الإمارة السنوسية
أما وقد فرغنا من ذكر ذلك الجهد العظيم الذي قام به صاحب الدعوة القويمة ومؤسس صرح الإمارة السنوسية العتيدة، فقد بات النظر ضروريًّا في أصول هذه الدعوة الجديدة، ثم ما أحدثه ذُيوعها في عهد صاحبها من آثارٍ بين الأقوام الذين اصطفاهم السيد السنوسي الكبير نُصَراء له وخلفاء، يدعون إلى فعل المعروف وينهَون عن المنكر، ويُقيمون الدين الحنيف على قوائم صحيحة تعتمِد على الكتاب والسنة، وتطهر الإسلام من البِدَع التي أدخلها عليه المُحْدثون وكثيرون من المُقلِّدين بعد عهد السلَف الصالح والخلفاء أو الأئمة الراشدين — عهد الإمامة العظمى الرشيدة — قبل أن يجعلها الأمويُّون مُلكًا عضودًا يتوارثونه في أعقابهم ويَتبعهم غيرُهم في ذلك، حتى استنُّوا جميعًا سنة إمامة الضرورة والتغلُّب بالقوة. وكذلك فإنه لمَّا كان الإسلام دينًا وسياسةً، ومنوطًا به تدبير شئون الدنيا وعالم الآخرة، فقد ترتَّب على ظهور السنوسية، في الأصقاع التي انتشرت بها، صلاح أحوال أقوامِها واستقامة أمورهم، حتى إذا نضجوا وتغلغلت تعاليم الدين القويم في نفوسهم وعرفوا الهداية على أيدي السيد محمد بن علي السنوسي الكبير، وعلى أيدي خلفائه من بعده، تعذَّر عليهم الخنوع والخضوع، وانقضى زمن تفرُّقهم القديم، ووجدوا في السنوسية، بوصفِها دعوة وطريقة، ما يُمسكون به زمام أنفسهم ويجمعون حوله كلِمتهم حتى يعيشوا في بلادهم أحرارًا قوَّامِين على أنفسهم حافِظين لدِينهم ومِلتهم، لا يقنعون إلا بالحياة الحرة الطليقة. وكان للسنوسية أن تفخر بهذه الزعامة التي اعتمدت منذ قيامها على الدعوة للحق؛ يحمل الإخوان والأتباع ألوِيَتها إلى مجاهل أفريقية الوثنية، فتبني السنوسية عرشَها على الأفئدة والنفوس، ويدعم بنيانهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فضيلة الإسلام كما أظهرها السيد المؤسس بهَديٍ مِن القرآن الكريم والسنة الشريفة.
وفي هذا البحث محاولة تفصيل ما أجمَلْنا في بيان الأصول التي قام عليها صرح هذه الإمارة، وأوَّلها الأصل الديني، وهو ما تفتَّق عنه ذهن السيد بعد دراسة مُستفيضة للعلوم الدينية، وما اهتدى إليه من طريقة يبغي بها إحياء الملَّة وإصلاح أحوال المسلمين، وثانيها الأصل الاجتماعي الذي توصَّل منه السيد إلى نشر فضائل الإسلام، فكانت وسيلته إلى ذلك الزوايا التي أنشأها، ثم تلك التي أنشأها خلفاؤه من بعده والإخوان في الأقطار الليبية وفي غيرها من الأقطار القريبة والبعيدة، وما تبِع ذلك من نشر ألوية الإسلام خفَّاقة بين الوثنيين من شعوب أفريقية الغربية خصوصًا والسودان من أجزاء القارة المجهولة. وثالثها الأصل السياسي، مما يتضمَّن القواعد التي قامت عليها إمارة السادة السنوسية، ويدخل في ذلك جهود السيد محمد المهدي خليفة السيد محمد بن علي السنوسي الكبير، وقد نشر الله، جلَّت قُدرته، دينَه الحق في أفريقية الوثنية على يدَيه ووطَّد به وبعمله أركان الإمارة الجديدة.
والسيد محمد بن علي السنوسي الكبير مالكي، درس أصول الدين الحنيف وتفقَّه فيه، وكسب — بفضل جهده وما تحلَّى به من صفاتٍ نبيلة، ثم قيامه آمرًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر — أفئدة القوم حوله، فبوءوه بسبب علمه وتفقُّهه في الشريعة مكانًا عاليًا، وقد نفعه — رحمه الله — الاجتهاد، فأصبح من كبار الأئمة المُجتهدين. وللسيد الكبير دروس وأبحاث في الفِقه، هي أركان دعوته والأساس الذي بنى عليه الطريقة السنوسية المشهورة. من هذه البحوث والدروس ما هو الآن مطبوع، قام على ذلك وحرص عليه حفيد المؤلِّف وصاحب الإمارة السيد محمد إدريس المهدي السنوسي، مَعقِد آمال العرب في الأقطار الليبية وإخوانهم المُسلمين في أقطار المعمورة. ومنها ما يزال مخطوطًا محفوظًا حتى يتم طبعه فيكمُل الانتفاع به إن شاء الله.
فمِن مؤلفات السيد محمد بن علي المطبوعة كتاب مشهور سمَّاه صاحبه «كتاب المسائل العشر المُسمَّى بغية المقاصد وخلاصة المراصد»، وكان الانتهاء منه في يوم الجمعة ١٩ جمادى الأولى ١٢٦٤ هجرية (٢٣ أبريل ١٨٤٨م)، ثم كتاب آخر سمَّاه «إيقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن». وعدا ذلك كتَب السيد «المسلسلات العشرة» في الأحاديث النبوية، كما يوجَد بهامش كتاب «المسائل العشر» كُتيب صغير اسمُه «السلسبيل المُعين في الطرائق الأربعين». وأما الكتُب الأخرى التي لم تُطبع، فمن أشهرها «المنهل الرائق في أسانيد العلوم وأصول الطرائق»، ثم «الشموس الشارقة في أسماء مشايخ المغاربة والمشارقة»، ثم عُجالة في أوَّل مَن ألَّف في فنِّ الحديث تصلُح لأن تكون مُقدمة للموطَّأ. وللمؤلف كذلك كتابة في التاريخ معروفة، وكتابُه «الدرر السنية في أخبار السلالة الإدريسية»، نقلَه أحد كبار شيوخ السنوسية في ديسمبر ١٨٧٦م، وطبعه حفيد المؤلف في القاهرة عام ١٩٣١م. و«الدرر السنية» كتاب يشتمل على موجز أخبار من ملك المغرب منذ فتَح المسلمون أفريقية في خلافة سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأفرد المؤلِّف فصولًا أفاض الكلام فيها على دولة الأدارسة وفروعهم في البلاد المغربية وما جدَّدوه من الدين فيها، ثم فصْل خبر وفاة السيد إدريس الأكبر، وسبب وفاة ابنه السيد إدريس الأزهر باني مدينة فاس. وختم كتابه بذِكر الخلفاء الأربعة ثم خامِسهم سيدنا الحسَن السبط بن علي رضي الله عنهما. ثم أثبتَ ذِكر خلفاء بني أمية جميعًا حتى إذا فرغ من ذلك أتبعَهم بخلفاء بني العباس.
ولهذا الكتاب (الدُّرر السنية) قيمة كبيرة في تاريخ الإمارة السنوسية؛ لأنه يتضمن تاريخ السلالة الطاهرة الشريفة التي ينحدِر منها الأئمة السنوسيون، حفدة الأدارسة الكرام أبناء إدريس بن إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المُثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه وابن فاطمة البتول بنت رسول الله ﷺ، فهم سلالة الرسول الكريم والنبي العظيم وحفدة أشراف قريش وأصحاب الإمامة، كما قال السعد — وهو العلَّامة السعد التفتازاني — وقد جاء في شرحه للمقاصد «مقاصد الطالبين في علم أصول عقائد الدين» المطبوع في الآستانة ١٣٠٥ هجرية صفحة ٢٧١ من الجزء الثاني، «ويُشترَط فيه — أي الإمام والخليفة — أن يكون مُكلفًا مسلمًا عدلًا حرًّا ذكرًا مُجتهدًا شجاعًا ذا رأي وكفاية سميعًا بصيرًا ناطقًا قريشيًّا، فإن لم يُوجَد في قريش من يستجمع الصفات المُعتبرة وُلِّي كناني، فإن لم يُوجَد فرجُلٌ من ولد إسماعيل، فإن لم يوجَد فرجُل من العجم.»
وإنَّنا لنجد في كتابَي السيد «المسائل العشر المُسمَّى بُغية المقاصد وخلاصة المراصد»، و«إيقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن»، إلى جانب ما كتب ودوَّن، البرهان الساطع على ما وصل إليه صاحبهما من درجة التمكُّن الكاملة في العلوم الدينية، كما أن «البغية» و«الإيقاظ» يتضمَّنان ما وصل إليه السيد من آراء أصولية نتيجة اجتهادٍ عظيم، وهو الذي يجمع في شخصِه ولا شكَّ كل ما يشترطه العلماء في المُجتهِد من الشروط الوصفية والإيقاعية، أي من الصفات القائمة به والأمور المُحققة لإيقاعه، وغايته التمسُّك بالقرآن الكريم والسنة الشريفة والعمل بهما؛ فقد بدأ كتاب «المسائل العشر» بمُقدمة لبيان جلالة مقادير السلَف، ثم أتبع المقدمة بمراصد، فكان المرصد الأول في وجوه الهُدى لسُنن الأئمة الراشدين في فصول في المذاهب والفتوى والقضاء، وذكر النصوص المُتعلقة بالتقليد والاجتهاد والفروق بينهما، وبيان أنواع الاجتهاد والمُجتهدين، ثم الكلام فيما للأصوليين وللمُحدِّثين والفقهاء في العمل بالحديث وتفرُّقهم فيه. وفي المرصد الثاني قصر السيد الكلام في كيفية صلاة أهل الاصطفاء في صفة صلاته ﷺ، ثم في آكد مباديها المُتصلة، وصفة أقوالها وأفعالها المُجملة، ثم في كيفية الصلاة وفروعها وأركانها مُفصَّلة. وفي المرصد الثالث ذكَر نصوص الأئمة في المسائل العشر، أي في حكم رفع اليدَين في الصلاة، والقبض والسكتات الثلاث وما يُقال فيها، وفي حُكم الاستعاذة وهل هي للقراءة أو للصلاة، ثم في البسملة للفاتحة والسورة، ثم في التأمين والتكبير لقيام الثالثة، وفي السلام والخروج من الصلاة، وفي القنوت ورفع اليدَين حال الدعاء، ثم في تطويل الصلاة وتقصيرها. وقد ختم السيد مؤلِّف هذا البحث بذكر أحوال القوم الفاخرة في تمهيدٍ ثم سبعةِ فصول، عن النفس الأمَّارة والنفس اللوَّامة والمُلهمة والمُطمئنة والراضية والمَرضية والكاملة، وفي كل هذه المقاصد والأبواب والفصول التزم السيد المؤلِّف أحكام القرآن الكريم ثم نصوص السنة الشريفة، والمأثور عن النبيِّ ﷺ، وما أجمعت عليه كلمة الأئمة الراشدين والسلَف الصالح.
وأما كتاب «إيقاظ الوسنان»، فكان مدارُه وجوب التمسُّك بالكتاب والسنة، وبيان أنَّ دلالة الكتاب والسنة واحدة، وتضمَّن أدلة وجوب اتباعهما وتقديمهما على أري كلِّ مُجتهد، وفي هذا الكتاب تصدَّى السيد المؤلف، بطبيعة الحال، إلى الكلام عن الحديث الشريف، فذكر طرُق العمل به لدى الأصوليين والمُحدِّثين والفقهاء، على غرار ما يتحدث به أيضًا في كتاب المسائل العشر، كما صار يتحدَّث بإسهابٍ عن الاجتهاد والتقليد. وقد أفرد السيد المؤلِّف في كتاب «إيقاظ الوسنان» فصلًا خاصًّا في ردِّ زعم الانقطاع ودعوى أنه إجماع، فذكر قول الشعراني في «الميزان»، فإن قلت: هل يصح لأحدٍ الآن الوصول إلى مقام أحدٍ من الأئمة المُجتهدين؟ فالجواب: نعم؛ لأن الله على كل شيءٍ قدير، ولم يرِد دليل على نفيِه، ولا في نفس الأدلة الضعيفة … وأما فيما للعلماء في انحصار التقليد في الأئمة الأربعة رضي الله عنهم، فقد جاء في «إيقاظ الوسنان» أنه لا واجب إلا ما أوجب الله ورسوله، ولم يوجِب الله على أحدٍ من الناس أن يمتذهب بمذهب رجلٍ من الأمة فيُقلده دينَه دون غيره، إلى أن قال: بل لا يصحُّ للعامي مذهب ولو تمذهب به. ثم أقام الحجَّة على ذلك بقوله بعد كلامٍ: «فالعامي لا يُتصوَّر أن يُصبح له مذهب، ولو سلم لم يلزَمه ولا أحد من الخلق قطُّ أن يتمذهب لرجلٍ من الأمة بأخْذ أقواله كلها ويدَع أقوال غيره كلها، وهذه بدعة قبيحة حدثت في الأمة لم يقُل بها أحدٌ من أئمة الإسلام … فيا لله العجب! ماتت مذاهب أصحاب ﷺ، ومذاهب التابِعين وتابعيهم وسائر الإسلام، وبطلت جملةً إلَّا مذاهب أربعة أنفُس فقط من بين الأئمة والفقهاء. وهل بذلك قال أحد من الأئمة أو دعا إليه أو دلَّت لفظة واحدة من كلامه عليه؟ والذي أوجبه الله ورسوله على الصحابة والتابعين هو الذي أوجبَه على من بعدَهم إلى يوم القيامة، لا يختلِف الواجب ولا يتبدَّل، وإن اختلفت كيفيتُه أو قدرُه باختلاف القُدرة والعجز والزمان والمكان والحال، فذلك أبدًا تابع لما أوجبه الله ورسوله.»
ومما تقدم يتبيَّن أن السيد محمد بن علي السنوسي الكبير قد أفنى العمر في التدقيق في جميع المذاهب الإسلامية المقبولة، ما فتَرَ العملُ به وقلَّ، أو انقطع وما يزال قائمًا — أي مذاهب الأئمة الأربعة — ثم استخرج من جميع ما درس أصحَّ الأقوال وأكملَها، ولم يقتصِر جهده على هذا، بل إنه، لمَّا كان مجتهدًا عدلًا عالمًا شريفًا ذا عقل ناضج وفكر ثاقب وإيمان قوي، فقد مزَج هذه المذاهب بما صحَّ وكمُل من أقوالها، ثم أضاف إليها ما استنبطَه من السنة والمذاهب التي لم يعُد هناك أتباع لها، واستطاع أن يجعل منها مذهبًا واحدًا «هو مرآة المذاهب الأربعة السنية وزبدتها»، ومع هذا فقد امتنع السيد من إعلان مذهبه الجديدة على حِدة، بل قصرَه على الإخوان السنوسيين «تحاشيًا لإثارة بعض الظنون السيئة».
وكما درس السيد هذه المذاهب واختار المذهب الذي هداه إليه الاجتهاد والتوفيق بعد بحثٍ وتدقيق وعبادة طويلة، فقد دفعه يقينُه وإيمانه الصادق إلى الإكثار من الاجتماع بالأئمة الأعلام في الدين والعِلم في كلِّ مكان، يأخذ عنهم علومهم ويُنعم النظر في طرائق عبادتهم، وذكر الله والصلاة على النبي ﷺ، حتى اجتمع له عِلم كثير بطرائق عدة، درس أصولها ووقف على تاريخها ومنشئها وما كان عليه أتباعُها وهكذا، ثم استطاع بعد ذلك كله أن يكتُب في هذه الطرائق جميعها، فكان هامش «كتاب المسائل العشر» وهو المُسمَّى «السلسبيل المُعين في الطرائق الأربعين». وجاء في مقدمة «السلسبيل» قول السيد — رحمه الله: «وقد حصل لنا ولله الحمد الْتئام بأمة أعلام وجهابذة من أهل الله فخام، ووصل إلينا من طرائقهم أخذًا وإجازةً عدة وافرة وجُملة متكاثرة، (ثم) بدا لي أن أنتخب من تلك الطرائق أربعين سوية وأُفردها برسالة مُبَيِّنة لأسانيدها السنية»، وعلى ذلك فقد تكلم السيد في كتابه هذا عن الطرائق المحمدية والصديقية والأويسية والأقدرية والرفاعية والسهروردية والأحمدية والشاذلية وغيرها. وكان من أثر ذلك كله أن انفرد السيد وأتباعه باتِّباع طريقةٍ خاصة بهم هي الطريقة السنوسية.
ومما يجدُر ذكره أن السنوسية لم تكن شعبةً من الطريقة الشاذلية، بل إن التعريف الصحيح لهذه الطريقة هو الجمعية السنوسية؛ لأن دقَّة النظام الذي تشكَّلت منه هذه الجمعية لم يسبق له مَثيل في سائر الجمعيات، سياسيةً كانت أو دينيةً خفية أو علنية؛ ولذلك تميزت السنوسية من غيرها من الطرائق بذلك الأثر الاجتماعي والسياسي الكبير الذي أحدثته، والذي جعل منها في الحقيقة وسيلة دعوة جديدة إلى الدين القويم بما يحضُّ عليه هذا الدين من وجوب التمسك بالقرآن الكريم وسنة رسول الله ﷺ، وما ينجم عن هذا كله من ذيوع فضائل الإسلام بين أهل هذه الطريقة أو الجمعية في البلاد التي تنتشر فيها، فيُرفرف على هذه البلاد السلام وتسودها الطمأنينة على الأنفس والأموال والأعراض. ثم هي — أي السنوسية — وسيلة لإنشاء الإمارة؛ لأنها أوجدت بفضل النظام الدقيق الذي وضعته لأتباع الطريقة نوعًا من السيادة الدينية والدنيوية معًا على خير ما يُقيمه الإسلام من أسس لذلك، حتى أصبحت السنوسية تُسيطر على أفئدة المسلمين الذين بلغتهم هذه الدعوة المُصلحة. وقد قبل هذه السيطرة الروحية والزمنية، عالم من عوالم الإسلام في الأقطار اللوبية، يَدين بالطاعة الكاملة لشيخ الطريقة، بل إمامها وإمامهم، بفضل ما يستحقُّه هؤلاء الشيوخ والأئمة من مكانةٍ عظيمة، وهم القوَّامون على إخوانهم وأبنائهم في الدين والملَّة والذين نشروا كلمة الله الحق والسنة الشريفة في ربوع الأقطار اللوبية وحملوا أنوار الدين الحنيف إلى مجاهل القارة الوثنية، وهذا فضلًا عمَّا يتمتعون به من نسَبٍ عتيد يصِلهم ويصِل جدودهم الصالحين بالنبي القرشي العظيم «محمد» ﷺ.
وكان من أسباب ذيوع الطريقة السنوسية أو دعوة الإصلاح الديني والاجتماعي الجديدة، بساطة الطريقة ذاتها، ثم إنشاء الزوايا باعتبارها مراكز لبثِّ الدعوة والإرشاد في الأقطار التي غدت ميادينَ لِذُيوعها، فالطريقة السنوسية تخلو من الحِكَم المُغلقة التي يصعُب على الفكر الوصول إلى كُنهها «كإظهار الكرامات والخوارق أو التواجُد والشطح»، كما أن مؤسس الطريقة — رحمه الله — وخلفاءه والإخوان والأتباع لا يُعنَون بعرَض الدنيا الزائل، فليس من دأبهم وديدَنِهم جمع الأموال وتكديسها. زد على ذلك أنه ليس لهذه الطريقة مواسم ورياضيات أو شيء مُغاير للمنطق والفكر الصحيح؛ إذ هي أولًا وقبل كل شيءٍ تقوم على حكمة عملية واجتماعية أساسها الأخوَّة والتعاون، فهم — أي السنوسيون — يجتمعون في ليلتَي الجمعة والاثنَين من كل أسبوع إلى جانب أيام المواسم الإسلامية، فيُطعمون الفقراء ويُواسونهم، وفي هذه المناسبات يجتمعون في الزوايا تحت رئاسة الشيخ أو المُقدم في كل زاوية، فيقرءون مُجتمِعين بعضًا من القرآن الكريم مع مراعاة أحكام التجويد بدون ترنُّم أو ترديد، ويعرفونها باسم قراءة الوقف، ثم يتلون الصلاة المعروفة بالصلاة العظيمة ترتيب السيد أحمد بن إدريس.
وقد توخَّى مؤسس الدعوة البساطة عند مخاطبته الأهلِين، يطلُب إليهم إقامة فرائض الدين الحنيف، ويأمُرهم بما أمر الله به عباده الصالحين في كتابه الكريم، وينهاهم عن فِعل ما نهى الله عنه حتى يصلُح حالهم وتستقيم أمورهم في طاعة الله ورسوله. من ذلك قوله — رحمه الله — في كتابٍ بعث به إلى أهل «واجنقة»: «أسألكم باسم الإسلام أن تُطيعوا الله ورسوله، فقد قال سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، ويقول كذلك: وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا، نسألكم أن تطيعوا أوامر الله ورسوله، فتؤدوا الصلوات الخمس كل يومٍ وتصوموا شهر رمضان، وتؤتوا الزكاة، وتؤدوا فريضة الحج إلى بيت الله الحرام، وتجتنبوا ما نهى الله عنه من قول الكذب والغيبة وابتزاز أموال الناس بغير حقٍّ وشُرب الخمر وتأدية شهادة الزور وغير ذلك مما أمر الله باجتنابه. فإذا فعلتم ما أمر الله به ورجعتم عمَّا نهى عنه، أسبل عليكم نعمة الإسلام ومنحكم الخير والرزق الدائمَين. يا أهل واجنقة، إنا نريد أن ننشُر السلام بينكم وبين الأعراب الذين يُغيرون على بلادكم ويستعبدون أولادكم ويبتزُّون أموالكم، وإنا بعمَلِنا هذا نقوم بما أمر الله به في كتابه العزيز، حيث قال سبحانه وتعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا، ويقول سبحانه وتعالى: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ.»
وهذه رسالة جزلة القول واضحة المعاني، لا تعقيد فيها ولا إبهام، تنفذ إلى الأسماع وتأخذ بمجامع القلوب. وقد ظلَّ شيوخ الطريقة والمُقدمون يَحذون حذو السيد المؤسس في رسائلهم التي نشروها على الإخوان والأتباع والمُريدين، ديدَنُهم في جميع ما كتبوا البساطة، وتقريب المعاني إلى الأذهان، والاستناد، قبل كل شيء فيما وعظوا به وأمروا باتباعه ونَهوا عن إتيانه، إلى آي القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، مثال ذلك ما جاء في كتاب لأحد مُقدمي السنوسية في عام ١٨٦٩م، السيد الحبيب بن عمار شيخ زاوية «النجيلة» في دفنة، حيث قال ما معناه منقولًا بتصرُّف عن ترجمة بالفرنسية لتعذُّر الوقوف على الأصل: «أوصيكم يا إخواني بتلاوة الذِّكر سرًّا وعلانيةً، وعليكم أن تجعلوا اعتمادكم كلَّه على الله وعلى كتابه الحكيم وسنَّة نبيِّه الكريم … إذ يجب أن نتوجَّه دائمًا إلى المولى عز وجل، ونطلُب منه تعالى العون والمؤازرة … واخشوا الله دائمًا ولا تفعلوا إلا ما أمر به، وابتعدوا عما نهى عن فعله، وعظِّموا كلمته الحق سبحانه وتعالى، وتجنَّبوا أولئك الذين شُغلوا بمتاع الدنيا الزائل، والذين بكذِبهم يخرجون من رحمة الله، إن رحمة الله واسعة، وكريم ونبيل ذلك الذي فتح أبواب هذه الرحمة. وعند الله نعيم مُقيم لا أول له ولا آخر. عليكم بتلاوة الذكر فهو يُقربكم من الله، إذ ينال رضاه تعالى ورحمته كل إنسانٍ يعرف الحق جلَّت قدرته بتلاوة الذكر وترديد أسماء الله الحسنى. ويصل إلى معرفة الحق يقينًا كل من يطلُب ذلك؛ لأن الله تعالى كريم ورحيم. قال الإمام زرُّوق: «اترك الخلق وما دُفعوا إليه، فمراد الله في خلقه ما الناس فيه.» والله سبحانه وتعالى لا يُظهر أمره قسرًا لِوليٍّ أو لعجمي، فهو جلَّت قُدرته الواحد الأحد لم يلد ولم يُولد ولم يكن له كفوًا أحد. يا إخواني، لا تهملوا ما نوصيكم به وما يُوصيكم به شيوخنا أيضًا إذا استطعتم ذلك. قال تعالى: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [سورة المعارج (٧٠): آية ٤]، أوليست أرض الله واسعة الفضاء؟ فلماذا لا تضربوا في جوانبها إذن؟ إن أولئك الذين يمتنعون عن المُهاجرة في سبيل الله ورسوله فسوف يكون مقرُّهم جهنم وبئس المصير، وإنما الذين ينالون عفو الله وغفرانه فهم الضعفاء من الرجال والنساء الذين لا يَقدرون على المهاجرة ولا يجِدون من يُرشدهم إلى الطريق، قال تعالى: فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا * وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [سورة النساء (٤): آيات ٩٩، ١٠٠، ١٠١]، وإذا عرف تعالى أن في قلوبكم خيرًا يُعوضكم بأحسنَ مما أخذ منكم ويغفر لكم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة الأنفال (٨): آية٧٠]، وهذا حتى ولو كنتم في أرض كفار ولم تجدوا وسيلة للخروج منها، ولكن إذا بقِيتم بها لأنكم تفضلون ذلك، فسوف يجمعنا يومٌ لا ينفع فيه مال ولا بنون، قال تعالى: وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [سورة الشعراء (٢٦): آيات ٨٧، ٨٨، ٨٩]، وقال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [سورة التوبة (٩): آية ١٠٠]، وقال تعالى في سورة التوبة أيضًا الآية ١١١: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، ثم قال تعالى في سورة التوبة أيضًا آية ١١٧: لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، وأخيرًا قال تعالى في سورة آل عمران (٣): الآية ٣١: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، صدق الله العظيم.»
وواضح أن الذي كان يهتمُّ به كبار شيوخ السنوسية في كتاباتهم ورسائلهم إنما هو كلمة الله الحق، فلا يكون لأشخاصهم قول عند التذكير بضرورة بذل النفس في سبيل معرفة أوامر الدين الحنيف ونواهيه ونشر كلمة الحق جلَّت قُدرته والدعوة إلى الطريق القويم.
هذا وأما الدعامة الثانية التي يقوم عليها صرح السنوسية فهي الزوايا، والزوايا هي المكان الذي يجتمع فيه الإخوان للعبادة ونشر الدعوة والإرشاد بين أهل البلاد المجاورة أو بين القبائل القاطنة بجهتها أو رجال القوافل الذين يمرُّون بهذه الزوايا في غدوِّهم وروَاحهم. والزوايا معروفة في الأقطار الإسلامية من أزمنةٍ بعيدة، وكانت جميعها على نمَطٍ واحد، فكان على رأس الزاوية وازع يُعرَف «بالمقدم»، يتمتَّع بسلطة واسعة على سائر إخوان الزاوية. بيد أن أهل هذه الزاوية في طورهم الأول كانوا مُنقطِعين للعبادة ومنصرِفين عن شئون الدنيا، يُعرَف رؤساء كل حلقة من حلقات هؤلاء الإخوان باسم الدراويش. وكثرت الزوايا وتعدَّدت بعدد الطرائق وتنوُّعها، ثم كثيرًا ما كان يؤدِّي التنافُس والاختلاف بين هذه الزوايا ومُقدميها ودراويشها إلى المنازعة، فينشأ من الخصومة تباغُض وتباعُد حتى صاروا مُتفرِّقين ولا رابط يجمع بينهم أو يؤلِّف بين قلوبهم ليُصبحوا قوة ذات أثرٍ في شئون الإصلاح الديني أو الاجتماعي أو السياسي. وقد ظلَّ الحال على هذا المنوال حتى ظهرت الطرائق الحديثة، وفي طليعتِها بلا مراء الطريقة أو الجمعية السنوسية التي وضع السيد محمد بن علي السنوسي الكبير نظامها على أساسٍ ديني واجتماعي، وكسب السنوسيون بفضل هذا التنظيم الجديد سلطانًا واسعًا كان له أثر واضح في قيام الإمارة السنوسية ذاتها.
فإن الزوايا السنوسية لم تكن صوامع أو أديرة للنُّسَّاك والرهبان والمُتعبدين المُنقطعين للعبادة، أو حلقات للدراويش المُنصرِفين عن شئون الدنيا. بل إنَّ أهم ما يجب أن يُلفَت النظر إليه في شأن هذه الزوايا السنوسية، هو أنها كانت ولا تزال مراكز نشاطٍ اجتماعيٍّ وديني كبير؛ إذ يُعنى الشيوخ والإخوان أصحاب الزوايا والمُقيمون بها وحولها بشئون الدين والدنيا معًا؛ ذلك لأن الطريقة السنوسية تُحرِّم، قبل كل شيء، على اتباعها التسوُّل، بل وتأمرُهم بالكد والسعي من أجل عيشِهم على أساس الأخوَّة والتعاون، فتطلب من الإخوان العمل في الزرع والتعمير والإنشاء. ومن العادات المعروفة أن يتبرع كل فردٍ من أفراد القبيلة التي تُبنى بأرضها الزاوية بحراثة يومٍ وحصاد يومٍ ودراسة يوم من أرض الزاوية، وهكذا حتى سهل عمران الزوايا في غير مشقَّة أو نفقة، «فأينما حلَّ السنوسية عمروا وتمروا، ووجدْتَ الأراضي اهتزَّت ورَبَتْ وأنبتت من كل زوجٍ بهيج.» حتى ندر أن يمر الإنسان بزاوية من زواياهم من غير أن يجد لهم بستانًا أو بستانَين فيهما من كل أنواع الفواكه والثمار وأصناف البقول والخضر، ويزيد من قيمتها مصادفة الإنسان لها في تلك القاصية عن العمران المحفوفة بالفلوات. ثم بلغ من عناية السنوسية بالعمران أنها حتَّمت على شيوخ الزوايا أن يعرفوا معرفةً طيبة أماكن الأسواق التجارية في جهاتهم، ثم حالة هذه الأسواق، وأمرتهم بالتجارة على أن يُخصَّص قسم من الأرباح للزوايا، بينما يُخصَّص القسم الباقي للطريقة أو الجمعية السنوسية عامة. زد على ذلك أن السنوسيين المُقيمين بجوار الزوايا يُحضرون طعامهم إلى الزاوية يُطعمون منه الإخوان الموجودين ثم عابري السبيل المُلتجئين إلى الزوايا، وهذا خلاف ما تُخرجه الزاوية ذاتها من الأطعمة كل يوم؛ ولذلك فإنه سرعان ما صارت الزوايا السنوسية، نتيجةً لهذا العمران والنشاط الاجتماعي، ملاجئ هامة لا نظيرَ لها في الصحراء، وبخاصةً للمسافرين والتائهين والشارِدين وغيرهم. واختار السنوسيون لأغلب زواياهم أجملَ البقاع وأخصب الأرضِين، فأنشئوها حيث توجَد الآبار ذات المياه الكثيرة. وفي الجبل الأخضر أقاموا هذه الزوايا بجوار العيون والأنهار، فاشتهرت من بينها زوايا كثيرة، مثل مارة ومرطوبة وأم أرزم بالقُرب من درنة وشحات وغيرها.
واتَّبع السيد محمد بن علي نظامًا دقيقًا في إنشاء هذه الزوايا وترتيبها حتى غدَت كل واحدة منها بمثابة حكومةٍ ذات سلطان عظيم على جميع الأهلين المُقيمين في جهتها، فالزاوية هي مركز العلم والتعليم بالناحية أو القبيلة، وشيوخ الزاوية يُعلمون الأهلين شئون دينهم ودُنياهم، ويَفصلون فيما يقوم من منازعاتٍ وخصومات، ويردُّون المَنهوبات إلى أصحابها، وينشُرون ألوية الأمن والطمأنينة. ويَبذرون بذور الحضارة أينما وجدوا. ويقوم نظام السنوسية في الزوايا على اختيار «مُقدم» لكل زاوية هو شيخها والقيِّم عليها، والذي يتولى أمور القبيلة أو الناحية، ويفصل في الخصومات بين أهلِها، ثم يلي المُقدم «الوكيل» ووظيفته كوظيفة الحاكم المدني، فهو وكيل الدخل والخرج وينظر في زراعة الأراضي وجميع الشئون الاقتصادية. وزيادة على ذلك فلكلِّ زاوية شيخ يُقيم الصلاة في مسجدِها ويُعلم الأحداث القراءة والكتابة، ومن وظائفه أيضًا مباشرة عقود النكاح والصلاة على الجنائز وهكذا. ومن أهم ما تُعنى به الزوايا تعليم أولاد المُسلمين القرآن الكريم والعقيدة الصحيحة والطريقة، وفي هذه الزوايا يتمتَّع كل من المُقدم والوكيل بسلطةٍ عظيمة على أهل الزاوية جميعًا والقبيلة، ويستمدُّ كلاهما هذه السلطة من الرئيس الأعلى ومؤسس الطريقة، ثم من خلفائه من بعده، وعلى هذا فالأمر الذي يُصدره المُقدم أو الوكيل مقرونًا باسم السيد السنوسي إنما هو أمر واجب الطاعة على الجميع.
ثم بلغ من بُعد نظر السيد — رحمه الله — أنه لما شرع يُرسِل وكلاءه إلى أصقاع العالم الإسلامي بعد أن أسَّس زواياه الأولى في أفريقية وبلاد العرب، صار يتَّبِع سياسةً حكيمة وخطةً رشيدة من أجل توطيد سلطان الجمعية أو الطريقة الجديدة، فعُني باختيار شيوخ ورؤساء للزوايا الجديدة من أبناء المناطق التي تُبنى بها الزوايا، بعد أن يقوم السيد نفسه بتربيتِهم وتعليمِهم. وسلك السيد هذا السبيل أيضًا عندما اختار وكلاءه المُعيَّنين في الأقطار البعيدة، ثم ربط بين جميع هذه الزوايا المُتفرقة والقاصية برباطٍ متين من المُخابرات والمُخاطبات وفق نظامٍ دقيق تلتقي أسبابه عند الزاوية الكبرى المركزية، وهي زاوية الجغبوب. ولما كانت زوايا السنوسية منتشرةً في تونس والجزائر وفاس وبرقة ومصر والحجاز واليمن والسودان وبرنو وتوات (لدى التوارق)، ثم امتدَّت إلى الهند وتركيا، فقد صارت تقارير الخلفاء والوكلاء ترِد من هذه البلاد النائية إلى بنغازي أولًا ثم تقوم هذه بإرسالها إلى زاوية الجغبوب المركزية بواسطة الهُجن وبسرعة عظيمة.
وقد خدمت هذه الزوايا الإسلام خدمة جليلة، كما أنها ساهمت مساهمةً جدية وفعَّالة في نشر الفضائل ومحاربة الرذائل، فهي إلى جانب تعريف القبائل بشئون دينهم القويم — وكان لكل فخذٍ منها زاوية إذا تعدَّدت فروع القبيلة الواحدة — ونشر الرسالة المحمدية السامية، وحمل هذه الرسالة على وجه الخصوص إلى الشعوب الوثنية (الزنوج) في قلب أفريقية الغربية والسودان والصحراء الكبرى، حتى اهتدت هذه القبائل المُتوحِّشة البدوية إلى الإسلام طائعةً مختارةً؛ فقد كان لذيوع الفضائل الإسلامية على أيدي إخوان الزوايا، وسهر هؤلاء الإخوان على إقامة أحكام الشريعة الغراء والقضاء على البغي والفساد، — وأعظم أثرًا من هذا جميعه تعليم القبائل القراءة والكتابة ونشر دعوة الخير على قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم القرآن الكريم — نقول إنه نجم عن ذلك كله أن صلحت حال هذه الشعوب وتهذَّبت طِباعهم وذهبت الحدَّة من نفوسهم، وامتنع أكثرهم عن طلَب العيش بالاعتداء على الغير، حتى صدَق قول أحد كبار السنوسيين (سيدي أبو سيف بن مقرب المتوفَّى بزاوية الجوف عام ١٨٩٦م) في قصيدة طويلة يمدح فيها شيخه السيد محمد المهدي خليفة المؤسِّس وابنه الأكبر، ويتحدث عن هداية البدو على أيديهم:
ومنها:
وقد عظم شأن هذه الزوايا في عهد الخليفة المؤسس، السيد محمد المهدي، على نحو ما سيأتي ذكره.
ومن الكلام على الزوايا يسهل الانتقال للكلام عن الأصول السياسية التي استندت إليها الدعوة السنوسية، فقد سبق كيف خرجت الإمارة السنوسية إلى عالَم الوجود منذ أن لجأ العثمانيون إلى المؤسس حتى يستخدموا نفوذه في إصلاح ذات البَين بين العرب والترك، فاعترفت الدولة العثمانية عن طريق والِيها في طرابلس بزعامة السيد وإمارته. ولم يكن اعتراف الأتراك بهذه الإمارة السنوسية أمرًا غريبًا في بابه، بل إن ما فعلَته الدولة العثمانية كان يتَّفق مع الخطة التي اتَّبعتها في سياستها الشرقية أو العربية العامة عندما وجدت من الخير، للمحافظة على كيانها، أن تكون على وفاقٍ مع الإمارات العربية التي لم يكن في استطاعة الدولة القضاء عليها أو إخضاعها بالقوَّة لسُلطانها، ففضَّلت إنشاء العلاقات الطيبة مع هذه الإمارات حتى تضمن مؤازرتها للدولة عند الحاجة في وقت الخطر؛ ولذلك اعترف العثمانيون بإمارات آل سعود على نجد وآل رشيد على حائل وآل الصبَّاح على الكويت. وكان العثمانيون لا يرَون أية غضاضة أو خطرًا على كيانهم من وجود هذه الإمارات ما دامت مُنضوية تحت لواء الخلافة العامَّة، فلم يكن اعترافها بإمارة السادة السنوسية في عهد السيد الكبير وفي عهد خلفائه أمرًا غريبًا أو مُنافيًا لمصلحة الدولة.
ولهذه الحقيقة أهمية ظاهرة، مُجملها أن السنوسية بدأت طريقةً ثم اشتدَّ أزرُها فقوِيَت دعوتها إلى إحياء العالم الإسلامي، ثم عظم إرشادها فحملت رسالة القرآن الكريم والسنة المحمدية الشريفة إلى الأقطار المختلفة، ثم ظهر أثر هذه الدعوة وأثر هذا الإرشاد — بل قُل هذا الدين المصلح الجديد — بين الشعوب التي انضوت تحت لوائها؛ نقول إن السنوسية لذلك كله لم تلبث أن احتلَّت مكان الإمارة والصدارة، ولم يكن ثَمَّ مناص من حدوث هذا التطوُّر في عهد مؤسسها وأميرها الأول السيد محمد بن علي السنوسي الكبير.
وزيادةً على ذلك فإنه مما لا شكَّ فيه أنَّ تأسيس الزوايا ووجود ذلك النظام المُتقَن الذي جمع بين هذه الزوايا المنتشرة في بقاع الأرض المختلفة وبين الزاوية الكبرى التي أنشأها السيد في الجغبوب، كان من الأركان المكينة التي وطَّدت أقدام الإمارة وضمِنت لها السيطرة على أتباعها الكثيرين في الأقطار التي انتشرت بها، وعلى الخصوص في برقة وطرابلس موطن الدعوة الجديدة. وإن كانت هذه السيطرة روحية في صميمة؛ فإنه يتبيَّن مما سبق ذكره أن هذه الزوايا كانت في الحقيقة عبارة عن مراكز حكومية بكلِّ ما يحمله هذا الوصف من معنًى، ويتمتَّع شيوخ السنوسية بنفوذٍ عظيم في الأقاليم التي توجَد بها زواياهم. وليس هناك أدل على مقدار ما بلَغه سلطان السنوسية من الطريقة التي توصَّل بها هؤلاء الشيوخ أو الزعماء إلى تأمين طرُق القوافل في قلب الصحراء الكبرى في أفريقية. فلم تكن قافلة تأمَن على متاجرها وأموالها ورجالها إلا إذا أخذت قبل قيامها وتوغُّلها في الصحراء «مُحررات» من شيوخ الزوايا السنوسية تصبح بمثابة «جوازات مرور»، حتى تتمكن من اجتياز أرض قبائل التوارق وتبو وغيرها بأمنٍ وسلام؛ لأن هذه القبائل كانت تحترم مُحررات شيوخ السنوسية وتعمل بمُقتضاها. ومن المعروف أنه لم يسبق أن انضوت هذه القبائل تحت لواء أي سلطانٍ آخر قبل ذلك. وعلى هذا فقد أصبحت السبل آمنةً فيما بين أفريقية الوسطى والشمالية، بل «وأصبحت القبائل التي كانت صاحبة الجسارة الكبرى على النهب وقطع الطريق هي القوة المخافِظة على الأمن بتلك المفاوز والصحاري.»
وأما أسباب هذا السلطان وهذه القوة فكانت مجتمعة في يد شيخ الزوايا الأعلى وإمامها مؤسِّس السنوسية، وكان شخصه العظيم موضع التبجيل والتكريم وكلمته النافذة وقوله الفصل. وبمجرد أن اتخذ الجغبوب مقرًّا ومركزًا للسنوسية عظم شأن هذه الزاوية تدريجيًّا، حتى غدت «قصبة» الإمارة السنوسية، ترِد إليها التقارير والرسائل، وتصدُر منها الأوامر والنواهي إلى مختلِف بقاع الأرض، ويُشرِف صاحبها ومؤسسها ويبسط سلطانه على عددٍ عظيم من المسلمين، ثم عظمت قوة السيد تدريجًا حتى صار في إمكانه في النهاية لو شاء أن يجمع «الأربعين والخمسين ألف مقاتل، وعند الطلَب له القدرة على أن يسوق، لأية بُقعة شاء، جميع قبائل التوارق وعربان توات وجميع السودانيين.»
ومع هذا وإلى جانب ما تقدَّم، فقد كان لهذه القوة الفعلية التي تمتَّعت بها الإمارة الجديدة سبب آخر هو ما أجملَه المؤرخ التركي شهبندر زاده في قوله: إنه من الواجب على كل فردٍ من الإخوان ما دام قادرًا غير عاجزٍ أو مشغول أن يكون مُستعدًّا للطوارئ مُتهيئًا للحرب منتظرًا للأمر منفذًا له بكمال طاعته، وهذه حال جميع الإخوان الموجودين بأفريقية، وأما أولئك الذين هم في خارج أفريقية، فإنهم غير مُكلَّفين بهذا الاستعداد، ولا يُطلَب منهم إلا المعاونة المادية، فإخوان أفريقية مُكلفون بتسليح أنفسهم، ويجب على الأقل أن يكون لكلٍّ منهم راحلة، ومن كان فقيرًا فسلاحُه وراحلته من الزوايا التابِع لها أو من أغنياء الإخوان أنفسهم؛ لأنهم مُلزمون بالاستعداد على قدْر طاقتهم؛ ولذلك كان مما تُعنى به الزوايا في الأقطار الليبية والأفريقية خصوصًا تعليم الرماية واستخدام السلاح.
بيد أنه قد يصح للسائل — والحال كما وصفنا — أن يسأل: ولماذا إذن وهذه نظم الطريقة السنوسية وهذا مقدار استعداد الإخوان والأتباع للجهاد في أفريقية، وقد شهد المؤسس عدوان بعض الدول الأوروبية على الأصقاع الإسلامية في هذه القارة، ثم كان يتوقَّع عدوان البعض الآخر على أهم زواياه الأولى — الزاوية البيضاء — ثم احتلال «النابلطان» لطرابلس الغرب؟ ولماذا إذن لم يُناضل السيد نضال الحرب ضد أوروبا المُعتدية؟ ثم لماذا لم يفصل إمارته الجديدة عن جثمان الدولة العثمانية حتى يستقلَّ بأمره وشأنه ويجمع كلمة الشعوب التي دانت لدعوته بالطاعة حول إمارة زمنية عتيدة؟ ثم لماذا لم يستعن السيد ببعض الأتراك أو غيرهم ممَّن كان في مقدورهم إدخال الإصلاح المدني الواسع في أنحاء إمارته الليبية خصوصًا على غرار ما فعل أحد مُعاصريه العظماء والي مصر الكبير محمد علي باشا؟
إن الجواب على هذه المسائل يقتضي بحثًا في أصلٍ آخر من الأصول السياسية التي قامت عليها الإمارة السنوسية، وهو علاقة السيد — رحمه الله — بدولة الخلافة أولًا، ثم بالدول المسيحية عمومًا. أما فيما يتَّصِل بصِلاته مع الدولة العثمانية فقد سبق، في أماكن كثيرة من هذا البحث، بيان حقيقة هذه الصِّلات، وكان ظاهرًا أنه لم يكن من رأي السيد الخروج على سلطان الخلافة ولا الانفصال بإمارته عن جثمان الدولة العثمانية والاستقلال بشأنه وإمارته. وفيما عدا هذا فإنه — رحمه الله — ما كان يرضى أن يستعين بالأتراك أو بغيرهم لإدخال الإصلاح المدني، على غرار ما فعله صاحب مصر الكبير، لجُملة أسباب؛ (أولها) أن السيد لم يكن مرتاحًا إلى السياسة والخطة التي اتَّبَعها الأتراك عمومًا مع الشعوب العربية الإسلامية الخاضعة لهم، فقد لمس السيد في مشاهداته وما وصل إلى عِلمه في أثناء أسفاره المُتعددة، وبفضل ارتباطاته الكثيرة مع بقية الإخوان والأتباع في أنحاء العالم الإسلامي ومع الأمم العربية، ما يفعله العثمانيون من أجل الضغط على العالم العربي وإرغامه على قبول السيطرة العثمانية المُستبدة والخضوع لها، حتى إن السيد — رحمه الله — ما كان يرى في الحكومة التي أنشأها عاهل مصر الكبير إلا نوعًا من أنواع هذا الضغط وهذه السيطرة. (وثانيها) أنه لمَّا كان هذا غرَض الأتراك كما عرفه السيد، وكانت هذه أهدافهم، تعذَّر عليه بطبيعة الحال استخدامهم في تنظيم شيءٍ من شئون إمارته العربية الصميمة، بل على العكس من ذلك، فإنه — رحمه الله — لم يلبث أن آثَر الابتعاد عنهم، واختار التوغُّل في قلب الأقطار الليبية كلَّما أمكن، كما سبق بيانه في موضعه. أضِف إلى هذا أن السيد كان يعتبر الأتراك مُقصِّرين في الجهاد ضد الفرنسيين الذين شنُّوا عدوانهم على بلاد الجزائر، وكان يَعُد دولة الخلافة مسئولة عن الضعف الذي أعجز السلطات الحكومية في هذه البلاد عن مقاومة الغزو والاستعمار الأجنبي. وزيادةً على ذلك فإن الإمارة السنوسية كانت لا تزال في دور تكوينها، وهي في هذا الطَّور الأول من حياتها كانت لا تزال دعوة دينية، ولا يزال يرجو، بطريق الدعوة والإرشاد، الإصلاحَ الديني الشامل وإحياء الإسلام ونشر فضائله، أي إن السنوسية كانت في منشئها دعوةً دينية واجتماعية صريحة؛ ولذلك لم يجد السيد حاجةً إلى وضع نُظم مدنية قد تتعارض وقواعد الشرع القويمة. ولا ضرورة في الحقيقة لهذه النظم ما دام العمل بالقرآن الكريم والسنة الشريفة قائمًا، وما دامت مُهمة الإمارة السنوسية الجديدة، إلى جانب تطهير الدين من البِدَع، حمل رسالة هذا الدين القويم إلى الشعوب المختلفة، ونشر ألوية الإسلام خفاقة في داخل الأقطار الوثنية.
وأما القول بأن السيد لم يدخل في جهاد ضد الدول الأوروبية المُعتدية، فالردود عليه كثيرة، أهمُّها ما أثبتَه المؤرخ التركي في قوله: «إن السيد كان يعلم علم اليقين أن الجهل إذا تبارز مع العلم، والقوة المعادية إذا تبارزت مع القوة النظامية، فالنتيجة اندحار الجهل وعدم النظام ووقوع الغلبة عليهما. كما يعلم أن عدم الحيطة والتعجُّل بإجراء حركةٍ قبل حلولها تنسف صروح أعماله العظيمة التي بناها وأنفق عليها جهوده الجبارة وعلَّق عليها آماله نسفًا، لا تقوم لها بعده قائمة؛ ولذلك لم يقُم بأية إجراءات فعلية، بل أجَّل ذلك إلى أن يصل العالم الإسلامي إلى درجة الانتباه التام.»
وأما آخر الأصول السياسية التي قامت عليها الإمارة فأساسُه تلك الوصية التي تركها السيد — رحمه الله — بإسناد رئاسة الطريقة السنوسية إلى الأكبر الأرشد من الأسرة السنوسية، ثم نظام «البيعة»، ذلك النظام الذي يكفُل اجتماع كلمة العرب لتأييد صاحب الإمارة الجديد. جاء في تاريخ السيد أحمد الشريف: «وقال الأستاذ الجدُّ رضي الله عنه (يعني السيد محمد بن علي السنوسي الكبير) المُهدى له السيف، والشريف (أي ولده الأصغر السيد محمد الشريف) له الكتاب. وألبس الجدُّ رضي الله عنه الأستاذ العم رضي الله عنه (أي السيد محمد المهدي) السيف بيدِه الشريفة، وقال له: تقدَّم لتُصَلِّيَ بنا، فتقدَّم وصلى به رضي الله عنهما، وبعد الفراغ من الصلاة أوقفه بإزائه ثم انصرف، وقبل هذا ألبَسَه جردًا بيدِه الشريفة وناوَله سبحةً أفرعها في يدِه ثم أفرعها في يد أستاذنا العمِّ رضي الله عنهما. وبعد مصافحة والده الإخوان تشوَّقت نفسه الكريمة لمُصافحته.» فكانت هذه الصلاة وهذه المصافحة بمثابة المُبايعة له بالإمامة من بعده، وأجمع الإخوان وكبار السنوسية وشيوخِها على قبول هذه الإمامة في حياة والدِه ثم بعد وفاته. وعلى ذلك فكأنما جمعت السنوسية في نظام الحُكم بين مبدأ الوراثة الصُّلبية والعمل بمبدأ الشورى. وحققت في هذا النظام بعض شروط الإمامة. ومن المعروف أن الشورى كانت ركنًا من أركانها. والواقع أنه لم يكن هناك مَناص من هذه «البيعة» الإسلامية باعتبارها أصلًا من الأصول التي قام عليها «بيت» شريف ينتهي في نسبِه القرشي إلى الرسول الكريم صلوات الله عليه وسلامه، وهكذا صار وارث الإمارة، بمُقتضى هذا النظام، ابن المؤسس الأكبر السيد محمد المهدي السنوسي.