدِه مُطلق التصرف فيما ينبغي عقده من اتفاقاتٍ في صالح الوطن، وختم المختار رسالته بإنذار الوالي أنه إذا لم يُقلع موظفو الحكومة عن بذر بذور الشقاق والتفرقة في الأدوار، فإنه لا يكون مسئولًا عما يحدث بعد ذلك نتيجة لهذا العمل، وأمهل المختار والي برقة وطرابلس حتى يوم ٢٤ أكتوبر ١٩٢٩م كي يتدبر الأمر بحكمته. ومع أن هذا الخطاب كان يقتضي ردًّا حاسمًا ولا شكَّ من جانب بادوليو، فقد ارتأى الماريشال بدلًا من ذلك أن يبعث إلى المختار بأحد كُتُب المختار السابقة التي طلب فيها السيد عمر إرجاع السيد محمد الرضا إلى برقة كخطوةٍ لا غِنى عنها لتهدئة الوطن، وكان عدم إجابة بادوليو على رسالة المختار مُنذرًا بقطع العلاقات واستئناف الجهاد في الجبل الأخضر.
فقد انتظر المختار دون جدوى أن يأتيه ردٌّ من الحكومة في الأيام التالية، فجاءته بدلًا من ذلك رسالة الشارف الغرياني يُنبئه فيها صاحبها مهددًا بأن الحكومة على تمام الاستعداد «لمقابلة الحوادث في كل وقت»، وعندئذٍ تأكَّد لدى المختار أن الطليان مُصمِّمون على القتال، وبادر بإصدار ندائه المشهور «إلى أبناء وطنه وسكان برقة وطرابلس، في ١٦ جمادى الأولى ١٣٤٨ﻫ (٢٠ أكتوبر ١٩٢٩م)، وفي هذا النداء أخذ المختار يسرد قصة المفاوضات الصحيحة من جهة، ثم يُبين للمجاهدين مقدار تمسُّك الطليان بعهودهم، وكيف أنهم نقضوا الهدنة التي طلبوها بأنفسهم، فصاروا يتحمَّلون وحدَهم بهذا العمل مسئولية استئناف الحرب في ليبيا. وقد أراد المختار من نشر هذا النداء أن يصحح من جهةٍ أخرى تلك الوقائع التي صار يُذيعها الطليان على غير حقيقتها ممسوخة مشوَّهة عن المفاوضات والهدنة، وأن يطلب إلى أبناء الوطن أن يمضوا في الكفاح عن كيانهم باذلين دماءهم الزكية فداء الوطن وفي سبيل الوصول إلى غايتهم المنشودة.»
وقد تضمَّن هذا النداء تلك الشروط التي قدمها السيد عمر إلى الماريشال بادوليو في اجتماع سيدي رحومة، كما تضمَّن شيئًا من الحوادث التي وقعت في أثناء الهدنة — ومُدتها شهران وقابلة للتجديد — وكان أهم ما حدث قبل انتهاء هذَين الشهرَين أن السيد عمر أخبر «سعادة الوالي بواسطة وكيله الكولونيل سيشلياني أن كل الزعماء الوطنيين اتفقوا على انتخاب الأمير السيد محمد إدريس السنوسي، وهو ينتخِب معه الرجال الأكفاء من أبناء برقة وطرابلس، لتولِّي المفاوضة مع الحكومة الإيطالية على مطالب برقة وطرابلس.» ثم طلب السيد عمر «من الحكومة أن تُخابر سيادة الأمير السيد محمد إدريس السنوسي حالًا لاتخاذ الطرق المؤدية لإنهاء الحالة الحاضرة بأحسن منها، فوعد سعادته (السيد عمر) خيرًا.» ولكن الطليان لم يفعلوا شيئًا لتنفيذ وعودهم، بل كان غرضهم «كسب الوقت فقط»، فطلبوا امتداد الهدنة مرة بعدَ أخرى حتى اضطر السيد عمر إلى إبلاغ «الحكومة بواسطة وكيل الوالي أن الهدنة آخرها يوم ٢٠ جمادى الأولى سنة ١٣٤٨ﻫ (٢٤ أكتوبر ١٩٢٩م)، وأنها غير قابلة للتجديد.» ولمَّا كانت هذه «الهدنة على وشك الانتهاء، ولم يتلقَّ (السيد عمر) ردًّا من الحكومة الإيطالية عن عزمها بمخابرة أميرنا السيد محمد إدريس السنوسي، رأى «المختار» أن يخوض غمار الحرب، وأن لا يركن إلى أي محادثةٍ أو واسطة، ولو من العائلة السنوسية، إلا مَن اتفقت عليه الأمة وأودعته ثقتها.» أي سمو الأمير السيد محمد إدريس نفسه. وفي الواقع كان مما أكد لدى السيد عمر سوء نوايا الطليان أنهم — كما قال في ندائه — تجنَّبوا «مخابرة الزعيم (سمو الأمير) مع علمها تمامًا بأن الحل والعقد بيدِه، فلو كانت «حكومتهم» حقيقةً تركن إلى الصلح لما تردَّدت لحظةً واحدة في مخابرته.»
ولذلك خاطب السيد عمر المجاهدين وأبناء الوطن قائلًا: «فليعلم إذن كل مجاهدٍ أن غرض الحكومة الإيطالية إنما بثُّ الفتن والدسائس بيننا لتمزيق شملنا وتفكيك أواصر اتحادنا، ليتمَّ لهم الغلبة علينا واغتصاب كل حقٍّ مشروع لنا، كما حدث كثيرٌ من هذا خلال الهدنة، ولكن بحمد الله لم توفَّق إلى شيء من ذلك، وليشهد العالم أجمع أن نوايانا نحو الحكومة الإيطالية شريفة، وما مقاصدنا إلا المطالبة بالحُرية، وأن مقاصد إيطاليا وأغراضها ترمي إلى القضاء على كل حركةٍ قومية تدعو إلى نهوض الشعب الطرابلسي وتقدُّمه …» فهيهات أن يصل الطليان إلى غرضهم «ما دامت لنا قلوب تعرف أن في سبيل الحُرية يجب بذل كل مُرتخصٍ وغال.» ثم ختم المختار هذا النداء بقوله: «لهذا نحن غير مسئولين عن بقاء هذه الحالة الحاضرة على ما هي عليه حتى يثوب أولئك الأفراد، النزَّاعون إلى القضاء علينا، إلى رشدهم، ويسلكوا السبيل القويم، ويستعملوا معنا الصراحة بعد المُداهنة والخداع.» وقد نشرت بعض الصحف المصرية هذا النداء في ٢ يناير ١٩٣٩م.
وكان المختار محقًّا في توقُّعه الغدر من جانب الطليان؛ لأن هؤلاء ما لبثوا حتى كشفوا القناع عن نيَّاتهم عندما تبيَّن لهم إخفاق تلك المفاوضات التي كان يحدوهم على السير فيها الأمل في أول الأمر في إمكان الوصول إلى تسوية سلمية، قد تُحقِّق مآربهم، ثم صاروا يصطنعون المفاوضة بعد ذلك لكسْب الوقت فحسب، حتى تتم استعداداتهم العسكرية. وكان السيد حسن الرضا أول من ذاق مرارة غدرِهم، فقد غادر الدور في غوط الجبل جماعة من عائلة عريف، وانتهز الطليان هذه الفرصة فطلبوا من الحسن أن يتقدَّم بالدور إلى ناحية مراوة، وأجاب الحسَن رغبتهم، وعندئذٍ سيَّرت الحكومة قوةً كبيرة على الدور لجمع الأسلحة من أتباعه بدعوى أن رجاله قد «غزوا» بعض الأهلين في مراوة. وأبدى الحسن ورجاله معارضةً شديدة، ولكن معارضتهم هذه سرعان ما أكَّدت للطليان — على حدِّ قول هؤلاء — أن الدور كان مركزًا لدعايةٍ سنوسية خطيرة، وأن حلَّ هذا الدور قد بات لذلك أمرًا لا مناص منه ولا مَحيد عنه. وكان مما جعل الطليان ينقلبون على الحسن أن امتنع في المدة الأخيرة عن إجابة رغبتهم عندما طلبوا منه الانتقال إلى بنغازي؛ وعلى ذلك فقد اشتبكت القوات الإيطالية مع الدور في نضال عنيف ذهب ضحيته كثير من المجاهدين، ووقَع الباقون في أسْر هذه القوات. وفي ١٠ يناير ١٩٣٠م قبض الطليان على الحسَن نفسه وساقوه أسيرًا إلى بنغازي، ثم ما لبثوا حتى نفَوه إلى جزيرة أوستيكا، ثم إلى فلورنسة بعد ذلك. وقد بقي الحسن منفيًّا بهذه المدينة الأخيرة حتى وفاته في عام ١٩٣٦م، وبعد حادث الحسن بأسبوعٍ واحد ألقت الطائرات الإيطالية قذائفها في يوم ١٦ يناير على المجاهدين والسيد عمر، وعلى هذا النحو بدأ النضال من جديدٍ بين المجاهدين وبين الحكومة الإيطالية.
وكان المجاهدون قبل ذلك قد اشتبكوا خلال شهر نوفمبر ١٩٢٩م مع الطليان في مناوشات قليلة. فحدث في يوم ٨ نوفمبر أن هاجمت جماعة قليلة منهم قصر بنقدم، وقبضوا على «الدرك» الإيطالي، وقابل الطليان هذا الهجوم بمثلِه، فاشتبكوا مع المجاهدين في معركة بالقُرب من قصر مرق في يوم ١٦ نوفمبر. وفي ٢٠ ديسمبر هاجمت أورطتان من عساكر أريتريا دور المجاهدين بالقُرب من جردس الجراري، ثم نشطت عمليات الطليان العسكرية بعد أن غدر هؤلاء بالحسن، فهاجموا دور المجاهدين في وادي مهجة (في ٢٨ يناير ١٩٣٠م)، وألقت الطائرات قذائفها على العرب. وفي خلال شهري فبراير ومارس ١٩٢٠م اشتبك المجاهدون مع الطليان في معارك عدة في منطقة الجبل الأخضر، حتى أُقفلت جميع الطرُق. فبلغ عدد مناوشات المجاهدين مع الطليان وهجومهم عليهم في المدة بين ١٧ و٣١ مارس ثماني عشرة. غير أن الطليان في أثناء هذه العمليات الدائرة في الجبل كانوا قد أصابوا نجاحًا ملحوظًا في ميدان القتال الآخر في طرابلس، ونعني به منطقة الفزان الشاسعة، فقد استطاع الطليان بقيادة رودلف غرزياني، بعد عدة معارك في هذه المنطقة استمرَّت حوالي ثمانية شهور، أن يتغلَّبوا على قوات أحمد سيف النصر على نحوِ ما ذكرنا سابقًا، وأن يزحفوا بنجاح صوب مرزق عاصمة فزان. وفي العمليات التالية من نوفمبر ١٩٢٩م إلى فبراير ١٩٣٠م أحرز غرزياني عدة انتصارات مكَّنته من احتلال واو الكبير أو واو الشعوف في ١٣ يناير، وكان عبد الجليل سيف النصر قد نقل إليها والدتَه وابن عمِّه «السنوسي»، فقتل الطليان ابن عمِّه وأسروا والدته. وفي يوم ٢٤ يناير ١٩٣٠م احتلَّ غرزياني مرزق، ورفع العلَم الإيطالي عليها، وكان ذلك بحضور الماريشال بادوليو الذي وصل إلى مرزق بالطائرة في اليوم نفسه. وفي ٢٥ فبراير احتل غرزياني غات، ثم ارتحل من الفزان إلى طرابلس، فبلغها في يوم ٢٦ فبراير. وعلى هذا النحو انتهت بسقوط مرزق وغات مقاومة المجاهدين في الفزان، واستطاع الطليان أن يتفرغوا لإخضاع مراكز المجاهدين الباقية في الكفرة وغيرها والتضييق على السيد عمر المختار في الجبل الأخضر.
وحدث في أثناء وجود غرزياني في أم الأرانب في الفزان أن وصلَه في يوم ١١ يناير ١٩٣٠م الأمر بتعيينه نائبًا للوالي في برقة. ولكنه فضَّل أن يُتم عملياته العسكرية في الفزان قبل أن يتقلد مهام منصبه الجديد، وعلى ذلك فإنه لم يبارح الفزان كما شاهدنا إلا بعد أن احتلَّ غات في ٢٥ فبراير، وشهد المجاهدين ينسحبون إلى جهات الكفرة وصوب حدود بلاد الجزائر غربًا. ومكث غرزياني في طرابلس أيامًا قليلةً، ثم غادرها إلى رومة في ٨ مارس، وعاد منها إلى برقة في أواخر الشهر نفسه، فوصل بنغازي في يوم ٢٧ مارس، وبدأ من فوره يُنفذ التعليمات التي تلقَّاها من رومة، وكان قد وافق عليها كل من موسوليني رئيس الحكومة وديبونو وزير المستعمرات وبادوليو حاكم ليبيا العام. وعلى ضوء هذه التعليمات يُمكن تفسير تلك الخطة التي سار عليها غرزياني في إخضاع البلاد وإخماد المقاومة بالقسوة والوحشية التي أضفت عليه، عن جدارة واستحقاق، لقبَ «جزَّار ليبيا».
فقد نصَّت التعليمات التي جاء بها غرزياني على ضرورة الفصل بين جميع الأهلين، الذين خضعوا للحكومة وأظهروا ولاءهم لها، عن «الثوار» والمجاهدين العرب، واتخاذ كل الوسائل التي تضمن عدم تسرُّب نفوذ السنوسية بين الأهالي الموالين للطليان، وذلك على وجه الخصوص بمنع مندوبي السنوسية وعمَّالها من أخذ العشور وجمع أموال الزكاة من الأهالي، وقيام الحكومة بعملية «تطهير» واسعة بين الوطنيين والطليان المُقيمين في المدن وخصوصًا في بنغازي. وفضلًا عن ذلك فقد نصَّت التعليمات على ضرورة وضع الأسواق التي يؤمُّها العرب تحت إشراف الحكومة ورقابتها الشديدة، ثم العمل على قفل الحدود المصرية البرقاوية قفلًا تامًّا، وذلك لمنع تموين المجاهدين بالمؤن والأسلحة والذخائر في منطقة الجبل الأخضر على التخصيص وفي الواحات التي بقِيَت في حوزتهم. وإلى جانب ذلك كلِّه نصَّت التعليمات على ضرورة القيام بعملٍ حاسم ضد المجاهدين في طرابلس وبرقة، على أن يُعهَد «بالنشاط السياسي» في طرابلس إلى عناصر من الطرابلسيين الموالين للحكومة، مُهمتهم السعي من أجل بذر بذور الشقاق بين المجاهدين والقضاء على أية أعمال عدائية قد يقومون بها. ولم تكن الحكومة تتوقَّع أية مقاومةٍ جدية في هذه الناحية بعد تلك العمليات العسكرية التي انتهت بإخضاع الفزَّان خصوصًا. وأما في برقة فقد كلفت الحكومة نائب الوالي الجديد — غرزياني — بأن يُعِد أعظم قواتٍ في استطاعته استخدامها بصورة سريعة وصارمة في القضاء على الأدوار واستثارة المجاهدين إلى الاشتباك مع الطليان في معارك فاصلة، وأخيرًا احتلال الكفرة.
ومنذ عودة غرزياني إلى بنغازي بدأ نائب الوالي الجديد يضع هذا البرنامج موضع التنفيذ من غير إبطاء، معلنًا أنه سوف «يتَّبع بكل إخلاص تعاليم الدولة الفاشيستية، ويسير على مبادئها؛ لأنه وإن كان قائدًا من قواد الجيش وأحد الرجال العسكريين، فإنه يَدين بمبادئ فاشيستية مَحضة ويُعلن هذه الحقيقة بكل وضوح وصراحة كاملة.» وكان إغلاق الحدود المصرية ومنع الإمدادات عن المجاهدين والعمل على حلِّ أدوارهم أول ما عُني به، ذلك بأن المساعدات الأدبية والمادية ظلَّت تأتي عبر الحدود المصرية إلى المجاهدين في الجبل الأخضر بفضل تلك الجهود الشاقة التي كان يبذلها الأمير السيد إدريس في مصر، وأمكن أن تصِل هذه المساعدات والإمدادات إلى السيد عمر المختار وصحبه؛ لأن عددًا كبيرًا من أهل البلاد من طرابلس ومصراتة وورفلة والفزَّان ومن قبائل المجابرة والعواقير والبراعصة والعبيدات وغيرهم، كانوا قد اتخذوا إقامتهم في مصر من مدة سابقة في الفيوم والإسكندرية والقاهرة خصوصًا، وعاون السيد صفي الدين في وصول الإمدادات إلى المجاهدين، وشاهد عيون الطليان في السلوم في عامي ١٩٢٩م و١٩٣٠م — ومن هؤلاء جاسوسهم سلفيو سكوسياماري — المؤن، كالأرز والشاي والسكر والدقيق، تعبر الحدود في طريقها إلى المجاهدين في الجبل. وفضلًا عن ذلك فقد شاهد هؤلاء الجواسيس مواشي الأهلين الخاضعين للحكومة الإيطالية تأتي إلى الأسواق المصرية عند الحدود.
وكان المجاهدون، لحاجتهم إلى المال الذي يشترون به الأسلحة والذخائر، يُحصِّلون «ضرائب» على هذه السلع والمتاجر «المُهرَّبة»، ثم ظل الأهلون الموالون للحكومة يدفعون هذه الضرائب عن طيبة خاطر. أضف إلى هذا أن الفِرَق أو القوات المحلية التي ألَّفتها الحكومة من بين الأهلين الخاضعين لها كان أفرادها يتحيَّنون الفُرَص دائمًا «للتبرُّع» بقِسم من مرتباتهم التي يأخذونها من الحكومة إلى المجاهدين، بل ويُعطونهم قدرًا من الذخائر والأسلحة.
وعلى ذلك فقد بادر غرزياني باتخاذ عدة تدابير سريعة من شأنها مكافحة نفوذ السنوسية، ومنع كل اتصالٍ بين السنوسيين وأنصارهم وبين الأهالي الخاضعين للحكومة، ونزع الأسلحة من الأهالي، وتشديد الرقابة على الحدود لمنع «التهريب»، ثم تخفيض القوات المحلية شيئًا فشيئًا تمهيدًا لإلغاء هذه القوات كليةً في النهاية، وذلك لمنع تسرُّب المال والذخيرة والسلاح إلى المجاهِدين، ثم تجهيز الحملات للقضاء على الأدوار واحتلال الأراضي التي ما زالت حتى ذلك الوقت في أيديهم، وأخيرًا اتخاذ الإجراءات القضائية التي تخوِّل السلطات المحلية إصدار أحكام الإعدام على كل من تثبت عليه تهمة الاتصال بالمجاهدين والانحياز إلى جانبهم وتنفيذ هذه الأحكام فورًا، وبخاصة على أولئك الجُند الوطنيين الذين يغادرون الجيش الحكومي للانضمام إلى المجاهدين. ومما يجدر ذكره أن أحكام الإعدام على أولئك «الفارِّين» من الجيش كان لا يمكن تنفيذها قبل ذلك بفضل صدور مرسومٍ ملكي منذ ٢٧ يونيو ١٩٢٩م يعطي الوالي الحق في وقف القضايا الجنائية ووقف تنفيذ الأحكام التي تصدر ضد ليبيِّين ثبتت إدانتهم في أمورٍ متعلقة بمساعدة «الثوار» أو بسبب الانخراط في صفوفهم.
وهكذا لم يمضِ على وصول غرزياني إلى بنغازي سوى أيامٍ قلائل حتى كان نائب الوالي الجديد في برقة قد أنشأ ما صار يُعرَف في تاريخ الاستعمار الإيطالي الأسود باسم المحكمة الطائرة (في أبريل ١٩٣٠م)، وذلك بسبب انتقال هذه المحكمة على متن الطائرات من مكانٍ إلى آخر، لإصدار الأحكام السريعة، ثم تنفيذ هذه الأحكام على أيدي السلطات المحلية في التوِّ والساعة «حتى يشعر الأهلون — على حدِّ قول غرزياني — بأن العدالة تأخذ مجراها بكل سرعة.» وسوف يأتي الكلام عن أعمال هذه المحكمة الطائرة وما ارتكبته من ضروب البطش والقسوة عند بسط فظائع الاستعمار الإيطالي في الفصل التالي.
وفي نفس الوقت بدأ غرزياني يُنفذ سياسة عزل الأهالي الخاضعين للحكومة عن المجاهدين، فحشدَهم في تلك «المُعتقلات» التي امتدَّت من العقيلة وسلوق إلى السلوم، ثم أخذ يعمل على حلِّ زوايا السنوسيين ومصادرة أملاك الزوايا وأوقافها، إلى غير ذلك من ضروب «النشاط» الذي قام به «جزار ليبيا» تنفيذًا للشطر الأول من التعليمات المُعطاة له حتى يُضيِّق الحصار على المجاهدين في الجبل الأخضر والمناطق الأخرى.
وقد استعد غرزياني كذلك لتنفيذ الشطر الثاني من تعليماته الخاص «بتهدئة ليبيا»، فاشتبك مع المجاهدين في معارك كثيرة، وكان النصر حليفه في النهاية لنفاد المؤن والذخائر لدى هؤلاء، وبسبب اضطرارهم في آخر الأمر إلى قصر عملياتهم على منطقة الجبل الأخضر.
وكانت أدوار المجاهدين عند حضور غرزياني حاكمًا على برقة موزعةً في أمكنة قريبة من نواجع الأهالي حتى يسهل على المختار وصحبه أخْذ العشور والحصول على الذخائر والأسلحة والمؤن. وفي ١١ أبريل ١٩٣٠م بدأ المجاهدون هجومهم الجديد بالانقضاض على قوة إيطالية بين بالقس والفايدية، ولكن مجيء النجدات السريعة للطليان واضطرار المجاهدين إلى الانسحاب ما لبث أن جعل المختار يُغير شيئًا من أساليبه ويركن إلى مفاجأة القوات التي كان يُرسلها الطليان للكشف والاستطلاع في أماكن متفرِّقة، أو تلك التي كانت تقوم بحراسة العمَّال المُكلَّفين إنشاءَ الطرق تمهيدًا لقيام الطليان بالعمليات العسكرية الكبيرة في الجبل. وأبلى المجاهدون في المناوشات التالية بلاءً حسنًا، وأشاعوا تهكمًا بالطليان وزرايةً بهم تارةً أن المختار قد أُصيب بجروح في مناوشة من هذه المناوشات، وتارةً أخرى أنه أُصيب بمرَض طارئ أفضى إلى استشهاده. وذلك كله لإقامة البرهان على أن المقاومة ما زالت سائرة في طريقها الجدِّي على الرغم من عدم إشراف قائد المجاهدين الأعلى على عمليات الجهاد بنفسه.
وأحدثت هذه الإشاعات أثرها المطلوب بين الطليان، وشعر هؤلاء بالإهانة البالغة، ولكن غرزياني ما لبث أن عزَّز قواته المقاتلة ثم أحكم تدابيره العسكرية في منطقة الفايدية، فلم يأت يوم ١٤ يونيو حتى كان الطليان قد استولوا على المنطقة بأجمعها واحتلوا جردس مراج وبالقس، ونزعوا من الأهالي الخاضعين لهم ٣١٧٥ بندقية و٦٠٠٠٠ خرطوشة. واضطر المختار نتيجةً لذلك إلى نقل دائرة عملياته إلى الناحية الشرقية «في الدفنة» نظرًا لقربها من الحدود المصرية، وذلك حتى يتمكن من إرسال المواشي التي يأتيه بها الأهالي إلى الأسواق المصرية في نظير أخذ حاجتِه من هذه الأسواق. وأحكم المجاهدون صِلاتهم التجارية على طول الحدود ابتداءً من البردية إلى المسيعيد «مساعد»، ومن هذه إلى الجغبوب أي في مسافة يبلغ طولها حوالي خمسين ومائة كيلومتر؛ مما جعل غرزياني يُقرر إقامة الأسلاك الشائكة على طول الحدود الشرقية. وهاجم المجاهدون مراكز الطليان في منطقة عين الغزالة واستولوا على عددٍ عظيم من الجمال، ثم انضمَّ إليهم كثيرون من الفواخر، فاضطر غرزياني إلى جمع النواجع المُنتشرة في هذه المنطقة في أماكن أحاطها بالأسلاك الشائكة، ثم جلب من طرابلس شراذم غير نظامية بقيادة عارف أمسيك الغرياني، سرعان ما اشتبكت مع المجاهدين في بوكريمة في ٨ يوليو في معارك لم تكن فاصلة. وفي شهر أغسطس التحم الطليان مع المجاهدين في مناوشاتٍ عدة، وفي ١٩ سبتمبر نقل غرزياني بالسيارات قواتٍ أخرى غير نظامية من قبيلة الحاسة (من شحات) إلى ناحية القبة، ولكن دون الوصول إلى نتيجة، فأعاد العدو الكرة على الدور وحاصر المجاهدين في وادي سافية، واشتبك معهم في معركة كرسة المشهورة في يوم ٢٦ ربيع الآخر ١٣٤٩ﻫ (٢٠ سبتمبر ١٩٣٠م)، وهي المعركة التي استشهد فيها خير قوَّاد المختار السيد الفضيل بوعمر، وكان الفضيل مجاهدًا قديمًا اشترك في الحرب الليبية-الإيطالية (١٩١١م) وعرف بالشجاعة والإخلاص.
وقد ذكر المختار تفاصيل هذه المعركة في كتاب له، جاء فيه أن العدو هاجم «دور العبيدات والحاسة عند نقطة القبنة، وكان رئيسه السيد الفضيل بوعمر.» وقد استشهد في هذه المعركة إلى جانب الفضيل أربعون شهيدًا، «منهم السيد أحمد الغماري والسيد محمد الصادق الغزالي والشريف القاسم وأخوه … ويقول المختار: وقد وجدنا في ميدان القتال ما ينيف عن ٥٠٠ قتيل من العدو، بينهم ماجور وثلاثة ضباط.» على أن الطليان لم يلبثوا أن شدَّدوا عملياتهم العسكرية في منطقة الجبل بعد هذه الواقعة، فاستمرَّت جموعهم بقيادة الكولونيل بياتي وماروني وروليه تقوم بمناوشة المجاهدين مدة أسبوعين، ولكن دون الوصول إلى نتيجة.
وفي أكتوبر ١٩٣٠م تمكن الطليان من الاشتباك مع المجاهدين في معركة كبيرة في وادي السانية، وكان في هذه المعركة أن عثر الطليان عقب انتهائها على «نظارات» السيد عمر المختار، كما عثروا على جواده المعروف مُجندلًا في ميدان المعركة، فثبت لديهم أن المختار ما زال على قيد الحياة، وبادر غرزياني بإصدار منشور ضمَّنه هذا الحادث، وحاول فيه أن يقضي على أسطورة «المختار الذي لا يقهر أبدًا»، وقال غرزياني في هذا المنشور متوعدًا: «لقد أخذنا اليوم «نظارات» المختار، وغدًا نأتي برأسه!» وأما العمليات العسكرية فقد استمرت لغاية آخر شهر ديسمبر ١٩٣٠م.
ومع أن الطليان لم يصلوا في عام ١٩٣٠م إلى نتائج حاسمة في الجبل، فإنهم من جانبٍ آخر كانوا قد تمكنوا من أواسط العام نفسه أن يُمهدوا لاحتلال الكفرة. وكانت الأحوال في الكفرة قد بلغت حدًّا من السوء جعل من المتوقع سقوط هذه الواحة في أيدي الطليان دون مشقةٍ كبيرة. وكان يُقيم بالكفرة ويدير شئونها السيد محمد العابد، وكان قد استطاع الوالي السابق تيروتزي أن ينشئ معه صِلاتٍ ودية منذ عام ١٩٢٨م كوسيلة من وسائل تهدئة البلاد وكشطرٍ من تلك السياسة «السلمية» التي حاول تيروتزي اتباعها في برقة ولم تُسفر عن نتيجة على نحو ما سبق ذكره، فقد انتهز تيروتزي مرض السيد العابد وأوفد إلى الكفرة بعثةً «طبية» برئاسة الكابتن برتزي، غادرت بنغازي في ٢٣ سبتمبر ١٩٢٨م، ولكنه سرعان ما قُبض على هذه البعثة في تازربو على أيدي قبيلة الزوية. وأخذ الزوية يُغيرون على الواحات التي يحتلُّها الطليان في جخرة ومرسى البريقة وجالو وأوجلة، وعلى الأهالي الخاضعين والموالين للطليان كالمغاربة الشماخ وغيرهم. وفي منتصف ديسمبر ١٩٢٨م غادر السيد محمد العابد زاوية التاج مهاجرًا إلى برقو في الجنوب ومعه أسرته الكبيرة والشيخ عمر بوحليقة، واستأنف الزوية هجومهم بعد ذلك على مراكز الطليان، فأغاروا على جخرة، ولكن الطليان ما لبثوا أن أوقعوا بهم الهزيمة في واقعة أبو أطلة، وتقهقرت فلول الزوية إلى الكفرة. وكان من أثر ذلك وضياع كل أملٍ في إمكان المقاومة ضد الطليان أن قرَّر السيد محمد الصديق وعبد السلام الكزة مغادرة الكفرة والهجرة إلى القطر المصري. وبعد رحيل السيد الصديق سلَّم الزويةُ السلطةَ الشيخ شمس الدين ابن علي الخطابي، ورأى شمس الدين أن يستلَّ سخيمة الطليان بإطلاق سراح البعثة الطبية.
وكان غرض الزوية استئناف التجارة بين جالو ومنطقة سرت حتى يستطيعوا تموين الكفرة، تلك الواحة التي ساءت أحوالها كثيرًا في العام التالي (١٩٢٩م) على وجه الخصوص بسبب المُصادمات التي وقعت بين صالح الأطيوش والطليان بين فبراير وأبريل ١٩٢٩م. وقد تحرَّجت الأمور في الكفرة لدرجة أن اضطُر مشايخ الزوية حوالي منتصف أبريل إلى الذهاب إلى جالو يعرضون الانسحاب من الكفرة والإقامة في المنطقة الواقعة بين الزويتينة وأجدابية وجخرة، وهي مكان إقامتهم في العهد العثماني، واشترط الطليان في نظير الموافقة على ذلك أن يُسلم الزوية أسلحتَهم في جالو. وفي أواخر العام نفسه وأوائل عام ١٩٣٠م بلغ عددُ من انتقل من جبال هاروجي من الكفرة إلى هذه المنطقة حوالي ١٢٨٠ نسمة، أحضروا معهم ٥٤٠٠٠ جملٍ تقريبًا، كما سلَّموا ٢٥٨ بندقية. ولكن الموقف ما لبث أن تغير بعد ذلك في الكفرة.
ذلك بأن المجاهدين ومشائخهم في فزان اضطروا بعد سقوط واو الكبير في يد الطليان في ١٣ يناير ١٩٣٠م أن ينسحبوا إلى تازربو شمال الكفرة، وكانوا بزعامة عبد الجليل سيف النصر وأخيه أحمد سيف النصر وصالح الأطيوش، فأسَّسوا دورًا جديدًا في تازربو واتخذوا من هذه الواحة قاعدة لأعمالهم، وبدءوا يناوشون الطليان بدرجةٍ مزعجة من أواسط يونيو تقريبًا، حتى اضطر هؤلاء إلى ضرب تازربو بقنابلهم من الجوِّ في آخر يوليو، فكان من أثر ذلك أن انتقل صالح الأطيوش وعبد الجليل سيف النصر إلى الكفرة، فارتحل صالح الأطيوش من تازربو إلى بوزيمة ثم إلى ربيانة، وقصد أخيرًا إلى الهواري شمال الجوف، وأما عبد الجليل سيف النصر فقد استقر به المقام في التاج، وشرع يُنظم قوات المجاهدين تحت قيادته.
ولمَّا كانت عمليات الطليان في الفزان قد انتهت منذ أن احتلَّ غرزياني مرزق وغات في شهري يناير وفبراير ١٩٣٠م، فقد أخذ الماريشال بادوليو يُعد العدة للاشتباك مع المجاهدين في معركةٍ فاصلة، وقرَّر احتلال الكفرة. وفي شهر أغسطس قامت «الدوريات» الإيطالية بحركة استطلاع كبيرة لفحص آبار المياه ورسم طريق الحملة المُزمَعة. وفي ٢٦ أغسطس ألقت الطائرات حوالي نصف طنٍّ من القنابل على الجوف والتاج. بيد أن ضرب الجوف والتاج بالقنابل لم يفتَّ في عضد المجاهدين، وقسم هؤلاء قواتهم قسمَين، ذهب أحدهما، وكان يتألف من المغاربة وأولاد سليمان بقيادة صالح الأطيوش، إلى جهة الغرب قاصدًا طرابلس للعمل في منطقة سرت، فالتحم مع العدو في معارك أُسِر في أثنائها ابن صالح الأطيوش نفسه، فأعدمه الطليان في سرت. وأما القسم الآخر من المجاهدين فقد بقي لمناجزة العدو في الكفرة، وأخذ الطليان يستعدون لتسيير حملتهم الكبيرة على آخر معاقل المجاهدين في الجنوب.
وبحث بادوليو وغرزياني مشروع هذه الحملة في نوفمبر ١٩٣٠م للاتفاق على خطِّ سيرها من أجدابية إلى جالو مسافة ٢٤٠ كيلومترًا، ومن جالو إلى بئر زيغن مسافة ٤٠٠ كيلومتر، ومن بئر زيغن إلى الجوف مسافة ١٨٠ كيلومترًا. وتقرَّر اتخاذ جالو قاعدة للعمليات العسكرية واستخدام الجمال في الطرُق التي لا تصلح لسير السيارات عليها لنقل قوات الحملة، ثم قرَّ الرأي على أن تسير قوة الحملة الرئيسية من أجدابية إلى جالو ثم إلى بئر زيغن وأخيرًا إلى الكفرة، بينما تزحف قوتها الثانوية — وكان بادوليو قد جلبَها من طرابلس خصوصًا لهذه الغاية — من واو الكبير إلى تازربو ومنها إلى الكفرة. وعهد بادوليو بقيادة الحملة إلى الجنرال ريكاردو رونشتي، ويليه في القيادة الدوق لوبولييه (وهو دوق داوستا نائب الملك في الحبشة عند فتحها)، ثم تقرَّر أن يزحف قسم من السيارات المصفحة من زلة عن طريق تميت بوحشيشة إلى تازربو، وتتخذ قوة من سلاح الجو مركزها في تميت بوحشيشة. وأرسل الطليان بطريق الجو الشارف الغرياني إلى مرادة، وعهدوا إليه بإرسال العيون إلى تازربو للكشف والاستطلاع في تازربو قبل بدء الهجوم. ووصل إلى علم الطليان أن قوات المجاهدين كانت لا تزيد على ستمائة مسلَّح موزَّعين على فصائل عدة، وأن أكبر مجموعاتهم كانت تتألف من الزوية والمغاربة بقيادة عبد الحميد بومطاري. وأخبر الجواسيس أن تازربو كانت خالية من أهلها.
وعلى ذلك وبعد هذه الاستعدادات العظيمة بدأ زحف الطليان من جالو إلى بير زيغن في آخر ديسمبر ١٩٣٠م، وفي بير زيغن علموا أن شمس الدين بن علي الخطابي قد انتقل بأُسرته إلى مرسى مطروح في طريقِه إلى القُطر المصري، وترك في الكفرة الحسن أخاه الأصغر. ثم زحف الطليان على واحة تازربو فاحتلوها في ١١ يناير ١٩٣١م، وفي اليوم التاسع عشر من الشهر نفسه قامت طائراتهم بقيادة الدوق دللي بولييه بحركة استطلاع من الزيغن لكشف مراكز المجاهدين دون نتيجة، ولكن الطليان ما لبثوا حتى عرفوا بتجمُّع قوات المجاهدين في واحة الهواري، فبادروا بالاشتباك معهم في معركة دامت ثلاث ساعات فقط في يوم ١٩ يناير نفسه استُخدمت فيها الطائرات.
وكان المجاهدون بقيادة عبد الجليل سيف النصر وحامد بن شغيلة وحمد بن الشريف وعبد الحميد بومطاري، وقد قاتلوا جميعًا، بشهادة غرزياني نفسه، ببسالة نادرة، فلم يكفُّوا عن القتال إلا عند شعورهم بأنهم سوف يفنَون عن آخرهم، فبلغ مَن استشهد مِن المجاهدين في واقعة الهواري حوالي المائة، ووقع في أسْر الطليان ثلاثة عشر فقط، وغنم الطليان مائة بندقية وبعض الذخائر واحتلوا الكفرة.
وفي يوم ٢٤ يناير ١٩٣١م وصل إلى الكفرة بطريق الجو الماريشال بادوليو، وبحضور الأمير لوبيلييه رفع الطليان علَمهم على زاوية التاج، ثم طفقت قواتهم تُطارد فلول المجاهدين.
وفي ٢٨ يناير رجع الطليان من هذه المطاردة بخمسين أسيرًا قتلوا منهم اثني عشر رجلًا، كان من بينهم أحد الإخوان السنوسيين الشيخ محمد بن عمر الفضيل وكاتبه تميدا بن علي الفضيل، وقد أعدمهما الطليان في الجوف، وكانت مغانم الطليان كثيرة.
وبسقوط الكفرة انتهت في الحقيقة كل مقاومة جدِّية للمجاهدين ضد الطليان في برقة. ولما كان سقوط الفزان في العام السابق قد قضى على المقاومة في طرابلس، فقد استطاع ليسونا وكيل وزارة المستعمرات أن يتجول في أنحاء البلاد في شهر يونيو ١٩٣١م ومعه عددٌ كبير من مُراسلي الصحف الطليان وغيرهم، فاجتازوا بالسيارات منطقة سرت بأمانٍ من بنغازي إلى طرابلس، وهي المنطقة التي ظلَّت مُغلقةً بسبب نشاط المجاهدين زمنًا طويلًا. وفي شهر يوليو ١٩٣١م زار ديبونو وزير المستعمرات واحة الكفرة.
وكذلك كان لسقوط الكفرة أعظم الأثر في موقف السيد عمر المختار في الجبل الأخضر، ذلك بأنه كان من نتائج ضياع هذا المعقل الأخير أن استطاع غرزياني إغلاق الحدود المصرية إغلاقًا تامًّا بمد الأسلاك الشائكة على طول هذه الحدود من «المساعد» إلى الجغبوب. فقد أخذ الطليان منذ شهر فبراير ١٩٣١م يمدُّون هذه الأسلاك ابتداءً من بردي سليمان خلف بير الرملة إلى المسيعيد «مساعد»، ثم أكملوها في الشهور التالية من المسيعيد إلى الجغبوب بين شهري أبريل وسبتمبر من عام ١٩٣١م، ثم مُدَّت هذه الأسلاك إلى ما بعد الجغبوب بمسافةٍ قصيرة، وقد بلغ طولها جميعًا ثلاثمائة كيلومتر، وأنشأ غرزياني مراكز مسلحة كبيرة عند كابوتزو بالقُرب من السلوم وخلف المسيعيد، وعند مادلينا في منتصف المسافة تقريبًا. هذا عدا المراكز المسلحة الصغيرة التي انتشرت على طول هذه الأسلاك الشائكة في سيدي عمر وشيفرزن وغيرها، فنجم عن ذلك أن انقطع تمامًا مجيء أية إمدادات إلى السيد عمر المختار في الجبل الأخضر.
ومع ذلك فقد ظل المختار في الجبل يقاوم الطليان على الرغم من هذه الصعوبات الجسيمة التي كانت تكتنِفه من كل جانبٍ، واستمرَّ الحال على ذلك حتى حدث في يوم ١١ سبتمبر ١٩٣١م أن وصل إلى الحكومة من دودياشي متصرف الجبل برقية تُنبئ بأن مصادماتٍ وقعت بين المجاهدين وقوة من خيالة الحكومة بالقُرب من اسلنطة، «وأن رجلًا من الأهلين وقع في أسرهم، وقد عرفه الجُند وقالوا إنه عمر المختار نفسه.» وكان لهذه البرقية أثر بالِغ في دوائر الحكومة، فغادر دودياشي في التو والساعة بطريق الجو إلى مكان هذا الحادث حتى يقف بنفسه على الحقيقة، لأن دودياشي سبق له أن قابل المختار وتحدَّث معه في أثناء المفاوضات الطويلة خلال عام ١٩٢٩م. فسهل عليه التعرُّف على السيد عمر، كما أعلن المختار عن شخصه، فأرسله دودياشي إلى اسلنطة ومن اسلنطة أُرسل المختار بحراسة قوية إلى مرسى سوسة «أبولنيا»، فبلغها في اليوم نفسه، ثم نقلته مركب حربية إلى بنغازي.
وقد فصل أحد الكتاب ما وقع للسيد عمر، فقال إن المختار «كان قد جرى على عادة الانتقال في كل سنةٍ من مركز إقامته إلى المراكز الأخرى التي يُقيم فيها إخوانه المجاهدون لتفقُّد أحوالهم، وكان إذا ذهب لهذا الغرَض يستعدُّ للطوارئ ويأخذ معه قوةً كافية تحرسه من العدو الذي يتربص به الدوائر في كل زمانٍ ومكان. ولمَّا أراد الله أن يختم له بالشهادة ذهب في هذه السنة كعادته في نفرٍ قليل يقدَّر بمائة فارس، ولكنه عاد فَردَّ من هذا العدد ستِّين فارسًا وذهب في أربعين فقط. ويوجَد في الجبل الأخضر وادٍ عظيم مُعترض بين المجاهدين اسمُه وادي الجريب (بالتصغير)، وهو صعب المسالك كثير الغابات، كان لا بدَّ من اجتيازه، فمر به السيد عمر المختار ومن معه، وباتوا فيه ليلتَين، وعلِمت بهذا إيطاليا بواسطة جواسيسها المُنتشرين في كلِّ مكان، فأمرت بتطويق الوادي على عجَلٍ من جميع الجهات بعد أن جمعت كل ما عندها من قوة قريبة وبعيدة، فما شعر السيد عمر المختار ومَن معه إلا وهم وسط العدو، ورأى أنه لا خلاص له من هذا المأزق إلا بالهجوم، فأمر مَن معه بالهجوم على مَن يقربهم من العدو في الجهة القبلية، ودامت المعركة بينهما يومَين كاملَين. وعلى الرغم من الاحتياطات الشديدة التي اتخذها العدو، وعلى الرغم من كثرة عدده وعُدَده، تمكن السيد عمر المختار ومَن بقي معه من خرق صفوف العدو إلى أن خرجوا من ذلك الوادي ووصلوا إلى غربي اسلنطة، ففاجأتهم قوة طليانية أخرى غير القوة التي حاصرتهم في الوادي، وكانت ذخيرتهم على وشك النفاد، فاضطرتهم إلى الاشتباك معها في معركة جديدة قُتِل فيها جميع من بقي معه، وقُتل حصانه أيضًا ووقع عليه، فتمكَّن من التخلُّص من تحته، وظلَّ يقاتل في تلك القوة وحدَه إلى أن جُرح في يده، ثم تكاثرت عليه الأعداء وغُلِب على أمره وأُخذ أسيرًا.» وطيَّر الأعداء الخبر بمجرد أن عرفوا شخصه إلى دودياشي.
وعند وصول المختار إلى بنغازي أُودع السجن، وقابلَه الشارف الغرياني مقابلة قصيرة للتأكُّد مرة أخرى من شخصه، ورفض المختار مصافحته واتَّهمه بالخيانة، وعزا المختار في حديثه مع دودياشي عند قدومِه إلى بنغازي سبب وقوعه في الأسر إلى نفاد الذخيرة وعجز المجاهدين الذين كانوا معه عن مواصلة القتال، وأكد للمُتصرف أن وقوعه في الأسر لا يُضعف شيئًا من حدة المقاومة، إذ إنه قد اتَّخذ من التدابير ما يكفل انتقال القيادة من بعدِه إلى أحد أربعة، هم: حمد بو موسى وعثمان الشامي وعبد الحميد العبار ويوسف بو رحيل المسماري، وقد تسلم يوسف بو رحيل القيادة فعلًا بعد ذلك.
واجتهد المختار حتى يُقنع دودياشي — وعلى أمل أن تقتنع السلطات الحكومية بذلك أيضًا — أن نشاط المجاهدين ما زال في ذروته، وأن الدور ما زال قويًّا، وأن غياب المختار لن يؤثر شيئًا في متابعة الجهاد ضد الطليان. وفضلًا عن ذلك فقد راح المختار يؤكد أن الهجوم على جرس بنقدن في نوفمبر ١٩٢٩م كان بناءً على الأوامر التي أصدرها هو نفسه، ذلك بأن بادوليو لم يشأ أن يُجيب على الرسائل التي بعث بها المختار إليه يطلُب منه فيها تنفيذ العهود والمواثيق التي قطعها على نفسه، وأخيرًا قال المختار: «إن القبض عليه ووقوعه في قبضة الطليان إنما حدث تنفيذًا لإرادة المولى عز وجل، وأنه وقد أصبح الآن أسيرًا بأيدي الحكومة، فالله سبحانه وتعالى وحدَه يتولَّى أمره، وأما أنتم فلكم الآن وقد أخذتموني أن تفعلوا بي ما تشاءون، وليكن معلومًا أني ما كنتُ في يومٍ من الأيام لأُسلِّم لكم طوعًا!»
وكان غرزياني وقت القبض على المختار يقضي إجازته في رومة، ويعتزم زيارة معرض المستعمرات الفرنسية المُقام وقتذاك في باريس، فوصلَه الخبر مساء يوم ١٢ سبتمبر ١٩٣١م وهو بالقطار الذاهب إلى باريس، فلم يُتابع رحلته بل استقلَّ طائرة أوصلته إلى طرابلس في يوم ١٣ سبتمبر ١٩٣١م، ووصل إلى بنغازي في اليوم التالي، ودعا في التوِّ والساعة «المحكمة الخاصة أو المحكمة الطيارة» إلى الانعقاد في يوم ١٥ سبتمبر، وفي صبيحة اليوم نفسه وقبل المحاكمة رغب غرزياني في الحديث إلى الرجل الذي قاد الجهاد ضد الطليان سنواتٍ طويلة، فجيء بالمختار إلى سراي الحكومة وأُدخل على غرزياني في مكتبه، وكان المختار مُقيَّد اليدَين بالسلاسل والأصفاد ويسير بصعوبة، ويُغطي وجهه بحرامه (الجردة)، فبدا لغرزياني — على حدِّ قول هذا الأخير — وليًّا من أولياء الله، لم ينل الأسر والسجن شيئًا من وقاره وجلال هيبته. ويدون غرزياني ما دار من حديث بينَه وبين المختار في كتابه المشهور عن «برقة التي نجح في تهدئتها!» — وكان يقوم بترجمة هذا الحديث ترجمانه الخاص خليفة خالد الذي أحضره معه من طرابلس — على النحو التالي:
(وهنا انطلق غرزياني يُندد بالسنوسية والدوافع التي جعلت المختار يتابع الجهاد ضد الطليان، فلم يُجبه المختار بشيء، ولكنه على حد قول غرزياني كان يُظهِر في أثناء ذلك ألمًا شديدًا).
[ثم يستمر غرزياني فيقول وقد قرأتُ عليه المنشور الذي أمضاه ونشرته الصحف المصرية، ويقصد غرزياني نداء المختار الذائع في ١٦ جمادى الأولى ١٣٤٨ﻫ و٢٠ أكتوبر ١٩٢٩م، أما المختار فلم يُجب بشيء].
[وعندئذٍ يقول غرزياني إن المختار جلس أمام مكتبه وكشف قليلًا عن وجهه، وكان يبدو عليه الهدوء بعد تأثُّره الأول، وكان جالسًا بصورة تُمكن غرزياني من رؤية نصفه الجانبي، ويسترسِل غرزياني فيقول وكان وجه المُختار ضاربًا إلى الحمرة قليلًا، ولم يتمالك أن شعر في قرارة نفسه أنه كان أمام رجلٍ تتجسم في شخصه الزعامة بأوضح معانيها، حتى إن غرزياني — على حدِّ قوله — كان وهو يكتب مؤلَّفه عن برقة لا يزال يشعر بالأثر الذي أحدثته في نفسه رؤية المختار، وكيف أنه أدرك لماذا كان المختار صاحب الكلمة المسموعة والرأي الأعلى بين المجاهدين] وقد فاجأ غرزياني المختار بالسؤال الآتي:
[ويقول غرزياني إنه عرض على السيد عمر «النظارات» التي أضاعها المختار في معركة وادي السانية، فعرف المختار «النظارات» وقال إنه أضاعها في هذه المعركة].
[ويقول غرزياني إن السيد عمر المختار قد فهم في تلك الآونة مصيرَه المحتوم].
•••
تلك كانت رواية غرزياني عن مقابلته مع السيد عمر، ومما يجدُر ملاحظته أن غرزياني على الرغم من محاولة إظهار سطوة الحكومة في حديثه مع المختار، وجعْل المختار يظهر في صورة الزعيم الذي كان لا يرجو أملًا في نضاله، فيسلك طريقًا لا يتَّفق، على حدِّ قول غرزياني، وتعاليم الدين الإسلامي الحنيف، نقول إن غرزياني على الرغم من ذلك كله كان يريد أن يتَّخذ من المُختار أداة طيِّعة لإخماد جذوة المقاومة، ولم يُحقق المختار أملَه. والواقع أن هذا الحديث الذي دار بين غرزياني والمختار في أثناء هذه المقابلة له قصة مشهورة معروفة ما زالت تتناقلها الألسُن إلى يومِنا هذا في القطر الليبي بأجمعه، ومن الثابت أن غرزياني عرض على المختار عفوًا شاملًا لقاء أن يكتب المختار بتوقيعه نداءً للمجاهدين يدعوهم فيه إلى الكفِّ عن القتال والمقاومة، ويطلب إليهم أن يُسلموا أنفسهم وأسلحتهم للحكومة، فرفض المختار لأسبابٍ أوضحها لغرزياني، وهي: «أن هذا العمل لا يُرضي ضميره ودينَه، وفضلًا عن ذلك فإن أحدًا لن يُصدِّق صدور هذا النداء من المختار.»
وعلى هذا النحو إذن انتهت المقابلة بين الرجلَين، وهي مقابلة لم يكن من ورائها في واقع الأمر أي طائل، اللهم إلا التشفِّي من رجلٍ جاهد في سبيل الحق والوطن واستطاع أن يدوِّخ جحافل الطليان بأسلحتها وطائراتها الحديثة من وقتِ أن بدأ النضال في سبيل تحرير ليبيا عام ١٩١١م إلى الوقت الذي شاء فيه القدَر أو «المكتوب»، على حدِّ قول السيد عمر نفسه، أن يسقط هذا المجاهد في قبضة العدو بعد كفاحٍ مرير استمرَّ حوالي عشرين عامًا، ولم يشأ القدَر أو «المكتوب» أن يُستشهد المختار في ميدان القتال، فوقع ذلك الرجل الكريم والبطل المجاهد في براثن أعداء لا يردعهم قانون ولا يرعَون شرفًا ولا ذمة.
وفي الساعة الخامسة من هذه المقابلة (١٥ سبتمبر ١٩٣١م) جرت تلك المحاكمة التي أعدَّ لها الطليان مكانَ بناء «برلمان برقة» القديم، وكانت هذه المحاكمة صورية شكلًا وحقيقةً؛ لأن الطليان كانوا قبل بدء المحاكمة بيومٍ كامل قد أعدُّوا «المشنقة» وانتهوا من ترتيبات الإعدام وتنفيذ الحُكم قبل صدوره. وفضلًا عن ذلك فإن غرزياني نفسه قد اعترف في ذلك «الحديث» الذي نقلناه عن كتابه بأنه أشعر المختار بالنهاية المحتومة في أثناء المقابلة، أي في صبيحة اليوم نفسه الذي جرت في مسائه محاكمة المختار.
ويصف هذه المحاكمة الصورية أحد أبناء ليبيا الأبرار الذين جاهدوا طويلًا ضد الاستعمار الإيطالي، ووضع عليهم الطليان رقابةً صارمةً مُحكمةً، وسلَّطوا على رءوسهم السيوف عند أول بادرة للاقتصاص منهم، فلم يستطيعوا حراكًا حتى قيض الله لهم ولأوطانهم الخلاص عند اندحار الطليان وأحلافهم الألمان في الحرب العالمية الأخيرة، ونعني به الدكتور علي نور الدين العنيزي بن الشيخ عثمان العنيزي، ذلك الشيخ الوقور الذي ترأس البرلمان البرقاوي عند أول انعقادٍ له، ثم انخرط في سلك أعضائه وظلَّ يُسدي خدمات جليلة لمواطنيه في أثناء الطغيان الإيطالي حتى وفاته.
يصف الدكتور العنيزي هذه المحاكمة فيقول: «جاء الطليان بالسيد عمر المختار إلى قاعة الجلسة مُكبلًا بالحديد، وحوله الحرَّاس من كل جانب، وكان مكاني في القاعة بجوار السيد عمر، وأحضر الطليان أحد التراجمة الرسميِّين واسمه نصرت هرمس. فلمَّا افتُتحت الجلسة وبدأ استجواب السيد بلغ التأثُّر بالترجمان حدًّا لا يستطيع إخفاء تأثُّره، وظهر عليه الارتباك، فأمر رئيس المحكمة باستبعاده وإحضار ترجمانٍ آخر، فوقع الاختيار على أحد اليهود، وهو لمبروزو، من بين الحاضرين في الجلسة، وقام لمبروزو بدور المترجِم، وكان السيد عمر — رحمه الله — جريئًا صريحًا، يُصحح للمحكمة بعض الوقائع، خصوصًا حادث الطيارَين الإيطاليَّين أوبر وبياتي. وبعد استجواب السيد ومناقشته وقف المُدَّعي العمومي الكولونيل بدندو فطلب الحُكم على السيد عمر بالإعدام. وعندما جاء دور المحامي المعهود إليه بالدفاع عن السيد عمر، وكان ضابطًا إيطاليًّا يُدعى الكابتن لونتانو، وقف وقال: «كجندي، لا أتردَّد البتة إذا وقعت عينايَ على عمر المختار في ميدان القتال في إطلاق الرصاص عليه وقتلِه، وأفعل ذلك أيضًا كإيطالي أمقُته وأكرهه، ولكنَّني وقد كُلفت الدفاع عنه، فإني أطلب حكمًا هو في نظري أشدُّ هولًا من الإعدام نفسه، وأقصد بذلك الحكم عليه بالسجن مدى الحياة نظرًا لكِبر سنِّه وشيخوخته …» وعندئذٍ تدخَّل المُدعي العمومي وقطع الحديث على المحامي وطلب من رئيس المحكمة أن يمنعَه من إتمام مرافعته، مستندًا في طلبه هذا إلى أن الدفاع قد خرج عن الموضوع، وليس من حقِّه أن يتكلم عن كبر سنِّ عمر المختار وشيخوخته. ووافقت المحكمة ومنعت المحامي من إتمام مرافعته. وفضلًا عن ذلك فإنها لم تُعيِّن مُحاميًا بدلًا منه، بل سأل رئيس المحكمة السيد عمر إذا كان لدَيه ما يقوله، فلمَّا أجاب المختار بالنفي انسحبت المحكمة، وبعد فترة وجيزة من الزمن عادت من مداولاتها ونطق الرئيس بالحُكم، فإذا هو يقضي بإعدام المختار، فقابل المختار ذلك بقوله: «إنا لله وإنا إليه راجعون!» وأراد رئيس المحكمة أن يعرف ما قاله السيد عمر، فسأل الترجمان أن ينقل إليه عبارته، ففعل. وعندئذٍ بدا التأثُّر العميق على وجوه الإيطاليين أنفسهم الذين حضروا هذه المحاكمة الصورية، كما أخذوا يُعلقون على قسوة هذا الحُكم، مُظهِرين كدَرَهم وإعجابهم بشجاعة المختار وبسالته في آنٍ واحد.»
وأما المحاكمة فقد استغرقت من بدئها إلى نهايتها ساعةً واحدة وخمس عشرة دقيقة فحسب، من الساعة الخامسة مساءً إلى الساعة السادسة والربع، وفي الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي الأربعاء ٤ جمادى الأولى ١٣٥٠ﻫ (١٦ سبتمبر ١٩٣١م) نفَّذ الطليان في سلوق حُكم الإعدام شنقًا في السيد عمر، وقد حرصوا على أن يجمعوا حشدًا عظيمًا لمشاهدة التنفيذ، فأرغموا أعيان البرقاويين الذين اعتقلوهم في بنينة كما أرغموا أعيان بنغازي وعددًا كبيرًا من الأهالي من مُختلف الجهات على حضور عملية التنفيذ، فحضر ما لا يقلُّ عن عشرين ألف نسمة على حدِّ قول غرزياني. ويقول الدكتور العنيزي: «لقد أرغم الطليان الأهالي والأعيان المُعتقلين في معسكرات الاعتقال والنازلين في بنغازي على حضور المحاكمة وحضور التنفيذ، وكنتُ أحد أولئك الذين أرغمهم الطليان على حضور المحاكمة، ولكني وقد استبدَّ بي الحُزن، شأني في ذلك شأن سائر أبناء جلدتي، لم أكن أستطيع رؤية ذلك البطل المجاهد على حبل المشنقة، فمرضتُ، ولم يُعفني الطليان من حضور التنفيذ في ذلك اليوم المشئوم إلا عندما تيقَّنوا من مرضي وعجزي عن الحضور. ويا لها من ساعة رهيبة تلك التي سار فيها المختار بقدمٍ ثابتة وشجاعة نادرة وهو ينطق بالشهادتَين إلى حبل المشنقة، وقد ظلَّ المختار يُردِّد الشهادتَين حتى نفَّذ فيه الجلادون الحكم. وعندما وجد هؤلاء أن المختار لم يمُت أعادوا عملية الشنق مرة ثانية.»
وعندئذٍ نقلَه الطليان إلى مقبرة الصابري في سيدي عبيد بالزريريعية بناحية بنغازي، فدفنوا جسده الطاهر في قبرٍ عظيم العُمق بنَوه بالأسمنت المسلح، وحرصوا على إجراء عملية الدفن سرًّا، كما أخفوا معالم القبر حتى لا يعثر عليه أحد، وأقاموا على القبر جندًا يحرسونه زمنًا طويلًا خوفًا من أن ينقل مواطنوه جثمانه الطاهر. وكان لاستشهاد المختار رنَّة ألَم وحزن عميقَين في جميع الأقطار الإسلامية والعربية، وقد رثاه المرحوم أحمد شوقي بك بقصيدة طويلة، منها قوله رحم الله الاثنَين:
•••
أما الطليان فقد ظنوا بعد استشهاد المختار أن الدنيا قد دانت لهم، فراحوا يُلطخون أيديهم بارتكاب تلك الفظائع والجرائم التي جعلت من استعمارهم في برقة وطرابلس صحائف سوداء ووصمة عار في جبين الإنسانية.