الفصل الحادي عشر

الاستعمار الإيطالي: صحائف سود

كان لاستشهاد السيد عمر المختار أبلغ الأثر في نفوس المجاهدين في الجبل الأخضر؛ لأنهم حُرموا بوفاته قائدًا مُحنكًا وزعيمًا استطاع أن يجمع القلوب حوله، ويجذب آلاف المجاهدين للانضواء تحت لوائه في مواصلة الكفاح ضد إيطاليا؛ يقودهم في معارك ومناوشات عدة طوال عشرين عامًا. ومع أن المجاهدين أدركوا عِظَم الخطب الذي ألمَّ بهم وفداحته باستشهاد المختار، فإن اليأس لم يتسرَّب إلى قلوبهم، بل إنهم سرعان ما استأنفوا الجهاد تحت قيادة السيد يوسف بورحيل المسماري، خليفة المختار في الجبل، وهو من نخبة قوَّادهم الذين اشتُهروا بالشجاعة وعُرفوا ببُعد النظر، وقد أولاه المختار ثقتَه العظيمة، فلازمَه في أكثر مراحل الجهاد وأشدِّها عنفًا. وبدأ المجاهدون عملَهم بالهجوم على مراكز الطليان في القاهرية، فأفنَوا حاميتها وساقوا ما وجدوه بالقاهرية من إبلٍ وأغنام وأبقار إلى معسكرهم في الجبل. وشاء الطليان أن يقوموا بهجومٍ مُماثل، فأغاروا على دور البراعصة، ولكن المجاهدين صمدوا لهم وشتتوا قواتهم. ثم استأنف الطليان الهجوم فأغاروا على دور العواقير بتكنس، فصمد لهم كذلك عبد الحميد العبار بمن معه من المجاهدين وهزموهم شر هزيمة. وعلى هذا النحو بدأ النضال من جديدٍ بين المجاهدين والطليان في منطقة الجبل الأخضر.

بيد أن المجاهدين البواسل بعد هذه الحوادث ما لبثوا حتى وجدوا أنفسهم في حالةٍ على جانبٍ عظيم من الخطورة، ذلك بأن إغلاق الحدود المصرية بسبب الأسلاك الشائكة والحاميات القوية التي أقامها غرزياني على طول هذه الحدود، منع وصول أية إمدادات إلى المجاهدين. وفضلًا عن ذلك فقد انقطعت كل صلةٍ بينهم وبين الأهالي، عندما حشد الطليان هؤلاء في معسكرات الاعتقال وأحاطوهم بسياجٍ من الأسلاك الشائكة كذلك. أضف إلى هذا أن سقوط الواحات الجنوبية بأيدي الطليان واستتباب سُلطانهم في فزَّان وجالو وأوجلة ثم في الكفرة أخيرًا جعل المجاهدين في عزلةٍ تامة في منطقة الجبل الأخضر، فكان من أثر ذلك كلِّه أنه بات مَقضيًّا في الحقيقة على جهودهم بالفشل مهما بذلوا من بسالةٍ وعدم مبالاة بالاستشهاد من أجل تحرير الوطن.

ومنذ أن استُشهد الزعيم المختار أدرك غرزياني هذه الحقيقة، وأخذ يُعد العدة لتهيئة الأسباب التي تُمهد لانقضاء أمدِ المقاومة في أسرع وقتٍ وأقصر زمن، فبادر في اليوم التالي لاستشهاد المختار بإصدار بضعة أوامر لمرءوسيه في ١٧ سبتمبر ١٩٣١م، يطلُب فيها منهم أن يسلكوا طريق الشفقة والرحمة مع الثوار الذين يُسلِّمون أنفسهم بسلاحهم للحكومة، ثم وجَّه منشورًا إلى «دور عمر المختار» يدعو المجاهدين إلى التسليم، ويَعِد من يُسلمون أنفسهم «بالنجاة من الموت!» وأراد غرزياني بذلك أن يُقيم الدليل — على حدِّ قوله — للعالم الإسلامي وسائر الأمم، أن مسئولية استمرار الكفاح في برقة لا تقع على كواهل الحكومة الإيطالية. ومع أن المجاهدين استمرُّوا في جهادهم على الرغم من هذه الوعود، وعلى الرغم مما كانوا فيه من جهدٍ ومشقة، فقد بدأ فريق منهم يرضخ قسرًا للحكومة، فكلَّف غرزياني المتصرِّف دودياشي أن يُقيم في شحات ومعه الشارف الغرياني وثلاثة من المشايخ الذين استسلموا للحكومة، وهم: علي بورحيم وفرجاني بو العجب وحسن بو صالح، وذلك لمقابلة المُستسلِمين وإدخال الطمأنينة إلى نفوسهم. وحاول فريق آخر من المجاهدين الخروج إلى برقة والالتجاء إلى القُطر المصري خصوصًا، ولكن «الدوريات» الإيطالية نشطت تمنع هذه المحاولات بكل وسيلة، واستشهد كثير من المجاهدين في أثناء محاولة اجتياز الأسلاك الشائكة. وفي ١٥ ديسمبر ١٩٣١م أصدر غرزياني منشورًا آخر يدعو فيه المجاهدين إلى التسليم، ويُطمئنهم على حياتهم إذا هم سلَّموا طوعًا للحكومة، وأصدر في الوقت نفسه التعليمات إلى المتصرِّف دودياشي بأن يُكرس جهوده لاستمالة المجاهدين بمُختلف الطرق للتسليم إلى الحكومة، واستثنى من ذلك فقط أعضاء الأسرة السنوسية الذين أصرَّ غرزياني على تعقُّب أفرادها ومنعهم من العودة إلى الوطن أو البقاء في برقة. وعندما شعر المجاهدون بشدة حروجة مركزهم في الجبل الأخضر واستحالة المضي في النضال، قرَّر زعماؤهم وقادتهم اجتياز الحدود إلى القُطر المصري بأية وسيلة، فاستطاع جماعة منهم أن يفعلوا ذلك، ولكن عثمان الشامي لم يلبث أن اضطُر إلى التسليم للحكومة في يوم ١٦ ديسمبر ١٩٣١م في عين الغزالة، فأحضره غرزياني بطريق الجوِّ إلى بنغازي ثم أوفدَه إلى شحات كي ينضمَّ إلى بقية المشايخ الذين كانوا مع دودياشي لاستقبال المجاهدين الذين يُسلمون أنفسهم للحكومة. وهكذا بقي السيد يوسف بورحيل المسماري وحدَه يقود البقية الباقية من المجاهدين، على أن نهاية السيد يوسف كانت قريبة، فقد اشتبك مع قوات الحكومة في معركة كبيرة عند سقيفة حفلز بالقُرب من أم ركبة في يوم ١٩ ديسمبر ١٩٣١م، واستشهد السيد يوسف بورحيل في هذه المعركة. وأما عبد الحميد العبار وجماعة من المجاهدين فقد استطاعوا الإفلات من قبضة الطليان، وتمكنوا بعد مشقَّةٍ من اجتياز الحدود إلى الأراضي المصرية في ٥ يناير ١٩٣٢م. وهكذا لم تنقضِ أربعة شهور على استشهاد السيد عمر المختار حتى كان الطليان قد أخمدوا كلَّ مقاومةٍ في الجبل الأخضر، ودانت برقة بأجمعها (وبالتالي القطر الليبي) لسلطانهم، وكان من أثر ذلك أن ألقى غرزياني خطبةً طويلة في أوائل فبراير ١٩٣٢م في بنغازي، ذكر فيها «انتصار» الحكومة، وأشاد بقيمة العمل الذي قام به والنتائج «العظيمة» التي يرى أنها عنوان مجدٍ وفخار له. وقال غرزياني إنه كان يبغي بعد إخماد هذه الثورة التي أشعلها المُختار وصحبه في الجبل أن يغزو مصر ذاتها، فلا تقِف جنوده على الحدود المصرية، ولم يمنعه من ذلك سوى عجزه عن تحقيق أمنيته؛ لأن المسئولين في رومة كانوا يرَون خلاف ما يراه، على أنه لو كان الأمر بيدِه لانطلق يغزو مصر ذاتها ولأخضع هذه البلاد بكل سهولة. ثم اختتم غرزياني خطبته موجِّهًا الكلام لسامِعيه من أبناء العرب، فقال: «أما أنتم، فعليكم الآن أن تمتثلوا للقوانين الفاشيستية، قوانين حكومة صاحب الجلالة ملك إيطاليا والصادرة من الدوتشي «موسوليني»، فإذا فعلتم فإنكم تنالون كلَّ خيرٍ وهناء لا شكَّ في ذلك!»

ولكن كانت هذه وعودًا معسولةً، وما كان في استطاعة الطليان أن يُنفذوا شيئًا منها، وما كان يُرجى منهم أن يجلبوا الخير والهناء إلى بلادٍ بيَّتوا النية منذ سنواتِ الغزو الأولى على إفناء أهلها وإبادتهم. بل إن الاستعمار الإيطالي، في عهد غرزياني نفسه صاحب هذه الوعود، سرعان ما وصل إلى درجةٍ من الشدة والصرامة كانت تُهدد بالقضاء على العرب واجتثاثهم من الأقطار الليبية كلها، لولا أن عناية المولى سبحانه وتعالى تداركت العرب فحلَّت الهزيمة بالمُستعمرين الطليان في الحرب العالمية الأخيرة.

وقصة الاستعمار الإيطالي قصة طويلة مُحزنة، تتميز من بدايتها إلى نهايتها بطابعٍ خاص، نجم من تلك الجهود التي ظلَّ الطليان يبذلونها نيفًا وثلاثين عامًا من أجل استئصال العرب أهل البلاد، وإعادة إنشاء تلك المستعمرة الرومانية القديمة التي كانت للرومان في هذه الأصقاع في العصور الخوالي. ومن بداية عهد احتلالهم للأقطار الليبية (منذ ١٩١١م) تجرد الطليان، سواء في أثناء عملياتهم العسكرية أو بعدَها، من كل شعور إنساني، فاقترنت أعمالهم بتلك الفظائع التي جعلت من استعمارهم صحائف سود، ليس فقط في تاريخهم بل وفي تاريخ الإنسانية قاطبةً.

ويمر تاريخ الاستعمار الإيطالي في ليبيا في دورَين هامَّين، يبدأ أولهما من وقت نزولهم في ليبيا في عام ١٩١١م، وينتهي عند الوقت الذي تسلَّم فيه الفاشيستيون أزمَّة الحكم في إيطاليا في أكتوبر ١٩٢٢م. وأما الدور الثاني فيستمر من عهد الانقلاب الفاشيستي إلى وقت قيام الحرب العالمية الثانية ثم زوال دولتهم نهائيًّا من ليبيا، أي حوالي عشرين عامًا من سنة ١٩٢٢م إلى سنة ١٩٤٣م. وفي كِلا الدورَين كانت نكبة الطليان التي جعلتهم يُنزلون بالبلاد صنوف الكوارث أنهم لم يستطيعوا بتاتًا أن يُحرروا أنفسهم من تلك العقدة النفسية ومُركَّب النقص الذي لازمَهم وكان ناشئًا من دخولهم متأخِّرين إلى حلبة الاستعمار كدولةٍ حديثة تُريد أن تحتل مكانها في مصافِّ الدول العظيمة. فقد خَيَّل إليهم الوهم بسبب العقدة النفسية ومُركَّب النقص الذي أقضَّ مضاجعهم من زمنٍ طويل أن الإيقاع بالأهلين المُسالِمين وإنزال صنوف العذاب بهم، سواء كانوا رجالًا قادرين على حمل السلاح والجهاد ضدَّ العدو أو كانوا نساءً وأطفالًا وشيوخًا لا قُدرة لهم ولا حيلة، من علامات البأس والقوة وجبروت السلطان، فاقترنت أعمالهم عند غزو البلاد وفي أثناء محاولتهم إخماد مقاومة المجاهدين بالقسوة والصرامة. ومنذ أن وطئت أقدامهم أرض ليبيا بدأت سلسلة مُتصلة الحلقات من الاعتداءات والجرائم الشنيعة.

ولعل أفظع تلك الجرائم التي ارتكبها الطليان عند نزولهم في ليبيا وأسوأها أثرًا، ما فعلوه عقب سقوط مدينة طرابلس، عندما أوقع الطليان بالأهلين في ناحية المنشية في ١٢ أكتوبر ١٩١١م. فقد ادَّعى الغزاة زورًا وبهتانًا أن أهل هذه الناحية عمدوا إلى اغتيال الجنود مُتفرِّقين، وأنه لا مَعدى لذلك عن الانتقام منهم، فقتل الطليان من الأهلين عددًا يتراوح بين أربعة وسبعة آلاف نسمة، ومثلوا بالكثيرين، وهتكوا أعراض النساء. وأمعن الغزاة الفاتحون في التنكيل بهؤلاء الأهالي، فنفَوا حوالي تسعمائة منهم، وألقوا في غياهب السجون أعدادًا عظيمةً من الرجال والنساء، فكان هذا الحادث فاتحة تلك المآسي التي ذهب ضحيتها مئات الألوف من البرقاويين والطرابلسيين في الأعوام التالية.

ولمَّا كان المجاهدون قد نفروا إلى الحرب يُصْلونها على الطليان نارًا حاميةً، فقد درج هؤلاء على الانتقام لكل هزيمةٍ لحقت بهم بالفتك بالأبرياء أو إلقائهم في السجون أو نفيِهم إلى إيطاليا. وفضلًا عن ذلك فقد أخذوا يُدمِّرون ما كانوا يُصادفونه في أثناء زحفِهم من بلدانٍ مسالمة وغير محصنة، ضاربين بأصول الحرب وقوانينها عرض الحائط؛ فعلوا ذلك بقصبة زوَّارة ولم تكن محصَّنة، وهذا عدا هتْك أعراض النساء في كل بقعةٍ كانوا يحلُّون بها، وشنق الرجال من غير تحقيقٍ أو محاكمة جماعات كما حدث في مدينة طرابلس ودرنة وغيرهما. ولمَّا أعجزتهم الحيلة في مراحل الحرب الأولى ولم يستطيعوا مغادرة مراكزهم الساحلية، صاروا يفتكون بكل عربيٍّ يقع في أيديهم ويزيد عمره على الرابعة عشرة، أو ينفونه إلى خارج البلاد، بدعوى أن هؤلاء التعساء كانوا يُحاربونهم في مؤخرتهم. وكان من حوادث «الفتح» العظيمة ما فعلَه الطليان في يوم ٢٦ أكتوبر ١٩١١م، عندما أشعلوا الحرائق في أحد الأحياء الواقعة خلف بنك رومة في طرابلس بعد أن ذبحوا أكثر سكان هذا الحي الذي الْتهمته النيران ولم يسلَم من فتكهم النساء والأطفال والشيوخ العجزة.

وقد توالت أفعال الانتقام والإبادة والتشريد بصورةٍ جعلت المُراسلين الأجانب الذين صحِبوا حملة الجنرال كانيفا يحتجُّون على ارتكاب هذه الفظائع ويبعثون بتفاصيلها إلى صُحفهم، علَّهم بذلك يوقِظون ضمير الإنسانية من سباته، ويضعون بفعلهم هذا حدًّا لفظائع الطليان وجرائمهم. فكتب جرانت مراسل جريدة الديلي ميرور يصف حادثًا انتقم فيه الإيطاليون لهزيمتهم في إحدى المعارك في ٢٧ أكتوبر ١٩١١م بأن أعدَموا رميًا بالرصاص حوالي خمسين نسمةً بين نساء وأطفال في ثكنة فرسانهم في مدينة طرابلس، وأبى فرانسز ماكولا — وهو صحفي إنجليزي رافق الحملة، وكان مكاتبًا لعدة صُحف إنجليزية وأمريكية — أن يبقى مع جيش لا همَّ له — على حدِّ قوله — إلا ارتكاب جرائم القتل، «لأن ما كان يراه من المذابح وترك النساء العرب المريضات يُعالِجنَ مع أولادهن سكرات الموت على قارعة الطريق، جعله يكتب للجنرال كانيفا كتابًا شديد اللهجة، ذكر فيه أنه يرفض البقاء مع جيشٍ لا يمكن أن يَعتبره جيشًا بالمعنى المعروف، وإنما مجرد عصابة من قُطَّاع الطرق والقتلة.» وحذا حذوَ «ماكولا» مُكاتب آخر ألماني هو فون جوتبرج، فقال: «إنه لم يفعل جيش مع عدوِّه من أنواع الغدْر والخيانة ما فعله الطليان في طرابلس، فقد كان الجنرال كانيفا يستهين بكل قانونٍ حربي، ويأمر بقتل جميع الأسرى، سواء كان يقبض عليهم في ميدان القتال أو في بيوتهم، ويُوجَد الآن في سيراكوزة — بجزيرة صقلية — كثيرون من الأسرى الذين لم يؤسَر واحد منهم في الحرب، بل إن أكثرهم كانوا من الجنود الذي تُركوا مرضى في مستشفى طرابلس.» ووصف «هرمان دنول» المراسِل النمساوي كثيرًا من هذه الفظائع التي شاهدوها، وفعل ذلك أيضًا سائر مراسلي الصحف الأجانب من إنجليز وفرنسيين وألمان.

وظل الطليان يرتكبون هذه الفظائع في الأعوام التالية، فاستمروا يشنقون ويُعدمون الأهالي الذين بقوا في المدن والقرى والنواجع ولم ينخرطوا في جيش المجاهدين، ثم يُلقون من نجا منهم في غياهب السجون وينفون جماعة أخرى إلى إيطاليا وصقلية. كما أنهم ظلوا يهتكون أعراض النساء ويَبقرون بطون الحبالى منهن، ويُصادرون أموال أهل البلاد ويغتصبون الأرض منهم. وفضلًا عن ذلك فقد امتدَّ طغيان الغزاة حتى شمل محاربة المسلمين في عقائدهم، فدمَّر الطليان دون مسوِّغ حربي مسجدَ سيدي عزيز في الفتائح بالقُرب من درنة (١٩١٢م)، وأمعنوا في إهانة الدين الإسلامي، ومنعوا الأهلِين من إقامة شعائرهم، وصار جنودهم يدخلون المساجد وهم سكارى ازدراءً بالمسلمين وتعطيلًا لعبادتهم. وقد منعت الحكومة الإيطالية الأهلين في عام ١٩١٣م من أداء فريضة الحج بدعوى أن الوباء مُنتشر في الحجاز، ثم زاد امتهانهم للدين الإسلامي في المدة التالية بدرجةٍ شنيعة، فكان من أسوأ فِعالهم أن ألقى قائد طبرق الإيطالي بالمصحف الشريف إلى الأرض ثم أخذ يطأ عليه بقدمِه على مشهدٍ من جماعة من الأهلين وهو يقول: «إنكم معشر المسلمين لا يُمكن أن تصيروا بشرًا ما دام هذا الكتاب بين أيديكم.» وعمد جنودهم في البيضا إلى ضريح سيدي رافع الأنصاري الصحابي الجليل، فخرَّبوه، واتخذوا منه ومِن غيره من الأضرحة والمساجد «إصطبلات» لدوابِّهم وخيولهم.

ومنذ عام ١٩١٣م بدأ الطليان يُسخرون العرب في بناء القلاع وتعبيد الطرق، ويستخدمونهم في غير ذلك من الأعمال الشاقة المُنهكة. وفي العام التالي ١٩١٤م جنَّد الغزاة حوالي أربعة آلاف مُجنَّد من أقضية ترهونة ومسلاتة وزليطن ومصراتة، واشترك فريق من هؤلاء بقيادة رمضان السويحلي في معركة القرضابية المشهورة ضد السنوسيين، وهي المعركة التي انحاز في أثنائها رمضان السويحلي إلى جانب السنوسيين ضد الطليان، فحاقت بالطليان الهزيمة في آخر مارس ١٩١٥م، وصمَّم هؤلاء على الانتقام لأنفسهم، فأحضروا ما كان لديهم من رهائن من أبناء العرب وقتلوهم صبرًا شرَّ قتلة، ثم تركوا جثثهم طعامًا للوحوش غربي قصر سرت، ثم أمعنوا في انتقامهم فأحرقوا حوالي عشرين نسمة من أهل تاورغة في المحل المُسمى قرارة مريم وصادروا أملاكهم. وواقع الأمر أن الطليان بعد هزيمتهم في هذه الموقعة ما لبثوا أن أضاعوا رشدهم كليةً، فصاروا يقتلون الناس ويحرقون المنازل لمجرد التشفِّي والانتقام، وتكرَّرت هذه الفظائع في السنوات التالية، فكثرت أعمال الفتك والإرهاب في أقضية مصراتة والزاوية وغيرها حتى غدت فظائع الطليان بين عامي ١٩١٤م و١٩٢١م خصوصًا صفحات متسلسلة الحوادث متشابهة الوقائع، فلم يَفتُروا لحظة واحدة عن التقتيل والتعذيب والنكاية بالعرب والضغط على حرياتهم والعبث بأرواحهم واغتصاب أملاكهم ونهب أموالهم وإحراق بيوتهم وسبي نسائهم وتيتيم أطفالهم وتنصيرهم؛ فقد نشط المُبشرون الطليان في دعوتهم، وعمدت الحكومة إلى إرغام النساء على التنصُّر والزواج من الطليان، ثم أخَذ هؤلاء يعملون للقضاء على الأخلاق الإسلامية وبثِّ روح الكثلكة في المدارس بين الأطفال، والقضاء على معارف أهل البلاد والتعليم الديني. وتناول نشاط الطليان المكروه ميدان الاقتصاد والمال، فأماتوا الصناعة والتجارة الوطنية، وصاروا يُزاحمون الأهلين في صناعاتهم البسيطة مهما كانت هذه قليلة الشأن ضئيلة القيمة، ويُديرون البلاد بالشدة والقسوة حتى عمَّت الفوضى وقام السيف والمدفع مقام القانون، ومُنع الأهلون من رفع ظلامتهم أو الشكوى مما كان يحلُّ بهم من ضروب التعذيب إلى السلطات المُختصة، وقيد الطليان حرياتهم فمنعوهم من محادثة بعضهم بعضًا ومن قراءة الصحف والمجلات والكتب الأدبية، ومن مراسلة أقاربهم أو من كان بينهم وبين الليبيين علاقات في الأقطار الأخرى، حتى صاروا في شِبه سجن داخل بلادهم محرومِين من كل صلةٍ تربطهم بالعالم العربي خصوصًا.

وقد بلغ من أثر هذه التدابير الظالمة وخطة الإفناء والتشريد التي جرى عليها الطليان أن نقصت النفوس (تعداد أهل البلاد) نقصًا هائلًا، ولدرجة مروعة، حتى إن هيئة الإصلاح المركزية التي تألَّفت عقب مؤتمر غريان في نوفمبر ١٩٢١م بادرت بفحص هذه الحالة المُحزنة، فأسفر ما قامت به من تحقيقٍ دقيق لمعرفة عدد من أُبعدوا عن ديارهم ولم يعودوا وأولئك الذين أهلكهم الطليان بوسائل شتَّى عن إحصاء كل هؤلاء من بداية الاحتلال في عام ١٩١١م إلى وقت تأسيس الهيئة المركزية في عام ١٩٢١م، فبلغوا ستًّا وستِّين ألف نسمة، وهذا عدا من استُشهد من العرب في ميادين القتال. وقد حدث ذلك كلُّه في مدة عشرين عامًا تقريبًا؛ من وقتِ مجيء الطليان إلى ليبيا إلى وقتِ حدوث ذلك الانقلاب الحكومي الذي مكَّن الفاشيست مِن الوصول إلى الحُكم في إيطاليا بزعامة بنيتو موسوليني في أكتوبر ١٩٢٢م.

وكان وصول موسوليني وصحبه إلى الحُكم كارثة كبرى على الشعوب العربية في برقة وطرابلس؛ لأن مجيء الفاشيست كان مؤذِنًا في الحقيقة ببداية صفحةٍ أخرى من صفحات الفظائع الإيطالية في ليبيا، وهي فظائع فاقت في قسوتها كثيرًا كلَّ ما حدث في عهد الحكومات الإيطالية السابقة؛ ذلك بأن الفظائع الإيطالية بين عامي ١٩١١م و١٩٢١م كانت نتيجة لاندفاع دولة إيطاليا الموحَّدة بزعامة بيت سافوي الملكي في طريق الاستعمار لإشباع تلك الشهوة التي نشأت من رغبة الطليان الملحَّة في التخلُّص من شعور النقص ومعالجة هذه العقدة النفسية بامتلاك المُستعمرات حتى تنخرِط دولتهم في سلك الدول الأوروبية العظيمة. وأما الفظائع التي ارتكبها الطليان بعد ذلك في ليبيا — وكانت أشد وأقسى — فقد نجمت من رغبة الفاشيست في أن يُعيدوا مجد الإمبراطورية الرومانية القديمة، وكان من وسائل ذلك، على حدِّ قولهم، أن تُصبح ليبيا مقاطعةً رومانية لحمًا ودمًا.

وعلى ذلك فقد قامت خطة الفاشيست أو سياستهم الاستعمارية على أساسين هامين: (أولهما) امتلاك البلدان العربية القائمة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وهي المنطقة التي شهدت اتساع الإمبراطورية الرومانية القديمة في مختلف أدوارها، وأضحت الآن ذلك «المجال الحيوي» والذي لا غِنى عنه لتوسُّع الإمبراطورية الرومانية الجديدة التي يعتزم الفاشيون إنشاءها. (وثانيهما) إبادة أهل هذه البلاد العربية وإفناؤهم حتى يتسنَّى إرسال أبناء الطليان إلى القُطر البرقاوي الطرابلسي، كي يبدءوا به حياةً مستقرة موطَّدة ويجعلوا من هذه الأقطار «رقعة لاتينية» يسهُل إدماجها بعد ذلك في جثمان الإمبراطورية الرومانية المنشودة، فكان من نتيجة ذلك أن صار يتميز تاريخ الاستعمار الإيطالي في ليبيا منذ وصول الفاشية إلى الحُكم ١٩٢٢م إلى وقت اشتعال الحرب العالمية الثانية ١٩٣٩م بحدوث سلسلةٍ أخرى من الفظائع والنكبات والكوارث كانت تفوق في فداحتها ما وقع من فظائع في السنوات السابقة؛ لسببٍ واضح جلي، هو أن جماعة الفاشيست كانوا يسيرون قدمًا ودون أي تردُّدٍ نحو غايةٍ واحدة هي إفناء الشعوب العربية بهذه البلاد وإبادتها؛ ولذلك ففي استطاعة المرء على ضوء هذه الاعتبارات والحقائق أن يرسم صورةً كاملة للاستعمار الإيطالي في ليبيا في عهد السيطرة الفاشيستية.

ويسير الاستعمار الإيطالي في عهد هذه السيطرة في دورَين ظاهرَين، استمر أولهما من وقت حدوث الانقلاب الحكومي في إيطاليا في عام ١٩٢٢م إلى الوقت الذي نقض فيه الطليان عهودهم بعد اجتماع سيدي رحومة في عام ١٩٢٩م، بينما استمرَّ الدور الثاني من ذلك التاريخ إلى وقت قيام الحرب العالمية الثانية في عام ١٩٣٩م. والسبب في هذا التقسيم — وهو تقسيم شكلي في الحقيقة أكثر من أي شيءٍ آخر — أن الطليان الفاشيست لم يكونوا في خلال الدور الأول قد أتموا استعدادهم لتصويب ضربتهم القاتلة للقضاء على حركة المقاومة والجهاد في برقة وطرابلس، فاعتمدوا أكثر ما اعتمدوا في هذا الدور على المُخاتلة والمراوغة، ونقض العهود، وكسْب الوقت، ومحاولة إغراء المجاهدين حتى يرضَوا بالعيش الذليل في كنف الدولة المستعمرة؛ فبدأ الطليان في هذه المرحلة تلك المفاوضات الطويلة التي سبق ذكرها مع السيد عمر المختار وصحبه، حتى إذا أتموا استعداداتهم العسكرية وتبيَّن لهم في الوقت نفسه عبث محاولاتهم «السياسية» كشفوا القناع عن نيَّاتهم الصحيحة، وانطلقوا ينفذون «برنامجهم» الاستعماري بكل قسوة، فأعدموا المختار، وقضوا على قوات المجاهدين، وأفنوا مئات الألوف من العرب في سنواتٍ قليلة. ولم يُنقذ البلاد من الفناء والإبادة سوى قيام الحرب العالمية الثانية وانضمام الشعب الليبي الباسل إلى جانب الأمم الديمقراطية، يكافح من أجل الخلاص من ربقة الاستعمار، والتحرُّر من طغيان الفاشيستية. وعلى ذلك فقد تميزت فِعال الطليان في هذه المرحلة بأمورٍ معينة؛ أولها نقض العهود التي ارتبطوا بها مع الأمة الليبية، ثم ارتكاب الفظائع ليس فقط لإبادة العرب وإفنائهم، بل ولمجرد الانتقام من الأهلين المُسالمين مما كان يلحق بهم من هزائم على أيدي المجاهدين بقيادة زعيمهم السيد عمر المختار، وأخيرًا الإمعان في وسائل الاغتصاب والإبادة والإفناء لتحقيق برنامجهم الاستعماري وتحويل البلاد إلى مقاطعة «لاتينية».

ونقْض الطليان لعهودهم قصة طويلة تبدأ من الوقت الذي غزَوا فيه ليبيا في عام ١٩١١م، فقد قطعت إيطاليا على نفسها العهود والمواثيق عندما عقدت مع تركيا معاهدة أوشي في ١٨ أكتوبر ١٩١٢م، ومع سمو السيد إدريس معاهدة طبرق أو عكرمة في ١٤ أبريل ١٩١٧م، وأصدرت القانونَين الأساسيَّين لبرقة وطرابلس في غضون عام ١٩١٩م، ثم أبرمت معاهدة الرجمة مع السيد إدريس في ٢٥ أكتوبر ١٩٢٠م، ووافق بادوليو على الشروط التي قدمها السيد عمر المختار في سيدي رحومة في يونيو ١٩٢٩م، وفي كل هذه العهود والمواثيق تعهدت إيطاليا بإنشاء الحكومة النيابية وإشراك الأهلين في برقة وطرابلس في إدارة شئونهم بأنفسهم، واعترفت بالإمارة السنوسية، وبأن يكون لأهل طرابلس الحقُّ في اختيار الأمير الذي ترضى بإمارته، أي الحق في اختيار سمو السيد إدريس للإمارة على نحو ما فصَّلناه في الفصول السابقة.

ولكن ماذا فعل الفاشيون بجميع هذه العهود التي قطعتها الحكومة الإيطالية على نفسها؟

لقد تقدَّم كيف راوغ الطليان في تنفيذ القانون الأساسي في طرابلس حتى عقد العرب مؤتمر غريان وبايع الطرابلسيون سمو السيد إدريس بالإمارة، وفي برقة سعى الطليان جديًّا حتى يُقوِّضوا أركان الحكومة الوطنية الرشيدة التي أنشأها الأمير. وبلغ من غدرهم وخيانتهم أنهم دسُّوا السمَّ للأمير ثم حاولوا القبض على السيد صفي الدين وأسره، وعندما أفلت السيد صفي الدين من قبضهم، وغادر الأمير برقة صبُّوا جامَّ غضبهم على الشيخ صالح العوامي فألقوا به في غياهب السجن في بنغازي. ومع أنهم كانوا قد تعهَّدوا للسيد صفي الدين بعدم إلحاق الأذى به، لم تحُل سِنُّ الشيخ المتقدمة، وكان يناهز التسعين، دون التنكيل به، فانهالوا عليه ضربًا بالعصيِّ حتى استُشهد في أيديهم، فحملوه إلى مكانٍ مجهول دفنوا به جثمانه إمعانًا في النكاية به حتى بعد وفاته.

وكان من مظاهر غدر الفاشيست وخيانتهم ما فعلوه مع أحد أعضاء ذلك الوفد الذي تقرَّر في مؤتمر غريان إرساله إلى رومة للمفاوضة مع ولاة الأمور بها في الظروف التي سبق ذكرها؛ فقد تسنَّى للحزب الفاشيستي وعلى رأسه موسوليني قبل وصوله إلى الحكم أن يتصل بأعضاء الوفد، وتعهَّد موسوليني «بتأمينه لمطالب البلاد الوطنية والقومية، وقال إنه لن يتوقَّف عن إثارة حملةٍ عنيفة ضد حكومته إذا حاولت اكتساح البلاد الطرابلسية البرقاوية بالحديد والنار.» ولكنه بمجرد أن دانت السلطة للفاشيست ورجع الوفد إلى بلاده صفر اليدَين من مفاوضاته بإيطاليا، قبضت حكومة موسوليني على الدكتور عبد السلام البوصيري «ترجمان» الوفد وأحد أبناء العرب الأذكياء الذي كان قد اضطُر إلى التخلُّف، وحكمت عليه بالسجن المؤبد في مدينة طرابلس.

ومع أن جميع الاتفاقات والعهود التي ارتبط بها الطليان كانت تنصُّ على ضرورة احترام العقائد الدينية والشعائر الإسلامية، فقد تفنَّن الطليان في ابتكار الطرق والوسائل التي مِن شأنها إلحاق الإهانة البالِغة بهذه الشعائر والأذى الفادح بشيوخ المسلمين وعلمائهم ثم بمساجدهم وأماكن عباداتهم، فألزموا أئمة وخطباء الجوامع بالدعاء على المنابر أيام الجمعة لملك إيطاليا عمانويل الثالث. وعندئذٍ امتنع الناس عن صلاة الجمعة، فلمَّا ذاع هذا الخبر وسبَّب هياج الخواطر في العالم الإسلامي، وكثرت احتجاجاتُ الصحف في مصر وسوريا خصوصًا، أرغمت الحكومة الإيطالية الأئمة والخطباء على كتابة تكذيبٍ ذيَّلوه بتوقيعاتهم جاء فيه أنَّ الدعاء للملك عمانويل الثالث إنما كان بمحضِ إرادتهم ومن تلقاء أنفسهم ومن غير تدخُّلٍ من جانب الحكومة الفاشيستية.

وفي عهد الماريشال بادوليو زاد تدخُّل الحكومة في شئون الدين، فصاروا ابتداءً من عام ١٩٢٨م يمنعون الناس من أداء فريضة الحج تارةً ويضعون العراقيل في سبيلهم تارةً أخرى حتى يُجبروهم على تركه، ذلك بأنهم كانوا يخشون من اختلاط الحجاج الليبيين بغيرهم فتتسرَّب أخبار فظائع الطليان إلى العالم الإسلامي. وكان من الوسائل التي ابتدعوها لمراقبة الحجاج الليبيين أنهم أنشئوا في مكة المكرمة دارًا كبيرةً حتَّموا على الحجاج من الطرابلسيين والبرقاويين الإقامة بها في أثناء الحج حتى يبعدوهم عن مخالطة إخوانهم من سائر المسلمين، وعلاوةً على ذلك فقد دسُّوا بينهم أناسًا من صنائعهم للتجسُّس عليهم، وأنذروا كل ليبي تُحدثه نفسه بزيارة السيد أحمد الشريف — وكان رحمه الله يُقيم بمكة قبل وفاته في عام ١٩٣٣م — بالعقوبة الشديدة. وفي عام ١٩٣٧م منع الطليان من الحجِّ كلَّ من سبق لهم تأدية هذه الفريضة أو كان لا يبلُغ الأربعين من عمره. وعندما أثاروا بعمَلهم هذا سخط المسلمين في أنحاء العالم عادوا في العام التالي فسمحوا لقليلين ممَّن منعوهم من الحجِّ في عام ١٩٣٧م.

وكان عهد الماريشال بادوليو الذي عُين حاكمًا عامًا على ليبيا في عام ١٩٢٩م مليئًا بالفواجع والمآسي، فقد بدأ الطليان فظائعهم الجديدة منذ عام ١٩٢٨م، عندما أخرجوا من واحة الجغبوب العلماء وطلاب العِلم، فكان ممَّن أجلَوهم عن هذه الواحة: السيد حسن السنوسي شيخ زاوية الجغبوب، والشيخ أحمد يوسف، والشيخ الفضيل الكبش وغيرهم. ونفَوا معهم نساءهم وأطفالهم إلى حيث لا يعلَم أحد عِلم اليقين، وإن كان هناك من يُرجح أن الطليان قد أجلَوهم إلى بردي سليمان. وقد حدث في أثناء نقلِهم أن سقط من السيارة الشيخ صالح المصماري فلم يحفلوا به، فمرَّت عليه السيارات الأخرى وأودت بحياته.

وفي سنة ١٩٢٩م جمع الجنرال غرزياني جميع مشايخ السنوسية والذين يتوَّلون أوقافها وأئمة المساجد والمُؤذنين والفقهاء والسدنة وسجنهم جميعًا في مركز بنينة، وكان بناءً قديمًا لا سقفَ له، ذاقوا فيه مرَّ العذاب جوعًا وعطشًا، ثم نُقلوا إلى سجون إيطاليا، وبعد أن مكثوا بها مدة أُعيدوا إلى بنينة، فهلك منهم كثيرون جوعًا وتعبًا ومرضًا. وكان من بين الذين لقوا حتفَهم جماعة من أفاضل القوم وخيارهم، نذكُر منهم السيد عمران السكوري شيخ زاوية المرج، وكان السيد عمران في طليعة المجاهدين الذين لبَّوا نداء الجهاد عند إعلان الحرب الليبية-الإيطالية في عام ١٩١١م، ثم السنوسي بن جلول شيخ زاوية البراعصة، والسنوسي ابن ميلود شيخ زاوية المرازيق، والسنوسي الهانئ شيخ زاوية أم ركبة، وإدريس أبو فارس شيخ زاوية أم حفير. وفي هذا العام أيضًا ١٩٢٩م أجلى الطليان البقيةَ الباقية من الإخوان السنوسيين في الجغبوب، فأرسلوهم مع أسراتهم إلى قضاء جالو مشيًا على الأقدام تحت رحمة الجنود الذين ساروا بهم، يسوقونهم سوق الأنعام حتى يُلحقوهم بإخوانهم في سجون بنينة وسلوق وغيرها من المعسكرات التي اعتقل فيها غرزياني عرب برقة بأجمعهم، فمات كثيرون من الشيوخ والنساء والأطفال جوعًا وتعذيبًا. ثم عمد الطليان بعد ذلك إلى إغلاق جميع الزوايا السنوسية ومصادرة أملاكها.

وكان صاحب اليد الطولى في ذلك نائب الوالي في برقة الجنرال غرزياني، فقد اعتبر غرزياني هذه الزوايا السنوسية مراكز سياسية وإدارية الغرَض منها نشر الدعاية السنوسية والعمل على إنشاء الصِّلات الوثيقة بين الأهالي والمجاهدين وإطلاع المجاهدين خصوصًا على تنقلات القوات الإيطالية وتدابيرهم العسكرية. وفضلًا عن ذلك فقد كانت هذه الزوايا تجمع أموال الزكاة، فتُرسِل أكثرها على حدِّ قول غرزياني مع الإيرادات المُتحصلة من أوقافها إلى أعضاء الأسرة السنوسية، ثم يأخذ ما يتبقى منها بعد ذلك مشايخ الزوايا أنفسهم. وقدر غرزياني إيرادات هذه الزوايا — ما عدا جغبوب والكفرة — بحوالي مائتي ألف ليرة إيطالية سنويًّا؛ وعلى ذلك فقد شرع غرزياني ينفذ خطته المدبرة في صيف (عام ١٩٣٠م)، فبدأ بإلقاء القبض على جميع مشائخ الزوايا في كل برقة في يومٍ واحد (٢٩ مايو سنة ١٩٣٠م)، وصادر ما يملكون. وفي أوائل يونيو أصدر منشورًا حذَّر فيه الأهالي من دفع أموال الزكاة، وهدَّد كلَّ من يفعل ذلك بتوقيع عقوبة الإعدام عليه. وبلغ عدد مشايخ الزوايا الذين قَبض عليهم غرزياني واحدًا وثلاثين شيخًا، جمعهم في بادئ الأمر في بنينة ثم أرسلهم بعد ذلك إلى أوستيكا، وقد نقلتهم إلى سيراكوزة في يوم ٢٨ سبتمبر ١٩٣٠م نفس المركِب التي حملت السيد حسن ابن الرضا السنوسي إليها. وكان لإغلاق الزوايا السنوسية ومصادرة أملاكهم أعظم الأثر في نفوس العرب حتى أولئك الذين كانوا مُوالين للحكومة الإيطالية.

وكان في هذه الظروف أن بدأ يكتب في «بريد برقة» — وهي جريدة موالية للحكومة في ظاهرها — في مسألة هذه الزوايا وأملاكها المصادرة، أحدُ أبناء برقة الذين حصلوا على قدرٍ كبير من الثقافة، واتخذوا من ضرورة الانصياع إلى أوامر السلطات المحلية ذريعةً لبذل قصارى الجهد مع المُستعمرين العتاة حتى يعدلوا عن ركوب متن الشطط في أساليبهم «المُهلكة»، ونعني به السيد عمر فخري المحيشي، وكان من سراة القوم، ووالده الحاج سالم باشا المحيشي من أعظم بيوتات بنغازي، وكان عمر فخري المحيشي يتولَّى رئاسة التحرير في جريدة «بريد برقة»، ووجد أن يتَّخذ من جريدته، على الرغم من سيطرة الحكومة عليها، وسيلة لإبلاغ إنذارات الحكومة، وما تنتوي فعله إلى المجاهدين في عباراتٍ ظاهرها التنديد بأعمال «الثوار» والحض على التسليم للحكومة، وفي باطنها وفي خلال السطور إشعارهم بمدى نشاط الحكومة حتى يتخذوا الحيطة لأنفسهم.

وزيادةً على ذلك فقد كان من دأب عمر فخري المحيشي أن يُحاول دائمًا الحدَّ من بطش وطغيان الحكومة، فيعمد إلى إنشاء المقالات الطويلة يكيل فيها المدح والثناء على أعمالها، ولكنه يشير بطريقٍ خفيٍّ إلى الطريقة المُثلى التي يجب عليها اتباعها تحقيقًا للعدالة وتنفيذًا للقانون. وقد ظلَّ المحيشي على عهده، فكان جنديًّا مجاهدًا، وإن اختلف نضالُه عن نضال سائر المجاهدين الذين استشهدوا في الحروب التي شنُّوها نارًا متأجِّجة على الطليان في برقة وطرابلس. وزاد موقف المحيشي خطورةً كما زادت قيمة الجهود التي أخذ على نفسه أن يبذلها في خدمة الوطن، عندما نجح الطليان في إخماد المقاومة في برقة، ثم انطلقوا في عهد غرزياني وإيتالو بالبو ينفذون برنامج الاستعمار الإيطالي على أساس إبادة العرب وإفنائهم. ولكن المحيشي ظلَّ رابط الجأش يرجو أن يستنقِذ من براثن المستعمر بعض الحقوق وأن يُخلص أبناء جلدته من الموت والفناء على أيدي الجلادين الطليان، حتى دانت ساعة الخلاص واستطاع الإنجليز وأحلافُهم أن يُجلوا الطليان عن برقة، وعرف الإنجليز قدرَه، فظلَّ المحيشي مُستمتعًا بثقة مواطنيه حتى وفاته في بداية الاحتلال الإنجليزي الثاني لهذه البلاد في يناير من عام ١٩٤٢م.

وللسيد عمر فخري المحيشي مقالات عدة في «بريد برقة»، طرِب منها غرزياني وقتذاك، ولكنها كانت مليئة بالنُّصح والإرشاد لمواطنيه المجاهدين، وتُحذرهم من مغبة تقديم المصالح الشخصية والعائلية على مصلحة الوطن. وعندما أمر غرزياني بإغلاق الزوايا السنوسية ومصادرة أملاكها، انبرى المحيشي يكتُب في «بريد برقة» في ٦ يونيو ١٩٣٠م مقالًا يُردِّد فيه دعاوى غرزياني من أنه لا ضرورة لوجود هذه الزوايا، ولكنه — ولم يكن في وسعِه أن يمنع الشر وقت نزوله — حاول في هذا المقال أن يُقنع الحكومة بأن الحق والعدل يقتضيها أن تُنفق الأموال المصادرة وإيرادات هذه الزوايا في الأغراض الدينية والخيرية تنفيذًا لإرادة الواقفين؛ لأن ذلك من شأنه أن يساعد على حدِّ قوله على «إظهار حسن نوايا الحكومة»، بيد أن هذا المقال لم يُحدث الأثر المطلوب وعلى نحو ما أراد صاحبه منه، إذ استصدر غرزياني مرسومًا في ٨ يونيو ١٩٣٠م بإغلاق جميع الزوايا ومصادرة أموالها، وصدر مرسوم ملكي بذلك في ٢٢ ديسمبر. وفي أوائل فبراير من العام التالي أرسلت الحكومة الإيطالية في رومة مستشارًا قضائيًّا هو الدكتور فرنندو فالنزي لإحصاء الزوايا وتنظيم قيد أملاكها المصادرة، ونقل ملكية الزوايا وأوقافها إلى الحكومة. وبدلًا من إنفاق هذه الأموال في «أغراض دينية وخيرية» استخدمتها الحكومة في محاربة الدين الإسلامي وتنفيذ سياستها الاستعمارية على نحو ما سبق بيانه.

وعندما اشتدَّت مقاومة المجاهدين وأدرك الطليان أنه لا سبيل إلى التغلُّب على العرب إلا باتِّباع أساليب الإبادة والإفناء، كان القضاء على اللغة العربية، لغة الدين ودعامة قومية العرب، ثم العمل على تنصير العرب وإضعاف الدين والأخلاق، من الوسائل التي تذرَّعوا بها لتحقيق هذه الغاية، فأغلقوا الكتاتيب ودور العِلم الوطنية، وأنشئوا بدلًا منها مدارس إيطالية. ثم أكثروا من إقامة دُور الفحش والدعارة، وعملوا على تنصير المسلمين وإرغامهم على اعتناق الكاثوليكية. وبذلوا في هذا الأمر الأخير جهودًا جبارةً؛ إذ إنهم سرعان ما صاروا يملئون البلاد بجيشٍ من المبشرين ويُنفقون الأموال الطائلة في سبيل نشر الكاثوليكية والتبشير بالمسيحية، ثم أنشئوا كنيسة كبيرة في مدينة طرابلس وعدة كنائس في الزاوية وزوارة ونالوت ويفرن وغريان وزليطن والخمس ومصراتة وبنغازي ودرنة، وهذا عدا الكنائس الكبيرة في الجبل الأخضر. وكانت معظم هذه بلاد لا يكاد يوجَد بها مسيحي واحد.

وبلغ امتهانهم للدين الحنيف درجةً جعلت بادوليو يأمُر بأن تُرصَف «الصالة» في قصره بالبلاط منقوش عليه «محمد» تسليمًا.

أما القضاء الشرعي في ليبيا فقد أصبح أداةً عاطلة باطلة، ذلك بأن تعيين القاضي «الشرعي» أصبح في يد الحاكم الإيطالي، وهو لذلك تعيين باطل في نظر الدين الإسلامي، وزيادةً على ذلك فإنه ما كان يُنفَّذ شيء من الأحكام التي تصدر — على قلتها — إلا إذا وافقت على ذلك دائرة البوليس أو «الكربنيري». ومما زاد الطين بلة وعدَّه المسلمون إهانة بالغة لهم ولدِينهم، أن الأحكام الشرعية صارت تصدُر باسم عمانويل الثالث ملك إيطاليا، وتُكتَب الأحكام الشرعية على ورقٍ مُزيَّن برسم الصليب، ويُرغَم القاضي أو كاتبه بكتابة «بسم الله الرحمن الرحيم» أو «الحمد لله رب العالمين» تحت رسم هذا الصليب في أعلى الورقة.

وتتصل بإهانة شعائر الدين الإسلامي محاولة القضاء على اللغة العربية، إلى جانب سائر المظاهر الوطنية في القُطر الليبي، ويتناول ذلك شئون التعليم وطمس معالم العروبة في البلاد. فمن المعروف أنه كان في ليبيا قبل الاحتلال الإيطالي ثقافة إسلامية دينية ذات معاهد أُنشئت على وجه الخصوص لنشْر هذه الثقافة، منها جامع أحمد باشا وجامع كورجي ومدرسة عثمان باشا وزاوية الزروق في مصراتة. ثم كان الطرابلسيون البرقاويون يقصدون، إلى جانب ذلك، الجامع الأزهر الشريف في مصر وجامع الزيتونة في تونس للتزوُّد من الثقافة الدينية بهذه الأقطار المجاورة. وفضلًا عن ذلك فقد كان بالبلاد ثقافة أخرى عصرية «عثمانية» إلى جانب هذه الثقافة الدينية، إذ كانت المدارس أيام العثمانيين في برقة على درجتَين: ابتدائية وثانوية «أو رشدية»، كما أُنشئت في طرابلس مدرسة إعدادية للعلوم والفنون العسكرية. وعلى قلَّة هذه المدارس كان خريجوها يشغلون المناصب الكثيرة في الدولة العثمانية ذاتها. غير أنه حدث عند مجيء الطليان أن انقطع مَعين الثقافة العثمانية؛ وعلى ذلك فقد ظلَّ الأهلون، إلى جانب تمسُّكهم بالثقافة الدينية، يرغبون في نوعٍ جديد من الثقافة يجمع بين أمور الدين والدنيا معًا لمصلحة الفرد والجماعة ولخير الملَّة والوطن. فحرصوا في جميع الاتفاقات التي أبرموها مع الطليان على أن يتعهَّد هؤلاء بجعل التعليم في برقة وطرابلس موضع عنايتهم على أساس احترام لُغة البلاد وتقاليدها، بيد أن الطليان جريًا على عادتهم في نقض عهودهم سرعان ما صاروا يُنشئون المدارس التي عُنيت فقط بنشر نوع خاص من الثقافة الإيطالية كان يتلاءم مع أغراضهم الاستعمارية فحسب، أخذوا يدعون إليه بالترغيب تارةً وبالترهيب تارةً أخرى، فبلغ ما أنشأه الطليان من هذه المدارس في ليبيا حتى عام ١٩٣٩م تسعين مدرسة، تضمُّ ٩٤٣٣ تلميذًا، و١٠٥٥ تلميذة، وجعلوا في كل مدرسة من هذه المدارس نوعَين من التعليم: نوع إيطالي وآخر عربي، ثم جعلوا للمعلم الإيطالي كل السلطة حتى يُدير المدرسة كيفما شاءت أهواؤه، وبذلك صار أبناء العرب في هذه المدارس يُرغمون على دراسة كل المواد المُقررة بها حتى الغناء الإيطالي والنشيد الفاشيستي.

وكانت هذه المدراس بمثابة مدارس ابتدائية، يدَّعي الطليان أنها مُخصصة لتعليم العربية إلى جانب الإيطالية، بينما كان أبناء العرب يُلقنون بها الحروف الهجائية وشيئًا قليلًا من القرآن الكريم والحساب وبعض القواعد العربية البسيطة، وذلك في مرحلة من التعليم تبلُغ خمس سنوات، ومَنع الطليان — إلا في حالاتٍ استثنائية نادرة — أبناء العرب بعد الفراغ من هذه المرحلة من أن يلتحِقوا بالمدارس الثانوية التي يجري التعليم فيها باللغة الإيطالية. وأمام هذا النقص الواضح في التعليم وأساليبه رأى الليبيون أن يبعثوا بأبنائهم إلى تونس وإلى مصر إلى «الأزهر الشريف» لتلقِّي العلم، وكره الطليان أن يجيء الليبيون إلى الأزهر على وجه الخصوص، فابتدعوا فكرة «المدرسة الإسلامية العُليا» أنشأها إيتالو بالبو، ونظم دعايةً واسعة عن طريق الإذاعة والنشر في الصحف، حيث يحث الناس على إرسال أبنائهم إليها بدلًا من إرسالهم إلى الأزهر. ولكنه سرعان ما وضح غرَض الطليان من إنشاء هذه المدرسة عندما وجد الليبيون أنها كانت مُقيَّدة بنفس القيود التي قُيد بها التعليم الابتدائي، واقتصرت مُهمتها على تلقين الدروس البسيطة. وفضلًا عن ذلك فقد نصب الطليان على مدخل «المدرسة الإسلامية العُليا» صليبًا كبيرًا. وفي الوقت الذي فرض فيه الطليان القيود العديدة — حتى يُقللوا من عدد الراغبين في الحضور إلى مصر للتزوُّد من العلوم التي تُدرس بالأزهر الشريف — أخذوا يُشجعون الليبيين على الذهاب إلى رومة ويصرفون المال لأبناء العرب الذين يذهبون إلى رومة — طلبًا للعلم أنى كان وحيثما وجد — من الأوقاف الإسلامية.

فكان التدخُّل في مسائل التعليم الإسلامي على هذه الصورة مِن أظهر الوسائل التي عمد إليها المستعمرون للقضاء على الثقافة العربية الصحيحة بأوسع معانيها. وعلاوةً على ذلك فقد سعى الطليان سعيًا حثيثًا حتى يطمسوا في الوقت نفسه كل معالم العروبة في البلاد، واتخذوا لذلك تدابير عدة، فغيروا في المدن أسماء الشوارع والميادين والحارات، واستبدلوا بها أسماء إيطالية كتبوها بحروف إيطالية، فاختفت الأسماء العربية القديمة من بنغازي ودرنة والخمس وجميع المدن الساحلية خصوصًا.

وكان من أثر محاولاتهم القضاء على اللغة العربية أنهم صاروا يحولون دون وصول الخطابات إلى أصحابها ما دامت هذه غير معنونة باللغة الإيطالية، وزيادةً على ذلك فقد دأب الطليان على إظهار احتقارهم لكلِّ لباسٍ عربي وازدراء صاحبه ازدراءً شديدًا والسخرية منه، حتى إن كثيرين من الليبيين اضطروا إلى تغيير الزي العربي فرارًا من الإهانة في بلدٍ لا يملكون فيه رفع الأذى عن أنفسهم، ثم أرغمت الحكومة المُدبِّرين والعُمَد العرب على ترك زيهم، وأن يستبدلوا به الزي الإفرنجي.

بيد أن هذه المحاولات جميعًا ما كانت لتفتَّ من عضد الليبيين الذين ظلوا مُتمسِّكين بالعروبة، فذهبت جميع المساعي التي بذلها الطليان لاجتثاث أصولها أدراج الرياح. وأظهر الليبيون شعورهم المكبوت في كل مناسبة، وكانت المناسبات التي أفصحوا فيها عن حقيقة شعورهم كثيرة، لعلَّ من أبرزها ما حدث في مدينة طرابلس في غضون عام ١٩٣٧م عندما حدث في إحدى دور السينما أن بدت في أثناء العرض سفينة مصرية تحمل علمَها المصري، فأخذ الحماس من جمهور النظارة الليبي كل مأخذ، واندفعوا يُصفقون تصفيقًا شديدًا وطويلًا بدرجة أثارت حنق النظارة الطليان وغيظِهم، فقابلوا هذه المظاهرة بصفير الاستهزاء والسخرية، وارتفع الصياح من كل جانبٍ وعلا الضجيج، واشتبك الفريقان في مشادة عنيفة لم يفضَّها سوى تدخل الشرطة، وقد تكرَّر هذا الحادث عندما مُثلت في العام نفسه رواية صلاح الدين الأيوبي.

على أن أهم ما لجأ إليه الطليان لتحقيق مآربهم الاستعمارية كان إنزال ضروب التقتيل والتشريد والتعذيب بالليبيين لإبادتهم وإفنائهم، حتى إن الطليان ارتكبوا من الفظائع في العهد الفاشيستي ما لم يحدُث له نظير في كل تاريخ استعمارهم، ذلك أن الفاشيست ما لبثوا عند بدء حُكمهم في عام ١٩٢٢م حتى قبضوا على عددٍ عظيم من العرب ألقوا بهم في السجون ظلمًا وعدوانًا لأسبابٍ تافهة أو من جراء وشاية كاذبة.

وبمجرد أن نقضت حكومتهم عهودها واستؤنف الجهاد، عمد الطليان إلى الانتقام لأنفسهم من المجاهدين بتوقيع عقوبات الإعدام والنفي والتشريد على الأهلين العُزَّل في البلدان التي سقطت بأيديهم، فقتلوا في عام ١٩٢٣م، من أهالي أقضية جفارة وزليطن ومسلاتة ومصراتة عند احتلالها، ما يزيد على ألف رجلٍ صبرًا أمام نسائهم وأطفالهم، بل إنهم أمعنوا في إجرامهم بصورةٍ تجرح العزة الإنسانية وكرامتها، وتدلُّ على الجبن والنذالة، فأتوا بعشر سيداتٍ من أهل جفارة فجردوهن من ثيابهن وشنقوهنَّ عاريات، وأبقوهن سبعة أيام مُعلَّقات على هذه الحالة. وعلاوةً على ذلك فإنهم ما لبثوا حتى أحرقوا عدة قرى في ضواحي أقضية طرابلس وبنغازي ومصراتة ودرنة، كما أحرقوا القرى بمن فيها في نواحي مسلاتة وزليطن ومصراتة عند احتلالها. وكان الغدر والخيانة من الوسائل الفعَّالة التي لجأ إليها الطليان لإبادة الليبيين وتنفيذ مآربهم، فإن حكومتهم كثيرًا ما كانت تعلن العفو عن الأهلين وتؤمِّنهم على حياتهم وأموالهم، حتى إذا اطمأنَّت نفوسهم واستسلموا للحكومة فتكت بهم وصادرت أموالهم.

وقد ذهب ضحية هذا الغدر عدد عظيم من رؤساء القبائل وكبار الليبيين ووجهائهم؛ ولا يزال الليبيُّون يذكرون، والحسرة تملأ قلوبهم والألم يحزُّ في نفوسهم، ما فعله الطليان بهم عندما احتفلوا في مدينة طرابلس في ١٨ أكتوبر ١٩٢٣م بمرور السنة الأولى على زحفِهم المزعوم على رومة، فقد صاروا يُطلقون الرصاص في أثناء هذا الاحتفال في الشوارع والطرقات ويُصوِّبون أسلحتهم إلى صدور المُسلمين، ثم لم يتورَّعوا عن اقتحام المساجد وراء اللاجئين إليها، فظلُّوا يقاتلون ويجرحون من عثروا عليهم في داخل المساجد، حتى كانت مجزرة كبيرة لم يوقِف شرها، بعد فوات الوقت وسفك الدماء الغزيرة، سوى تدخُّل السلطات المحلية. ثم اتضح فيما بعد أن سبب هذه المذبحة كان رغبة الطليان في الانتقام من هزيمةٍ لحقت بهم على أيدي المجاهدين في زاوية المحجوب بقضاء مصراتة.

وواقع الأمر أن حُب الانتقام والتشفي من المسلمين كان يزداد لدى الطليان عامًا بعد آخر بقدْر إصرار المجاهدين على الكفاح وإلحاق الهزيمة بالعدو المُغتصِب، حتى إنه عند مجيء الماريشال بادوليو حاكمًا على برقة-طرابلس في عام ١٩٢٩م، كان الضغط على الليبيين قد بلغ أقصى حدودِه، مما جعل كثيرين منهم يُفضلون الموت «في أحضان الصحراء المُحرقة» على البقاء في ظلِّ حكومة تريد إفناءهم وإبادتهم. فبلغ عدد الليبيين الذين هاجروا إلى السودان الغربي الفرنسي، فرارًا من ظُلم الطليان وجورهم في مدة ستِّ سنوات فحسب، حوالي ربع مليون مُسلم. وقد حدث في عام ١٩٢٨م حادثان أليمان، دل أحدُهما — ولم يكن الأول من نوعه — على أنَّ الطليان ما كانوا يعرفون للأعراض قيمة، «فطالما هتكوا حرماتٍ وتجاوزوا على أعراض نساء شريفات.» وذلك بأن ثلاثةً من ضباطهم في قضاء جالو طلبوا ثلاث عربيَّات للاستمتاع بهنَّ «فتمكنوا من اغتصاب اثنتَين، وأما الثالثة فقد فرَّ بها أبوها.» ونجت من براثنهم. وأما الحادث الثاني فكان يدل على تفنُّن الطليان في ابتكار أساليب التنكيل بالأهلين المُسالمين، وتُلخَّص وقائع هذا الحادث في أنهم «ألقوا جماعة منهم الشيخ عبد الحسيب أبا عمران البرعصي والشيخ الكدن العبيدي وأحمد خليل السعيطي من طيارةٍ من علوِّ ٤٠٠ متر من المكان المعروف بجردس العبيد بالجبل الأخضر، وربطوا الشيخ مفتاح يحيى العبيدي وابن عمِّه صالح علي بين سيارتَين دفعوهما إلى اتجاهَين مختلفَين، فتقطَّعت أجسامهم إربًا إربًا أمام قبيلتهما المُستسلمة القاطنة بجوار المعسكر الفاشيستي في تاكنس.»

وعندما فشلت مساعي الطليان في استمالة السيد عمر المختار وبقية المجاهدين إلى التسليم للحكومة، نقض بادوليو العهد الذي قطعَه على نفسه في اجتماع سيدي رحومة، وأحضر الطليان «جزار طرابلس» غرزياني صاحب السمعة السيئة لقيادة العمليات العسكرية، وبدأ الطليان صفحةً أخرى كانت من أسودِ الصفحات التي زخر بها تاريخ استعمارهم؛ ذلك أن غرزياني ما لبث حتى شمَّر عن ساعد الهمَّة والنشاط في تنفيذ خطة الإبادة والإفناء في أبشع صورها، فكانت أهم وسائله في تحقيق ذلك اثنتَين: إنشاء المحكمة العسكرية الخاصة أو المحكمة الطائرة، ثم حشد العرب في المُعتقلات التي تحوطها الأسلاك الشائكة. وكان إنشاء المحكمة الطائرة في أبريل ١٩٣٠م، وعقدت أول اجتماعاتها في المرج، وذلك لمحاكمة رجلَين من العرب اتُّهما بقتل أحد الطليان، ومحاكمة ثلاثة آخرين اتُّهموا «بالتستُّر» على المجاهدين، فأصدرت المحكمة حُكمها بإعدام الجميع ونُفذ الحُكم في الرجلَين الأوَّلين، وأما الثلاثة فقد استُبدل بهذا الحكم السجن مدة ثلاثين عامًا، وذلك — على حدِّ قول غرزياني — لأن هذه كانت أول محاكمةٍ من نوعها. وفي اليوم التالي أصدر غرزياني منشورًا وجَّهه إلى مشائخ ورؤساء برقة، يذكر فيه ما حدث ويُنذرهم بأن الحكومة سوف تعتبر المُضالعة مع المجاهدين والتستُّر عليهم خيانة للدولة، نصيب مرتكبيها الإعدام، و«أن استبدال السجن بالإعدام في هذه الدفعة لم يكن إلا منًّا من الحكومة وكرمًا فحسب.» أما وقد أُنذِر الأهلون فإن أحكام الإعدام سوف تُنفذ في التوِّ والساعة. وقد سوغ رئيس هذه المحكمة الجنرال أوليفيري إنشاءها عندما خطب في حضور ليسونا وكيل المستعمرات الإيطالي عند زيارته للبلاد في يونيو ١٩٣١م، فقال إن هناك صِلةً قوية تربط بين «الثوار» وبين الأهلين الذين خضعوا لسلطان الحكومة، وأن المشايخ والرؤساء في المناطق الخاضعة للحكومة ما زالوا يمدُّون المجاهدين بالأموال، فيُرسلون إليهم العشور — أموال الزكاة — من المُرتبات التي كانت تدفعها لهم الحكومة. ثم هم، فضلًا عن ذلك، يستخدمون ما لديهم من نفوذٍ بين الأهلين في مصلحة المجاهدين، بينما يتظاهرون أمام الطليان بالولاء للحكومة. وزيادةً على ذلك فإن هؤلاء المشائخ والرؤساء كانوا يحثون العرب في المناطق الخاضعة للطليان على الانخراط في سلك الجُندية، وذلك حتى يستطيعوا إمداد «الثوار» بالسلاح والذخيرة وبعض المال الذي يقتطعونه من مُرتباتهم، بل إنهم كثيرًا ما كانوا ينضمُّون بأسلحتهم ومُؤَنهم إلى المجاهدين عندما يأتيهم الأمر بذلك. وكان مما زاد الطين بلةً أن القوات الإيطالية التي تخرج للاشتباك مع «العدو» كثيرًا ما كانت تجِد نفسها — على حدِّ قول أوليفيري — مُشتبكةً في مناوشات عدة من جراء الهجوم على جناحَيها ومؤخرتها، وما كان يفعل ذلك سوى أولئك الأهالي الذين قدَّموا خضوعهم للحكومة. وكان بعد أن فرغ أوليفيري من خطبته أن اتُّخذت عدة تدابير من بينها إقرار المحكمة الطائرة على المُضي في خطتها من غير شفقةٍ أو رحمة، وكانت هذه المحكمة الخاصة تنتقل بالطائرة إلى المكان الذي يقع فيه «الحادث» حتى «تنزل العدالة من السماء!» على حدِّ قول غرزياني، فتعقد جلساتها في الهواء الطلق في الميادين العامة في المدن وعند النواجع. وكانت إجراءات المحاكمة والتنفيذ تتمُّ بسرعة عظيمة، فلا يُسمح للمُتهمين بالدفاع عن أنفسهم ولا تفحص المحكمة شهادة الشهود، بل يكفي مجرد الاتهام لاستصدار الحُكم بالإعدام على المُتهمين. وقد شهِد إحدى جلسات هذه المحاكمة الرحالة الدانمركي كنود هلمبيو الذي زار برقة في غضون عام ١٩٣٠م، فوصف إجراءات المحكمة الطائرة وأساليبها.

فقد وقع حادث في درنة في شهر مايو من عام ١٩٣٠م، مُلخصه أن رجال الشرطة الطليان «الكربنيري» اكتشف ذات يومٍ أن أربعةً من العرب المُقيمين في معسكرٍ أُعدَّ لهم خارج أسوار المدينة — وكان هؤلاء قد استسلموا للطليان، فنزعت السلطات سلاحهم — اكتشف أن هؤلاء العرب الأربعة قد أعطوا خبزًا وطباقًا إلى المجاهدين في الجبل خفية، فألقى القبض عليهم فورًا وأودع الأربعة السجن، وأثار القبض عليهم وسجنهم اهتمامًا عظيمًا في درنة، فذكر كثيرون كيف أن العرب في معسكرهم كانوا على وشك الموت والهلاك جوعًا لأن المجاهدين من جهة ظلُّوا يشنُّون الغارة عليهم بسبب تسليمهم، بينما منعهم الطليان من جهةٍ أخرى من الدفاع عن جِمالهم وأغنامهم بسبب منعهم من حمل الأسلحة. أما أكبر الأربعة الذين قبض عليهم الطليان فكان رجلًا مُسنًّا بلغ السبعين من عمره يعول زوجةً وتسعة أولاد، وكان الثاني يبلغ الأربعين وله ثلاثة أطفال صغار، أما الثالث فكان فاقدَ النطق والسمع، بينما كان الرابع شقيقًا للأول ولا زوجةَ له. وقُدمت مسألة هؤلاء الأربعة للفحص أمام المحكمة العرفية، فأحضرت الطائرة القاضي إلى درنة في الساعة الخامسة من بعد ظهر يوم ٢٩ مايو، وجرى فحص المُتهمين في جلسةٍ علنية حضرها كنود هلمبيو، وجرت المحاكمة باللغة الإيطالية، وعُهد بالترجمة إلى الأستالي علي الجربي، وكان الأستاذ علي أسعد الجربي قد انتهز فرصة زيارة الرحالة الدانمركي لبلاده فأمدَّه بمعلوماتٍ كثيرة تكشف عن حقيقة الاستعمار الإيطالي في ليبيا، ثم مكَّن كنود هلمبيو من أن يتَّصل في الخفاء بكثيرٍ من أبناء ليبيا الذين أُرغموا إرغامًا على خدمة الحكومة الإيطالية، وسيف القوة الغاشمة مُسلَّط على رءوسهم، فاستطاع الرحالة الدانمركي بفضل ذلك أن يرسم صورةً واضحة لفعل الطليان بالأقطار الليبية، وقد كلفت السلطات الحكومية عند وقوع حادث درنة الأستاذ علي الجربي بمُهمة نقل أسئلة المحكمة إلى اللغة العربية ونقل إجابة المُتهمين إلى الإيطالية.

وبمجيء المُتهمين الأربعة أمام المحكمة التي تألفت من رئيسها وبعض الضباط الطليان، بدأ القاضي بسؤال أكبر المُتهمين سنًّا، ويُدعى أحمد بن عبد القادر، طالبًا منه الاعتراف بإعطاء الخبز والطباق للمجاهدين، وعندما صمت المُتهم ولم يُجب، صرخ القاضي في وجهه ووخزَه أحد الشرطة في ظهره، فأجاب المُتهم بالإيجاب، وعندئذٍ قال القاضي: «حسنًا، يكفي هذا! المُتهم الثاني!» وفي أقل من لحظة كان القاضي قد حصل من المُتهم الثاني على إجابة تُشبه إجابة الأول، فتنحَّى جانبًا. ولمَّا كان المتهم الثالث أصمَّ أبكمَ، فقد تُرك دون سؤال، ثم جاء دور المُتهم الرابع وهو أصغر المتهمين سنًّا، ويُدعى «إدريس»، وتبدو عليه النجابة، فأعاد عليه القاضي نفس السؤال وطلب منه الاعتراف بجُرمه، ولكن إدريس رفض أن يفعل ذلك، ثم قال: «إن المجاهدين ولا شكَّ كانوا يأخذون أغنامنا إذا رفضنا إعطاءهم الخبز والطباق، وليس لدَينا ما نُدافع به عن أنفسنا، فكيف نستطيع إذن أن نمنعهم!» فلمَّا قال القاضي: «كان في وسعك أن تطلُب «الكربنيري» من درنة»، أجاب: «إن القرآن الكريم يمنع تسليم المُسلمين للمسيحيين.» فلم يأبه القاضي، بطبيعة الحال، بهذا الدفاع، وأصدر حُكمه على الفور بإعدام ثلاثة منهم بإطلاق الرصاص عليهم من وراء ظهورهم «كما يجِب أن يُعامل أولئك الذين يخونون إيطاليا.» على حدِّ قوله، وأطلق سراح الأبكم الأصم. ولمَّا سأل أحمد بن عبد القادر بواسطة الترجمان الأستاذ علي الجربي عما إذا كان مُستطاعًا أن يُخفَّف هذا الحكم رحمةً بأولاده التسعة قال القاضي: «لا تعرف المحكمة العرفية سوى أحد أمرَين، إما البراءة وإما الإعدام!» وعندئذٍ وُضعت الأغلال في أيدي الرجال الثلاثة، وأُركبوا سيارةً كبيرة سارت بهم في الطريق المؤدي إلى السجن، ولكن لم يلبث أن انقطع صوت مُحركها فجأة، فخيَّم على المكان سكوت عميق، حتى إذا انقضت خمس دقائق فقط دوَّى في الفضاء صوت أعيرةٍ نارية كثيرة أُطلقت جميعها في وقتٍ واحد، ثم أعقبها صوتُ طلقٍ ناري منفصل. فلما استفسر كنود هلمبيو عن السبب، أجابه عربي: «لقد تعوَّدنا يا سيدي سماع ذلك؛ لأن هؤلاء التعساء لا يموتون سريعًا عندما يُطلَق الرصاص على ظهورهم من الخلف؛ ولذلك يتقدَّم أحد الضباط للإجهاز على كلِّ من يبقى فيه رمق من الحياة بإطلاق رصاصة على رأسه.»

تلك كانت قصة المحكمة الطائرة التي ابتكرها شيطان غرزياني «جزار ليبيا». ويقول غرزياني، مُنشئها، إن هذه المحكمة فصلت في أربعمائة حادثٍ في المدة المُنقضية من وقت إنشائها في أبريل ١٩٣٠م إلى شهر مارس من العام التالي، أي في أثناء السنة الأولى فقط من حكم غرزياني في برقة، وكان عدد المُتهمين الذين اشتركوا في هذه الحوادث سبعمائة، لم تستطع الحكومة أن تقدِّم منهم للمحاكمة سوى ثمانيةٍ وأربعين وأربعمائة فحسب؛ لأن فريقًا من المُتهمين تمكنوا من الفرار، واضطرَّت الحكومة إلى حفظ الدعاوى المقامة ضد فريقٍ آخر منهم لأسباب شتَّى. وأصدرت المحكمة أحكامًا بالإعدام والسجن ضد خمسين ومائتَين منهم، ثم برَّأت الباقِين لعدم ثبوت أي شيءٍ ضدهم. ومع ذلك فإن غرزياني وغيره من الطليان لم يذكُروا شيئًا عن نشاط هذه المحكمة الطائرة في السنوات التالية، وكان الذي دفع غرزياني لإثبات هذه الإحصائية خلال عام ١٩٣٠-١٩٣١م محاولته أن يدفع عن نفسه تهمة سفك الدماء التي ألصقتها به الصُّحف في جميع أنحاء العالم العربي والإسلامي على وجه الخصوص، ثم في بعض البلدان الأوروبية.

على أن ما ارتكبه جزار ليبيا من فظائع تقشعرُّ من هولها الأبدان، عندما حشد العرب في معسكرات الاعتقال، كان يفوق كثيرًا تلك المجازر التي وقعت على أيدي قضاة المحكمة الطائرة وجلادِّيها؛ فقد تقدَّم كيف أن جمع العرب وحشدَهم في معسكرات الاعتقال كان أحد التدابير التي زعم غرزياني أنه لا مناصَ من اتخاذها، لمنع كل صِلةٍ بين الأهالي والمجاهدين بقيادة السيد عمر المختار في الجبل الأخضر. وكان القضاء على المقاومة في الجبل من المسائل التي شغلت تفكير غرزياني وعكَّرت عليه صفو حياته، فعقد العزم على اتباع كل طريقةٍ من أجل إخماد هذه المقاومة والقبض على السيد عمر المختار؛ من ذلك أنه وضع جائزةً مالية كبيرة لكلِّ من يأتيه بالمختار حيًّا أو ميتًا. وفي ١٨ مايو ١٩٣٠م أرسل منشورًا إلى دوائر الحكومة حتى تبذل قصارى جهدها في استمالة الأهالي وحضِّهم على مساعدة الحكومة والابتعاد عن مؤازرة المختار، بل وحملَهم على محاربة «الثورة» ذاتها. وفي ٢٢ مايو زار غرزياني الأبيار وجمع أعيانهم وخطب فيهم شارحًا سياسة الحكومة، ويُبلغهم عزمها على نزع الأسلحة، ويُحذرهم من الاتصال بالثوار؛ فنشرت جريدة «بريد برقة» هذه الخطبة، ووزعت منها ألوف النُّسَخ في أنحاء البلاد، وفي عدد آخر أذاعت «بريد برقة» خبر اجتماعٍ عقدَه غرزياني في «مكتبه»، تكلَّم في أثنائه عن تلك المرتبات الضخمة التي تدفعها الحكومة للأعيان دون أن يفعل هؤلاء شيئًا في نظير هذه المُرتبات التي يتقاضونها، والتي ربما كانت تزيد في بعض الأحيان على ما يتقاضاه غرزياني نفسه بوصفه نائب الوالي في برقة. وكان غرزياني يقصد بقوله هذا الشارف الغرياني، ثم أضاف: «وأما إذا أردتم أن تُقيموا البرهان على أنه في مقدوركم أن توقفوا الثورة، فالوسيلة الوحيدة لذلك هي أن تأتوا إليَّ قائلين إن عمر المختار قد حضر بعساكره أمام أبواب بنغازي يريد أن يُسلم نفسه للحكومة دون قيد أو شرط.» ثم ذكر غرزياني أنه عمد إلى جمع نواجع الأهالي حول المراكز حتى يقطع كلَّ اتصالٍ قد يحدث بينهم وبين الثوار. وأخذ غرزياني يصف أعمال العمران التي تمَّت في طرابلس نتيجةً لانتهاء المقاومة بها، ووعد بإرسال من يشاء من الحاضرين إلى طرابلس حتى يرَوا بأنفسهم ما تمَّ من هذه الأعمال العمرانية الباهرة بفضل استقرار السلام والهدوء في طرابلس. ومما يجدُر ذكره أن غرزياني ما لبث أن حقَّق وعدَه، فتألف وفد من البرقاويين يضم السيد عمر فخري المحيشي والدكتور علي نور الدين العنيزي والشيخ محمد بن مسعود والشارف الغرياني وجماعة آخرين، وقد سافر هذا الوفد إلى طرابلس، ولكن هذه الجهود لم تُسفر عن نتيجة. وعندئذٍ لم يجد غرزياني — على حدِّ قوله، وكما كتب بعد ذلك يُبرر فعلته الشنيعة — مناصًا من البدء في حشد العرب في المُعتقلات بصورةٍ جدية.

واستهل غرزياني عمله الوحشي بأن جمع «٨٩٦» أسرةً من قبيلة العبيد وحشدها بالقُرب من المرج، ثم جمع «١٤٠٠» أسرة من الدرسة حشدها بالقُرب من طلميثة، وجمع في منطقة درنة «٣٦٠٠» أسرة كانت تمتدُّ خيامها إلى ناحية المخبلي، وفعل مثل ذلك أيضًا في منطقة شحات. وفي شهر يونيو ١٩٣٠م كانت قد اتَّسعت دائرة هذه الأعمال، فحشد غرزياني جميع أهل الدفنة في عين الغزالة. وكان حشد العرب في عين الغزالة من المآسي التي لا يمحو ذكرها الزمن، فقد أنذرت الحكومة جميع الأهالي في برقة الشرقية بالاجتماع في عين الغزالة في خلال ثلاثة أيامٍ فقط، وأنذرت كل من يتخلف منهم بالشنق ومصادرة أمواله، «فنهضوا جميعًا والقوة تسوقُهم سوق الأنعام تارِكين أثاثهم وأمتعتهم وغلالهم، حتى إذا وصلوا إلى عين الغزالة حصرهم الطليان في أراضٍ ضيقة وطوقوهم بالأسلاك الشائكة، ثم جلدوهم بالسياط كل رجلٍ ثلاثين جلدة، وكل امرأةٍ وطفلٍ خمس عشرة جلدة، وأخذوا عليهم العهود بألا يخرجوا من نطاق الأسلاك الشائكة، وأنذروا من يفعل ذلك منهم بالقتل رميًا بالرصاص؛ فهلكت النساء والأطفال من قلَّة الطعام. وفضلًا عن ذلك فقد أمرت السلطات الرجال بالذهاب إلى مقر القيادة، فلمَّا حضروا احتجزتهم أمام الرشاشات بينما انطلق الجنود يفتِّشون «بيوتهم» ويرتكبون فيها الفظائع، فهتكوا أعراض الأبكار والثيبات، وتفنَّنوا في الفجور وفِعل المنكر والجور ما لا يخطر ببال.» وفي الوقت الذي حُشد فيه أهل دفنة في عين الغزالة، حشد الطليان العبيدات في درنة، والحاسة في شحات، والسلاطنة والعرفة والعبيد في المرج، والبراعصة في مراوة، والعواقير بين توكرة وسلوق وأهل الأبيار في منطقة الأبيار ذاتها والمغاربة في منطقة سرت، وامتدَّت مُعتقلاتهم من أجدابية ومرسى البريقة إلى العقيلة.»

ولما كان المجاهدون في منطقة فايد لا يزالون يُبدون من ضروب البسالة ما أثار حفيظة غرزياني، واعتقد جزار ليبيا أن الأهالي جميعًا «ومِن غير استثناء كانوا — على حدِّ قوله — يُعضِّدون عمر المختار كما اعتادوا أن يفعلوا دائمًا.» فقد قرَّر غرزياني في ٢٥ يونيو أن ينقل أهل الجبل الأخضر جميعًا إلى طلميثة وإلى الجهة الغربية منها. وعلى ذلك فقد تمَّ حشْد العواقير في منتصف يوليو داخل مربع من سلوق إلى قمينس، إلى زاوية الظيلمون إلى جردينة، وكانوا يبلُغون سبعة آلاف أسرة. ثم حشد أهل الجبل في مُعتقل يمتدُّ من طلميثة إلى سيدي خليفة، وأقام أهل النواجع بين شحات ودرنة في معتقلات منفصلة. أما أهل دفنة فقد حشدهم في عين الغزالة وعكرمة وطبرق، وظلَّ المغاربة في معتقلاتهم بين أجدابية والعقيلة. وفي آخر يوليو نقل غرزياني قبائل العبيدات إلى بوترابة أولًا ثم إلى المبنى بالقرب من توكر.» ولمَّا كان لا يزال غير مُقتنع بما فعل، ويرى اتخاذ تدابير أكثر صرامةً وشدةً، فقد قرَّر غرزياني أن ينقل معسكرات الاعتقال إلى الزاوية الغربية من منطقة سِرت. وفي أوائل أغسطس ١٩٣٠م بلغ عدد العائلات التي حوصرت من المغاربة بين العقيلة وأجدابية «٢٢٥٢» أسرة، ثم في سيدي أحمد المقرون «٢٨٦١» عائلة من البراعصة والدرسة، ثم بين سلوق وسواني تربة والأبيار، وبين بنغازي في دريانة «٧٤١٧» عائلة من العواقير والعبيد والعرفة، وبقي في عين الغزالة «١٢٣٣» عائلة، وفي الجبل بالقُرب من المرج «٥٣٨» عائلة من قبائل مختلفة. وحشد غرزياني في مرسى سوسة «أبولونيا» «١٣٥٤» عائلة من الحاسة، وفي درنة «١٤٣» عائلة. وقد أُحيطت كل هذه المعتقلات بالأسلاك الشائكة، وصارت تُوزع الأغذية على هؤلاء البؤساء بقدرٍ معلوم، ثم مُنعوا من استخدام المراعي إلا في نطاقٍ ضيِّق حول هذه المُعتقلات، كما مُنعوا من مغادرة المُعتقلات إلا «بتصاريح خاصة» وفي حالاتٍ استثنائية نادرة.

وفضلًا عن ذلك فقد أنشأ غرزياني معتقلًا خاصًّا في العقيلة ذاع صيتُه بفضل أعمال القسوة والإبادة والإفناء التي كانت تُرتكب به، أقامه غرزياني خصوصًا حتى يعتقل به أقارب «الثوار»، بدعوى أن هؤلاء كانوا أشدَّ ميلًا من غيرهم لمساعدة المجاهدين والتستُّر عليهم. ثم اتخذ غرزياني من معتقل العقيلة مركزًا تُجري فيه السلطات الحكومية توقيع العقوبات — من إعدامٍ ونفي وتشريد وجلد — على العرب الذين قد يرتكبون مُخالفات ما في المعتقلات الأخرى؛ ولذلك أُطلق على معتقل العقيلة اسم «معسكر العقوبات»، وإلى جانب ذلك كلِّه بادر غرزياني بإبعاد «الأعيان» الذين كان يشكُّ في إخلاصهم للحكومة ويعتقد فيهم المُضالعة مع «الثوار» أو عرقلة أعمال الحكومة في بنغازي، فنفاهم إلى جزيرة «أوستيكا»، وكان من بين هؤلاء المنفيِّين عمر باشا منصور الكخيا.

على أن المعتقلين على الرغم من صرامة الإجراءات المُتخذة ضدهم ظلُّوا يتحيَّنون الفرَص للإفلات من هذه السجون الرهيبة والانضمام إلى المجاهدين في الجبل الأخضر، فاستطاع عدد من قبائل العبيدات والدرسة والعواقير والبراعصة والمغاربة والحاسة أن يفرُّوا إلى دور المجاهدين في الجبل، وهدَّد غرزياني المُعتقلين على أثر ذلك بتوقيع العقوبة على عائلات كلِّ أولئك الذين يعمدون إلى الفرار من المُعتقلات وينضمُّون إلى أدوار المجاهدين. ولمَّا كانت المراعي المُخصَّصة لإبل وأغنام هؤلاء المُعتقلين ضيقة ولا يكفي ما بها من كلأ لتغذية الحيوانات، فقد نفق عدد عظيم من الإبل والأغنام، وخرجت قطعان أخرى تطلُب الكلأ في الجهات المجاورة، فأعطى ذلك الفرصة للمجاهدين حتى يعثروا عليها ويأخذوها إلى أدوارهم. وعندئذٍ استبدَّ الوهم بالجنرال غرزياني، فخيل إليه أن المُعتقلين إنما يتركون إبلَهم وأغنامهم عامِدين حتى يستولي عليها «الثوار»، وعدَّ هذا العمل ضربًا من المقاومة السلبية؛ ولذلك فقد أصدر منشورًا في ٧ أكتوبر ١٩٣٠م قال فيه إن غرَض المُعتقلين من ترك إبلهم وأغنامهم إنما هو دفع «العشر» أو مال الزكاة إلى المختار، وتوعَّد المُعتقلين، إذا هم لم يمنعوا إبلهم من طلَب المرعى خارج المناطق المُعينة لها، بأن تُمنع عنها الأغذية منعًا باتًّا حتى تُهلكهم المجاعة. وعندما ظلَّ جماعة من هؤلاء العرب الشجعان يتسلَّلون من المعسكرات للانضمام إلى المجاهدين أنزل غرزياني العقوبة الصارمة بعائلاتهم، مثال ذلك ما حدث من فرار خمسةٍ من قبيلة العبادلة البيض، فقد اقتصَّ غرزياني لذلك من القبيلة بأجمعها وعددُها ثمانون عائلة، فصادر مواشيهم ونقلهم إلى العقيلة، وأمعن غرزياني في أعمال الإبادة والإفناء، فهلك ألوف الأهلين الذين حُشدوا في هذه المعسكرات جوعًا، وانتشرت بينهم الأمراض الفتَّاكة، ونفقت إبلهم وماشيتهم ووهنت قوى الأحياء منهم بدرجةٍ خطيرة، «فارتفع صراخ هؤلاء وراجعوا الحكومة الإيطالية وشكَوا لها موتَ ذراريهم ونَفْقَ مواشيهم، فما زادها ذلك إلا مضاءً في عزيمها، ولكنها جاءت فأخذت منهم الرجال الذين في سنِّ البلوغ إلى الخامسة والأربعين وأدخلتهم في سلك الجندية.»

وقد كان لهذا الهلاك والفناء الذي نجم من حشد العرب في هذه المُعتقلات أعمق الأثر في تأليب شعور العالم الإسلامي وشعور العرب قاطبةً ضد إيطاليا. وفضلًا عن ذلك فقد انبرت الصحف في الدول الأجنبية التي كان من سياستها معارضة المبادئ الفاشيستية والديكتاتورية الإيطالية تحمِل على حكومة موسوليني وحكومة جزار ليبيا حملةً صادقة، واضطُر غرزياني إلى الدفاع عن نفسه، فكان دفاعه سقيمًا ملؤه الغرور والعجرفة، فقال إنه كان يسترشد بتلك المبادئ والتعاليم العظيمة التي اعتنقها عظماء الرومان القدماء أمثال قيصر وتاسيتوس وغيرهما، فضلًا عن مكيافللي الذي قال في كتابه المشهور إن الأمير يجب أن يضرِب صفحًا عما قد تجلِبه أعمال القسوة والصرامة من سُمعة سيئة، ما دام غرضُه من هذه الأعمال الوصول إلى جمع كلمة رعاياه وتوحيدهم وكسب ثقتِهم وإخلاصهم؛ لأن إنزال العقوبة الصارمة بعددٍ قليل من هؤلاء الرعايا إنما هو في واقع الأمر فِعل ينطوي على الرحمة والشفقة، إذ إن أخذ الناس باللِّين والشفقة المُتزايدة من شأنه المساعدة على انتشار الفوضى وكثرة وقوع حوادث القتل والسرقة. وعلاوةً على ذلك فقد اتخذ غرزياني — على حدِّ قوله — شعاره القاعدة التالية: «سلام المجموعة يجب أن يكون دائمًا القانون الأعلى.» وحيث إن بقاء البدو في نواجعهم وانتقالهم المُستمر من مكانٍ إلى آخر هو خطر دائم، فالواجب يقضي إذن بوضعهم تحت إشراف الحكومة. ولمَّا كانوا لا يستطيعون الاستقرار ومزاولة فنون الزراعة بنجاح، ثم بعد أن أقاموا الدليل بعد الدليل على أنهم أداة فساد في كل مكانٍ يحلُّون به، فقد أصبح من واجب الحكومة أن تعمل على ترحيلهم من الأراضي الخصبة بالجبل الأخضر، إلى المنطقة الواقعة عند حافة الصحراء، أي إلى منطقة المراعي، وإحكام الرقابة عليهم، وهذا بينما تعطي الحكومة أرض الجبل الغنية بخيراتها إلى ألوف الأيدي الإيطالية العاملة، التي تنتظر بفارغ الصبر العودة إلى هذه المقاطعات الرومانية القديمة وتعميرها.

ذلك كان دفاع غرزياني عن نفسه. ومما يجدُر ملاحظته أنه اتخذ من محاولة «تعمير» الأرض وتهيئة السبل «للمعمِّرين» الطليان حتى يستقروا بالجبل الأخضر ذريعةً لارتكاب الجرائم، التي أعطته لقب «جزار ليبيا» عن استحقاق وجدارة. فإن هذا «التعمير» ذاته كان كارثةً كبرى حلَّت بالليبيين سوف يأتي ذكرها مفصلًا بعد هنيهة. وفضلًا عن ذلك، فإن غرزياني نفسه لم يفعل شيئًا يستحقُّ الذكر في هذه الناحية، فسار «التعمير» بخُطًى مُتثاقلة في عهده، والسبب في ذلك أن كل ما كان يشغله في الحقيقة هو القضاء على «الثورة» والعمل على إبادة الليبيين وإفنائهم؛ ولذلك فإنه كثيرًا ما صار يستند في كل ما يُقدمه من حُجَجٍ لتبرير أفعاله الشنيعة إلى رغبته في منع الاتصال بين الأهالي والمجاهدين في الجبل بقيادة السيد عمر المختار، فذكر هذا السبب الواهي في جميع خطاباته. وكانت هذه الحُجة العقيمة مثار احتجاجٍ عنيف من جانب كل أولئك الأحرار الذين أقضَّ مضاجعهم رؤية شعب بأكملِه يفنى في المُعتقلات من غير ما شفقةٍ أو رحمة.

ولا ريب في أن منع الاتصال بين الأهالي والمجاهدين كان من المزاعم التي لا يُقصد بها سوى التضليل فحسب، وصفها المرحوم الأمير شكيب أرسلان بأنها «كلام فارغ لا يقبله عقل ولا عدل؛ إذ كيف تُقدِم الحكومة على نقل ٨٠ ألف نسمة من مساقط رءوسها خشية أن يتَّصلوا بخمسمائة ثائر لا غير؟ ثم إن الطليان تغلَّبوا على الثوار المذكورين وقبضوا على قائدهم عمر المختار الذي ما فتئ يُجاهدهم من عشرين سنة، وشنقوه بمحضر جمٍّ غفير من أبناء جلدته، فمضى إلى ربه شهيدًا، وبكاه العالم الإسلامي بأجمعه، وانطفأت الثورة من كل برقة. ومع هذا لم ترضَ الحكومة الإيطالية أن تُعيد هؤلاء إلى بيوتهم وأوطانهم، بل انتخبت من بقاياهم أربعة أو خمسة آلاف وأرجعتهم إلى الجبل الأخضر يحرثون ويزرعون، لا كمالِكين بل كعَمَلة في الأملاك التي نزعتها الحكومة الإيطالية منهم وسلَّمتها إلى المُستعمرين الطليان.» وقال عبد الرحمن عزام — ولم يَفتُر العزام لحظةً عن مراقبة الحوادث في ليبيا: «إن الناس يبحثون عن أخبار الأندلس وكيف أجرى الإسبانيول بالمسلمين هناك، وما لهم وللأندلس ولأمورٍ جرَت في القرون الوسطى، فأمام أعينهم طرابلس الغرب، فليذهبوا ويُشاهدوا بأعيُنهم في هذه الأيام فظائع لا تقلُّ عما جرى بالأندلس.»

ووصف مراسل جريدة ألمانية مشاهداته بعد زيارة معسكرات الاعتقال في برقة، فقال: «إن الانتقادات التي يُوجهها الآن الفرنسيس والإنجليز إلى خطة الفاشيست في برقة، موجهةٌ في الدرجة الأولى إلى التدابير التي اتخذها الجنرال غرزياني لإجلاء ٨٠٠ ألف بدوي عن أراضيهم، وحشدهم على شاطئ سرت، حيث مدَّ الطليان أسلاكًا شائكةً حول خيامهم دون أن يُراعوا حالة هؤلاء البدو الروحية أو يُلاحظوا تأثير مثل هذا القيد والحصار فيهم … ولا يجوز لأحدٍ أن يخرج من نطاق الحصار إلا في النهار بشرط أن يرجع إلى مكانه قبل أن يُخيم الظلام، وكل واحدٍ من رؤساء القبائل والمُنفذين مسئول عن أتباعه فردًا فردًا … إننا لا نريد أن نبحث هنا فيما إذا كان يَحقُّ مبدئيًّا لحكومة أوروبية أن تستولي بالقوة على بلادٍ شرقية لا تربطها بها أية رابطة، وفيما إذا كان يجوز لها أن تسعى — على زعمِها — في تمدين السكان رغم إرادتهم وكراهتهم لهذه المدنية. إننا مُرغمون على الاكتفاء بذكر الأرقام التي تُعلنها السلطات الإيطالية نفسها، ومع ذلك يجب أن نقول إن الحالة سيئة للغاية تفوق كل تصوُّر؛ فإن معدل الأموات من الأطفال يبلغ ٩٠٪ وأمراض العيون التي ينتهي أكثرها بالعمى كثيرة جدًّا ومنتشرة انتشارًا هائلًا، ويكاد لا ينجو أحد مِن الأمراض. أما غذاء هؤلاء المساكين فالأحسن ألا نتكلَّم عنه بالمرة. ومن الطبيعي أن نرى هؤلاء يتألمون أشدَّ الألم وفي الدرجة الأولى من هذه الأسلاك الشائكة رمز الأسر، ورغم تلاصق الخيام وشدة تقارُبها ببعضها فإن حصرها ضِمن أسلاك شائكة يجب أن يُعتبَر من المُتناقضات الغريبة التي لا يتصوَّرها العقل؛ إذ لا يجوز قطعًا الجمع بين الخيام الحرة وبين الأسلاك الشائكة، لكن الطليان يختلف نظرُهم هنا عن غيرهم، فإنما هم يرمون إلى الاستيلاء على هذه البلاد وإخضاعها لا إلى التفكير في صالح أهلها.»

وليتَ خطة الإفناء والإبادة التي جرى عليها الطليان اقتصرت على حشر العرب في معتقلات الموت هذه، ولكن غرزياني صاحب المحكمة الطائرة العُرفية لم يشأ أن يترك هؤلاء البؤساء وشأنهم، فقد نزلت محكمته على الأهلين الذين حُشروا في عين الغزالة ذات مرة، وحكمت فورًا على ستةِ أشخاص بالإعدام وعشرين آخرين بالسجن، وكانت أقلُّ مدةٍ حكمَت بها عشرين عامًا. وفي أثناء حشر العرب في المعتقلات ألحق غرزياني وأعوانه بزعمائهم وشيوخهم صنوف الإهانات البالِغة، فزجُّوا بهم في أعماق السجون وقتلوا من وجهائهم رجلًا يُدعى الشيخ سعيد البرقاوي مع خمسة عشر شيخًا شرَّ قتلة؛ ذلك بأن ألقَوا بهم جميعًا من الطيارات من علوٍّ شاهق على مشهدٍ من أهلهم، فكان «كلما هوى منهم شخصٌ صفق الضباط والجنود ساخِرين مُنادين: فليأتِ نبيُّكم محمد البدوي الذي أغراكم بالجهاد ويُنقذكم من أيدينا.»

وقد نال الطليان ولا شكَّ بُغيتهم بفضل هذه الأساليب الجهنمية، فنقص عدد أهل البلاد في القُطر الليبي نقصًا فاحشًا؛ فقال غرزياني في محاضرةٍ ألقاها في ٢٣ نوفمبر ١٩٣٠م: «أُتيح لنا بواسطة حشد القبائل في مناطق مُعينة القيام بإحصاء دقيق لسكان برقة، فبلغ ١٧٩٠٧٢ نسمة، فإذا أضفْنا إلى هذا العدد ٥٠٠ ألف نسمة تعداد طرابلس، يبلغ الجميع ٦٧٩٠٧٢ نسمة.» ولمَّا كان معروفًا أن عدد سكان ليبيا قبل الاحتلال الإيطالي في عام ١٩١١م بلغ خمسمائة ألف ومليون نسمة، فيكون النقص قد بلغ ٨٢٠٩٢٨ نسمة، وإذا استنزلنا من ذلك ٢٥٠ ألفًا اضطروا إلى الهجرة من ليبيا إلى السودان الفرنسي، يكون مَن فتك الطليان بهم ٥٧٠٩٢٨ نسمة. وأما كيف استطاع الطليان أن يفتكوا بهذا العدد الضخم في مدة العشرين عامًا التي قضَوها في هذه البلاد لغاية عام ١٩٣٠م، ثم أولئك الذين أفنوهم فيما بعد، فمِن الميسور معرفته من مراجعة أمثلة الإبادة والإفناء السالفة، ثم تلك التي لا مندوحة من ذِكرها عند تسجيل فظائع الطليان في المدة التالية.

فقد استطاع غرزياني بعد حشد البرقاويين في المُعتقلات أن يُتم استعداده للزحف على واحة الكفرة، فسقطت هذه الواحة في قبضته في الظروف التي سبق ذكرها. وقد ظلَّ المجاهدون على قلَّتهم يُناضلون ضد الطليان حتى استُشهد منهم الكثيرون، ثم اضطُر الباقون بعد نفاد ذخيرتهم إلى الانسحاب من الكفرة، فكان انسحابهم وانسحاب بعض الأهالي المُسالمين الذين غادروا الكفرة فرارًا من ظلم الفاشيست بداية مأساةٍ مروعة؛ ذلك بأن الطيارات الإيطالية وهجَّانة الطليان ظلت تطارد هؤلاء المُنسحبين في جوف الصحراء مسافة مائتي كيلومتر تقريبًا، تفتِك بهم وتقتُل جِمالهم. وعندما دخل الطليان الكفرة في يناير ١٩٣١م لم يجدوا بها سوى الشيوخ والنساء والأطفال، أي أولئك الذين أقعدهم المرَض أو ضعف الشيخوخة أو العجز عن اللحاق بالمُنسحبين والخروج معهم. ومع ذلك فقد استباح الطليان قرى هذه الواحة ثلاثة أيام بطولِها «ارتكبوا خلالها ما لا تتصوَّره الأذهان من نهبٍ وسلب وتشنيع، وسبي نساء، وذبح شيوخ وأطفال، وإحراق دور ومزارع، وانتهاك حرمة المساجد، ودوس المصاحف.» وكان من بين الذين لقوا حتفهم في هذا الحادث المُروِّع جُملة من أفاضل الشيوخ وعلماء الدين السنوسيين، كالسيد محمد بن عمر الفضيل والشيخ محمد والفضيل الديفار وحميدة الفضيل ثم الشيخ مختار الغدامسي، وكان هرمًا مريضًا يبلُغ من العمر أرذلَه (٩٣ عامًا)، فحملوه مُقيدًا بالحبال على جمَل، فمات في الطريق، وكان من أجلِّ علماء السنوسيين المعروفين بالزهد والتقوى، وقد وصف أحد الذين شهدوا «معركة» الكفرة فظائع الطليان، فقال: «ودخلوا الكفرة التي لم يبقَ فيها إلا الشيوخ والعجز والنساء والأطفال، وانتشروا فيها وفي قرية التاج مُستبيحين كل حرمة، ونهبوا الأموال وذبحوا الشيوخ والأطفال ذبح الخراف، وفتكوا بالنساء فتكًا ترتعِد له الفرائص، وبقروا بطون الحوامل، وكان نصيب الكثيرات من النساء الموت الفظيع لدفاعهنَّ عن أعراضهن. وبالجُملة فقد هتكوا أعراض ٧٠ عائلة من عائلات السادة الأشراف، وجعلوا من الجوامع خمَّارات شربوا فيها الخمر، وكانوا يُجبرون النساء المُسلمات اللاتي أحضروهنَّ للفحش على شرب الخمر أو الموت شر ميتة، ونثروا جميع المصاحف والكتب الشرعية في زاوية التاج وداسوها وألقَوها في الاصطبلات تحت حوافر الخيل والبغال …»

ولعل أفظع ما فعله الطليان إلى جانب «دوس المصاحف» الكريمة كان اغتصاب النساء الأشراف. ويروي الأمير شكيب أرسلان قصة هذه الفعلة الشنيعة، فيقول: «وكان نحو من ٢٠٠ امرأة من نساء الأشراف قد فررنَ إلى الصحراء قبل وصول الجيش الإيطالي، فأرسلوا قوةً في أثرهنَّ فتأثَّروهنَّ حتى قبضوا عليهنَّ وسحبوهنَّ إلى الكفرة حيث خلا بهنَّ ضباط الجيش الطلياني واغتصبوهن، وهكذا أنزلوا المعرَّات بسبعين أسرةً شريفة من أشراف الكفرة الذين كانت الشمس تقريبًا لا ترى وجوههنَّ من الصون والعفاف. وقد أشارت الصحف الطليانية إلى هذه الحادثة وصرَّحت في باب الافتخار قائلةً: «إن الجيش قبض على ٢٠٠ امرأة من نساء الزعماء»، وقرأنا ذلك بأعيُننا، ولحظنا أن مقصود البلاغ العسكري الإيطالي التبجُّح بكَون حلائل زعماء الكفرة صرنَ إلى الضباط، إلا أننا انتظرنا جلاء الأخبار من الجهة الثانية حتى نعلم ماذا جرى بعد التثبُّت، فما مضى شهر حتى وردت الأخبار من المُهاجرين الذين دخلوا حدود مصر بأن هؤلاء السيدات المقصورات الناشئات في أكرم مهود الطهارة والصَّون قد قبضوا عليهنَّ في الصحراء وصرنَ إلى أولئك الفجرة الذين لا يعرفونَ لصيانة العرض معنًى ولا يُقيمون للشرف وزنًا، وعلِمنا أن بعض شيوخ الكفرة الذين احتجُّوا على هتك أعراض السيدات المذكورات قد أمر القائد بقتلِهم.» وفي مكانٍ آخر يقول الأمير شكيب أيضًا: «إن الإيطاليين قلبوا زاوية السادة السنوسية في الكفرة إلى دار فِسق وسُكر، وداسوا المصاحف الشريفة بالأرجل، وعندما كانوا يطبخون طعامهم كانوا يُوقدون المصاحف تحت القدور.»

وأما من نجا من مجازر الكفرة، فقد قصد بعضهم بلاد السودان واتجه البعض الآخر إلى سيوة والفرافرة والواحات الداخلة، «ووصل أحد اللاجئين إلى ناحية البلاط التابعة للواحات الداخلة في الأراضي المصرية، فحدَّث بما لاقاه في الصحراء من عناء، وقال إن كثيرين من إخوانه ماتوا جوعًا وعطشًا، كما أنَّ كثيرين منهم لا يزالون تائهين.» فاستطاع السيد عبد الرحمن الزهير مأمور الواحات وقتذاك أن يُنقذ من الموت خلال ستة أيام ٤٥٣ نسمة، ثم كان للمستر كلايتون مُفتش الصحاري في مصلحة المساحة المصرية في ذلك الحين فضلٌ كبير في إنقاذ ٣٧ مسلمًا من أهل واحة الكفرة ضلُّوا الطريق في الصحراء الغربية عند مهاجرتهم إلى مصر.

ومع أن إيطاليا أمام احتجاجات العالم الإسلامي قاطبةً على هذه الفظائع لدى عُصبة الأمم، ولدى موسوليني نفسه، حاولت أن تنفي الجرائم التي ارتكبتها في طرابلس وبرقة، ليس فقط في حادث الكفرة، بل وفي غيره من الحوادث، فقد كان وصول هؤلاء اللاجئين إلى الواحات المصرية برهانًا ساطعًا على كذِب الطليان، ناهيك عن قسوتهم ووحشيتهم؛ كما قام دليل آخر على كذِبهم وإجرامهم عندما قذف البحر في ذلك الحين، وعلى مسافةٍ قليلة من مرسى مطروح، بأربع عشرة جثةً لمُسلمين من ليبيا أغرقوا في البحر مُكبَّلين بسلسلةٍ واحدة. ومع هذا وعلى الرغم من احتجاجات الأقطار الإسلامية والمظاهرات الكثيرة التي قامت في أهمِّ مُدنها والبرقيات التي بعث بها أبناؤها استنكارًا لهذه الفظائع واحتجاجًا عليها، فإن الحكومة الإيطالية لم تجِد ما تفعله حيال ذلك كله سوى الإصرار على المُضي في خطتها، فيقول «شونفيلد»: «وقد أصبح الجنرال (ثم الماريشال) رودلف غرزياني الخادم المطيع لأسياده الفاشيست، فأُطلقت يداه من أجل إخضاع البلاد، وهو عمل كان يتَّفق تمامًا مع ميولِه، وهكذا شرع يحتل أرض ليبيا شبرًا شبرًا، سالكًا في ذلك أقسى الطرق الوحشية وأمعنها بُعدًا عن الإنسانية. وقد استغرق ذلك عشرة أعوام.

وفي عام ١٩٢٨م كانت المقاومة في كل طرابلس قد أُخمدت، بما في ذلك الفزان والواحات الشرقية، وأخيرًا قُضي على المقاومة السنوسية في برقة. وفي أثناء هذا النضال استحقَّ غرزياني عن جدارة لقب «الوباء» أو الطاعون، ذلك بأنه ظلَّ شهورًا طويلةً يُعدم حوالي ثلاثين نسمة يوميًّا. وأما العرب الذين كانوا يُحاولون الفرار، فقد كان نصيبهم أن يُلقَوا من الطائرات حتى يتحطَّموا على الصخور، وفضلًا عن ذلك فقد سدَّت الآبار بالأسمنت في هذه الصحاري المُحرقة، وهلك نصف سكان برقة الوطنيين تقريبًا، وحُشر ثمانون ألفًا منهم مع مواشيهم في صحراء سِرت القاحلة. وبين عامي ١٩٢٦م و١٩٣٣م نقص عدد الأغنام من ٨٠٠٠٠٠ إلى ٩٨٠٠٠ وعدد الجِمال من ٧٥٠٠٠ إلى ٢٦٠٠ والماعز من ٧٠٠٠٠ إلى ٢٥٠٠٠ والحمير من ٩٠٠٠ إلى ٥٠٠٠ والأبقار من ١٠٠٠٠ إلى ٨٧٠٠ والخيول من ١٤٠٠٠ إلى ١٠٠٠. ويقول غرزياني إن الفرد الواحد من العدو إذا حصل على العفو عنه والصفح عن فِعاله فإنه يُصبح بذلك أشدَّ خطرًا (على الحكومة) من ألفٍ من الأعداء (السافرين). وكان من أسباب الرحمة حقًّا ومن حظ الأهالي أن انتهى عهد غرزياني بمجرد انتهاء المقاومة وإخمادها، فأرسل بدلًا منه ماريشال الجو إيتالو بالبو حاكمًا في عام ١٩٣٤م.» وقد وقع على كاهل بالبو تنفيذ الشطر الثاني من برنامج إبادة الليبيين وإفنائهم، ونعني بذلك اغتصاب الأرض منهم وإعطاءها للمُعمِّرين الطليان، وترْك أصحاب الأرض الحقيقيِّين وأبناء البلاد يتضوَّرون جوعًا هائمين على وجوههم في الشوارع أو يخدمون، إذا شاءوا البقاء على قيد الحياة، هؤلاء المُعمرين خدمًا وعبيدًا لهم.

والحقيقة أن خطة الإبادة والإفناء التي اتَّبعها الطليان في ليبيا كانت ذات صِلة وثيقة بالغاية الكبرى التي سعى هؤلاء بكل حزمٍ وجدٍّ من أجل تحقيقها، وهي تحويل هذه البلاد إلى أقطارٍ لاتينية «لحمًا ودمًا»، على أساس استقدام ملايين الطليان لاستعمارها والإقامة بها. ولمَّا كان لا مناص من أن يمتلك هؤلاء المعمرون — كما أسموهم — الأرض الصالحة لسُكناهم حتى يستطيعوا استغلالها واستثمارها، فقد دأبت الحكومة الإيطالية من أول الأمر على استصفاء أملاك وأموال العرب الذين أعملَت فيهم السيف والمدفع، وارتكبت معهم شتَّى ضروب الغدر والنذالة لإبادتهم وإفنائهم والاستيلاء عنوةً على أرضهم. وتحتل مسألة «اغتصاب الأراضي» هذه مكانًا هامًّا في تاريخ الاستعمار الإيطالي في ليبيا، وعلى الخصوص في أثناء الحُكم الفاشيستي.

وكانت أساليب الطليان في انتزاع الأرض من الأهالي واحدةً في كلٍّ من طرابلس وبرقة، وقوامها انتقاء الأراضي الجيدة الخصبة والتي تصلح لإقامة «المعمرين» بها، ثم التذرُّع بشتَّى الوسائل لطرد أصحابها منها والاستحواذ عليها. وعلى ذلك فإنه لمَّا كانت المنطقة الساحلية في برقة وطرابلس — أي تلك التي تمتدُّ حوالي ١٨٠٠ كيلومترًا من حدود مصر إلى حدود تونس، وتتفاوت مسافتها من الشمال إلى الجنوب بين مائتَين وعشرين كيلومترًا — أخصب مناطق القُطر الليبي وأكثرها عمرانًا، وتمتاز كثيرًا عن المنطقتَين الباقيتَين، أي منطقة الجبل بين جبل نفوسة أو الجبل الغربي وغدامس وجالو، ثم منطقة فزان أو مرزق المُمتدة من حدود الجزائر إلى حدود السودان المصري، فقد عمدت إيطاليا إلى انتزاع أراضي هذه المنطقة الساحلية واغتصابها من أصحابها دون أن تدفع مقابل ذلك ثمنًا، وإذا فعلت في الحالات القليلة النادرة دفعت لها أثمانًا ضئيلةً جدًّا، ثم صارت تُعطيها للمعمرين الطليان. وعندما نقضت إيطاليا عهودها واستأنفت الحرب بعد الانقلاب الفاشيستي، صادرت الحكومة جميع ممتلكات العرب الذين اشتركوا في الجهاد، فاستولت على ما كان في حوزتهم «من دور ونخيل وأثاثٍ وأموال في البنوك ودكاكين في الأسواق وكل ما يُنسَب إلى الإنسان.» وهذا عدا الأرض، بدعوى «أنهم اشتركوا في السياسة ضد الحكومة.» وقد أشرف على استغلال هذه الأملاك المصادرة «بنك التوفير»، ثم أرصدت الأموال الناجمة من استغلالها لمساعدة المُعمرين الطليان.

بيد أنه لمَّا كان بعض هذه الأملاك قليل القيمة ويُكلف الحكومة لاستغلالها نفقاتٍ تزيد كثيرًا على ما يمكن أن تُحصِّله هذه منها، فقد وجدت الحكومة بعد مدةٍ من الزمن أن تُرجع جزءًا من هذه الأملاك (الخاسرة) إلى أصحابها الذين كانوا لا يزالون على قيد الحياة واستطاعوا الحضور لاستلامها. وفي يناير ١٩٣٨م أعلنت الحكومة استعدادها لبيع قسمٍ آخر من هذه الأملاك إلى أصحابها، وكانت هذه ذات غلَّةِ متوسطة، وخشِيَت الحكومة أن تعجز غلَّتها عن تغطية ما يُنفق عليها من جهد ومال، فرأت أن تبيعها إلى أصحابها بأثمانٍ مخفضة تخلُّصًا منها من جهةٍ ثم ترغيبًا للمهاجرين في العودة إلى طرابلس من جهةٍ أخرى؛ وذلك حتى تُجند الحكومة من أهل ليبيا تلك الجيوش التي أخذت تُرسلها إلى ميادين القتال في الحبشة وإسبانيا. وبالفعل شكلت الحكومة لجنةً لتقدير قيمة هذه الأملاك وباعتها إلى أصحابها إذا حضروا أو إلى أقربائهم أو إلى آخرين إذا تعذَّر العثور على صاحب العقار أو الأرض أو العثور على قريبٍ له. وأما الأملاك ذات الريع الكبير كالعقارات التي في المدن والأسواق والبساتين الكبيرة فقد أصبحت هذه من أملاك الدولة ولا يمكن ردُّها بحال، وباعت الحكومة جزءًا من هذه الأملاك لحساب خزانتها واحتفظت بأكثرها.

وفي برقة استولى الطليان على جميع الأراضي في منطقة برقة الحمراء. وتبتدئ هذه المنطقة عند شطوط مدينة بنغازي في الشمال وتنتهي في الجنوب وراء المرج، ثم تمتدُّ صوب الشرق فتشمل الجبل الأخضر بأجمعه إلى ما وراء مدينة درنة «وهي أخصب أرض الله في الدنيا، وقد أفاض عليها الجبل الأخضر من أنهاره وعيونه ما جعلها جنة، وكلها مملوكة لأربابها، فانتزعتها إيطاليا كلها ولم تُبقِ منها شبرًا واحدًا لعربي، وأقامت فيها قرًى كثيرة لإسكان العائلات الإيطالية.» وأما برقة البيضاء، وهي منطقة أجدابية التي تمتدُّ إلى الوادي الفارغ جنوبًا وإلى المرج شرقًا وإلى شاطئ البحر الأبيض شمالًا، فقد أبقاها الطليان لمن بقِيَ من البادية؛ لأنها أرض ضعيفة قليلة المياه، لا تكفي لرعي حيوانات أهل البادية وزراعتهم، وتعتمِد على المطر فحسب في زراعتها.

ونبتت فكرة الاستيلاء على الأرض على هذه الصورة الواسعة منذُ عام ١٩٢٣م، أي منذ أن أصبح الفاشيست أصحاب الحُكم والسلطان في إيطاليا. وابتكرت الحكومة عدة وسائل لاغتصاب الأرض وتمليكها للمُستعمرين، وخاصةً أنها أخذت منذ عام ١٩٢٤م تدعو أصحاب الأراضي الخصبة إلى زرعها وفق «الأصول الحديثة»، ثم تُحدد لهم زمنًا وجيزًا لا يكفي لإنجاز ذلك لعدم خبرة الأهالي بطرُق الزراعة الحديثة، ولانعدام الوسائل التي تُمكنهم من زرعها في الأجل المُحدد؛ وعلى ذلك فإنه بمجرد انقضاء المُهلة المُعطاة لهم دون أن يفعلوا شيئًا مما طُلب منهم أسرعت الحكومة فوضعت يدَها على تلك الأراضي بعد أن تُقدِّر لها قيمة زهيدة لا تزيد على ١٢٠٠ فرنكًا لكل مائة هكتار، ثم تودع هذا الثمن الضئيل في «البنك» وتدعو أصحاب الأراضي إلى تسلُّمه منه في مدة مُعينة وإلا خسِروه. وقد بلغ ما اغتصبه الطليان بفضل هذه الطريقة في عام ١٩٢٤م فحسب ٤٢٠ هكتارًا من أخصب الأراضي وأجودها. ومن أمثلة ذلك أيضًا ما فعلوه مع قبائل التوائل وخويلد والسعيفات في قضاء زوارة؛ فقد اغتصبوا من كل هؤلاء الأراضي الخصبة والبساتين الكبيرة وسلَّموها إلى المعمرين الطليان بعد أن أرغموا أصحابها على تركِها والجلاء إلى البادية. وفي عام ١٩٢٩م انتزعت الحكومة من الأهالي ٢٠٠ ألف هكتار من الأراضي دون أي مقابل، فأعطت منها مائة ألف للمُعمرين، ثم أوعزت إلى الطليان المُقيمين بالأرجنتين في أمريكا الجنوبية أن يَبيعوا أراضيهم هناك وأن يحضروا إلى ليبيا فتُعطيهم الحكومة بدلًا منها أرضًا جيدةً دون أي مقابل. وفي العام التالي أغلقت الحكومة جميع الزوايا السنوسية — وهذه يزيد عددها على المائة — وصادرت أوقافها، ثم اغتصبت جميع أراضي القبائل المُنتسبة إلى السنوسية، وهي قبائل الجبل الأخضر وبرقة العبيدات وفروعها البراعصة والحاسة والدرسة والعرفة والعبيد والفوايد والمُرابطين والعواقير والمغاربة، وهذا عدا مصادرة أراضٍ أخرى كثيرة. وقد بلغ عدد من صُودرت أراضيهم وأصبحت ملكًا للحكومة الإيطالية بموجب أمر ملكي، ٢٥٠ ألف نسمة. وفي عام ١٩٣٣م وزَّعت الحكومة ٢٦٠ ألف فدان على ٣٧٨ معمرًا إيطاليًّا على سبيل التجربة. فلمَّا نجح هؤلاء واستقروا في الأراضي المُغتصبة، نقلت الحكومة إلى طرابلس من إيطاليا الجنوبية ٣٤٠ أسرة. وقد توالى من ذلك الحين نقل الأسرات الإيطالية إلى طرابلس بانتظامٍ حتى بلغ عدد هذه الأسرات في عام ١٩٣٧م ثلاثةً وثلاثين وسبعمائة ألف أسرة يعيشون جميعًا في أملاك الليبيين وتحميهم الحكومة بأموالها وقوتها.

ونظم الإيطاليون طُرق استثمار هذه الأراضي المُغتصبة عندما وضعوا برنامجًا خاصًا لهذه الغاية، بعد أن أظهرت التجارب أن إعطاء المساحات الواسعة من الأرض إلى الأفراد أمرٌ قليل الفائدة. وثبت من حالات كثيرة أن مصير هؤلاء الأفراد كان الإفلاس لا محالةَ إذا أبطأت الحكومة في مدِّ يدِ المعونة المالية إليهم من «بنك التوفير» الذي أنشئوه من أموال العرب التي صادروها. وعلى ذلك فقد اضطُر الطليان إلى العدول عن هذه الطريقة، وعمدوا بدلًا من ذلك إلى تقسيم الأرض قِطعًا صغيرةً، تُعطى كل قطعة منها إلى أسرةٍ إيطالية، تمدُّها الحكومة بما يساعد على استغلال الأرض واستقرار الأسرة، كإعداد المسكن اللازم لإقامة المُعمرين وإمدادهم بالحيوان وآلات الزراعة وما إلى ذلك، على أن تكون هذه القطعة ملكًا للأسرة المُعمرة بعد عشرين سنة لقاء شروطٍ مُعينة بالاتفاق مع الحكومة، فتضمن الحكومة ربحًا مزدوجًا «تعمير الأرض وتكثير الجنس الإيطالي». ولتنفيذ هذا البرنامج إذن أنشأ الطليان إدارتيَن أو منظمتَين عظيمتَين: مؤسسة تعمير ليبيا ومؤسسة الإسعاف الاجتماعي، ثم قرَّروا تعمير سبعين ألف هكتارٍ من الأراضي، نصفها في طرابلس والنصف الآخر في برقة، وقسَّموا هذه المساحة الشاسعة إلى ثلاثة آلاف قِطعة تستقرُّ في كلٍّ منها أسرة إيطالية.

وقد حدث عندما زار عمانويل الثالث ملك إيطاليا طرابلس في غضون عام ١٩٣٨م أن عهد بالبو إلى يوسف خربيشة بأن يحمل أهل بلدتِه يفرن على تقديم هديةٍ للملك عند زيارته لهم، فقدَّم هؤلاء جوادًا مُسرجًا بسرجٍ عربي هدية للملك، ووقف إيتالو بالبو خطيبًا يشكُر لأهل يفرن صنيعهم «الذي يُقدره حق قدرِه هو والملك أيضًا.» فوعدهم وعدًا قاطعًا بأن الحكومة الإيطالية سوف تُكافئهم مكافأة عظيمة تقديرًا منها لإخلاصهم وولائهم، هي أنها سوف تستقدِم عشرة آلاف مُعمر إيطالي لاحتلال مركز يفرن! وكان بالبو يُبيِّت النية وقتذاك لاستقدام أكبر فوجٍ من هؤلاء المُعمرين عرفته ليبيا. وبالفعل بر بالبو بوعده، فأحضر الفوج الأول من هؤلاء المُعمرين في نوفمبر من السنة نفسها، وكان يتألَّف من ثمانمائة وألف عائلة، يبلغ عدد أفرادها عشرين ألف نسمة. ولم يكن مجيء هؤلاء في الحقيقة سوى تنفيذ لأحد التدابير التي اعتزم بالبو اتخاذها من أجل استقدام خمسة ملايين نسمة من فقراء الطليان، قررت الحكومة نقلهم إلى ليبيا، على أن يجري نقل ٢٥٠٠٠ إيطالي كل سنة، ويُخصص لهذه الغاية مائة مليون فرنك سنويًّا في ميزانية «وزارة أفريقية». وعند وصول هذا الفوج الأول وُزِّعت العائلات الإيطالية على مناطق الزاوية، ترهونة، ومصراتة عدا مناطق برقة، فأنشئت لهم في الزاوية ثلاث قُرًى هي: «بيانكي» و«أوليفيتي» و«جورداني»، وفي ترهونة قرية واحدة هي «بريفييري»، وفي مصراتة قريتان هما «كرسبي» و«جودا»، وفي برقة أربع قُرى هي «باراكا» و«أوبردان» و«دانونزيو» و«باتيستي»؛ وكانت كل قرية من هذه القرى تشتمل على عدة بيوتٍ وكنيسة ومدرسة ومكتب بريد. وتم توزيع الأراضي على هذه العائلات بنسبة عشرة هكتارات إلى خمسين هكتارًا للعائلة الواحدة، ولم تعُد هذه المناطق جزءًا من «المستعمرة» الليبية، شأنها في علاقاتها مع رومة شأن سائر البلاد البرقاوية الطرابلسية، بل إنه سرعان ما استصدرت الحكومة الإيطالية مرسومًا (في عام ١٩٣٨م) جعل من مقاطعات طرابلس ومصراتة وبنغازي ودرنة «شاطئًا رابعًا» من شواطئ إيطاليا. ومعنى ذلك أن يكون لهؤلاء المُعمِّرين الطليان في هذه المناطق نفس الحقوق التي يستمتع بها مواطنوهم في إيطاليا كأنهم يعيشون في شِبه الجزيرة الإيطالية ذاتها.

وأما اختيار هؤلاء المعمرين، فقد حدث بدقةٍ عسكرية متناهية، إذ تشكلت لجنة لفحص طلبات المُهاجرين، ثم وقع الاختيار على المُعمرين بعد أن فحصت اللجنة فحصًا طبيًّا ألوفًا عدة من الراغبين في الذهاب إلى ليبيا، واتخذت جميع الاستعدادات لنقلِهم من مواطنهم إلى الأماكن التي يجري ترحيلهم منها إلى ليبيا، وهي موانئ جنوى ونابولي وسيراكوزة بنظامٍ عسكري. وأوصى موسوليني نفسه هؤلاء المهاجرين بأشياء ثلاثة، هي أن يعتبِر كل فردٍ منهم نفسه جنديًّا خاضعًا لأوامره، وأن يذكُر دائمًا أن الدوتشي لا يُقهر أبدًا، وهو يقود الجميع إلى النصر أنى سار وحيثما وُجِد، وأن يعلم أن إرادة موسوليني ورغبته هي أن يعمل هؤلاء المُعمرون كي يجعلوا من صحراء ليبيا حديقةً زاهرة، وعليهم أن يُطيعوا أوامره. وقد جاء في كتاب «فجيعة العرب في طرابلس الغرب» تعليقًا على هذه الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الإيطالية في اختيار المُعمرين ما نصُّه: «وهكذا يُختار هؤلاء المهاجرون بدقة عسكرية، وبهذه الوصايا الثلاث يوصيهم موسوليني، إذن فالمسألة ليست مسألة تعمير طرابلس فحسب، بل ووجود قوة عسكرية في طرابلس أيضًا يعتمد عليها موسوليني لتهديد مصر وتونس. وهذا يؤيد ما نشرته الأهرام يوم ١٣ سبتمبر ١٩٣٨م، وهو أنه يوجَد بين العائلات الإيطالية في طرابلس عشرون ألفًا تتفاوت أعمارهم بين العشرين والسادسة والثلاثين مُستعدُّون للخدمة العسكرية، ويوافق أيضًا ما صرَّح به بالبو، وهو قوله: «إن توطين ألوف عديدة من الإيطاليين في هذه الأراضي بعد أن توفَّرت فيها المياه يُغير مشروع زعماء إيطاليا الحربيين الخاصِّ باستعدادهم للحروب المُقبلة.» إذن فالخطر الفاشستي الموجود في طرابلس الغرب لا يُهدد الطرابلسيين وحدَهم، وإنما يهدد مصر وتونس أيضًا.»

والحقيقة أن الحكومة الإيطالية كانت تبغي من وراء إبادة العرب وإفنائهم وجلب المُعمرين لاستثمار الأراضي التي اغتصبوها من أصحابها، ليس فقط إنشاء مقاطعة تكون لاتينيةً «لحمًا ودمًا» يسهل عليهم إدماجها في بنيان الإمبراطورية الرومانية التي أرادوا إحياءها، بل وإنشاء مَخفر من المخافر العسكرية الأمامية وقاعدة يُديرون منها أعمال الحرب والغزو المُنتظَر من أجل إعادة مجد هذه الإمبراطورية الرومانية ذاتها، وآية ذلك أنه ظهر مرارًا من الخطبة التي ألقاها موسوليني في مناسباتٍ شتَّى، ومن أقوال الصحف الإيطالية، أن الرغبة في امتلاك ليبيا كان منشؤها اعتقاد الفاشيست الجازم بأن «أفريقية قد ألقت إليهم وحدَهم بمقاليدها عن طريق طرابلس ذاتها.» ونشرت جريدة الأهرام برقية جاءتها من تونس في ١٨ يناير ١٩٣٩م، ذكر صاحبها أنه: «يؤخَذ من أقوال اللاجئين الطرابلسيين الذين وصلوا أخيرًا إلى تونس أن نجدةً من الإيطاليين وصلت من طرابلس في آخر ديسمبر الماضي (١٩٣٨م) وأوائل يناير الجاري، وقد وُزِّعت هذه النجدة على طول الحدود وأُرسِل بعضها إلى واحة نالوت».

وللمرء أن يتساءل الآن: وماذا كان نصيب أهل البلاد أنفسهم من الأرض التي كانوا يملكونها ويملكها أجدادهم من قبلهم؟

وللإجابة على هذا السؤال قد يكفي أن نُثبت ما ذكرته الأهرام كذلك في خبرٍ نشرَته في ١٥ يناير ١٩٣٩م فحواه: «أنه سجري تحقيق المشروع العظيم لزيادة عدد السكان في لوبيا وفي جزئه الأكبر من منطقة واسعة للإنتاج وبين القرى الزراعية الإسلامية الخمس التي ستُنشأ في غضون هذا العام، ستُنشأ واحدة ذات صبغة زراعية بين توكرة وطلميثة، واثنتان للمرعى من حيث تقوم الأولى في إقليم بنغازي والثانية في إقليم درنة.» وحتى هذا «المشروع العظيم» كان مصيره الفشل السريع. وفي عام ١٩٣٩م كان قد بلغ مقدار ما منحته الحكومة إلى المُعمرين الطليان مما استولت عليه من الأراضي ٦٢٢ ألف فدانٍ من الأراضي التي كانت مُستغلَّةً فعلًا، وهذا عدا تلك التي كانت ما تزال في طريق الإصلاح لاستقبال بقية من تقرَّر نقلُهم من المعمرين إلى ليبيا، وتقع هذه المساحة الهائلة كلها في منطقة الساحل. ومع ذلك فإن عدد الطليان القاطنين في هذه المنطقة الشاسعة كان في عام ١٩٣٩م لا يتجاوز ١٣٥ ألفًا.

وفي الوقت الذي اغتصب فيه الطليان الأرض حرموا أصحابها كذلك من جميع الحقوق التي يتمتَّع بها الفرد في بلدان العالم الأخرى؛ فلا مساواة ولا عدل ولا كرامة. وليس في ذلك ما يدعو إلى العجب إذا عرفنا أن الحكومة كانت تُطبق على الإيطالي القانون الروماني بينما تطبق القوانين الاستثنائية على أبناء البلاد العرب. ولم يغِب عنا كذلك أن إيطاليا نقضت جميع عهودها السابقة، فلم يكن هناك مجالس نيابية أو أي ضمانٍ لمبادئ العدل والمساواة الأوَّلية، فأصبح الحاكم العام أو الوالي الإيطالي مصدرَ السلطات في البلاد فيما يتعلَّق بالعرب وحدَهم، ثم قصرت الحكومة وظائفها على الطليان وأقصت الليبيين، ليس فقط من أعمال الحكومة، بل ومِن جميع المِهن والخدمات العامة، حتى إن «وظيفة كنس الشوارع وساعي البريد» كان يستأثر بها إيطاليون فقط، وتعذَّر على الليبي أن يُطالب بحقٍّ من الحقوق أو أن يدافع عن هذا الحق بنفسه عندما جعلت المرافعات أمام المحكمة باللغة الإيطالية، فلم يكن هناك أمَل ما في أن ينال عربي شيئًا من حقوقه إلا إذا أقام عنه مُحاميًا إيطاليًّا واستخدم «ترجمانًا» لينقل أقواله. وفضلًا عن ذلك فإن المحاكم ما كانت تنظر قط في قضية عربي قبل أن تفرغ من نظر قضايا الطليان أنفسهم. وامتُهن الليبيُّ في وطنه امتهانًا كبيرًا، فمنعته الحكومة من أن يجلس بزيِّه العربي في الأماكن المُخصصة للطليان بالدرجة الأولى في سيارات النقل، كما منعته من ارتياد الأندية والمقاهي التي قد يؤمُّها الطليان وهو بهذا الزيِّ أيضًا، أو زيارة دور التمثيل. ثم مُنع الليبي منعًا باتًّا من استخدام عربةٍ للركوب يتربع في دستها حوذي إيطالي، وكان لهذا التحريم أثرٌ دعا إلى الإشفاق والسخرية عندما ضجَّ أصحاب العربات والحوذيون الطليان وصاروا يتصايحون بالشكوى: «ما هذا الظلم الجائر؟» ويُطالبون الحكومة بإلغاء هذا التحريم الذي يسلبهم دراهم معدوداتٍ من كسب يومِهم الحلال، فأذعنت الحكومة واضطرَّت صاغرةً إلى إجابة رغبتهم. وقد كان غرض الحكومة من هذا ومن غيره إضعاف روح الليبيين المعنوية وإماتتها، حتى إذا ماتت في الشعب معنويته وتضعضع كيانه النفساني أضحت عمليات إفنائه وإبادته سهلةً هينة.

ومن وسائل الإمعان في إذلال العربي وإهانته: «أن الطرابلسي كان يُحكم عليه بالجلد ويُنادى في الناس بالحضور لمشاهدة تنفيذ الحُكم فيه، ويُطرَح في السوق وعلى قارعة الطريق، ويُجلد أمام هذا الجمع من الناس الذين جيء بهم لمشاهدة هذا المنظر الفظيع، ليُلقوا في روع الناس ما يُميت فيهم الشعور بالكرامة، وكذلك الحال إذا حُكم عليه بالإعدام، فلا يكون شنقُه إلا في وسط السوق بعد أن يُنادى في الناس بالحضور لمشاهدة التنفيذ. أما الإيطالي فلا يُحكَم عليه بالجلد مطلقًا، وفيما عدا ذلك يُعامل كما يُعامل الأفراد في الأمم الحرة؛ بالعدل والإنصاف.» وكذلك كان من ضروب إماتة الشعور بالكرامة ما اعتاد الطليان أن يفعلوه عند زيارة عظيمٍ من عظمائهم، إذ كانوا يحشرون الناس حشرًا لمُقابلته من كلِّ النواحي البعيدة والقريبة، ويجمعون للاحتفاء به «مشايخ الطرق بأعلامهم ودفوفهم ويأتون أيضًا ببعض النسوة للزغاريد، ويبقى الناس في طرقات المدينة وعلى أرصفة الشوارع يومَين أو ثلاثة.» وما كان هؤلاء يحضرون باختيارهم، وإنما يُرغمون على الحضور إرغامًا، فيُهددهم الطليان بالجلد بالسياط، وفرْض الغرامات الثقيلة عليهم إذا هم تخلَّفوا. وعلى هذا النحو استطاع الطليان عندما زار موسوليني طرابلس في مارس ١٩٣٧م أن يحشدوا لاستقباله أربعة آلاف فارس من العرب جيء بهم من كلِّ مكانٍ بكل قسوة وشدة، ثم فعلوا مثل ذلك أيضًا في أثناء زيارة ملك إيطاليا في العام التالي. وأما قصة زيارة موسوليني لطرابلس فقد كانت قصة طريفة حقًّا، وتحتل مكانًا بارزًا بين قصص هذا «البطل» ومسرحياته المُتعددة.

فقد عقد الليبيون الضالعون مع الحكومة آمالًا عظيمةً على زيارة «المُنقذ المُنتظَر للشعب المظلوم، وكان منشأ هذه الآمال أن الحكومة الإيطالية عند اشتباكها في حرب الحبشة (١٩٣٥-١٩٣٦م) كانت قد جنَّدت من الليبيين بضعة آلاف، لم يعُد منهم من ميادين القتال البعيدة سوى قليلين (بين صحيح مريض وعليل عاطل)، وسخا الطليان على عادتهم في وعودهم لأهل البلاد تمويهًا على الليبيين وتخديرًا لأعصابهم، حتى لا يُحدثوا أنفسهم بانتهاز فرصة انشغال إيطاليا بالحرب في الحبشة ثم انغماسها بعد ذلك في الحرب الأهلية بإسبانيا فيُعلنوا الثورة عليها في ليبيا، فقطعت على نفسها العهود «بإعادة الحرية ووضع قانون صالح وعفو عام، ورد الأملاك المُصادَرة، وإعادة إخوانهم الذين نُفوا إلى الخارج إلى ذويهم وأوطانهم.» وكان لهذه الوعود أثرها المطلوب، واستعدَّ كل أولئك الذين انتظروا تحقيقها لاستقبال موسوليني.

أما الدوتشي فقد وصل إلى سيدي بوغرارة قُرب طرابلس عن طريق طبرق في يوم ١٨ مارس ١٩٣٨م، ومن وقت نزوله إلى طرابلس بدأت المسرحية العجيبة، إذ امتطى موسوليني صهوةَ جوادٍ عربيٍّ أعدَّه إيتالو بالبو خصوصًا لهذه المناسبة، ووقف موسوليني بجواده على ربوةٍ تُشرف على الألوف العديدة التي أحضرتها الحكومة قسرًا لاستقباله. وعندئذٍ تقدَّم إليه يوسف خربيشة على رأس وفدٍ من الأعيان، فقدم إليه يوسف خربيشة سيفًا عربيًّا مرصَّعًا سمَّاه «سيف الإسلام»، فأخذه موسوليني ثم استلَّه من غمده «بقوة وعزَّة «وأخذ يهزُّه» مرارًا في الفضاء وهو يصيح: يا أولاد! مرددًا بذلك بأعلى صوتٍ الهتاف الطرابلسي المشهور في ساحات الوغى.» فردَّد الحاضرون هذا النداء ثلاثًا، وانتهى الحفل. ولم يذكُر موسوليني شيئًا بطبيعة الحال عن تلك العهود المعسولة. وفي ٢١ مارس كانت «قد أُعدت كومة من الرمل الأحمر الناصع خصوصًا للخطابة في ميدان السراية الحمراء.» بمدينة طرابلس، فاعتلى موسوليني بجواده العربي ربوة الخطابة «وخلفه الماريشال بالبو حاكم طرابلس العام والسنيور ليسونا وزير المُستعمرات، يتقدَّمه جنديان، يحمل كلٌّ منهما حزمة القضبان والفأس رمز حزب «الفاشيست»، وشعار هذا الرسول — أي موسوليني — الذي جاء ليطرد الاستعمار ويُحِلَّ محلَّه الحرية والإخاء والمساواة المطلقة: واستلَّ السيف من غمده ثم نادى الألوف الحاشدة المُنتظرة البشرى من أبناء العروبة المسلمين فقال: «يا مُسلمي طرابلس وليبيا، يا شبان الليتوريو، إن مولاي الجليل ذي الشوكة فيكتور عمانوئيل ملك إيطاليا وإمبراطور الحبشة أرسلني ثانيةً إليكم بعد إحدى عشرة سنة للتحقُّق من رُقي هذه الديار المرفرف عليها علَم إيطاليا المثلث الألوان، وللوقوف على ما تحتاجون إليه وإجابة رغباتكم المشروعة، إني إذ أتقبَّل هديتكم هذه (يُشير إلى السيف) لا بدَّ لي من أن أُبين لكم أنه قد استُهِل في تاريخ ليبيا عهد جديد؛ لقد برهنتم على إخلاصكم الشديد لإيطاليا، فلم تَحيدوا قطُّ عن النظام يوم كانت إيطاليا رهينَة حربٍ شعواء في بلاد بعيدة، وكان لكم نصيبٌ ثمين في إحراز الظفر بألوف المُتطوعة منكم.» إلى أن قال: «وستعلمون عن قريبٍ مما ستأتي به روما من القوانين مبلغ اهتمامها والسير بكم في طريق التحسين.» وختم خطبته بقوله ووعده الصريح: «إني كما تعلمون لستُ ممَّن يكثرون الوعود، على إني إذا وعدت وعدًا فلا بدَّ من إنجازه»، وفي يوم هذه الخطبة نفسه (٢١ مارس) غادر موسوليني طرابلس، وانتهت فصول المسرحية، وعادت الأمور سيرتها الأولى، وظلَّ الطليان يسلبون أموال الشعب الليبي ويُرهقونه بالقوانين الاستثنائية والأحكام الجائرة.

وكان بعد هذه الزيارة أن أخذت تترى القرارات بعضها إثر بعضٍ لتنفيذ تلك الخطة المرسومة التي وضعها الطليان لإبادة الليبيين وإفنائهم واغتصاب اموالهم ومُمتلكاتهم، وإلحاق الأذى بهم وإهانتهم في شعورهم وكرامتهم، فاستُبدلت «وزارة أفريقية الإيطالية» بوزارة المُستعمرات، ثم تقرَّر عدم عودة الأملاك التي صادرتها الحكومة من الزعماء والمجاهدين العرب إلى أصحابها، بل تقوم الحكومة بإنفاق ريعها على المشروعات العمرانية عن طريق البلديات في المدن «في صالح المُسلمين». وقد علق على هذا القرار أحد الكتاب الليبيين — وكان أحد أولئك الذين اطمأنُّوا طويلًا إلى وعود الطليان حتى زالت الغشاوة عن أعيُنهم — فقال: «وهذا القرار يكاد يكون سخريةً بالشعب وأهل البلاد — مشاريع عمرانية عن طريق البلديات من الأموال المُصادَرة؟ — يعني معنى هذا القرار أن الحكومة تمنع رجوع الوطنيين الذين في الخارج، وتسترد العفو المبتور الذي أعلنته من أجل الدعاية الجوفاء؛ لأن المهاجرين واللاجئين السياسيين هم أصحاب الأملاك المصادرة، وكثير من أمثال هؤلاء لا يزالون مُعتقلين من أجل السياسة إلى يومِنا هذا، رغم العفو الكاذب الذي يدَّعونه. ومن هؤلاء السجناء من تجاوز عمره السبعين عامًا، يوجَد قِسم مِنهم في «بورتا قرقارش» وقِسم في «بورتا بنيتو». وكثيرًا ما نرى حزب الاستعمار في طرابلس يكتم أمرهم وينقلهم من مكانٍ لآخر ويحرمهم الاستفادة من قوانين العفو لغايةٍ في النفس. ثم يُبلغ دومًا بأنه قد أخلى سبيل السجناء السياسيين؟ ومن هؤلاء المنكوبين جماعة في طرابلس من أصحاب الأملاك المصادرة، تراهم أموات أحياء بين الجوع والعراء. فالحكومة بحرمانهم من أملاكهم تحول دون رجوع من كان منهم في الخارج لبلادهم وتحكُم عليهم بالبقاء متشرِّدين، وإلا فكيف يرجعون وبماذا يعيشون؟ هي بكلمة واحدة قد عدلت عن كل الوعود، ونقضت العهد، فهي تَعِدُ ولكن لا تُوفي بوعد، ثم هي تنشر الدعايات الواسعة عن حسن معاملتها للطرابلسيين وتبحث عن العدالة والإنصاف تقريبًا للعالم الإسلامي لتجذب بذلك قلوب العرب في أنحاء الأرض؟ بينما هي تعمل للقضاء على تلك الأمة وتُسيء إليها بغصْب حريتها، ومصادرة أملاكها، وتشريد أفرادها، وإفساد أخلاقها وآدابها، وتهجير جماعاتها، وإسكان الإيطاليين في بيوت العرب ومزارعهم وتمليكهم كلَّ ما كان للعربي من مال وحيوان!»

وفي أوائل ديسمبر ١٩٣٨م قرَّر المجلس الفاشيستي الأعلى إصدار «قانون الجنسية»، ذلك القانون الذي اتخذه الطليان أداةً لجعْل الليبيين يتجنَّسون بالجنسية الإيطالية، وكان غرضُهم من ذلك القضاء على البقية الباقية من أبناء العرب، وكان هؤلاء لا يزيدون على نصف مليون نسمة بعد أن كانوا مليونًا ونصف مليون عند مجيء الطليان إلى بلادهم، فلا يبقى في ليبيا بفضل تنفيذ هذا القانون غير الطليان وحدَهم؛ ولذلك قد سعت حكومتهم سعيًا حثيثًا لإقناع العرب أو إرغامهم إرغامًا — إذا لم يقتنعوا — بقبول الجنسية الإيطالية. ثم بعثوا برسولٍ باباوي حتى يخطب في الأهلين خطبة طويلة يحضُّهم فيها على التجنُّس بالجنسية الإيطالية، وعمدت الحكومة إلى استخدام عدة وسائل لإعلان المزايا التي سوف يتمتَّع بها المتجنسون، وكانت تُلخَّص في ضمان الحرية الشخصية وعدم الاعتداء على حُرمة منازلهم وصَون أملاكهم، ثم المنافسة في الحصول على الوظائف المدنية في المستعمرات وممارسة الحرف والصناعات وحمل السلاح طبقًا للوائح الخاصة بالتجنيد، وحق الاشتراك في التشكيلات «الفاشيستية الإسلامية» — وكان الطليان قد أرغموا الليبيين على الانضمام إلى فرق «الباليلا» وغير «الباليلا» تمهيدًا لإرسالهم إلى ميادين القتال في الحبشة وإسبانيا — ثم حق الترقية في الرُّتَب العسكرية في الوحدات الليبية، والتمتُّع بمنصب العُمودية في الطوائف التي تتألَّف من سكَّان ليبيين، وملء مناصب شيخ البلد في الطوائف التي تتألف من خليطٍ من السكان، ثم تولي المناصب الإدارية في نقابات العمال، وحق الاشتراك في اللجان التعاونية في ليبيا والمجالس البلدية، إلى جانب تلك اللجان الخاصة بالتعاون الاقتصادي.

تلك كانت الحقوق التي وعد بها الطليان المُتجنِّسين بالجنسية الإيطالية، وقد قال المهاجرون الطرابلسيون في كتاب وثائقهم التي نشروها في عام ١٩٣٩م بعد أن سردوا كل هذه «المزايا»: «ولم يبقَ شكٌّ بعد هذا التصريح في أن مَن لم يتجنَّس فحُريته الشخصية غير مضمونة … وكذلك حرمة منزله غير مكفولة، وليس له حق في أن يتمتع بواحدةٍ من هذه المزايا العشر، وكذلك أملاكه غير مضمونة من الاعتداء عليها …» وواقع الأمر، فإنه لما كان نية الطليان الحقيقية هي إفناء العرب وإبادتهم، لم يعُد من المنتظر أن يبقى لقانون الجنسية أية قيمة، وبخاصة عندما تأثر الفاشيون بحلفائهم النازيين في ألمانيا، فأخذوا منهم أخيرًا مبدأ العنصرية، وشرعوا يُطبقون في إيطاليا وفي مستعمراتها «قانون حماية العنصرية»، وهو قانون على حدِّ ما جاء في تصريح وزير الخارجية الإيطالية في يناير١٩٣٩م كان يشمل (أولًا) الطليان الذين يقطنون المملكة، أي أولئك الذين يُعَدون من الشعب الإيطالي وإن لم يكونوا مواطنين إيطاليين، وهذا النص ينطبق على سافوي ونيس وكورسيكا ومالطة، (ثانيًا) الطليان بالولادة، حتى إذا كانوا قد اقتبسوا الجنسية الأجنبية. ومقابل ذلك يُعد جميع الأجانب المتجنِّسين بالجنسية الإيطالية أجانب؛ ومعنى هذا كما هو واضح إخراج العرب الذين أرغموا إرغامًا على التجنُّس بالجنسية الإيطالية من عداد المواطنين الطليان، وحرمانهم بالتالي من جميع المزايا السابقة.

وقد أدلى وقتذاك أمير الأقطار الليبية، سمو السيد محمد إدريس، بتصريحٍ إلى مكاتب جريدة «باري سوار» الفرنسية، تحدَّث فيه عن أخطار ظاهرة العنصرية، فقال بعد بيان الأساليب التي ابتدعها الطليان في تشريد العرب وإبادة أبناء البلاد وإفنائهم: «فمَن كان هذا حالهم كيف تكون معيشتُهم، وكيف يكون مستقبلهم، وخصوصًا بعد أن أخذت الدولة الإيطالية عن زميلتها الدكتاتورية (ألمانيا) مبادئ العنصرية وسن قوانينها، قوانين التشريد والإبادة مع ما هُيِّئ لهم من فتح باب التجنس على مصراعيه … والعنصرية رأَينا الكثيرين من مواطنينا من استساغ وجودَها واطمأن، حيث إنه بذلك يؤمَن جانب الاندماج والتجنُّس بالجنسية الإيطالية الذي كان يخشاه، وغاب عن صاحب الفكرة الخطر الذي تحمِله العنصرية في براثينها، ونحن وإن كان لا يغرب عن فكرنا تأمين جانب الاندماج إلا أننا نعلم أن هذه الظاهرة الجديدة تحمل لنا الفناء العاجل والإبادة في أمدٍ قصير، حيث لا يُعقل أن تبقى أقلية مُضطهدة في أمعاء أكثرية ساحقة ترمق تلك الأقلية بعين الغدْر وتتحكَّم في شئون مصيرها وتُصدر لها في كل مناسبة قانونًا ناسخًا لما سبقه من تلك القوانين.»

تلك صورة موجزة لِما كانت تفعله إيطاليا في ليبيا، ومع هذا فقد درجت دعايتهم وقتذاك على رسم الاستعمار الإيطالي في تلك البلاد في صورةٍ قشيبة زاهية، وإن كانت لا تمتُّ بأية صِلة لما كان يجري ويحدُث فعلًا من ضروب الإذلال والإهانة أو العمل على إبادة العرب وإفنائهم. وكان مما قوَّى أمل الطليان في إمكان نجاح دعايتهم أنهم اعتمدوا على فصل القُطر الليبي بأجمعه عن سائر أقطار العالم، وإغلاقه إغلاقًا مُحكمًا، حتى أصبح أكثر الشبه «بصندوق مُقفل» منه بأي شيءٍ آخر. وآية ذلك ما صادفه الرحالة المُسلم الدانمركي كنود هلمبيو الذي حاول زيارة هذه الأصقاع في غضون عام ١٩٣٠م من صعوباتٍ كادت تحول دونه وهذه الزيارة، حتى استطاع ذلك بعد مشقَّات عظيمة مُتخفيًا في زي عربي. وكل ذلك بسبب العراقيل العديدة التي وضعها الطليان في طريقه لمنعه من الاتصال بالعرب والوقوف على حقيقة أساليب الاستعمار الإيطالي. وقد يكون ذلك دليلًا لبيان مبلغ ما ذهب إليه الطليان حتى يجعلوا من ليبيا صندوقًا مُقفلًا حقيقةً، فلا يخرج منه أو يدخل إليه شيءٌ حتى يظلَّ العالم الخارجي يجهل ما يدور بداخله، وحتى يظل الليبيون أنفسهم يجهلون ما يجري في هذا العالم خارج أوطانهم.

واقتضى تحقيق عزلة الليبيين الحجْر على حرية الرأي والفكر، ومكافحة الاجتماع والنشر بشتَّى الوسائل التي أتقنتها الديكتاتوريات الغابرة، فمنع الطليان إنشاء الجمعيات الخيرية والإسلامية وتشكيل الأحزاب السياسية وإقامة النوادي العامة، وحرَّموا الاجتماعات مهما كان نوعُها، فمنعوا اجتماع صديقٍ بأكثر من صديقٍ واحد حتى ولو كان اجتماع الأخصَّاء والأصدقاء لأمرٍ عاديٍّ أو لمجرد التسلية والمسامرة. من أمثلة ذلك ما حدث عندما اجتمع بعض طلبة العِلم في ليالي رمضان في أحد الفنادق ليقضوا شطرًا من الوقت في مُطالعة الكتب والدرس، فإنه لم يمضِ على اجتماعاتهم أكثر من خمس ليالٍ حتى كانت قد دهمتهم الشرطة وساقتْهم إلى السجن، أو ما حدث لطلبةٍ آخرين كانوا مُجتمِعين لقراءة كتاب للمرحوم مصطفى لطفي المنفلوطي، فدهمتهم الشرطة كذلك وأُودِعوا السجن.

وأما النشر فكان لا يوجَد من أسبابه سوى جريدتَين صغيرتَين، هما: «العدل» و«بريد برقة»، وهاتان الجريدتان كانتا تُطبعان على نفقة الحكومة وتعملان تحت إشرافها ولحسابها، وعلاوةً على ذلك فقد صدرت في ذلك العهد مجلَّة «ليبيا المصورة» لخدمة مآرب الطليان والمُعمرين. ولا يسَع المرء عند ذِكر هذه الصحف الثلاث في العهد الإيطالي أن يترك الحديث دون الإشارة إلى تعدُّد الصحف في هذه البلاد في عام ١٩١٩م خصوصًا، أي قبل التغلُّب على الحركة الوطنية وإخمادها؛ إذ كانت هناك طائفة من الصحف نذكُر منها: «اللواء الطرابلسي» و«الرقيب» و«العدل» — قبل أن تنقلِب حكومية — و«الذكرى» و«الوقت»، وهذه كانت تصدُر أسبوعيةً وبصورة منتظمة. وقد انقطعت هذه الصحف عن الظهور منذ أن استتبَّ الأمر للطليان إلا ما رضيَ منها بالعمل لحساب الحكومة. ولمَّا كانت الإذاعات اللاسلكية (الراديو) من وسائل النشر الحديثة وأداة تُساعد على اقتحام ذلك «الصندوق المُقفل» الذي حرص الطليان على أن يظلَّ مُغلقًا، امتدَّت يدُ الحجْر والرقابة من مراقبة المطبوعات السياسية أو الحماسية كالجرائد والمجلات والرسائل الخصوصية إلى مراقبة الإذاعة، فحرَّمت السلطات الإيطالية في يناير ١٩٣٩م على الأهلين في ليبيا سماع الإذاعات المُرسلة من محطة تونس اللاسلكية، وفرَضت على كل من يُخالف هذا القرار غرامة أولى قدرُها خمسمائة ليرة، حتى إذا أعاد الكرة حُكم عليه بالحبس شهرًا. وفضلًا عن ذلك فقد منعت الحكومة الاستماع لإذاعات موسكو وبرلين، أي إذاعات حلفاء الطليان، كما منعت بعض الإذاعات الأوروبية الأخرى، ووقَّعت عقوبة السجن على الذين يُخالفون أوامرها.

ومع هذا وعلى الرغم من هذه التدابير الغاشمة جميعها، فقد كان من المتعذِّر أن تظل ليبيا ذلك «الصندوق المقفل» الذي أراده الطليان؛ فقد كانت الأنباء تتسرَّب منها إلى المهاجرين في مصر والسودان وتونس، واستطاع العالم الإسلامي خصوصًا أن يقف على شيءٍ كثيرٍ مما كان يُعانيه الشعب الليبي من ضروب العنَت والإرهاق، وما كانت تفعله فيهم أساليب الإبادة والإفناء القاسية، وعرف العالم أجمع أن الطليان كانوا يُزهقون أرواح الليبيين ويسلبونهم أموالهم ويغتصبون أراضيهم ويعملون على إذلالهم وإهانتهم ويُحاولون تبصيرهم، وهذا فضلًا عن تجنيدهم مُرغَمين للقتال في ميادين الحبشة وإسبانيا. وعرف العالم قاطبةً وقتذاك أن موسوليني كان جادًّا الجدَّ كلَّه عندما نُقشت نصائحه على اللافتات في الميادين والشوارع «كن جنديًّا عند اللزوم!» وكان هازلًا الهزلَ كلَّه عندما ظهر بجوار هذه اللافتات لافتاتٌ أخرى تحمل عبارة الغرور والكبرياء الأجوف: «موسوليني يقودك إلى النصر دائمًا!» وكانت سخرية ما بعدها سخرية عندما وقف بالبو خطيبًا في الطرابلسيين الذين اشتدَّ تذمُّرهم من التجنُّس بالجنسية الإيطالية فقال: «إن قانون التجنُّس إنما هو منحة منحها لهم الدوتشي، نظير خدماتهم الجليلة في الحرب الحبشية!» وفضلًا عن ذلك فقد عرف العالم أجمع أن الأمة الليبية ما كانت لترضى بالعيش الذليل تحت كنف الفاشستية الطاغية، وأنه لا مناصَ من قيامها عن بكرة أبيها لاسترداد حقوقِها والعيش في أوطانها في عزةٍ وإباء عند سنوح أول بادرةٍ تُهيئ لأبناء هذه الأمة الباسلة مواصلةَ ذلك الجهاد الذي ما فترت عزائمهم لحظةً عن حمل لوائه مدة ثلاثين عامًا بتمامها. وأما مَعقِد آمال الأمة الليبية الباسلة في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخها فكان زعيمها وأميرها السيد محمد إدريس السنوسي، الذي ظل طوال سنوات الكفاح المريرة الماضية يسعى جاهدًا لإنقاذ الوطن، حتى سنحت الفرصة عند نشوب الحرب العالمية الثانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥