الفصل الخامس

الخليفة الأول

السيد محمد المهدي السنوسي

السيد محمد المهدي هو الابن الأكبر لمؤسس السنوسية السيد محمد بن علي السنوسي الكبير، فقد سبق ذِكر مولد السيد محمد المهدي بماسة في الجبل الأخضر في ذي القعدة من عام ١٢٦٠ هجرية (نوفمبر ١٨٤٤م)، قبل مولد أخيه الأصغر السيد محمد الشريف بسنتَين تقريبًا. وبالجبل الأخضر تلقَّى السيد المهدي تربيتَه الأولى حتى توسَّط السابعة، فانتقل إلى الحجاز وبقِيَ مدةً يتعلم على أيدي كبار الإخوان وشيوخ السنوسية بزاوية أبي قبيس بمكة المكرمة حتى أرسله والده إلى زاوية جغبوب الجديدة في ربيع الأول من عام ١٢٧٤ﻫ (أكتوبر ١٨٥٧م). وعندما تُوفي والده العظيم بعد عامَين من قدومه إلى الجغبوب كان السيد المهدي يبلُغ الستة عشر عامًا، ويقوم على إرشاده وتثقيفه، مع أخيه الأصغر السيد محمد الشريف، جماعة من خيار الإخوان السنوسيين وشيوخِهم، أمثال سيدي أحمد الغماري وسيدي المدني بن مصطفى بن أحمد التلمساني، وقد ظلَّ مُستشارًا أمينًا للأخوَين مدة طويلة، ثم سيدي علي بن عبد المولى التونسي وسيدي عمران بن بركة الطرابلسي وسيدي أحمد الريفي الذي اعترف بفضله أيضًا السيد أحمد الشريف وابن أخيه السيد محمد الشريف الذي تُوفِّي في ظروف سوف يأتي ذكرها في حينِه.

وأما السيد محمد المهدي فقد أظهر في هذا الوقت المُبكر شغفًا بالعلم وانكبابًا على تحصيل المعارف، وكان ذكيَّ الفؤاد عالي الهمة تقيًّا ورعًا، وقد وصفَه السيد أحمد الشريف في تاريخه فقال: «فهو رضي الله عنه مربوع القامة ليس بالطويل ولا بالقصير، أبيض اللون مُشربًا بالحمرة، واسع العينَين أكحلهما، أهدب الأشفار أشقر الحاجبَين أقرنهما بخطٍّ رقيق من الشعر الخفيف، أقنى الأنف يُرى فيه احديداب، مُدوَّر الوجه مدور اللحية كثُّها، واسع الفم أفلج الثنايا، واسع الجبهة، أصلع الرأس، شمس الكفَّين، بعيد ما بين المنكبَين، خمصان القدمَين، في خدِّه الأيمن خال، يقتصد في مشيته. وهو رضي الله عنه يتكلَّم فيما يبدو له، ولا يقول إلا حقًّا، نطقُه حكمة، أكثر ضحكه تبسُّم، وإذا اشتدَّ به الضحك ضَحِك حتى ترقرقت عيناه بالدموع، ولا يُسمع له صوت ولا قهقهة، وإذا أراد التكلُّم يمسح بيدِه على فخذِه اليمنى، ولسانه فيه بعض ثِقل في بعض الكلمات، وهو رضي الله عنه كثير الورع والزهد، أوقاته كلُّها معمورة بالعبادة، ويقوم بالليل، بل لا ينام في بعض الأحيان سوى ثلاث ساعاتٍ ما بين الليل والنهار، وهو رضي الله عنه ذو حلم وعِلم وشفقة ورحمة ورأفة على جميع الأمة، ولا يحقر أحدًا، ويقوم لقاصده كبيرًا أو صغيرًا، جليلًا أو حقيرًا، متواضعًا خاشعًا خاضعًا، بالمؤمِنين رءوف رحيم، يمشي على الأرض وعليه السكينة والوقار، ولا يقابل أحدًا بما يكره، ذو هيبة كأنه أسَد ضارٍ، كفُّه أسخى من البحر الزاخر، كأنما عناه القائل بقوله:

ما قال لا قطُّ إلا في تشهُّده
لولا التشهُّد كانت لاؤه نعم

وهو رضي الله عنه أكمل الناس خُلقًا وخَلقًا، وراثة مصطفوية غير مشوبة بأخلاق رثية، ثبت للوارث ما ثبت للموروث، قال البُصيري — رحمه الله:

فانسب إلى ذاته ما شئتَ من شرف
وانسب إلى قدره ما شئت من نعم

فهو سلميان زمانه ملوكانية، وحكمة لقمانية، وحورنة داودية، وجمال يوسفي، وأخلاقه محمدية.»

وبفضل هذه الصفات جميعها سرعان ما صار السيد المهدي يحتلُّ مكانة رفيعة في قلوب الإخوان والأتباع ومُريدي الطريقة ومؤيدي الدعوة، وكان مما حبَّب فيه القلوب أنه سار على نهج والده الكبير يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويبثُّ العلوم في طبقات الأمة الليبية مُتبعًا في ذلك حكمة كتاب الله وسنة نبيه .

وعلى أيدي السيد المهدي توطَّدت أركان الإمارة الجديدة، وامتدَّ نفوذ السنوسية في الأقطار الليبية وفيما جاورَها من بلادٍ وأقاليم إلى درجةٍ بعيدة، وقد ساعد على ذلك إلى جانب ما تحلَّى به السيد الكريم من عِلم وورع وتقوى وشخصية قوية جذابة، شيئان: أولهما طول مدة إمارته التي بلغت حوالي الأربعين عامًا ونيف منذ توليتِه في عام ١٢٧٦ هجرية (١٨٥٩م) حتى وفاته في عام ١٣٢٠ هجرية (١٩٠٢م).

فكانت هذه المدة الطويلة بمثابة عهد استقرار، ولم يكن هناك غِنًى عن هذا الاستقرار والهدوء، حتى تقوى أُسس الجمعية السنوسية، كما أنه كان من أهم أسباب هذا الاستقرار والهدوء في تنظيمات الجمعية أن المَولى سبحانه وتعالى تفضَّل على السيد المهدي فحباه ببُعد النظر وثاقب الفكر والرأي الصحيح، وقد تنبأ له والده السيد السنوسي الكبير بشأنٍ عظيم، وصدقت فراسته، وفي تاريخ السيد أحمد الشريف الشيء الكثير من هذا. وأما العامل الثاني في دعم صروح الدعوة والإمارة الجديدة، فكان عزم السيد المهدي على إتمام البناء العظيم الذي شيده والده، والعمل بكل جهد وقوة من أجل نشر الدعوة السنوسية بين أهل البلاد القريبة والبعيدة في أفريقية الغربية خصوصًا، حتى ذاع صيت السيد، وتمكن السنوسيون بفضل جهودهم المتواصِلة من أن يصِلوا بدعوتهم إلى قلب الصحراء الكبرى وأطرافها حتى جهات بُحيرة تشاد، وما يجاورها من إماراتٍ إسلامية قديمة، أو قبائل زنجية وثنية، أو قبائل أخرى لم يكن قد صلح حال إسلامها بعد. وقد تعرَّضت أقطار هؤلاء جميعًا لمطامع دول أوروبا الاستعمارية.

وكانت رسائل السيد المهدي في نشر الدعوة السنوسية ودعم أركان الإمارة الجديدة هي إنشاء الزوايا والإكثار منها في الأقطار الليبية ثم في أفريقية الغربية، مُمتدَّة في الجنوب إلى إقليم بحيرة تشاد، ثم إنشاء الصِّلات والروابط بين السنوسية وبين الإمارات الإسلامية المُنتشرة على وجه الخصوص في واداي وبرقو وكانم وغيرها. ثم تجنب الارتباط مع الدول الأوروبية الغربية في شأنٍ من الشئون التي كانت تبغي هذه الدول بواسطتها مدَّ نفوذها في الحقيقة إلى قلب القارة الأفريقية، وبسط سلطانها على شعوبها الزنوج خاصة، فاختطَّ خطة حكيمة، كانت مبنية على الحيطة والحذَر، ثم عدم التردُّد في مكافحة هذه الدول إذا جدَّ الجد كما فعل مع فرنسا، ثم أخيرًا الحرص على استبقاء العلاقات الودية بينه وبين تركيا، وهي دولة الخلافة الإسلامية القائمة، وهذا على الرغم من مخاوف السلطان العثماني، الذي كان يخشى في بعض الأحايين أن تقوى السنوسية إلى درجةٍ تستطيع معها أن تُهدد مركز الخلافة ذاتها، وذلك حتى يتسنى له التفرغ لتأدية رسالته الكبرى بين الشعوب الأفريقية المجاورة.

أما الزوايا التي أنشأها السيد المهدي فكانت كثيرة، امتدَّت من طرابلس وبرقة إلى واحات الوجنقات: الوجنقة الكبرى والوجنقة الصغرى — وتقع وراء دارفور إلى الشمال — وهذا عدا زوايا السودان، ثم زاوية كانو في بلاد النيجر، والزوايا التي أسَّسها السيد في واحة ون وواحة قرو، ثم عَين جلك، وهذا إلى جانب زاوية التاج المشهورة بواحة الكفرة، وهكذا. وكان عدد الزوايا التي أُنشئت في حياة والده السيد محمد بن علي السنوسي الكبير اثنتين وعشرين زاوية، وأما في حياة السيد المهدي فقد بلغت حتى ١٨٨٤م نحو المائة، منتشرة في برقة وطرابلس وعلى طريق غدامس وفي الفزَّان وفي واحات جالو وأوجلة والجغبوب، وعلى طريق مصر وطريق واداي، ثم في واداي ذاتها وفي بلاد العرب وفي مصر ومراكش والجريد التونسي ولدى التوارق وفي إنسالة وتوات وغير ذلك. ثم لم ينقطع إنشاء الزوايا بعد عام ١٨٨٤م حتى عمرت بهذه الزوايا واحات الصحراء الكبرى «فأمَّن بها السيد وحشتها ونضَّر غبرتها وأيقظ غفلتها، ذلك أن السيد المهدي كان مثل والده قبله يهتمُّ جدَّ الاهتمام بالزراعة والغرس، فغرس بجوار الزوايا البساتين، وجلب لها — كما فعل والده أيضًا — أصناف الأشجار الغريبة من أقاصي البلدان، فأدخلت في الكفرة والجغبوب زراعات وأغراس لم يكن لأحدٍ هناك عهدٌ بها.

ومن اهتمام السيد المهدي بالتعمير والغرس أنه كان يقول للإخوان والمُريدين الذين كانوا يطلبون إليه أن يُعلمهم الكيمياء «إن هذه — أي الكيمياء — تحت سكة المِحراث. وإنها هي كدُّ اليمين وعرق الجبين.» وزيادةً على ذلك فقد كان يحرص على أن يتعلَّم الطلبة والأتباع الحِرَف والصناعات، فلا يُزدرى بها أحد، وحتى لا يظنَّ المُشتغلون بها أنهم أدنى طبقةً من العلماء، كان يقول: يكفيكم من الدِّين حُسن النية والقيام بالفرائض الشرعية، وليس غيركم بأفضل منكم.» بل إنه — رحمه الله — كان ينتهِز الفرَص للنزول معهم إلى الميدان فيعمل بنفسه وينخرِط في سلك الصنَّاع وأصحاب الحِرف، قائلًا وهو يعمل معهم: «يظنُّ أهل الأوريقات والسبيحات (أي العابدون والقانتون) أنهم يَسبقوننا عند الله، لا والله ما يسبقوننا!» فكانت الزوايا مراكز حركةٍ ونشاطٍ وعملٍ مُنتج مثمر، إلى جانب كونها مراكز هداية وإرشاد لنشر فضائل الدين الحنيف وتعليم الأهلين كتاب الله وسنة رسوله، وهداية المسلمين إلى ما فيه صلاحهم دُنيا وآخرة.

والواقع أن هذه الزوايا جميعها كانت مراكز للتعليم ولنشر الهداية الإسلامية وبذْر بذور الإسلام، خصوصًا بين الأقوام الوثنيين الزنوج في أواسط أفريقية؛ ولذلك فقد كانت أولى ثمار هذه الزوايا ذيوع الدين الإسلامي في قلب القارة المُظلمة، بل ونجحت دعوة السنوسيين في هذه الجهات لدرجة أن صارت جمعيات المُبشرين الأوروبية المُنبثَّة في القارة الأفريقية كلها تجِد في الدعوة السنوسية خصمًا عنيدًا ولا قِبَل لها على التغلُّب عليه مع ما أُوتِيَت من قوةٍ ومال وتعضيد كبير من جانب الدول الأوروبية المُستعمِرة. وقد اقتضى إنشاء الزوايا — وهي كما سبق بيانُه مراكز تعليم الدين الإسلامي ونشر كلمة الله والعمل بالسنة الشريفة وأداة لتهذيب النفوس وهداية أهل الأقاليم المجاورة لها — أن يُرسل السيد في هذه الأقطار دُعاةً ومبشِّرين بالإسلام دين الله الحق، اشتهر منهم رجال من الطراز الأول أمثال الشيخ محمد بن عبد الله السنِّي والشيخ حمودة المقعاوي، والسيد طاهر الدغماري وغيرهم. زِد على ذلك أنه لمَّا كان من تنظيمات السنوسية العتيدة إنشاء الصِّلات التجارية والمادية بين الزوايا وبين المراكز التجارية والأسواق المُختلفة، ونجم عن استتباب الأمن في هذه الربوع انتشار الطمأنينة، فقد زاد نشاط القوافل وأقدم المسافرون والتجَّار على قطْع الفيافي والصحراوات من غير تردُّد، فظهرت بوادِر العمران في الطرُق الصحراوية، وكان مِن الميسور على دُعاة السنوسية أن يَصحبوا هذه القوافل وهؤلاء المُسافرين والتجار في رحلاتهم وأسفارهم، يَدعون إلى الطريقة ويقضون على الوثنية — أو الفيتيشية — يأمُرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويصرفون الأهلين، وخصوصًا الزنوج، عن اعتناق غير الإسلام دينًا، فيُعطلون بجهودهم هذه أعمال الرسالات المسيحية. وعلى ذلك فإنه سرعان ما أدى إنشاء الزوايا والإكثار من إرسال الدُّعاة والمُبشرين والهادِين السنوسيين، إلى انتشار الإسلام وبخاصة في أواسط أفريقية مثل بلاد النيجر والكنغو والكامرون وجهات بحيرة تشاد، ثم ذيوع السنوسية عن طريق واداي وبرنو وكلنم وأدامو أو الداهومي وغيرها، وبسط سيطرة السنوسيين الروحية على هذه الأقاليم ودعم أركان الإمارة الجديدة في قلب أفريقية.

وكما كان السيد السنوسي الكبير يقصد من تأسيس (الجمعية السنوسية) الإنشاء والعمران المادي إلى جانب تهذيب النفوس وهدايتها، فإن خليفته الأول ما كان يقنع هو الآخر بمجرد العبادة دون العمل، بل كان — رحمه الله — يُدرك تمامًا أن العمل بأحكام القرآن العظيم والعمل بالسنة الشريفة يقتضي وجود القوة والسلطان؛ ولذلك فقد ظلَّت الزوايا في عهدِه مراكز أيضًا لتعليم الرماية، فكان يحثُّ الإخوان والمُريدين على إتقانها ويبثُّ فيهم روح الأنفة والنشاط ويحملهم على الطِّراد والجلاد، ويُعظِّم في أعيُنهم فضيلة الجهاد. وكان السيد يمتلك خمسين بندقيةً خاصة، يُعنى بتنظيفِها وإعدادها دائمًا بيده، ولا يرضى بأن يؤدي هذا غيرُه من أتباعه الكثيرين قصدًا وعمدًا حتى يقتدي به الناس ويهتمُّوا بأمر الجهاد ويحفلوا به.

وقد وصف كلٌّ مِن «دوفرييه» و«لوي رين» حقيقة هذا النشاط في زاوية الجغبوب التي ظلَّت مقر الدعوة الرئيسي فترةً طويلة منذ انتقال السيد محمد بن علي السنوسي الكبير إليها في عام ١٨٥٦م إلى وقت انتقال ولدِه وخليفته السيد محمد المهدي إلى زاوية الكفرة في عام ١٨٩٥م، فقال «رين» إن السنوسيين بهذه الزاوية كانوا دائمًا على قدَم الاستعداد للدفاع عن الواحة، فكان كل رجلٍ منهم مزودًا بالسلاح الكامل، ولديهم جميعًا حوالي أربعمائة «بندقية» ومائتي «سيف»، هذا عدا الأسلحة الأخرى المُعدَّة لتجهيز قوةٍ من نحو ثلاثة آلاف رجل، محفوظة في نحو عشرين حجرةً مليئة ﺑ «الرصاص» والبارود، وهذا إلى جانب عددٍ من المدافع، يتراوح بين ٤ و١٥ مدفعًا اشتُريت من مصر ثم نُقلت إلى الجغبوب عن طريق الإسكندرية وطبرق، وهي — أي طبرق — التي قال عنها «دوفرييه» إنها أحسن ميناءٍ صالح في الشمال كانت تُهرَّب منه الأسلحة إلى الداخل. وزيادةً على ذلك فإنه كان بالجغبوب عدد من الصنَّاع الذين مهروا في صناعة الأسلحة وجميع ما يلزمها من معدَّات. ولمَّا كانت الجغبوب قد نُظِّمت على أن تكون بمثابة عاصمة «الإمارة» السنوسية، ثم بمثابة «جامعة» تُدرَّس بها العلوم الدينية خاصة، فقد اتخذ السيد المهدي له أعوانًا كانوا أشبَهَ بالوزراء الذين كلَّف كلَّ واحدٍ منهم بأداء عمل مُعين، ثم عهِد إلى أخيه الأصغر السيد محمد الشريف، وكان عالمًا كبيرًا، بالإشراف على تعليم الدِّين للطلاب الذين صاروا يقصدون إلى الجغبوب من كل جهة، وبلغ عددهم حوالي السبعمائة والخمسين نسمة. وكان السود الذين يقومون بالخدمة والزراعة في الجغبوب يَبلغون الألفَين، وهؤلاء على استعدادٍ تامٍّ أيضًا لحمل السلاح والجهاد إذا قامت الحرب. ويذكُر «رين» أن السيد المهدي سُئل ذات مرة إذا كان يقصد استخدام الأسلحة الموجودة لدَيه ضد الفرنسيين أو أنه يبغي استخدامها ضد الأتراك، فكان جوابه أنه لا يقصد استخدامها ضد أحدٍ من الفرنسيين أو الأتراك أو غيرهم، ثم قال: «إن والدي بدأ عملًا مِن المُنتظَر أن يأتي بنتائج عظيمة، وقد أخذتُ على عاتقي إتمامه، وليس لديَّ أي غرَض آخر.» ويبدو جليًّا من هذه العبارة أن السيد كان لا يبغي سوى الاستعداد للذَّود عن دعوته والدفاع عن الزوايا التي هي مراكز هذه الدعوة إذا دهمها الخطر. وقد أثبتت الحوادث في حياة السيد المهدي نفسه أن فرنسا كانت هي أكبر مصدرٍ للأخطار التي هددت الدعوة والإمارة السنوسية في أفريقية الغربية.

والحقيقة أن تنظيم الزوايا وإحكام الصِّلات بين الزوايا المختلفة وبين الزاوية المركزية في الجغبوب بلغ شأوًا كبيرًا من الدقة في عهد السيد المهدي، الذي أتم عمل والده العظيم من هذه الناحية، فربط بين الجغبوب وبين بقية الزوايا بإنشاء نظام مُحكم من «المراسلات» بواسطة المهرات والخيول، في طرُقٍ تمتدُّ من الجغبوب إلى مصر ودفنة وبرقة وطرابلس وفزان وواداي، فأُنشِئت الزوايا وحُفرت الآبار على طول هذه الطرق، كما كفل توطيد أقدام السنوسيين في هذه الجهات انتشار الأمن واطمئنان القوافل على الغدو والرواح في فيافي الصحراء دون التعرُّض لأذى اللصوص ونهب قطَّاع الطرق. وكما كان الحال في الجغبوب ظلَّت بقية الزوايا تُعنى بتعليم الرماية، أضِف إلى هذا أن طائفة من هذه الزوايا، ومن بينها العزيات وأوجلة وجالو والنجيلة وغيرها، كانت تحتفظ بعددٍ كبير من الجِمال يتراوح بين الأربعمائة والخمسمائة، على أهبة الاستعداد دائمًا للانتقال بأهل الزاوية إذا هدَّدتها الدول الأجنبية أو هدَّدها الأتراك أنفسهم بالإغارة عليها.

وهكذا أصبح سلطان السنوسية في جميع الأقطار الليبية والأفريقية الأخرى التي انتشرت بها الدعوة يستنِد إلى دعامتين قويتين: إحداهما روحية، قائمة على الوعظ والإرشاد والعمل بهدي القرآن الكريم وبالسنة الشريفة، والأخرى مادية، أساسها تعلُّم الرماية وإتقان أساليب القتال. وكانت الزوايا مراكز للعبادة والتعليم ونشر رسالة الدين الحنيف من جهة، وخلايا للعمل والإنتاج عن طريق الزراعة والتجارة، وميادين للرياضة والتدريب على حمل السلاح وإتقان استخدامِه من جهةٍ أخرى، وهي الأركان العتيدة التي حملت صرح هذا السلطان.

وفي عهد السيد المهدي بلغت الدعوة السنوسية غايتها من الانتشار، وتوطَّدت أركانها بفضلِ هذه الزوايا، كما أدَّى ذيوع الدعوة بدوره إلى الإكثار من إنشاء الزوايا وتعميمها. وتتضح هذه الحقيقة من معرفة شيءٍ عن الزوايا التي أقامها السنوسيون في مختلف الأقطار التي بلغَتْها دعوتهم في أقل من نصف قرن تقريبًا. ومما يجب ذكره أن السنوسية استطاعت في كثيرٍ من الجهات أن تجِد في الطرائق السابقة المُنتشرة بها كالشاذلية والتيجانية والقادرية وهكذا، ما كان يُمهِّد لها سبيل الذيوع والتغلغُل في كيان الشعوب أو الجماعات الإسلامية، التي كثُر فيها أتباع هذه الطرُق. وأما أكبر الجهات التي سادت فيها الطريقة السنوسية ذاتها فكانت بطبيعة الحال تلك الأقاليم التي نبتَت فيها الدعوة من أول الأمر في أفريقية الشمالية، أي في برقة وطرابلس الغرب.

وقد بلغ عدد الزوايا التي أمكن إحصاؤها في برقة وحدَها في عهد السيد المهدي حتى عام ١٨٨٥م ثمانيًا وثلاثين (٣٨) زاوية؛ وهذا قبل إنشاء الزوايا التي أسَّسها السيد المهدي (وخلفاؤه) بعد هذا التاريخ في واحة الكفرة وغيرها، والتي بلغت في عام ١٩٣٢م حسب ما أثبته «فابريتزيو سيرا» تسعًا وأربعين (٤٩). وكانت أشهرها زوايا البيضاء وبنغازي والقصرين والمرج والقصور والعزيات والنجيلة وأوجلة ومسوس، واللبة في جالو وغيرها. ويدين بالطاعة للسنوسية في برقة قبائل الجرارة والشواري والعرفة والطواهر والزوية والبراعصة والحسة والعبيدات والفواخر والشبيبات، والدرسة والمغاربة الزوية والعريضات، والعواقير وأولاد بوشالوفا والمجابرة وهكذا.

أما في طرابلس فقد بلغ عدد زوايا السنوسية ثماني عشرة زاوية (١٨): من أهمِّها النزورات، التي يرجع تأسيسها إلى عام ١٨٥٥م، ثم الرجيبان (في ١٨٥٤م)، وبومهدي، والعمامرة، وورفلة، وغيرها. وفي الفزان بلغ عدد الزوايا ٢٢ مُمتدة من الجغبوب إلى غات ومن غدامس إلى الكفرة، ومن أهمها سنوان، وغدامس (وكان بها وحدَها زاويتان)، والمزدة، وهي ذات أهمية كبيرة لقُربها من بلاد الجزائر، فأضحت مركزًا للتجارة كما غدت ملجأً أمينًا للجزائريِّين الذين يقومون بالثورة ضد الفرنسيين في بلادهم من وقتٍ لآخر، ثم مرزق وزلة، وسوكنة، وواو الشعوف وغيرها.

واستطاعت السنوسية بفضل انتشار القادرية في تونس أن تجد أرضًا صالحةً لبثِّ دعوتها في هذه البلاد، فأنشأت خمس زوايا في منزل خير، دويرات، زاوية الحارث، كريز، زاوية العرب. وقد قدَّر «دوفرييه» في عام ١٨٨٥م عدد الزوايا التي كانت للقادرية والتي كان من المُنتظر انخراطها في سلك السنوسية في تونس بسبع عشرة زاوية. وفي بلاد الجزائر أسَّس السنوسيون خمس زوايا في مستغانم ومازونة وزاوية سيدي أحمد بن الناصر وزاوية مجهار تحتاني التي أسسها في عام ١٨٧٤م السيد محمد بن العربي بن بو حفص (من أولاد سيدي تاج) الذي اشتهر باسم «بو عمامة». وفي الجهات التي انتشرت فيها الطريقة التيجانية وجدت السنوسية سبيلًا إلى الذيوع بواسطة زوايا هذه الطريقة في مقاطعة «قسطنطين» خصوصًا. أما في مراكش فقد تأسَّست منذ عام ١٨٧٧م ثلاث زوايا سنوسية في طنجة وطيطوان وفاس، وساعد على انتشار السنوسية في هذه البلاد أيضًا وجود زوايا بها للطريقة الدرقاوية.

وفي الأقطار الإسلامية الأخرى أنشأ السنوسيون زوايا في طرُق القوافل إلى مصر، في سيوة والزيتون والحوش (حوش ابن عيسى) بجهة الإسكندرية، والنطرون، ثم في الفرافرة (منذ عام ١٨٦٠م)، وفي التربيات بالقرب من الواحة الداخلة. وهذا عدا زواياهم في القطر المصري نفسه في الإسكندرية والقاهرة والسويس. وفي بلاد العرب كان للسنوسيين اثنتا عشرة زاوية في مكة وجدة وينبع والمدينة المنورة وغيرها. ويذكر بعض الكتَّاب أن السنوسية لقيت انتشارًا أيضًا في العراق وفي ساحل الصومال الأفريقي، ثم في القسطنطينية.

على أنه مما تجدُر ملاحظته أن السنوسية في عهد السيد المهدي لم تلبث أن انتشرت أيضًا في قلب الصحراء الكبرى وفي مجاهل القارة الأفريقية، بين القبائل التي ظلَّت على وثنيَّتها قرونًا طويلة، قبل أن ينفُذ الإسلام إليها على أيدي هؤلاء الرسُل الجدد الذين انطلقوا من الزوايا التي أنشئت بالقُرب من هذه الجهات، يحملون إليها الهداية؛ فوصلت الدعوة السنوسية إلى قبائل «التبو» و«التوارق» في الأقاليم المُمتدَّة جنوبًا إلى بحيرة تشاد، ثم بين غيرهم من الوثنيِّين القاطِنين بالصحراء من حدود مراكش الجنوبية إلى نهر النيجر، ثم إلى نهر السنغال غربًا؛ فقد أنشأ السنوسيون في هذا الجزء الأخير جُملة زوايا في توات وإنسالة — وإلى الجنوب الشرقي من إنسالة تبدأ بلاد التوارق — ثم بين قبائل جرارة وأولاد الحاج وغيرهم. وكان مؤسس زاوية إنسالة الحاج أحمد التواتي المشهور، ومن كبار السنوسية والذي كان يعتبره الفرنسيون ألدَّ أعدائهم في هذه الجهات. وقد خلفه في عام ١٨٦٤م الحاج عبد القادر من أولاد باجودة. أما في بلاد التبو والتوارق فقد انتشرت السنوسية انتشارًا كبيرًا، واعتنق كثيرون من الوثنيين بفضل جهودهم الدين الإسلامي، واستطاع أصحاب الدعوة أن يؤسِّسوا كثيرًا من المدارس التي فتحوا أبوابها للذكور والإناث الزنوج على حدٍّ سواء، لتعليمهم قواعد الدين الصحيح. وأهم القبائل التي أثَّرت فيها تعاليم السنوسية وقبلت سُلطانها في جهات «تشاد» وما جاورَها، الأير أو الإزين والتبو السالِفة الذكر — وقد اتخذ عامل السنوسية «الشيخ أسود» مقرًّا له منذ عام ١٨٧١م زاوية «نجورمة» — ثم قبائل بائيلي الوانيانجا والبائيلي النيدي، وبرقو وأولاد سليمان السعدي وكاتمبو على بحيرة تشاد، ثم قبائل النيري توغي Enneri—Tougué أو «كوار» Kawor وزاويتها في شمندرو Chimmendro، وقد وصف الرحالة «ناختجال» نفوذ السنوسية الكبير في هذه البلاد عندما زار زاوية «شمندرو» في عام ١٨٧٠م بصُحبة الحاج محمد أبو عائشة من قبيلة أولاد سليمان، وهو قائمقام غدامس، ثم ورفلة فيما بعد، وكان وقتذاك من رجال المُشير علي رضا باشا والي طرابلس الغرب (١٨٦٦–١٨٧٠م)، فكان الحاج محمد أبو عائشة لا حول له ولا قوة أمام مُقدم الزاوية الذي فرض سلطانه واحترامه على جميع الأهلين في هذه الجهات.
ومن واحة «كوار» أخذت السنوسية تمدُّ نفوذها إلى بلاد «تو» Tou، وتسكنها قبائل التيدا Tédâ، وهي أحد فروع «التبو»، ولكنهما أكثر نقاوةً من إخوانهما. وقد استطاعت السنوسية أن تُثبِّت أقدامها في بلاد «تو» وأنشأت أهم زواياها في «برداثي» منذ عام ١٨٧٢م، وصار ملك هذه البلاد، «أرامي» آلةً مسيرة في أيدي مُقدم الزاوية والإخوان.

وأما انتشار السنوسية الكبير في واداي فقد سبق ذكر طرفٍ من أسبابه، وكان تأسيس هذه السلطنة كدولةٍ إسلامية في عام ١٦١٢م، ثم ظلَّت مُغلقة دون العالم الخارجي منذ تأسيسها. وقد تقدَّم كيف استطاع السيد محمد بن علي السنوسي الكبير أن يمدَّ نفوذ الطريقة إلى واداي في عهد سلطانها محمد شريف الذي تُوفي في عام ١٨٥٨م. ثم ظهر نفوذ السنوسية في واداي واضحًا جليًّا عندما تدخَّل السيد المهدي معضدًا أحد المُتنازعَين على عرش واداي بعد وفاة سلطانها علي (١٨٧٦م)، فتم الأمر بفضل تأييده للسلطان يوسف، فكان من أعظم الأمراء إخلاصًا وولاءً لسيد الجغبوب.

ويقع إلى الشمال الشرقي من واداي «دويلة» تدين بالطاعة لها هي «النيدي»، وأهلها من قبائل «البائيلي» أو البيدايات الوثنية، التي حرص دعاة السنوسية على نشر الإسلام بين أهلها، فلقِيَت دعوتهم نجاحًا في عام ١٨٧٢م، فلم تمضِ سنوات قليلة بعد ذلك حتى كانت هذه القبائل قد دخلت جميعها في الإسلام ثم انخرطت في سلك السنوسية، وأنشأ السنوسيون عدة زوايا في بلادهم. وفي عام ١٨٨٦م كان ملك هذه البلاد يُرسِل إلى السيد المهدي كل عام، من مدةٍ طويلة، هدايا كثيرةً وعددًا من الشبَّان للتعلُّم في زاوية الجغبوب، ثم لم تلبث أن انتشرت السنوسية إلى جهات «البائيلي» الشمالية وهم «الوانيانجا»، فتأسَّست بها زاويتان هما زاوية سيدي عبد الرب وزاوية سيدي السنوسي.

وفيما عدا ذلك انتشرت السنوسية في جهات برنو ثم في جهات النيجر حول تمبكتو. وفي عام ١٨٧٦م شاهد «جيرار رولفس» في «زاوية الأستاذ» بواحة الكفرة بعض السنغاليين الذين حضروا لزيارة السيد المهدي، ثم زاروا الجغبوب قبل العودة إلى بلادهم. وكذلك انتشرت السنوسية في بلاد كانم، وكانت كانم من قديم موضعًا للنزاع بين سلطان واداي وسلطان برنو، حتى حدث في عام ١٨٤٥م أن حضرت إلى كانم من جهات «سرت» إحدى قبائل فزان العربية وهم أولاد سليمان، فأقاموا بها وأخضعوا ما حولها من أقوام الكانمبو والتبو والبائيلي ونشروا الإسلام بينهم، فكان من المُنتظَر لذلك أن تنتشر السنوسية في كانم بسهولة. ويذكر «ناختجال» أنه عندما وصل إلى مكان أولاد سليمان في «بير البركة» في عام ١٨٧١م شهد «مبشِّرين» من السنوسيين حاولوا أن يمنعوا رئيس القبيلة «عبد الجليل» من السماح لناختجال وجماعته بالتقدُّم إلى جهات التبو والبائيلي، ثم انسحبوا إلى «برقو».

•••

هذا وقد نجم عن ذيوع الدعوة إلى الإسلام ونجاحها في أواسط أفريقية، ثم توطيد سلطان السنوسيين في قلب الصحراء الكبرى بفضل التنظيمات الدقيقة التي وضعوها (لجمعيتهم) على أساس إنشاء الزوايا وإحكام الصِّلات بين هذه الزوايا المُتفرقة البعيدة وبين الزاوية الكبرى مقر السادة السنوسية الرئيسي — سواء كانت في الجغبوب (١٨٥٦–١٨٩٥م) أم في زاوية التاج بواحة الكفرة (١٨٩٥–١٨٩٩م) أم في واحة قرو في «برقو» (١٨٩٩–١٩٠٢م) — أن وجدت الرسالات المسيحية التبشيرية في السنوسيين خصومًا عنيدِين عطَّلوا عليها أعمالها لدرجةٍ بعيدة، إن لم يكونوا قد أفسدوا هذه الأعمال في بعض الجهات وأبطلوها. زد على ذلك أن نجاح الدعوة السنوسية ودعم أركان الإمارة الجديدة سرعان ما صار يقضُّ مضاجع دول الاستعمار الغربية، وخصوصًا منذ أن قويت منافسة هذه الدول فيما بينها من أجل اقتسام القارة الأفريقية، أي في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر، فإن دولة إنجلترا — التي احتلت البلاد المصرية في عام ١٨٨٢م، ثم أشارت على المصريين بإخلاء السودان، ثم صارت تتأهَّب في التسعينيات من القرن الماضي لاسترداده، وكانت فوق هذا ذات مصالح حيوية في غربي أفريقية وجنوبيها — اضطرت إلى أن تحسب حسابًا كبيرًا للدعوة السنوسية، وأن تسعى لتوقِّي خطر هذه الدعوة من ناحية السودان المصري خاصة، وكذلك كان حال فرنسا التي لم تقتصر على احتلال بلاد الجزائر في عهد مؤسِّس الطريقة السيد محمد بن علي السنوسي الكبير على نحوِ ما أسلفنا، بل أدخلت في نطاق مُمتلكاتها تونس، وصارت تتوغَّل من جهة الغرب في قلب أفريقية حتى وصل نفوذها إلى «واداي»، وهذه كانت كما تقدَّم من الأقطار التي دانت للسنوسية وصارت من أقوى دعائمهم في جوف الصحراء الأفريقية الكبرى؛ ولذلك فإن فرنسا سرعان ما وجدت نفسها في طريق الاصطدام عاجلًا أو آجلًا مع الإمارة السنوسية. أضِف إلى هذا أن دولة إيطاليا الحديثة بعد أن أتمَّت وحدتَها وصارت تتطلَّع إلى امتلاك المُستعمرات في أفريقية إلى جانب دول أوروبا «العظيمة»، ثم بيَّتت النية منذ أمدٍ بعيد على اغتصاب القطر الطرابلسي من أيدي الدولة العثمانية، غدت هي الأخرى تبذل كل جهدٍ من أجل اجتلاب مودة السيد المهدي، علَّها تظفر بسكوته حينما تُواتيها الظروف لتحقيق مآربها، بل إن الدولة الألمانية الجديدة لم تلبث بعد انتصارها في الحرب السبعينية أن أخذت تسعى هي الأخرى حتى تستميل السيد المهدي إلى العمل ضد فرنسا في أفريقية الغربية.

وفي وسط هذا النشاط السياسي وبسبب هذه الأطماع الاستعمارية سرعان ما ظهرت إلى عالم الوجود دعاية طويلة عريضة دبَّرها المُبشرون الذين أفسدت الجمعية السنوسية عليهم عملَهم في أواسط أفريقية، وكان لأقوال هؤلاء المُبشرين أثرها في كتَّاب الإفرنج ومؤرخيهم الذين تعرضوا لذكر السنوسية وأعمالها وبيان مدى نشاطها ونفوذها في أفريقية، فألصقوا بها اتهامات كثيرة لا تستند إلى شيءٍ من الحق والصدق. ومن أشهر هؤلاء الكتاب «دوفيرييه» الذي تحدَّث عن السنوسية ومؤسسها الكبير السيد محمد بن علي السنوسي، وكان يرى في جمعيتهم خطرًا عظيمًا يتهدَّد «المسيحية» في القارة الأفريقية ويُعطل مصالح الدول الأوروبية التي تريد استعمار شعوب هذه القارة «المظلمة»، وتُحرِّض الأهلين في المُمتلكات الفرنسية وفي بلاد الجزائر خصوصًا على القيام بالثورة، ولو أن كاتبًا فرنسيًّا آخر، هو «لوي رين»، جزم بأنه لم يجد دليلًا ما يثبت اشتراك السنوسيين في تحريك هذه الثورات ضد الحكم الفرنسي.

ومن أشهر الذين كتبوا ضد السنوسية «مونتيه» مؤرخ الرسالات الإسلامية في القرن التاسع عشر، و«آرثر سيلفاهوايت»، وهو كاتب إنجليزي زار واحة الجغبوب (١٨٩٨م)، وأنشأ الفصول الطوال في ذكر أحوال السنوسيين وعاداتهم وبيان عقائدهم وهكذا. وكان أهم ما ألصق بالسنوسيين من اتهاماتٍ أنهم جماعة شديدة التعصُّب ضد المسيحية، ويبلغ هذا التعصُّب ذروته في الصحراء خاصة، حيث يكثر — كما قالوا — اغتيال أولئك الأوروبيين الذين دفعهم حُب الكشف والاستطلاع إلى ارتياد مجاهل هذه الأصقاع الفسيحة. وكان أشد الكتَّاب تطرُّفًا في إلصاق تهمة الاغتيال بالسنوسيين الكاتب «دوفرييه»، فعدَّهم مسئولين مباشرةً أو بطريق غير مباشر عن مقتل «إدوار فرجل» في واداي في عام ١٨٥٦م، ثم «فون بورمان» في كانم في عام ١٨٦٣م، و«فون دردكن» ورفقائه على نهر جوبا في عام ١٨٦٥م، والآنسة «تيني» المشهورة في الفزان بالقُرب من مرزوق في عام ١٨٦٩م، ثم الضابط الفرنسي «دورنو دوبيريه» على الطريق بين غدامس وغات في عام ١٨٧٤م، ثم «الكولونيل فلاترز» والضابطين «ماسون» و«ديانوس» في عام ١٨٨١م، وغير هؤلاء. زِد على ذلك أن السنوسيين كما ادَّعى هؤلاء الكتاب كانوا يمنعون المسيحيين قاطبةً من زيارة جهات برمَّتها في طرابلس، كما قالوا إن السنوسية كانت تطلب إلى فقراء السنوسيين — الذين لا يملكون ما يدفعون عنه مالًا (أو العشر أو العشور) للخزانة العامة — القيام بخدمات مُعينة (للجمعية)، وأن يعملوا كجواسيس لها أو قتلة. وزيادةً على هذا فهناك طبقة واحدة من السنوسيين يُصرَّح لأفرادها بالاتصال بالمسيحيين إطلاقًا، هي طبقة الوكلاء في الزوايا، بيد أن أهم ما عُنيَ هؤلاء الكتاب بإظهاره وتصويره ذلك الخطر الذي قالوا إنه يُهدد النفوذ الأوروبي ويمنع تغلغُله في أواسط أفريقية، ومنشؤه أن السنوسية هي أكبر وأنشط الوسائل التي يستطيع عن طريقها دعاة «الجامعة الإسلامية» وأنصارها تحقيق أهدافهم، فقالوا إن السنوسية تحرم على أتباعها الاتصال بالثقافة الغربية، وتُغلق بلادها دون الحضارة الأوروبية، وتَعدُّ قبول هذه الحضارة والأخذ عنها بدعةً من الواجب عليهم مُحاربتها. ويدعي هؤلاء الكتَّاب، إلى جانب ما تقدَّم، أن السنوسيين لم يكتفوا بمناضلة الأوروبيين والمسيحيين عامةً، بل صاروا يعتبرون «الأتراك» أنفسهم غرباء عنهم، ومن واجب السنوسية مُحاربة نفوذهم والقضاء على نشاطهم، وعلى الرغم من إسلامهم؛ حتى إن «دوفرييه» نسب إلى السنوسية زورًا وبهتانًا قولهم على لسان سيدي الأخضر بن مخلوف «الترك والنصارى إني أقاتلهم معًا وأضربهم ضربةً واحدةً.» وكذلك من المُفتريات التي ظلَّ أعداء السنوسية يُردِّدونها مدة طويلة قولهم إن «الطريقة» كانت تعتبر اغتيال أي مسيحي عملًا طيبًا يستحق فاعله كل ثناءٍ ومكافأة، كما ادَّعَوا أن السنوسيين كانوا يعتبرون من واجبهم عدم الدخول في بلدٍ يخضع لسلطان المسيحيين.

بيد أن هذا كله — كما هو واضحٌ جليٌّ — لم يكن سوى أباطيل، أتى بها أعداء السنوسية حتى يقلبوا ضدَّهم الرأي العام الغربي على وجه الخصوص، وحتى يجدوا مُسوِّغًا لأعمال إرسالياتهم التبشيرية في وسط القارة الأفريقية، وهذا في الوقت الذي اشتدَّت فيه مطامعهم الاستعمارية في هذه القارة، وأخيرًا حتى يؤيِّدوا — كما توهَّموا — شكاياتهم التي تقدَّموا بها ضد السنوسيين إلى السلطان العثماني عبد الحميد؛ فإنه لمَّا كان السيد المهدي لا يأبه لمحاولة هذه الدول من أجل التقرُّب إليه وفشلت وسائلهم في اجتذابه إليهم وأعرَض عنهم، عظُمت مخاوفهم من تشكيلاته وحركاته، وانكبُّوا يسعَون لدى الآستانة ويشدِّدون الضغط على السلطان عبد الحميد كي يتوسَّط، بوصفه الخليفة الأكبر، في استدعاء السيد المهدي من أفريقية للإقامة بأرض الحجاز أو في دار الخلافة وعدم مُغادرتها والعودة إلى وطنه، ولكن السلطان لم يُجِب الدول إلى هذه الرغبة في النهاية، لجُملة أسباب سوف يأتي ذكرها في موضعها.

ومع هذا فإنه لا يصعب على إنسان دحضُ مُفتريات هؤلاء الكتاب الذين حملوا على السنوسية، وحاولوا تشويه سُمعتها لغرَض في أنفسهم؛ ذلك أن السنوسية وهي التي تتمسَّك بكتاب الله العزيز وسنة نبيه الكريم، وتتَّخذ شعارها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتتَّبِع أثر السلف الصالح في أعمالها، ما كان لها أن تُغاير تعاليم ومبادئ الدين الإسلامي الحنيف، وهو دين الفطرة والتسامح. ويكفي أن نُثبت بعض ما جاء في رسالة تاريخية للسيد محمد بن علي السنوسي الكبير بعثَ بها إلى أحد خُلفائه بزاوية المدينة المنورة في ١٢ ربيع الأول ١٢٦٤ﻫ (١٧ فبراير ١٨٩٨م)، حتى يتبيَّن من قراءتها شيءٌ من المبادئ التي كان يُذيعها مؤسس السنوسية والمُصلح العظيم، ويريد تربية إخوانه عليها والأتباع والمُريدين، قال — رحمه الله: «والمؤكد به عليكم وأفضل صِلة واصِلة إليكم ما حثَّ به الحق سبحانه وتعالى وعمَّم وأمر به سائر الأمم، فقال جلَّ من قائل: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ، فعليكم بتقوى الله العظيم باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه، والإكثار من ذكره، والصلاة والسلام على نبيه محمد أناء الليل وأطراف النهار ليستنير بذلك القلب ويتنوَّر الباطن والظاهر، وعليكم بمراقبة الحق سبحانه وتعالى في جميع الأحوال؛ في الحركات والسكنات ما ظهر منها وما بطن، وابذلوا جهدكم وقِفوا على ساقِ الجد والاجتهاد لنَيل أسنى المراد، وكونوا على المنهاج القويم، والصراط المستقيم، وحسِّنوا أخلاقكم وليِّنوا جانبكم للكبير والصغير، قال تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا، وقال جلَّ وعلا: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وقال : «ارفقوا، فإن الرِّفق ما كان في شيءٍ إلا زانه، وإن الحمق ما كان في شيءٍ إلا شانه.» وارفعوا همَّتكم عن الخلق. وقال : «ازهد في الدنيا يُحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يُحبك الناس.» وعليكم بالمُناصحة والمذاكرة وإرشاد عباد الله إليه، والمُدارسة والاجتماع والتحابُب والتوادُد، ولا تَقاطَعوا وكونوا عباد الله إخوانًا وعلى البرِّ أعوانًا، فبذلك تنالون الفوز الأبدي والربح السرمدي الذي لا يَعتريه خسران ولا يحوي حول حماه حرمان، والله يجعلكم أئمةَ اقتدا، ونجوم اهتدا، ويفتح بكم أعينًا عُميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غلقًا، وألسنًا بكمًا، ويمنُّ عليكم برضاه الأكبر الذي لا سخط بعدَه.»

وأما السيد المهدي — رحمه الله — فهو القائل: «لا تحقرنَّ أحدًا، لا مُسلمًا ولا نصرانيًّا ولا يهوديًّا ولا كافرًا، لعلَّه يكون في نفسه عند الله أفضل منك، إذ أنت لا تدري ماذا تكون خاتمته.»

وجمعية تهتدي بهَدي القرآن الكريم وتعمل بالسنَّة الشريفة وتتَّبِع أثر السلف الصالح، وهذا «قانونها» و«شعارها»، كانت ولا شكَّ بعيدة كل البُعد عن أي تعصُّب لا يرضى به الدين الإسلامي الحنيف، وفي طبيعته العفو والمسامحة، خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ، ولا يمكن أن تُقرَّه «الجمعية» التي قال عنها أعداؤها أنفسهم إنها، بفضل ما اقترنت به دعوتها من تسامُح واسع، استطاعت أن تجتذب إليها وتضمَّ تحت لوائها ما لا يقلُّ عن الأربعة والستِّين جماعة دينية تبايَنَت آراء أعضائها واختلفت وجهات نظرهم لدرجة كبيرة.

والحقيقة أن السيد المهدي السنوسي كان رجلَ حكمةٍ وعِلم بعيدًا عن التعصُّب، زِد على هذا أنه — رحمه الله — كان يتمتَّع بقوة فكر ورجحان عقل وبُعد نظر، وليس أدلَّ على بُعده عن التعصب من موقفه من الدول الأجنبية ومن جيرانه الأوروبيين، فالسيد المهدي لم يكن في كل مواقفه معهم مُعتديًا أو بادئًا بحربٍ أو عدوان، كما أنه لم يشأ أن يُصبح آلة في أيديهم يُحركونها كيف أرادوا؛ تشهد على ذلك خُطته الحكيمة مع هذه الدول، ثم مع جماعة العرابيين في مصر، ومع أتباع محمد أحمد المهدي في السودان، كما تدلُّ من جانبٍ آخر قصة صراعه الطويل مع الفرنسيين في حدود «واداي» وغيرها على أنه ما كان يريد في الواقع من اشتباكه مع هؤلاء المُغيرين سوى الدفاع عن الأقوام الذين انتشرت بينهم زوايا السنوسية، ونما وترعرع الإسلام، ضدَّ اعتداءات الدول المستعمرة. على أن بيان مواقف السيد المهدي من ذلك جميعه إنما يكشف في الوقت نفسه عن مدى سلطان السيد وانتشار نفوذه.

ويبدو واضحًا جليًّا أن البروسيين كانوا أول من أرادوا الاستفادة من النفوذ الذي يتمتع به السيد المهدي في الصحراء، فحاولوا في عام ١٨٧٢م مفاوضته على أمَل استمالته إلى تحريك الثورة في الجهات التي خضعت للفرنسيين في أفريقية الشمالية والغربية، ولكن محاولتهم ذهبت سدًى؛ لأن السيد المهدي رفض مقابلة الرسُل الذين أوفدوهم إليه، فغادر هؤلاء البلاد دون أن يتمكنوا من الحديث معه، ومع هذا فقد تكرَّرت محاولات البروسيين في الأعوام التالية للغرَض نفسه، فاستطاع الرحالة «جيرار رولفس» في عام ١٨٧٦م أن يزور برقة والكفرة، ثم قصد إلى الجغبوب لمقابلة السيد المهدي، ووقف عند «بير سلام» بالقرب منها، وقابله سيدي أحمد بن البيسكري جملة مرات، ولكنه لم يستطع مقابلة السيد المهدي نفسه أو الحديث إليه.

وعندما اشتبك العثمانيون في حربهم المشهورة مع الروسيا، طلب السلطان من السيد المهدي أن يُمدَّه بالجُند من طرابلس وبرقة لمعاونته في الحرب الدائرة (١٨٧٧م)، ولكن السيد المهدي لم يشأ التدخُّل في هذا النزاع، ولم يُغادر جندي واحد أرض طرابلس الغرب للاشتراك في هذه الحرب.

وظهرت رغبة السيد المهدي في الابتعاد عن المشاكل الأجنبية عمومًا، والتفرُّغ لدعم أركان السنوسية بالإكثار من إنشاء الزوايا التي ألقى على عاتق أهلها، في الواقع، عبء الدعوة إلى الإسلام في الصحراء الأفريقية، عندما حاول الإيطاليون بدورهم أن يستميلوه من غير جدوى إلى المُحالفة معهم منذ عام ١٨٨١م على أساس تحريك الثورة ضد الفرنسيين في تونس، بعدَ احتلالهم للبلاد التي كانت موضع أطماع الإيطاليين، وحالت ظروف منوَّعة دون تحقيق مآربهم من مدة طويلة، وهكذا عندما أرسل الإيطاليون بعثةً استكشافية برئاسة الضابط «كامبريو» إلى برقة، نجحت هذه البعثة فقط في إثارة خواطر الأهلِين ضدَّها في الجبل الأخضر ودرنة بدلًا من استمالتهم.

وفي أثناء عمليات الإنجليز العسكرية في مصر في عام ١٨٨٢م توقع كثيرون أن يلقى أحمد عرابي وجماعته تأييدًا من جانب السيد المهدي؛ ولذلك فإنه سرعان ما بعث «دوفرييه» في أثناء محاكمة عرابي، بعد فشلِه، برسالة إلى مُحاميه المشهور «برودلي» في أول نوفمبر ١٨٨٢م يقول فيها إن عرابي لم يُقدِم على الثورة إلا بتأثيرٍ من السنوسية، وأنه إذا صحَّ ذلك لم يكن إلا أداةً فقط يُحركها السنوسيون لتنفيذ أغراضهم، ثم يرجو في نهاية رسالته أن يتفضل «برودلي» بإخباره إذا كان عرابي نفسه من أتباع الطريقة السنوسية.

وغنيٌّ عن البيان أن أحمد عرابي لم يكن في حياته سنوسيًّا، كما أن السيد المهدي كان بعيدًا كل البُعد عن هذه الحركة. ويقول «لوي رين» تعليقًا على هذه الحوادث: «إن السنوسية لم تُحرك ساكنًا في أثناء ثورة عرابي، وذلك لأن رئيسها (أي السيد السنوسي) كان يعلم بوجود شِبه اتفاقٍ سري بين عرابي وبين الرجال السياسيين في إستانبول، ولأنه بكل بساطة كان يعرف تمامًا أن الحرب ليست هي الوسيلة التي يمكن بها إعادة صرح الإمامة العالمية على ما كانت عليه أيام الخلفاء الراشدين.»

بيد أن أهم الحوادث التي وقعت في هذه الفترة وأظهرت ما كان يتحلَّى به السيد المهدي من صفات الزعامة والإمارة السامية، وكشفت عن حقيقة النفوذ الروحي والزمَني الذي ظلَّ يتمتَّع به السيد طيلة حياته الحافلة بجلائل الأعمال، كان قيام محمد أحمد (مهدي أبا) بالثورة في السودان المصري، وادعاؤه أنه «المهدي المُنتظَر»، فقد استطاع محمد أحمد أن يجذِب إليه كبار تجَّار الرقيق الذين ساءهم أن تجِدَّ الحكومة المصرية في مكافحة تجارتهم الشائنة، ثم استطاع أن يُلهب نفوس مواطنيه السُّذَّج بدعواه أنه إنما جاء مبعوثًا من أجل تخليص البلاد من الشرور والآثام وإقامة صرح حكومةٍ جديدة على أُسسٍ من الدين القويم، ثم ظهر أمره شيئًا فشيئًا وأحرز جُملة انتصارات على الحكومة، فذاع صيتُه إلى الأقطار المجاورة، وكان من بين الذين ساورهم القلق من هذه الحركة الخطيرة السيد محمد المهدي السنوسي نفسه، وكان لذلك جُملة أسباب، أولها ولا شك كان دينيًّا؛ لأنه، على الرغم مما أجمع عليه التواتُر ووصل إليه الباحثون في هذه الموضوعات من توقُّع مجيء «المهدي المُنتظر» في هذه الفترة من الزمان، فقد كان مِن المُستبعد أن يكون محمد أحمد هو ذلك المهدي، وكان السنوسيون أعظم الناس ريبةً في ذلك في وقتٍ كان كثيرون من أهل برقة والأقطار التي انتشرت فيها السنوسية عمومًا يعتقدون اعتقادًا كبيرًا بأن السيد المهدي السنوسي نفسه ابن السيد محمد بن علي السنوسي الكبير كان هو «المهدي» حقيقة، ولو أنه من المقطوع به أنه لم يكن هناك أي دليل على أن السيد محمد المهدي كان يعتبِر نفسه «المهدي المنتظر». فكان ظهور حركة محمد أحمد في السودان مَدعاة لتحريك الخواطر في البلدان التي دانت لسلطان السنوسيين عامة. زِد على هذا أن نجاح ثورة محمد أحمد في البلاد القريبة من الجهات التي انتشرت فيها زوايا السنوسية كان مصدر أخطار عدة، وبخاصة أنه كان من أهداف مهدي السودان أن ينشُر دعوته في جميع الأقطار الإسلامية، حتى لقد طلب إلى أمراء المُسلمين الاعتراف له بالزعامة من أجل تأسيس «الدولة الدينية» — أو الثيوقراطية — التي كان من المتوقَّع إنشاؤها على غرار خلافة الأئمة الراشدين في صدر الإسلام. فلم يكن محمد أحمد إذن قانعًا بتشييد مُلكه في السودان وحدَه، بل أراد أن يبسط سلطانه على ما جاوره من شعوب وأقطار، ومعنى هذا — فيما يُهم السنوسية — أنه لو أُتيح له أن ينجح لانهار صرح تلك الإمارة التي وضع أساسها السيد السنوسي الكبير ووطَّد أركانها السيد المهدي نفسه، أضف إلى ذلك أن جنوح محمد أحمد إلى الثورة وحمل السلاح في وجه حكومةٍ إسلامية على الخصوص، وكانت جزءًا في الحقيقة من أجزاء دولة الخلافة الكبرى، كان لا يتَّفق مع جوهر مبادئ وتعاليم السنوسية كما وضعها السيد المؤسس، وكما فهمها وسار عليها خليفته الأول؛ لأن دولة الخلافة ظلَّت في اعتبار السيد المهدي كما كانت في اعتبار والده من قبل ذلك السياج الذي يحوط العالم الإسلامي ويمنع عنه كيد الكائدين وطمع الطامعين، وليس من مصلحة الإسلام في شيء إضعاف دولة الخلافة، ولم تكن الدعوة إلى إيقاظ العالم الإسلامي — كما وضع أسسها السيد المؤسس، وكما فهم هذه الأسس واسترشد بها أيضًا ولده — تهدف إلى تحطيم دولة الخلافة أو الانتقاص من شأنها، وإنما كان هدفها الأول إحياء الدين وبعث الإيمان ونشر العقيدة الصحيحة قبل كلِّ شيء، ثم إنشاء الإمارة الإسلامية التي تأخذ على عاتقها الدعوة إلى دين الله الحنيف منضوية تحت لواء الخلافة والإمامة الكبرى.

ومع هذا، أو بسبب ذلك كله، عُنِي السيد المهدي من أول الأمر بضرورة الوقوف على حقيقة هذه الدعوة التي انتشرت في السودان؛ ولذلك فإنه لم يلبث أن أوفد من «واداي» رسولًا مُهمته الاستطلاع، فوصل هذا الرسول إلى الأبيض عاصمة الكردفان عقب سقوط البلدة مباشرة في أيدي محمد أحمد (يناير ١٨٨٣م)، بعد حصار استمرَّ أربعة شهور، وحدثت بسببه مجاعة مُخيفة. وعند احتلال الأبيض ارتكب أتباع محمد أحمد تحت بصرِه وسمعِه فظائع كثيرة مع السكَّان، فكان من نصيب رسول السنوسية أن يشهد أتباع «المهدي المنتظر» يقتُلون الأنفس ويسلبون الأموال ويهتكون الأعراض، فأحدثت هذه الوحشية البالغة أثرًا عميقًا في نفسه وهو الذي نشأ في أحضان السنوسية ذات المبادئ والتعاليم الإنسانية والدينية الرفيعة، وعندئذٍ قرَّر السيد السنوسي ألَّا تكون له بهذا «المهدي المنتظر» صِلة، ولو أنه وجد في الوقت نفسه من أصالة الرأي عدم استثارته إلى حدٍّ قد يدعو إلى الاشتباك معه في حربٍ لا طائل تحتها، ومن آثارها ولا شك تعطيل السنوسية عن المُضي في تأدية رسالتها الكبرى. ولكن محمد أحمد لم يشأ أن يترك السنوسية وأمرَها.

فإنه لما كان السنوسيون قد أنشئوا زواياهم في السودان الغربي حتى حدود دارفور، ثم في السودان المصري نفسه، وكثُر أتباعهم في هذه الجهات، وذاع صِيت السيد السنوسي وقويَ ساعدُه، وتوطَّدت أركان إمارته، فقد رأى محمد أحمد من أول الأمر أن يجذب إليه السيد المهدي لجُملة أسباب، لعلَّ أهمها ما كان يرجوه محمد أحمد من نشر نفوذه وامتداد سلطانه إلى الإمارات الإسلامية في أفريقية الغربية إذا دانت له السنوسية بالطاعة، وهم جماعة منظمة ذات حكومةٍ قوية الدعائم في هذه الجهات، أضِف إلى هذا ما كان يرجوه محمد أحمد أيضًا من استخدام السنوسيين في حربه المُنتظرة، وهم الذين اشتهروا بأنهم كانوا مُسلَّحين تسليحًا كاملًا ويُحسنون الرماية ويعرفون فنون الكر والفر، وكان محمد أحمد قد بيَّت النية على غزو الديار المصرية لطرد الإنجليز الكفار والأجانب المسيحيين منها، فصار يُمنِّي النفس بإمكان استمالة السنوسيين إلى مؤازرته في هذا الجهاد، وخصوصًا أن هؤلاء كان لهم في هذه الآونة جملة زوايا ويكثر أتباعهم في جهات مصر القريبة من الصحراء الغربية، ثم في الفيوم وفي بعض أقاليم الوجه القبلي.

وعلى ذلك فإن محمد أحمد لم يكد يُقرر اختيار خلفائه الأربعة على الجيش ولولاية الحكم من بعدِه — على غرار ما حدث في صدر الإسلام عند تولية الخلفاء الراشدين الأربعة — حتى عوَّل على أن يكون السيد محمد المهدي السنوسي نفسه خليفته الثالث (أي في مقام خليفة المسلمين عثمان بن عفان)، فأرسل إليه بعد سقوط الأبيض (طاهر واد إسحاق) يعرض عليه عزم محمد أحمد على أن يضعه في مقام الخليفة الثالث «لأن مقامَي الخليفتَين الأول والثاني — كما قال — قد صارا مشغولين بمن فيهما.» وفي نظير ذلك يقوم السيد السنوسي من جهته بشن الحرب على الإنجليز في مصر، فقابل السنوسي رسول محمد أحمد وقام بواجب الضيافة نحوَه، ولكنه — رحمه الله — أجاب على دعوة محمد أحمد بقوله: «كتاب محمد أحمد وصلنا، والرد عليه هو أن مقام عثمان لا ينالُه لا أنا ولا هو!» ورجع الرسول أدراجه، ومع أن خبر هذه «المفاوضة» — إن شئت أن تُسميها كذلك — كان قد ذاع في طول البلاد وعرضها، وتردَّدت الإشاعات عن قبول السنوسية العمل مع محمد أحمد، حتى تحدَّث كثيرون في ذلك الوقت عن انتقال شيخ السنوسية وزعيمها إلى الصعيد المصري تلبيةً لنداء محمد أحمد، فإن هذه الدعوة ومثيلاتها ما كانت لتلقى في الحقيقة أيَّ تأييدٍ أو استجابة من قِبل السيد السنوسي، وهو الذي كان يرى في حركة محمد أحمد — على الأقل — ثورة لا يمكن أن تؤدي إلى إحياء الدين والملَّة، ناهيك عن العوامل الأخرى التي سبق بيانها، والتي جعلت السيد يتَّخذ كل الحذَر من هذه الدعوة السودانية. وعلى ذلك فإن السيد المهدي السنوسي لم يلبث في يناير ١٨٨٤م أن طلب إلى الشعوب الإسلامية خصوصًا في واداي وبرنو والبلاد المجاورة «أن تمتنع عن تأييد مُدعي المهدية محمد أحمد الذي لم يكن إلا مُخادعًا كاذبًا!» وكان السيد قد أهمل أيضًا الردَّ على رسالةٍ أخرى بعث بها إليه محمد أحمد يطلب منه إما الهجوم على مصر وإما الحضور إليه والانضمام إلى صفوفه (مايو ١٨٨٣م).

ومع هذا وعلى الرغم من الموقف الصريح الذي اتَّخذه السيد المهدي من حركة محمد أحمد، فقد ظلَّ الدراويش في المدة التالية يتوقون إلى اجتذاب السيد إلى جانبهم، ويتنسَّمون أخباره، ويودُّون لو أنه يستمع إليهم فيقوم من جانبه بغزوة كبيرة على مصر لطرد «الكفار» منها، فقد حدث أن وقع في أيديهم أحد المُغامرين الفرنسيين «أوليفيه بين»، وكان قد شقَّ طريقَه إلى الأبيض بكل صعوبةٍ حتى يعرض على الدراويش، باسم دولته فرنسا، التأييد والمساعدة، ثم خضوع أُمته لحكومة المهدية، فلم يهتم الدراويش بدعواه قدْر اهتمامهم بالوقوف منه على أخبار السيد السنوسي، وهل قام بحملته ضد الكفار في مصر أم لا يزال مُمتنعًا عن مُناصبتهم العداء، واستطاع «بين» أن يؤكد لهم قبل موته (في نوفمبر ١٨٨٤م) أن السيد السنوسي لا يُريد الاشتباك مع الإنجليز في نضالٍ ما، وعندما تُوفي محمد أحمد (في يونيو ١٨٨٥م)، وتولَّى بعده الخليفة الأول عبد الله التعايشي، جدد الدراويش مساعيهم حتى يجتذبوا إليهم السيد السنوسي، ولكن من غير طائل. وكان موقف السيد من التعايشي كموقفِه من سلَفِه، بل إن السنوسية سرعان ما صارت مصدر متاعب متعددة للتعايشي، حتى إنه لمَّا قامت ثورة «الشيخ أبو جميزة» المشهورة في دارفور في عام ١٨٨٨م زعم كثيرون أن هذا الشيخ لم يكن سوى السيد السنوسي نفسه، أو على الأقل مندوب السيد. واستطاع أبو جميزة وأنصاره بفضل استغلالهم هذه المزاعم وادِّعائهم أنهم كانوا يتمتَّعون بتعضيد «شيخ جغبوب» أي السيد المهدي السنوسي، أن يضمُّوا إلى صفوفهم كثيرين من أهل البلاد في دارفور وبرنو وبرقو وواداي، وهي جهات انتشرت فيها الطريقة السنوسية انتشارًا كبيرًا، ثم أحرز أبو جميزة بعض الانتصارات على الدراويش وتفاقمت الثورة، ولم يُخلِّص عبد الله التعايشي من شرِّها المُستطير سوى الموقف الذي آثر أن يتَّخذه السيد السنوسي من «المهدية» وشئونها جميعًا في هذه الآونة، وامتناعه قطعًا عن التدخُّل في مصلحة الثوَّار في دارفور. حقيقة كان السيد السنوسي يرى في رغبة عبد الله التعايشي تحويل الحجِّ إلى قبر محمد أحمد بدلًا من الحجِّ إلى الكعبة بمكة المُكرمة زيغًا وخروجًا على الدين، ويؤيد في هذه المسألة موقف الشيخ أبي جميزة الذي كان يدعو إلى الدين الصحيح، ولكنه لم يشأ أن يفعل أكثر من ذلك، حتى إنه أشار على سلطان برقو — الذي كان أصحاب الثورة في دارفور قد طلبوا إليه مؤازرتها ضد التعايشي، وطلب السلطان رأي السيد السنوسي في ذلك — أن يتجنَّب الانغماس في شئون السودان ولا يُحرك ساكنًا إلا إذا اعتدى الدراويش أنفسهم على ملكه، وقد وضَّح السيد المهدي خطة «الحِياد» الدقيق هذه بقوله: «إنه إنما يُعنى بالدعوة إلى إصلاح الدين الحنيف سِلمًا لا حربًا، بينما تنفر الملَّة التي يُراد أحياؤها نفورًا عظيمًا، بل وتشتدُّ ثورتها ضد الدماء التي يُهدرها، والجرائم التي يرتكبها في السودان أمثالُ هذا المهدي المُزيف؛ ولذلك فإنه لا يريد ولا يُفكر في أن يتدخَّل في شيءٍ مما يحدث، بل من واجب محمد أحمد وخليفته هذا أن ينظرا وحدَهما في الوسائل التي تكفُل لشخصيهما النجاة أو الهلاك المُحقق»، فجاء هذا القول إعلانًا صريحًا عن عزم السيد على التمسُّك بخطة أو سياسة عدم التدخُّل في شئون السودان. وعلى ذلك فإنه بمجرد أن عُرِفت رغبة السيد السنوسي الحقيقية انفض الناس من حول «أبي جميزة»، وضعُف شأنه تدريجًا، حتى استطاع عامل الخليفة التعايشي «عثمان آدم» أن يُلحق به في آخر الأمر هزيمة منكرة في فبراير ١٨٨٩م، ثم مرض أبو جميزة بالجدري ومات في الشهر نفسه.

بيد أنه لما كان عبد الله التعايشي مع متاعبه الكثيرة لا يزال مُصممًا على غزو مصر، ولا يزال يطمع في مؤازرة السيد السنوسي على الرغم من تمسُّك السيد بموقفه، فقد أرسل إليه يطلُب منه إعلان الجهاد، ولكن على غير طائل للأسباب التي سبق ذِكرها، ولأن السيد المهدي كان لا يُريد مُناصبة الإنجليز العداء، في الوقت الذي اعتقد فيه — رحمه الله — أن خطرًا قريبًا سوف يُهدد طرابلس وبرقة من جانب الطليان، وأنه سوف يأتي يومٌ يقوم فيه الإنجليز بمحاربة هؤلاء الإيطاليين ويُخلصون البلاد من طُغيانهم؛ ولذلك لم يكن من خطة السيد ولا من سياسته إثارة عداوة الإنجليز ضدَّه أو الاشتباك معهم في نضال. أضِف إلى هذا أن الحكومة المصرية حكومة إسلامية، ولا يصحُّ لهذا السبب إعلان الجهاد ضدَّها، وهذا إلى أنها كانت لا تزال تابعة للعثمانيين وتخضع لسياسة الخليفة الإسلامي، ومعنى قِتالها الخروج على سلطان هذا الخليفة الشرعي؛ لذلك لم يُعِر السيد دعوة التعايشي أي اهتمام. وكان موقفه في هذه الظروف العصيبة بالنسبة لمصر خصوصًا يدلُّ على بُعد نظر سياسي وحكمة خليقة بهذا الزعيم الإسلامي الكبير، وزيادةً على ذلك فإن السيد في هذه الآونة كان لا يزال مُهتمًّا بنشر دعوة الإسلام في واداي وبرنو وكانم وأداموا وبرقو والداهومي وغيرها، فلم يشأ أن يثنِيَه شيء عن عزمه هذا في خدمة الإسلام ونشر الدين الحنيف.

ولمَّا لم يُجِب السيد لذلك دعوة التعايشي، قرَّر خليفة محمد أحمد الانتقام من السنوسية، فزحف الدراويش من دارفور في عام ١٨٩٠م حتى بلغوا حدود واداي، ولكن سلطانها يوسف، الذي اعتلى العرش بتأييدٍ من السيد المهدي نفسه وكان عظيم الإخلاص والولاء له، لم يلبث أن قام يَرُد الدراويش عن بلاده، فأوقف زحفهم، ثم لم يستطع التعايشي في الأعوام التالية فعل شيءٍ ما دام يوسف على عرش السلطنة. واستمرَّ الحال على ذلك حتى تولَّى السلطان إبراهيم عرش واداي في عام ١٨٩٨م، فلم يلبث إبراهيم أن أظهر علاقاته مع السنوسية؛ ما كان يدل على أنه يريد مقاومة نفوذ السيد المهدي في بلاده. وعزا المؤرخون ذلك إلى تحريض عبد الله التعايشي له من أم درمان حتى ينقلِب ضد السنوسية ويعمل على عرقلة مصالحهم، ولكن أيام التعايشي نفسه وقتئذٍ كانت معدودة؛ لأنه سرعان ما انهزم على أيدي المصريين والإنجليز الذين هبُّوا لتخليص السودان من طغيان «المهدية»، فأوقعوا بجيوش الخليفة هزيمة نكراء في واقعة أم درمان المشهورة في ٢ سبتمبر من العام نفسه، ثم لم يلبث أن انهزم التعايشي نفسه وقُتل في واقعة «جديد» في ٢٤ نوفمبر ١٨٩٩م. وبذلك انقضى نهائيًّا كل خطر كان يُهدد السنوسية من ناحية السودان.

ومع هذا فإنه مما يجِب ذكره أن الأخطار الحقيقية التي تعرَّضت لها السنوسية في هذه الآونة، ثم من عدة سنوات مضت، لم يكن مصدرها في الواقع حركة محمد أحمد وخليفته في السودان، وإنما كان منشؤها (أولًا) ما طرأ على علاقات السنوسية بدولة الخلافة (تركيا) من تغييراتٍ كادت تؤدي إلى انفصام هذه العلاقات، لولا ما أظهره السيد المهدي من حصافة رأيٍ ومهارة سياسية، ولولا ما كان يرجو تحقيقه السلطان العثماني عبد الحميد على أيدي السنوسية ذاتها من آمال وأغراض. و(ثانيًا) تقدُّم النفوذ الفرنسي في أفريقية الغربية، ومُناصبة دولة فرنسا الكبيرة العداء للسنوسية لدرجة اشتعال نيران الحرب بين الفريقَين واشتباكهما في نضالٍ شديد لم يُخفف من وطأته سوى نجاح الفرنسيين في نوال أغراضهم في أفريقية الغربية والوسطى، ثم إغارة الطليان الغادرة على طرابلس الغرب.

أما العلاقات بين دولة الخلافة الإسلامية والسنوسية فقد سبق ذِكر شيء عن حقيقتها عند الكلام عن أهداف صاحب الدعوة ومؤسس الطريقة السيد محمد بن علي السنوسي. وممَّا هو جدير بالذِّكر أن الوالي العثماني في طرابلس الغرب «علي أشقر باشا» كان يُكرم السيد المؤسس إكرامًا عظيمًا، ويعتمد على السنوسية ونفوذها في حكومة دواخل برقة خصوصًا، واعترفت الدولة للسيد عن طريق والِيها بالزعامة والإمارة، ثم بلغ من صفاء المودة بين الحكومة العثمانية ومؤسس السنوسية أن الدولة منحت السنوسيين «فرمانات» سُلطانية بأيديهم أعفتهم بها من الأموال الأميرية والأعشار الشرعية. ثم هي لم تكتفِ بهذا بل ذكر المؤرخون أن السيد محمد بن علي السنوسي الكبير لم يلبث أن نال من السلطان العثماني عبد المجيد (١٨٣٩–١٨٦١م) في عام ١٢٧٢ هجرية (و١٨٥٥ ميلادية) فرمانًا جعله بمثابة الأمير المُستقل بإماراته تمامًا، وحدث هذا في أثناء إقامة السيد بزاوية العزيات. ومع هذا وعلى الرغم من ميل الحكومة العثمانية الظاهر لاكتساب ودِّ السيد وصداقته، فقد ظلَّ — رحمه الله — مُتخذًا كل حيطةٍ وحذَر من دولة الخلافة لأسبابٍ أجملناها فيما سبق، لعلَّ أهمها أنه كان يعتبرها مسئولةً عما لحق ببعض الأقطار الإسلامية من أذًى بالغ بسبب سقوطها في أيدي المُستعمرين الأجانب، أو بسبب تغلغل النفوذ الأجنبي في بعضها الآخر. أضف إلى هذا اشتداد موجة المُعارضة ضدَّه وضد تعاليمه ومبادئه ودعوته إلى الإصلاح الديني في الآستانة عاصمة دولة الخلافة ذاتها، وفي غيرها من أمَّهات مدن العالم الإسلامي الخاضع لسلطان تركيا في تلك الآونة، مثل مكة والقاهرة، إذ من المعروف — على نحو ما سبق بيانه — أن علماء هذه العواصم المُتمسِّكين بالقديم، كانوا ينعون على السيد قوله إن الاجتهاد لم ينقطع، وأنه ليس من مصلحة الدين في شيءٍ أن يظلَّ العلماء مُصفَّدين بأغلال التقليد. والدليل على حذَر السيد هذا أنه اختار عند عودته الأخيرة من الحجاز الإقامة بزاوية العزيات البعيدة عن الساحل (١٨٥٤م)، ثم لم يلبث بعد ذلك أن انتقل إلى زاوية الجغبوب في جوف الصحراء في أكتوبر ١٨٥٦م، وفي الجغبوب زاد نفوذ السيد وبلغ ذروته حتى أصبح سيد الصحراء المُطلق، ولم يُصِب علاقته بالدولة أي تغيير بسبب ذلك، بل ظل الولاة العثمانيون في برقة وطرابلس يخطبون ودَّه ويحرصون على صداقته حتى وفاته في عام ١٨٥٩م.

وفي عهد خليفته الأول السيد محمد المهدي بقِي السنوسيون في سلامٍ مع دولة الخلافة، ولو أن «دوفرييه» يذكر أن العلاقات في أواخر أيام السلطان عبد المجيد كانت مُتغيرة، بسبب ما أظهره السلطان العثماني من مَيل إلى «التقليل من أهمية السيد السنوسي»، حتى إن السيد في عام ١٨٦١م لم يلبث — كما قال «دوفرييه» — «أن وضع السلطان تحت الحرمان!» أي أنه أصدر ضد السلطان العثماني قرارًا بحرمانه من الرحمة والمغفرة على نحو ما كان يفعله الباباوات مع أباطرة أوروبا في العصور المتوسطة. ومع أنه من الجائز أن يكون السلطان عبد المجيد بعد وفاة السيد المؤسس قد بدأ يُظهر عدم اهتمامه بالسنوسية لصِغر سِن السيد المهدي بشكلٍ جعل السيد مع مُستشاريه في تلك الآونة يُعلنون أن السلطان العثماني قد أصبح «مهجورًا»، على عادة السنوسيين كلما أرادوا إظهار غضبِهم من إنسانٍ وقطيعته، بسبب عمل لا يرضى عنه الدين الصحيح وتنفر منه «الطريقة»، وقد يكون هذا ما وصفه «دوفرييه» بأنه قرار حرمان صادر ضد السلطان العثماني — فقد تعذَّر من جهةٍ أُخرى العثور على ما يثبت قول «دوفرييه» هذا. ومع هذا فلعلَّ أهم ما تجدُر ملاحظته في هذا الحادث، سواء أثبَتَ وقوعه أم لم يثبُت، أن دولة الخلافة لم يكن يُرضيها في الواقع أن تقوى شوكة السنوسية لدرجةٍ تُهدد معها الخلافة ذاتها إذا رغبت فعل ذلك.

والثابت أن نفوذ السنوسية سرعان ما بلغ ذروته في الأعوام القليلة التالية في الأقطار الليبية والصحراء الغربية حتى جهات تشاد، حتى إن مقدمي الزوايا وشيوخها بهذه الأصقاع البعيدة، أصبحوا بمثابة الحكام المُستقلين الذين لا يعرفون غير سلطة السيد المهدي السنوسي نفسه، ولا يعبئون بسلطةٍ غيرها. يدلُّ على هذا ما ذكره «دوفرييه» عن حادثٍ وقع له نفسه أثناء زيارته لزاوية «زويلة» في الفزَّان، ويُسميها «دوفرييه» «مدينة الفزان المقدسة» في عام ١٨٦١م، فمع أنه كان مزوَّدًا بفرمان من السلطان العثماني عبد المجيد لتأمينه ولتسهيل أسفاره، وكان يصحَبه جماعة من الشرطة (أو الجندرمة) من قبل حاكم المقاطعة، فإن مُقدم الزاوية وشيخها لم يهتم بهذه التوصيات والأوامر، وصمَّم على ضرورة انسحاب «دوفرييه» ورفاقه من الزاوية بكل سرعة، ولم يسَعِ الفرنسي ورجال «الجندرمة» سوى الامتثال لأوامر المقدم السنوسي. وقد سبق ذكر ما شهده الرحَّالة «ناختجال» عند زيارته لزاوية «شمندرو» في «الكوار» في عام ١٨٧٠م من خضوع الحاج محمد أبو عايشة رسول المشير العثماني علي رضا باشا والي طرابلس الغرب وقتئذ، وكان مُوفدًا في مهمة إلى بلاد «برنو»؛ إذ كان واضحًا أن المقدم السنوسي في «كوار» يتمتع باحترام ونفوذ عظيمَين، ويعترف رسول الوالي العثماني بهذه الحقيقة. أضِف إلى هذا أنه كان في أثناء هذه الفترة القصيرة أن استطاع السنوسيون إنشاء زواياهم ونشر نفوذهم في بلاد «تبو» و«التوارق» على نحو ما تقدَّم.

وكان من أسباب ازدياد نفوذ السنوسية في هذه الأصقاع، ولا شكَّ، بُعد الزوايا الجديدة عن مقرِّ السلطات الحكومية في برقة وطرابلس من جهة، ثم حرص دار الخلافة على استبقاء علاقات المودَّة والصفاء مع السنوسيين من جهةٍ أخرى. واستمر الحال على ذلك حتى اعتلى العرش السلطان عبد الحميد (١٨٧٦م). وكان أول حادث أظهر للسلطان الجديد قوة السنوسية واستقلالها الفعلي، امتناع السيد المهدي عن إرسال نجداتٍ من الأقطار البرقاوية الطرابلسية لمساعدة الدولة في حربها المشهورة مع الروسيا في عام ١٨٧٧م؛ ولذلك كان أول ما عُني به السلطان عبد الحميد الوقوف على حقيقة الدعوة السنوسية والتأكُّد من نيَّاتها نحو الخليفة العثماني.

وفي الواقع لم يلبث أن أدى اهتمام الخليفة في هذه الآونة إلى بداية صفحة جديدة في تاريخ العلاقات بين دولة الخلافة الإسلامية وبين الإمارة السنوسية، بل إن هذه الصفحة الجديدة كانت لا تقل في خطورتها عن سابقتها؛ وذلك لأسبابٍ من أهمها أن السلطان العثماني سرعان ما صار يتَّخذ الدعوة إلى «الجامعة الإسلامية» قاعدة لسياسته العربية الشرقية، كما هو ذائع ومعروف، وصار يبذل في سبيل تشييد هذه «الجامعة» قصارى جهدِه ونشاطه، ثم لم يكن من سياسته، من أجل تحقيق أهدافه، استعداء الإمارات الإسلامية الكبيرة ضد حكومته، بل وجد في الاعتراف بهذه الإمارات خير طريقةٍ عملية تكفُل انضواءها جميعًا تحت لواء الخلافة وتضمَن عدم خروجَها على دولتها، وكانت الدولة العثمانية وقتئذٍ أشدَّ ما تكون حاجة إلى العصبية الإسلامية تشدُّ بها أزرَها وتُقوِّي ساعدها أمام مطامع الدول الأجنبية التي ما فتئت من مدة طويلة تتحيَّن فرصة موت رجل أوروبا المريض حتى تنقض على ممتلكاته في أوروبا وفي خارجها، ولما كان ظلُّ دولة الخلافة قد أخذ يتقلَّص رويدًا رويدًا في أفريقية الشمالية، وبدأت الدول الأوروبية المُستعمرة تمدُّ نفوذها تدريجيًّا من شواطئ الأطلنطي إلى قلب الصحراء، وتُهدد الإمارات الإسلامية وغيرها في أفريقية الغربية والوسطى، حتى بات من المنتظر عاجلًا أو آجلًا أن يزحف هؤلاء المُستعمرون على حدود ولاية برقة وطرابلس الجنوبية والغربية؛ فقد صار لذلك كله من الواجب على الخليفة العثماني أن ينظر في خير الوسائل التي يستطيع بها دفع هذا الخطر. وفي هذه الظروف كان في بقاء الإمارة السنوسية ذات السطوة والسلطان في الأقاليم المُمتدة من شاطئ البحر الأبيض شمالًا إلى بحيرة تشاد جنوبًا، ما يدفع غائلة المُعتدين ويصون الأقطار الليبية، على الأقل، من عدوان الدول المستعمرة ويعود على دولة الخلافة الإسلامية ذاتها بفوائد عديدة، ما دامت هذه الإمارة السنوسية مُنضوية تحت لوائها. وكانت هذه الحقيقة الأخيرة هي التي جعلت السلطان العثماني يحاول أن يعرف نوايا السنوسيين الصحيحة حتى يطمئن إذا كان هؤلاء، بزعامة السيد المهدي، يُخلصون للدولة ولا يحملون في قلوبهم سوى الولاء الصادق للخليفة العثماني.

وكلف السلطان بهذه المسألة رجال حكومته في بنغازي، فلم يلبث هؤلاء أن أرسلوا التقريرات الوافية إلى دار الخلافة، وصاروا يؤكدون للسلطان عبد الحميد أن السيد المهدي عَضُد قوي للدولة في الحقيقة، وأن في استطاعة الحكومة العثمانية أن تعتمِد على مساعدته وقتَ الحاجة؛ لأن السيد، كما قالوا، إنما يربطه بدولة الخلافة الإسلامية الوفاء والإخلاص الكامل والطاعة التامَّة؛ فاطمأن عبد الحميد إلى السنوسية، وشرع يعمل من ذلك الحين على كسب مودة السيد المهدي، ويحرِص على استبقاء صداقته، وهذا على الرغم من مساعي بعض رجال الترك في الآستانة الذين ساءهم صفاء العلاقات بين السلطان العثماني والسيد العربي، فأكثرَ السلطان من إرسال الكتُب والهدايا إلى السيد، وصار من الميسور تجديد «الفرمانات» التي أعفت السنوسيين من الأموال الأميرية والأعشار الشرعية.

وكان من آثار دعم هذه الروابط بين السلطان والسيد أن وجدت الدعوة السنوسية أتباعًا أقوياء لها في الآستانة، عندما استمر أحد كبار الطرابلسيين الذين كانوا في الأصل من أتباع «السادة المدينية» — وهي من الطرائق التي انتشرت عن طريقها الدعوة السنوسية ذاتها — يُقيم في قصر يلدز ويُشرف على توجيه السياسة الإسلامية الجديدة، ويسهر على مصالح السنوسية، وهو الشيخ محمد بن جعفر أستاذ السلطان القديم وصاحب الأثر الظاهر في سياسة الدولة الإسلامية بين عامَي ١٨٧٩م و١٨٨٣م. وكذلك وجدت السنوسية أتباعًا لها بين كبار رجال الدولة الآخرين، ومن أشهرهم «رضا بك» أحد أعضاء المجلس الخاص. وكما ظهر نفوذ السنوسية في الآستانة لم يلبث أن عظم شأن شيوخها ومُقدمي زواياها في الأقطار الليبية، فكان مُقدم الزاوية في بنغازي سيدي عبد الله بن زناد المريني هو صاحب الكلمة العُليا (١٨٨٤م)، وليس للمُتصرِّف (أو الحاكم) التركي بجانبه أي نفوذٍ أو سلطان، بل إن كبار موظفي الترك وحكامهم صار لا يَعنيهم في هذه الآونة سوى إرضاء السنوسيين وكسب مودتهم وصداقتهم، حتى إن والي برقة العثماني «علي كمالي باشا» كان يعتبر نفسه «أولًا وقبل كل شيء خادمًا للسيد السنوسي ومن أتباعه، ثم موظفًا وحاكمًا عثمانيًّا بعد ذلك»، وعندما نُصِّب بعدَه الحاج رشيد باشا واليًا على برقة (١٨٨٦م)، وكان من الإخوان السنوسيين، عظم شأن السنوسية؛ لأن رشيد باشا كان لا يقلُّ عن سابقه بطبيعة الحال ولاءً وإخلاصًا للسنوسية وسياستها، وهكذا استمر مقدم السنوسية في بنغازي «سيدي عبد الرحمن المقبوض» يتمتَّع بكل نفوذٍ وسلطة وينال من الحكومة العثمانية — كما فعل سيدي عبد الله بن زناد من قبل — مرتبًا شهريًّا منتظمًا. وأما مُقدم السنوسية في طرابلس، فكان في ذلك الحين سيدي حمزة بن جعفر شقيق السيد محمد بن جعفر مستشار السلطان عبد الحميد السابق. وكان من أثر ازدياد سطوة السنوسية في برقة-طرابلس أن الإخوان في الزوايا الساحلية صاروا مُعفَين رسميًّا من الأموال الأميرية والأعشار الشرعية، بينما كانوا لا يقدمون إلى الحكومة في الزوايا الأخرى الكبيرة في طرابلس والخمس وبنغازي إلا ما يرَونه مُلائمًا لمصالحهم. زد على هذا أن السلطة الحقيقية — من روحية وزمنية — على الأهلِين، كانت بأيدي شيوخ الزوايا، وخصوصًا في ولاية برقة، حيث خضعت للسنوسية جميع القبائل تقريبًا ما عدا قبيلة المغاربة التي امتدَّت مظاعنها إلى الغرب من بنغازي حتى «سرت»، وكان يشغل الوظائف القضائية والمدنية المهمة سنوسيون. ولما كان نشاط السيد المهدي في أثناء ذلك كله يمتدُّ خلاف الآستانة وبرقة وطرابلس إلى جهات أخرى عديدة سبقت الإشارة إليها، فإنه لم يأتِ عام ١٨٨٨م حتى كان السيد المهدي يتمتع بشهرةٍ بعيدة، ولدرجة أن السلطان العثماني بدأ من جديد يشعر بالقلق من ناحيته وتساوره الشكوك في نوايا السيد وأغراضِه.

وكان من أسباب قلق السلطان وإثارة مخاوفه ما شهِده من المساعي التي بذلتها بعض الدول لأغراضٍ سياسية حتى تستميل السيد المهدي إلى جانبها، وهي المساعي التي سبق ذكرُها، ثم اتساع نفوذ السنوسية في أفريقية خصوصًا في «واداي»، ودعم صِلاتها بالإمارات المجاورة وإنشاء الزوايا الكبيرة في جوف الصحراء لنشر تعاليم الدين الإسلامي الصحيح وهداية الوثنيين في هذه الأصقاع النائية والتي كان يحاول المُبشرون الأجانب استمالة أهلها إلى اعتناق المسيحية. وفي الواقع لا نكون مُغالين إذا اعتبرنا أن منشأ مخاوف السلطان العثماني من السيد المهدي كان مَسعى الدول الأوروبية في الآستانة وتكرُّر شكواها من السنوسيين الذين عطَّلوا بنشاطهم دعوى مُبشري «الرسالات المسيحية» في أفريقية الغربية، فصاروا يصفون السنوسيين بأنهم أصحاب السلطان المُطلق في الصحراوات الأفريقية والأقطار البرقاوية الطرابلسية، كما طفقوا ينشرون الشيء الكثير عن مبلغ استعداداتهم العسكرية في مقرِّ دعوتهم الرئيسي في «الجغبوب» وفي غيرها من الزوايا، وبخاصة زاويتي الغزيات والنجيلة، وما كان لهم من قوة عظيمة في ولاية برقة تبلُغ الألوف العديدة من مشاةٍ وفرسان. كما أنهم صاروا يعزون إلى السيد المهدي الرغبة في إنشاء ملكٍ عضود تحت سيادته المُستقلة يضمُّ أكبر جزءٍ من القارة الأفريقية من حدود مصر شرقًا إلى ساحل الأطلنطي غربًا، ومن شاطئ البحر الأبيض شمالًا إلى بحيرة تشاد جنوبًا، ممَّا كان من شأنه جميعه إثارة الشكوك في نفس السلطان عبد الحميد من ناحية أغراض السنوسيين البعيدة والقريبة، ثم زاده إمعانًا في مخاوفه وشكوكه تلك الخطة التي اختطَّها السيد المهدي لنفسه ومدارها إهمال مساعي الدول الأوروبية لديه، ثم المُضي في تنظيماته وتشكيلاته بدلًا من التراخي الذي كانت ترجوه وتطلبه هذه الدول من ناحيته، حتى كثرت زوايا السنوسيين ونفذت دعوتهم إلى جوف الصحراء الكبرى، وأقبل يعتنق الإسلام أقوام كثيرون، فهال أمر هذه التنظيمات والتشكيلات عبد الحميد، وكان أعظم ما يخشاه قيام «مهدي» أشد خطرًا على دولته وخلافته من محمد أحمد مهدي السودان.

وعلى ذلك قرَّر السلطان أن يستوثق مرة أخرى من أمر هذه الإمارة، وأن يقِف على مبلغ الأخبار والأقوال التي بلغته عن السنوسية من الصحة، فكانت هذه الرغبة سببًا في إرسال الحاج رشيد باشا والي بنغازي (برقة) في وفدٍ كان من بين أعضائه عاصم بك المؤيد — من آل العظم المعروفين بدمشق الشام وأحد حجَّاب السلطان — لزيارة السيد المهدي في مقرِّه بواحة الجغبوب، وذلك في عام ١٨٨٩م (١٣٠٧ هجرية). ولمَّا كان السيد المهدي لا يُضمر في الواقع إلا كلَّ خير لدولة الخلافة، وكان رشيد باشا رسول السلطان من الإخوان السنوسيين، فقد لقي الوفد كل حفاوةٍ وتكريم. وعندما قال رشيد باشا: «إن السلطان يعتقد بوجود خزائن ملأى بالأسلحة والذخائر والقذائف لدى السنوسيين»، قام السيد المهدي وفتح خزائن الكتب الموجودة بالزاوية أمام رشيد باشا وقال مشيرًا إليها: «هذه خزائننا!» والحقيقة أن السيد استطاع بسهولة أن يُدخل الطمأنينة على نفوس أعضاء الوفد، حتى غادروا الجغبوب وهم يعتقدون أن السيد السنوسي لم يكن إلا هاديًا ومرشدًا، وأنه لا ينفكُّ يدعو المولى سبحانه وتعالى أن يجعل النصر والتأييد من نصيب الدولة العثمانية، وأن يهب الخليفة التوفيق والنجاح، وكانت هذه الأخبار، ولا شك، مطمئنة للسلطان وارتاح بالُه من ناحية السنوسية.

ولكن الدول الأوروبية سرعان ما جدَّدت شكواها من نشاط السنوسيين، فتحرَّج مركز السلطان واضطرَّ إلى مصارحة السيد المهدي بحقيقة الموقف. ويذكر الأمير شكيب أرسلان — رحمه الله — قصة مساعي الدول هذه وآثارها كما رآها في تاريخ السيد أحمد الشريف الذي سبقت الإشارة إليه مرارًا، وكان السيد أحمد الشريف نفسه قد أطلعه على هذا التاريخ، فأنشأ يقول: «وطالما ضغطت دول أوروبا على السلطان لأجل أن يستدعي سيدي المهدي إلى الآستانة ويأمُره بالإقامة بها ولا يأذن له بالعودة إلى وطنه، ليخلو للأوروبيين الجو في تقسيم أواسط أفريقية وخفض الشوكة الإسلامية في تلك الديار، فكان السلطان يُماطل هاتيك الدول، ويعتذِر لهم بصنوفِ الأعذار، بل كان يُلاطف السنوسي كثيرًا بالهدايا والكتابات، إلى أن اشتدَّ الضغط على السلطان في قضية السنوسي، فأرسل رجلًا اسمُه عصمت بك إلى بنغازي ومنها إلى الجغبوب بمأمورية سرية، فبلغ المهدي ما هو عليه السلطان من الارتباك من جهة ضغط الدول عليه في أمر الدعاية السنوسية، فأجاب السيد المهدي بحسب ما قرأتُ في التاريخ الذي تقدَّم ذكره بكلام لا يتضمَّن نفيًا ولا إيجابًا، وإنما تلا له آيات كريمة في معنى الاتكال على الله، ولكن السيد المهدي لم يُعتِّم بعدها أن فارق جغبوب إلى واحة الكفرة وبنى فيها زاوية التاج، وعمر الكفرة عمارة جعلتها جنةً في وسط الصحراء».

هذا وقد ذكر بعض من شهدوا هذه الحوادث أنه أُشيع وقتئذٍ، عند قدوم هذا الرسول العثماني، أنه كان موفدًا إلى السيد المهدي من قبل «مجلس الأعيان» بإستانبول، ولو أن هذا المجلس ما كان يستطيع أن يفعل ذلك في الحقيقة من غير موافقة السلطان عبد الحميد وأمره.

وظاهر من القصة التي رواها الأمير شكيب — وهي قصة صحيحة في جوهرها، وتفاصيلها — أنه كان من أثر زيارة عصمت بك لجغبوب أن السيد المهدي لم يلبث أن قرَّر بعدها مغادرة الجغبوب إلى الكفرة. ويؤيد هذه الرواية ما جاء في ذلك الجزء الذي وقع بأيدِينا من تاريخ السيد محمد الشريف، ويبدأ هذا الجزء بذِكر «حكايتَين عجيبتَين عن الأستاذ (أي السيد محمد المهدي) رضي الله عنه، عندما أُمر بالخروج من الجغبوب وشقَّ ذلك على أهلها»، ويقصد السيد أحمد الشريف (بالأمر) إرادة المولى جلَّ شأنه، وهما حكايتان يُشير مضمونهما إلى السبب الذي دعا السيد المهدي إلى الخروج من الجغبوب والارتحال إلى الكفرة. ويؤخذ من الحكاية الأولى أن من الخير لكلِّ لجماعة أن يبقى زعيمها ورئيسها في حفظ وصون؛ لأنه «متى كان الرأس موجودًا، فالذي يذهب (غيرُها) يأتي الله بمَن يكون مثلَه أو فوقَه أو دونه»، ويؤخذ من الحكاية الثانية أنه من الخير الانتقال إلى محلٍّ أكثر أمنًا وأبعد منالًا في الجنوب إذا تحوَّلت أنظار الناس إلى الجغبوب، قال السيد المهدي رضي الله عنه: «رأيتُ نفسي فوق جبل مُتسع، وهو جبل يراه الذاهب إلى قارة الشهيبات، مع رجلٍ من الصالحين السائحين بالجهة الجنوبية من أرض الجغابيب، فذهب بي إلى حافة الجبل، وإذا بالناس يمرُّون من تحته ما بين رايح وغاد، ويرفعون بعض الأحيان وجوههم إلى أعلى الجبل ولا يرَون شيئًا، يظهر ذلك من رؤية أعيُنهم فقال لي: أتراهم ينظروننا؟ فقلتُ له: لا، فقال: وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون! فما داموا على هذه الحال فأنتم مستقرون في محلكم الآن، فإذا التفتوا إليكم فارحلوا هكذا، وأشار إلى جهة الجنوب، ثم تنحَّى عن حافة الجبل وجلس فجلستُ معه، وتحدَّثنا ساعة، فطلع لنا رأس إنسان من ناحيةٍ وطأطأ رأسه، ثم آخَر من جهة أخرى وطأطأ أيضًا، فقال الصالح: هيا! وأشار بيدِه إلى الارتحال، وقام مسرعًا …»

وكانت مساعي الدول الأوروبية في الآستانة ضد السيد من ناحية، ثم إرسال الرسل والوفود من قِبل السلطان إلى السيد للاستطلاع ولإخباره بشكايات هذه الدول، وتحرُّج مركز السلطان بسببها من ناحيةٍ أخرى، دليلًا كافيًا على أن الجغبوب قد أصبحت موضع أنظار الجميع، وأن السلامة صارت تقضي بالانتقال منها والتوغُّل جنوبًا في الصحراء إلى مكانٍ يكون أكثر أمنًا من سابقه، وبعيدًا عن نفوذ الدول وتقلُّبات السلطان العثماني نفسه، وهكذا قرَّر السيد الارتحال من الجغبوب إلى الكفرة.

«ففي يوم الاثنين الموافق تسعة من شهر شوال» (١٣١٢ﻫ)، والموافق ١٥ أبريل ١٨٩٥م، «دخلا (أي السيد المهدي وشقيقه السيد محمد الشريف) الروضة الشريفة (حيث ضريح والدهما السيد محمد بن علي السنوسي الكبير) للوداع … وفي صبيحة يوم الخميس الموافق اثنين وعشرين من الشهر المذكور (و١٨ أبريل ١٨٩٥م) ودَّعا الأهل والإخوان … وفي عشية ذلك اليوم المذكور كان ارتحالهما من زاوية الجغبوب متوجِّهَين إلى الكفرة»، فكانت رحلة طويلة استغرقت شهرَين تقريبًا، كتب أخبارها مُفصَّلة في تاريخه السيد أحمد الشريف، وكان قد رافق والده السيد محمد الشريف في هذه الرحلة، فوصف الأودية وكثبان الرمال والواحات الصغيرة والحطايا (جمع حطية) المبعثرة على طول هذا الطريق الصحراوي، والجبال (أو القارة والقارات)، كما ذكر أنواع النبات التي تنمو في هذه الجهات، والحيوان الذي يعيش بها. هذا عدا ما أثبته من الحوادث التي وقعت لهم في أثناء سيرِهم، فكان من بين الحطايا التي نزلوا بها واستسقَوا من مائها حطية الزربي وأبي سلامة وأبي علاوة، وهذه الحطية الأخيرة كان السيد محمد بن علي السنوسي الكبير قد مرَّ بها، ثم مرُّوا بآبار الطرفاوي والسانية. وحدث في أثناء نزولهم (بحجر البقر) أن قدم عليهم جماعة من ناحية العقبة من محلٍّ يُقال له الأخصاب وبه زاوية الأستاذ رضي الله عنه وأهلها يُقال لهم عائلة بو امصيبع، وأتوا معهم بكُتب من إخوان زاوية الجغبوب، ثم مرُّوا على «قارة» تُسمى «بالفرهودي» ثم نزلوا بعد ذلك بحطية خود. ومن الحطايا التي نزلوا بها حطية المُحطم.

وفي أول مايو ١٨٩٥م ضربوا خيامهم بوادي قطمير، ويقع شرقي بلدة جالو، وبينَه وبينها مسيرة نصف يوم، وأقاموا بهذا الوادي ستة أيام، وأرسلوا إلى الوكيل الموجود بزاوية جالو حتى يُمدَّهم بما يحتاجون إليه من «العلف»، فسمع الأهلون بذلك، «فجاءوا بخيرٍ كثير من كل ما يحتاج إليه تبرُّعًا منهم، وطلبًا للثواب من الملك الوهاب. وقدم في هذا الوادي خلق كثير من المَجابرة والأواجلة والزوية أكثر من ألف نفر، وقدَّموا من الأغنام وغيرها شيئًا كثيرًا، وقدم قائمقام ذلك البلد ومعه نحو عشرين من عسكره والقاضي والكاتب، فأجزلوا لهم الضيافة وأنعموا عليهم غاية الإنعام رضي الله عنهم … (ثم) قدم السيد محمد ابن الشفيع، وهو من الذين رافقوا «السيد محمد بن علي السنوسي الكبير» في تغريبته الأولى من الحجاز إلى ناحية الجبل الأخضر»، ثم ارتحلوا من وادي قطمير ونزلوا في زاويته، وكان السيد السنوسي الكبير «يحرض على عمارتها كثيرًا»، ولو أنها بعد إنشائها لظروفٍ منوعة أهمل شأنها، ثم نزلوا بمحلٍّ يُقال له «الأثيلة». وفي يوم ٢٥ ذي القعدة ١٣١٢ﻫ (٢٠ مايو ١٨٩٥م) بلغوا حطية تازربو بعد اجتياز مفازةٍ صعبة المسالك، وتازربو هذه أول وادي الكفرة، وهي الكفرة البحرية، وقد بنى السيد المؤسس الكبير زاويةً في محلٍّ يُقال له الوادي، وسكَّانها عرب يُقال لهم «أزوية»، وفي هذه الحطية مرِض السيد محمد الشريف مرضًا شديدًا، ثم نزلوا بحطية «بالزيمة». ويقول السيد أحمد الشريف: «أن السايح البروسي — ولعله يقصد جيرار رولف الذي زار الكفرة في عام ١٨٧٩م — الذي أتى إلى الكفرة سابقًا قال: هذه الحطية فيها ثلاثة معادن، ذهب ونحاس وحديد»، ثم قصدوا حطية ربيانة. وأخيرًا في يوم الثلاثاء ١٧ ذي الحجة ١٣١٢ﻫ (١١ يونيو ١٨٩٥م) دخلوا زاوية الجوف «التي هي المقصود من هذا السفر».

واحتفل احتفالًا عظيمًا بقدوم السيد أهل الجوف وأهل الحطايا المُجاورة، وهي بومة وبويمة وبوام وبويم والزُّرق والتوبات والطُّلَيليب والطلاب والهوَّاري والهويويري والعزيلة والأراك، ويُقال لها جميعها حطايا قبابو، «وأكثر سكانها قبيلة من العرب يُقال لهم «أزوية» وهم الكثر، وقبيلة من السودان يُقال لها تباوية»، ثم جاءت الوفود ترحب بالسيد من كل مكان، وكان من بين الذين حضروا للزيارة والترحيب أحد كبار الإخوان ومُقدميهم سيدي محمد بن عبد الله السني «في نفر من جهة فزان». وأما السيد المهدي فقد مكث بالجوف ثلاثة شهور تقريبًا، وكان أول ما عُني به أنه أرسل في ٢٥ ذي الحجة — ١٩ يونيو — «المُرتضى بن أبي خريص» يحمل كتابًا إلى يوسف سلطان واداي، يُخبره فيه بوصوله إلى الكفرة، كما أرسل آخر يُدعى «رقاحة» بكتابٍ إلى «والي ولاية بنغازي»، وفي ٢ يوليو «وصل سيدي محمد بن عبد الله التواتي من الجغبوب ومعه كتب من أهلها»، وفي ربيع أول عام ١٣١٢ هجرية (وأغسطس ١٨٩٥م) شرع السيد في بناء زاوية جديدة اختار لها موقعًا منيعًا فوق جبل شامخ بحري زاوية الجوف، وسمَّاها «التاج»، ثم أرسل بعض الإخوان لبناء زاوية أخرى في «ربيانة»، وكان الذي أنشأ زاوية الجوف عمر أبو حواء، أحد تلامذة السيد محمد بن علي السنوسي الكبير، وقد أطلق عليها اسم «زاوية الأستاذ» تكريمًا للسيد المؤسِّس.

وأما انتقال السيد من الجغبوب إلى الكفرة فقد أحدث، كما قال بعض المؤرخين، «تضاربًا في الأفكار، حتى خاض الناس في أسبابه كثيرًا، فقال بعضهم إنه لما استقرَّ قوم الإنجليز بمصر أجفل السيد السنوسي ووضع نصب عينَيه الابتعاد في الصحراء وانتجاع واحة تكون أقصى من جغبوب مكانًا وأعز منالًا. وقال آخرون: بل إن السيد منذ زمن مديد كان يتكهَّن بوقوع الحرب مع الطليان، وأن هؤلاء لا بد في يوم من الأيام أن يغزوا طرابلس وبرقة، فشرع يُهيئ أتباع الطريقة للمقاومة، ويُعلِّم فضائل الجهاد.» كما عزا آخرون هذا الانتقال إلى رغبة السيد في «أن يجعل مركزه بعيدًا ما أمكن عن مطارح أنظار الدول الاستعمارية، ليخلو له الجوُّ في تجهيز قوته وبثِّ دعوته، فانتبذ هذا المكان القصيَّ في الصحراء في المنطقة الوسطى بين ساحل البحر الأبيض المتوسط والسودان.» زِد على هذا أن السيد كان يقصد من وجوده بالكفرة — إلى جانب الدعوة إلى الإسلام بين شعوب التبو والتوارق والسودان وغيرهم — أن ينشُر العمران في هذه الواحة «الكفرة»، ويَبني الزوايا التي هي دائمًا وسيلة لازدياد الغرس والفلاحة وترقية العقول والمدارك. وفي رأي بعض الكتاب أن زيارة الحاج رشيد باشا للسيد في الجغبوب في عام ١٨٨٩م كانت من الأسباب التي جعلته يُدرك أن قربَه من مقر الحكومة والولاة العثمانيين مَجلبة للأخطار، وأن من واجبه الابتعاد ما أمكن عن بنغازي وطرابلس، وخصوصًا بعدما اتجهت إليه أنظار الدول الاستعمارية وكثرت شكاياتها من السنوسية، ونشطت في الآستانة مساعيها ضده. أضِف إلى هذا ما قاله آخرون من أن السيد «ساءته معاملة بعض مأموري التُّرك، والتنقيب عن السلاح وكبس زوايا السنوسية في الجبل الأخضر، وشاع أن الدولة أخذت تشتبِه في أمره وتتوجَّس خيفةَ ادِّعائه الخلافة، فقصد أن يعتزلها إلى الصحراء الكبرى.» وقد تكون بعض هذه الأسباب أو جميعها صحيحة.

على أن الذي يعنينا أن السيد لم يلبث عند وصوله إلى الكفرة أن أوفد إلى الآستانة أحد الشيوخ الموثوق بكفاءتهم وإخلاصهم، والذين خدموا السنوسية طويلًا، المرحوم الشيخ عبد العزيز العيساوي، حتى يؤكد إخلاص وولاء السيد المهدي لخليفة المُسلمين، وصاحِب الإمامة الإسلامية العُظمى وتأييده للدولة العثمانية، ثم زوَّده بكتابٍ إلى جلالة السلطان يطلب فيه — إلى جانب إظهار الولاء — توكيد الفرمانات التي صدرت للسنوسيين والتي جدَّدها وأكَّدها السلطان قبل ذلك مرةً على أيدي الشيخ عبد الرحيم المغبوب والشيخ أبي القاسم العيساوي، وحتى يُصدر الباب العالي الأوامر والتعليمات اللازمة لرجال الحكومة في بنغازي وطرابلس ليَعملوا بموجبها، فوصل المرحوم الشيخ عبد العزيز العيساوي إلى الآستانة في سبتمبر ١٨٩٥م، وكان يصحبه في هذه الرحلة ابن أخيه الشيخ محمد الأخضر العيساوي أحد مؤرِّخي السنوسية المُوفَّقين، ونزلا ضيوفًا على الدولة، ولقي الشيخ عبد العزيز كل حفاوة وتكريم، ونجح في مُهمته نجاحًا كبيرًا، فلم يلبث الباب العالي أن أصدر أوامره «وجري التأكيدات المُهمة إلى متصرفية بنغازي وولاية طرابلس الغرب بموجب إرادات سنية في كمال الاهتمام والرعاية والاحترام والنظر في حقِّ الإخوان جميعًا من كافة الزوايا، الموجودين على موجب الفرامين (الفرمانات) الموجودة، ومزيد الاعتناء في إنفاذ أحكامهم العالية، والحذَر من المخالفة أو إيقاع أدنى شيءٍ مُغاير لأحكامهم ورضاء العالي (أي السلطان).» وفي ٣ نوفمبر ١٨٩٥م أرسل إبراهيم درويش باشا «ياور أكرم حضرة السلطان» خطابًا إلى السيد محمد المهدي السنوسي يُخبره فيها بالإجراءات التي اتخذها الباب العالي في هذا الشأن.

غير أن بعثة الشيخ عبد العزيز العيساوي كانت إلى جانب ذلك ذات آثار أخرى هامة، فقد انتهز السلطان عبد الحميد فرصة حضور الشيخ بكتابٍ من السيد المهدي، وقرَّر إيفاد صادق بك المؤيد مرةً ثانية لزيارة السيد في الكفرة بصُحبة المرحوم الشيخ عبد العزيز العيساوي، وزوَّده برسالةٍ سلطانية، كما أرسل السلطان إلى السيد مع الشيخ عبد العزيز نُسخة مطبوعة من كتاب صحيح البخاري الشريف هدية «له خاصة»، وهذا خلاف «عشر نُسَخ أُخَر لتعطى من «طرف السيد» لمَن فيه الأهلية.» كما أرسل إليه أيضًا «ساعةً لتكون في الأوقات الخمسة مُذكرة له بصالح دعواته لجنابه العالي (أي للسلطان)، وإن كانت ليست بشيءٍ غير أن القصد إبراز علائم توجُّهاته السنية.»

وفي ٢ ربيع الآخر ١٣١٣ﻫ (٢٢ سبتمبر ١٨٩٥م) بعث «باشكاتب سراي يلدز السلطانية» برسالةٍ طويلة إلى السيد المهدي، كان أهم ما جاء فيها — إلى جانب إخبار السيد بوصول رسوله وأحد أتباعِه عبد العزيز أفندي يحمِل الأحزاب المباركة التي أهديتموها لسيدنا حضرة أمير المؤمنين وخليفة سيد المُرسلين وحامي الشرع الأنور المُبين، أيَّده الله ونصرَه الله وأعلى بدَوامه كلمة الله في بلاد الله آمين، ثم ذكر الهدايا التي تفضَّل الجناب العالي بإرسالها إلى السيد، وإرسال صادق بك «أحد الياوران الحضرة الملوكانية إلى صوبكم» — كلام طويل في إظهار شأن الخلافة الكبرى والإمامة الإسلامية العُظمى وواجب تأييدها، ثم تحذير السيد من مساعي وأطماع الدول الأجنبية، وعمل الرسالات التبشيرية في «ديار السودان» مما من شأنه جميعه إقامة البرهان على أن السلطان العثماني في هذه الآونة كان يبغي أمرَين، أولهما استمالة السيد قطعًا إلى جانب الدولة العثمانية بوصفها دولة الخلافة الإسلامية الكبرى، وتأييد السلطان بوصفه خليفة المسلمين، وثانيهما تحذير السيد من أطماع الدول المُستعمرة من جانبٍ، ثم حثُّه على مواصلة الدعوة للإسلام والدين الصحيح بين الأقوام الذين يُريد المبشرون والرهبان نشر المسيحية بينهم. فجاء في هذه الرسالة: ومثلكم من يعلَم حق الخلافة الكبرى وشأن الإمامة الإسلامية العظمى. وحيث إن الخلافة المنصورة العثمانية والإمامة المقدَّسة الإسلامية قد أثبت الله منذ مئاتٍ من السنين في البيت العالي العثماني وجودها وحقَّق عهودها، وقد افترض الله نصر هذه الخلافة المؤيدة العثمانية وطاعتها على كلِّ مسلمٍ يؤمن بالله واليوم الآخر في الباطن والظاهر، لا سيما في مثل هذه الأوقات «فإن الأغيار من الكفَّار بل والملاحدة والمارِقين والمُفسدين من جميع الأقطار يتحزَّبون ويتوالمون في السر والعلن خصومةً للسنة السنية على هدم منار الخلافة العثمانية الإسلامية (ويأبى الله إلا أن يُتم نوره). وحتى من المسموع أن جماعة من الإنكليز والإيتاليان وغيرهم قد تدرَّجوا إلى أطرافكم بطريق السياحة، وأنتم تعلمون بالفراسة وقرائن الأحوال ما في أنفسهم وما يُخالج سرائرهم من المقاصد المُضرَّة للدين وللمسلمين، فأول ما يؤمَّل منكم، وإن كان هو المفروض كما هو معلوم لدى حضرتكم، أن تُنوِّروا أذهان مُحبِّيكم ومن يُواليكم من الطلبة والتلامذة قربًا وبعدًا من جميع الأنحاء التي تُسمَع بها كلمتكم وتؤثر بها نصيحتكم بصدْق الإخلاص للخلافة المُقدسة العثمانية والإمامة الكبرى الإسلامية التي (لا سمح الله ولا قدَّر) لو بلغ الأعداء والملاحدة فيها أرَبَهم لانهزم شرف الدين المُبين وتفرَّقت شيعًا جماعات المسلمين، ولصارت الأمة فرقًا فرقًا، وتمزَّقت إربًا إربًا. وهذا، والعياذ بالله، يكون ذلًّا لكلِّ مُوحِّد على وجه الأرض بالطول والعرض، بل هو مما يخرب شأن الشريعة، ويجعلها بعد العز وضيعة، وذلك ممَّا يُحزِن القلب الأطهر والأقدس النبوي في الضريح الأنور المُصطفوي.

وهل أنصار الخلافة المقدسة في كل عصرٍ وزمنٍ إلا مثلكم من العلماء الذين يخشون الله ويُحبون رسول الله ، والأمل بصدقكم وديانتكم وطيدٌ أن تُنفِّروا من الأعداء وأن تربطوا قلوب الأوِدَّاء لمقام الخلافة السعيد ربطًا صالحًا شرعيًّا يُنتج ودًّا خالصًا دينيًّا، فإن أمل سيدنا ومولانا خليفة المُصطفى الأعظم السلطان الأعظم أيَّده الله وسلَّم بصداقتكم وكمال فِطنتكم فوق هذا. على أن القصد العالي اتحاد المُسلمين كما أمر رب العالمين، وما الغاية من هذا كلِّه إلا المدافعة عن الحقوق الدينية والسلامة والأمن في الممالك المحروسة الإسلامية العثمانية من التجاوزات الغير المشروعة من أولي الأطماع السيئة الرديَّة، وإعلامكم بكل ذلك، وطلبًا للدعاء، من طرفكم خاصةً ومن جُملة المُحبين والتلامذة عامَّة، بنصرة سيدنا الخليفة المُعظم وسلامته وحفظه في ذاته وبلاده.» إلى أن قال: «وأُبين لحضرتكم أن مِن المسموع أن بعض الرهبان، لعِلمهم بأن السودان أكثرهم على جهلٍ وغباوة ويرغبون بالخرَز ومِثله من الأمتعة اللماعة، فهم يأخذون منها الكثير ويذهبون إلى ديار السودان ومعهم ترجمة الإنجيل وغيره من كتُبهم بالعربية، فبعد إهداء الأغبياء أشياء من الخرز وأمثاله يقرءون لهم من كتُبهم وكأنهم من وعَّاظ الإسلام، وبالتدريج يُضلُّونهم، والعياذ بالله، ويُدخلونهم في دينهم، فكذلك الاهتمام بهذا الشأن بواسطة العلماء والصلحاء من تلامذتكم هو من أهم المهمَّات الدينية، فيلزم به بذل الوسع دفعًا لهذا الضرَر الديني وقيامًا بواجب الأُخوَّة الإسلامية.»

هذا وأما صادق بك فقد قام برحلته في نوفمبر ١٨٩٥م، ووصل إلى بنغازي، ثم سافر منها إلى الكفرة في ركبٍ حافل من كبار السنوسيين وأعيان بنغازي، وجدَّ في السير حتى كان يقطع مدة الست عشرة ساعة كلَّ يوم على متون الإبل. وعند وصوله إلى التاج استقبلَه السيد المهدي استقبالًا كريمًا، واحتفل بقدومِه احتفالًا عظيمًا، وأقام صادق بك في ضيافة السيد أيامًا، وأبلَغه تحيَّات السلطان، وقدم إليه هدايا جلالته، ونال من السيد جوابًا أنه لا يقصد من كلِّ أعماله سوى خدمة الإسلام وبثِّ الدعوة لطاعة السلطان خليفة المُسلمين. وسرَّ صادق بك ما شهِدَه من حماس الإخوان ونشاطهم وولاء السادة السنوسية عمومًا للخلافة واستعدادهم لتأييدها، فأنشأ قصيدةً يمدح بها السيد المهدي، جاء فيها:

يا ابن السنوسيِّ يا من شمسُه سطعت
بدرًا أضاء قلوب البدو والحضر
لو أرسل الله بعد المصطفى رسُلًا
لكنتَ أول مبعوثٍ إلى البشر

وقد أرسل السيد المهدي مع صادق بك خطابًا إلى طاهر باشا مُتصرف بنغازي، يدحض فيه مُفترَيات الأجانب ووشاياتهم لدى السلطان ضدَّه، فقال — رحمه الله: وقد أشرتُم إلى ما بلغَه (أي السلطان عبد الحميد) عن بعض الأجانب، وغضَّ الطرف عنه لكونه عاريًا عما يُواري عورتَه من المين، لم يخطر لدَينا بخاطر، ويحسب أن مَنبته يروج، وأن أُمنيته تذكو وتموج. كلَّا، فإن الناقد بصير، وميزان عدله، نصره الله، في غاية التحرير، ولسان حاله حريٌّ بالاستشهاد على رءوس الأشهاد:

يخالون أن الطَّود يُؤلِمه الحصى
وأنَّ السبنتي بالنبيح يُروَّعُ
فلا يملك العلياء إلا سميذعٌ
وها أنا ذاك الأريحيُّ السميذَع

ومن ذلك الحين بقِيَت العلاقات بين السلطان عبد الحميد والسيد المهدي على خير ما تكون صفاءً ومودةً، ومنذ أن اطمأنَّ السيد إلى توكيد الفرمانات السلطانية في مصلحة السنوسيين وزواياهم العديدة في برقة وطرابلس، شرع يهتمُّ بما جاء من أجلِه إلى الكفرة، فكانت هذه الواحة في السنوات القليلة التالية (١٨٩٥–١٨٩٩م) مركز نشاط السنوسية العظيم في الصحراء الكبرى وأفريقية الغربية.

•••

وفي الحقيقة كان ينتظر السيد المهدي عند انتقاله إلى الكفرة برنامج واسع، حاول بعض الكتاب أن يَصفوه استنادًا إلى ما عرفوه عن نشاط السيد أيام وجوده بالجغبوب، ذلك النشاط الذي ذكَرْنا طرفًا من حقيقته عند الكلام عن العلاقات التي حاولَت بعض الدول إنشاءها معه، وتلك التي قامت بينَه وبين السلطان العثماني من جهةٍ وبين الإمارات الإسلامية الواقعة في قلب الصحراء الكبرى الأفريقية من جهةٍ أخرى، هذا عدا تأسيس الزوايا الكثيرة والعمل على نشر نور الهداية والعرفان، والتبشير بالإسلام بين شعوب التبو والتوارق وغيرهم، وكان طبيعيًّا أن يجد هؤلاء الكتَّاب صِلة مباشرة بين انتقال السيد المهدي من الجغبوب إلى الكفرة وبين ما وقع بعد ذلك من حوادث ذات شأن في الجهات المُمتدة من واحة الكفرة إلى بُحيرة تشاد. وهذا في الوقت الذي شاهدوا فيه السنوسيين يُنشئون زواياهم في مراكش والجزائر وتونس وفي الصحراء الكبرى لدى التبو والتوارق، ثم في مصر والصومال وبلاد العرب (الحجاز) والعراق، وهذا عدا ما كان لهم من أتباع في الآستانة والهند، ناهيك بزواياهم العدة في برقة وطرابلس.

ومع أن هذا النشاط العظيم كان يقضُّ مضاجع الدول الغربية، التي أخذت على عاتقها حماية الرسالات المسيحية التبشيرية التي ذهبت إلى مجاهل القارة الأفريقية تروِّج لدعوتها بالشكل الذي وصفَه كاتب السلطان إلى السيد (في سبتمبر ١٨٩٥م)، ثم طفقت هذه الدول تبذل كل جهدٍ من أجل الحد من نشاط السيد عن طريق الباب العالي تارةً وعن طريق الاتصال المباشر بالسيد نفسه ومحاولة استمالته حتى يُقلل من نشاطه تارةً أخرى، ووجدت، عندما باءت مساعيها لدى السيد المهدي بالفشل ولم تلمس منه ذلك التراخي الذي كانت تنشُده، أن تهول من أمر الدعوة السنوسية الكبرى، فأخرجَتْها عن الحدود التي وضعها السيد المؤسس والتزمها خليفته الأول، كدعوة للإصلاح الديني والاجتماعي في العالم الإسلامي قاطبةً، وصارت تعزو إليها الرغبة في تأسيس ملكٍ قوي الدعائم يُنازع دولة الخلافة القائمة ذاتها السيطرة والسلطان على هذا العالم الإسلامي الواسع، تبغي ولا شكَّ من وراء هذا الزعم والادِّعاء إلقاء بذور الفتنة والاضطراب في العالم الإسلامي، وإثارة عداء دولة الخلافة ضد السنوسيين حتى تقوِّض أركان إمارتهم، نقول: ومع هذا كله فقد ظلَّ هذا الزعم أو الادِّعاء يجِد صدًى في كتابات فريق من أولئك الذين بحثوا في زماننا هذا نشاط السنوسية العظيم في عهد السيد محمد المهدي، وخصوصًا في فترة انتقاله من الجغبوب إلى الكفرة، ثم من الكفرة إلى «قرو» بعد ذلك؛ فذكر الكاتب الإيطالي «سيرا» أن انتقال السيد إلى الكفرة في قلب الصحراء وبعيدًا عن أي إشرافٍ أو تدخُّلٍ من جانب الحكومة العثمانية والحكومات الغربية على السواء قد كشف عن نواياه الصحيحة، أو بالأحرى عن الأهداف «الزمنية» أو الدنيوية السياسية التي صارت «الطريقة» تبغي تحقيقَها، وهي إنشاء ملك مُستقل كامل السيادة يمتدُّ عبر القارة الأفريقية من الحدود المصرية شرقًا إلى شواطئ الأطلنطي غربًا، فيضم بين جوانبه الأقطار الليبية وبرقة وطرابلس والفزان، ثم صحراء الجزائر ومنطقة تشاد، ويسيطر على كل طرُق التجارة من ساحل البحر الأبيض شمالًا إلى السودان جنوبًا، ولا غِنى في تأسيس هذا الملك العضود عن إحكام السيطرة على كلٍّ من برقة ومنطقة «سرت»، وذلك لأهميتها كمنافذ على البحر الأبيض المتوسط، تأتي منها الأسلحة والذخائر والمؤن والمَتاجر عمومًا كما تصدر منها منتوجات «هذه الإمبراطورية المستقبلة» الشاسعة.

ومع أن السنوسية كانت مُهيَّأة بفضل تعاليمها ومبادئها وتنظيماتها وتشكيلاتها، ثم زواياها العديدة للاضطلاع بأعباء الحكومة وسياسة شئون الناس في أي مكانٍ يثبت قدمها به، ومهَّد لها هذا التهيُّؤ تشييد صرح تلك الإمارة التي فصلت أركانها في فصلٍ سابق، فالذي لا شكَّ فيه أن هذه الأهداف الزمنية البحتة التي عزاها «سيرا» وأمثاله للسنوسية على أيام السيد المهدي، وهو العهد الذي بلغَت فيه السنوسية بلا مراءٍ أوج العظمة والكمال، كانت خيالية أكثر من أي شيءٍ آخر، والأدلة على ذلك عديدة، لعلَّ من أهمِّها أن السنوسية تعتمِد قبل كل شيءٍ على سلطانها الروحي الخالص في فرض سيطرتها على الشعوب التي دانت للإسلام أو تلك التي اعتنقت دعوة الإصلاح الديني عن اقتناع وعقيدة. ولم يذكر التاريخ مثلًا واحدًا استند فيه السنوسيون إلى القوة والسلاح من أجل الترويج لدعوتهم. أضف إلى هذا أن الدعوة السنوسية كانت لا تعرف حدودًا دوليةً، لا في عهد السيد المؤسس ولا في عهد خليفته الأول، فلم تظهر حاجة السنوسية لمِثل هذه الحدود إلا في وقتٍ مُتأخر عندما حدث ما كان يتوقَّعه السيد محمد بن علي السنوسي الكبير، ثم السيد المهدي من بعدِه، وظلَّ كلاهما يتَّخذ العدة لتلافي خطرِه مدةً طويلة، وهو إغارة الإيطاليين (أو النابلطان) على برقة وطرابلس، واحتلالهم هذه البلاد التي نبتت فيها السنوسية وترعرعت. حقيقةً تعرضت السنوسية قبل ذلك لخطر الغزو على زواياها ومؤسساتها عندما اتفق المُستعمرون على تقسيم القارة المُظلمة، وزحف الفرنسيون في عهد السيد المهدي نفسه على الإمارات الإسلامية في أفريقية الغربية والوسطى، واشتبكوا مع السنوسيين في حربٍ مريرة كما سيأتي ذكره، ولكن مَعقِل السنوسية ذاته كان بمنأى عن هذه الأخطار جميعها، وظل الحال على ذلك حتى قامت الحرب الإيطالية الليبية (١٩١١م)، ومن ذلك الحين صار لا غِنى عن رسم حدود هذه الإمارة لدفع الاعتداء عنها، ولضمان بقائها تنشُر من عقر دارها أنوار الهداية والعرفان، وتدعو إلى استقرار السلام بين تلك الشعوب التي قبلت زعامتها الروحية من أزمنةٍ طويلة: رسالة السنوسية الصحيحة.

وعندما انتقل السيد محمد المهدي من الجغبوب إلى الكفرة كان يبغي تحقيق أغراضٍ أكثر وضوحًا وبساطةً من مشروع إنشاء تلك الإمبراطورية المُستقلة التي تحدَّث عنها الكاتب الإيطالي «سيرا»، فكان يعنيه في الحقيقة — كما كان يعني ذلك أيضًا السلطان عبد الحميد نفسه — مقاومة جهود المُبشِّرين في أفريقية الغربية، ثم نشر الهداية والعرفان عن طريق الدعوة إلى الإسلام بين التبو والتوارق والأير، وغير هؤلاء من الأقوام الوثنيِّين أو غيرهم من الذين لم تتوطَّد بعدُ دعائم الإسلام بين ظهرانيهم، وكان سبيل السنوسية إلى ذلك دائمًا إنشاء الزوايا التي لم تكن فقط «منائر» للهُدى والعرفان، بل كانت أيضًا «مراكز» حكومية تسهر على الأمن وتعمل على استقرار السلام في الجهات التي تنشأ بها. أضف إلى هذا أن السيد المهدي كان يُدرك تمامًا أن توثيق عُرى الصداقة مع سلطنة «واداي» ثم إنشاء الصِّلات الودية مع بقية الإمارات الإسلامية في جهات بحيرة تشاد، مثل برقو وكانم وغيرها، خير وسيلة لانتشار الإسلام الصحيح وذيوع المبادئ والتعاليم السنوسية من جهةٍ، ثم تجنُّب الأخطار التي أحدقت بهذه البلاد من جهةٍ أخرى.

وكان يُهدد هذه الأقاليم، عندما قرَّر السيد المهدي الانتقال من الجغبوب إلى الكفرة (في عام ١٨٩٥م)، خطَران كبيران، نجم أحدُهما عن قيام سلطنة رابح المشهورة في السودان الغربي، بينما كان عزم الفرنسيين على التوغُّل في القارة وبسط سلطانهم على الإمارات الإسلامية في أفريقية الغربية مصدَر الخطر الثاني.

وعلى ذلك فإن السيد المهدي بمجرد وصوله إلى الكفرة عمل على توطيد العلاقات بينه وبين واداي، فأرسل إلى سلطانها يوسف بعد وصوله إلى «الجوف» بأسبوع واحد فقط رسولًا هو «المُرتضى أبو خريص» يحمل إليه كتابًا منه، ثم ازدادت الروابط بين السيد المهدي وسلطان واداي في المدة التالية، حتى طلب يوسف في أواخر ١٨٩٧م أن يوفد السيد إلى «إبشة» أحد كبار الشيوخ السنوسيين مندوبًا خاصًّا للسنوسية في عاصمة بلاده، فأرسل إليه سيدي محمد بن عبد الله السنِّي الذي ذكَرْنا أنه حضر في جماعة من الفزان لزيارة السيد والترحيب به عند وصوله إلى الجوف، وكان سيدي محمد السنِّي من تلامذة السيد محمد بن علي السنوسي الكبير، وأسَّس في طرابلس زوايا السنوسية المشهورة في القصبات والجعلة والحربة ومزدة، فوطد نفوذ السنوسية في واداي. وكذلك أدرك السيد المهدي نجاحًا عظيمًا في «برقو» فأسَّس السنوسيون زواياهم في عين كلك وفايا والواجنقة وقرو، وطفق السنوسيون ينشرون نفوذهم في كانم.

وفي هذه الأثناء كان أكبر ما يخشاه السيد المهدي ازدياد سطوة «رابح» لدرجة تُلحِق الوهن بالإمارات الإسلامية حول بُحيرة تشاد، فلا تستطيع مقاومةَ خطرٍ أشدَّ وأقسى كان يتهدَّد سلطنة رابح والسنوسية والإمارات الإسلامية جميعًا، هو خطر الفرنسيين الزاحِفين على هذه الأقطار يُريدون امتلاكها. وكان رابح هذا من عبيد الزبير باشا رحمت، اشترك في ثورة سليمان بن الزبير ضد سلطان الحكومة المصرية في بحر الغزال، حتى إذا انهزم سليمان وقُتل وأخفقت الثورة (١٨٧٩م) جمع رابح فلول الجيش وانسحب إلى «دار منغا»، وطفق يشنُّ الغارات منها على البلدان المجاورة، فكان تارةً يغزو دارفور وأخرى واداي، ثم واصل غزواته في باطن السودان، واتخذ البلاد الواقعة في جهة نهر شاري مركزًا له، وأخذ ساعدُه يقوى تدريجًا حتى استطاع أن يُخضع الإمارات المجاورة، فاستولى على الباقيرمي في عام ١٨٩٢م، والتجأ سلطانها إلى بلاد الشاري الأسفل ومنها إلى واداي (١٨٩٤م)، ثم غزا رابح «بورنو»، وهي مملكة في السودان إلى الجنوب والغرب من بحيرة تشاد، فهزم سلطانها هاشم ودخل عاصمتها «كوكا»، وجعل عالِيَها سافِلَها، ثم اعتصم ببلدةٍ اسمُها «ديكوا»، ومع أن المناوشات استمرَّت بين رابح وبين عمِّ سلطان بورنو السابق، ثم أحد الزعماء الدينيين في هذه البلاد، فقد ظلَّ رابح مُسيطرًا على «بورنو». وبذلك استطاع رابح بعد هذه الحروب الطويلة أن يُنشئ لنفسه ملكًا مستقلًّا على ضفاف الشاري (وهو النهر الذي يصب في بحيرة تشاد)، وحق له أن يطمع في تأسيس سلطنة عظيمة.

بيد أن نجاح «رابح» هذا كان له نتائج خطيرة؛ لأن الفرنسيين الذين كانوا قد بدءوا يتغلغلون في أفريقية الغربية عن طريق نهر السنغال، سرعان ما وطَّدوا سلطانهم في جهات السنغال الأعلى على أيدي «فيدهرب» (١٨٦٥م)، كما أنهم أسَّسوا مستعمرة جديدة في الكنغو لم يلبث «دي برزا» أن وسَّع حدودها ووطَّد أركان الحكومة في أنحائها (١٨٨٥م)، ثم امتدَّ نفوذ الفرنسيين أيضًا على شاطئ النيجر الأعلى، فتمكنوا من احتلال تمبكتو في يناير ١٨٩٤م على أيدي «بونييه»، ثم عقدوا في هذه الأثناء اتفاقًا مع الإنجليز (١٨٩٠م) لاعتبار معظم الصحراء الوسطى والغربية منطقة نفوذ فرنسية، وآخَر مع الألمان (١٨٩٤م) لاعتبار الأراضي المُمتدَّة حتى بحيرة تشاد من ناحيةٍ وخط تقسيم مياه الكنغو من ناحية أخرى مناطق تخضع للنفوذ الفرنسي أيضًا. وأمام ذلك كله لم تكن ثَمَّ مندوحة عن أن يُفزعهم ذلك المُلك الكبير الذي كان «رابح الزبير» يَبنيه لنفسه في هذه الجهات ذاتها. ولمَّا كان رابح قد استولى عنوةً على الباقيرمي، وأرغم سلطانها على الفرار والنجاة بنفسه، فقد سهل على الفرنسيين استمالة هذا السلطان إليهم تمهيدًا لغزو سلطنة رابح.

وكان طبيعيًّا أن يلمس السيد المهدي هذه الأخطار جميعها ويبذل الجهد لتوقِّيها، واستطاع بحكمته أن يحفظ نفوذ السنوسية كعاملٍ من عوامل السلام في هذه الأقطار التي كان يُهددها رابح بغزوِه بين حينٍ وآخر، وكان مما ساعد على دعم نفوذ السنوسية في برقو وواداي وغيرها أن «رابح» نفسه منذ أن اطمأن إلى ملكه الجديد طفق يُنشئ الصِّلات الودية مع الإمارات الكبيرة المجاورة، وصار يُهمه ولا ريب ألا يشتبِك مع السنوسية في منازعاتٍ خطيرةٍ، لبُعد مركزه عن مقرِّ السنوسية ومَكمن قوَّتهم من جهة، ولأن توسُّعه كان يجري نحو الغرب على شواطئ بحيرة تشاد الجنوبية والغربية في مملكة «بورنو» خصوصًا. وعندما أصبح الخطر الفرنسي ماثلًا لم يرَ السيد المهدي بدًّا من التدخُّل بين رابح وبين أمراء الدويلات التي اعتدى عليها، خصوصًا سلطنة باقيرمي. فطفق يدعو إلى السلام بين هذه الإمارات في عام ١٨٩٨م على أمَل أن يؤلِّف بين قلوب سلاطينها حتى يُصبحوا قوةً واحدة تُمكِّنهم من الوقوف في وجه الخطر الزاحف عليهم جميعًا، ولكن العداوة بين رابح وسلطان الباقيرمي «غاورانغ» كانت متأصِّلة لدرجة ذهبت معها محاولات السيد المهدي سدًى، بل إن «غاورانغ» لم يلبث أن تحالف مع الفرنسيين، كما أن رابح من جهةٍ أخرى كان في عداء مُستحكم مع سلطان «زيندر» الذي رفض أن يدفع له الإتاوة التي كان يدفعها سنويًّا إلى «بورنو»، وكان للسنوسيين زاوية في «زيندر».

وفي منتصف يونيو ١٨٩٩م وصل الضابط الفرنسي «بريتونيه» إلى «كانو»، وكان بها زاوية للسنوسيين، وعندئذٍ تقدَّم إليه رابح بقوةٍ كبيرة صاعدًا نهر شاري، وظلَّ يتنقَّل من بلدٍ إلى آخر حتى وصل إلى «كانو»، فأخلاها «بريتونيه»، وانسحب مع قوات حليفه «غاورانغ» سلطان باقيرمي إلى مكانٍ يصلح للدفاع، ولكن «رابح» لم يلبث أن أوقع به وبحليفه هزيمةً ساحقة في ١٧ يوليو من العام نفسه، واضطر الفرنسيون إلى إرسال حملةٍ أخرى بقيادة «جنتيل» كانت أكثر توفيقًا من سابقتها، فأجلت «رابح» عن «كانو» في أكتوبر ١٨٩٩م، وفي أواخر العام نفسه بدأت تتضافر قوات الفرنسيين وجيوشهم للالتحام مع رابح في معركة فاصلة.

وفي أثناء ذلك كله كان من الواضح إذا قُدِّر للفرنسيين الانتصار على رابح في النهاية، كما توقَّع كثيرون، أن تكون خطوتهم التالية، بمجرد وصولهم إلى شاطئ بحيرة تشاد، احتلال كانم، فينزعون من السنوسيين منطقةً كانت بمثابة مخافر أمامية، ويُسبب ضياعها من أيديهم القضاء على نفوذهم في برقو وأنيدي والكوار وغيرها، ثم يُمهد للفرنسيين بعد ذلك الاشتباك مع السنوسيين في حدود بلادهم؛ ولذلك قرَّر السيد المهدي الانتقال من الكفرة إلى محلٍّ قريب من مكان هذه العمليات الخطيرة، فغادر التاج إلى زاوية قرو في «برقو» في عام ١٨٩٩م (١٣١٧ هجرية)، وخرج معه ابن أخيه السيد أحمد الشريف، ثم مُستشاره المُخلص الأمين السيد أحمد الريفي. وكما حدث عند انتقال السيد من الجغبوب إلى الكفرة قبل ذلك بخمسة أعوام تقريبًا، اختلف الكثيرون في تفسير أسباب هذا الانتقال وتنوَّعت أقوالهم، ولو أنه كان من الواضح أن السيد إنما يريد من وجوده بواحة «قرو» أن يستطيع تنظيم المقاومة واتخاذ الأهبة لمواجهة قوات الفرنسيين الزاحفة صوب بحيرة تشاد، والتي كانت تُهدد «كانم» تهديدًا كبيرًا، فأرسل سيدي محمد البرَّاني إلى «كانم»، فبنى زاوية في «بير العلالي»، وطفق يجمع جيوشًا من التبو والتوارق وأولاد سليمان والزوية والمَجابرة لمواجهة الزحف الفرنسي.

وأما الفرنسيون فكانوا قد استطاعوا إدخال «واداي» ضمن منطقة نفوذهم بفضل التصريح الإنجليزي الفرنسي المعروف في ٢١ مارس ١٨٩٩م، ومرَّت قبل ذلك فترةٌ ضعُف فيها نفوذ السنوسية بعد وفاة السلطان يوسف في العام السابق؛ لأن إبراهيم السلطان الجديد كان يريد التحرُّر من سيطرة السيد المهدي، ومع أن إبراهيم لم يلبث أن قُتل (١٩٠٠م) وتولَّى بعده السلطان أحمد ثم داود مرة (ديسمبر ١٩٠١م)، فقد كان ظاهرًا أن الفرنسيين بدءوا ينجحون في التفاهم مع «واداي» وتوطيد أقدامهم في هذه السلطنة، وساعدهم على ذلك، ولا ريب، انتصار الجيوش الفرنسية على رابح الزبير وتشتيت ملكه، فقد زحفت إليه معًا جنود البعثة الصحراوية وبعثة أفريقية الوسطى وبعثة شاري بقيادة «جولاند» و«مانييه» في ديسمبر ١٨٩٩م، ثم انضم إليهما في السنة التالية القائدان «فورو» و«لامي»، وفي معركة فاصلة في «لختة» دارت رحى الحرب فانكسر رابح وقُتل في ٢٢ أبريل ١٩٠٠م، ثم ما لبث الفرنسيون بعد ذلك أن شتتوا شمل القوات التي صمدت لهم بعد موت رابح بقيادة أولاده، وكان من أثر انهزام رابح وقتلِه أن احتلَّ الفرنسيون بلاد حلفائهم «الباقيرمي»، كما باتوا يُهددون «كانم» مباشرة.

وبالفعل تقدَّم الفرنسيون صوب «كانم»، واستعدَّ السنوسيون لمُقابلتهم، فوضعوا حامية كبيرة في «بير العلالي»، وعهد السيد المهدي إلى ابن أخيه السيد أحمد الشريف بإدارة الحرب والجهاد ضد الفرنسيين، واشترك في القتال قوَّاد من السنوسيين مُبرِّزون على رأسهم سيدي محمد البراني نفسه، ثم قائد آخر أحرز فميا بعد صيتًا وشهرةً عظيمةً، وهو السيد عمر المُختار، واستطاع المجاهدون أن يُحرزوا بعض الانتصارات، ولكن معدَّات الحرب الحديثة كانت لها الغلَبة في النهاية، فانهزم سيدي محمد البراني في معركةٍ دامية في يناير ١٩٠٢م على أيدي الضابط «تيتار»، وسقطت «بير العلالي» في أيدي الفرنسيين، فهدم هؤلاء زاويتها وبنوا على أنقاضها قلعةً منيعة، وتم لهم احتلال كانم، فأحدثت هذه الهزيمة دويًّا كبيرًا، وكان من آثارها الخطيرة أن «واداي»، التي ظلَّت طوال عهد السيد المهدي تقريبًا من أشد الإمارات الأفريقية الإسلامية ولاءً وإخلاصًا للسنوسية، لم تلبَث أن اعترفت في نوفمبر ١٩٠٣م باحتلال الفرنسيين رسميًّا للباقيرمي وكانم وغير ذلك من الأقطار التي دانت لسلطانهم. ومع ذلك فقد استطاعت السنوسية أن تستردَّ شيئًا من نفوذها القديم في «واداي» ذاتها، بل وتمكنت بعد ذلك من تحريض سلطانها «داود مرة» على استئناف الجهاد ضد الفرنسيين. ولكن لم يكن مقدرًا للسيد محمد المهدي نفسه أن يشهد حوادث هذا الجهاد الأخيرة، فقد وافاه القدَر المحتوم فجأة وهو في «قرو» في ٢٣ صفر ١٣٢٠ﻫ أول يونيو ١٩٠٢م، ونقل جثمانه الطاهر إلى الكفرة. وبذلك تكون قد انتهت حياة عظيم وأُسدل الستار على فصلٍ مجيد من تاريخ السنوسية الحافل بشتَّى المآثر الطيبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥