الفصل الثالث

برقة وانتشار الدعوة

كان إنشاء زاوية أبي قبيس بمكة المُكرمة مؤذِنًا ببداية الدعوة الواسعة من أجل اتِّباع الطريقة السنوسية، ثم قيام هذه الطريقة العتيدة وثبوتها في الأعوام التالِية في أثناء حياة صاحِبها ومؤسِّسها رحِمَه الله، كشعلةٍ من نورٍ للإرشاد والهداية، ودعامة من دعامات الدين الصحيح، وأساسٍ قوي لبُنيان إمارةٍ لم تكن دينيةً وحسب، بل جاءت أيضًا دنيوية يصلح بقيامها ووجودِها حال المسلمين في الأقطار التي انتظمت تحت لوائها؛ ولذلك فإن حياة السيد محمد بن علي السنوسي الكبير كانت تتميَّز في الفترة التالية بجهود السيد المُتصلة من أجل تنظيم الدعوة ونشرِها ورفع عماد تلك الإمارة الدينية والدنيوية العظيمة والتي سيطرت على أرواح ونفوس تابِعيها ومُريديها ومؤيِّديها، حتى صارت من أعظم الأُسس التي بُنِي عليها صرح الدين وقام عليها العمران في أفريقية الشمالية الغربية على وجه الخصوص حتى يومِنا هذا.

وظاهر من تاريخ تأسيس هذه الدعوة وقيامِها أن أرض الحجاز المباركة كانت الموطن الذي نبتت فيه وترعرعت، حتى إذا نمَت وازدهرت امتدَّت فروعُها إلى الأراضي الليبية وتأصَّلت بها جذورها. وتاريخ الدعوة السنوسية من وقت إنشاء زاوية أبي قُبيس حتى وفاة مؤسِّسها وصاحبها، قصة مَجيدة من قصص الجهاد السِّلمي الرائع في سبيل نشْر ألوية الإسلام الصحيح وهداية الناس إلى ما فيه صلاحُهم دُنيا وأخرى. وقد غذَّى هذه الحركة المباركة، ولا شكَّ، نشاط مؤسِّسها وصاحبها العظيم. وفي نظرنا يرتبِط تاريخ انتشار الدعوة السنوسية بتاريخ السيد الكبير مؤسس هذه الطريقة ومُبتدعها، فيدخل في ذلك تتبُّع ظهور أمر السنوسية في الحجاز ثم انتقالها إلى الأراضي الليبية، ثم وقوع اختيار السيد على برقة حتى يكون هذا الإقليم مركز الدعوة وقاعدة تنظيمها، فإنه ممَّا لا شكَّ فيه أن بقاء السنوسية كدعوةٍ وإمارة إنما مَرجعه جهود السيد السنوسي الكبير ومُثابرته وبُعد نظره إلى جانب صلاحِه وورعِه وتقواه.

أقام السيد بالحجاز مدة، ثم ارتحل عنه إلى المغرب، ثم عاد إليه بعد ذلك فعاش بأرضه المُباركة فترةً حتى غادر الحجاز إلى برقة مرةً أخرى. وفي برقة استقرَّ به المقام أخيرًا في زاوية الجغبوب الشهيرة، حتى وافاه الأجل المحتوم في عام ١٢٧٦ هجرية ١٨٥٩ ميلادية. فكان السيد — رحمه الله — منذ تأسيس زاويتِه الأولى في أبي قبيس إلى وفاته دائب الحركة والنشاط، مُنكبًّا على العبادة، عاملًا على نشر طريقته، يؤسِّس الزوايا ويجمع حوله الإخوان والمُريدين والأتباع، ويضع أنظمة السنوسية التي كفلت لها اتصال الحياة والبقاء، ثم متابعة الذيوع والانتشار من بعده.

أما في الحجاز فقد أسَّس السيد زاوية بالمدينة المنورة، ثم جُملة زوايا أخرى في أنحاء هذا القطر: في الطائف وجدَّة وينبُع وبدر وغيرها، ثم ما لبث أن جاءته الوفود من كلِّ مكانٍ لتأخُذ عنه الطريقة، ولتنتفِع بنُصحه وإرشاده، وتُجيب الدعوة إلى الدِّين القويم. وكان لطول بقائه في الحجاز في فتراتٍ منوَّعة أثر كبير في سطوع نجمِه وذيوع فضلِه، حتى انتفع بعلمِه ودينه وأدبه أناسٌ عديدون، وتخرج على يدَيه علماء كثيرون من أهل الحجاز ومن غير أهل البلاد، من مشايخ المُسلمين الذين قصدوا الحجاز وقتئذٍ للحج إلى بيت الله الحرام، أو للإقامة به طلبًا للعلم أو انقطاعًا للعبادة. وكان من أشهر الحجازيِّين الذين تتلمذوا على السيد وانتفعوا بعلمِه وصلاحه وورعِه الشيخ سيدي فالح الظواهري من الحمراء بالحجاز، وقد لازم هذا الشيخ السيد السنوسي الكبير ثم ارتحل إلى الجغبوب وأقام بها عندما صارت هذه مقر الدعوة السنوسية العتيدة.

والحقيقة أن السنوسية سرعان ما ظهر أمرُها في الحجاز وارتفع ذكرُها حتى أصبحت تحتلُّ مكانًا عظيمًا في القلوب، يَهابها ويخشى بأسَها وسلطانها القاصي والداني. وآية هذه الهيبة وما كانت تحتلُّه السنوسية من مقامٍ رفيع في قلوب الحجازيِّين أنَّ رَكْبَها إلى الحجِّ كلَّ عامٍ كان مَوضع احترام العرب، الذين درَجوا في هاتيك الأيام الخوالي على قطْع الطُّرق ونهب قوافل الحُجَّاج، فما كان يعتدي على السنوسيين في حِلِّهم وترحالهم أحد.

ومع هذا فإن السيد السنوسي الكبير ما كان ليرضى بالمكوث بالحجاز وحدَه، وهو صاحب الدعوة التي يريد ذُيوعها بين أكبر طائفة وجماعة من إخوانه المسلمين؛ ولذلك فقد بات من المُنتظَر أن يحتلَّ النظرُ في وسائل نشر الدعوة السنوسية مكانًا كبيرًا من تفكير السيد. وكان، ولا شكَّ، من أهم وسائل ذلك، التنقيب عن المكان الذي يصلُح لاتخاذه مقرًّا للطريقة الجديدة ومركزًا لنشر الدعوة منه. ثم اهتدى السيد بفكرِه الثاقب ونظره البعيد إلى اختيار برقة مكانًا صالحًا لبثِّ الدعوة والعمل على ذيوعها، ووضْع أُسس تلك الإمارة التي لم يكن هناك مناصٌ من قيامِها إذا رغبت السنوسية — ولا يشكُّ إنسان في أنها ترغب — في أن تُهيِّئ لأتباعها ومُريديها، وهم أهل برقة جميعًا، الحياة الصالحة في الدنيا وفي الآخرة معًا.

والأسباب التي دعت السيد إلى هذا الاختيار عديدة ومنوَّعة، يرجع بعضها إلى معرفة السيد لحقيقة أمر البيئة التي تتميز بها هذه البلاد من غيرها، والتي جعلت منها، كما سنرى، أرضًا صالحةً لبثِّ دعوة الإصلاح الديني الجديدة، وهذا بينما يتَّصل البعض الآخر بتاريخ هذه البُقعة الليبية منذ أن بسط الأتراك العثمانيون سلطانهم عليها في منتصف القرن السادس عشر الميلادي والقرن العاشر الهجري.

وبرقة ذات تاريخ شيِّق حافل لا مجال للتوسُّع في ذِكره الآن، وإنما يكفي أن نذكُر من قصصها أنَّ أول ساكنِيها كانوا اليونان الذين أسَّسوا في الأزمنة القديمة جُملة مُدن مشهورة، منها بنغازي قصبة هذا الإقليم في مُعظم عصور تاريخها. وعندما فتح العرب هذه البلاد في القرن السابع الميلادي دخلَها دين الإسلام واستتبَّ بها الأمن وظهر العدل، ونالت أرض برقة من العمران قسطًا كبيرًا. وقد ظلَّت القبائل العربية تتوزَّع في أرجائها بعد ذلك حتى القرن الثاني عشر الميلادي، وعندئذٍ دبَّ فيها الضعف، وتلاشت قوَّتُها تدريجيًّا، إلى أن أغار العثمانيون عليها في أواسط القرن السادس عشر الميلادي، فاستولوا على مدينة طرابلس الغرب، ثم على بنغازي عاصمة برقة في عام ١٥٥١ ميلادية (٩٥٩ هجرية). وفي ظل هذه السيادة ضُمَّ الإقليمان (برقة وطرابلس) ومُنِحا استقلالًا إداريًّا، فغدت (طرابلس الغرب) من إيالات الدولة العثمانية، مِثلها في ذلك كمثل إيالة تونس وغيرها. وصارت الآستانة تُعين الولاة لحكومتها، حتى إذا كان عام ١١٢٣ هجرية (١٧١١ ميلادية) عينت الدولة لطرابلس ومُلحقاتها (ومع طرابلس برقة) أحمد باشا القرمنلي أو «القره مانلي» رب أسرة «القرامانلية» المشهورة، والتي ظلَّت في حكم البلاد من عام ١٢٥١ هجرية ١٨٣٥ ميلادية. وقد احتل مؤسس هذه الأسرة مكانةً عالية في نفوس الأهلين الذين رغبوا في تنصيبه واليًا عليهم لِما كان معروفًا عنه من العدل والإنصاف. واعترافًا بما كان لمؤسِّس هذه الأسرة من منزلةٍ سامية، صدَر من الآستانة أمر سلطاني جعل الحُكم في طرابلس في عقِب أحمد باشا القره مانلي يتوارثه الواحد بعد الآخر. وفي عام ١٨٣٥م (أي بعد ١٢٧ عامًا تقريبًا) أبطلت الدولة العثمانية حُكم هذه الأسرة وعيَّنت واليًا على طرابلس الغرب، ثم بعد ثلاثة أعوام فقط فصلت برقة من طرابلس وجعلتها ولاية قائمة بذاتها، ثم ولَّت عليها حليم باشا ومركز حكومته في بنغازي «برقة»، وجعلت علي أشقر باشا «عشقر علي باشا» واليًا على طرابلس في عام ١٢٥٤م هجرية و١٨٣٨ ميلادية. وقد بقِيَت برقة وطرابلس في أيدي الولاة العثمانيين حتى عام ١٣٢٩ هجرية و١٩١١ ميلادية، وهو وقت إغارة الإيطاليِّين على هذه البلاد، وقد ظلَّت بنغازي (برقة) تارةً ولاية وأخرى لواءً مُستقلًّا طوال هذه المدة.

وتنحصِر أهمية هذا العهد العثماني، بالنسبة إلى انتشار الدعوة السنوسية في البلاد الليبية، ثم اتخاذ برقة ذاتها مركزًا تُدار منه هذه الدعوة وإقليمًا يشهد إنشاء وتأسيس الإمارة السنوسية، في جُملة مسائل، بعضها سياسي والآخر اجتماعي، فإنه مما تجدُر ملاحظته أن العثمانيين حين بسطوا سيادتهم على هذه البلاد، ما كان نفوذهم في الحقيقة يتعدَّى السواحل وبعض المُدن والمواني التي كانت قريبةً من متناول أجنادِهم وأسطولهم، وكانت مراكز لِوُلاتهم ومقرًّا لحكومة هؤلاء الولاة. وأما دواخل البلاد — إذا تغلغل المرء جنوبًا ضاربًا في فيافي الصحراء الليبية — فقد ظلَّت بعيدة عن سلطان الترك ونفوذهم، يستقيم بها الأمر لشيوخ القبائل العربية المُتنقِّلة في أرجائها الشاسعة البعيدة وحدَهم؛ ولذلك رضِيَت الدولة العثمانية بأن تترُك الحكومة في أيدي أسرةٍ محلية مشهورة هي أسرة «القرامانلية» ما يزيد على قرنٍ من الزمان، ثم ظلَّ الحال على ذلك حتى ظن الأتراك أن في مقدورهم إدخال هذه البلاد النائية في حوزتهم قولًا وفعلًا، فولَّوا عليها الولاة من قِبَلهم وأعادوا احتلالها. وحاول هؤلاء الولاة جمعَ السلطة في أيديهم، فنجم عن ذلك اصطدام بين قوى الحكومة وبين قوى الزعماء في داخل البلاد، ونفر العرب نفورًا شديدًا في برقة وطرابلس من هذا النظام الجديد، وعارضوا الاحتلال، فاحتدم الشرُّ بينهم وبين الأتراك مدةً طويلة، حتى بات الأتراك يتُوقُون إلى إزالة هذا الشرِّ المُستطير، ووضع حدٍّ للخلاف والاصطدام، وذلك باستمالة زعماء العرب وأصحاب النفوذ في البلاد؛ فكانت هذه الرغبة مِن جانبهم السبب الأكبر والمباشر الذي دعا العثمانيين إلى الاعتراف بالسنوسية، ليس فقط كدعوة (وطريقة) بل كإمارة (وسياسة) كما سيأتي بعد.

أما مِن الناحية الاجتماعية فقد كان من أثر الضَّعف الذي ألمَّ بالبلاد، وتفشِّي الجهل بين القبائل، ثم ضياع نفوذ الحكومة في دواخل هذه الأقطار، أن انصرف الناس عن إقامة شعائر الدين واشتغلوا بأمر دُنياهم. وما كان الاهتمام بالدنيا، في عادات هذه القبائل المُتنقلة والبعيدة عن نفوذ الحكومة وسُلطانها، سوى الإمعان في أعمال السَّلب والنهب وقطْع الطرُق على القوافل؛ ولذلك فقد كان أهل هذه الأقطار أشدَّ الناس حاجةً إلى الإرشاد لمعرفة قواعد دينِهم والتحلِّي بآداب الإسلام العالية حتى يصلُح حالهم دُنيا وآخرة. فإذا تذكَّرنا أن الانحطاط المُستولي على الحكومة العثمانية في ذلك الوقت كان لا يجعلها تُفكِّر في ضبط مقاطعة «مجهولة» كبرقة، لا نفوذ لها بتاتًا في دواخلها. وإذا تذكَّرنا أن صاحب الدعوة وكل إنسانٍ يريد تحويل الناس عمَّا ألِفوا، وسَوقهم إلى اتجاهٍ غير ما عرفوا، ينبغي عليه أن يختار مكانًا صالحًا لنشر دعوته: أولًا: من حيث توقُّعه أن يقبل أهل هذا المكان الدعوةَ وألا يُبدوا أيةَ مُعارضة أو مقاومة لتعاليمه وآرائه. وثانيًا: من حيث أن يكون المكان مُرتبطَ الأجزاء وغير مُتفكك، ويتوسَّط الأقطار التي يريد صاحب الدعوة نشر دعوته بها، ويسهل الاتصال بينه وبين هذه الأقطار؛ وإذا تذكَّرنا أن السيد السنوسي الكبير قد أكثر في تنقُّله وأسفاره من زيارة إقليم برقة وشاهد ما كانت عليه القبائل في هذا الإقليم «غارقة في بحار الجهالة، دأْبُ «أهلها» السَّلب والنَّهب وقطْع السبيل»؛ لأدركنا قيمة الدوافع التي جعلت السيد — رحمه الله — يختار برقة مركزًا لدعوته. زِد على ذلك أن منطقة الجبل الأخضر ذات خصوبةٍ عظيمة ويصِلها بالعالم الخارجي ثغرا بنغازي ودرنة، كما تمرُّ بالجبل الأخضر جميع القوافل الذاهبة إلى طرابلس الغرب وفزان ومصر وبرنو وواداي، أو تلك الآتية مِن كلٍّ مِن هذه البلدان وما يُجاورها؛ ولذلك تستطيع السنوسية أن تجِد في جميع هذه الاتصالات سُبلًا مُمهدةً لنشر دعوتها وبسط نفوذها، وهو نفوذ في جوهره لا يبغي غير إقامة الدعوة لعمل المعروف والابتعاد عن فِعل المُنكر، ونشر تعاليم الدين الصحيح، ومكافحة ذلك «التدهور المُخيف» الذي كان يُهدد الإسلام ويخشاه السيد الكبير من زمنٍ بعيد.

وعندما تم رأي السيد وصحَّت عزيمته على تأسيس الزوايا في برقة واتخاذها مركزًا لدعوته، وكان مُطمئنًّا إلى ظهور واستواء طريقته بأرض الحجاز، قرَّر الرحلة إلى الأقطار الليبية. وقد ذكر السيد أحمد الشريف — حفيد السيد — خبَر هذه الرحلة في رسالةٍ كبيرة نجَت أجزاءٌ منها من التلَف، كتبَها السيد أحمد بخطِّ يده، راويًا ما سمعه من سيدي محمد بن الشفيع الذي صحِب السيد محمد بن علي السنوسي الكبير من وقتِ خروجه من الحجاز، فقال إن السيد غادر مكة في آخِر ذي الحجة ١٢٥٥ هجرية (٢٩ فبراير ١٨٤٠م) «قاصدًا المدينة المنورة للوداع»، فأقام بالمدينة سبعة أيام ثم ارتحل منها إلى «ينبع» فوصلها في أواسط صفَر من العام التالي (أبريل ١٨٤٠م)، وفي «ينبع» قسم السيد الإخوان إلى جماعتَين: ركبت الأولى منهما البحر ومعها أسرة السيد، على نية السفر إلى مدينة «قابس» على شاطئ البحر الأبيض غربي مدينة طرابلس، بينما رافقت الجماعة الأخرى السيد نفسه. وكان — رحمه الله — مُعتزمًا السفر برًّا إلى مصر، ومنها إلى المغرب، على أن يلحق بأُسرته هناك. فنزل السيد بعد ذلك «بالحوراء»، ثم غادرها إلى «الوجه»، ثم إلى «المويلح» و«المخيلي»، ومر ﺑ «آبار ثمود» ثم بلغ «العقبة» فارتحل منها إلى «عجرود»، وسار من «عجرود» إلى «البركة» — بركة الحج. وكان السيد في «كل سفره هذا مرافقًا للمحمل المصري، إلَّا أنه غير خالِطٍ برحله فيه، فلمَّا وصل المحمل البركة، وضرب المدفع في نصف الليل، وأرسل المبشر، تأخَّر الأستاذ (السيد محمد بن علي) رضي الله عنه بمن معه. فلمَّا وقف المحمل يتهيَّأ للدخول تقدم (السيد) ومعه جماعة من الإخوان وتأخَّر الباقون عند الأثاث، ودخل مصر — رحمه الله — ليلًا.» وكان وصول السيد إلى مصر في منتصف ربيع الأول ١٢٥٦ هجرية (١٧ مايو ١٨٤٠م)، فضرب «خيمته» بالحصوى، وهي خارج البلدة، بينما نزل رحمَه الله عند الشيخ محمد بورادة، حتى إذا كان اليوم الرابع «أرسل إلى الإخوان وأمرَهم بالدخول إلى البلد، ونزلوا عند الشيخ عمر الزواري في بولاق، وأقاموا بها ثلاثة أشهر.» ولا يذكر السيد أحمد الشريف في تاريخه شيئًا عن نشاط السيد في أثناء إقامته بمصر في هذه المرة.

وفي أغسطس ١٨٤٠م غادر السيد مصر (بولاق)، ويمَّم وجهه شطر الفيوم، فبلَغها بعد ثلاثة أيام، ونزل عند الشيخ زيدان بو منديل؛ ثم قصد إلى «البهنسا» ومنها إلى «الواح البحرية»، ونزل بمحلٍّ يُقال له «منديشة»، وأقام بها أربعة أيام، وارتحل منها إلى «الزبود» وأقام بها يومَين، وارتحل منها وسار أربعة أيام ودخل بلدة «سيوة» ونزل بمحلٍّ يُقال له «الطنبسي» وهو خارج البلد، فأقام به ثلاثة أشهر، مَرِض في أثنائها بالحُمَّى، فنقله الإخوان وكان منهم سيدي عبد الله التواتي إلى بلدة سيوة ذاتها. ويقول السيد أحمد الشريف إن مدة السيد بسيوة كانت تسعة أشهر، «وفي مكوثِه هناك سوَّد مُسوَّدة لسيدي محمد بن الشفيع يريد كتابتها لسيدي محمد الغماري وسيدي محمد الخالدي. ومن جُملة ما قالَه لهم فيها: «نحن مُتوجِّهون إلى جهة المغرب، عندنا ولد هناك، مُرادنا نجتمِع به». ثم ارتحل السيد من «سيوة» قاصدًا إلى «جالو»، وكان معه جماعة من المجابرة، فقطع المسافة في اثني عشر يومًا، ثم ارتحل من «جالو» إلى «أوجلة»، ثم سافر إلى برقة الحمراء، ونزل عند قبيلة اللواطي، ومنهم رحل إلى برقة البيضاء ونزل عند الشيخ علي الأطيوشي، وصار مع «السيد» في أرض «سرت» سبعة أيام إلى أن وصلوا إلى «الهيشة»، وبين «سرت» و«الهيشة» ستة أيام، وتلقَّاه عيلت (عائلة) المنتصر، فحملوه وساروا في خدمته إلى «مصراتة» ومن «مصراتة» إلى «طرابلس». وكان وصول السيد إلى طرابلس في أواسط جمادى الثانية ١٢٥٧ﻫ (أوائل أغسطس ١٨٤١م). وكان والي طرابلس وقتئذٍ أشقر علي باشا «عشقر علي»، وله محبَّة عظيمة في الأستاذ، فحرَّض «أسرة ابن المنتصر» على خدمته، وأن يقدِّموا له كل ما يجِب من الخدمة والاحترام والاتصال به، وأقام السيد عند عائلة ابن المُنتصر بأبنيَتهم التي بالمنشية سبعة أيام، وفي اليوم الثامن توجَّه قاصدًا قابس، فنزل أولًا «بأزواره»، ومكث بها مدة، ثم سار إلى قابس، وهناك التقى السيد بأهله والإخوان الذين أركبهم البحر من «ينبع»، فسبقوه إلى الغرب قبل وصوله إلى طرابلس بمدةٍ طويلة.»

بيد أن إقامة السيد بقابس كانت قصيرة؛ لأن الفرنسيين وقت وصوله كانوا قد بسطوا سلطانهم على بلاد الجزائر (منذ حملة ١٨٣٠م)، ومنذ أن علموا بوصوله أخذوا يُدبرون الخطط من أجل القبض عليه، وذلك لأنه أحد أهالي الجزائر، فقرَّر السيد عندئذٍ الخروج من قابس بكل سرعة، فغادرها فجأة إلى طرابلس «هو وابن الحاج المغربي وعبد القادر المكاوي سايس الخيل، هم الثلاثة لا غير». ويقول السيد أحمد الشريف في «تاريخه» إن «هذه الرجعة «كانت» بانزعاجٍ منه، وما كان الإخوان يظنُّون ذلك، وكان مراد الكفرة الغدر به هناك.» وكان وصول السيد إلى طرابلس في رمضان ١٢٥٧ﻫ (سبتمبر ١٨٤١م).

وبعد قدومه إلى طرابلس بشهرَين «أتى الإخوان الذين بقابس بأهل بيته والأثاث الذي معهم، ومكث (السيد) بعد مجيء الإخوان شهرَين، واجتمع سيدي أحمد بن فرج الله الفيتوري بالأستاذ في تلك المدة، وكان درقاويًّا، فأخذ عن السيد الطريقة المحمدية، وشكا له من ضعف حالِه، فأمره الأستاذ أن يُلحِقه بأهله في الجبل الأخضر.» وقد أركب السيد أهله والإخوان الذين جاءوه من قابس البحر إلى بنغازي … وعند وصولهم إليها «حملتهم عائلة الكزة إلى وطن البراعصة، وحملوهم البراعصة إلى محل الزاوية البيضاء، وشرعوا في تأسيسها قبل قدوم الأستاذ رضي الله عنه.» وأما الأستاذ فقد ارتحل من طرابلس قاصدًا بنغازي بعد ذلك، بطريق «سرت» و«العقيلة»، فبلغها قبل حلول رمضان من العام التالي، ثم أقام بها طول شهر رمضان ١٢٥٨ﻫ (٦ أكتوبر إلى أول نوفمبر ١٨٤٢م)، «وأتى هناك رجل من العواقير من قبيلة عائلة الكزة بأناسٍ معه، وحملوه إلى الزاوية البيضاء.» فبلغها في أواخر شوال من العام نفسه، ومكان الزاوية قريب من ضريح سيدي رافع الأنصاري، فكانت «البيضاء» هي ثاني الزوايا التي أسَّسها السيد بعد زاوية «أبي قبيس»، ولكنها كانت أهم الزوايا إطلاقًا لأنها تُعتبر ولا شكَّ أمَّ الزوايا، والمكان الذي انبثق منه نور الطريقة المحمدية والدعوة السنوسية العتيدة.

وأما هذه المرحلة من نشاط السيد، أي منذ أن غادر القاهرة حتى وصل إلى الزاوية البيضاء (أغسطس ١٨٤٠–نوفمبر ١٨٤٢م)، فقد تميَّزت من غيرها من مراحل جهاد السيد ونشاطه في الدعوة للدين الحنيف ونشر الطريقة المحمدية السنوسية بجُملة أمور كانت ذات شأنٍ في استتباب الأمر للدعوة السنوسية في أرض برقة وطرابلس نهائيًّا، وبزوغ أنوار هذه الطريقة، يحمِل أتباعها والإخوان ألوية الدعوة إلى دين الله الحنيف إلى قرب أفريقية الغربية، وعلى وجه الخصوص بين الوثنيِّين (أو الفيتيشيين) المُنتشرين بين تخوم السودان وشواطئ المُحيط الأطلسي، فقد عمد السيد في أثناء رحلته الطويلة من مصر إلى بنغازي إلى إرشاد أهل البلاد التي مرَّ بها إلى قواعد الدين الصحيح، ونشر ألوية السلام والإخاء بين القبائل المختلفة القاطنة بها، يدعو أهل القبائل وساكني البلاد والقرى إلى نبذ التباغُض والتنافر، والإقبال على التعاضد والتآزر والتعاون فيما بينهم، كما حبَّب إلى نفوسهم العدل ونهاهم عن إتيان المنكر، ونشر بينهم الفضائل الإسلامية، وأثمرت دعوته هذه أيما إثمارٍ حتى بات يوجَد في كل بلدٍ وقرية وحيٍّ من أحياء العرب جماعة من الوجوه والأشراف، يفصلون بين الناس فيما يقَع بينهم من خصومات بدون أجر أو مكافأة، بل بمَحض حُبهم — كما قال أحد المؤرخين — لإحقاق الحق الناتج عما غرسه فيهم هذا المُصلح العظيم من الروح السامية والأخلاق العالية. فانصلح حال أهل هذه الجهات، واطمأن الناس على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم بفضل هديِه وإرشاده. ونجم عن نجاح دعوة السيد على هذا الوجه اتساع دائرة مُحبِّيه ومُريديه وتعلُّق نفوسهم به وازدياد شأنه رفعةً بين الأهلِين، فأولَوه ثِقتهم العظيمة ومحبتهم، وكان في هذا كلِّه منبت تلك الثقة التي تمتَّع بها السيد السنوسي الكبير ثم خلفاؤه من بعدِه، وما صار الأهلون في الأراضي الليبية يُعلِّقون على السيد وعلى آله وبَنيه آمالًا كبارًا، يستقيم بتحقيقها أمر دِينهم وتصلُح حال دُنياهم.

وكان هذا الأثر الذي أحدثه وجود السيد بين الأهلين العرب كبيرًا وظاهرًا، حتى أدركتِ السلطات العثمانية في البلاد خطورته، فصارت تُفكر في أجدى الطرُق التي تكفُل لهم الانتفاع بهذا الأثر في إخماد الفِتن والقلاقل التي اشتعلت نارها وعظُم ضررها، على الخصوص في ولاية طرابلس، منذ أخذت الدولة العليَّة على عاتقها احتلال البلاد وتوطيد سُلطانها على نحو ما تقدمَّ ذكره؛ ولذلك فإنه بمجرد أن قصد السيد مدينة طرابلس في طريقه إلى قابس، ثم عند عودته إليها من قابس قبل ارتحاله إلى بنغازي، أسرع والي طرابلس «أشقر باشا» بمُلاقاته بحفاوة بالِغة، وأكرم السيد إكرامًا عظيمًا، ثم لم يلبث أن أخذ عنه الطريقة وصار من أتباع «الطريقة السنوسية»، فظلَّ السيد موضع إكرامٍ وتبجيل طوال إقامته في طرابلس مُتنقلًا بين مدُن طرابلس ومصراتة وسرت (١٢٥٧ هجرية). فكان هذا العمل من جانب الوالي التركي اعترافًا ظاهرًا بالمركز الرفيع الذي يتمتع به السيد، ثم اعترافًا بحاجة دولة العثمانيين إلى الاستفادة من نفوذ السيد وعلوِّ قدره لإصلاح ما كان قد فسد من علائق بين التُّرك والعرب من سبع سنواتٍ مضت تقريبًا، الأمر الذي يدلُّ في جوهره على حقيقةٍ أخرى، هي أن سلطان العثمانيين ما كان يتعدَّى المنطقة الساحلية بمُدنها الكبيرة ذات العدد القليل، وأن الدولة كانت في حاجةٍ واضحة إلى يدٍ قوية تستعين بها في ضبط الأمور على أساس استتباب الأمن وإخماد الفِتن والمُصادمات في داخل البلاد. وما كان لأحدٍ غير السيد الكبير، بما ظهر من تعلُّق العرب به وإصغائهم لنُصحه وإرشاده، أن يتمكن من إسداء هذا المعروف لمصلحة السِّلم والطمأنينة واجتماع الكلمة ونبذ التنافُر والخصام بين جميع المسلمين وشعوبهم. ولم يكن السيد إلا داعيةً عظيمًا للاتحاد ويقظة العالم الإسلامي. وقد أثمر اعتراف الدولة العثمانية — عن طريق والِيها في طرابلس — بالإمارة الواقعية للسيد السنوسي الكبير خير ثمرة، فكانت العرب تحترم أوامره وتُطيع الأتراك بناءً على نصائحه. والسيد كان يرى في هذه الطاعة فائدةً وقوةً للمسلمين. ومن جهة أخرى ترك العثمانيون من ذلك الحين حكومة دواخل البلاد في أيدي السادة السنوسية. وهكذا شهد تاريخ السيد الكبير بداية هذه الحركة العظيمة تنتقِل من مجرد دعوة إلى الدين الصحيح وإرشادٍ لاتِّباع أثر السلَف الصالح إلى دعامةٍ من دعامات الحُكم في العالم الإسلامي، وإمارة منضوية تحت لواء الخلافة العثمانية. ولو أن آراء السيد بصدَد هذه الخلافة — وهي آراء سبق ذكرها — جعلته يبتعِد ما أمكن عن ولاة الدولة ورجالها في بلاده. ومنذ أن أجمع العرب بعد وفاة السيد على اختيار ولدِه خليفةً له صارت السنوسية (إمارة) وراثية في عقِبه، ثم بقِيَت هذه الإمارة تعترف بخلافة السلطان العثماني، كما اعترفت بها وبوجودها (أي الإمارة) السلطنة العثمانية ذاتها، كما يتَّضح من تاريخ السنوسية في الأدوار التالية.

وأما الأثر الثاني فكان بناء البيضاء (أم الزوايا) ثم إنشاء زوايا السنوسية بعد ذلك بالقطر الليبي، فإن أهل السيد وإخوانه بعد أن ركبوا البحر ووصلوا إلى بنغازي من طرابلس، على نحو ما تقدَّم، لم يلبثوا أن وجدوا بها أشراف العواقير، وهم عائلة الكزة وعائلة اللواطي، ثم أشراف البراعصة، وكان هؤلاء جميعًا في انتظارهم بالإبل ومعدَّات السفر، فأركبوهم إلى المحلِّ الذي أُسِّست به الزاوية، وشرعوا في بنائها، حتى إذا تمَّ بناؤها رحل إليها السيد في الظروف التي سبق ذكرها. ولهذه الزاوية (البيضاء) في تاريخ السنوسية مقام كبير؛ لأنها، كما تقدَّم، أول الزوايا التي أنشأها السيد محمد بن علي في برقة، وزيادةً على ذلك فإن بعض مُعمري الجبل الأخضر كانوا، إلى مدةٍ قريبة، لا يزالون يذكرون أنهم سمعوا السيد يقول في أثناء بناء هذه الزاوية: «إن الإفرنج سيأتون يومًا إلى هناك ويهدمون قُبَّة الصحابي سيدي رافع رضي الله عنه، ويربطون خيولهم في مسجد الزاوية البيضاء، ويأخذون حجرًا من بنيان البيضاء قديمًا منحوتًا مكتوبًا عليه عبارات لاتينية.» ويذكر الأمير شكيب أرسلان: «أن هؤلاء المُعمرين الذين سمعوا منه هذا الكلام رأوا مِصداقه كلَّه في آخر حياتهم؛ لأن الطليان جاءوا وهدموا قبة سيدي رافع — وإن كانوا جدَّدوا بناءها بعد ذلك — وربطوا خيولهم في مسجد البيضاء، وأخذوا الحجر الذي عليه اللاتيني من الجدار.» والواقع أن السيد — رحمه الله — كان يتوقَّع سقوط هذه البلاد بأيدي «النابلطان» أي أهل نابولي الإيطاليين؛ ولذلك فإنه مما تجدُر الإشارة إليه أن السيد اختار للزاوية البيضاء موقعًا (استراتيجيًّا) صعب المسالك، ومن الميسور الدفاع عنه بعددٍ قليل من الرجال، زِد على ذلك أن السيد قد اتبع نظامًا خاصًّا في إنشاء بقية الزوايا، فاختار لها أمكنةً على شاطئ البحر بحيث تبعُد كل زاوية عن التي تجاوِرها مسافة ستِّ ساعات، ثم أنشأ خلفها جميعًا زوايا مقابلة لها تبعُد كلٌّ منها عن الأخرى المسافة نفسها، حتى إذا هُوجمت الزاوية الأمامية التي بالشاطئ استطاع الإخوان وأهل الزاوية أن ينتقِلوا بسهولة إلى الزوايا الخلفية. وكانت «مسوس» القاعدة الأولى لهذه الزوايا، وفي الجنوب زاوية الجغبوب المركز الرئيسي فيما بعد، كما سيأتي بيانه.

هذا «ولما دخل (السيد) الزاوية البيضاء مكث بها — كما يقول السيد أحمد الشريف في تاريخه — مدة قليلة، ثم أتاه الخبر بقدوم سيدي أحمد بن فرج الله (الفيتوري) إلى بنغازي، فأرسل إليه أربعة جِمال، وأرسل معها ابن الحاج ليحمِله عليها إلى الزاوية البيضاء.» وفي أوائل ذي الحجة ١٢٥٨ﻫ (يناير ١٨٤٣م) حضر السيد أحمد بن فرج الله إلى الزاوية، فلم يمكُث بها إلَّا قليلًا حتى خطب السيد إحدى بناته في أوائل محرم من عام ١٢٥٩ﻫ (فبراير ١٨٤٣م) ثم «عقد عليها خارج الزاوية في محلٍّ يُقال له «دنقرة» ودخل بها.» ثم أعقب منها ذريةً صالحة، فوُلد له السيد الإمام محمد المهدي في محلٍّ يُقال له «ماسة» في الجبل الأخضر في ذي القعدة من سنة ١٢٦٠ هجرية (نوفمبر ١٨٤٤م)، وكان السيد في درنة، ثم وُلد له في أوائل رمضان ١٢٦٢ﻫ (أغسطس ١٨٤٦م) السيد محمد الشريف بدرنة.

وقد خرج السيد بعد ذلك من برقة قاصدًا الحجاز في عام ١٢٦٢ هجرية (١٨٤٦ ميلادية)، فأقام به ثماني سنوات. وفي أثناء إقامته هناك طلب السيد أن يوجِّهوا إليه ابنه السيد محمد المهدي، وكان قد «توسَّط في السابعة مع زوج خالته والدة السيد محمد علي الغماري، والسيد زين العابدين، فارتحل به وصحب معه ابنة المُرتضى فركاش التي تأهَّل بها السيد المذكور بعد سفر الأستاذ (أي السيد محمد بن علي السنوسي الكبير) من غير استئذانه، وأتوا إلى درنة، وأقاموا بها أيَّامًا ينتظرون مركبًا يوصلهم إلى الإسكندرية، فلم يجدوا إلا مركبًا تُوصِّل إلى خانية، فركبوا بها ونزلوا بخانية، وأقاموا بها شهرَين … وقدم إلى خانية الحاج أحمد بن المُنتصر من الحجاز وأكرمهم … ثم أتت مركب مسافرة إلى الإسكندرية فركبوها ونزلوا بالإسكندرية ومكثوا بها يومَين، وسافروا بمركبٍ غير الأولى ونزلوا بمرسًى (آخر)، ثم ارتحلوا إلى وادي النيل من قريةٍ إلى قرية حتى وصلوا القصير، فنزلوا في بحر القلزم قاصِدين مكة يظنُّون أن الأستاذ بها، فلقيَتْهم مركب كان فيها من أخبرَهم أن الأستاذ بالمدينة، فولَّوا وجوهم شطر الينبع … ثم ارتحل «السيد محمد المهدي» من الينبع إلى المدينة، فاجتمع بالوالد، ولمَّا دخل في سنِّ التاسعة سافر الوالد إلى مكة للحج … وفي جمادى الثانية من سنة تسع وستين (مارس ١٨٥٣م)، أرسل له بالقدوم إلى مكة، فسافر من المدينة في رجب يوم عشرين منه (٢٩ أبريل سنة ١٨٥٣م).»

وفي هذه السنة أيضًا (١٨٥٣م) أرسل السيد إلى الإخوان المُقيمين بالجبل الأخضر حتى يُرسلوا إليه ابنه السيد محمد الشريف مع والدته وجدِّه السيد أحمد بن فرج الله الفيتوري، «فارتحل (السيد محمد الشريف) من الجبل وهو ابن سبع سنين ومعه والدتُه وجدُّه سيدي أحمد بن فرج الله، ومرُّوا على العقبة ثم منها إلى الإسكندرية ثم إلى كرداسة ثم إلى مصر، ونزلوا ببيت الشيخ عمر الزوَّاري وأقاموا به أيَّامًا، ثم إلى السويس، وركبوا البحر قاصِدين جدَّة، فلما وصلوا إليها نزَل بعضُ مَن كان معهم ودخل جدة، ثم أتتهم ريح عاصف فلعبت بالمركب حتى أيقنوا بالغرق وتقطَّعت الأشرعة، وآخر الأمر سلَّمهم الله تعالى، ورمَتْهم الريح على الينبع، فنزلوا بها وأقاموا أيامًا للاستراحة، ثم ارتحلوا إلى المدينة المنورة، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام، فزاروا الروضة الشريفة المُعظمة شرَّفها الله. ولما اجتمعوا بالباشا الذي بها، أهدى إليه هدية وهو كيس به مائة مجيدي وساعة ذهب … وكان بزاوية الأستاذ بالمدينة يومئذٍ سيدي عبد الله التواتي، فأكرمهم غاية الإكرام، وأقاموا عنده ثلاثة أشهر ونصفًا، ثم ارتحلوا منها إلى مكة المُشرفة في منتصف ذي القعدة الحرام سنة تسعٍ وستين (١٧ أغسطس ١٨٥٣م) صحبة سيدي عبد الله التواتي. وبعد أن فارقوا المدينة بأربعة أيام تخلَّف سيدي عبد الله التواتي عن القافلة لوجَعٍ برأسه وحُمَّى، فنام هو ورفيقه ليستريح ويلحق القافلة.» فانقضَّ عليه فجأة بعض العربان يريدون نهب الأمتعة والرواحل فقتلوه وجرحوا صاحبه، «وأرسل الوالي عسكرًا يحرسون «القافلة» من المدينة المنورة إلى مكة.» واجتمع السيد محمد الشريف بوالده الأستاذ في مكة المُكرمة. ثم شاء المولى سبحانه وتعالى أن ينتقِم من المُعتدِين الناهِبين الذين قتلوا السيد عبد الله التواتي، فحلَّت بهم الكوارث، ونخرَت أبدانهم الأمراض الخبيثة، فكان من أثر ذلك أن «صار جميع الحرامية بعد ذلك إذا سمِعوا بأن الركب سنوسي يحضرون إليهم للزيارة ويأتونهم بالذبائح ولا يُؤذونهم أبدًا، بل يحترمونهم ويطلبون منهم الدعاء.»

وفي أواخر ١٢٧٠ هجرية (١٨٥٤ ميلادية) غادر السيد السنوسي الكبير أرض الحجاز قاصدًا «العزيات» بالجبل الأخضر، فخرج من مكة إلى جدة، ثم إلى الوجه ومنه إلى السويس ثم إلى كرداسة ومنها إلى حوش ابن عيسى ثم إلى العزيات، فكان وصوله إليها في غُرة ربيع الأول ١٢٧١ هجرية (٢٢ نوفمبر ١٨٥٤م)، فلم ينقضِ عامٌ واحد من وصوله إلى العزيات حتى طلب إلى سيدي عبد الرحيم المحبوب «السفر إلى الزوايا لتفقُّد أحوالها»، ثم أمره بالذهاب إلى الحجاز حتى يحضر إليه ولده السيد المهدي إذا وجد «الأحوال بالحجاز مُتغيرة»، أو يتركه إذا وجدَها «هادئة» حتى يُتم قراءته. ففعل السيد عبد الرحيم ذلك، ولمَّا كانت الأحوال هادئةً بالحجاز فقد ترك به السيد المهدي، وحج إلى بيت الله الحرام وقفل راجعًا إلى «الجغابيب».

وحدث في أثناء إقامة السيد بالعزيات أن قدم لزيارته «الشيخ محمد بلوا الدرناوي»، وقد دوَّن الشيخ خبر هذه الزيارة، واستطاع أحد الإخوان حديثًا أن ينقل ما كتبَه الشيخ «من ورقة وُجِدت بزاوية درنة» ضِمن أوراقٍ قديمة عند ورثة الشيخ. وقد جاء في هذه «الورقة» ببعض التصرُّف «أنه لما قدم أستاذنا سيدي محمد بن علي السنوسي الخطابي الحسني الإدريسي رضي الله عنه من الحرمَين بغُرة ربيع الأول ١٢٧١ﻫ (٢٢ نوفمبر ١٨٥٤م)، ونزل بقصر العزيات، وشرع في بنيان زاويتنا، توجَّهتُ قاصدًا السلام عليه. وكان اجتماعُنا يوم الجمعة الموافق لعشرين يومًا خلت من الشهر المذكور (١١ ديسمبر ١٨٥٤م)، وجلسنا بين يدَيه رضي الله عنه، وتفاوضنا في رحلتِه وما وقع له في الطريق. قال رضي الله عنه: كان العزم الذي خرجنا له زيارة القدس. ثم في أثناء السفر أتانا الإذن بالذهاب إلى هنا. ثم (بعد حديثٍ طويل في شئون مختلفة) أشار رضي الله عنه بالاستعداد، فقال رضي الله عنه: يجب على كل مؤمنٍ أن يستعدَّ ويأخُذ هيئته، ولم يُصرِّح لي بالوقت. والملحوظ من إشارته رضي الله عنه القُرب، وإن كان قريبهم بعيدًا أو بعيدُهم قريبًا، وقال رضي الله عنه في أثناء كلامه: متى يقع الصلح العام تخصب أراضي طرابلس بصابةٍ لا أتت ولا تأتي فيما بعد؛ وفي ذلك العام تؤخَذ طرابلس الغرب وتونس والإسكندرية … فقلت له: يا سيدي، أي القرانات (يعني الدول) يأخذ الإسكندرية، فقال الإنقليز (الإنجليز). ثم قال رضي الله عنه: إن النابلطان (أهل نابولي) أخذ طرابلس الغرب وسواحلها عام وفاة سيدي أحمد زروق، وانزاحت أهل القرى والبادية إلى البساط، وبنوا مثل هذا القصر، ولعلَّه من بنيانهم. ولما فُتحت طرابلس الغرب وسواحلها رجعت الناس إلى أماكنهم، وأُخذت طرابلس الغرب وسواحلها سنة ١٠٦٥ﻫ (١٦٥٥ ميلادية)، وفتحت عام مرور سيدي أحمد بن ناصر إلى الحرمَين، ومِن ذلك قد علم أن تؤخَذ ثالثًا كما ذكر رضي الله عنه.» وقد ذكر السيد أحمد الشريف خبر هذا الحديث بين الشيخ محمد بلوا الدرناوي والسيد محمد بن علي الكبير في تاريخه.

وواضح أن توقع إغارة الطليان على طرابلس الغرب و(أخذها مرة ثالثة) كان السبب الذي دعا السيد إلى اختيار ذلك الموضع (الاستراتيجي) الذي شيَّد عليه الزاوية البيضاء، ثم اختيار أماكن بقيَّة الزوايا التي تم إنشاؤها في عهده في الأراضي الليبية بالشكل الذي سبق بيانه. وفي الحقيقة كان أهم ما شُغل به السيد منذ قدومه إلى برقة، وفي المدة التالية، إنشاء الزوايا في جميع أنحاء ليبيا؛ في الجبل الأخضر وفي دفنة وبقية طرابلس الغرب وجنوبي تونس. وهذا عدا الزوايا التي أُنشئت في مصر وبلاد العرب ومرزوق وغات وغدامس وإنسالة وتوات، ولدى التوارق وفي السودان، حتى بلغ عدد هذه الزوايا عند نهاية حياته، الاثنتين والعشرين، منها ثماني عشرة زاوية في برقة وحدَها، والمشهور من هذه الزوايا كثير، فقد أمر — رحمه الله — أبا القاسم العيساوي أن يبني زاوية طرابلس الغرب، ثم زاوية الجبل الغربي، وأمر الشيخ عبد الرحيم المحبوب أن يبني زاوية بنغازي ثم زاوية أم شخنب، وأمر الشيخ مصطفى المحجوب أن يبني زاوية دريانة وهكذا.

على أنه مما يجدُر ذكره أن إنشاء هذه الزوايا المُتعددة من جهة، ثم انتشار تعاليم السيد وذيوع الطريقة السنوسية من جهةٍ أخرى، لم يلبث أن أثار عداء السلطات الحكومية (العثمانية) التي بدأت تخشى من سلطان السيد في الجهات التي أُنشئت فيها الزوايا وكثُر بها الإخوان والأتباع والمريدون، خصوصًا في الإقليم الذي كان يحدُّه في الشمال شاطئ البحر الأبيض من الإسكندرية إلى قابس، ثم يمتد صوب الجنوب إلى بلاد الزنوج، أضف إلى هذا أن علماء الدين الذين ما كانوا يرضون بأي جديد — و«الجديد» في الطريقة السنوسية لم يكن في الحقيقة سوى تمسُّك صاحبها بكتاب الله وسنة رسوله الكريم، ثم قوله بأن الاجتهاد لم ينقطِع وبابه مفتوح — سرعان ما زادت نِقمتهم عليه، خصوصًا علماء وشيوخ القسطنطينية ومكة ومصر. ومن الأمثلة المشهورة على ذلك ما قصه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده — رحمه الله — في كتابه «الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية» عند الكلام عن «عداوة علماء العصر للعلوم والفنون»، فقال: «ألم يسمع السامعون أن الشيخ السنوسي (والد السنوسي صاحب الجغبوب) — ومراد الأستاذ الإمام السيد محمد بن علي السنوسي والد السيد محمد المهدي رحمهم الله ورضي عنهم — كتب كتابًا في أصول الفقه زاد فيه بعض مسائل على أصول المالكية، وجاء في كتابٍ له ما يدل على دعواه أنه ممَّن يفهم الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة، وقد يرى ما يخالف رأي مجتهدٍ أو مجتهدين، فعلِم بذلك أحد المشايخ المالكية — رحمه الله تعالى — وكان المُقدَّم في علماء الجامع الأزهر الشريف، فحمل حربةً وطلب الشيخ السنوسي ليطعنه بها لأنه خرَق حرمة الدين، واتبع سبيلًا غير سبيل المؤمنين، وربما كان يجتري الأستاذ على طعن الشيخ السنوسي بالحربة لو لاقاه، وإنما الذي خلَّص السنوسي من الطعنة ونجَّى الشيخ المرحوم من سوء المغبة وارتكاب الجريمة باسم الشريعة هو مفارقة السنوسي للقاهرة قبل أن يُلاقيه الأستاذ المالكي.» وفي التهميشة لناشر الكتاب الشيخ محمد رشيد رضا — رحمه الله — أن الشيخ المالكي «هو الشيخ (محمد) عليش الذي كان يُنكر على السيد جمال الدين (الأفغاني) والشيخ محمد عبده أيضًا طريقتهما في تحقيق المسائل الشرعية على طريقة السلف.» وجاء في دائرة المعارف الإسلامية أن الشيخ محمد عليش أحد الشيوخ المالكية في القاهرة انبرى في عام ١٨٤٣م «لتكفير» السيد السنوسي ونفْي دعواه بعدَم انقطاع الاجتهاد، وبأنه في إمكانه مخالفة أئمة المذاهب المعروفة ما دام مستندًا في اجتهاده إلى ما جاء في الكتاب والسنة. فكان «تكفير» السيد بهذه الصورة أقصى ما بلَغه العلوُّ والتطرف في المعارضة من جانب المُقلدين خصوصًا.

وعلى ذلك فقد وجد السيد أن من الحكمة أمام ازدياد عداء السلطات الحكومية والعلماء المُتمسِّكين بالقديم أن يتَّخذ مقرًّا جديدًا لدعوته غير الزاوية البيضاء، فإن إنشاء هذه الزاوية بمحلٍّ قريب من الساحل جعلها في الحقيقة قريبة من سلطان حكومة بنغازي العثمانية التي لم تلبَث أن زادت مخاوفها أيضًا عندما وجدت هذه الزاوية بعد فترةٍ قصيرة من إنشائها تكاد تُصبح مدينة كبيرة يقصدها الزوَّار من كل مكانٍ ويلجأ إليها الكثيرون، فأراد السيد أن ينشئ زاوية غيرها تكون بعيدةً عن الساحل وعن مُتناول سلطان الحكومة القائمة ونفوذها، فاختار لهذا الغرَض واحة الجغبوب، وكان اختيارًا موفقًا، ويدلُّ — كما قال أحد المؤرِّخين — «على شدة تفكير وبعد غور في السياسة» من جانب السيد؛ ذلك أن جغبوب كانت في مكان تكثُر به القبائل العربية المُستقلة والتي قبلت الدعوة السنوسية ودخلت في عداد الإخوان السنوسيين، وأصبح لذلك من المُستطاع أن يعتمِد السيد على أهلها في نشر دعوة الإسلام في مجاهل الصحراء، وفي الجهات المُجاورة التي ما زال أهلوها حتى ذلك الحين على وثنيتِهم القديمة، زد على ذلك أن السيد — رحمه الله — كان يشعر بدنوِّ استيلاء الأجانب على البلاد، كما يظهر ذلك مما سبق ذكرُه، ففضَّل أن ينتقل إلى الجنوب ويُقيم زاويته الجديدة في جوف الصحراء في مكانٍ يصعب الوصول إليه، فوقع اختياره على الجغبوب، وهي «سوفا» القديمة على مسافة ثلاثة أيام من سيوة. وكان يربط الجغبوب بداخل أفريقية الغربية حتى بحيرة «تشاد» طريقان: أحدهما شرقي من سوكنة إلى مرزوق، والآخر غربي من غدامس والعاير. وكانت جغبوب في تلك الآونة «واحة ملحة يأوي إليها الدُّعَّار واللصوص، ولا تجسر القوافل أن تمرَّ بها من جرَّاء العبث في أنحائها. فلما اختارها (السيد) مقرًّا له وبنى بها زاويته الكُبرى، صارت مهدَ أمانٍ ومركزَ عبادةٍ ومَشرِق أنوارٍ ومَعْلَم هداية، فغرس بها الأشجار ونسَّق الجِنان واستنبط العيون وتوسَّع في البناء، وأسَّس مدرسة لتخريج مُريدي الطريقة أجلس للتدريس فيها جلَّة علماء.»

وعندما قرَّر السيد الانتقال إلى الجغبوب «ارتحل — رحمه الله — من العزيات آخِر يومٍ من محرم الحرام (١٢٧٣ هجرية) — ٣٠ سبتمبر ١٨٥٦م — قاصدًا الجغبوب، والمسافة التي بينه وبين العزيات — كما يقول السيد أحمد الشريف في تاريخه — مع الطريق المُعتادة الآن بالإبل المُثقلة، هي ما بين الثمانية إلى العشرة أيام، إلا أنه رضي الله عنه في سفره لم تكن طريقَه؛ لأنها لم تستعاد (أي لم تكن مطروقة) إلا بعدَه، وإنما أتى على البطنان، وهي المعتادة في ذلك الوقت، إلى سيوة، والآن مهجورة لطولِها لا يمرُّ معها إلا قليل، وإنما المعتادة الآن هي طريق الحكيمات، وهو وادٍ به صهريج لجمع ماء السماء، كان مردومًا وأصلحه السيد العم رضي الله عنه (أي السيد محمد المهدي)، كما أنه جعل بيرًا بالدفنة التي بينهما طوله نحو الستِّين قامة، بينه وبين العزيات نحوٌ من يوم، ونزل بالجغبوب في صفر.»

«ولما وصل الأستاذ الجد رضي الله عنه (السيد محمد بن علي السنوسي الكبير) بالجغبوب سنة ثلاثٍ وسبعين (أكتوبر ١٨٥٦م)، أمر سيدي عبد الرحيم (المحبوب) بالرجوع إلى الحجاز في تلك السنة ليأتِيَه بالسيد المهدي رضي الله عنه إلى الجغبوب، فخرج سيدي عبد الرحيم إلى الحجاز، فحجَّ وخرج بالسيد المهدي من مكة إلى جدَّة في آخِر ذي الحجة (٢١ أغسطس ١٨٥٧م)، ونزل في بيت مصطفى قاضي الحضري، وهو رجل تاجر مُحب للأستاذ محبَّة قوية هونت عليه دُنياه في جانبه، فبذل أموالًا لا تُحصى فيما يُعجِب الأستاذ رضي الله عنه، منها بناء زاوية بجدة صرف عليها أموالًا عديدة … (ثم) ارتحلوا من جدة ليلة هلال المحرم فاتحة سنة أربع وسبعين بعد المائتين وألف (سبتمبر ١٨٥٧م) قاصِدين السويس في مركبٍ شراعي، ولم يتيسَّر لها ريح تُسيِّرها، فوصلوا طور سيناء على خمسةٍ وعشرين يومًا من جدة بعد أن مرَّ على الوجه والحوراء وما لهما من المراسي، ثم نزل الأستاذ العم (السيد محمد المهدي) ومن معه؛ وهم سيدي عبد الرحيم وسيدي محمد الغماري ليسافروا برًّا إلى السويس … ووصلوا السويس على ستة أيامٍ من الطور … (ثم) ركبوا السكة الحديد إلى مصر وأقاموا ببيت سيدي أحمد الحلوي قريبًا من شهر ينتظرون الرفقاء والغائبين بالبحر حتى قدم الغائبون، وسافروا من (عند سيدي أحمد الحلوي) قاصِدين سيوة، فخرجوا إلى كرداسة … ثم وصلوا سيوة في اليوم التاسع من المولد النبوي، فحضروا المولد بها (أواخر أكتوبر ١٨٥٧م)، ثم سافروا قاصدين الجغبوب، فوصلوا في اليوم الرابع من سفرهم … وفي سنة خمس وسبعين أهَّله بالخالة ابنة الجد السيد عمران بن بركة.»

ثم أرسل الأستاذ الجد رضي الله عنه (السيد السنوسي الكبير) إلى الوالد (أي السيد محمد الشريف) والد السيد أحمد الشريف صاحب هذا التاريخ، بأن يقدم إلى الينبع، أي ينبع البر، ثم إلى الحوراء، فخرج في ركبٍ عظيم من أشراف مكة نحو خمسماية هجين قاصدين المدينة المنورة لزيارة الرسول ، ثم التوجُّه إلى الينبع ومنه إلى الحوراء، فلمَّا وصل بدر أخذ غدرية صغيرة وصار يُحركه فيها، فتكلمت في صدره وثبتت رصاصتها في عظم كتفِه، فأتوا بمن له معرفة في فنِّ الجراحة وشقُّوا عليها وأخرجوها … ومكث ببدْر مريضًا أربعة أشهر، وتفرَّق ذلك الجمع وذهبوا إلى المدينة، وزاروا ورجعوا لأماكنهم، وأرسل الإخوان الذين معه أجوبةً لوالده الأستاذ الأكبر رضي الله عنه يُخبرونه بما قدَّره الله وقضاه على ابنه من الإصابة بالرصاص ببدْر، وأنهم يُقيمون معه مجتهدين في مُعالجته، وأرسلوا له الرصاصة التي أخرجوها من كتفِه والجواب مع سيدي محمد الزيتون وسيدي محمد شموا، وأرسلوا له الجواب بخطِّ الأستاذ الوالد ليكون دليلًا على مُعافاته … «ثم مكث ثلاثة أشهر بالحوراء، وهي على شاطئ البحر بينها وبين ينبع البر ثلاثة أيام، ثم أتاه الطلَب من والده الأستاذ بالقدوم عليه بالجغبوب أواخر رمضان (أبريل ١٨٥٩م) … فارتحل الأستاذ السيد محمد الشريف من الحوراء ثاني يومٍ من شوال (٥ مايو) وركب البحر إلى بليدة صغيرة تُسمى الوجه، وأقام بها ثلاثة أيام ثم رجع إلى البحر مُكدَّرًا ونزل بالقصير، ومنه توجَّه إلى البر إلى أن وصل إلى الريف، وتوجَّه منه إلى البحر، فصار يمشي من بلد إلى بلد إلى أن وصل الواحات بجمٍّ غفير، ومنها خرج في البر إلى سيوة مسيرة سبعة أيام، ومنها إلى الجغبوب ثلاثة أيام، وصل به يوم الجمعة آخر يوم ذي الحجة الحرام خاتم سنة خمس وسبعين بعد المائتين وألف (٣٠ يوليو ١٨٥٩م).»

على أنه حين قدوم ولده السيد محمد الشريف كان السيد نفسه يُعاني آلام المرض الذي بدأ — رحمه الله — يشعر به من منتصف شعبان ١٢٧٥ﻫ (٢٠ مارس ١٨٥٩م)، ثم اشتدَّت وطأة المرض عليه، وبقِي المرَض معه كذلك إلى انتهاء رمضان، ثم ارتفع بعد ذلك إلى منتصف شهر مُحرم فاتح سنة ستٍّ وسبعين بعد المائتين وألف … (ثم) تزايدت عليه الأمراض وصار يغيب أحيانًا ويفيق أحيانًا إلى أن دعاه مولاه فأجاب دُعاه يوم الأربعاء بعد طلوع الشمس في اليوم التاسع من شهر صفر الخير سنة ١٢٧٧ﻫ (٧ سبتمبر ١٨٥٩م)، هذا «وبعد وفاته ألَّف (السيد عمران بن بركة) خطبة وصعد على المنبر وخطب بها يوم الخميس بعد صلاة الظهر، ودفن السيد — رحمه الله — يوم الجمعة بعد الظهر في البقعة الشريفة التي هو بها الآن (بالجغبوب). وصار جميع الإخوان ومن له قدرة على القراءة يقرءون القرآن العظيم بالمحلِّ الذي تُوفِّي فيه وعلى قبره ليلًا ونهارًا إلى أن تمَّت أربعون يومًا بعد دفنه، ثم بُنيت عليه أولًا قبة صغيرة، ثم في سنة اثنين وثمانين (١٨٦٥م) جُدِّدت ووُسِّعت وجُلب من أجلها الأسطاوات الماهرون من مكة المشرفة، فكانت من عجائب الدنيا. ومدة إقامته رضي الله عنه بالجغبوب قبل وفاته سنتان، وتُوفِّي في أول السنة الثالثة في الشهر المذكور.»

وكان السيد — رحمه الله — قد استطاع قبل وفاته أن يجعل من الجغبوب مركزًا لنشر الإسلام بين الزنوج الوثنيِّين (أو الفيتيشيين) في واداي وفي الأقاليم المجاورة لها؛ فقد تغلغلت السنوسية في عهد السيد في هذه الجهات وعلى وجه الخصوص في «واداي»، التي قَبِل سلطانها محمد شريف أن يُدخل الطريقة السنوسية في سلطنته، وكان السيد — رحمه الله — قد أنشأ معه صِلاتٍ وثيقة منذ قابلَه بمكة المكرمة في أثناء إقامة السيد بها، وظلَّ محمد شريف من أكبر أنصار السيد في مكة مدة، وقبل وصوله إلى الحُكم، حتى إذا اعتلى عرش واداي في عام ١٨٣٨م وكان قد فطن إلى الفوائد العظيمة التي انتظر أن تجنِيَها بلاده من انتشار السنوسية بتعاليمها القويمة، وما أخذه الإخوان على أنفسهم من تهذيب النفوس والإرشاد إلى الدين الصحيح، طفق يعمل على تأييد الطريقة في بلاده كما ظلَّ طوال مدة حكمه من أكبر أتباع السيد ومُريديه والصادِعين بأمره والمُستمعين لنُصحه وإرشاده، حتى وافَتْه منيتُه عام ١٨٥٨م. ويذكر «رين» Rinn أنه مما ساعد السيد أيضًا على أن يجعل من الجغبوب قبل وفاته مركزًا لنشر الإسلام بين الوثنيِّين تمكُّنه من إعداد جماعةٍ من هؤلاء الزنوج أنفسهم للتبشير بالدين الحنيف في بلادهم. وتفصيل ذلك أن بعض البدو أغاروا على إحدى القوافل التي كانت تحمِل عبيدًا من أهل واداي لبيعِهم في أسواق الرقيق، وكان سطوهم عليها وهي لا تزال في طريقها إلى مصر على الحدود البرقاوية المصرية، فاشترى السيد منهم جميع الرقيق وأحضرهم إلى الجغبوب، حيث أشرف بنفسه على تربيتهم وتعليمِهم في الزاوية، ثم حرَّرهم وأرسلهم إلى بلادهم (واداي) كي ينشروا الإسلام ويدعوا إلى الطريقة السنوسية بين الزنوج، ومن ذلك الحين صار أهل «واداي» يحضرون بمحض إرادتهم إلى الجغبوب، يتلقَّون العلم في زاويتها، كما أقبلوا على الخدمة في بقية الزوايا السنوسية عن طِيب خاطر.

بيد أنه مما يجدُر ذكره أن السيد كان يَلقى مُعاونةً في نشر التعاليم السنوسية من جانب كبار الإخوان والشيوخ، ومِن أهم هؤلاء المُقدم سيدي عبد الله السني المُتوفَّى في سنة ١٨٧٧م، ثم المُقدم سيدي الحاج أحمد التواتي، ثم المُقدم سيدي عبد الله التواتي؛ فقد تم إنشاء سبع زوايا على أيدي سيدي عبد الله السني، في مصراتة ومزدة وورفلة وحرابة وسنوان ومتريس وتونن؛ بينما أشرف سيدي الحاج أحمد التواتي على إنشاء الزوايا في مرزوق وزويلة وقطرونة وواو الشعوف ثم في فزَّان. وأما سيدي عبد الله التواتي فقد سبق ذِكر طرف من نشاطه في الحِجاز، حيث قُتل بالقُرب من المدينة في عام ١٨٥١م.

وهكذا كانت السنوسية عند وفاة السيد محمد بن علي السنوسي الكبير قد توطَّدت أركانها نهائيًّا، وانتشر نفوذها حتى قطعت شوطًا بعيدًا في سبيل قيام الدعوة والإرشاد وتشييد دعائم تلك الإمارة التي صارت، إلى جانب ما لها من سلطان روحي عظيم، تتمتَّع بقدْر كبير من مظاهر السيادة الزمنية الفعلية في برقة على وجه الخصوص.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥