خاتمة القول
كافحت الأمة الليبية طويلًا في سبيل حُريتها واستقلالها، فلم تُذعن لسلطان الطليان، بل شنَّ الليبيون حربًا شعواء على أولئك الذين اغتصبوا بلادهم حوالي ثلاثين عامًا، ضحَّوا في أثنائها بالنفس والنفيس، فاستُشهد منهم من استُشهد ونُفي وشُرِّد عديدون، وبطش الطليان بهم بطشًا، ولكن ذلك لم ينل من قوة إيمانهم شيئًا ولم يُضعف ثقَتَهم في عدالة قضيتهم، بل ظلوا يتربصون بالعدو الفاتك الدوائر حتى دنَت ساعة الخلاص عندما بدأت الحرب العالمية الثانية وزجَّت إيطاليا بنفسها زجًّا في أتونِها المُستعر، فراحوا يُجندون الجيوش وينخرطون في سلك الفدائيين إلى جانب الديمقراطيات العظيمة كحلفاءَ صادِقين لدولة بريطانيا العظمى في أحلك أيَّامِها سوادًا وأعصبها شدةً، يبغون التحرُّر والخلاص من طغيان الطليان ويَنشدون الحرية والاستقلال ولا يرغبون عنهما بديلًا.
وكان، بعد أن قرَّر الليبيون بزعامة السنوسية العتيدة أن يخوضوا غمار الحرب العالمية الثانية بأيام معدودات، أن وقَّع فرانكلين ديلانو روزفلت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الراحل والمستر ونستون تشرشل «ميثاق الأطلنطي» في ١٤ أغسطس ١٩٤١م. فاطمأنت نفوس الليبيين إلى المستقبل؛ ذلك بأنهم عقدوا آمالًا عظيمةً على تلك المبادئ الحرة التي تضمَّنها ذلك الميثاق، وهي مبادئ لو عُمل بها في ميدان السياسة الدولية لاستطاعت الأمم والشعوب الصغيرة والمهيضة الجناح أن تعيش موفورة الكرامة مرفوعة الرأس، مُتمتعةً بحقوقها كاملة في الحياة الحرة الطليقة.
وقد تدعَّمت آمال الليبيين عندما أسفر مؤتمر «دمبارتون أوكس» في أكتوبر ١٩٤٤م عن تقديم مقترحاتٍ مُعينة لإنشاء هيئة دولية، أغراضها المحافظة على السِّلم والأمن الدوليَّين، وتعزيز السلام العام، وإنماء العلاقات الودية بين الأمم، وتحقيق التعاون الدولي في حل المسائل الدولية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، على أن تعمل هذه الهيئة الدولية وفقَ مبادئ عدة، لعلَّ أهمها — في نظر الليبيين — تحقيق مبدأ المساواة في السيادة بين جميع الدول المُحبة للسلام، وتسوية ما قد ينشأ من خلافاتٍ بين الأمم بالوسائل السلمية، وامتناع أعضاء هذه الهيئة عن استعمال القوة في علاقاتهم الدولية، وعلى أن تعمل الهيئة على أن تقف الدول غير الأعضاء بها موقفًا يتَّفق مع هذه المبادئ بالقدْر الذي يقتضيه صون السِّلم والأمن في العالم.
وما إن لاح في أُفق السياسة الدولية مَسعى العرب من أجل إنشاء جامعة الدول العربية حتى شمَّر الليبيون عن ساعد الجد والعمل، حتى تضم الجامعة بين أعضائها مُمثلين عن القُطر الليبي، فأعد الأمير السيد محمد إدريس السنوسي تقريرًا ضافيًا قدَّمه إلى وزراء خارجية الدول العربية، رجاءَ أن يبحث مؤتمرهم المُنعقِد في ١٤ فبراير ١٩٤٥م ما تضمَّنه هذا التقرير من حُجَج تسوِّغ تمثيل الشعب الليبي في الجامعة العربية، ثم مؤازرة هذا الشعب في «أن يكون له حقُّه الطبيعي في تقرير مصيره وشخصيته الدولية مثل باقي الشعوب العربية». غير أنه لمَّا كانت جامعة الدول العربية تتألف من الدول العربية المُستقلة فحسب، والتي وقَّعت على الميثاق، فقد تعذَّر قبول ليبيا ضِمن أعضاء الجامعة. ومع ذلك فإنه ما وقَّعت الدول العربية على ميثاق هذه الجامعة في ٨ ربيع الثاني ١٣٦٤ﻫ (٢٢ مارس ١٩٤٥م) حتى غدت المسألة الليبية أحد الموضوعات التي استأثرت بقدْرٍ عظيم من اهتمام جامعة الدول العربية. واستطاع الليبيون أن يجدوا طريقهم إلى عرْض قضية بلادهم على الدول التي يتألَّف منها مجلس الجامعة العربية، ولقِيَت القضية الليبية تأييدًا صادقًا من جانب هذه الدول. آية ذلك، التصريحات العديدة التي جاءت على لسانِ أمينها العام والمجاهد العربي الكبير معالي عبد الرحمن عزام باشا.
قال معاليه في حفلة الشبَّان المسلمين التي أقيمت لتكريم وفود الجامعة العربية في يوم ١٢ أبريل ١٩٤٦م: «ولنا جار شقيق عزيز علينا، وهو طرابلس الغرب، الذي ما زالت الجامعة العربية منذ الصيف الماضي تُكافح من أجله، ويَلمُّ المستعمرون شبكاتهم ليدفعونا عنه، ولكننا سننتصِر عليهم بفضل جهود الجامعة وجهاد أهل طرابلس أنفسهم. وبيننا في هذا الحفل سيدٌ هو نجل المجاهد العظيم السيد المهدي السنوسي الذي أصلى الاستعمار الفرنسي حربًا عوانًا، لا من أجل طرابلس بل من أجل المغرب العربي كلِّه. ولما امتدَّت أعناق الطامعين من الطليان إلى طرابلس قام الشعب العربي فيها بدفاعه المجيد عنها، وأبلت الأسرة السنوسية في محاربة الأجنبي المُجتاح بلاءها المعروف. والسيد الحاضر هو السيد إدريس السنوسي، وارث رسالة ذلك البطل العظيم في الجهاد، في لوبيا أُباةٌ مغاوير رافق بعضهم صفحات الجهاد الرائع، أما البعض الآخر فقد وُلد تحت قصف المدافع وصليل السيوف، وهؤلاء هم حاملو رسالة طرابلس.»
وقد نشط الليبيون، سواء منهم الموجودون بمصر أو المُتزعِّمون للجهاد في أوطانهم، حتى يُبينوا للعالم أجمع ولسائر الشعوب العربية على وجه الخصوص عدالة مطالبهم التي أكَّدوها مرةً بعد أخرى منذ أن تحرَّرت بلادهم من نير الطليان المُغتصبين. وكانت وما تزال هذه المطالب ثلاثة: (أولًا) حق الأمة الليبية في الحرية والاستقلال، (ثانيًا) وحدة البلاد من حدود مصر إلى حدود تونس والجزائر، (ثالثًا) الانضمام إلى الجامعة العربية. فقدَّم الليبيون العاملون في مصر إلى الجامعة العربية في غضون عام ١٩٤٦م مذكراتٍ وافية وتقارير ضافيةً بسطوا فيها هذه المطالب الحقة وما تستند إليه من حجج قوية دامغة، وحذا حذوهم مواطنوهم المجاهدون في ليبيا ذاتها.
وجاء في تقرير الأمانة العامة لجامعة الدول العربية عن الأعمال التي تمَّت في المدة بين الدورتَين الثالثة والخامسة العاديتَين، وعن الإجراءات التي اتُّخذت لتنفيذ قرارات المجلس أنه «بناءً على تكليف المجلس بقراره الصادر في دورته الثالثة العادية بتاريخ ١٦ أبريل سنة ١٩٤٦م، قامت الأمانة العامة في قضية طرابلس بإرسال مذكرةٍ إلى وزراء خارجية الدول العُظمى في باريس، والدول التي دُعِيت للاشتراك في مؤتمر الصلح مع إيطاليا. وقد تضمَّنت تلك المذكرة رفض الشعب الليبي، يُظاهره العالم العربي، لأيةِ فكرةٍ ترمي إلى تقسيم ليبيا ومعارضة تقرير مصيره، دون استفتائه تحت إشراف هيئة الأمم المتحدة والجامعة العربية في شكل الحكومة التي يرتضيها، كما تضمَّنت أن أي ادعاءٍ يصدُر من الجانب الإيطالي بإعادة أي ارتباطٍ بين ليبيا وبين إيطاليا بإقامة أي نوعٍ من أنواع النظام الحكومي، سيُقاوَم بكافة الوسائل التي تتوفَّر لدى الشعب الليبي. وقامت الأمانة العامة بمداومة المساعي لتحقيق وحدة واستقلال طرابلس عملًا بما نصَّ عليه التكليف الصادر به قرار المجلس المُتقدِّم الذِّكر.»
وكان نصرًا عظيمًا ولا شك لكل تلك الجهود، عندما تفضَّل عاهل مصر العظيم ومؤيد العروبة حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول ملك مصر وصاحب بلاد النوبة والسودان وكردفان ودارفور، فدعا أصحاب الجلالة والفخامة والسمو ملوك العرب ورؤساءهم وأمراءهم لاجتماعهم في زهراء أنشاص في يومَي ٢٨ و٢٩ مايو ١٩٤٦م، فلبَّى الدعوة الملكية الكريمة حضرة صاحب الفخامة السيد شكري القوتلي رئيس الجمهورية السورية، وحضرة صاحب الجلالة الملك عبد الله ملك شرق الأردن، وحضرة صاحب السمو الملكي الأمير سيف الإسلام عبد الله نجل جلالة المرحوم الإمام يحيى ملك اليمن؛ فقد صدر بيان عن زهراء أنشاص في يوم الأربعاء ٢٧ جمادى الآخرة سنة ١٣٦٥ﻫ (٢٩ مايو ١٩٤٦م) كان من بين ما جاء فيه أن أصحاب الجلالة والفخامة والسمو قد «تناولوا بالبحث مسألة طرابلس وبرقة، ووجدوا أنفسهم مُتفقين تمام الاتفاق على أنَّ استقلال هذه البلاد أمر طبيعي وعادل، وأنَّ حكوماتهم مُتفقة على ضرورته لأمنِ مصر والبلاد العربية، وأنَّ على جامعة الدول العربية، التي قضى ميثاقها برعاية شئون العرب ومصالحهم، أن تُهيئ الأسباب لهذا الاستقلال، وأن تتعهَّده في بادئ الأمر بالرعاية اللازمة لظهور حكومة عربية في تلك البلاد، ومُعاونتها إداريًّا وماديًّا حتى تستطيع النهوض بمسئوليتها داخلًا وخارجًا، كعضوٍ من أعضاء جامعة الدول العربية.»
وقد وافق مجلس الجامعة العربية في دورته الاستثنائية ببلودان على ما جاء في هذا البيان، بشأن قضية ليبيا والعمل على استقلالها وإقامة حكومة عربية فيها، كما وافق على أن تُرسِل الأمانة العامة برقيةً إلى وزراء خارجية الدول العظمى على أثر ما أذاعته بعض وكالات الأنباء مُتعلقًا باقتراحٍ بريطاني بإرسال وفدٍ من الدول المذكورة لتعرِف رغبات أهل ليبيا. وقد بعثت الأمانة العامة بتلك البرقية بتاريخ ١٠ يونيو ١٩٤٦م من بلودان، وقد جاء فيها: «إن كل تحقيق تقوم به الدول العظمى في هذا الشأن يُهم الجامعة العربية التي تعتبر طرابلس وبرقة شعبًا من الشعوب العربية، كما يقضي عليها ميثاقها أن تنظر شئونه ومصالحه، وتحرص أن تشترك الجامعة العربية في الهيئة التي أشار إليها الاقتراح البريطاني، وتودُّ، إذا اتُّفِق على هذا الاقتراح، أن تُدعى للاشتراك وأن تُحاط علمًا بالإجراءات والمواعيد». وفضلًا عن ذلك فقد بعثت الأمانة العامة، على أثر ما تلقَّته من الشكوى من هجرة الطليان غير المشروعة إلى طرابلس، بمذكرةٍ إلى وزارة الخارجية البريطانية، وتلقَّت منها ردًّا بأنها تتَّخِذ كلَّ ما يمكن لوقف الهجرة المُشار إليها. وحدث أن انعقد اجتماع وزراء خارجية الدول العربية بمدينة الإسكندرية في ١٢ أغسطس ١٩٤٦م (للبحث في مسألة فلسطين)، فقرَّر الوزراء — من بين ما قرَّروا — أن تُوفِد كل من الدول العربية إلى لندن مندوبين عنها، وسافر مُمثلو دول الجامعة إلى لندن في شهر سبتمبر، وانتهز معالي الأمين العام عبد الرحمن عزام باشا فُرصة وجوده بلندن، فعُنِي عنايةً خاصة بالمشكلة الليبية، وبذل كثيرًا من الجهود لإيضاحها وإظهارها للعالم على حقيقتِها، وعرضها على مقامات لندن الرسمية وغير الرسمية على وجهها الصحيح.
وفي غضون الشهور الستة الأولى من عام ١٩٤٧م تألَّفت في القاهرة «هيئة تحرير ليبيا»، فانضم إليها نخبة من أبناء ليبيا المجاهدين برئاسة المجاهد الليبي، ومن كبار زعماء النهضة الاستقلالية في الوطن، حضرة صاحب السعادة بشير بك السعداوي. وقد أبدت هذه الهيئة نشاطًا عظيمًا سواء في القُطر المصري أو في ليبيا ذاتها، فعمِلت على جمع الكلمة وتوحيد الجهود، وتنوير الرأي العام في الأقطار الشقيقة، وبسط القضية الليبية بسطًا عادلًا جامعًا شاملًا. وانبرت هذه الهيئة تدفع مُفتريات الطليان الأخيرة وادعاءاتهم، وتَشدُّقهم (على وجه الخصوص) بما أدَّته إيطاليا لمُستعمراتها السابقة من خدماتٍ وما أسبغت عليها من نِعَم، يحدو إيطاليا إلى ذلك رغبتها «بضرورة تولي هذه المُستعمرات من جديد تحت ستار الوصاية»؛ الأمر الذي يرفُضه الليبيون جميعًا رفضًا باتًّا قاطعًا؛ إذ قد صمم الشعب الليبي — على حدِّ ما جاء في بيان هيئة تحرير ليبيا ذاتها — «تصميمًا قاطعًا قويًا أن يُحقق استقلاله التام مهما كلَّفه هذا من تضحياتٍ وبذْلٍ في الدماء والبنين والحياة.»
وفي مايو ١٩٤٧م أعدت الهيئة «مذكرة من مُمثلي الشعب الليبي إلى وزراء خارجية الدول الكبرى في شأن استقلال ليبيا»، بسطت فيها من جديدٍ مطالب ليبيا القومية، وهي — كما كانت دائمًا — مطالب ثلاثة: ليبيا وحدة لا تتجزأ، وليبيا تُطالب بالاستقلال، وليبيا تريد الانضمام إلى الجامعة العربية. وقد اختتمت الهيئة هذه المذكرة التاريخية بالفقرات التالية: «وتتحصل وجهة نظر أهل ليبيا من ناحية وضعِهم السياسي في أنَّ إيطاليا قد تنازلت في معاهدة الصُّلح عن كل حقٍّ لها في بلادهم، وإن كانوا لم يُسلموا لها يومًا ما بأي حقٍّ ما. ولمَّا كانت الدولة العثمانية قد تنازلت من قبل هي الأخرى عن كلِّ حقٍ لها في بلادهم، وذلك في معاهدة لوزان المعقودة بتاريخ ١٨ أكتوبر سنة ١٩١٢م، ومعاهدة لوزان التالية في ٢٤ يوليو ١٩٢٣م، فقد تحرَّرت بذلك بلادهم من كل سلطانٍ أجنبي واستعادت سيادتها واستقلالها. وقد أقاموا الدليل فيما تَقدم على أهليتهم لإدارة شئون بلادهم وحكم أنفسهم بأنفسهم. غير أن مجلس وزراء الخارجية قد قرَّر، على الرغم من ذلك، إيفاد لجنة للبحث والتحري في شئون البلاد. ولما كنَّا قد عهدنا إلى جامعة الدول العربية أن تسعى إلى تحقيق استقلال بلادنا ما وجدَت إلى ذلك سبيلًا، فإن رغبتنا الإجماعية هي أن تشترك هذه الجامعة في أعمال اللجنة التي توفَد إلى البلاد؛ هذه رغبتنا نُعلنها إليكم مرةً أخرى، ونطلب إليكم العمل على إنفاذها تطبيقًا لنصوص ميثاق الأمم المتحدة. بل إنَّا نُعلن إليكم فوق ذلك، على ما سبق لنا القول، أننا قرَّرنا عدم الاعتراف بأعمال أية لجنةٍ لا تشترك فيها جامعة الدول العربية.» بيد أن هيئة تحرير ليبيا سرعان ما وجدت لزامًا عليها أن تُعالج الموقف بما كانت تقتضيه خطورته من حِكمةٍ وعزمٍ، عندما أوفد مجلس نواب وزراء الخارجية (لجنة التحقيق الرباعية) من مندوبي المملكة المتحدة — إنجلترا — والولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، وفرنسا، لفحص أحوال المستعمرات الإيطالية السابقة والوقوف على رغبة أهلِها قبل البتِّ في مصيرهم، فشدت هيئة تحرير ليبيا رحالها إلى أرض الوطن في فبراير ١٩٤٨م.
حقق الله آمال الأمة الليبية المجاهدة وبوَّأها مركزها اللائق بأبنائها البواسل بين مجموعة الدول المستقلة والأمم الحرة الناهضة الطليقة.