الفصل الثاني عشر

التحرير والخلاص

ما كاد الأمير السيد إدريس يصِل إلى القاهرة في ٢٧ يناير ١٩٢٣م حتى أخذ نُطُس الأطباء يُعالجون سموَّه، على أن المرض لم يمنعه من متابعة الحوادث في برقة بكلِّ همةٍ وعناية، فلم يمضِ زمنٌ طويل على وجوده بمصر حتى أعلن «ألدورفاندي» الوزير الإيطالي سموَّ الأمير في يوم ٣ مايو ١٩٢٣م أن جميع الاتفاقات التي سبق أن أبرمَتْها الحكومة الإيطالية مع سموِّه قد صارت لاغيةً ولا أثر لها. فكان نقض الطليان عهودهم على هذه الصورة مؤذِنًا ببداية النضال من جديدٍ بين الطليان وبين العرب في برقة، وكان غرض الأمير — على نحو ما سبق ذِكره — أن يبذل قصارى جهده حتى يُبقي الباب مفتوحًا، باب الإمدادات والنجدات من مصر إلى برقة لمساعدة المجاهدين في كفاحهم المُنتظَر. وفضلًا عن ذلك فقد كان سموه يريد بالاتفاق مع رؤساء المجاهدين وزعمائهم أن تظلَّ مصر مفتوحةً لاستقبال اللاجئين الذين أخذوا يفِدون عليها فرارًا من بطش الطليان وغدرهم. والسبب في ذلك أن الطليان بدءوا منذ أن بيَّتوا النية على نقض عهودهم، يسعَون لدى الحكومتَين المصرية والإنجليزية من أجل إغلاق الحدود الغربية بين مصر وليبيا، ومنع إرسال النجدات والتبرُّعات من مصر إلى برقة. وازداد الطليان نشاطًا في سعيهم عندما رأوا السيد عمر المختار يحضر إلى مصر ويجتمع بالأمير ويتلقَّى منه التعليمات المُفصَّلة، ثم أحسُّوا بأن الأمير، على الرغم من بقائه بعيدًا عن وطنه، كان على اتصالٍ دائم بزعماء الجهاد ويبعث إلى هؤلاء بإرشاداته.

وقد بدأ الأمير كذلك في غضون عام ١٩٢٣م مسعاه «دبلوماسيًّا» لدى السلطات الإنجليزية في مصر حتى وضح للإنجليز حقيقة الموقف في برقة، فاختار لهذه المُهمة المجاهد الأمين وموضع ثقة الليبيين جميعًا عبد الرحمن عزام (باشا) أو «العزام»، ذلك الرجل الذي أقضَّ مضاجع المُستعمرين في القُطر الليبي ثمانية أعوام تقريبًا، فقابل العزام، من رجال دار المندوب السامي في ذلك الحين، الماجور تويدي وتحدَّث إليه طويلًا ولكن دون جدوى؛ إذ رفض الإنجليز أية مساعدة. على أن هذا الرفض لم يمنع سموَّ الأمير من أن يطلب إلى السلطات الإنجليزية أن تترك لأبناء البلاد من المصريين — الذين أظهروا مروءةً وشهامةً عظيمةً عند بدء الجهاد ضد إيطاليا في الحرب الليبية-الإيطالية السابقة — مُطلق الحرية في تقديم ما يشاءون من معونةٍ أدبية ومادية للمجاهدين.

ولكن هذا السعي لم يُسفر كذلك عن أية نتيجة، وكانت دعوى الإنجليز أن مصر قد أضحت بلدًا مُستقلًّا، وأنهم لا يسعَون أن يتدخلوا في شأنٍ اعتبروه من شئونها الخاصة بها. وعندئذ اقترح عبد الرحمن عزام على سموِّ الأمير أن يرجو المغفور له سمو الأمير المصري عمر طوسون أن يترأس «اكتتابًا» من أجل مساعدة المجاهدين في ليبيا، فرحَّب السيد إدريس بذلك وقابل من فوره الأمير عمر طوسون ولقِيَت الفكرة قبولًا في بادئ الأمر لدى الأمير المصري، ولكنه طلب مهلةً قصيرة حتى يتدبر الأمر، ثم اتضح فيما بعد أن هناك صعوباتٍ تحول دون تنفيذها، فأوقف العمل بها.

ولا جدال في أن السبب في إخفاق كل هذه المساعي كان مردُّه إلى نشاط الحكومة الإيطالية، التي ظلَّت تسعى سعيًا حثيثًا لدى الحكومتَين المصرية والإنجليزية، حتى تُقيد نشاط الأمير السيد إدريس تقييدًا كبيرًا، وحتى تُقنع الحكومة المصرية بضرورة الحصول على وعدٍ من سموِّه «بعدم الاشتغال بالسياسة». ولمَّا كان السيد إدريس لا يزال في حاجةٍ مُلحَّة للمُعالجة في هذا القُطر، فقد وجد ألَّا مناص من إعطاء هذا. على أن الوعد «بعدم الاشتغال بالسياسة» أي عدم إبداء أي نشاطٍ سياسي في مصر، لم يكن معناه أن يمتنع الأمير عن تنفيذ اتفاقه مع السيد عمر المختار؛ فقد ظلَّ الأمير على نحو ما بينَّا في الفصول السابقة يمدُّ المختار بالمعونة اللازمة، ويبعث إليه برأيه في كل ما يحدُث من أمور ويرغب المختار استشارة سموِّه بشأنها، عن طريق الحاج التواتي البرعصي، ثم استمرَّ سموُّه كذلك يعمل من أجل تسهيل إيواء التجار اللاجئين الليبيين الذين قصدوا إلى مصر فرارًا من الطليان وبطشهم. ووقفت الحكومة الإيطالية على حقيقة هذه الجهود، وجدَّدت مساعيها لإبطالها، وتذرَّعت في ذلك بما وقفت عليه من معلوماتٍ في هذا الشأن تُمكنها من أن تخطو خطوتها التالية لدى عظيم مصر وعاهلها المغفور له جلالة الملك فؤاد الأول، فرفعت إلى مسامع جلالته ما وصل عِلمها من أخبار عن إصرار سموِّ السيد إدريس على المُضي في مساعدة المجاهدين وإنعاش الحركة في ليبيا من مقرِّ سموِّه بمصر.

وكان لجلالة العاهل الراحل العظيم في هذه المسألة موقف رائع حقًّا، فقد طلب جلالته من السيد إدريس في مقابلةٍ بالإسكندرية في صيف عام ١٩٢٤م «أن يظلَّ في سكون»، ثم انبرى رحِمه الله يدفع عن السيد كيدَ الإيطاليين، ويُضفي على السيد إدريس في الوقت نفسه نوعًا من المؤازرة والتعضيد كان له أبلغ الأثر في ذهاب مساعي الطليان ضد سموِّه أدراج الرياح. واستطاع الأمير في المدة التالية إبَّان «مفاوضات الجغبوب» أن ينشر آراءه وآراء المجاهدين في هذه المسألة بصراحةٍ وحريةٍ كاملة. ويقول الأمير السيد إدريس وهو يُشيد بذكر العاهل العظيم: «إن سعيد ذو الفقار باشا كبير الأمناء أبلغني مرارًا أن الطليان كثيرًا ما كانوا يحملون على جلالة الملك فؤاد — رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته — بدعوى أنه جلالته «يسكت» عن عمل «السيد إدريس» ونشاطه، ولكن جلالته كان لا يني في الدفاع عن «السيد» ويقول للطليان إن الأخبار التي وصلتهم غير صحيحة وأن السيد إدريس «ساكت» وهادئ، وأنه لا يفعل شيئًا مما يقوله الطليان.»

وقد وجد الطليان إزاء اشتداد مقاومة المجاهدين في الجبل الأخضر عقب عودة السيد عمر المختار من مصر إلى برقة، وبسبب فشلهم في منع السيد إدريس من مساعدة المجاهدين وإيواء اللاجئين وتدبير الحملات ضد الطليان بالنشر والكتابة في الصحف المصرية، يكشف عن نواياهم ويفضح للملأ أساليبهم؛ وجد الطليان أن يُحاولوا الاتفاق مع سموِّه بالطرُق الودية على إنهاء النضال في برقة، فبعث وزير المُستعمرات الإيطالي إلى مصر في غضون عام ١٩٢٥م مُستشرقًا إيطاليًّا هو الأستاذ الكومنداتور ماربو مورينو حتى يجتمع بسمو السيد إدريس للمفاوضة معه، وكانت عروض ماربو مورينو تتلخَّص في أن تتعهَّد إيطاليا بكلِّ ما يضمن أسباب الراحة والرفاهية لسمو السيد ولأفراد الأسرة السنوسية، لقاء أن يقبل سموُّه الإمارة على الواحات الجنوبية في برقة فحسب، فلم تلقَ هذه الفروض إقبالًا من سموِّه أو موافقةً عليها، ذلك بأن السيد رفض المفاوضة مع الحكومة الإيطالية إلا على أساسٍ واحدٍ هو استقلال البلاد وتمتُّعها بحُريتها الكاملة.

وفي الواقع كان الاتفاق بين سمو السيد وبين الطليان على غير أساس الاستقلال من الأمور التي يستحيل تحقيقها. وكان من أسباب ذلك أن المفاوضات بين مصر وإيطاليا بشأن تعديل الحدود المصرية الليبية، كانت قد بدأت بصورةٍ جدية على أساس إدخال واحة الجغبوب ضِمن الحدود الليبية، أي تمكين الطليان من الاستيلاء على هذه الواحة وبسط سُلطانهم عليها. وقد اتَّجه الرأي في أول الأمر إلى إنشاء منطقةٍ حرة «محايدة» على طول الحدود المصرية البرقاوية، تدخل في دائرتها واحة الجغبوب ذاتها، ويتعهَّد الفريقان الإيطالي والمصري «بعدم دخول تلك المنطقة»، ونظرت الحكومتان هذا المشروع في أبريل ١٩٢٥م، وكان الرأي الذائع على نحوِ ما نشرته الصحف وقتذاك أن الحكومتَين قد قبِلتا إنشاء منطقة حرة أو منطقة حياد على الحدود. بيد أن المفوَّضية الإيطالية في مصر ما لبثت حتى بادرت بتكذيب هذه «الإشاعات» في أوائل يوليو من العام نفسه. وفي شهر أغسطس عُنيت اللجنة المصرية المكلَّفة بالمفاوضة مع المندوبين الطليان «بوضع المُذكرات وتهيئة المستندات التي تُثبت حق مصر في واحة جغبوب لتكون مُعدَّةً عند البدء في المفاوضات المُزمَع الشروع فيها بعد عودة رئيس هذه اللجنة «معالي» إسماعيل صدقي باشا، وكان (معاليه) قد أبحر إلى أوروبا في منتصف هذا الشهر.»

وفي سبتمبر ١٩٢٥م قبِل إسماعيل صدقي باشا رئاسة لجنة الحدود الغربية نهائيًّا، وفي ٢ نوفمبر عَقدت لجنة الحدود جلستها الأولى. وفي ٢ ديسمبر قالت جريدة المُقطم: «يلُوح لنا من المعلومات التي استقيناها من المصادر العليمة أنَّ اللجنتَين المصرية والإيطالية اللتَين عُيِّنتا للفصل في مسألة الحدود بين مصر وطرابلس أوشكتا أن تصِلا إلى حلٍّ نهائي، قاعدته ترك واحة الجغبوب للإيطاليين مع بقاء مقام السيد المهدي السنوسي وجيرته حرمًا. وهذه الجيرة تشمل مسجدًا وبئرًا ماؤها أجاج ومباني يسكنها طلبة المسجد ونخلًا. ويُقال إن الاتفاق يتناول وجوب محافظة الإيطاليين على حدود مصر الغربية محافظةً تامةً. وقد تنازلت إيطاليا لمصر مقابل ذلك عن بئرٍ في جهة السلوم تملكها إيطاليا، وهي تبعُد ٧ كيلومترات عن النقطة التي يرابط فيها الجيش المصري، وهذه الكيلومترات مِلك لإيطاليا، والبحث يدور الآن على إتْباعها للبئر وبالتالي للحكومة المصرية، فإذا تم ذلك فالمُرجَّح أن اللجنة المصرية تنصح حكومتنا بقبول هذا الحلِّ قبولًا نهائيًّا بين مصر وإيطاليا.»

وفي ٢ ديسمبر ١٩٢٥م تم الاتفاق بين مصر وإيطاليا «بشأن تعيين الحدود الغربية للقُطر المصري»، ووقَّع الاتفاق عن الحكومة المصرية صاحب الدولة أحمد زيور باشا رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية، وعن الحكومة الإيطالية الماركيز نجرتو كامبيازو. وكان هذا الاتفاق يتألَّف من عشر مواد، تناولت المادة الأولى منها تخطيط الحدود المُعين في هذه المادة، وهي تُعَد جزءًا مُتممًا للاتفاق حسب المادة الثانية، ثم نصَّت المادة الثالثة على أن: «تعين السلطات العُليا لكلٍّ من الحكومتين المتعاقدتَين في ظرف ثلاثة شهور من تاريخ اعتماد هذا الاتفاق لجنةً مُختلطة لتُحدد في الأراضي نفسها خطَّ الحدود المُبيَّن في المادة الأولى.» وفي المادة الرابعة تعهدت الحكومتان المصرية والإيطالية: «بضمان حرية مرور القوافل الإيطالية والمصرية المُتوجهة من السلوم إلى جغبوب ضمانًا تامًّا على طرُق القوافل، ولا يُدفَع أي رسم أو أية ضريبة لمرور هذه القوافل التي يجوز لها تمامًا أن تستمرَّ في استعمال مياه الصهاريج لحاجتها العادية، وكذلك المآوي الموجودة بالقرب من الطرق المشار إليها.» ونصَّت المادة الخامسة على أنه: «رغبةً في توفير مياه الشرب لسكَّان السلوم تتنازل إيطاليا لمصر عن ملكية بئر الرملة التي تستغلها الآن الحكومة الإيطالية وعن منطقةٍ تُحيط بالبئر المذكورة وممرٍّ من الأرض يكون اتجاهه على محور وادي الرملة، يكفي لإيصال هذه البئر بالحدود المصرية.» وجاء في المادة السابعة: «وتتعهَّد إيطاليا ومصر باتخاذ الوسائل اللازمة لمنع غارات العربان كل فيما يتعلق بأراضيها.»

وتعهدت الحكومتان الإيطالية والمصرية في المادة الثامنة بأن تُعيِّنا «في خلال الثلاثة الشهور التالية لاعتماد هذا الاتفاق لجنةً مُختلطة لتسوية المسائل الآتية:

  • (١)

    جنسية سكان المنطقة الداخلية في العشرة كيلومترات شمالي السلوم، وسُكان مجموعة واحات جغبوب، لتقرير ما إذا كان يصحُّ منح حقِّ اختيار، وإلى أي مأوًى وإلى أي السُّكان أو بعضهم.

  • (٢)

    رسوم المرعى والسقاية والبذر فيما يتعلق بالسكان الرحَّل الذين ينتقلون على خط الحدود على قاعدة مبدأ تبادُل الإعفاء من كل رسمٍ وضريبة.

  • (٣)

    النظام الجمركي للتجارة على الحدود على قاعدة التساهُل من الجانبَين فيما يتعلَّق بتعريفة الرسوم الجاري العمل بها الآن، مراعاةً للحالة التي يكون عليها سكان الحدود على أثر تعيين خطِّ الحدود بين مصر وبرقة تعيينًا نهائيًّا.

  • (٤)

    المسائل القضائية الخاصة بالأشخاص الرُّحَّل لتقرير محاكمة هؤلاء الأشخاص، سواء أكانوا إيطاليِّي التبعية أم مصريين، أمام المحاكم وهيئات القضاء في مناطق الحدود التي يوجَدون في دائرتها. ويكون من المفهوم أيضًا، إذ أقام هؤلاء الأشخاص مدة تزيد على سنة في إحدى مناطق الحدود، يكونون خاضعين لنظام الضرائب المُقررة على الرُّحَّل المعمول به في المنطقة المذكورة.»

وأما إذا وقع خلاف في تطبيق الاتفاق فقد نصَّت المادة التاسعة على أن يُعرَض هذا الخلاف على لجنة تحكيم من مندوبين عن الدولتين إيطاليا ومصر؛ ونصَّت المادة العاشرة والأخيرة على اعتماد هذا الاتفاق بعد التصديق عليه من برلمان كلٍّ من الدولتَين.

وكان لإبرام هذه الاتفاقية وقع سيئ في مصر، وحمَّلت الصحافة المصرية وزارة أحمد زيور باشا — رحمه الله — مسئولية ضياع واحة الجغبوب. وكان من مظاهر الاحتجاج إضراب التلاميذ في دور العِلم، وكتبت الصحف المقالات الطويلة تنعي على الحكومة تصرُّفها في هذه المسألة الخطيرة، من ذلك مقال شديد العبارة نشرته جريدة «الأخبار» في عدد ٧ ديسمبر ١٩٢٥م تحت عنوان: «ماتت جغبوب لتحيا جغبوب — هو الحي الباقي!»

وترجع مساعي إيطاليا للاستيلاء على هذه الواحة التي هي مركز السنوسية العتيد في برقة، والتي ظلَّت القاعدة التي يستنِد إليها الجهاد في القُطر الليبي ضد الطليان منذ أن أغار هؤلاء على برقة وطرابلس حتى عام ١٩١٥م، فقد رأى الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، حتى يجتذبوا إيطاليا إلى جانبهم فتترك دول الوسط وتنضمَّ إليهم، أن يبذلوا لها الوعود السخية، فأبرمت في لندن في غضون عام ١٩١٥م اتفاقيةً بين إنجلترا وإيطاليا، نصَّت مادتها الثامنة على أنه في حالة الانتصار والفوز وفي مقابل تبادُل المنافع الاستعمارية بين فرنسا وإنجلترا على حساب ألمانيا، يكون لإيطاليا حق تعديل حدود مُستعمراتها الأفريقية في برقة والصومال؛ وبناءً على ذلك فقد دارت المفاوضات في عام ١٩١٩م بين اللورد ملنر عن إنجلترا والسنيور شالويا عن إيطاليا للبحث في أمر تعديل حدود الصومال الإيطالي، على أساس تنازُل إنجلترا عن جوبا، ثم في أمر تعديل حدود طرابلس الغرب على أساس تنازُل إنجلترا كذلك عن جغبوب. وقد أسفرت هذه المباحثات السياسية عن مشروع اتفاق قدَّمته وزارة الخارجية الإنجليزية للسنيور شالويا في أبريل ١٩٢١م، وقد سألت وقتذاك الحكومة الإنجليزية رأي الحكومة المصرية في هذا الموضوع في شهر يونيو من العام نفسه، ولكن الحكومة المصرية قرَّرت الاحتفاظ برأيها ولم تُجِب بشيء. وفي شهر أبريل ١٩٢٢م طلب السنيور شالويا تعديلاتٍ كثيرة أراد إدخالها على هذا المشروع، ووقفت المفاوضات بين الدولتَين عند هذا الحد. حتى إذا كان شهر يونيو من العام نفسه استأنفت إيطاليا المفاوضات مع بريطانيا، فأحالتها هذه على مصر التي أصبحت دولةً مستقلةً وصار قبولها لذلك ضروريًّا لعقْد الاتفاق. وقد طلبت الحكومة الإيطالية بعد ذلك من الوزارة المصرية برئاسة المغفور له سعد زغلول باشا في غضون عام ١٩٢٤م البحث في هذا الموضوع، ولكنَّ سفر الرئيس إلى إنجلترا لإجراء المفاوضات الخاصة بالمسألة المصرية مع حكومة المستر رامزي ماكدونالد من جانب، ثم وقوع حادث اغتيال السير لي ستاك باشا سردار الجيش المصري وحاكم السودان العام، وما تبع ذلك من حوادث، أجَّل البحث في موضوع جغبوب، حتى تألَّفت وزارة أحمد زيور باشا، فبدأت المفاوضات جديًّا، وهي المفاوضات التي انتهت بإبرام اتفاق ٢ ديسمبر ١٩٢٥م. وقد تشكَّلت على الأثر اللجنتان التي نُصَّ على تأليفهما في المادتَين الثالثة (لرسم الحدود) والثامنة (لبحث مسائل الجنسية وغيرها). وفي غضون عام ١٩٢٦م شرعت اللجنتان تنظران هذه المسائل.

وأما السيد محمد إدريس، فقد أظهر خلال ذلك كلِّه منذ مجيئه إلى هذه البلاد يقظةً كاملة، وبذل جهودًا كبيرةً حتى يحُول دون وقوع الجغبوب في قبضة الطليان. ومنذ أن بدأت المفاوضات جديًّا في أوائل عام ١٩٢٥م أظهر استعداده لأن يبسط «آراء على جانبٍ عظيم من الأهمية» للجنة الحدود الغربية التي تألفت لبحث مسألة الجغبوب قبل الفصل في مصير هذه المسألة وإبرام الاتفاق النهائي. وأخذ سموه ينشر المقالات في جريدتي المقطم بالقاهرة ووادي النيل بالإسكندرية في صيف عام ١٩٢٥م، وانبرى الكُتاب من المصريين الذين اشتركوا في وقائع الجهاد إبان الحرب الإيطالية-الليبية والزعماء المجاهدون كالأستاذ عبد الرحمن عزام (باشا) — وكان العزام على ما عهدناه فيه دائمًا في طليعة المجاهدين والسياسيين الذين أخذوا على عاتقهم الدفاع عن حقوق العرب في ليبيا ومكافحة الاستعمار الإيطالي — انبرى كل هؤلاء يُثيرون الرأي العام المصري بفضل ما نشروه من بحوثٍ ومقالات عن «واحة الجغبوب» في كثيرٍ من الصحف المصرية. وكان المغفور له أحمد حسنين (باشا) من كبار المؤيدين لهذه الحركة. وكان من بين الذين كتبوا في موضوع واحة الجغبوب وتعديل الحدود المُنتظَر إلى جانب العزام، اليوزباشي محمد إبراهيم لطفي المصري — وقد اشترك إلى جانب المجاهدين في برقة والجبل الأخضر والبطنان بين عامي ١٩١٢م و١٩١٥م — ثم لطفي المندراوي، وكان يشغل منصبَ كبيرِ المترجمين للجيوش البريطانية في حدود مصر الغربية إبَّان الحرب العالمية الأولى.

وكان مما اهتمَّ به السيد محمد إدريس بعد إبرام اتفاق الجغبوب في ديسمبر ١٩٢٥م أن يُتاح للعرب القاطنين «في المنطقة الداخلة في العشرة كيلومترات شمالي السلوم وسكان مجموعة واحات الجغبوب» التجنُّس بالجنسية المصرية، وذلك حتى يتسنَّى لهؤلاء النجاة من طغيان الطليان وبطشهم، فبعث سموُّه إلى جريدة المقطم بمقالٍ نُشر في ٢٨ أغسطس ١٩٢٦م جاء فيه: «اطلعتُ على رسالة مراسلكم بالإسكندرية عن المفاوضات المصرية الإيطالية بشأن جنسية السنوسيين، ولا يسَعُني إزاء ما جاء فيها من الحقائق إلا أن أُقدِّم لكم ولمراسلكم الشكر على سعيكم المُستمر لاستكشاف الحقيقة ونشرها على الجمهور، وخاصةً في المسائل التي تُحيطها السياسة بالإبهام والغموض … (إلى أن قال سموُّه) إن إيطاليا تُعلل تمسكها بإدخال السنوسيين تحت جناح الجنسية الإيطالية بأنها تخشى أن يقوموا ضدَّها في برقة لا طرابلس، ولكن هؤلاء السنوسيين الذين رغبوا في الجنسية المصرية وأصرُّوا على المطالبة، لا يجهلون أن القانون المصري شديد جدًّا على مَن ينحرِف عنه وعلى من يُخل به، وهم لم يُقدِموا على التجنُّس بالجنسية المصرية والخضوع لهذا القانون الشديد إلا وهم على ثقةٍ تامةٍ بأنهم خاضعون كل الخضوع لقوانين الحكومة المصرية. وليس من المعقول أن الحكومة المصرية تعجز عن تأمين إيطاليا من أفرادٍ قلائل، بينما هي تنشر الأمن على ملايين النفوس. ومهما يكن الأمر فإنني على اعتقادٍ تام أن هذا الزعم الواهي سيزول أمام الحق الثابت الذي يتمسَّك به السنوسيون: حق الحرية في اختيار التجنُّس بالجنسية المصرية.»

ولما كان قد تم الاتفاق بين الحكومتَين المصرية والإيطالية، عند التوقيع على معاهدة الجغبوب في ٢ ديسمبر ١٩٢٥م، على أن تُصدر الحكومة الإيطالية مرسومًا بالعفو التام عن الجرائم والجُنَح السياسية التي وقعت حتى يوم إبرام الاتفاق من سُكان المناطق «التي حُدِّدت»، فقد أصدرت إيطاليا هذا العفو طبقًا لِما تعهدت به، وأُبلغ أمره إلى الحكومة المصرية في أكتوبر ١٩٢٦م، وقد انتهز سمو الأمير السيد إدريس هذه الفرصة فأدلى بتصريحٍ لمُكاتب المُقطم بالإسكندرية ونشرَتْه جريدة المقطم في ١٤ أكتوبر ١٩٢٦م، جاء فيه: «إن السنوسيين لا يُعلقون أهمية على العفو المذكور؛ لأن المسألة في نظرهم تتعلَّق بالوطنية، وأن مثل هذا العفو لا يحُول دون استمرارهم في المطالبة بالجنسية المصرية.»

«وقد طلبوها منذ عهدٍ بعيد من الحكومة المصرية، وهم يعتقدون بأنهم في منطقة مصرية بحتة احتلَّتها إيطاليا، فأصبح لأهلها حسب الاتفاقات الدولية حقُّ اختيار الجنسية التي يُريدونها، وأن العفو مسألة ثانوية؛ لأن السنوسيين يهتمُّون قبل كل شيء بالوصول إلى حقِّهم في اختيار الجنسية، وقد اختاروا الجنسية المصرية، (ثم قال سموه) أما إذا أرادت إيطاليا الانتفاع بخدمات السنوسيين ومنزلتهم، فلتعلم أنهم إذا خدموا فإنما خدمتهم محصورة في مصالح البلاد التي ينتسِب أهلها إليهم، (وزاد سموُّه على ذلك) إنه لا الحكومة المصرية ولا الحكومة الإيطالية أبلغتهم هذا العفو رسميًّا، فلم يعرفوا عنه شيئًا إلا من المقطم، (وقال) إنه لا يظنُّ أن أحدًا من السنوسيين المُقيمين بمصر يقبل الذهاب إلى برقة أو طرابلس ويتنازل عن طلب الجنسية المصرية، وأنه لا يميل إلى تصديق الإشاعات التي يُؤخَذ منها أن الحكومة المصرية قد تكتفي بالعفو الإيطالي وتسمح لنفسها بأن توعز إلى السنوسيين المُقيمين بمصر بمغادرتها بحجَّة أنهم في أمانٍ وطمأنينة، ونحن مُعتقدون بأن حكومة مصر أرسخ قدمًا في عالم السياسة من أن توجِّه إلى ضيوفها والراغبين في جنسية بلادها كلمةً تنمُّ عن الطرد من هذه البلاد، وهي إسلامية شرقية تعمل في سبيل نهضتها واستقلالها.» وكان لهذا التصريح، ولا شكَّ، أثره في أن تسير الأمور بعد ذلك بما يتَّفق ورغبات سموِّه. وبقي السنوسيون واللاجئون الليبيون في مصر، وفضلًا عن ذلك فقد أضحت مصر في السنوات التالية وعند اشتداد وطأة النضال في برقة ضد الطليان مأوًى رحيبًا لكل أولئك اللاجئين الليبيين الذين استطاعوا الإفلات من الحدود التي عزز الطليان حامياتها وأقاموا الأسلاك الشائكة على طولها. وأما البتُّ في مسألة الجنسية فقد أُرجئ إلى مفاوضات مقبلة بين مصر وإيطاليا!

وكان في غضون عام ١٩٢٦م كذلك، وفي أثناء المباحثات التي قامت بين مصر وإيطاليا بشأن رسم الحدود بين مصر وليبيا، وغيرها من المسائل التي نص اتفاق ٢ ديسمبر ١٩٢٥م على ضرورة تشكيل اللجان لبحثها، أن جددت الحكومة الإيطالية مساعيها من أجل استمالة سموِّ الأمير إلى إنهاء خلافاته معها. وعلى ذلك فقد أرسل الطليان، غداة التوقيع على اتفاقية جغبوب، أحد أعضاء مجلس النواب الإيطالي الدكتور أنريكو أنساباتو، فوصل إلى القاهرة في يناير ١٩٢٦م وطلب مقابلة السيد، وصار أنساباتو يجتمع بالأمير تارةً في فندق شبرد وتارةً في منزل سموه وقتذاك بالزيتون، وقد تبسَّط الرسول الإيطالي في أحاديثه فادَّعى القُدرة على إقناع موسوليني بالموافقة على جميع مطالب الأمير، فأعدَّ له السيد إدريس مذكرةً بهذه المطالب، وجوهرها تنفيذ الاتفاقات السابقة على أساس معاهدة الرجمة. غير أنه حدث بعد ذلك أن حضر من قِبل الطليان إلى مصر أحد مندوبيهم يُخبر السيد بأن الدكتور أنساباتو ما كان يتحدَّث إلى سموِّه على لسان حكومته، وأن الحكومة الإيطالية لا ترتبِط بشيءٍ مما قد يكون النائب الإيطالي قد أدلى به في أحاديثه مع السيد، وعلى ذلك فقد رفض السيد أن يتحدَّث مع هذا المندوب الأخير إلا إذا أحضر تفويضًا من حكومته يُخوله حقَّ التكلُّم باسمِها. وفي شهر مايو من السنة نفسها جدَّد الطليان مساعيهم، فوسَّطوا في هذه المرة السيد مرغني الإدريسي شيخ الطريقة الإدريسية بمصر كي يتفاوض مع الأمير في عودته إلى الوطن، وفي المطالب التي يطلبها سموه، فأصر السيد محمد إدريس على ضرورة أن يُنفذ الطليان كل المواثيق التي ارتبطوا بها سابقًا، وخصوصًا معاهدة الرجمة، ولم تُسفر هذه المفاوضات عن شيء.

وكان الموقف في برقة في هذه الأثناء قد زاد خطورةً على خطورته، وتُصر الحكومة الإيطالية على أن يبدأ والِيها في برقة تيروتزي العمليات العسكرية الكبيرة للقضاء على مقاومة المجاهدين في الجبل الأخضر، واحتلال سِرت والواحات الداخلية؛ وقد وجد تيروتزي على نحو ما سبق ذِكره أن القيام بهذه العمليات العسكرية الواسعة يتطلَّب جهودًا شاقةً واستعداداتٍ عظيمةً، وأنَّ مِن الأوفق الاعتماد على الطرق الدبلوماسية لإخضاع المغاربة من جهة ولوقف نشاط المجاهدين بقيادة السيد عمر المُختار من جهةٍ أخرى، وذلك بأن تبدأ بين المختار ومندوبي الحكومة الإيطالية تلك المفاوضات التي كان من أهم أغراضها كسب الوقت فحسْب إلى أن تكمل استعدادات الحكومة العسكرية. ولمَّا كان عمال الحكومة الإيطالية ورجالها في برقة يعتقدون أن السيد عمر المختار إنما يتبع في كل أعمالِه التعليمات والإرشادات التي كانت تأتيه من سمو الأمير في مصر، لدرجة أنَّ الطليان اعتقدوا (كما سبق القول) أن نداء المختار المشهور في ٢٠ أكتوبر ١٩٢٩م كان قد جرى إعداده، من قبل إذاعته، تحت إشراف الأمير في مصر، فقد وجد الطليان أن من حُسن السياسة لنجاح «حملتهم السياسية» في برقة أن يصِلوا في الوقت نفسه إلى اتفاقٍ وتفاهُم مع السيد إدريس في مصر. وفضلًا عن ذلك فإن السيد عمر المختار نفسه كان في أثناء كل مفاوضاته مع الطليان، سواء في سانية القبقب أو الشلبوني أو قندولة أو سيدي رحومة أو غيرها، يُكرر للطليان أنه لا مناصَ من الرجوع إلى رأي سمو السيد إدريس في نهاية الأمر، وأن اتفاقًا لا يحوز رضاء سموِّه لن يستطيع السيد عمر المختار قبوله. وعلى ذلك فقد طلب «ديمنكي» وزير إيطاليا المفوَّض في مصر في شتاء ١٩٢٩م مقابلة السيد إدريس، وكان سمو السيد وقتذاك مُقيمًا بالإسكندرية، فتوسط في هذه المقابلة عثمان باشا مرتضى، وذهب الوزير الإيطالي إلى الإسكندرية يصحبه الكومنداتور ديللارمي أحد المُديرين بوزارة المُستعمرات الإيطالية، وقابل الأمير بحضور عثمان باشا مرتضى في فندق كلاريدج، وأعرب ديمنكي عن رغبته في أن يكون واسطة التفاهُم بين الأمير والسنيور موسوليني رئيس الحكومة.

وقد تمسَّك الأمير، على غرار ما فعل دائمًا في المناسبات السابقة، بضرورة أن يقوم أي اتفاقٍ بينه وبين إيطاليا على اعتراف الحكومة الإيطالية أولًا بجميع العهود التي قطعتها على نفسها، من حيث احترام حقوق الليبيين الوطنية وضمان حرِّياتهم وتنفيذ الاتفاقات التي أبرمتها مع سموِّه، وفي مقدمة هذه معاهدة الرجمة التي أُبرمت في أكتوبر ١٩٢٠م. ولمَّا كانت إيطاليا قد ارتكبت فعلتها الشنيعة بالقبض على السيد محمد الرضا غدرًا وخيانةً وأبعدَته منفيًّا إلى أوستيكا، فقد أصبح الإفراج عن السيد الرضا وعودته إلى الوطن دليلًا لا غِنى عن تقديمه إذا شاءت الحكومة الإيطالية أن يثِق العرَب في حُسن نواياها. وقد أصغى ديمنكي إلى كل هذه المطالب باهتمامٍ زائد ووعد بأن يبذل قصارى جهده لإقناع رئيس حكومته بإجابتها. وبالفعل غادر ديمنكي البلاد إلى إيطاليا. وكان ديمنكي صادقًا في مسعاه فأرجعت الحكومة الإيطالية السيد محمد الرضا إلى بنغازي في مارس ١٩٢٩م. وكان مما أيَّد مسعى ديمنكي في هذا السبيل أن السيد عمر المختار كان هو الآخر يلحُّ من جانبه في ضرورة حضور السيد الرضا المفاوضات الدائرة في برقة بينَه وبين عمَّال الحكومة الإيطالية سيشلياني ودودياشي وأولمي وغيرهم. بيد أن ديمنكي، كما أثبتت الحوادث في ذلك الوقت، أخفق في مسعاه الآخر، وهو أن تُجيب إيطاليا مطالب الأمير وتُعيد إلى البلاد حُرياتها المغصوبة وإلى الوطنيين حقوقهم المسلوبة وتعمل على تنفيذ معاهدة الرجمة. والواقع أن إيطاليا كانت في هذه الآونة تسهر على إنجاز استعداداتها العسكرية، وتُبيت النية على استئناف النضال بمجرد وصول الإمدادات والنجدات إلى برقة؛ وعلى ذلك فإن هذه المفاوضات التي دارت في شتاء عام ١٩٢٩م في مصر وبرقة معًا لم تُسفر عن شيء، وقطعت العلاقات بين المجاهدين والطليان في برقة، واستأنف السيد عمر المختار النضال في برقة على النحو الذي سبق ذكره.

واتخذ النضال ضد الطليان صورًا شتَّى، فإنه إلى جانب استئناف الجهاد بزعامة المختار في برقة كان الوطنيون الليبيون الذين اضطُروا إلى مغادرة أوطانهم، والمهاجرة إلى سوريا وغيرها من البلدان الإسلامية العربية، قد شمَّروا هم الآخرون عن ساعد الجد والعمل، فتأسَّست في دمشق في عام ١٩٢٨م «جمعية الدفاع الطرابلسي البرقاوي بالشام»، أسَّسها المجاهد والزعيم الليبي القديم بشير بك سعداوي وانتُخب رئيسًا لها. وكانت هذه الجمعية تضم إليها صفوة من المجاهدين، كسكرتير الجمعية عمر فائق شنيب (بك)، وأمين الصندوق فوزي النقاش، ثم عبد الغني الباجقمي، وكامل عياد، وعبد السلام أدهم، والبمباشي طارق، ومحمد ناجي التركي، ومصطفى بن نوح، وأحمد راسم، وأبو بكر قدورة، ومنصور بك بن قدارة، وأبو بكر التركي، وخليفة شعبان. وعمل هؤلاء السادة جميعًا على إعداد البحوث التي تكشف عن أعمال الطليان وفظائعهم في القطر الليبي، وصاروا ينشرونها في الصحف، وأبدى بشير السعداوي نشاطًا فائقًا، فنشر بحوثًا ومقالاتٍ كثيرة، وحذا حذوَه عمر فائق شنيب. وفي عام ١٩٢٩م وضعت الجمعية «الميثاق الوطني» المشهور «للشعب الطرابلسي البرقاوي»، فنصَّت المادة الأولى منه «على تأليف حكومة وطنية ذات سيادة قومية لطرابلس-برقة، يرأسها زعيم مُسلم تختاره الأمة.» وطلب الميثاق في مادته الثانية «دعوة جمعية تأسيسية لسَنِّ دستور البلاد». وفي المادة الثالثة «انتخاب الأمة مجلسًا نيابيًّا حائزًا على الصلاحية التي يُخوله إيَّاها الدستور». وفي المادة الرابعة «اعتبار اللغة العربية الرسمية في دواوين الحكومة والتعليم». وفي المادة الخامسة «المحافظة على شعائر الدين الإسلامي وتقاليد القطر في جميع أرجائه». وفي المادة السادسة «العناية بالأوقاف وإدارتها من قبل لجنة إسلامية منتخبة». وفي المادة السابعة «العفو العام عن جميع المشتغِلين بالسياسة داخل القطر وخارجه». وفي المادة الثامنة «تحسين العلاقات والمصالح بين الأمة الطرابلسية البرقاوية والدولة الإيطالية بمعاهدةٍ خاصة يعقدها الطرفان ويُصدقها المجلس النيابي». ومما تجدُر ملاحظته أن البند الأول من هذا الميثاق كان يتَّفق مع ما أجمعت عليه كلمة المجاهدين الليبيين في قصر سرت قبل ذلك بسبعة أعوام (١٩٢٢م)، وكان الأساس الذي قامت عليه في الواقع بيعة أهل طرابلس بالإمارة للسيد محمد إدريس على القُطر الليبي بأجمعه، وعلاوةً على ذلك فإن نصوص الميثاق الأخرى كانت تتضمَّن كل تلك المبادئ التي تضمَّنها القانونان الأساسيَّان اللذان استصدرهما الطليان لقُطري برقة وطرابلس في غضون عام ١٩١٩م، وكانت تتضمَّنها كذلك معاهدة الرجمة التي وقَّعها الأمير السيد محمد إدريس بعد ذلك مع الحكومة الإيطالية، ولم ينفذ الطليان شيئًا من ذلك كلِّه.

وكان من عوامل نجاح «جمعية الدفاع الطرابلسي البرقاوي بالشام» إلى جانب نشاط مؤسسها بشير السعداوي وما اتَّصف به من سداد الرأي وبُعد النظر، أنَّ سموَّ السيد إدريس أولاها عنايته الفائقة، فصار يمدُّها بالمساعدات القيِّمة؛ يُرسِل لها الإمدادات المالية حينًا، ويبعث إليها بواسطة رسله الموثوق بهم بالمعلومات حينًا آخر، ثم يُزوِّدها بالأخبار التي كانت تُعينها على معرفة ما يجري في أرض الوطن من أحداثٍ وما كان يرتكبه الطليان من فظائع. وكان بفضل هذه المساعدات المُستمرَّة أن تمكَّنت الجمعية من دعم مركزها ومتابعة النشر والقيام بحملة صحافية واسعة تُهيبُ بالعالم العربي والإسلامي أن ينهض لمؤازرة المجاهدين في الأقطار الليبية بكلِّ الطرُق، ونشرت «اللجنة التنفيذية للجاليات الطرابلسية البرقاوية» نصَّ الميثاق، وقدَّمت له بنداءٍ خاطبت فيه مواطنيها في الأقطار العربية، جاء فيه: «أيها الإخوان الأعزاء، إن الواجب يقضي عليكم أن تعملوا لخير بلادكم، وذلك بتنظيم صفوفكم وجمع كلمتكم، وأن تُؤلِّفوا في كل قُطر تسكنونه «جمعية» تلمُّ شعثكم وتجمع شملكم، وأن تُوطِّنوا نفوسكم على التضحية والقيام بالواجب الوطني … فالله لا يضيع أجر من أحسن عملًا، وارفعوا أصواتكم بالشكوى مما تُلاقيه أُمَّتكم البائسة من مظالم الإيطاليين، واملئوا الصحف بالمقالات والفضاء بالاحتجاجات، وانشروا النشرات، وقفوا للحوادث بالمرصاد، وانتهزوا الفُرَص وفكِّروا فيما يعود على وطنكم بالنفع، فالفكرة الناضجة تُكوِّن الأمم وتبعث فيها روح اليقظة والانتباه، ثم ربوا نشْأكم على حب الوطن والحرية والاستقلال، أرضعوهم هذه المبادئ مع اللبان، وانفثوها في صدورهم منذ عهد الصبا ونعومة الأظفار، علِّموهم مناقب السلف الصالح وأبطال التاريخ والفتح الإسلامي، فإنها تبثُّ في نفوسهم علوَّ الهمة وروح الشهامة والمبادئ الوطنية، وليكن شعاركم الاستقلال وتخليص وطنكم من الأغلال، وفكروا في الوسائل التي تقربكم من هذه الغاية الشريفة، فإن الدولة الإيطالية مهما اشتد بها الصلف والغرور إذا رأتنا أمامها أمةً ناهضة منتشرة في الآفاق واقفة لها بالمرصاد تُحارب الظلم والاستبداد ولا تَدين لسنن الاستعمار والاستعباد، لا بد أن تُذعن لمطالبنا الحقَّة ولميثاقنا القومي الذي عاهدنا الله على تحقيقه ببذْل النفس والنفيس، والله مع الصابرين.»

وقد استطاعت الجمعية أن تُوسع دائرة نشاطها، فطلبت من المرحوم الأمير شكيب أرسلان في عام ١٩٢٩م — وكان الأمير شكيب وقتذاك بالحجاز — أن يُعاونها، فلبَّى الأمير شكيب هذا الطلب، وأخذ من ذلك الحين ينشر الشيء الكثير عن فظائع الطليان في ليبيا في الصحف والمجلات وفي نشرات صغيرة يسهل تداولها، وأفلح — رحمه الله — في أن يسترعي انتباه العالم إلى ما كان يفعله الطليان في برقة وطرابلس وما يرتكبونه من فظائع ومنكرات، وبخاصة عندما دانت لهم الكفرة وغيرها من المراكز الدينية الإسلامية في البلاد. ومما يجدُر ذِكره أن الأمير شكيب ظلَّ مثابرًا على الدفاع عن القضية الليبية حتى عام ١٩٣٥م. واستطاعت الجمعية أن تؤسس فرعًا في تونس في عام ١٩٣٠م أنشأه المجاهدون الليبيون الذين لجئوا إلى تلك الديار. وأحكم فرع الجمعية بتونس صِلاته بالمركز الرئيسي بدمشق، ثم والت الجمعية نشاطها، فاستمرَّت تُصدر النشرات تصف فظائع الطليان وتُحذر فيها الأمم العربية من تصديق دعايتهم الكاذبة المُغرضة، وتسوق الحجَّة بعد الحجَّة في الدفاع عن حقوق البلاد. وابتكرت الجمعية وسائل عدة لإيصال هذه النشرات إلى داخل القُطر الليبي نفسه، وبذلت جهودًا كبيرةً لتوزيع نشراتها في جميع أنحاء العالم العربي. وفي عام ١٩٤٠م أُعيد تشكيل الجمعية من جديدٍ في دمشق برئاسة الدكتور كامل عياد، يضمُّ إليه نخبة من أفاضل المجاهدين كالسيد عبد الغني الباجقمي (أمينًا للسر) وأبي بكر قدورة وغيرهما، وبقِيَت الجمعية تعمل من ذلك الحين تحت إرشاد الأمير السيد إدريس وتوجيهه.

وفضلًا عن ذلك فقد استمرَّ الأمير في خلال عامَي ١٩٣٠م و١٩٣١م يُمد المجاهدين في الجبل الأخضر بكل معونةٍ أمكن سموه أن يجد سبيلًا إلى إيصالها إليهم. ومما يجدُر ذكره أن المرحوم الأمير عمر طوسون ظلَّ يُعضد مساعي السيد إدريس لنجدة المجاهدين كلما أمكن ذلك، وعندما بلغ السيل الزبى — واشتدَّت صرامة الطليان وقسوة عملياتهم العسكرية ضد المجاهدين، ثم اتخذوا تلك التدابير التي كان الغرض منها منع اتصال المجاهدين بالجبل الأخضر بالأهالي، ومنع وصول أية إمدادات إليهم عبر الحدود المصرية، فأنشئوا المُعتقلات التي سبق الحديث عنها ومدُّوا الأسلاك الشائكة المُكهربة، وعزَّزوا مراكزهم المسلحة على طول هذه الأسلاك الشائكة — بات من الصعوبة بمكانٍ إرسال الإمدادات إليهم، وانصرف الاهتمام بعد ذلك إلى إرسال عددٍ من «المقصَّات» التي يستطيع بها المجاهدون إذا حاولوا الإفلات من الحدود أن يجدوا لهم منفذًا من سياج الأسلاك الشائكة. وقد استمر الحال على ذلك حتى وفاة السيد عمر المختار في سبتمبر ١٩٣١م. وقد سبق القول كيف أنَّ استشهاد المختار كان مؤذِنًا بانتهاء المقاومة الجدية في برقة.

والواقع أن الطليان تمكنوا بعد ذلك من السير حثيثًا في تنفيذ برنامجهم الاستعماري القائم على إبادة العرب وإفنائهم، وبلغت الأحوال درجةً عظيمة من الخطورة، وصار من المُتعذِّر إسداء أية معونة جدِّية إلى فلول المجاهدين الذين حاولوا هم الآخرون الإفلات من قبضة الطليان على نحوِ ما سبق تفصيله. وفي هذه الأثناء ظلَّ الأمير السيد إدريس ملاذًا لكل لاجئ إلى القُطر المصري، وكان أكبر اهتمام سموه في هذه الفترة العصيبة أن يعمل على تنوير الرأي العام، ليس فقط في العالم العربي والإسلامي، بل وفي جميع الأقطار الأخرى، وأقام سموُّه ردحًا من الزمن في حمَّام مريوط قريبًا بقدْر المُستطاع من شعبه البائس.

وكان في أثناء إقامة السيد إدريس في حمَّام مريوط أن زار مصر ملك إيطاليا عمانويل الثالث في غضون عام ١٩٣٣م، فقُيدت حركة الأمير إلى وقت انتهاء هذه الزيارة. وشُغل العالم في السنوات القليلة التالية بظهور ذلك المشروع «العظيم» الذي استعدَّت إيطاليا لتنفيذه منذ عام ١٩٣٣م من أجل إنشاء إمبراطوريتها العتيدة في أفريقية الشرقية، وذلك بالإغارة على الحبشة وافتتاحها. وفي العام التالي (١٩٣٤م) اتخذت إيطاليا من بعض المُنازعات القبلية ذريعةً لزحف جيوشها على الحبشة، وما إن حلَّ خريف عام ١٩٣٥م حتى كانت قد نفَّذت مشروعها «العظيم»، وعندئذٍ وقَّعت عصبة الأمم الماضية العقوبات الاقتصادية على إيطاليا، ولكن دون جدوى، فتم للطليان افتتاح الحبشة، وضمَّتها إيطاليا في ٩ مايو ١٩٣٦م، فأضحت جزءًا من إمبراطوريتها، واتخذ ملك إيطاليا لقب إمبراطور إثيوبيا. وكان من نتائج هذا الحادث أن ساءت العلاقات بين إيطاليا وإنجلترا على وجه الخصوص لأسبابٍ عدة، منها موقف الإنجليز من مسألة توقيع العقوبات الاقتصادية على إيطاليا وعدم استقرار سياستهم قبل ذلك بصدد أطماع إيطاليا الاستعمارية. وبلغت الأمور من الحرج بين الدولتَين درجةً جعلت كثيرين من المجاهدين الليبيين يتوقَّعون أن يُسفر تأزُّم العلاقات بين إنجلترا وإيطاليا عن استئناف الجهاد في ليبيا بصورةٍ جدية وبمؤازرة بريطانيا العظمى في هذه المرة، وقد حدث فعلًا وقتذاك ما عزَّز هذه الآمال كثيرًا.

فقد قابل الكولونيل برملو (بك) الأمير السيد إدريس في حمَّام مريوط في غضون عام ١٩٣٦م إبَّان اشتداد الأزمة بين إنجلترا وإيطاليا، وفي الوقت الذي كانت فيه جيوش الطليان المُجهزة بالأسلحة الحديثة والطائرات والغازات السامَّة قد قضَت على مقاومة الحبشان. وفي هذه المقابلة أخبر برملو السيد إدريس أن أميرال الأسطول الإنجليزي الرابض بالإسكندرية يبغي مقابلته والتحدُّث إليه في أمورٍ شتَّى، فذهب السيد لمقابلة الأميرال الإنجليزي، واحتفى به الأميرال، وتحدَّث إلى سموِّه عن المستقبل «الطيب» الذي ينتظر الأقطار الليبية، ولكن هذه المقابلة وتلك الأحاديث لم تُسفر عن شيء؛ لأن إنجلترا لم يكن في استطاعتها وقتذاك إعلان الحرب على إيطاليا. أضف إلى هذا أن رجال حكومتها كانوا شديدي الحرص على السِّلم في أوروبا والعالم، ويعتزمون المُضيَّ في تلك السياسة التي صارت تُعرَف في التاريخ الأوروبي المعاصر باسم سياسة التسكين والتهدئة، فكان من أولى آثار هذه السياسة بالنسبة لإيطاليا رفع العقوبات الاقتصادية عنها نهائيًّا في أواسط عام ١٩٣٧م. وعلى ذلك فإنه بمجرد انتهاء حادث الحبشة لم يتجدَّد البحث في ذلك المُستقبل الطيب الذي كان ينتظر الأقطار الليبية. وأما ما فعلَه الطليان في ليبيا نفسها في أثناء هذه الحرب من تجنيد ألوف الليبيين، فقد سبق ذكره.

وكانت إيطاليا قد عمدت إلى بذل المال بسخاء وإلى نشر دعاية واسعة بين اللاجئين والمهاجرين في مصر وغيرها، تستميلهم إلى العودة إلى ليبيا للانخراط في الجيش المُعدِّ لغزو الحبشة، «ووعدت الحكومة الإيطالية هؤلاء الراجِعين بإعطائهم، عند وصولهم إلى أرض الوطن، الإبل والماشية بأثمانٍ يدفعونها أقساطًا صغيرةً للحكومة العسكرية، فانخدع عديدون بهذه الأقوال والوعود المعسولة، وغادروا مصر إلى برقة، فكان الطليان عند وصولهم إلى درنة ينتقون الصالحين منهم للخدمة العسكرية ويُجندونهم، وأما غير الصالحين للخدمة في الجيش فإنهم كانوا يُسرحونهم دون أن يُعطوهم شيئًا مما وعدوهم به.»

وواقع الأمر أن اعتداء الطليان على الحبشة كان وبالًا عليهم لعدة أسباب، يتَّصل بعضها بالموقف السياسي في أوروبا ذاتها وما لحق بإيطاليا من ضعفٍ على أثر استنفاد قوَّتها ومواردها في الحرب الحبشية، ثم في الحرب الأهلية الإسبانية التي رأى موسوليني أن يُساهم فيها بنصيبٍ وافر. وفضلًا عن ذلك فإن إيطاليا التي كان دأبها نقض عهودها مع الليبيين سرعان ما سبَّبت تذمُّرًا عميقًا بين أولئك الليبيين الذين أرغمتهم الظروف على مؤازرة إيطاليا في حكم بلادهم، أو اعتقدوا أن من مصلحة البلاد قبول الحُكم الإيطالي ما دام الجهاد قد بات مُتعذرًا في طرابلس وبرقة معًا. فقد وعدت الحكومة الإيطالية أن تُعيد للبلاد حُرياتها وتضمن للشعب الليبي «السعادة والرفاهية، وتُعلن العفو العام، وتُعيد الأملاك المصادرة إلى أصحابها.» وكل ذلك، ثمنًا لتلك الجهود العظيمة التي بذلها الليبيون في مؤازرة الطليان في الحرب الحبشية عندما جُنِّد من العرب في عام ١٩٣٥م حوالي أربعين ألفًا. وقد شاهد أهل البلاد فلول هذه القوة الليبية المحاربة تعود إلى أوطانها وأكثر أفرادها الذين كُتب لهم الخلاص والبقاء على قيد الحياة في حالٍ يُرثى لها، بسبب المرض وما أصابهم من عاهاتٍ وجراحٍ بالغة. ومع ذلك فإن الطليان لم يُنفذوا شيئًا من وعودهم، وقد سبق القول كيف عقد الليبيون آمالًا عظيمةً على زيارة موسوليني لبلادهم في عام ١٩٣٧م، ولكن هذه الزيارة لم تُسفر عن شيء، بل مضى بالبو ينفذ مشروعات «تعمير» الأراضي ويجلب ألوف الطليان للتوطُّن والاستقرار في ليبيا، فكان من أثر كلِّه أن بدأ المُوالون للحُكم الإيطالي في ليبيا ينحرفون رويدًا رويدًا عن تأييده. وكان مما زاد في نفورهم أن الطليان المُقيمين بالبلاد والذين أسمَوا أنفسهم أو أطلق عليهم العرب اسم «حزب الاستعمار الإيطالي» صاروا يستبدُّون بالأمر ويتمتَّعون بنفوذٍ ملحوظ في الدوائر الحكومية، بل ويُوجهون سياسة الحكومة الإيطالية المحلية في ليبيا، وإلى حدٍّ كبير كذلك سياسة الحكومة المركزية في رومة، بصورة تمنع كل ليبيٍّ من مشاركة هؤلاء الاستعماريين فيما صاروا يدعون أنه «خبزهم أو عيشهم هم وحدَهم فقط»، فيسدُّون على الليبيين أهل البلاد أبواب الرزق، ويعملون على تشريدهم. وعلى ذلك فإنه ما جاء عام ١٩٣٩م حتى كانت الحال في داخل البلاد قد بلغت غاية الخطورة واشتدَّ التذمُّر بين طبقات الأهلين جميعًا، وبات من المُنتظَر إذا وقع جديد في أفق السياسة الدولية وشُغلت إيطاليا في حرب ضروس أخرى أن ينقلِب عليها أهل البلاد قاطبةً عند أول بادرة. وكان المحكُّ الذي أظهر فشل الاستعمار الإيطالي في ليبيا أمام العالم نشوب الحرب الكونية الثانية.

وبدأت الحرب العالمية الثانية في سبتمبر ١٩٣٩م باعتداء ألمانيا النازية على بولندة، وحرصت إيطاليا في أول الأمر على عدم خوض غمارها حتى إذا رأت فرنسا تنهار على أثر الزحف الألماني الخاطف عليها، أعلنت إيطاليا الحرب على إنجلترا وفرنسا في ١٠ يونيو ١٩٤٠م، فمهَّدت بذلك العمل إلى زوال إمبراطوريتها الأفريقية وانهيار دولتها الفاشيستية في النهاية. وكان دخول إيطاليا الحرب إلى جانب حليفتها المحورية ألمانيا ضد بريطانيا، الفرصة التي ظلَّ الليبيون في المهاجر وفي أوطانهم ينتظرونها للتحرُّر والخلاص واسترداد حقوقهم التي اغتصبها العدو أعوامًا طويلةً، فما دخلت إيطاليا الحرب حتى شرع الليبيون في العمل، فاتَّصل فريق منهم بالمُفوضية الفرنسية في القاهرة وغادروا مصر فعلًا إلى الجزائر، حيث اتصلوا بالجنرال «نوجس» واتفقوا معه على أن يُجهزوا حملةً من الليبيين الموجودين في الجزائر وتونس للعمل ضد الطليان في ليبيا. غير أن استسلام فرنسا قضى على تنفيذ هذا المشروع، وفي نفس الوقت ظل فريق آخر من الليبيين يعمل تحت رئاسة الأمير السيد إدريس، الذي كان يتَّخذ الأُهبة لهذه الساعة الفاصلة من بداية الحرب الهتلرية.

ذلك أنه منذ أن بدأ النازيون اعتداءاتهم بغزو بولندة وظهر أن حربًا عالميةً لا محالة واقعة، عظم نشاط الأمير، ثم سرعان ما أخذ يفِد إلى مقرِّ سموِّه بالإسكندرية كبار اللاجئين العرب من أهل ليبيا يبحثون جميعًا في احتمالات الموقف ووضع الخطة التي يجب أن يسيروا عليها. وكانت الحكومة المصرية قد جمعت من قبيلة أولاد علي جيشًا يُشبه الجيش المرابط سمَّته «سرايا العرب»، جعلت مُهمته السهر على حماية الحدود الغربية، وعندما وقعت الحرب طلبت الحكومة من مشايخ المهاجرين وكبارهم في حدود الصحراء الغربية، الانضمام إلى هذه السرايا، ولكن هؤلاء رفضوا حتى يتصلوا بسائر إخوانهم في الصعيد والفيوم والبحيرة. وبالفعل ذهب منهم وفد لمقابلة رؤساء المهاجرين في هذه الجهات، ثم قرَّ الرأي على أن يعقد الجميع اجتماعًا في منزل الأمير سمو السيد إدريس بالإسكندرية لبحث الموضوع واتخاذ قرار نهائي. وفي يوم ٦ رمضان ١٣٥٨ﻫ (٢٠ أكتوبر ١٩٣٩م) اجتمع حوالي أربعين شيخًا من رؤساء الليبيين وزعمائهم الموجودين بمصر في منزل سموِّ السيد محمد إدريس في جهة فكتوريا برمل الإسكندرية، وظلوا يتباحثون ثلاثة أيام بتمامها، وأسفر تبادل الرأي عن اتخاذ قرارٍ بتفويض الأمير في أن يقوم بمفاوضة الحكومة المصرية أو الحكومة الإنجليزية بشأن تكوين جيشٍ سنوسي مُهمته الاشتراك في افتتاح الأقطار الليبية واسترجاع أرض الوطن عند دخول إيطاليا الحرب إلى جانب ألمانيا، وأكدوا اختيارهم لسمو السيد إدريس ووضعوا ثقتهم الكاملة في سموِّه حتى يُمثلهم تمثيلًا كاملًا في جميع ما يعرض من شئون، ثم وقَّعوا على وثيقة بهذا المعنى في يوم ٩ رمضان ١٣٥٨ﻫ (٢٣ أكتوبر ١٩٣٩م) جاء فيها:

«بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسول الله، قد اجتمع زعماء ومشايخ الجالية الطرابلسية البرقاوية المهاجرون بالديار المصرية في اليوم السادس من شهر رمضان المعظم ١٣٥٨ﻫ بالإسكندرية، وتشاوروا في حالتهم الاستقبالية، وقرَّ قرارهم على انتخاب من يُمثلهم في كل الأمور، ويُعرب عن آرائهم، وبذلك وضعوا ثقتَهم في سمو الأمير السيد محمد إدريس المهدي السنوسي، الذي يُمثلهم تمثيلًا حقيقيًّا لِما له من المكانة الرفيعة في نفوسهم، حيث يرَونه أحسن قدوة يُقتدى بها. وقد قبل منهم ذلك على أن تكون هيئة مُنتخبة شورية مربوطة به ومربوط بها لتكون الأداة المُبلغة والمُعربة عن منتخبيها، وهي التي تُمثل جميعهم تمثيلًا صحيحًا، وأن يُعيَّن وكيل لها يقوم مقامَه في حالة الغياب، ويكون من أفراد الهيئة في حالة حضوره، وللهيئة الحق في تثبيت هذا الوكيل أو رفضه بأغلبية الأصوات، وعليه حَرَّر هذا التوقيع رؤساء القبائل الطرابلسية البرقاوية. والمولى سبحانه وتعالى يوفِّق الجميع لما يُحبُّه ويرضاه.»

وقد بلغ عدد الذين وقَّعوا على هذا التفويض من ترهونة ومطرانتة وبنغازي وورفلة وغريان والقصور والمنفة والعواقير والبراعصة والعبيد والمغاربة والحاسة وغير ذلك من القبائل الطرابلسية والبرقاوية واحدًا وخمسين شيخًا، منهم مِن المجاهدين القدماء: عبد السلام الكزة عن قبيلة العواقير، وصالح الأطيوش رئيس قبيلة المغاربة، وعبد الحميد العبار وعون محمد سوف وأحمد شتيوي وعبد الحميد أبو مطاري ومحمد توفيق الغرياني وإبراهيم أحمد الشريف السنوسي وغيرهم.

وعلى ذلك فقد اجتمع سمو الأمير بالجنرال ويلسن Wilson قائد الجيوش البريطانية العام في القُطر المصري، وتحدَّث إليه فيما اتخذه الرؤساء الليبيون من قرارات، وأبلغه استعداد الليبيين الموجودين بمصر للدفاع عن الحدود المصرية والزحف مع الجيوش الحليفة إلى بلادهم إذا أعلنت إيطاليا الحرب ودخلت هذه الجيوش الأراضي الليبية.

وكان لهذا القرار الحكيم صداه في دوائر المجاهدين القدماء في خارج القطر المصري، وعلى وجه الخصوص في دمشق، فقد بادرت «جمعية الدفاع الطرابلسي البرقاوي» بمجرد أن وصلتها أخبار اجتماع الإسكندرية بعقْد اجتماعٍ في دمشق في يوم ٢٩ شوال ١٣٥٨ﻫ (١١ ديسمبر ١٩٣٩م)، واطَّلعت على صورة القرار الموقَّع عليه من زعماء ورؤساء المجاهدين في القطر المصري بتاريخ ٩ رمضان ١٣٥٨ﻫ (٢٣ أكتوبر ١٩٣٩م)، وهو القرار الذي يتضمَّن، على حدِّ قول جمعية الدفاع «أن جميع الزعماء ورؤساء القبائل وكبار المجاهدين بدون استثناء اتَّفقت كلمتهم وتعاهدوا جميعًا على أن يَدينوا بالولاء والطاعة والإخلاص لسموِّ الأمير السيد محمد إدريس المهدي السنوسي، وأنهم عقدوا عليه الآمال في حالهم ومُستقبلهم ليُمثِّل أمام الحكومات والسلطات والهيئات أمانيَّ القُطر الطرابلسي البرقاوي تمثيلًا حقيقيًّا صحيحًا، ويتكلَّم باسم الجميع، على أن تكون له هيئة مُنتخبة منهم وله نائب يقوم مقامه عند مسيس الحاجة، وتُلِيَت التوقيعات فتبيَّن أنها هي توقيعات من بأيديهم الحل والعقد في القطر الطرابلسي البرقاوي من الأحرار الذين عاهدوا الله على الدفاع عن الوطن وحقوق الأمة.» فكان لِما جاء فيه من الغاية السامية أبلغ الأثر في نفوس الجميع لأنه حقَّق رغباتهم الصادقة في توحيد الكلمة، وبرهن على ثبات هذه الأمة في المُطالبة بحقوقها وولائها للأمير المحبوب. ولما كان الأمير المشار إليه مُبايَعًا له بالإمارة أولًا وآخرًا، وهو محطُّ آمال الجميع في الحاضر والمستقبل لإخلاصه للوطن ودفاعه المجيد عنه، ولا يوجَد من يشذُّ عن آرائه الصائبة ولا مَن يُخالفه في التضحية بالنفس والنفيس في سبيل سعادة الوطن والأمة وإعلاء كلمة الله، قرَّر الجميع تأييد قرار إخوانهم الطرابلسيين البرقاويين في القُطر المصري بدون قيدٍ ولا شرط، وكلَّفت الهيئة تنظيم هذا القرار الإجماعي للأعراب لسموِّ الأمير السيد محمد إدريس المهدي السنوسي عن الثقة التامَّة به والولاء الكامل له، ما دام متمسكًا بكتاب الله وسنة رسوله مُتخذًا التأهبات اللازمة للقيام بعملٍ جدِّي حين تدعو الظروف إليه، وهذه تواقيعنا تشهد أمام الله والوطن والأمة بعهدنا هذا، ومن ينكُث فإنما ينكث على نفسه، والله ولي الجميع.»

وحفظ الليبيون عهودهم، فإنه بمجرد أن أعلنت إيطاليا الحرب في يونيو سنة ١٩٤٠م نقل الأمير السيد إدريس مقرَّ إقامته من الإسكندرية إلى مزارعه بجهة كرداسة قريبًا من القاهرة، وذلك حتى لا يكون بعيدًا عن مقرِّ القيادة العُليا للشرق الأوسط التي اتَّخذت مكانها في القاهرة، وتدفَّق على مقرِّ سموِّه سَيل الليبيين المجاهدين القدماء، يطلبون الانضمام إلى جانب إنجلترا ومساعدتها، في وقتٍ كانت قد اشتدَّت المِحنة بهذه الدولة العظيمة عقب انهيار فرنسا، ويبغون الاشتراك في الحملات التي توقَّعوا بدءها قريبًا، على أن يكون ميدان العمل في برقة والكفرة والفزان وطرابلس بالزحف عليها جميعًا. وأسفرت مباحثات السيد إدريس مع القيادة العامة بالقاهرة عن موافقة الإنجليز أن يبدأ «فورًا تكوين فصائل من القبائل السنوسية العربية لاسترداد حُريتهم واستخلاص بلادهم من أيدي الإيطاليين الظلَمة وإعادة الاستقلال مرة أخرى.» وعلى ذلك فقد دعا سمو السيد إدريس مشايخ القبائل وزعماء المجاهدين الموجودين بالقُطر المصري أو أولئك الذين كانوا في خارجه، وذلك للاجتماع في مكانٍ بالقاهرة في يوم الخميس ٨ أغسطس سنة ١٩٤٠م من أجل «المباحثة في شروط الخدمة المُقترحة». وكان من بين الذين وصلتهم دعوة الأمير اليوزباشي الشيخ عمر فائق شنيب في درنة، وذلك حتى يستوضح منه الأمير — على نحو ما جاء في كتاب سموِّه إليه — عن «عدد الرجال الذين يُمكنه أن يعتمد عليهم في تنفيذ مشروع تكوين الجيش السنوسي المنتظر.»

وانعقد الاجتماع قبل الموعد المُعيَّن بيومٍ واحد في أحد أحياء القاهرة «جاردن سيتي» في منزل أعدَّته السلطات الإنجليزية لهذا الغرَض خصوصًا، واستمرَّ البحث طيلة يومي ٧ و٨ أغسطس، وفي يوم ٩ أغسطس سنة ١٩٤٠م وصلت «الجمعية الوطنية الليبية» إلى القرارات الآتية:

  • (١)

    وضع الثقة في دولة بريطانيا العظمى التي مدَّت يد المساعدة لتخليص الوطن الطرابلسي البرقاوي من براثن الاستعمار الإيطالي الغاشم.

  • (٢)

    إعلان الإمارة السنوسية والثقة التامَّة بالأمير السيد محمد إدريس السنوسي المهدي المُبايَع له بالإمارة على القُطرَين.

  • (٣)

    تعيين هيئة تُمثل القطرَين طرابلس وبرقة تكون مجلس شورى للأمير المشار إليه.

  • (٤)

    خوض غمار الحرب ضد إيطاليا بجانب الجيوش البريطانية وتحت علَم الإمارة السنوسية.

  • (٥)

    تعيين حكومة سنوسية تدير الشئون اللازمة في الوقت الحاضر مؤقتًا.

  • (٦)

    تعيين هيئة تجنيد يكون مقرُّها ضمن مقرِّ الحكومة السنوسية.

  • (٧)

    التوسُّل لدى الحكومة البريطانية بواسطة الأمير المُشار إليه بطلَب المُخصَّصات اللازمة للتجنيد ولإدارة الحكومة، وتعيين ميزانية خاصة ونظام مؤقت مُستمد من الميثاق الوطني حسب عوائد وتقاليد العرب.

  • (٨)

    تفويض سمو الأمير بمراجعة الدولة البريطانية، لعقد الاتفاقات والمعاهدات السياسية والمالية والحربية التي تُوفِّي هذه الغاية وتضمن للوطن حُريته واستقلاله.»

وبعد تلاوة هذا القرار (بصورة علنية وبعد قراءته) وقَّع عليه الحاضرون، وعاهدوا الله على اتباعه والعمل بموجبه تحت رعاية أميرهم السيد محمد إدريس المهدي السنوسي. وكان من هؤلاء صالح الأطيوش وعبد الجليل سيف النصر وعبد الحميد العبار وعبد الحميد أبو مطاري والهادي عبد الرحمن وعمر فائق شنيب وغيرهم.

وفي يوم ٩ أغسطس حضر الجنرال ويلسن إلى مكان الاجتماع، فاستقبله سمو الأمير مُرحبًا وشكره على «ضيافة الجماعة»، وأبدى الجنرال رغبته في إلقاء كلمة على الزعماء والمشايخ المُجتمعين، فقال: «إن اشتراككم مع قوات صاحب الجلالة في سحق العدو المُشترك، هو تحرير لوطنكم واسترداد أملاككم وحُريتكم واستقلالكم.» ثم أضاف أنه على استعدادٍ لتزويد الجيش بكل ما يلزمه من أسلحةٍ وعتاد. ثم انتدب سمو الأمير بعد ذلك خمسة من الزعماء الحاضرين لتقديم القرارات التي وصلوا إليها إلى الجنرال ويلسن، هم صالح باشا الأطيوش وعبد الجليل سيف النصر وعمر فائق شنيب وعبد الحميد العبار وسعيد الشلبي، فقدَّم هؤلاء هذه القرارات إلى الجنرال كلايتون حتى يُسلمها بدوره إلى الجنرال ويلسن. بيد أنه لمَّا كانت صعوبة المواصلات وقتذاك تحول دون وصول جواب وزارة الخارجية البريطانية بسرعة، فقد كان من رأي الجنرال ويلسن المبادرة بتشكيل الجيش السنوسي. وبدأ العمل فورًا، فتأسس أول مكتبٍ للتجنيد بالقاهرة في يوم ١٢ أغسطس ١٩٤٠م، وعُين لقيادة الجيش السنوسي العامة الكولونيل بروملو Bromlow، ثم عُين الكابتن أندرسون ضابط اتصال إنجليزي، واليوزباشي عمر فائق شنيب ضابط اتصال عربي، وخُصِّص للخدمة في الجيش السنوسي أربعة ضباط من الإنجليز، وبدأ العمل بكل همةٍ في تأليف الجيش السنوسي. وكان مما طلبه الليبيون أن تكون الأوامر الصادرة إلى الضباط العرب باسم أمير البلاد السيد إدريس، فجرى الاتفاق على الصيغة الآتية: «بناءً على اختيار سعادة الكولونيل بروملو قائد الجيش السنوسي البريطاني لما رآه في حضرتكم من الأهلية والكفاءة، وطبقًا لموافقة الأمير السيد محمد إدريس المهدي السنوسي، أنا القائد العام للجيوش البريطانية في القُطر المصري، أُوجِّه رتبة … في الجيش السنوسي البريطاني إلى حضرة … اعتبارًا من تاريخ هذا الأمر الصادر في … الإمضاء «ويلسن» القائد العام.»

وكان أبناء الأسرة السنوسية الشريفة أول من جُنِّدوا وانخرطوا في سلك هذا الجيش، وأخذ الليبيون الذين بادروا بتقديم أنفسهم حتى يُجنَّدوا يتدفَّقون على مكتب التجنيد بالقاهرة، وجُعل عمر فائق شنيب بك رئيسًا لهذا المكتب، وكان سكرتيره محمد أفندي المجون، ثم أُنشئ معسكر كبير بجهة أبي رواش (مركز إمبابة) لتدريب المتطوِّعين. وأكثر سمو الأمير من زيارة هذا المعسكر والإشراف بنفسه على حركة التطوُّع وتدريب المُجندين. ولما كان المجندون من المجاهدين أبناء ليبيا الذين لم تكن حياة الحرب والكفاح جديدة عليهم، فقد أمكن تدريبهم بسرعةٍ عظيمة على الأساليب الحديثة، واستطاع جيش كبير منهم (عدد أفراده ١٤ ألفًا من الجنود و١٢٠ من الضباط الليبيين) أن يشترك إلى جانب الجيش البريطاني في المعارك التي نشبت بعد ذلك مباشرةً، عندما بدأ الطليان زحفَهم على الحدود المصرية بعد أقلَّ من شهرٍ واحد تقريبًا من تأسيس مكتب التجنيد. وتاريخ الجيش السنوسي الباسل في الحرب العالمية الثانية إنما هو تاريخ (حملة ليبيا) بأكملِها في خلال سنوات: ١٩٤٠م و١٩٤١م و١٩٤٢م و١٩٤٣م.

فقد بدأ الطليان بقيادة الماريشال غرزياني «جزار ليبيا» زحفهم على الحدود المصرية في شهر سبتمبر سنة ١٩٤٠م، واحتلوا السلوم في يوم ١٣ سبتمبر، وبعد ثلاثة أيام وصلت طلائعهم إلى سيدي براني، وعندئذٍ أرسلت القيادة العامة الفصائل السنوسية التي تم تدريبها في معسكر أبي رواش (وغيره من المعسكرات التي أقيمت بعد ذلك) إلى الحدود المصرية الغربية، فصدت القوات المتحدة، من بريطانيةٍ وسنوسيةٍ، العدو. وفي ٨ ديسمبر بدأت هذه الجيوش بقيادة الجنرال ويفل Wavell القائد العام للقوات البريطانية في الشرق الأوسط زحفها على العدو، ثم استولت على سيدي براني في ١١ ديسمبر وطردت العدو من مراكزه، فكان خروج الطليان من سيدي براني مؤذِنًا ببداية ذلك الزحف الخاطف الذي مكَّن ويفل في خلال شهرَين فقط من الاستيلاء على برقة. فقد استعادت القوات البريطانية والسنوسية السلوم، ثم سقطت في أيديهم بردي سليمان (البردية) بعد حصار قصير في ٥ يناير ١٩٤١م، على الرغم من مقاومة العدو الشديدة، وكذلك سقطت طبرق بعد حصارٍ شاقٍّ في ٢٢ يناير. وهذا بينما كانت قوات أخرى من جيوش الحلفاء قد بدأت حصار واحة الجغبوب منذ ١٤ يناير، ولم ينقضِ شهر يناير حتى كان العدو قد طُرد من درنة، وبدأ الزحف على الجبل الأخضر، فسقطت شحات وميناء سوسة والمخيلي ومارة واسلنطة، ودخلت الجيوش المتحالفة المرج في ٦ فبراير وبنغازي في اليوم التالي، ثم احتلت أجدابية في اليوم الثالث والعقيلة في ٩ فبراير سنة ١٩٤١م.

وفي الوقت الذي كان فيه الجيش السنوسي يشترك مع البريطانيين في مطاردة العدو واحتلال هذه المواقع في برقة الشمالية، كانت قوات أخرى من السنوسيين والعرب الذين هاجروا من واحات الكفرة وقت استيلاء الطليان عليها (١٩٣٠م) قد انضمَّت إلى جيوش الفرنسيين الأحرار في السودان الغربي، واستطاع هؤلاء الوصول إلى الكفرة في نفس اليوم الذي دخلت فيه جيوش ويفل بنغازي في ٧ فبراير ١٩٤١م. وفي مدى خمسة أيام فقط كان قد تمَّ لهم الاستيلاء على جميع واحات الكفرة (١٢ فبراير). وفي ٢١ مارس سلَّمت الحامية الإيطالية في الجغبوب بعد حصارٍ دام ستة وثلاثين يومًا.

على أن هذا الانتصار السريع الخاطف ما كان يمكن أن يتمَّ بهذه السهولة في هذا الزحف الأول وفي الزحفَين الثاني والثالث بعد ذلك إلا نتيجةً لعوامل عدة، منها ما كان متعلقًا بخُطط القيادتَين البريطانية والإيطالية العسكرية، ومنها ما كان متعلقًا بنشاط أهل البلاد الليبيين أنفسهم؛ ذلك بأن سمو السيد إدريس لم يكتفِ بتشكيل الجيش السنوسي للزحف إلى جانب البريطانيين في حملة ليبيا، بل إن سموه سرعان ما صار يرسل «الرسل إلى المدن والقرى ومواطن البادية» ينشرون في طول البلاد وعرضها أوامر السيد. وفضلًا عن ذلك فقد وقع سموُّه على النشرات التي صارت تُلقيها الطائرات على الشعب الليبي، «واستصرخ الشعب لمناصرة بريطانيا من محطَّات الإذاعة، وزوَّد ضباط الاستعلامات البريطانية الذين يعملون خلف خطوط الأعداء سرًّا بالرجال الأمناء والتوصيات للزعماء وأهل الوطن لإخفائهم وإرشادهم وإمدادهم بالمساعدات والمؤن، فهبَّ الشعب الليبي على بكرة أبيه رجالًا ونساءً، كل يعمل على قدْر استطاعته خلف خطوط الأعداء في إخفاء ضبَّاط الاستعلامات وتموينهم وإنقاذ الجرحى وتمريضهم وإخفائهم، وتهريب الأسرى من الضباط والجنود البريطانيين والطيارين الذين وقعوا في قبضة الأعداء وإبلاغهم مأمَنهم، وإظهار عورات الأعداء بواسطة الإدلاء على محالِّ قوتهم واستحكاماتهم وطيرانهم ووقودهم وتدمير أدوات حربهم ومؤنهم.»

وكان الطليان قد أرغموا كثيرين على الخدمة العسكرية كي يُحاربوا في صفوفهم عند بدء الحرب في الصحراء، فعُنيت قيادة الجيش البريطاني العامة بأمر هؤلاء الليبيين وعملت على استمالتهم إلى ترك صفوف الطليان، فأصدر الجنرال ويفل منشورًا سريًّا يدعوهم فيه إلى الانضمام إلى الجيش السنوسي. وعلى ذلك فإن هؤلاء ما إن شاهدوا «أعلام وطنهم المُقدسة» تخفق على الدبابات والمصفحات وتُرفرف على طلائع الجيش الزاحف حتى بادروا بتسليم أنفسهم على الفور، فبلغ عدد المُستسلمين حوالي سبعة عشر ألف جندي ليبي اشتركوا في المعارك التالية إلى نهاية الحملة الليبية وطرْد القوات الإيطالية والألمانية نهائيًّا من كل ليبيا، واستُشهد منهم ألوف في ساحات القتال.

وقد كان من أثر ذلك كله أن اضطر العدو إلى الاحتفاظ بقسمٍ كبير من قواته العسكرية في داخل البلاد لمراقبة الأهلين والتنكيل بهم، وبخاصة عندما ثبت لدَيه «أن ضباط الاستعلامات البريطانية كانوا يحضرون اجتماعات الأعداء سرًّا بدون أن يُعرَفوا بينهم، وذلك من تدابير زعماء الوطن.»

وظهرت قسوة الطليان وأحلافهم الألمان في الانتقام من الأهالي عندما اضطرت جيوش ويفل إلى الارتداد السريع أمام قوات روميل الألماني الذي جاء خصوصًا إلى ليبيا لتولِّي القيادة إلى جانب الماريشال غرزياني، وكان زحف روميل المشهور زحفًا خاطفًا، إذ بدأ روميل عملياته العسكرية بالزحف على العقيلة ودخولها في أول أبريل ١٩٤١م، وفي اليوم التالي استولت القوات المحورية على البريقة والقطوفية، وتم انسحاب ويفل بكل سرعة، فدخل العدو أجدابية ثم بنغازي، وفي يوم ٤ أبريل زحفت قوات روميل من بنغازي إلى الجبل الأخضر فسقطت درنة، وفي يوم ١٣ أبريل وصلت جيوشه إلى بردي سليمان (البردية) وحصن كابتزو، وكان كل ما احتفظ به البريطانيون والسنوسيون ميناء طبرق وواحة الجغبوب، بينما احتفظ أحلافهم الفرنسيون ومعهم القوات السنوسية في الجنوب بواحة الكفرة. وفي أثناء هذا الزحف الخاطف وقع كثيرون من الجنود البريطانيين في أسر العدو. وأما الجيش السنوسي فقد تمكَّنت أكثريته العُظمى من النجاة لمعرفتهم بطرق الصحراء ودروبها، فوصلوا سالِمين إلى الحدود المصرية ومعهم كلُّ سلاحهم ومعداتهم.

وما إن استرد الطليان وأحلافهم بلاد برقة حتى أخذوا ينتقمون لأنفسهم من الأهالي انتقامًا مروعًا على معاونتهم لجيوش ويفل. واتخذ هذا الانتقام صورًا عدة، «فارتكب الطليان الفظائع وخربوا برقة وشتتوا أهلها وقتلوا أغلبهم ظلمًا وعدوانًا.» وكان من أعمالهم الانتقامية أنهم شنقوا من أهل المرج ثلاثمائة رجل دفعةً واحدة، ثم وضعوا الجميع في حفرة وردموا عليهم بالتراب، وارتكبوا مثل هذه الفظائع في طبرق وبنغازي ودرنة وسرت وطرابلس وغيرها من المدن. ويصف أحد أبناء ليبيا طرفًا من هذه الفظائع التي ارتكبها الطليان مع الأهلين في خطابٍ أرسله إلى أحد قدماء المجاهدين — توفيق نوري البرقاوي — ببغداد في مارس ١٩٤٢م، فيقول: «ومن ضِمنهم (أي من ضمن العائلات التي مثَّل الطليان بأفرادها): عائلة جودة (وكان أحد أفراد هذه الأسرة ضابطًا بالجيش السنوسي)، وهم ساكنون بالبركة بشارع العرفية، فدخلوا عليهم الإيطاليون ومعهم رشاشة وقنابل يدوية بين نسائهم وأطفالهم الصغار، وقتلوا الحاج صالح وابنه إبراهيم وعثمان وأخاه موسى والوطني الغيور أبا بكر وامرأتَين في ساعة واحدة. ثم عائلة صالح الطويل، فقد اعتدوا على العِرض وقتلوا من وجدوه من الرجال، وعائلة بوشعالة، وغيرهم وغيرهم ممن تضيق عن سرد أسمائهم هذه العجالة.» دع ما جرى في بنغازي من السيشلياني، وهم وحدهم جعلوا مجزرةً في شوارع المدينة. عبد الرحيم الشطاط قُتل أمام سوق الظلام من أحد الإيطاليين وهو ذاهب لبيتِه، وقد ترك وراءه ستة أولاد وأختَه وأمَّه، وأكبر أولاده لا يزيد على ٨ سنوات. دع عنك تحطيم أبواب المنازل وأخْذ كلِّ ما وجدوه من عفشٍ ومئونة. وكان البعض حاسبًا حِساب المجاعة، فاختزن من كل شيءٍ من المواد الغذائية. أما من القوارشة غربًا، وهي تبعُد ١٢ كم عن بنغازي، والكويفية شرقًا وهي ٨ كم، فكل العربان مُسلحون، والنواجع انضمَّ بعضها لبعضٍ حتى كادت تكون كتلةً واحدة، ولم يجرؤ لا الإيطاليون ولا ساداتهم الألمانيون على الاقتراب من بيوتهم؛ لأنهم حاربوهم فردُّوهم — بعد ما قتلوا منهم الثلثَين تقريبًا — خائِبين.»

ويشير صاحب الخطاب في كلمته هذه إلى مسألة اغتصاب جنود غرزياني وروميل لكلِّ ما كان لدى الأهلين من مؤنٍ اختزنوها في بيوتهم خوفًا من المجاعة على حدِّ قوله، وتفصيل الأمر أن السلطات المحورية قبل الزحف البريطاني الأول واضطرارها إلى الانسحاب أمام جيوش ويفل، كانت قد جمعت كل ما كان بالبلاد من مؤنٍ وأقوات لتموين جيوشها، فوجد البريطانيون عند حضورهم أهل البلاد على وشك الهلاك جوعًا، فجاءوا بالغِلال والمواد الغذائية المختلفة «لإنقاذ» الأهلين ووزَّعوها عليهم، وادَّخر هؤلاء كمياتٍ كبيرةً منها في بيوتهم، وامتلأت الأسواق والمخازن بالأرزاق. وعلى ذلك فإنه بمجرد انسحاب جيوش ويفل عمد الطليان وحلفاؤهم الألمان إلى جمع هذه الأقوات واغتصابها من أصحابها، فنهبوا الأسواق والمخازن والحوانيت، واقتحموا البيوت واستولوا على كلِّ ما ادَّخره أصحابه منها. وكان في أثناء تفتيش البيوت أن هتك الطليان والألمان الأعراض وقتلوا الأنفس ومثَّلوا بالأهلين أفظع تمثيلٍ انتقامًا منهم لمُعاونتهم الجيوش الزاحفة لتخليص ليبيا. ثم تكرَّرت هذه المآسي عندما استولت الجيوش البريطانية والسنوسية على البلاد، ثم اضطروا إلى الانسحاب منها مرةً ثانية على نحو ما يأتي ذكره.

فقد نقل الجنرال ويفل من قيادة الشرق الأوسط إلى القيادة البريطانية العامة في الهند في بداية شهر يوليو من عام ١٩٤١م، ونقل مكانه من الهند السير كلود أوكنلك، فوصل القائد العام الجديد إلى القاهرة في ١١ يوليو، وبدأ في التوِّ والساعة عملية استكشاف واسعة خلف خطوط العدو، فأرسل السيارات المُصفحة بقواتٍ من الفدائيين «الكوماندو»، سار فريق منهم من الحدود المصرية إلى منطقة العقيلة، وسار الفريق الآخر من واحات الكفرة — وهذه كانت قد بقِيَت بأيدي الفرنسيين الأحرار والسنوسيين على الرغم من انسحاب جيوش ويفل في الشمال — فتقدمت هذه القوة الثانية وسط الفزان إلى مرزق، وكان مع الفدائيين في هذا الزحف المحفوف بالمخاطر عبد الجليل سيف النصر، واشترك عبد الجليل سيف النصر في المعارك التي نشبت، ولكنه عاد سالمًا مع هذه الجماعة إلى الحدود المصرية. وزيادةً على ذلك فقد عادت الجماعة الأولى من مهمتها في العقيلة بعد أن تكلَّلت جهودها كذلك بالنجاح، وكانت عودة الفريقَين في أوائل أغسطس. وقضى أوكنلك ما يقرب من ثلاثة شهور ونصف شهر يتأهَّب للزحف الجديد. وفي ١٨ نوفمبر ١٩٤١م بدأت الجيوش البريطانية والسنوسية زحفها الثاني على ليبيا، فوصلت بعد يومَين إلى نقطة الناضورة على بُعد عشرة أميال إلى الجنوب الشرقي من طبرق، ثم اتخذ الزحف طريقَين، أحدهما بمحاذاة الساحل والآخر داخل برقة، فاحتلَّت القوات الزاحفة في الداخل واحتَي أوجلة وجالو في يومَي ٢٥ و٢٦ نوفمبر، بينما وصلت الجيوش البريطانية والسنوسية الزاحفة على امتداد الساحل إلى عين الغزالة في ١٢ ديسمبر ثم إلى عين التميمي وأم الرزم بعد ذلك بثلاثة أيام، ثم احتلوا درنة في ١٩ ديسمبر. وفي الوقت نفسه احتلت القوات الأخرى المخيلي، ثم تابعت القوتان زحفهما على بنغازي، فدخلتها جيوش أوكنلك في ٢٤ ديسمبر. وفي ٢٥ ديسمبر تقدَّم الجيش الزاحف من مسوس فاستولى على شلظيمة وسلوق وقمينس وجردينة، وطوَّق أجدابية التي سقطت بعد حصارٍ قصير، فاحتلَّها البريطانيون والسنوسيون في ٧ يناير ١٩٤٢م، ثم زحفت بعض الوحدات الميكانيكية على واحة مرادة، فاحتلتها في ١١ يناير. وفضلًا عن ذلك فقد قامت قوات فرنسا الحرة بقيادة الجنرال جاك فيليب ليكلير بزحفٍ كبير من منطقة تشاد بالسودان الغربي ومعها قوات المجاهدين من أهل طرابلس والفزان وبرقة بزعامة أحمد بك سيف النصر وغيره من كبار المجاهدين القدماء، فتمكَّنت هذه القوة الباسلة من الاستيلاء على القطرون جنوب مرزق، ثم زحفت على زويلة واحتلتها، واستولت بعد ذلك على واو الكبير (أو واو الشعوف)، ثم اتجهت شمالًا بغرب فاحتلت واحة تميسة. وبذلك أصبح جنوبي الفزان في قبضة الحلفاء بمعاونة المحاربين من أهل ليبيا.

وساهم الجيش السنوسي مع القوات البريطانية، وساهم المجاهدون الليبيون مع القوات الفرنسية الحُرة في كسْب هذه الانتصارات السريعة؛ وكان لهذه المعاونة أثر عميق في نفوس الشعب البريطاني قاطبةً، حتى إن وزير خارجية بريطانيا في ذلك الوقت العصيب، المستر أنطوني إيدن، ما لبث أن ألقى في مجلس العموم البريطاني في ٨ يناير ١٩٤٢م بالتصريح التالي ردًّا على سؤالٍ وجَّهه إليه أحد النواب، فقال: «إني أصرِّح بأن السيد إدريس المهدي السنوسي اتصل بالهيئات البريطانية المسئولة في مصر في خلال شهر من انهيار فرنسا في وقتٍ لم يكن فيه الموقف العسكري في أفريقيا ملائمًا لنا على الإطلاق. فتألف فيما بعدُ جيش سنوسي يضمُّ أتباعه الذين قد تخلصوا من نير الظلم الإيطالي بين حينٍ وآخر في خلال العشرين سنة الماضية. وقام هذا الجيش بمساعدات قيمة أثناء القيام بتلك العمليات الحربية الموفَّقة في الصحراء الغربية في شتاء ١٩٤٠م و١٩٤١م، وهو الآن يقوم بنصيبٍ قيِّم في الحملة العسكرية الحالية، فأنتهز هذه الفرصة لأُعبر عن التقدير التام الذي تحمِله حكومة صاحب الجلالة البريطانية للنصيب الذي قام به وما زال يقوم به السيد إدريس السنوسي وأتباعه في المجهود البريطاني الحربي. وإننا نُرحب بتعاونهم مع قوات صاحب الجلالة البريطانية في مهمة سحق العدو المشترك، وقد وطَّدت حكومة صاحب الجلالة البريطانية عزمها على أنه متى انتهت الحرب لن تسمح بوقوع السنوسيين في برقة تحت النير الإيطالي مرةً أخرى بأي حال من الأحوال».

على أنه ما كاد يمضي أسبوعان على صدور هذا التصريح حتى كان روميل قد اتَّخذ عُدته الكاملة للقيام بهجومٍ سريع على مراكز البريطانيين وخطوطهم، فانقضَّت قوَّته فجأة وبسرعة خاطفة في يوم ٢٣ يناير ١٩٤٢م على خط البريطانيين والسنوسيين المُمتد من العقيلة إلى أجدابية، واستطاع أن يقتحم هذا الخط في يومٍ واحد، حتى إذا كان مساء اليوم نفسه قضى روميل بعض الوقت في أجدابية للراحة والاستجمام استعدادًا لاستئناف الهجوم والزحف. وفي اليوم التالي (٢٤ يناير) وقعت معركة كبيرة في المُثلث المحصور بين أجدابية وساونو وعين الثلاث، كان النصر فيها حليف روميل، فاستطاع أن يحتلَّ مسوس في اليوم التالي وتقدَّم إلى منطقة الرجمة إلى الجنوب الشرقي من بنغازي وقريبًا منها، فاضطرت جيوش أوكنلك إلى الانسحاب من بنغازي في يوم ٣٠ يناير، وكان زحف روميل بعد ذلك سريعًا، فوصل إلى درنة في ٣ فبراير، وانحرف إلى الجنوب الشرقي فاحتل مرتوبة بعد ثلاثة أيام، ثم تابع زحفَه فاحتلَّ أم الرزم شمال خليج البمبة، وعندئذٍ تقهقر البريطانيون إلى عين الغزالة، ثم تحصَّنوا في إقليم البطنان، واتخذوا لدفاعهم خطًّا يمتدُّ من عين الغزالة على الساحل شمالًا إلى بئر حكيم في الجنوب، بينما انسحبت قواتهم في المنطقة الجنوبية من مرادة وواحات جالو وأوجلة وجخرة، فكان انسحابهم من برقة والجبل الأخضر انسحابًا تامًّا، ولم يبقَ للحلفاء سوى واحات الكفرة والمنطقة الجنوبية الشرقية من إقليم فزان إذ ظلَّت القوات الفرنسية الحرة وقوات المجاهدين الليبيين مُحتفظةً بها.

وكانت خطوة روميل التالية أن يعمل على إخراج جيوش البريطانيين والسنوسيين من إقليم البطنان تمهيدًا لاختراق الحدود المصرية والزحف نحو مريوط والإسكندرية من جهة، ثم صوب واحة سيوة من جهةٍ أخرى وغزو القُطر المصري. وبدأ روميل عند تنفيذ هذه الخطة بالهجوم على بئر حكيم في ٢٧ مارس ١٩٤٢م، ثم اتسع ميدان القتال حتى شمل المنطقة بأكملها من عين الغزالة في الشمال إلى بئر حكيم في الجنوب. وكانت تقوم بالدفاع عن بئر حكيم قوة من الفرنسيين الأحرار أبدت من ضروب البسالة ما لا تزال ذِكراه ماثلةً بالأذهان، ولكنها اضطرَّت في آخر الأمر إلى إخلاء بئر حكيم بعد أن تكَّبدت خسائر فادحة في يوم ١١ يونيو ١٩٤٢م. وعندئذٍ تحطم خط الدفاع فاستولى العدو على عين الغزالة في ١٥ يونيو، وبعد خمسة أيام فقط كان إقليم البطنان بأجمعه في أيدي الجيوش الزاحفة. وفي يوم ٢١ يونيو دخلت جنود روميل ميناء طبرق بعد أن أبدت القوات البريطانية والسنوسية من ضروب البسالة كذلك شيئًا عظيمًا. وفي اليوم نفسه سقطت في أيدي العدو بردي سليمان (البردية). وفي صبيحة اليوم التالي كان العدو يتأهَّب لاختراق الحدود المصرية، فبدأ الزحف فعلًا في يوم ٢٣ يونيو، وسقطت سيدي عمر وقلعة السلوم المصرية، ثم تبِعها سقوط بقبق وسيدي براني. وفي ٢٧ يونيو استولى روميل على مرسى مطروح، وكانت الجيوش البريطانية والسنوسية في أثناء ذلك قد ارتدَّت إلى خط دفاعٍ جديد يمتدُّ مسافة خمسين كيلومترًا من العلَمين عند خليج العرب في الشمال إلى حافة وادي القطارة جنوبًا، وأخذت الإمدادات والنجدات تتدفَّق بسرعةٍ عظيمة على هذه المنطقة لتعزيز مراكز الدفاع الجديدة، وحشدت أكثر القوات في منطقة العلَمين، وكان اختيار خط الدفاع الجديد اختيارًا موفقًا. فقد وصلت قوات روميل في فجر يوم أول يوليو ١٩٤٢م إلى مسافة قريبة من العلَمين، ولكن روميل لم يتمكن من اختراق الخط، فحوَّل جهوده إلى سيوة على أمل أن تستطيع قواته الميكانيكية التقدُّم إلى قلب الحدود المصرية، فتمَّ له احتلال هذه الواحة في ٢٤ يوليو، ولكنه لم يتقدَّم أبعدَ من ذلك، وكان من الواضح أن معركة مصر الفاصلة سوف تدور رحاها في ميدان العلَمين قريبًا.

وهكذا بات الموقف في شهري يوليو وأغسطس من عام ١٩٤٢م يُنذر بخطورة عظيمة، فأخذ البريطانيون من جانبٍ والسنوسيون من جانبٍ آخر يُنظمون قواتهم من جديد، ويُعززونها بمختلف الوسائل، فحضر رئيس الوزارة البريطانية مستر تشرشل إلى مصر في شهر أغسطس ليبحث الموقف بنفسه، واتُّخذت عدة إجراءات كان منها نقل الجنرال أوكنلك من القيادة العُليا في الشرق الأوسط، وإسناد هذا المنصب إلى الجنرال السير هارولد ألكسندر في ١٩ أغسطس ١٩٤٢م. ثم أسندت قيادة الجيش الثامن الذي خاض معارك ليبيا ورابَط عند العلمين إلى الجنرال مونتجومري. وزاد تدفُّق الذخائر والعتاد والأسلحة على العلَمين بسرعة كبيرة، ثم أخذ سمو الأمير محمد إدريس يعمل من جانبه بعد تبادُل الرأي مع القيادة الجديدة لاتخاذ الخطوات اللازمة لتعزيز القوات السنوسية. وبذَل الأمير في هذا السبيل جهودًا صادقةً، فقام بزيارات عدة لمعسكرات تدريب السنوسيين، وأكثر من الاجتماع بالضباط والجنود السنوسيين يتحدَّث إليهم ويرعى شئونهم، ويتناول معهم الطعام ويشرب الشاي على عادة العرب حتى يُثبِّت في نفوسهم الثقة والطمأنينة ويُشجعهم على المضيِّ في تدريبهم بكل همَّةٍ ونشاط، وأُخذت لسموِّه صور عديدة مع جنوده في أثناء هذه الزيارات؛ وكان لزيارات سموه لهذه المعسكرات ولا شكَّ أعظمُ الأثر في سرعة تشكيل الفصائل الجديدة ووقوفها على قدم الاستعداد للخدمة في الميدان عند أول سانحة. وتعددت معسكرات التدريب ومواقع السنوسيين في البرلس والسويس وجنيفة والصحراء الغربية والفيوم وغيرها. وكان الجيش السنوسي إلى جانب الاشتراك في الزحفَين السابقين على برقة قد اضطلع شطرٌ منه كذلك بحراسة مهمَّات الجيش الثامن بالقُطر المصري ومخازن الذخيرة ومراكز المخابرات اللاسلكية والموانئ عند تفريغ السفن المُحملة بالعتاد والأسلحة والمطارات. والجنود السنوسيون هم الذين تولوا حراسة المطار الذي هبط فيه المستر تشرشل بطائراته عند مجيئه إلى مصر، كما تولَّوا حراسة الطائرات التي أحضرته ثم عادت به إلى بلاده.

وعندما تمَّت الاستعدادات بدأ مونتجومري هجومه التاريخي البارع على مراكز العدو في يوم ٢٣ أكتوبر ١٩٤٢م، فدارت رحى معركة العلَمين الباهرة، وحفظ الجيش السنوسي مؤخرة الجيش الثامن في أثناء المعركة. وكانت معركة العلَمين معركة فاصلة، فاستطاع شطر من الجيش الثامن أن يزحف بمحاذاة الساحل، بينما تقدَّم جزء آخر في الداخل، فوصل الفريق الأول إلى بلدة سيدي عبد الرحمن في يوم ٣ نوفمبر، ووصل الفريق الآخر في اليوم نفسه إلى جهة العقاقير؛ وكان هذا التقدُّم مؤذِنًا بانتهاء هذه المعركة التاريخية الحاسمة، وهي معركة كلَّفت العدو خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، فبلغ عدد القتلى عشرة آلاف، ومن بين هؤلاء الجنرال فون شتوري الذي كان يلي روميل في القيادة، ثم وقع في الأسر تسعة آلاف من بينهم الجنرال ريتر فون توما قائد الفيلق الأفريقي. وبعد هذا النصر الحاسم كان الزحف عبارة عن «نزهة عسكرية»، فدخل البريطانيون والسنوسيون فوكة في ٤ نوفمبر، وأنزلوا بالألمان والطليان خسائر جسيمة، ووقع في الأسر من جنود الطليان وحدَهم أربعة آلاف، من بينهم قائد فرقة ترنتو الإيطالية ورئيس أركان حربه. ثم توالت هزائم المحوريين، فاسترد الجيش الثامن مرسى مطروح بعد يومَين، وخسر الطليان في هذه المرة حوالي عشرين ألف محارب سلموا بأسلحتهم وذخائرهم. وفي ٩ نوفمبر سقطت السلوم، ثم بادر العدو بإخلاء سيوة، وفي اليومَين التاليين احتُلَّت البطنان وسقطت طبرق. وفي ١٧ نوفمبر تم احتلال درنة. وفي ٢٠ نوفمبر دخل البريطانيون والسنوسيون بنغازي واضطرَّ العدو إلى التقهقُر منها بعد أن أضرم فيها النار ودمَّر معظم المدينة. وفي ٢٣ نوفمبر دخلت الجيوش المُظفرة أجدابية، وبعد يومَين وصلت إلى العقيلة. وفي الوقت نفسه كانت قوات أخرى تقوم باحتلال واحات جخرة وجالو وأوجلة التي أخلاها العدو بكل سرعة (٢٣ نوفمبر)، وتقدمت في زحفها إلى واحة مرادة (٢٦ نوفمبر). وكانت الخطوة التالية الزحف على طرابلس.

وعلى ذلك فقد بدأ مونتجومري زحفه من العقيلة في يوم ١٢ ديسمبر، وحاول روميل أن يصمد بما كان لدَيه من قواتٍ مُتعبة بين العقيلة والنوفيلية، فنشبت معركة حامية في يوم ١٣ ديسمبر كان النصر فيها حليف الجيش الثامن، فاضطرَّ روميل إلى الارتداد واحتلَّ الجيش الثامن النوفيلية في ١٨ ديسمبر. وبعد يومَين بدأ الجيش الزاحف في حصار سرت، بينما تقدم شطر منه صوب بويرات الحسون بين سرت ومصراتة، فكان من أثر هذا التطويل أن سقطت سرت في يوم ٢٥ ديسمبر، ووقع في أيدي البريطانيين آلاف الأسرى. واتسع نطاق العمليات العسكرية في طرابلس بعد هذه الانتصارات الرائعة التي أضعفت قوى العدو وأنهكتها، فاستطاعت جيوش فرنسا الحرة والمجاهدين الليبيين بقيادة الجنرال جاك فيليب ليكلير أن تزحف من مراكزها في الفزان صوب مرزق العاصمة، فبلغتها في يوم ٦ يناير ١٩٤٣م، ثم تقدمت شمالًا في زحفها حتى وصلت إلى براك في وسط القزان بعد يومَين فقط، ثم استولت على غات ولمَّا ينتصف شهر يناير، وأبدى العدو مقاومة بسيطة. وفي الوقت نفسه استأنف الجيش الثامن زحفه، فاحتلَّ ورفلة في يوم ١٦ يناير، ثم سقطت بعد يومَين في أيدي شطرٍ من القوات البريطانية والسنوسية مصراتة ثم زليطن في اليوم التالي (١٩ يناير)، ثم الخمس في ٢٠ يناير. وفي اليوم نفسه كان الجيش الزاحف من ورفلة قد احتل ترهونة، وعندئذٍ أخذت القوتان تتأهبان للزحف على مدينة طرابلس في وقتٍ واحد. وفي يوم ٢٣ يناير ١٩٤٣م دخلت جيوش مونتجومري مدينة طرابلس، وتقهقر روميل بكل سرعة. وكان من أثر تقهقُره السريع وتحطيم خطوط المحوريين أن تمكن جيش الجنرال ليكلير الزاحف من الفزان من الوصول إلى غدامس، ثم الاتجاه صوب الشمال الشرقي فاحتل مزدة، وقد التقت قواته بالقوات الزاحفة من الشرق على جنوبي طرابلس، فطهَّرت القوتان المنطقة الجنوبية بأكملِها من العدو. وهكذا لم تغرب شمس يوم ٧ فبراير ١٩٤٣م حتى كانت جيوش روميل المُنهزمة قد أخلت القُطر الطرابلسي بأجمعه. وأما قصة تقهقُر روميل بعد ذلك وتحصُّنه في تونس من ذلك الحين إلى أن ضيَّق الحلفاء عليه الخناق في شِبه جزيرة بون، ثم نزول الحلفاء في جزيرة صقلية وسقوط موسوليني ونزول الجيوش الظافرة في شبه الجزيرة الإيطالية، ثم تسليم إيطاليا دون قيدٍ أو شرط، فإن ذلك كله من تاريخ الحرب العالمية الثانية. ويكفي أن يذكُر المرء أن معركة العلَمين الحاسمة كانت البداية لكلِّ تلك الانتصارات الباهرة السريعة التي ضمِنت للحلفاء ضمانًا كبيرًا كسب الحرب العالمية في النهاية.

وكان لجلاء العدو عن طرابلس واحتلال القوات البريطانية والسنوسية لعاصمتها رنَّة فرحٍ وسرور عظيم لدى الليبيين. وقد عبَّر أمير البلاد سمو السيد محمد إدريس عن شعور الشعب الليبي قاطبةً عندما قال في حديثٍ نشره «المصور» بعدد ٢٩ يناير ١٩٤٣م، أي بعد استرجاع مدينة طرابلس بستة أيام فقط: «إني أحمد الله الذي جعلني أشهد خروج هؤلاء (الطليان) الظالمين من بلادنا.» وأقام الجيش السنوسي عقب استرداد بنغازي مهرجانًا عظيمًا في مصر احتفالًا بهذا النصر، حضرَه سمو السيد إدريس في أحد معسكرات الجيش بالصحراء، «فتعهد السيد فصائل الجيش» بعد أن أدى الجنود لسموِّه التحية العسكرية، ثم اصطفَّ الجنود على شكل مُربع حول فراغ ليتسنَّى للجميع سماع صوت الأمير الذي أخذ يخطب في جنوده مؤكدًا لهم «أن بريطانيا لا ترغب في الاستيلاء على أراضيهم واستعمارها كما فعل الإيطاليون.» وأنهم الآن سوف يعودون إلى أوطانهم قريبًا، حيث يعهد إليهم بالإشراف على الأمن وتوطيد دعائم السلام بالبلاد، وأوصاهم سموُّه أن يكونوا مثالًا في حُسن السلوك وقدوة طيبة لأهل بلادهم.

ولا جدال في أنه كان يحق لليبيين عمومًا والسنوسيين خصوصًا أن يطربوا، وحُقَّ لهم كذلك أن ينتظروا التحرير والخلاص من كل استعمارٍ أجنبي، وهم أولئك الشجعان البواسل الذين اشتركوا اشتراكًا فعليًّا في تحرير بلادهم وطرْد العدو الذي اغتصب منهم أوطانهم سنواتٍ كثيرة، وأسدَوا لجيوش الحلفاء خدماتٍ جليلة كان البريطانيون أنفسهم أول من اعترف بها، على نحو ما صرح به وزير خارجيتهم أنطوني إيدن في يناير ١٩٤٢م، وعلى نحو ما أثبتته صُحفهم بعد معركة العلمين خصوصًا. فقد نشرت جريدة «إجبشان غازيت» بمصر في شهر نوفمبر ١٩٤٢م مقالًا طويلًا، وصف فيه كاتبُه بسالة الجيش السنوسي وحادث تسليم آلاف الليبيين الذين جنَّدهم الطليان قسرًا إلى الجنرال ويفل إبَّان الزحف الأول. وقال إن جنود الجيش العربي «كانوا آخِر من غادر بنغازي ودرنة عندما ارتدَّت «الجيوش البريطانية»، وبرهنوا على أنهم كانوا أدلَّاء ومُغيرين وفدائيين ورجال مخابرات ذوي نفع لا يُقدَّر.» إلى أن قال: «وكان الليبيون مُرغمون على الخدمة مع الطليان إرغامًا، ومحاربين متطوِّعين مع البريطانيين بمحض إرادتهم.» بل إن أحد ضبَّاطهم قضى ثلاثة أشهر في سجن طرابلس قبل أن يستطيع الفرار من السجن، وعندئذٍ تحمَّل متاعب جسيمة عندما بدأ رحلةً طويلة شاقة سيرًا على قدميه مئات الأميال عبر صحراء لا ماء فيها حتى يعود إلى قواعد الجيش. وفضلًا عن ذلك فقد كان بين هؤلاء الجنود البواسل شبَّان لا يزيد عمرهم على السادسة عشرة وشيوخ مُسنون سبق لهم الجهاد ضد العدو سنوات طويلة. وفي ٢ أكتوبر ١٩٤٣م نشر المستر ﻫ. م. فوت Foot في «مجلة المُنتدى الفلسطينية» مقالًا بعنوان: «صفحة جديدة في تاريخ ليبيا»، جاء فيه: «إن تلك الشجاعة التي اشتهر بها السنوسيون عن جدارةٍ واستحقاقٍ قد تبدَّت مرةً أخرى في الحملات الأخيرة، فنحن لا نزال نجهل قسطًا كبيرًا من المساعدة التي قدَّموها لنا خلف خطوط الأعداء، كما أن مساعداتهم الفردية لكثير من الضباط البريطانيين شواهد ناطقة على الكرم العربي وحُب العرب للمجازفة. يقول هؤلاء الضباط إن كل خيمةٍ عربية كانت بمثابة ملجأ، وإن كل عربي كان بمثابة دليل. ومن طريف ما يروى أن أحد المدفعيين البريطانيين أُصيب بجراح، فآواه عربي إلى أحد الكهوف وسهِر على راحته ستة أشهر، فلمَّا تماثل للشفاء حمله فوق جَملِه مسافة ٤٠٠ ميل وأوصله إلى العلَمين. قام العربي بكل ذلك، وسلَّم الجندي الجريح إلى إحدى الوحدات دون أن يُعلن عن اسمِه أو يُطالب بمكافأة. وليس هذا الحادث الوحيد من نوعه، فإنه ما كان ليتسنى لمئات من جنودنا أن يعودوا إلى وحداتهم دون مساعدة العرب، تلك المساعدة التي كانوا يقومون بها عن طِيب خاطر، والتي كانت تُعرِّض حياتهم لخطر الموت. ولم يتطرق الوهن إلى قلوب العرب حين كنَّا نتراجَع تراجُعًا كليًّا، وحين ظن الناس أن الدائرة قد دارت علينا، بل كانوا أبدًا على استعدادٍ لتقديم المساعدة. وقد جرى أثناء احتفالٍ عظيم في درنة أقامه الطليان على أثر استيلاء المحور على طبرق أن كان بين النظارة ضابط بريطاني مُتخفٍّ، فلم يُفكر واحد من الأهلين أن يكشف أمره ويفضحه.» وقد ذكر الليبيون أنفسهم شيئًا من الخدمات التي أدوها لجيوش ويفل وأوكنلك ومونتجومري في أثناء الحملة الليبية، فقالت «مجلة عمر المختار» الصادرة في بنغازي في عدد ذي القعدة ١٣٦٢ﻫ (نوفمبر ١٩٤٣م) عن ذكر الحرب وحوادثها: «قابلَتْها الأمة عن طيب خاطر، وضحَّت بأبنائها ومالها في سبيل الوصول إلى الغاية التي قامت تُدافع عنها منذ ١٩١١م، وسرعان ما وصل الخبر إلى من هم تحت سمع الإيطاليين وبصرِهم، فجمعوا أمرهم وتعاهدوا على أن يُقدموا كل مساعدة لحليفتهم، ولو كان في ذلك خراب بيوتهم؛ لأنهم يطلبون حقًّا طبيعيًّا أُنكِر عليهم، فصمَّموا على أن ينالوه مهما يُكلفهم من خسارة، «فالحرية تنهب ولا تُوهَب»، أفسدوا على الإيطاليين خُططهم بإفشائها لحلفائهم، وتحمَّلوا في ذلك كل مشقَّة، وأصبح كل ليبي وكل ليبية خطرًا على الإيطاليين. آوَوا في مساكنهم الضباط البريطانيين، وساعدوهم على الحصول على ما يبتغونه من أسرار الإيطاليين وأعمالهم، وأنقذوا مَن تخلَّف منهم عن اللحاق بفرقته، وحافظوا عليه حتى بلغ مأمنه، ولم يكن الدافع إلى ذلك مالًا يطلبونه، «بل قدَّم» الليبيون خدماتهم عن طيب خاطر إجابةً لنداء الواجب ولطلب أميرهم لا غير.» فالبيوت تُهدم والأعمال تُعطل، ومع ذلك فقد كان سرور الليبيين عظيمًا لأن في ذلك إذلالًا للطليان، «وكل ذلك لم يخفَ عن الإيطاليين، بل سجَّلوه في مُذكراتهم الخاصة والعامة، وتوعَّدوا بالعقاب متى حانت الفرصة، فقد أصبح عندهم عقيدة أن فشلَهم في برقة يتحمَّل أهل برقة الشيء الكثير عنه، وهذا حق، ولكنهم ما دروا أن ذهاب بنغازي من أيديهم كان نذيرًا بزوال إمبراطوريتهم من أول احتلالٍ لها. وعلى كلٍّ، فقد رجعوا إليها، وخرجوا منها ورجعوا ثانيةً، وخرجوا منها، ولكن إلى غير رجعة!»

وما إن خرج الطليان وأحلافهم حتى شرع سمو الأمير السيد إدريس يتَّخذ العدة لتوجيه شعبه الوجهات النافعة لاستئناف الحياة الجديدة. وشعر الليبيون من جانبهم بأن حياةً جديدة قد بدأت حقًّا، فأخذوا هم أيضًا ينفضون عن أنفسهم غبار العهد الإيطالي البائد، ويتنسَّمون نسمات الحرية ويعيشون عيش الأحرار الطليقِين الذين اعتزُّوا بوطنيتهم وقوميتهم طوال السنوات المُفجعة الماضية، وأرادوا الآن أن يعززوا هذا الشعور السامي. وقد عاد إلى الوطن كثيرون من الليبيين الذين أرغمتهم قسوة الطليان وحكومتهم الغاشمة على الهجرة من البلاد؛ وقام «المكتب» الذي أسَّسه الأمير عند بدء الحرب بخدمات جليلة لكلِّ أولئك الذين رغبوا في العودة السريعة، وأمر سموُّه، بعد استتباب الأحوال في برقة والكفرة وطرابلس وفزان، بنقل جميع معسكرات التدريب السنوسية في القُطر المصري إلى ليبيا، على أن تُصبح القوات السنوسية نواةً لجيش وطني نظامي جديد. وكان أول احتفال أقامه الليبيون بعد تحرير بلادهم أنهم بادروا بالاحتفاء بذكرى وفاة مؤسس السنوسية العظيم الإمام السيد محمد بن علي السنوسي الكبير، فأقيم الاحتفال بهذه الذكرى في مدينة بنغازي بجامعها الكبير في يوم الأحد ٩ صفر ١٢٦٣ﻫ (١٤ فبراير ١٩٤٣م)، وألقى الأستاذ محمد محمد عامر خطبةً ضافية، تناول فيها تاريخ السيد الإمام ونهضته الدينية والعلمية العظيمة، ثم اختتم هذه الخطبة بقوله: «اللهم يا علَّام الغيوب، نسألك كما كشفتَ عن هذه البلاد ما قاسته ثلاثين عامًا من أنواع الكروب، أن تُوفِّق أميرها وسيدها وقائدها سيدنا السيد محمد إدريس المهدي السنوسي المحبوب، لما فيه خيرنا وخير المُسلمين والإسلام، وتؤيده بروح منك، ويُحقَّق على يدِه إعلاء منار الحق والدين حتى تُصبح بلادنا بمساعيه المشكورة سعيدةً مطمئنة.» وفضلًا عن ذلك فقد أنشأ الليبيون في بنغازي جمعية وطنية ثقافية أسمَوها «جمعية عمر المختار»، وأصدرت الجمعية مجلةً ثقافية أسمَتها «مجلة عمر المختار» تخليدًا لذكرى الزعيم والشهيد الراحل، وقد أفصحت هذه المجلة عن الغرَض من إنشاء جمعية عمر المختار، فقالت في عددها الأول: «وهذه جمعية عمر المختار قد قامت لتؤدي الواجب عليها نحو وطنها وأميرها «سمو السيد إدريس» كما أداه عمر المختار على الوجه الأكمل، وهي جادة في الوصول إلى ذلك، لا يُعيقها عائق، ويسرها أن تُعلن أن الدلائل تدل على أنها في طريق النجاح إلى تحقيق الأمنية العظمى لها، وهي توحيد الصفوف بين الأفراد، لا فرق بين جماعة وأخرى، والسعي لنشر الثقافة بين المواطنين، وتنمية الروح الرياضية بين الجماعة، لا تقصير ولا تواني، حتى تُحقق الغاية العظمى: شعب مُتحد وأمير واحد.»

أما سمو الأمير السيد إدريس فقد أيَّد تأسيس جمعية (أو نادي) عمر المختار، لمَّا بدا لسموه من أن غاية الجمعية الجديدة العمل على جمع كلمة الأمة ونبذ الخلافات ظِهريًّا، والانكباب على تثقيف العقول وتقوية أجسام الناشئة الجديدة على خير قواعد الصحة وأساليبها الحديثة. وفي ١٦ مايو ١٩٤٣م نشرت «جريدة بنغازي» رسالة بعث بها الأمير إلى «حضرات القائمين بإدارة نادي عمر المختار»، قال فيها سموه: «تلوتُ بكلِّ سرورٍ واغتباط ما ورد من النشاط الذي أبداه الشباب الليبي بأنْ أسَّس نادي عمر المختار لاجتماع الكهول والشبَّان فيه ليُثقفوا عقولهم ويُقوُّوا أجسامهم ويتعارف بعضهم إلى بعض في غير سياسةٍ ولا حزبية ولا عصبية … ولقد سرَّني بطريقة خاصة ذلك التأكيد القوي والعزم الصلب اللذان لمحتُهما من بين خلال الأسطر في أنَّ الشباب قد عقد الخنصر ووطَّد العزيمة على ألا ينظر إلا إلى شيءٍ واحد، هو الوطن، ولا يسعى إلا إلى هدفٍ واحد، هو الأمة ومصلحة الأمة، لا فرق بين بادِيها وحاضرها ومُسلمها وإسرائيليها وحاسِّيِّها وبرعصيِّها إلى آخره. وبمقدار ما يسرني هذا، قد يُغضبني أن أسمع خلاف هذا الاتجاه، ومن سلك ما يُخالفه فقد أراد للبلاد الفساد وفتح باب الفتنة وعاق التقدم المنشود وسار بالبلاد القهقرى من حيث تريد لنفسها السير إلى الأمام.

ورغبتي أن تؤسَّس في كافة أنحاء البلاد فروع لهذا النادي، على ألا يعدو نشاطها الغايات التي ذكرتُ، وهي: الثقافة والرياضة والتعارف والاقتصاد ونشر العلم والأخلاق القويمة وتهذيب العامة وإلقاء المحاضرات مع الابتعاد عن ميادين السياسة، وأُحب أن تصِلني تقارير فيما قد تمَّ في هذا الشأن مما تقدم. هذا وإني أُمضي تعيين مجلس الإدارة، وأضع ثقتي في حضرات أعضائه، وأؤكد لهم أني أرقُب عن كثبٍ الخطوات التي يخطوها شعبي الكريم نحو العُلا والتقدُّم خاصةً في نقطة التحوُّل هذه من تاريخنا.» وحقق الشعب الليبي رغبات أميره، وبدأت بالبلاد نهضة يظهر من بوادرها أنها سوف تكون عظيمة، والتفَّ الشعب الليبي حول أميره. وفي أول أغسطس ١٩٤٣م صدر العدد الأول من مجلة عمر المختار يحوي مقالًا كبيرًا بعنوان «الوطن والأمير»، مداره ضرورة الأخذ بنصائح الأمير والعمل بتوجيهات سموِّه وإرشاداته لإدخال الإصلاحات النافعة في شتَّى نواحي الحياة الاجتماعية والصحية والاقتصادية في البلاد، وتقديم مصلحة الوطن فوق كل مصلحة، ونبذ الخلافات، وتوحيد الصفوف، حتى تسير ليبيا العزيزة بِخُطًى ثابتة في طريق الرفعة والرقي، يلتفُّ أبناؤها البررة حول أميرهم البار؛ لأن «الأمير — على حدِّ ما جاء في هذا المقال — هو الشخصية العالية التي تتمثَّل فيها حياة الأمة كلها، وإجماع آرائها، واتفاق أغراضها، وانضواؤها تحت علَم واحد، وزعامة واحدة حكيمة رشيدة كفيلة بأن تسير بالأمة في طريق العظمة والمجد وتُسجل اسمها في سجلِّ الأمم العظيمة الخالدة.» وقد أهاب صاحب المقال بأبناء الوطن الليبي «في هذه الفترة التكوينية» التي يجتازونها، أن يكونوا مُتمسِّكين بمبادئ الوطنية الصحيحة، «فنؤدِّي جميع الواجبات التي يُحتِّمها علينا وطننا العزيز، نعمل على تقوية كيانه وتثبيت أركانه، وننشُر العلم والصناعة والأدب ومكارم الأخلاق بين أفراد أمَّتنا، ونبذل قصارى جهدنا في كلِّ ما يُساعد على الإصلاح ويعاون على تحقيق هذه النهضة القومية التي نحن ساعون في سبيلها. وكذلك يجب أن يكون مقرونًا بمحبتنا وطاعتنا لأميرنا المحبوب سمو الأمير مولانا محمد إدريس السنوسي حفظه الله وأيَّده، فنعمل كل ما يُرضيه ويرى فيه مصلحةً لوطنه، ونُنفذ أوامره بكل طاعةٍ وإخلاص، ونسير إلى الأمام في طريق الحضارة والمدنية والمجد، على ضوء إرشاداته الحكيمة وآرائه الصائبة، حتى نصِل بحول الله وقوته إلى ما نصبو إليه ونتمناه لوطننا العزيز من رفعةٍ ومقام عظيم.»

وكانت توجيهات السيد الأمير كثيرة، وإرشادات سموِّه صائبة وحكيمة، ونداءاته عديدة، نذكُر على سبيل المثال ذلك النداء الذي وجهه سموه من القاهرة في ٢٦ صفر ١٣٦٢ﻫ (٣ مارس ١٩٤٣م) إلى «بني وطنه الأعزاء»، يدعوهم فيه إلى تأسيس شركة مساهمة ليبية «تضم صفوف جميع طبقات الشعب في عمل اقتصادي عام شامل يكفل للبلاد نهضتها الاقتصادية في جميع وجوه النشاط التجاري والمالي والصناعي، ويضمَن للفرد عملًا مُجديًا وعيشًا رغدًا في نطاق مشروع قومي؛ فالمساهمون ليبيون والعمال ليبيون والشركة ليبية ولليبيا ولليبيين.» وقد انتدب سموه الدكتور علي نور الدين العنيزي، وذلك حتى «يُفصِّل لأبناء الوطن ما أجمَلَ» سموه في هذا النداء. وفضلًا عن ذلك فقد أمر سموه بأن تجعل البلاد من يوم ٩ أغسطس من كل عام عيدًا قوميًّا تحتفل به الأمة بأسرها؛ لأنه اليوم الذي تمَّ فيه الاتفاق بزعامة سمو الأمير مع رجال الدولة البريطانية في عام ١٩٤٠م على أُسس الجهاد من أجل طرْد العدو الغاصب من الأقطار الليبية، وتحرير أرض الوطن. وفي يوم ٩ أغسطس ١٩٤٣م احتفلت الأمة الليبية بهذا العيد القومي لأول مرةٍ بعد اندحار الطليان وأحلافهم الألمان وتخليص البلاد من شرورهم نهائيًّا.

وكان احتفالًا رائعًا، فزار المحتفلون ضريح السيد عمر المختار، وترحَّموا على البطل الشهيد، وقرءوا فاتحة الكتاب، وألقى الشيخ عبد الحميد الديباني قاضي القضاة خطبةً نفيسة، واشتركت في هذا الاحتفال الطائفة الإسرائيلية، واشتركت كذلك السلطات الإنجليزية في الإدارة، فخطب كثيرون من بينهم الشيخ خليل الكوافي رئيس جمعية عمر المختار، ثم أرسل المجلس البلدي في بني غازي بهذه المناسبة برقيتَين، إحداهما إلى الأمير والأخرى إلى البريجادير كمن والي برقة. وفي ١٦ سبتمبر ١٩٤٣م قامت المظاهرات في كل مكانٍ وأقيمت الاحتفالات تخليدًا لذكرى الشهيد السيد عمر المختار، وكان الاحتفال في بنغازي احتفالًا كبيرًا، فتوجَّه القوم في صبيحة الخميس ١٦ رمضان ١٣٦٢ﻫ (١٦ سبتمبر ١٩٤٣م) إلى مقبرة سيدي محمد عبيد للترحُّم على الفقيد. وفي عصر اليوم نفسه ألقى الأستاذ مصطفى بن عامر محاضرة في الجامع الكبير، ذكر فيها جهاد المختار ضدَّ العدو الغاشم، وقارن بين برقة وبين الأمم الغابرة. وفي مساء ذلك اليوم أقيمت حفلة تأبين في جمعية عمر المختار، فاعتلى منصة الخطابة الأستاذ محمود مخلوف والسيد عبد السلام بسيكري والسيد الحاج سليمان الصلابي والأستاذ الشريف بومدين والشيخ صالح أبو بصير وغيرهم. وعلى هذا النحو إذن استطاع الليبيون في هذين الاحتفالين (في يومَي ٩ أغسطس و١٦ سبتمبر) أن يفصحوا عما كان يَجيش في صدورهم من معاني العزة القومية، وعما كانت تمتلئ به نفوسهم من رغبةٍ صادقة في تحقيق أمانيهم الوطنية. ثم أُتيحت الفرصة لليبيين حتى يُعبروا عن كل هذه المشاعر العظيمة عندما احتفلت الهيئات بذكرى مرور عامٍ على طرْد العدو من بلاد برقة ودخول الجيوش البريطانية والسنوسية بنغازي (في ٢٠ نوفمبر سنة ١٩٤٢م)، فرفعت هيئة المجلس البلدي ببني غازي بهذه المناسبة إلى السلطات الإدارية (المؤقتة) تقريرًا ضافيًا، عرضت فيه حوادث الماضي وما تحمَّلته البلاد من ويلات الحرب، وطالبت بتحقيق آمال الأمة القومية والوطنية، وإجابتها إلى مطالبها وحقوقها الطبيعية في حاضرها ومستقبلها. وحدث عندئذٍ أن أعلن مُتصرف بنغازي نبأ «وصول السادة رسل (الأمير السيد إدريس) وآل البيت السنوسي المجيد لزيارة بنغازي قريبًا، فاستبشرت الأمة بهذه الزيارة، واعتبرتها فاتحة عهدٍ جديد كلُّه عمل للحياة ومن أجل الحياة الحُرة، وأخذت تتهيأ لاستقبالهم وتُعد العدة لذلك.»

وكان وفد الأمير يتألف من السيد صفي الدين رئيسًا والسيد محيي الدين الشريف والسيد محمد الصديق رضا والسيد شمس الدين الخطابي والسيد أحمد بن إدريس والسيد عز الدين هلال، يصحبهم كلٌّ من السيد أبي القاسم الشريف والسيد الصديق عابد. ووصل هذا الوفد إلى بنغازي حوالي ظهر يوم الاثنين أول ذي الحجة ١٣٦٢ﻫ (٢٩ نوفمبر ١٩٤٣م)، وكانت بنغازي قد أخذت أُهبتها لهذه الزيارة، فأقيمت الزينات، واصطفَّ الأهلون على طول الطريق الساحلية إلى مسافة ثلاثين كيلومترًا في شرقي المدينة لاستقبال الوفد، واحتشدت الجماهير في «ميدان ٩ أغسطس» أمام السراي المُعدة لنزول الوفد بهذا الميدان، وخرج المستقبِلون في سيارات عدة من الصباح الباكر لاستقبال «الوفد الأميري»، وفد سمو السيد محمد إدريس، وخرج مع المُستقبلين مُتصرف منطقة بنغازي الإنجليزي وهيئة المجلس البلدي وشباب جمعية عمر المختار، ثم انتظر المُستقبلون هذا الوفد في مكانٍ يبعُد مسافة أربعة كيلومترات شرقي سيدي خليفة. وما إن وصل الوفد حتى نزل السادة من السيارات ونزل معهم «كمن» والي برقة، فأنشد شباب عمر المختار نشيد العلَم تحيةً لهم، وألقى قاضي القضاة خطاب ترحيبٍ قيمًا، ثم استأنف الركبُ سيرَه حتى دخل مدينة بنغازي وسط مظاهر الفرح العظيم. وكانت مظاهرة كبيرة عند وصول أعضاء الوفد إلى السراي المُعدة لنزولهم، وحضرت الهيئات المختلفة لتهنئتهم بسلامة الوصول، وازدحم الميدان بالجماهير، وحيَّا أعضاء الوفد هذه الجماهير، فكان مما قالوه: «إن أفراد الأسرة السنوسية لم يألوا — ولن يألوا — جهدًا في خدمة الوطن العزيز وتأييد قضيته بالنفس والنفيس، إن جهاد الأمة في سبيل حريتها طوال ثلاثين سنة لن يذهب سُدًى.» وأقام المُتصرف «الكولونيل بيلي» مأدبة فخمة احتفاءً بالوفد. وفي اليوم التالي ٢ ذي الحجة ١٣٦٢ﻫ (٣٠ نوفمبر ١٩٤٣م) احتفلت جمعية عمر المختار بالوفد الأميري، وفي يوم أول ديسمبر ظهرت «مجلة عمر المختار» تحوي أنباء هذه الزيارة ووصْف الاحتفالات التي أقيمت تكريمًا لأعضاء وفد الأمير، فقالت: «لقد انقضى يوم وصولهم واليومان التاليان، والبلاد من أقصاها إلى أقصاها في مهرجانٍ واحد يتنقَّل من جهةٍ إلى أخرى والهتاف يتصاعد من الحناجر بحياة الوطن والأمير.»

على أن هذه الاحتفالات على روعتها — وهي احتفالات أتاحت الفرصة للشعب الليبي وللبرقاويين خصوصًا حتى يُظهروا شدة تمسكهم بإمارة السيد محمد إدريس المهدي السنوسي عليهم وتعلُّقهم بالبيت السنوسي المجيد — لم تلبث أن بذَّتها وفاقت عليها احتفالات أخرى كانت أعظم روعة وأبلغ أثرًا، عندما قرَّر سمو السيد إدريس زيارة الوطن في شهر يوليو من العام التالي (١٩٤٤م). وكانت زيارة الأمير ولا شكَّ زيارة تاريخية لأسبابٍ عدة، منها أن سموه جاء يزور الوطن للمرة الأولى بعد أن تحرَّر من نير ذلك العدو الذي ظلَّ ثلاثين عامًا ونيِّفًا يحتلُّ ربوعه، وبعد أن اضطُر الأمير بسبب نقض الطليان لعهودهم ومواثيقهم إلى العيش بعيدًا عن بلاده حوالي أكثر من عشرين عامًا. وفضلًا عن ذلك فقد تحدَّث سمو الأمير في أثناء هذه الزيارة إلى كبار الموظفين ورجال الأمة، وخطب في جموع الأهلين الذين احتشدوا في كل مكانٍ قصَدَ إليه الأمير لسماع نصائحه وإرشاداته، فأوضح سموه في هذه الأحاديث والخطب الجامعة أهداف البلاد بعد تحرُّرها وخلاصها، ورسم خطوط السياسة القويمة التي يجب أن تسترشد بها الأمة في حاضرها ومُستقبلها، فكانت أحاديث سموه وخطبه بمثابة دستور يُعيِّن معالم الطريق لرعاياه حتى يسلكوه هؤلاء آمنين مُطمئنين في حياتهم المُستقبلة عاقِدين العزم على بلوغ غايتهم في ظلِّ الإمارة العتيدة.

وتبدأ هذه الزيارة السعيدة من وقت وصول الأمير إلى طبرق في يوم الاثنين ٢٦ رجب ١٣٦٣ﻫ (١٧ يوليو ١٩٤٤م) إلى وقت انتهاء الزيارة رسميًّا في يوم ٦ أغسطس ١٩٤٤م. قالت مجلَّة عمر المختار بمناسبة عودة الأمير لبلاده: «في كل بلدٍ وفي كل مركزٍ وفي كل ناحية، من طبرق شرقًا إلى أجدابية غربًا، ومن بنغازي إلى سلوق جنوبًا، ومن شروق يوم ١٧ يوليو إلى غروب يوم ٦ أغسطس ١٩٤٤م، والبلاد من أقصاها إلى أقصاها في مهرجانٍ واحد واحتفال مُتصل، فلا ترى إلا مظاهرات رائعة منقطعة النظير، ومهرجانات شائقة، كلما شاهد الإنسان جهةً أخذت بمجامع قلبِه وتطلَّع أن لا يكون أحسن وأجمل منها، فعلق بذهنه منها ما علق، فيرى في اليوم الثاني غيرَها، فتتحوَّل الصورة المُستحسنة في ذهنه إلى أحسن وأجمل، وهكذا دواليك، فلا ترى إلا جموعًا تتدفَّق في الطرقات من ميدانٍ إلى آخر بالآلاف وبضع الآلاف وعشراتها، هاشِّين باشِّين، شيوخًا وكهولًا، شبَّانًا وأطفالًا، رجالًا ونساءً، والجميع وقد اعتلى وجوههم البشر، معبرةً عما امتلأت به قلوبهم من السرور والفرح، مُبتهجين مغتبطِين، وكل فردٍ آخِذ بنصيبه، مشاركًا الأمة في ابتهاجها باستقبال أميرها المحبوب وقائدها العزيز، مُنقذها من هاوية الهلاك إلى ساحة السلامة والنجاة، ليُشاهد طلعته ويحظى برؤيته.»

غادر سموه القاهرة في قطارٍ خاصٍّ إلى طبرق في يوم ١٦ يوليو، وكان يصحبه عمر فائق شنيب بك سكرتير سموه الخاص، وإبراهيم بك الشلحي ناظر خاصته، وصالح باشا الأطيوش، والمرحوم الشيخ عبد الحميد العبار، والشيخ ناصر الكزة، والشيخ حسين عبد الملك، والشيخ قدور بو بريدان، وكل أولئك من قادة الحركة لوطنية وزعماء الجهاد ضدَّ الطليان من قديم، وهم كذلك من أعضاء الجمعية الوطنية العمومية التي أخذت على عاتقها مسئولية الاشتراك مع بريطانيا في الحرب وفق قرار ٩ أغسطس ١٩٤٠م، فبلغ سموه طبرق في ضحى الاثنين ١٧ يوليو ١٩٤٤م/٢٦ رجب ١٣٦٣ﻫ، وكان في استقبال سموه والي برقة البريجادير كمن وكبار رجال الإدارة العسكرية المؤقتة من الإنجليز، واستعرض سموه حرس الشرف الذي أدَّى له التحية العسكرية، ثم اعتلى سيارة أُعدَّت خصوصًا للأمير وجلس إلى جانبه والي برقة واعتلى الآخرون السيارات، وسار الركب في الطريق المُمتد من طبرق إلى أجدابية مركز الإمارة السنوسية القديم قبل ذلك بحوالي عشرين عامًا تقريبًا، فاخترق ركب الأمير المدن والقرى على طول هذا الطريق من طبرق إلى المرصص إلى أم الرزم ثم درنة والقبة والبيضاء (سيدي رافع) وشحات والغريب والمرج وجردس العبيد وبنغازي. وكان المجلس البلدي في أجدابية قد أعد قبل ذلك برنامجًا رائعًا لاستقبال الأمير والحفاوة به منذ ١٣ يوليو. ومما يجدُر ذكره أن السيد يوسف لنقي بك من سراة البرقاويين ومن كبار رجالاتهم القدامى المجاهدين، وأظهرِ أعضاء المجلس البلدي العاملين، كان قد قام بأعباء رئاسة لجنة الاستقبال، فكان يوسف بك في طليعة شعب الأمير، ذلك الشعب البار الذي أراد الإفصاح عما تُكنُّه ضمائره من أصدق آيات الولاء والمحبة لأمير البلاد وسيدها، فوافقت لجنة الاستقبال على طلب يوسف لنقي بك أن ينحر يوسف بك الذبائح احتفاءً بقدوم الأمير، وأن يُقيم مأدبة باسم مدينة بنغازي لسمو الأمير على نفقته الخاصة في داره، وأن يساهم بنصيبٍ وافر من نفقات الاحتفالات الأخرى. وكان من برنامج لجنة الاستقبال توزيع مقادير كبيرة من المؤن على فقراء المدينة وإعداد سيف من صُنع مدينة بنغازي يُهدى إلى سمو الأمير، نُقش على صقله بيتان من نظم الأستاذ محمد بن عامر:

إدريس إن السيف قد
أردى به الشعبُ عداك
فاحرص عليه فإنه
(عهد) بأنهمو فداك

«ومقبض هذا السيف من الذهب الخالص، جعل له زائدة تُغطي فوهة الغلاف من الذهب أيضًا زاد في جمالها حجرة حمراء، نُقش على هذه الزائدة «بنغازي، ٨ شعبان ١٣٦٣ﻫ» ثم إن الغلاف له قبضتان من الفضَّة، وبينهما قبضة من الجلد الأسود نُقش عليها اسم بنغازي في الوسط وهلالان ونجمتان رمز العلَم القومي، وذلك بخيطِ الحرير الفضي. وفي هذا الغلاف حلقتان من الفضة، وله حمَّال من الشريط الفضي والملف الأحمر وُضع له صندوق من خشب اللوز الهندي مُفرَّش بالقطيفة الزرقاء.» وكذلك كان من ضمن برنامج الاحتفال «أن يُهيَّأ رسم زيتي كبير لسمو الأمير الجليل بريشة الرسام الفني عوض أفندي عبيدة، يُعرَض على الشعب في ميدان البلدية مدة إقامته، ثم يُهدى لسموه.»

وفي يوم الجمعة ٢٨ يوليو ١٩٤٤م ذهب أعضاء المجلس البلدي وأعضاء لجنة الاستقبال وشباب جمعية عمر المختار وأعضاؤها إلى مركز الكويفية، حيث أقامت اللجنة قوس نصرٍ استعدادًا لاستقبال الأمير، وتدفَّقت الجماهير فملأت الطرق والميادين. فما إن بدت طلائع الموكب الأميري حتى تعالت الأصوات: «الله أكبر، الله أكبر»، ودخل الأمير مدينة بنغازي تحفُّ به كوكبة من الفرسان العرب، وأدى سموُّه فريضة صلاة الجمعة في الجامع العتيق، وقضى بقية اليوم يُشرِّف بحضوره الاحتفالات التي أقيمت لاستقباله، وأُهدي إلى سموه السيف. وفي اليوم التالي (٢٨ يوليو) حضر سموه احتفال المحكمة الشرعية، ثم تحرَّك ركابه السامي قاصدًا منزل يوسف بك لنقي في حديقة خارج المدينة، «فشرَّف سموه مأدبة الغداء الفاخرة التي أقامها يوسف لنقي لسموِّه باسم مدينة بنغازي.» على نفقته الخاصة «فكانت من أجمل وأفخر المآدب. حضرها دولة الوالي وسعادة قائد الجيش، وكبار الضباط وأعضاء المجلس البلدي والوجهاء والأعيان الذين يتجاوزون مائة مدعو.» وقد توالت المآدب والاحتفالات في اليوم التالي (الأحد ٣٠ يوليو) وحضر سموه احتفال جمعية عمر المختار، وفي مساء اليوم نفسه ألقى سموه خطابه التاريخي الجامع من شُرفة السراي المعدَّة لإقامة سموه، ونقلت هذا الخطاب مكبرات الصوت إلى آلاف المُستمعين الذين غصَّ بهم الميدان حتى ضاق على رَحابته. وفي هذا الخطاب التاريخي سجَّل سموُّه المبادئ التي نادى بها دائمًا، والتي أضحت دستورًا تتمسَّك به البلاد وتسترشد به في تحقيق غاياتها الوطنية. قال سموه بعد أن حمد الله «الرحيم القادر العظيم جامع الشتات مُبيد الطغاة …»

«أما بعد، فإني أقف اليوم في وسط عاصمة البلاد وكُلي شوق وغبطة وتقدير لهذه الأمة النبيلة التي حَبَتني بكرمِها وإخلاصها، فهنيئًا لها بخلاصها وتحريرها من نير الظلمة الذين لم يَرقبوا فيها إلًّا ولا ذمة، آسفًا أشد الأسف على ما أصاب هذه الحاضرة الجميلة من أضرار الحرب، مُتمنيًا لها عودة العمران ولأهلها حظًّا سعيدًا مدى الأزمان …

إخواني، ليس لي مأرب ولا غاية في هذه الحياة الفانية إلا أن أرى أهل وطني أعزاء مُتمتِّعين بحريتهم ضمن حلفٍ دفاعي وتعاوُنٍ مع بريطانيا العظمى مثل باقي الأمم العربية. هذه هي غايي وهذا ما سعيتُ إليه. وهو الحق الطبيعي للشعب على ما أرى؛ فقد ضحَّى من أجلِه بما يُقارب من نصف عدده من خيرة أبنائه البررة فيما يُقارب ثلث قرن؛ وهذا ما حدا بي للتعاون مع دولة بريطانيا العظمى في صيف ١٩٤٠م — الوقت الذي قلَّ فيه الأصدقاء الأوفياء — فاخترتُ لشعبي أن يكون أول صديقٍ وفي ساعة الشدة لبريطانيا العظمى صديقة العرب الشغوفة بالحُرية لنفسها ولغيرها ذات المبادئ الشريفة في تحرير الأمم الضعيفة.

إخواني … لم أتقدَّم لدولة بريطانيا وقتئذٍ بسوى ما قدمته لجنة التعاون الوطنية المتكوِّنة من زعماء البلاد نيابةً عن جميع سكان بلادهم في ٩ أغسطس ١٩٤٠م من الأماني القومية والآمال الوطنية في تحرير البلاد واستقلالها، فأيَّدَتها كل التأييد.

إخواني … لقد ضربنا رقمًا قياسيًا في التضحية والجهاد؛ فلو قِيس ما ضحَّت به أمتنا بالنسبة إلى عددِها وعدتها، وقورن بما فعلته الأمم الأخرى التي نالت حقوقها واستقلالها، لوجدنا لبلادنا المقام الأول. إذن لقد حُق لهذا الشعب أن يتبوأ مقامه بين الأمم كسائر الشعوب العربية في جميع اعتباراتها وكيانها السياسي، وذلك بمساعدة دولة بريطانيا العظمى وحلفائها الكرام، لهذه الغاية السامية عملنا، وعلى هذه الأهداف الشريفة اشتركنا، وإلى هذا الغرَض المُقدس نسعى.

إخواني … إن ماضيكم ساطع لامع، فلا يتطرق إلى قلوبكم اليأس والوهن، وإن الحلفاء أوفياء، وإن الميثاق الأطلنطيقي والنبل الإنجليزي هما أكبر عونٍ لنا بعد الله على تأمين حقوقكم المشروعة بعد الحرب، فلنرقُب ذلك اليوم بكل حكمةٍ وسكينةٍ وثقة بأنفسنا. إن الدولة البريطانية مُقدرة لمساعداتكم وتضحياتكم معها في هذه الحرب، غير أن ظروفها الدولية وحالة الحرب التي لا تزال قائمة تحُول دون إبداء رأيها في مصيركم الآن، رغم إلحاحي ونُصحي بسرعة إعلان رغبتها؛ لهذا ترونَني أنظر إلى المستقبل بعين الأمل. وأما ما ترَونه مخالفًا لتقاليدكم أو مضرًّا باقتصادياتكم من نقصٍ في التجارة والزراعة والصناعة والمواصلات، فهو ناشئ عن حالة الحرب القاسية، وآمُل أنه سيزول تدريجيًّا كما آمُل أن يزول كل ما يُشتكى معه.

إخواني … إن الجمعية العمومية الوطنية التي أخذت على عاتقها مسئولية الاشتراك مع الدولة البريطانية في ٩ أغسطس ١٩٤٠م، والتي نابت عن الأمة نظرًا للموانع التي كانت تحول دون الاجتماع بجميع زعمائها، قد أدَّت واجبها الوطني نحو الوطن وأهله بكل إخلاصٍ وأمانة. أما وقد فُتحت البلاد وتم الاتصال، فما على زعماء الشعب إلا أن يتَّحدوا ويعملوا يدًا واحدةً لإتمام ما بدأته هذه الجمعية من خيرٍ لصالح الأمة، ليقوم كل فردٍ بواجبه نحو وطنه. وأما ما أوصي به فهو الاتحاد ونبذ الشقاق وتقديم المصلحة العامة ونكران الذات في سبيل صالح الوطن، وألا يتجاوز أحد اختصاصه إلى اختصاص الآخر. فليعمل كل شخصٍ في دائرة اختصاصه بكل أمانةٍ واستقامة، فإذا سلك كل فردٍ منَّا هذا المسلك فقد أدى لوطنه وأُمته خدمة قيمة. وإياكم والغرور والتحاسد والتباغض والتسرُّع في الأمور، فإن في ذلك مجلبةً للأضرار وضياعًا للمصالح العامة.

إخواني … إن العلم هو النبراس الذي تستضيء به الأمم، فابعثوا أبناءكم إلى المعاهد والمدارس.

إخواني … إن الاعتماد على النفس هو خير وسيلة للتقدُّم في مضمار هذه الحياة التي أصبحت فيها الساعة بمثابة شهرٍ والشهر بمثابة دهر، فعليكم بالجد والاجتهاد في العمل والصبر على المكاره والتآخي والإخلاص، لا فرْق عندي في توجيه خطابي هذا بين النِّحَل والديانات والمُعتقدات؛ إذ كلكم أبناء وطن واحد، يُظلكم علَمكم الوطني، وإن للوطن عليكم حقًّا أن تكونوا أبناءه البررة.

إخواني … لا أرغب وجود جمعياتٍ متعددة ولا أحزاب مهما كانت الغاية صالحة؛ فإن الأمة عائلة واحدة وجمعية واحدة. وما جمعية عمر المختار أو بالأصح «نادي عمر المختار» إلا رمز للتآخي ومعهد للرياضة والثقافة والأعمال الخيرية. ونأمُل أن يكون هذا النادي نواةً صالحة لنهضة الشباب رجال الغد، فعلى سواعدهم وحُسن ثقافتهم ينهض الوطن، وإنَّ عدد أُمتنا وقلة ثروتنا لا يحتمِلان تعدُّد الجمعيات. أما ضرر كثرة الأحزاب فقد أصبح ظاهرًا حتى في الأمم التي سبقتنا بمراحل شاسعة في المدنية والحضارة. كما أوصي الشباب بألا ينسَوا تقاليدهم العائلية القديمة، بل يُحافظوا عليها، وأن يحترموا شيوخهم وذوي الرأي فيهم، وعلى الشيوخ أن يعطفوا على الشباب ويُحسنوا إرشادهم، فقد جاء في الحديث الشريف: «من لم يوقِّر كبيرنا ويرحم صغيرنا، فليس منَّا.» وإن الحكيم العربي يقول:

ولا خير في حلمٍ إذا لم تكُن له
بوادِر تحمي صفوَهُ أن يُكدَّرَا
ولا خير في جهلٍ إذا لم يكُن له
حليمٌ إذا ما أورد الأمر أصدَرا

عليكم بحكمة الشيوخ وفتوة الشباب، فلا غِنى لإحداهما عن الأخرى، وإني أنصح القائمين بإدارة نوادي عمر المختار بتوحيد شئونها وربط فروعها برئاسة واحدة، مع مراعاة الاقتصاد، وتنسيق شئونها بحالة تُلائم الغاية المطلوبة منها.»

وبعد أن تحدَّث سموه في بعض الشئون الاقتصادية من حيث التموين وغيره مما كانت تهتمُّ به البلاد وقتذاك، وامتدح الجهود التي كان يبذلها والي برقة في سبيل إنعاش الحياة الاقتصادية على الرغم من ظروف الحرب القائمة في ذلك الحين، اختتم الأمير خطابه التاريخي الجامع بقوله: «وإني أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يوفقني فيما أثقلتم به كاهلي، وأن يُعينني على خدمتكم وخدمة الوطن العزيز في تحقيق أمانيه التي يصبو إليها في الحال والاستقبال، إنه على كل ما يشاء قدير.»

وزار الأمير مراكز القطر البرقاوي الأخرى ومدائنه، فغادر بنغازي إلى سلوق (٣١ يوليو)، فبلغها عند الظهر، وفي مساء اليوم نفسه ألقى خطابًا كبيرًا في عشرات الألوف من رجال القبائل والأهالي الذين احتشدوا لاستقبال سموه، وقدم أهل سلوق ومنطقتها هديةً تذكارية ثمينة إلى الأمير. وفي أول أغسطس غادر سموه سلوق إلى أجدابية، فاستُقبل سموه بها استقبالًا فخمًا عظيمًا، قالت مجلة عمر المختار: «بماذا يستطيع الواصف أن يصف منظر احتفال أجدابية بمقدِم الأمير، أجدابية المدينة النائية الهادئة، كيف استحالت إلى حركةٍ مُتصلة وجموع محتشدة؟ أينما أجال الإنسان بصرَه لا يرى إلا الجموع تلوَ الجموع، وكل فردٍ يسعى ويتقدَّم لمشاهدة الأمير مُغتبطًا فرحًا مصرخًا يحيا الأمير عاش الأمير. ترى بأجدابية خلف الجموع كتائب الجِمال آلافًا مندفعةً، وترى الأبسطة الصغيرة مُدلَّاة عليها مما يزيد في بهجتها، وقد ركب على كلِّ جَملٍ واحد أو اثنان ببنادقهم، فإذا مرَّ بهم الموكب حيَّوه بآلاف الطلقات النارية مجتمعة، فيُخيل لسامعها كأنها قعقعة رعدٍ تُسبح بحمد الله تعظيمًا وإجلالًا. ثم ترى مئات الفرسان تِلوَها المئات تتسابق في العدْو أمام الموكب ووراءه وعن يمينه وعن شماله، وتتصاعد من فوهات البنادق الطلقات النارية بما يأخذ بمجامع القلوب، فيذهل الإنسان ويحار.

فمن يبحث على رفيقه وصديقه لا يجده حيث حال بينهما تدفُّق الجماهير، وإذا نادى عليه بأعلى صوته لا يسمع، ومن سمع من يُناديه لا يُبصره، فمن عبارات الفرسان وتحمُّس الجموع لها إلى جماعة الأناشيد الوطنية إلى جموع الطُّرق الصوفية بطبولهم وأعلامهم إلى ألعاب الطوائف السودانية إلى دوي الطلقات النارية المتكررة، كل ذلك مزيج صاخب وضوضاء متواصلة، والقوم جميعهم كأنَّ أجسامهم من حديد، لا يشعرون بالتعب ولا بحرارة شمس الصحراء المُحرقة، وقد ترى مئات البيوت — الخيم — مُنتصبة بجانب بعضها في كل جهة كسرادقات مفروشة بأنواع الأبسطة، تعلوها الأعلام الوطنية، ليأوي إليها المستقبلون، ولكن القوم في شغلٍ شاغل عن المأوى، فكأنهم لم يشعروا بحاجتهم للراحة فيها قط.» وفي يوم ٣ أغسطس ألقى سمو الأمير خطبة عظيمة، فذكر تلك المبادئ التي تضمنتها خطبته التاريخية السابقة في بنغازي، ثم اختتمها أعزَّه الله بقوله: «فكونوا عباد الله إخوانًا، وعلى البر أعوانًا، وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ، وإنني أوصيكم بتقوى الله العظيم واتباع سنن نبيه الكريم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتنالوا بذلك الفوز الأكبر في الدارَين، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.»

وقد عاد سموه من أجدابية إلى بنغازي، فوصلها في ظهر اليوم نفسه، وكان في شرف استقبال سموه عند مركز سواني تيكة يوسف بك لنقي (رئيس الاحتفالات) ونخبة من الوجوه والأعيان ومتصرف بنغازي بالنيابة. وحضر سموه حفلة مباراة لكرة القدم بين المُنتخبَين البرقاوي واليوناني، ثم حضر الحفلة التي أقامها الإسرائيليون لسموِّه في مدرسة «التلاموذ»، وألقى رئيس الطائفة وبعض أعيانها خُطبًا أعربوا فيها عن إخلاص وولاء الإسرائيليين جميعهم في برقة لسموه وترحيبهم بالأمير. وفي المساء أُقيم الحفل الذي اختتمت به حفلات استقبال الأمير، وقُدِّمت لسموه في أثنائه الصورة الزيتية التي رسمها الفنان عوض عبيدة، فتقبَّلها سموه شاكرًا ثم أهداها لجمعية عمر المختار كذكرى تاريخية للزيارة الميمونة. وفي ضُحى اليوم التالي (الجمعة ٤ أغسطس ١٩٤٤م) غادر سموه بنغازي، فمر القطار بمركز بنينة والرجمة قبل وصوله إلى الآبار، حيث استقبل سموه بهذا المكان الأخير أهل الآبار وأعيانها، يتقدَّمهم مدير الآبار السيد علي جعودة ومُتصرف المرج وبعض الضباط. وفي يوم الأحد ٦ أغسطس ألقى سموه خطابًا رائعًا على جنوده البواسل، قوة دفاع برقة في مركز أبو بريدان، «حيَّا فيه أبناءه الأعزاء، وهنَّأهم بما قدَّموه لوطنهم من تضحياتٍ في الذود عن حياضه.» وقد توجَّه سموه بعد ذلك إلى البيضاء (سيدي رافع)، فأقام بها حتى نهاية الأسبوع الأول من شهر رمضان ١٣٦٣ﻫ (أواخر أغسطس ١٩٤٤م).

وعندئذٍ توجَّه لمقابلة سموِّه في البيضاء السيد يوسف بك لنقي، ورجاه باسم الشعب البرقاوي أن يُطيل إقامته بين رعاياه المُحبين، فعاد سموُّه إلى بنغازي. وأعد يوسف بك لنزول سموه دارًا كبيرةً في الفويهات، فظل الأمير في بنغازي حتى يوم ٤ شوال (٢٢ سبتمبر ١٩٤٤م) ثم غادر برقة إلى القطر المصري. وكان على أثر انتهاء الزيارة الرسمية في الشهر السابق أن تقدَّم يوسف بك لنقي رئيس لجنة الاستقبال والاحتفالات إلى مجلة عمر المختار يطلُب إليها باسم اللجنة إصدار عددٍ خاصٍّ «لتخليد ذكرى زيارة الأمين»، فصدر عدد خاص يحوي وصفًا شاملًا للزيارة، ويجمع بين دفتَيه تلك الخُطَب التاريخية التي ألقاها سمو الأمير على شعبه في بنغازي وأجدابية وأبو بريدان وكذلك في درنة، وكان خطاب سمو الأمير في درنة يوم ١٩ يوليو أسبق الخطب التي ألقاها سموه، وقد عرض فيها سموه إلى ذكر الحقوق التي تمسكت بها البلاد في كل زمانٍ وجاهدت في سبيل استخلاصها جهاد البواسل، كما أوضح سموه غدْر الطليان ونقضهم لمواثيقهم، ثم أكد سموه تلك الغاية العُليا التي يعمل لتحقيقها وهي الاستقلال، قال سموه: «إن في الماضي لعبرة، والأمم الحية تستخلِص من ماضيها آياتٍ بينات لتُكيف بها حاضرها ومُستقبلها، فماضيكم كان ساطعًا لامعًا بجهادكم وإخلاصكم لقضية بلادكم وتضامُنكم في الدفاع عنها وتمسُّككم بحقوقكم الطبيعية التي سفكتُم من أجلها دماءكم وأفنيتم فيها أموالكم، تلك الحقوق التي كانت لكم قبل الأتراك وفي زمنهم، وقد صرحت بها تركيا في معاهدة أوشي، وقد وافقت عليها إيطاليا ثم نقضت عهدها، وأخيرًا تعاهدت معنا على شيءٍ منها ثم غادرت ثانيةً، شأنها في نقض العهود حتى مع من هم أشدُّ منَّا قوةً وبأسًا؛ الأمر الذي حدا بنا إلى امتشاق الحسام مرةً أخرى ضدها. كذلك مما يُكسبنا هذا الحق الطبيعي تعاوننا وتضحية شعبنا داخلًا وخارجًا، وتعاون جيشنا مع جيش بريطانيا العظمى، وتتلوه غايات الحلفاء السامية كميثاق الأطلنطيقي، لإنالة الشعوب الضعيفة حقوقَها وإعادة الحرية والسلام لها بعد الحرب. كل ذلك يجعلني أنظر إلى المُستقبل بعين الأمل … أرجو ألا يتطرَّق إلى أذهانكم أني تهاونتُ أو أتهاون في المطالبة بحقوقكم الشرعية، ألا وهي الاستقلال ضمن قرار الجمعية العمومية للوطن المُقدَّم من لدُنها إلى الحكومة البريطانية يوم ٩ أغسطس ١٩٤٠م والمؤيدة منَّا في عدة مناسبات.»

ولا جدال في أن كل هذه الأقوال قد فعلت فِعل السحر في النفوس، إذ إن الأمير إلى جانب تطمين البلاد على نوال حقوقها الكاملة التي جاهدت في سبيل الحصول عليها جهادًا شاقًّا مُضنيًا طويلًا، قد أوضح لشعبه المبادئ التي استرشد بها قادته وزعماؤه عندما دخلوا ميدان الكفاح إلى جانب بريطانيا على أساس ذلك الميثاق (ميثاق الأطلنطيقي) الذي كفل للشعوب المناضِلة بجوار الديمقراطيات الكبيرة، بريطانيا العظمى والولايات المتحدة الأمريكية، التحرُّر والخلاص والاستمتاع بحقوقها الوطنية كاملة في ظلِّ سلامٍ يسود العالم قاطبةً.

وقد أحدثت الاحتفالات الرائعة في برقة، وتلك الخطب القيِّمة التي ألقاها سمو الأمير على شعبه في أثناء هذه الاحتفالات، أثرًا عميقًا في نفوس أهل القُطر الشقيق المجاور «طرابلسيين»، فوفد على سموِّه عقب الانتهاء من جولته المظفرة في برقة جماعة من وجوه الطرابلسيين يطلبون من سموه أن يزور طرابلس. ولكنه لمَّا كان الأمير قد غادر برقة بعد ذلك إلى مصر فقد تعذَّرت الزيارة. ومع ذلك فقد أعد أهل طرابلس «بيعة شرعية» جدَّدوا بها بيعتهم السابقة لسموه في ٣ ذي الحجة ١٣٤٠ﻫ (١٧ يوليو ١٩٢٢م)، أي قبل ذلك بعشرين عامًا. أما البيعة الجديدة فكانت مُحررة في ٢٨ رمضان المعظم ١٣٦٣ﻫ (١٦ سبتمبر ١٩٤٤م)، وجاء فيها ما نصُّه:

«بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين … حضرة صاحب السمو الجليل السيد محمد إدريس المهدي السنوسي، أمير ليبيا العظيم، إن لكم في عنق الأمة الطرابلسية بيعةً شرعية في اختياركم أميرًا للقُطر الليبي بواسطة مُمثليها الشرعيين، حرصًا منهم على سعادة بلادهم وجمع كلمتها تحت إمرة رجلٍ ذي حسبٍ ونسب وكفاءة للقيام بهذه المهمة الخطيرة، وما يتطلَّبه هذا المنصب السامي من جهودٍ جبارة، وقد وجدَت فيكم المثل الأعلى فبايعَتكم وأمَّرتكم برِضًا منها وطِيب خاطر. وقد حالت حوادث الدهر وظلم الغاصبين بينكم وبين أُمَّتكم، وبينها وبين رغباتها، حقبةً من الزمان، وها هو بمنِّ الله سبحانه وتعالى قد حُرِّرت بلادنا بواسطة صديقة العالم الإسلامي وحليفته بريطانيا العظمى، التي وجدت في شخصكم الكريم خيرَ حليفٍ مساعِد بنفوذه وأتباعه، قام بما طُلب منه خير قيام. وبما أن الحرب قد أصبحت على وشك الانتهاء، وسيكون النصر فيها حليف حلفائكم الديمقراطيين، فقد قُمنا بتحرير هذه الوثيقة مُجدِّدين لكم تلك البيعة التي لا زلنا مُتمسكين بها، أي بيعة مؤتمر غريان المُنعقِد في ٣ ذي الحجة ١٣٤٠ هجرية، قائمين بما تفرضه علينا البيعة المذكورة من واجبات، راجِين منكم السعي في تحقيق رغبات الأمة؛ مِن إحرازها للحكم الذاتي وغير ذلك ممَّا يجلب لها الراحة والهناء، وتحقيق أمانيها التي كفَلَها الميثاق الأطلنطي، والتي تُقاتل الدول الديمقراطية من أجلِها. وإنَّ الأمة التي قامت بتأكيد بيعتها مُستعدة للقيام بما تطلبه البيعة من واجبات.»

وهكذا انعقدت كلمة الليبيين قاطبةً في برقة وطرابلس على الانضواء تحت لواء إمارة السيد محمد إدريس المهدي السنوسي، تلك الإمارة التي شيَّد صرحها مؤسس السنوسية الإمام السيد محمد بن علي السنوسي الكبير في الثلث الأول من القرن الماضي، واعترفت بها الدولة العثمانية حقيقةً واقعة بعد ذلك، ثم أيدت هذا الاعتراف رسميًّا منذ أن بدأ النضال المرير ضد الطليان إبَّان الحرب الليبية-الإيطالية. ولم يجد الطليان أنفسهم مناصًا من الاعتراف بها كذلك في اتفاقاتهم مع السيد محمد إدريس، ثم حال دون تنفيذ هذا الاعتراف ما جرى عليه الطليان من عادة نقض العهود والمواثيق. وقد أثبتت الحوادث أن الشعب الليبي قاطبةً لا يرضى عن هذه الإمارة السنوسية بديلًا حتى يستمتِع بحقِّه في الحياة الحُرة كاملًا: شعب واحد وإمارة واحدة، تضم الأقطار الليبية من حدود مصر شرقًا إلى حدود تونس غربًا، ومن شاطئ البحر الأبيض المتوسط شمالًا إلى نهاية حدود برقة وفزان جنوبًا، وينعقِد لواؤها للأمير السيد محمد إدريس المهدي السنوسي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥