الفصل السادس

الجهاد: الحرب الليبية-الإيطالية

كان اشتباك السيد محمد المهدي مع الفرنسيين، الطامِعين في امتلاك السودان الغربي، مُؤذِنًا ببداية ذلك الجهاد الذي ظلَّ السنوسيون يُعدون أنفسهم لخوض غماره من مدةٍ طويلة، واستطاع السيد المهدي بفضل الخطة الحكيمة التي اتَّبعها — مع الإمارات الإسلامية الأفريقية من جهة ومع دولة الخلافة على وجه الخصوص، ثم مع «الدولة» التي أقامها محمد أحمد وخلفاؤه في السودان، ثم مع بقية الدول الأوروبية من جهة أخرى — أن يُكرس جهود السنوسيين لمقابلة هذا الخطر الداهم.

وقد تقدمَ كيف أنَّ السيد المهدي حاول أن يجمع كلمة أمراء هذه الدويلات الإسلامية التي كان يُهددها الغزو الفرنسي مباشرة، ولكن العداوة المُستحكِمة بين هؤلاء الأمراء تغلَّبت على كل حكمةٍ وأصالة رأي، فتم للفرنسيين احتلال باقيرمي، وقوَّضوا عرش إمارة «رابح» الكبيرة، واستولوا على كانم. وعندما انتهت حياة السيد المهدي كانت برقو قد خرجت من أيدي السنوسيين في الحقيقة بعد هزيمة «بير العلالي»، وأضحى نفوذ السنوسية في «أنيدي» و«التبستي» أو بلاد «التبو» والكوار أو «أنيري توغي» — وهي المناطق التي أُطلقت فيها أيدي فرنسا بمُقتضى اتفاقاتها مع إنجلترا في عامي ١٨٩٠م و١٨٩٩م — مُهددًا بالزوال، ثم تعرَّضت «واداي» ذاتها، وهي السلطنة التي اعتمدت عليها السنوسية قبل أي شيءٍ آخر في بقاء نفوذها في هذه الجهات النائية، لخطر الانحلال واستيلاء فرنسا عليها.

ومما لا ريب فيه أن وفاة السيد المهدي في هذه الظروف زادت الموقف حرجًا على حرج؛ ولذلك كان ضروريًّا أن ينهض بعبء هذا النضال الجسيم زعيم في استطاعته أن يصون، على الأقل، حدود الإمارة السنوسية ذاتها، وأن يُكمل العمل الذي بدأه السيد المهدي. وكذلك كانت سرعة الفصل في اختيار خليفة للسيد المهدي من جانب السنوسيين، ثم وقوع هذا الاختيار على ابن أخيه السيد أحمد الشريف، من الأمور التي مكَّنت السنوسية من مواصلة الجهاد مُسترشدةً في ذلك بسياسة السيد المهدي نفسه؛ فإنه لمَّا كان السيد محمد إدريس، أكبر أنجال الأمير الراحل، صغيرَ السن ولا يكاد يبلغ الثلاثة عشر عامًا، فقد أوصى السيد المهدي بزعامة السنوسية لابن أخيه السيد أحمد الشريف، على أن يكون السيد أحمد في الوقت نفسه وصيًّا على السيد محمد إدريس نجل السيد المهدي الأكبر والخليفة الشرعي.

وأما السيد أحمد فكان يبلغ الثلاثين عامًا، وهو حفيد السيد محمد بن علي السنوسي الكبير وابن السيد محمد الشريف، وُلِد بواحةِ الجغبوب في عام ١٢٩٢ هجرية (١٨٧٥م)، ووالدته كريمة السيد عمران بن بركة، كانت من فُضليات السيدات، فنشأ السيد أحمد في هذا البيت الكريم، وقرَّبه منه عمُّه السيد محمد المهدي، فشبَّ الابن على غرار آبائه وأجداده، وانكبَّ من حداثته على القراءة والدرس ثم حفظ القرآن الكريم، فظلَّ يتلُوه من الذاكرة طوال حياته من غير تردُّد أو توقف. وكان السيد أحمد الشريف منذ بدء حياته عظيم الاحترام وشديد الاعتقاد والاقتداء باثنَين: أوَّلُهما عمه السيد المهدي الذي كان لا يرى أحدًا يُجاريه في عِلمه وورعِه وتقواه وأخلاقه السمحة النبيلة، حتى إنه أفرد الفصول الطوال في تاريخه يتحدَّث فيها عن صفاته ومناقبِه — رحمهما الله. وثانيهما أستاذُه ومرشدُه السيد أحمد الريفي، وكان هذا السيد من أركان الطريقة وأكابر السنوسيين، قرأ في فاس، وأتقن العلوم ومنها الفلك والإسطرلاب والهندسة والرياضيات، فأخذ السيد أحمد عنه ذلك كله. قال الأمير شكيب أرسلان في وصف السيد أحمد الشريف: «رأيت في السيد حبرًا جليلًا وسيدًا غطريفًا وأستاذًا كبيرًا، من أنبل ما وقع نظري عليهم مدة حياتي، جلالةَ قَدْر، وسراوة حال، ورَجاحة عقل، وسجاحة خُلق، وكرَم مهزة، وسرعة فهم، وسدادَ رأي، وقوة حافظة مع الوقار الذي يغضُّ من جوانبه الوداعة والورع الشديد في غير رئاءٍ ولا سُمعة. سمعتُ أنه لا يرقد في الليل أكثر من ثلاث ساعات، ويقضي سائر ليلِه في العبادة والتلاوة والتهجُّد … وأكثر أحاديثه في قصص رجال الله وأحوالهم ووقائعهم وسِيَر سلفه السيد محمد بن علي السنوسي والسيد المهدي وغيرهما من الأولياء والصالِحين. وإذا تكلم في العلوم قال قولًا سديدًا، سواء في عِلم الظاهر أو علم الباطن.» وقد صحِبَه عمُّه معه عند انتقاله من الجغبوب إلى الكفرة، فدوَّن السيد أحمد أخبار هذه الرحلة، كما دوَّن خبر وفاة والده السيد محمد الشريف في ٢٧ رمضان ١٣١٣ﻫ (مارس ١٨٩٦م) في الجغبوب بعد عودته من الكفرة، وكان قد خرج إليها مع أخيه السيد محمد المَهدي، وظلَّ السيد أحمد الشريف مُقربًا من عمِّه، يرقُب الأمور عن كثب، ويزداد خبرةً ومرانًا، حتى إذا كان الجهاد ضد الفرنسيين في السودان الغربي وانتقل عمُّه إلى «قرو» صحِبَه إليها، ثم اشترك في الجهاد، وكان موكولًا إليه الإشراف على نشاط المجاهدين وقيادتهم. وفي أثناء ذلك كلِّه ظلَّ السيد أحمد مُتمتعًا بثقة عمِّه العظيمة، حتى إذا شعر السيد المهدي بقُرب منيَّته وتوسَّم في ابن أخيه القُدرة على الاضطلاع بأعباء الإمارة والوصاية على الخليفة الشرعي السيد محمد إدريس، عهد إليه بالأمر من بعده، وكان ولا شكَّ اختيارًا موفَّقًا، صادف ارتياحًا وقبولًا عظيمَين من جانب الإخوان جميعهم، فلم تمضِ ثلاثة أسابيع على وفاة السيد المهدي حتى كان الإخوان وكبار السنوسيين قد اجتمعوا بالكفرة في ١٢ ربيع الأول ١٣٢٠ﻫ (١٩ يونيو ١٩٠٢م)، وجرى الاحتفال بانتخاب السيد أحمد الشريف على سجادة الإمامة. وكان من الواضح أن هدف الإمام الجديد إنما هو قبل كل شيءٍ مواصلة الجهاد ضد الفرنسيين، وفي ذلك الحين أقبل السيد أحمد يُدير شئون السودان بكل همَّةٍ من واحة الكفرة التي ظلَّت مقرَّ حكومة السنوسيين ومركز نشاطهم في عهده.

وكان أهم ما عُني به السيد أحمد الشريف عند استلامه أزمَّة الحكم أمرَين: الحرص على أن تظلَّ سلطنة «واداي» صديقة للسنوسيين ومُوالية لهم، ثم شحذ الهِمم وبذل الجهود من أجل إمكان الصمود أمام الفرنسيين ووقف تقدُّمهم، وكان دون الوصول إلى هذَين الغرَضين صعوبات جمَّة. وتفصيل ذلك أن استبقاء سلطنة «واداي» للسنوسية كان عملًا شاقًّا مُستعصيًا منذ لحقت الهزيمة بالسنوسيين في «بير العلالي»، وضيعت كانم من أيديهم نهائيًّا، ثم كان من أثر انتصارات الفرنسيين المُتتابِعة من ناحيةٍ ثم محاولتهم استمالة سلطان «واداي» «داود مرة» والتفاهُم معه من ناحيةٍ أخرى، أن وقفت واداي مُتردِّدة بين ولائها للسنوسية وبين رغبتها في العيش بسلامٍ مع الفرنسيين الأقوياء الذين أصبحوا الآن من جيرانها ولا مندوحة من اعترافها بوجودهم. وقد تقدَّم كيف اعترفت واداي أخيرًا باحتلال الفرنسيين للباقيرمي وكانم وغيرها في نوفمبر ١٩٠٣م، ومع ذلك لم يفقد السيد أحمد الشريف الأمل في إمكان تحريك هذه السلطنة ضد «أصدقائها» الجُدد. وفي الأعوام التالية أحكم السيد أحمد صِلاته بقدْر المُستطاع بسلطانها «داود مرة»، ونجحت مساعِيه عندما نقض «داود مرة» عهده مع الفرنسيين وأغار على مراكزهم في إقليم الشاري في عام ١٩٠٤م وأنزل بهم الهزيمة وأسَر عددًا كبيرًا من الرقيق، واستمرَّ القتال بين الفريقَين دائرًا في السنوات القليلة التالية في فتراتٍ متقطعة، حتى إذا كان عام ١٩٠٨م أعلن «داود مرة» الجهاد ضد الفرنسيين من جديد، وآزَره السنوسيون، ولكن النصر كان حليف الفرنسيين في النهاية، فاحتلوا واداي في يونيو من العام التالي (١٩٠٩م)، ولمَّا كان هؤلاء يُريدون احتلال «الدويلات» التي خضعت قديمًا لنفوذ واداي وصارت الآن تعتز باستقلالها، وهي «دار تامة» و«دار سولا» و«دار مساليت»، فقد ظلَّت العمليات العسكرية قائمة في السنتَين التاليتَين، واستطاع «المساليت» خصوصًا في يناير وفي نوفمبر ١٩١٠م أن يوقِعوا بالفرنسيين هزيمتَين كبيرتَين، ذهب ضحيةً في الأولى منهما «الكولونيل فيجنشوس» وفي الثانية الكولونيل «مول»، وكان سلطان دارفور في هذه الآونة «علي دينار» يُنازع الفرنسيين السيطرة على هذه الجهات، فاحتل «دار تامة»، وظلَّ شوكةً في جنب الفرنسيين حتى تمكَّنت حكومة السودان «المصري الإنجليزي» من هزيمته بعد ذلك بجُملة سنوات. وأما واداي فقد استتبَّ الأمر فيها للفرنسيين نهائيًّا في عام ١٩١٢م.

وكان من الطبيعي في هذه الظروف أن يحاول السيد أحمد الشريف استمالة سلطان دارفور إلى جانبه في الجهاد المُستعر بينَه وبين فرنسا. وكان علي دينار من أحفاد السلطان محمد الفضل صاحب الشهرة الكبيرة قد أصبح صاحب الحق في عرش دارفور بعد مَقتل ولدَي إبراهيم سلطان دارفور (الذي قتلَه الزبير رحمت في عام ١٨٧٥م عند فتح هذه البلاد)، ولكن الدراويش سلبوا علي دينار كلَّ سلطة، فأظهر خضوعَه الكامل للخليفة عبد الله التعايشي، حتى إذا كانت واقعة أم درمان المشهورة في ٢ سبتمبر ١٨٩٨م، وكان علي دينار وقتئذٍ في إقليم الكردفان، أسرع بالعودة إلى الفاشر ونجح في تخليصها من قبضة الدراويش، ثم أعلن نفسه سلطانًا على دارفور، ورضِيَت حكومة الخرطوم الجديدة أن تترُكه وشأنه ما دام يدفع لخزانتها إتاوةً سنوية، واعترفت به رسميًّا في عام ١٩٠٠م، ولكن علي دينار كان طاغيةً شديد المطامع مُستبدًّا في حكومته، ثم ما لبث أن أظهر ميولًا واضحةً نحو الاستقلال بسلطته، كما كان شديد العداء لفرنسا أيضًا بسبب رغبتِها في الاستيلاء على «الدويلات الحدودية» الصغيرة بين دارفور وواداي بعد استيلائها على سلطنة واداي، وكانت عداوة «علي دينار» هذه الظاهرة لفرنسا هي السبب الذي جعل السيد أحمد الشريف ينتظر منه المؤازرة. ولكن علي دينار الذي كان شديد الغيرة على سُلطته ويُزعجه انتشار نفوذ السنوسية في بلاده — لأنه كان لا يريد ذيوع دعوةٍ قائمة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن شأنها إذا استتبَّ الأمر لأتباعها مقاومة طغيان هذا الحاكم المُستبد وإصلاح أحوال رعاياه — لم يلبث أن اختطَّ لنفسه خطة تتلاءم مع مصالحِه، فعارض في إنشاء أية زوايا للسنوسيين في بلاده، ولكنه من جهة أخرى لم يقطع صلته بالسيد أحمد الشريف، بل إن السيد سرعان ما أنشأ زاوية في طريق القوافل بين الكفرة ودارفور، واستمرَّ الحال على ذلك حتى قيام الحرب العالمية الأولى، فأعلن علي دينار الثورة على حكومة السودان في ظروفٍ سوف يأتي ذكرها.

بيد أن الجهاد الحقيقي كان بين السنوسيين والفرنسيين في جهات التبستي «تو» وبرقو وأنيدي وأنيري-توغي، فقامت بين الفريقَين مناوشات عديدة، وأظهر السنوسيون في هذا النضال تحت زعامة السيد أحمد شريف جلدًا وعزيمةً قويةً، واستطاعوا أن يُكبدوا الفرنسيين خسائر فادحة في الأرواح والأموال. واشتُهر من رجالهم في أثناء هذا الكفاح كثيرون، منهم السيد عبد الله «طوير» الزوي الذي أزعج الفرنسيين وأقضَّ مضاجعهم وضيَّق عليهم المسالك حتى اعترفوا له بالمَقدرة والشجاعة. وكان من عادة السيد الزوي أن يحمِل عليهم في غزوات ليلية مُتلاحقة حتى لقَّبه الفرنسيون بالحرامي، وكان لقب مجدٍ وفخار له وللسنوسيين المجاهدين عمومًا. ولقي السيد الزوي حتفَه في إحدى هذه الغزوات الليلية. ولمَّا كان هذا الجهاد طويلًا وصارمًا فقد استُشهد كثيرون منهم السيد أبو عقيلة الزوي، ومع هذا فقد استطاع الفرنسيون بفضل أسلحتهم الحديثة وقواتهم المُتدفِّقة أن يُحرزوا انتصارات هامة، فاحتلُّوا كوار في «أنيري-توغي» في عام ١٩٠٦م، وفي العام التالي هاجموا «عين كلك» في برقو، فنشِبت بينهم وبين السنوسيين معركة كبيرة كان النصر فيها حليفهم، فقتلوا «سيدي البراني» مُنشئ زاوية بئر العلالي وقائد السنوسيين المُحنَّك، وكانت وفاته خسارة كبيرة، ثم مهَّد لهم هذا الانتصار احتلال «واداي» نهائيًّا بعد ذلك بعامَين تقريبًا على نحو ما تقدَّم (١٩٠٩م). وبمجرد أن دانت لهم هذه البلاد أسرع الفرنسيون إلى هدم زوايا السنوسيين وإلغائها، الأمر الذي أثار اهتمام تركيا التي صار يَعنيها — وهي دولة الخلافة — مؤازرة السنوسيين المُنضوِين تحت لوائها، فاستطاع السيد أحمد الشريف أن يدخل مع الأتراك في مفاوضات في العام التالي (١٩١٠م) أسفرت عن إرسال جُندٍ من النظاميين إلى برقو والتبستي وتأسيس قائمقامية في الكفرة، عُيِّن بها الشيخ كيلاني الأطيوش من قبيلة المغاربة الرعيصات، وهو والد صالح باشا الأطيوش، كما دعا السنوسيون الأتراك إلى برقو، فأرسلوا اليوزباشي رفقي الذي رفع الراية العثمانية إلى جانب الراية السنوسية في «ون» بالقُرب من عين كلك، وكان يُنظم المقاومة في برقو في الأعوام التالية (١٩١١–١٩١٣م) المهدي السنِّي، وهو ابن السيد محمد السني الذي أرسلَه السيد المهدي إلى «إبشة» عاصمة واداي عقب انتقاله من الجغبوب إلى الكفرة. وهكذا ظلَّت المناوشات دائرة بين السنوسيين والفرنسيين، واستطاع «الكولونيل لارجو» في ديسمبر ١٩١٣م أن يُلحق بالمجاهدين هزيمة كبيرة في «قرو»، حيث جُرِح ولدا السيد المهدي السنِّي نفسه «عبد الله وعبد العال» ووقعا في أسرِه.

بيد أن هذا الجهاد الطويل كانت قد خفَّت حدَّته من مدة لجُملة أسباب، منها أن العثمانيين كانوا في أثناء ذلك كلِّه يعتبرون أنفسهم في حالة سِلم مع فرنسا، فلم يقطعوا علاقاتهم بهذه الدولة المُعتدية، ثم ازداد تمسُّكهم بأهداب هذا السلام عندما اكفهر الجو السياسي في أوروبا وأخذت الأمور تتحرَّج في شبه جزيرة البلقان، وصارت تركيا تهتم باستبقاء صِلات المودة مع فرنسا وغيرها من الدول الغربية، فتعذَّر على المجاهدين بسبب ذلك الحصول على الأسلحة والذخائر والمؤن اللازمة للمُضي في قتال الفرنسيين في هذه الأصقاع النائية. ومع أن هذه الخطة التي تمسَّكت بها تركيا كانت من أسباب ضعف مقاومة المجاهدين لحاجتهم الملحَّة والمتزايدة للأسلحة والذخائر خصوصًا، فقد نشأ من عدم تعكُّر العلاقات بين فرنسا وتركيا أو انقطاعها على الرغم من قيام الحرب بين السنوسيين — وهم أهل «ولاية» من ولايات الدولة — وبين الفرنسيين الذين اشتبكوا مع أقوام هم من «رعايا» السلطان — ولا يزالون يعترفون بسيادته الشرعية عليهم — وضع يبدو لأول وهلة غريبًا، ولكنه سرعان ما يظهر على حقيقته عند إمعان النظر، وذلك إذا تذكَّرنا أن السنوسيين في معاقلهم البعيدة، سواء في الكفرة أو في قرو، كانوا أصحاب السلطان المُطلق ولا تستطيع الدولة العثمانية أن تحدَّ شيئًا من نشاطهم لو رغبت في ذلك، أو تستطيع فرنسا أو غيرها من الدول تنفيذ مآربها بالطرق الدبلوماسية عن طريق الباب العالي إذا حاولت هذا، وقد تقدَّم كيف عجزت الدول الأوروبية عند محاولة التأثير على السيد المهدي عن طريق الضغط على السلطان العثماني، فلم يكُن أمام فرنسا إذن سوى الاعتراف بالأمر الواقع ومعاملة السنوسية ليس كجمعيةٍ تشقُّ عصا الطاعة على صاحب السيادة عليها وإنما كإمارةٍ ذات كيانٍ مُستقل، ولا مندوحة من الاعتراف بها والتسليم بوجودها في النهاية.

أضف إلى هذا أن الفرنسيين أنفسهم بعد أن تمَّ لهم إخضاع واداي وبرقو وقرو اضطرُّوا من جانبهم إلى الوقوف عند حدود برقة الجنوبية بسبب الارتباطات الدولية التي قيَّدت حركتهم في هذه الناحية، وهذا كان الاتفاق الإنجليزي الفرنسي الذي أُبرم في باريس في ١٤ يونيو ١٨٩٨م لبيان حدود مُمتلكاتهما ومناطق نفوذهما على جانبَي نهر النيجر، ثم تصريح لندن في ٢١ مارس ١٨٩٩م لتوكيد الاتفاق السابق فيما يتَّصل بمناطق نفوذهما إجمالًا في أفريقية الغربية والوسطى، ثم تعيين الحدود بين المُمتلكات الفرنسية وبين دارفور، وأخيرًا التوكيدات المُتبادلة بين الفرنسيين والإيطاليين في ديسمبر ١٩٠١م بشأن تعيين مناطق نفوذ كلٍّ من هاتَين الدولتَين في أفريقية الشمالية والغربية، فاحتفظت إيطاليا لنفسها، بمُقتضى هذا الاتفاق، بمنطقة برقة وطرابلس، بينما تعهَّدت فرنسا من جانبها بالتزام ما جاء في ارتباطاتها السابقة مع إنجلترا في ٢١ مارس ١٨٩٩م، على أن تمتنع إيطاليا في نظير ذلك عن التدخُّل في شئون مراكش وعرقلة نشاط فرنسا وسياستها في هذه السلطنة، فلم يعُد في إمكان فرنسا بسبب هذه الاتفاقات الاعتداء على حدود برقة الجنوبية.

وأما السنوسيون فقد أُرغموا هم أيضًا على ترك النضال ضدَّ فرنسا في النهاية، عندما فاجأ الإيطاليون الدولة العثمانية بقطع علاقتهم معها وإعلان الحرب عليها في الأيام الأخيرة من شهر سبتمبر عام ١٩١١م، ثم أطلق أسطولهم قذائفه على مواني طرابلس وبرقة، ووقع على السنوسيين عبء الدفاع عن البلاد التي نشأت فيها دعوتهم، وكانت مقرَّ إمارتهم، وهو الدفاع الذي اتخذوا له عُدتهم من مدة طويلة؛ منذ تنبَّأ بمجيء «النابلطان» مؤسِّس السنوسية نفسه في أواسط القرن الماضي، فتقاطرت جموعُهم واحتشدت في ميادين القتال الشمالية خصوصًا في برقة، وبدأ من ثَمَّ ذلك النضال الصارم الذي استمرَّ من غير هوادة مدةَ الثلاثين عامًا التالية، وتحمَّل السنوسيون في أثنائه أعظم تضحيةٍ قدَّمتها أمة في العصور الحديثة من أجل المحافظة على بقائها. ويُعرِّف التاريخ هذا الاعتداء الإيطالي باسم الحرب الطرابلسية (الليبية) الإيطالية. ومنذ مجيء الطليان إلى برقة وطرابلس حتى وقت خروجهم منها مهزومين مقهورين، خطَّ السنوسيون قصة كفاحهم بدمائهم وأقاموا الدليلَ بعد الآخر على أن الشعوب التي تعتزُّ بعقائدها وتقاليدها وقوميَّتها لا يمكن فناؤها مهما تضافرت ضدَّها القوى المادية والتي تعتمِد في فرض سيطرتها وسلطانها على السيف والمدفع ووسائل إزهاق الأرواح الأخرى التي حذق الغرب صُنعها.

•••

وعندما وقع الاعتداء الإيطالي على طرابلس وبرقة حار الناس في تعليل أسبابه، وشغلوا أذهانهم في التنقيب عن الدوافع التي حدَت بالإيطاليين إلى امتشاق الحسام في وجه دولة — تركيا — لم يصدُر منها ما يُعكر علاقاتها بالمملكة الإيطالية، ومع أنه قد مضى الآن ما يزيد على ربع قرن من قيام الحرب الليبية-الإيطالية، ونُكِب العالم في أثناء هذه المدة مرتَين بحربٍ ضروس مُخربة، فإن معرفة أسباب العدوان الإيطالي في عام ١٩١١م وتناول قصة هذا العدوان من جديدٍ أمر في الحقيقة لا غِنى عنه؛ لأنه يُفسر وجهًا من وجوه السياسة الإيطالية في أفريقية الشمالية لم يَعتوره تبدُّل أو تغيير حتى انتهى المطاف بالطليان إلى محاولة الاعتداء على القُطر المصري في أثناء الحرب العالمية الثانية، فكان اندحارهم وطردُهم من أفريقية الشمالية برمَّتها النتيجةَ التي انتهت إليها هذه السياسة، وزيادةً على ذلك فقد كان مدار سياسة الإيطاليين في ليبيا القضاء على السنوسية؛ لأنهم أدركوا تمامًا تعذُّر استقرارهم في هذه الديار ما دامت السنوسية تتمتَّع بنفوذها القديم؛ ولذلك كانت مكافحة السنوسية ومحاولة إخماده بكل الطرق من أهم الأهداف المباشرة التي عمل الإيطاليون على تحقيقها، وظلَّت تُشكل سياستهم من وقتِ احتلالهم لبرقة وطرابلس إلى وقت خروجهم منها، وفي أثناء ذلك كلِّه ظلَّ السنوسيون عماد المقاومة الدامية في ليبيا، كما بقِيَت برقة زمنًا طويلًا مسرحًا لهذا الكفاح غير المتكافئ بين الفريقَين في وقتٍ أخمد فيه الإيطاليون كل مقاومة تقريبًا في طرابلس، ثم استطاع السنوسيون على الرغم من الخسائر الفادحة التي تكبدوها أن يُساهموا بكل ما بقِيَ لديهم من قوة في فصول مأساة هذا الكفاح القاسي الأخيرة، حتى أُسدل الستار نهائيًّا على أسطورة الإمبراطورية الإيطالية في شمال أفريقية.

ويعتقد كثيرون أن إيطاليا منذ أتمَّت وحدتَها بزعامة بيت سافوي الملكي في السبعينيات من القرن الماضي بدأت تصوِّب أنظارها نحو البلدان الواقعة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط؛ لأن هذه كانت قريبةً من الدولة الموحدة الجديدة، والميدان الذي لا مندوحة للمملكة الإيطالية من أن تهدف إلى التوسُّع فيه إذا شاءت الوصول إلى مرتبة الدول العظيمة، فتجدَّد عهد سطوة الرومان بالاستيلاء على مُمتلكاتهم القديمة في أفريقية. أضف إلى هذا أن رجال السياسة والاقتصاد في إيطاليا كانوا يخشَون من ازدحام شِبه الجزيرة الإيطالية بالسكَّان الذين يطَّرد نموُّهم، وصاروا، منذ أن استطاعت إيطاليا أن تُنشئ في رومة الحكومة الموحدة والمركزية، يتطلَّعون إلى أقطار جديدة ينزح إليها الإيطاليون المُستعمرون، فيخف ضغط هذا الازدحام في بلادهم من جهة، ويتمكنون من استخدام أموالهم ونشاطهم في استثمار موارد البلدان التي ينزحون إليها من جهةٍ أخرى. ووجد كثيرون، ممَّن عاصروا العدوان الإيطالي على طرابلس وبرقة وشهدوا حوادثه، في هذه المشكلة — معالجة ازدحام السكان واستثمار رءوس الأموال الإيطالية — مسوغًا لإقدام إيطاليا على احتلال برقة-طرابلس.

ومع هذا فهناك حقائق ثابتة لا مندوحة من ذكرها لبيان أسباب هذا العدوان الصحيحة، تُلخَّص في أن الأقطار الأفريقية الشمالية — بما في ذلك طرابلس وبرقة وتونس وغيرها — كانت محط أنظار الإيطاليين منذ بدأ ساستُهم ومفكروهم في أوائل القرن الماضي يُجاهدون في سبيل تحرير بلادهم من نير الأجنبي — «النمسا» — وجمع كلمة الأمة المُحررة في نظامٍ يكفل لها الحياة في كنف زعامةٍ مُستنيرة، أي قبل أن ينجح قادتهم في إنشاء إيطاليا الموحدة بمدةٍ طويلة، بل إن الإيطاليين في تلك الآونة كانوا يرجون أن تستطيع «مملكة نابولي» — النابلطان كما سمَّاهم السنوسيون الأوائل — الاضطلاع بمهمة هذا التوسُّع الخارجي. وزيادةً على ذلك فإن الإيطاليين الذين كانوا ينشدون الوحدة السياسية لبلادهم في ذلك الحين إلى جانب هذا التوسع، لم يكونوا يعدُّون القطر البرقاوي الطرابلسي وحدَه فقط ذلك «المجال الحيوي» الذي تحدَّثوا عنه فيما بعد وصار لا مفرَّ من امتلاكه. بل كان كل ما يَعنيهم مجرد التوسُّع لذاته فحسب، سواء جرى هذا في القارة الأوروبية ذاتها أو في بعض جزُر البحر الأبيض أو في قُطر من أقطار أفريقية الشمالية؛ ولذلك فإن الظروف السياسية وحدَها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر هي المسئولة إلى حدٍّ كبير عن اتجاه إيطاليا نحو الأقطار الليبية نهائيًّا. وكان من طبيعة هذه الظروف ذاتها أن يشعر الإيطاليون — الذين وجدوا فرصًا منوعةً تُفلت من أيديهم بسبب عجزهم عن تحقيق شيءٍ من هذا التوسع في وقت تسابقت فيه الدول الغربية العظيمة إلى امتلاك المستعمرات في أنحاء المعمورة — بأنهم لا يزالون في مصافِّ الدول الصغيرة، فكان لهذا الشعور نتائج خطيرة لأنه ما لبث أن صار يُشكل أهداف إيطاليا طوال القرن التاسع عشر، ويؤثر تأثيرًا واضحًا على شئونها الخارجية والداخلية على السواء حتى قيام الحرب العالمية الثانية، أي بعد أن تمَّت وحدتها السياسية بسبعين عامًا ونيف؛ ولذلك كان تصميمها على أن تزجَّ بنفسها في المغامرة الليبية يرتبِط في الحقيقة بالظروف السياسية التي أوجدت لدى الطليان شعورَ النقص من مدة طويلة. ولمَّا كان من المتعذِّر على الأمم دائمًا أن تعزو فِعال أبنائها إلى شعورهم بمُركَّب النقص، فقد عمد الإيطاليون يُنقبون عن طائفة من «المسوِّغات» التي تفسر أمام العالَم اعتداءهم على ممتلكات دولةٍ كانت قُبيل هذا الاعتداء بأيام قلائل فقط تُعتبَر دولة صديقة، ولم يحدث ما يدلُّ على أنه كان متوقعًا تغيُّر هذه الحالة كما أصبح ضروريًّا التذرُّع بشتى الوسائل لفصم العلاقات مع تركيا وإعلان الحرب عليها.

أما المسوغات التي تشبثت بها إيطاليا لتفسير عدوانها، فأهمُّها ضرورة الاستيلاء على مُمتلكات جديدة يُهاجر إليها الإيطاليون من مُدنهم وقراهم ودساكرهم التي ادَّعوا أنها صارت مزدحمة بسكانها، ثم يلي ذلك واجب استثمار برقة وطرابلس وهي بلاد خصبة وذات موارد طبيعة غنية حتى لا يُحرم الإيطاليون من فرصة استخدام رءوس أموالهم إلى جانب تدريب شبَّانهم وأكفاء رجالهم على الأعمال المُنتجة، زِد على ذلك أن الاستثمار ولا شكَّ سوف يعود كما قالوا بالمَنفعة على الأقطار الليبية ذاتها، إذ يكون من أهداف الطليان في مُستعمراتهم الجديدة إصلاح مرافق البلاد وترقية شعوبها، وهذه بلا شك كانت ادِّعاءات واهية، كما أن جميع الحجج التي قدَّمتها إيطاليا كي تسوِّغ بها عدوانها على برقة وطرابلس كانت مبنية على مجرد أوهامٍ وأمانيَّ خيالية.

إذ من المعروف مثلًا أن الجهاد في إيطاليا من أجل التحرير والخلاص وتحقيق الوحدة السياسية قد تكلَّف نفقاتٍ طائلة وقع عبئها على كواهل أهل الجنوب خصوصًا، حتى ذكر أحد ثِقاة الكتاب الطليان أنفسهم أن «مملكة الصقليتَين» في أواخر القرن التاسع عشر وبعد عشرين عامًا من إتمام الوحدة وظهور المملكة الإيطالية، كان لا يزال يدفع أهلها مليونًا ومائتي ألف من الجُنيهات سنويًّا فوق ما ينبغي عليهم أن يدفعوه وفي مقدورهم، الأمر الذي ترتَّب عليه انخفاض مستوى المعيشة في الجنوب عمومًا؛ فقلَّت الأغذية الصالحة والصحية في نابولي، وقفرت المزارع من أهلها، وأهملت الأرض، وعاش السكَّان في أكواخ حقيرة أو مساكن موبوءة وانتشرت الأمراض الخطيرة، ونجم ذلك كلُّه عن عجز الحكومة عن مقاومة فيضانات الأنهار أو صيانة الغابات أو إصلاح الطرق أو إنشاء الإدارة الصالحة النزيهة، حتى عمد الأهلون إلى المهاجرة من هذه البلاد فرارًا من البؤس والشقاء، فبلغ عدد الذين غادروا هذا الجحيم حتى عام ١٩٠٦م الثمانية عشر ألفًا من سكانٍ يبلُغ عددهم حوالي النصف مليون نسمة، وقد فضل حوالي ٩٨٪ منهم الهجرة إلى أمريكا، وأما نسبة الأُميين بعد مرور قرن من الزمان على تعميم التعليم الإجباري فقد بلغَت في الجنوب ٧٥٫٤٪ في عام ١٩٠١م، بينما كانت النسبة في الشمال في بيدمنت ١٧٫٧٪ مما لا يدع مجالًا للشك في أن الحكومة الإيطالية كانت تواجِه واجبًا وطنيًّا خطيرًا، يقتضيها بذل الجهود العظيمة مِن أجل إصلاح أحوال الوطن أولًا وقبل محاولة إصلاح أحوال الغير، ونشر ألوية الحضارة والعمران بين شعوب غريبة عنهم.

وعلاوةً على ذلك فقد أجمع المُعاصرون على أن الطليان كانوا يُعاملون أهل سردينيا وصقلية أسوأ معاملة، فأهملت المواصلات بهاتَين الجزيرتَين، وعند اشتداد المطر كانت المياه تحفر جهات برمَّتها في أرض سردينيا، وعاش فقراء الناس في هاتَين الجزيرتَين في شقاء وبؤس وهوان ومذلَّة، ثم انتشرت بينهم الأمراض التي ذهب ضحيتها كل عامٍ ألوف من هؤلاء التعساء، وكان لا يُهم الطليان السادة من أهل هذه البلاد سوى استغلالهم شرَّ استغلال، فكانوا يقرضون الأهلين في سردينيا المبالغ الضئيلة — لمُساعدتهم على تحسين أحوالهم كما يدَّعون — بفوائد باهظة كثيرًا ما بلغت ١٨٪، حتى إذا عجز المدين اليائس عن تسديد دَينه، جرَّده دائنوه الطليان من كلِّ ما يملك. ثم بلغت هذه الممارسة حدًّا من البلاء والسوء جعل الدائنين الطليان يطلبون دائمًا حماية رجال الشرطة كلَّما ذهبوا لتحصيل فوائد ديونهم أو انتزاع أراضي ومُمتلكات الأهلين، وهكذا. هذه كانت حكومة الطليان وإصلاحاتهم في البلاد الخاضعة لهم. وما كان أحراهم أن يُزيلوا هذه المساوئ في سردينيا وصقلية ونابولي مثلًا، وأن يعملوا على استثمار موارد بلادهم قبل التفكير في امتلاك بلدانٍ أجنبية عنهم، وفرض سلطانهم على شعوب تختلف عنهم في الثقافة والتقاليد والدين واللغة.

ومع هذا، فهل كانت طرابلس — برقة — غنية حقيقة بمواردها لدرجة أنه إذا أحسن الطليان أو غيرهم استثمار هذه الموارد جاءتهم بالخير العميم؟ وهل تأكد الطليان قبل أن يُقدموا على مغامرتهم من أن المعلومات التي لدَيهم عن غِنى هذه الولاية العثمانية بثرواتها الطبيعية كانت صحيحةً حقًّا؟ أم أن الجشع قد أعمى قلوبهم وطمس على بصائرهم فصاروا لا يُميزون بين الوهم والحقيقة؟ يذكر المعاصرون المُحايدون أن الصحف الإيطالية ظلَّت تتغنَّى بثروة طرابلس — برقة — الزراعية والمعدنية جُملة سنوات قبل عدوان الطليان، لدرجة أن هؤلاء أصبحوا شديدي الاعتقاد بأن الأقطار الليبية سوف تدرُّ عليهم سيلًا من الخيرات لا يفنى، وظهرت عبقرية الطليان في ابتكار الأغاني والأناشيد التي صاروا يترنَّمون بها عند وصف «طرابلس الجميلة»، وطاب للأهلين في اجتماعاتهم أن يقصُّوا الأقاصيص الخلَّابة عن ثروة طرابلس وخصوبة أرضها، ووفرة ثروتها المعدنية، ولعبت الصحف الإيطالية دورًا كبيرًا في تغذية هذه الأوهام والأحلام، ثم انتقل المرض من أحزاب «اليمين» — أي من أولئك الذين يريدون إحياء الإمبراطورية الرومانية القديمة بالاستيلاء على أرضٍ يستطيعون استغلال مواردها واستثمار رءوس أموالهم في هذا الاستغلال؛ لأنهم كانوا من «المُمولين» ينشدون التوسع الخارجي لخدمة مصالحهم المالية والاقتصادية — إلى أحزاب «اليسار» من الاشتراكيين الذين كانوا يريدون في الأصل تحرير بلادهم من سيطرة الرأسماليين، فأصبح الجميع الآن يُردِّدون أقصوصة «طرابلس الجميلة» الغنية، ويؤيدون كل سياسةٍ ترمي إلى الاستحواذ على ليبيا. وهكذا تمَّ للطليان ما ظلوا يُمنون به النفس دهرًا طويلًا، وقامت الحرب، وأحرز المُعتدون بعض الانتصارات ونزلوا إلى الشواطئ واحتلوا المرافئ، ثم نشطت صحفهم من جديدٍ وأخذت تُقيم الحجة بعد الحجة على أن البلدان التي دانت لسلطانهم غنية بثروتها المعدنية وخصوبة أرضها ووفرة غلَّاتها. وفي هذه المرة أيضًا كان الاشتراكيون في مقدمة أولئك الذين حاولوا إقناع أنفسهم وإقناع مواطنيهم بهذه الأوهام، فطفق كبارهم يتحدَّثون في الصحف عن أهمية الاحتلال الإيطالي لطرابلس من الناحية الاقتصادية، ثم نشرت «جريدة صقلية» في هذا المعنى مقالًا في يناير ١٩١٢م دبَّجه يراع النائب الاشتراكي «دي فيليس»، وساق فيه البراهين والأدلة التي تُثبت مقدار الثروة العظيمة الكامنة بأرض طرابلس الخصبة الغنية، ثم تحدَّث عن وفدٍ كان قد تألف من ثلاثة أعضاء من بينهم اشتراكيَّان ليجمع الأدلة القاطعة على أن احتلال طرابلس سوف يأتي بالخير الكثير على المستعمرين الطليان.

فقام هذا الوفد بزيارة تلك الشقة الضيقة التي «فتحها» الإيطاليون من ابتداء الحرب حتى وقت الزيارة في يناير ١٩١٢م، والتي ظل الجيش الفاتح في الحقيقة عاجزًا حتى نهاية الحرب عن مغادرة المراكز التي أنشأها في هذه المنطقة تحت حماية مدفعية أساطيله، فزار الوفد «سيدي المصري»، وأبدى الأعضاء شجاعةً فائقة عندما قرَّروا التقدُّم إلى مسافة قليلة من الخنادق التي حفرها جند الطليان للاحتماء بها، فلاحظوا وسط كثبان الرمال البعيدة «خضرة جميلة»، فقرروا الوقوف في المركبة أو العربة التي كانت تُقلهم حتى يتبيَّنوا أمر هذه الخضرة، فشاهدوا كما رسم لهم الوهم سهولًا مُمتدَّة أمامهم «ويا للمعجزة! غابات عظيمة من النبات الأخضر العالي!» فكان هذا الاستكشاف كافيًا لأن يجعل أعضاء الوفد يبحثون في التوِّ والساعة مسائل الري ووفرة المياه، ثم أشركوا معهم دليلَهم في هذا البحث، فأكَّد لهم أن المياه كثيرة جدًّا في واحة طرابلس، وأن كل عربي يملك بئرًا في منزله، وفي الجهات الأخرى التي يقلُّ فيها المطر يُستغنى عنه بالندى الذي يتساقط أثناء الليل، فأخذ أعضاء الوفد كلام الدليل قضيةً مسلمة، وأن مهمتهم قد تم أمرها على أحسن ما يكون، وخصوصًا لدى معرفتهم بأن الأراضي الخصبة بمدينة طرابلس مُركَّبة من طبقة نصف رملية ونصف كلسية، وهذه الطبقة من شأنها حفظ كميةٍ من الماء بين أجزائها.

ومع هذا فإن النبات الأخضر العالي الذي شاهدوه لم يكن سوى خشبٍ بريٍّ ينمو في الصحراء ولا يزيد ارتفاعه عن الثماني عشرة بوصة، ولا ينتفع به أحد حتى الجمال، فإنها لن تأكُل منه إلا إذا اشتدَّ بها الجوع أو كاد يقتُلها. وأقصوصة «الندى» العظيم ما كان يجدُر بعاقل أن يُصدقها، وعلاوة على ذلك فقد اطمأن السنيور دي فيليس إلى أنه ما دامت الآبار الارتوازية في بلاد الجزائر الغربية يُعطي كل «٦٨» بئرًا منها مقدار (١٣٠٠٠) لتر من الماء في الدقيقة الواحدة، فإن آبار طرابلس الكثيرة لا بدَّ من أن تُعطي قدرًا من المياه أعظم من ذلك، متناسيًا أن هذا الجزء من شمال أفريقية الذي يضم كلًّا من مراكش والجزائر وتونس يختلف جغرافيًّا عن الجزء الذي يضم طرابلس الغرب الواقعة على حافة الصحراء والتي لا يزيد فيها مُعدل المطر السنوي عن إحدى عشرة بوصة (في برقة وطرابلس)، وهذا بينما يتراوح في مراكش والجزائر وتونس بين ٢٠ و٤٠ بوصة، وهكذا أبرق الوفد: «لقد زُرنا الصحراء وكل الأراضي صالحة للزراعة بدرجة عظيمة!» فإذا قورن هذا الكلام بما أسفرت عنه بحوث لجنة كانت قد تشكَّلت قبل ذلك بأربعة أعوام (١٩٠٨م) للبتِّ فيما إذا كانت برقة تصلح موطنًا لليهود، لتبيَّن لنا مقدار الخطأ الذي وقع فيه هذا الوفد الإيطالي. فقد كتب أحد أعضاء هذه اللجنة البارزين: «ولو أن برقة من غير شكٍّ أعظم مقاطعات طرابلس الغرب خصوبة، نرى لزامًا علينا أن نُقرر مع الأسف أن هذه البلاد — بسبب مساحتها الواسعة التي تتألف من أراضٍ لا فائدة منها، ولعدم كفاية مائها، ولأن مورد هذه المياه لا يمكن الاعتماد عليه — غير صالحة بالمرة لإنشاء المستعمرات الزراعية المُتسعة.» حقيقةً كانت السفن قديمًا تنقل القمح إلى رومة وبيزنطة من «شحات»، وكانت الأقطار الليبية تذخر بالحياة والنشاط، حتى إن «غات» التي تبعُد في الداخل نحو الستمائة ميل داخل مدينة طرابلس كانت في عهد الإمبراطورية الرومانية مركزًا تجاريًّا وعسكريًّا عظيمًا، ولكن الذي نَسِيَه الإيطاليون الحديثون — أبناء الرومان القدماء! — أن جدودهم نجحوا في إقامة نظامٍ للري في طرابلس وبرقة يعتمِد على الدقة في جمع كل قطرةٍ من قطرات المطر المُتساقط، ثم توزيع هذه المياه توزيعًا منظمًا علميًّا، فأكثروا من حفر الآبار وإنشاء الصهاريج، وبنوا الترع والقنوات التي تربط بين الواحات والمدن الساحلية. وقد برهنت الحوادث فيما بعد على أن الإيطاليين لم يُحققوا أحلامهم في «طرابلس الجميلة» إلا في تلك الأراضي الخصبة التي ظلَّ العرب يزرعونها أجيالًا عديدة، والتي لجأ الطليان في آخر الأمر إلى انتزاعها من أيدي ملَّاكها، وجلب «المُعمرين» من بلادهم لاستغلالها بعد أن طردوا أصحابها الشرعيين منها.

بيد أن سبب العدوان الإيطالي على طرابلس الغرب كانت ترجع أصوله في الحقيقة إلى ذلك الشعور بالنقص الذي سبقت الإشارة إليه، وهو شعور كان من سوء حظ إيطاليا الحديثة أنها لم تستطع التخلُّص منه، خصوصًا بعد أن نجحت في إنشاء وحدتها السياسية بزعامة بيت سافوي الملكي. ومنذ أن ناضل أحرارها وزعماؤها في سبيل النهوض ببلادهم وتخليصها من شرور سيطرة النمسا الأجنبية، اتجهت أنظار هؤلاء القادة إلى ضرورة التوسُّع الخارجي، فذكر «مازبني» عند كلامه عن «بعث» الدولة الفتية الحديثة أن أفريقية الشمالية من أملاك إيطاليا. وفي عام ١٨٤٢م كتب «سيزا ربالبو» في مؤلفه المشهور «عن آمال إيطاليا» — وهو الكتاب الذي ظلَّ يسترشِد بآراء صاحبه جميع السياسيين الذين ساهموا بنصيبٍ في بناء وحدة إيطاليا — أنه بمجرد أن تحصل إيطاليا على استقلالها يجب عليها أن تُفكر في ضرورة التوسع صوب الشرق والجنوب، وواجب نابولي — أو النابلطان — أن تقوم حينئذٍ بالشطر الأول من هذا التوسُّع المنتظر، سواء كان ذلك في تونس أو في طرابلس أو في جزيرة من الجُزر أو في جزءٍ من أجزاء القارة الشرقية. ومن ذلك الحين ظلَّ الإيطاليون يعتبرون أفريقية الشمالية منطقة نفوذ إيطالية، وقد عزَّز هذا الاعتبار أن نابليون الثالث في حديثٍ له مع زوج ملكة الإنجليز فيكتوريا في عام ١٨٦٥م في «إسبورن» اقترح «إعطاء طرابلس إلى إيطاليا»، وزيادةً على ذلك فقد ذكر «البارون بلانك» وزير خارجية إيطاليا في خطابٍ ألقاه في مجلس النواب الإيطالي في مايو ١٨٩٤م، أن نابليون الثالث كان قد وافق رسميًّا على أن يحتل الإيطاليون تونس، وأنه حدث عند انعقاد مؤتمر برلين في عام ١٨٧٨م أن اقترحت كلٌّ من النمسا والروسيا على إيطاليا أن تبسط حمياتها على تونس، ولكن إيطاليا امتنعت عن فعل ذلك رغبةً منها وقتئذٍ في احترام شعور الفرنسيين! ولذلك خرج الإيطاليون صفر اليدَين من هذا المؤتمر. وفي الواقع كانت هذه الرغبة ذاتها في عدم إيلام الفرنسيين السبب الذي ضيَّع على الإيطاليين فرصةً مواتية قبل ذلك بسنوات قليلة للاستيلاء على تونس، وذلك في يناير ١٨٨١م، عندما تعكَّرت العلاقات بين الحكومة الإيطالية في فلورنسة — العاصمة وقتئذٍ بعد تورين، وقبل أن تصبح رومة أخيرًا عاصمة المملكة — وبين باي تونس، واستعدَّ الأسطول الإيطالي لمغادرة «سيبتزيا» يحمل جنودًا لإنزالهم في تونس، فأسرع الوزير الفرنسي في فلورنسة يشرح للسلطات الإيطالية تحرُّج مركز الفرنسيين في أفريقية الشمالية بسبب الاضطرابات القائمة وقتذاك في بلاد الجزائر، ولأن الثوار العرَب كانوا قد أرسلوا نداءً باسم «الشعب الجزائري» إلى وليم الأول إمبراطور ألمانيا، وتخشى فرنسا إذا أصرَّت إيطاليا على إرسال حملتها إلى تونس أن يتَّسع عليها الخرق في الجزائر في وقتٍ كانت لا تزال قواتها مشغولةً بالدفاع الأهلي في داخل فرنسا ذاتها، فقرَّر الإيطاليون الإقلاع عن هذا الغزو، ولو أنه كان من أسباب هذا العدول أيضًا خوف الإيطاليين أنفسهم من الأسطول العثماني الذي هدَّدت تركيا بأنه سوف يكون على قدم الاستعداد لمقابلة الإيطاليين عند «لاجوليته»؛ ولذلك كان شعور الإيطاليين بالخيبة عظيمًا عندما وجدوا الفرنسيين يُرسلون جيوشهم إلى تونس ويحتلونها في عام ١٨٨١م من غير أن تُحرك بريطانيا أو ألمانيا ساكنًا، وكانت دهشة الإيطاليين كبيرة لأنهم ما كانوا يعرفون أن «تونس» كانت الثمن الذي نالته فرنسا في نظير موافقتها على استيلاء إنجلترا على «قبرص»، فعقدت فرنسا مع باي تونس معاهدة «باردو» في ١٢ مايو ١٨٨١م، واستطاعت أن تحتلَّ البلاد من غير معارضة.

فاشتدَّ حنق الطليان على فرنسا، واستقالت الوزارة الإيطالية بعد يومَين فقط (١٤ مايو)، ووقعت حوادث مؤسفة كثيرة. وفي يوليو نصحت الصحف الإيطالية البلاد بأن تجعل كل اعتمادها في المستقبل على دول الوسط الأوروبية — ألمانيا والنمسا — حتى تحصل على مؤازرة هاتَين الدولتَين في تأييد مصالحها فيما وراء البحار. ولمَّا كان من سياسة بسمارك اجتذاب إيطاليا إلى المُحالفة التي عقدها مع النمسا (في ٧ أكتوبر ١٨٧٩م) — وهي المُحالفة التي ظلَّت، كما يقول أحد المؤرخين، محور العلاقات الدولية الأوروبية من ذلك الحين إلى قيام الحرب العالمية الأولى(١٩١٤م) — فقد مهد لاجتماع ناجح في فينا في أكتوبر ١٨٨١م بين همبرت الأول ملك إيطاليا وفرنسوا جوزيف إمبراطور النمسا.

وفي ٢٠ مايو من العام التالي عقدت الدول الثلاث، إيطاليا والنمسا وألمانيا، المُحالفة الثلاثية المشهورة، فجاء انضمام إيطاليا إلى النمسا عدوَّتِها القديمة التاريخية في مُحالفةٍ مؤذنًا ببداية سياسة المُحالفات التي صارت إيطاليا تعتمِد عليها في دبلوماسيتها. وبعد تجارب الحوادث السابقة كان انضمام إيطاليا إلى المحالفة الثلاثية بمثابة الاعتراف الصريح بأنها لا تستطيع، ما دامت منفردة، تحقيق مآربها، كما أن دخولها في المحالفة إلى جانب مجموعة من الدول لا تربط إيطاليا بها أواصر صداقة قديمة، ولا يزال بين إيطاليا وبين النمسا خصوصًا من أسباب النزاع ما يجعل هذه المُحالفة غير مستقرة، كان يدل على أن إيطاليا إنما رضِيَت بذلك كلِّه حتى تتمكن من استخدام هذه المحالفة في تعزيز سُمعتها السياسية والضغط على فرنسا، وهي الدولة التي كانت تقِف حجرَ عثرة في طريق توسُّعها في أفريقية الشمالية.

وليس هناك شك في أن المحالفة الثلاثية قد عزَّزت مركز إيطاليا، ولو أنها من جهة أخرى لم تساعد الإيطاليين على تحقيق شيءٍ من مآربهم في أفريقية؛ ولذلك اتَّجه الإيطاليون صوب إنجلترا. وفي عام ١٨٨٥م كانت العلاقات بين هاتَين الدولتَين قد تحسَّنت لدرجةٍ مكَّنت إيطاليا من احتلال مصوع على شاطئ البحر الأحمر الأفريقي، وفي الأعوام التالية شُغلت إيطاليا بتأسيس إمبراطوريتها في إرتريا (١٨٩٠م)، ثم طفق رئيس حكومتها «كريسبي» يعمل من أجل الاستحواذ على الحبشة، ولكن الأحباش استطاعوا في النهاية تبديد هذه الأحلام الجميلة عندما أنزلوا بالإيطاليين هزيمةً قاصمة في موقعة «عدوة» المشهورة في أول مارس ١٨٩٦م، فكان لهذه الهزيمة دويٌّ عظيم سقطت على إثرها وزارة «كريسبي»، ثم التجأت فلول الإيطاليين إلى «الإرتريا» التي انكمشت مساحتها كثيرًا في معاهدة سبتمبر ١٩٠٠م، وبعد خمس سنوات من هذه الحوادث كان كلُّ ما حصلت عليه إيطاليا في هذه الأنحاء، الاضطلاع بأعباء الإدارة في بلاد الصومال التي بسطت عليها حمايتها (١٩٠٥م).

وأمام هذا الفشل الذريع في الحبشة، وبمجرد أن انهارت آمال الإيطاليين في إنشاء إمبراطورية أحلامهم في أفريقية الشرقية، اتجهت أنظارهم من جديد إلى أفريقية الشمالية. ولمَّا كانت فرنسا هي منافسة إيطاليا الكبيرة في هذه الأقطار، فقد أدرك الطليان أنهم لا يستطيعون تحقيق مآربهم إذا ظلُّوا في خلافٍ معها، ولم تلبث أن تضافرت عوامل عدة لإحلال الوئام محلَّ النزاع. وللتقريب بين وجهتي النظر، فإن الرأي العام في إيطاليا كان شديد المَيل إلى التقرب والتفاهُم مع الدولة الديمقراطية اللاتينية (فرنسا)، ويفرُّ من المحالفة مع ألمانيا والنمسا. أضف إلى هذا أن المحالفة الثلاثية — وهي التي صار تجديدها لمدة عشر سنوات أخرى في ٢٠ فبراير ١٨٨٧م — كان لا يمكن أن تُحقق مطالب الإيطاليين القومية، فإن النمسا كانت لا تزال تحتل «الأراضي غير المُحررة في تريستا وترنتينو، ولم يقُم دليل ما، على الرغم من المحالفة، على أنها كانت تنوي وقتئذٍ إخلاءها؛ ولذلك كانت المحالفة الثلاثية من وجهة نظر الإيطاليين عديمة الفائدة من هذه الناحية. ولمَّا كان هؤلاء قد أفادوا من الأثر الذي أحدَثه انضمامهم إلى جانب الدول الأوروبية العظيمة واستخدموا مؤازرة ألمانيا الدبلوماسية خصوصًا في تعزيز علاقاتهم مع الدول الأخرى ومع فرنسا، فقد استطاعوا تسوية خلافاتهم تدريجيًّا مع هذه الدولة الأخيرة، ثم لم يكد يمضي عامان على هزيمة «عدوة» حتى كانت إيطاليا قد أوقفت حربها الجمركية مع فرنسا (١٨٩٨م). واعترفت الجمهورية من ناحيتها بادِّعاءات إيطاليا على طرابلس الغرب، فأصبح ظاهرًا أن الدولتَين اللاتينيَّتَين تعيشان في وئامٍ كامل.

وعلى ذلك عقد الفريقان في ديسمبر ١٩٠١م اتفاقًا تناول شئون البحر الأبيض المتوسط أصبحت بمُقتضاه برقة وطرابلس منطقة نفوذ إيطالية، وتعهدت فرنسا بالتزام خط الحدود الذي أوجده تصريح لندن في ٢١ مارس ١٨٩٩م فاصلًا بين منطقتي نفوذهما ومُمتلكاتهما في أفريقية الغربية على نحوِ ما سبق ذكره. وفي نظير ذلك وافقت إيطاليا على إطلاق يد فرنسا في مراكش، وكانت إيطاليا في المدة الأخيرة تُظهر شيئًا من النشاطِ المُضرِّ بمصالح الفرنسيين في المغرب الأقصى، ثم لم يلبث هذا الاتفاق أن تعزَّز في بداية عام ١٩٠٢م عندما أعلن السفير الفرنسي في خطابٍ ألقاه في رومة: «إن قيام نضال بين الأمتَين اللاتينيتَين قد أصبح مستحيلًا!» ثم توثَّقت أواصر الصداقة بين إيطاليا وفرنسا في الأعوام التالية، واستطاعت إيطاليا في ذلك الحين أن توجِّه كل اهتمامها إلى الأقطار الليبية، وعندما وقف السنيور «تيتوني» Tittoni في مجلس الشيوخ الإيطالي في عام ١٩٠٤م معلنًا أن الدول قد اعترفت بالوضع المُمتاز الذي تتمتَّع به إيطاليا في طرابلس، لم تعترض على قوله دولة من الدول، وأضاف «تيتوني» أن حكومة الملك فكتور عمانويل! إنما تمتنع عن تنفيذ حقوقها باحتلال هذه البلاد عسكريًّا رغبةً منها فقط في أن يجيء الوقت الذي تجعل فيه الظروف هذا الاحتلال أمرًا لا مفرَّ منه في النهاية، ذلك أن بسط حماية إيطاليا على طرابلس ضرورة لا غِنى عنها من أجل المحافظة على التوازن في البحر الأبيض المتوسط. ولذلك فإن كل ما يطلبه «تيتوني» من الباب العالي في هذه الآونة هو أن يمنح الإيطاليين تسهيلاتٍ تشجعهم على المضيِّ في نشاطهم التجاري والاقتصادي في هذه الولاية العثمانية.

والواقع أن إيطاليا سرعان ما صارت تنظر إلى برقة وطرابلس كما لو كانت هذه البلاد مقاطعاتٍ غير عثمانية، وتخضع لنفوذ الإيطاليين حقيقة، وصار يسوءُها أن تصبح لدولة أخرى مصالح كبيرة في ليبيا، فشكَت صحافتها مثلًا في عام ١٩٠٦م من سيطرة الفرنسيين تدريجيًّا على طرق المواصلات بين طرابلس ودواخل البلاد، وهي — أي الطرق — التي يتوقف عليها رخاء هذه الأقطار في المُستقبل؛ فقالت «الجورنالي ديتاليا» في ٢٤ سبتمبر من العام نفسه إنه «سوف ينجم عن ذلك — عندما يحين الوقت لتنفيذ العهود التي قطعها الفرنسيون على أنفسهم معنا في مسألة طرابلس — ألا نحصل نحن على شيءٍ سوى قطعة من العظم عارية من اللحم!» وكان سبب الشكوى احتلال الفرنسيين لواحة «بيلة» الواقعة على طريق القوافل بين مدينة طرابلس وبحيرة تشاد، مع العلم بأن هذه الواحة كانت تقع في الحقيقة في دائرة النفوذ الفرنسي حسب اتفاق عام ١٨٩٩م.

وفي عام ١٩٠٨م أخذ الشكُّ يساور إيطاليا من نوايا الألمانيين الذين قويَ نفوذهم في الآستانة عقب حوادث الانقلاب الدستوري المشهور في تركيا بسبب ما كان يظهره السفير الألماني في الآستانة من ضروب التشجيع لأعضاء «لجنة الاتحاد والترقي» الذين تم على أيديهم هذا الانقلاب؛ لأن إيطاليا قبل قيام هذه الثورة كانت في نزاعٍ مع حكومة السلطان العثماني بسبب الصعوبات التي ادَّعت أن رجال الدولة كانوا يُلقُونها في طريق رعايا إيطاليا لمنعهم من امتلاك العقارات الثابتة في أنحاء الدولة، ثم لم تلبث الحكومة الإيطالية أن قامت بمظاهرةٍ بحرية مكَّنتها من تسوية مشاكلها بطريقةٍ تكفل لها مصالحها في النهاية، ومن ذلك اعتراف تركيا (بمكتب البريد) الذي أنشأته إيطاليا في بنغازي تحت حماية أساطيلها.

وفي فبراير ١٩١٠م ظهر تمسُّك إيطاليا بنفوذها في طرابلس الغرب لدرجة أنها كانت تعتبر هذا القطر «أرضًا إيطالية» حقيقة، عندما أُثير في البرلمان الإيطالي موضوع «اعتداء» فرنسا على الحدود الطرابلسية، بل كان طريفًا حقًّا أن يحتج الطليان فيما بعد على الحكومة العثمانية لإرسالها «نقالات عسكرية» إلى طرابلس عند تفاقُم الحالة، فأشار وزير الخارجية الإيطالية في إنذاره النهائي الذي تضمَّن إعلان الحرب على تركيا إلى «النتائج والأخطار» التي نجمت عن ذلك. وفي أثناء الحرب عندما «جعلت الظروف احتلال إيطاليا لهذه البلاد عسكريًّا أمرًا لا مفرَّ منه» رفعت إيطاليا عقيرتها بالاحتجاج مرةً أخرى ضد خداع ومراوغة فرنسا وإنجلترا، وهما الدولتان اللتان وافقتا على ادعاءات إيطاليا في طرابلس الغرب؛ لأن هاتَين الدولتَين أعلنتا حكومة رومة في ديسمبر ١٩١١م بأن الفرنسيين احتلوا واحة «جنات»، بينما ضمَّت الحكومة المصرية خليج ومرفأ السلُّوم بموافقة السلطان العثماني، فقد اعتبرت إيطاليا هذَين العملَين اعتداءً صريحًا على «أملاكها»، وكتب أحد ساستهم المشهورين السنيور «سيرماني»: «إن السلوم جزء من برقة التي أعلنت إيطاليا وضعها تحت سيادتها الكاملة، فكيف يتسنَّى لإنجلترا ومصر أن تقبلا السلُّوم هديةً من السلطان العثماني؟ وما معنى هذا التغيير المُستمر الذي يحدُث في الحدود المصرية ضد مصلحة برقة والحرب الإيطالية العثمانية لا تزال دائرة؟» وأما واحة «جنات» فقد أرسل الفرنسيون لاحتلالها بعض جنودهم في الجزائر، فاستولوا عليها في ٢٧ نوفمبر ١٩١١م بدعوى أن إخلاء الجند العثمانيين لمراكزهم الجنوبية في غات وغدامس منذ نشوب الحرب الإيطالية-الليبية للانضمام إلى القوات المُحاربة في الشمال سبب اضطراب الأمن في هذه الجهة. وتبعُد «جنات» نحو المائة كيلومتر إلى الجنوب الغربي من غات.

والواقع أن إيطاليا منذ أن اطمأنَّت إلى إطلاق يدِها في طرابلس الغرب «بموافقة الدول العظيمة» شرعت تُعد العدة لتنفيذ مآربها الاستعمارية، وكانت وسيلتُها في ذلك العمل من أجل نشر النفوذ الإيطالي وتعزيزه في برقة وطرابلس، حتى إذا أتمَّت استعدادها وصلحت أحوالها الداخلية وقوِيَت جاليتها في الأقطار الليبية، وجاءت الظروف التي تجعل الاحتلال أمرًا لا مفرَّ منه، أقدمت إيطاليا على إرسال جيوشها إلى هذه البلاد لاحتلالها.

وتنوَّعت أساليب الإيطاليين في نشر دعوتهم في برقة-طرابلس وتعدَّدت، فاستطاعوا، تحت ستار الخدمة الإنسانية ونشر العلم، أن يُنشئوا في مدينة طرابلس وغيرها طائفة من المدارس التي علَّمت لُغتهم ودينهم ونشرت ثقافتهم وعاداتهم، ثم لم يَقصُروا التعليم بهذه المدارس على الذكور، بل أشركوا فيه الإناث، وجعلوا التعليم بالمجَّان حتى لا يتحمَّل أبناء العرب وبناتهم شيئًا من نفقات تعليمهم، ثم سرعان ما صاروا يُنشئون إلى جانب هذه المدارس المستشفيات والملاجئ الصحية للمرضى والعاجزين للقيام على راحتهم وعلاجِهم من غير نفقة، ثم اتخذوا من الاهتمام بالبحوث العلمية والجغرافية ستارًا لدراسة طبيعة الأقطار الليبية استعدادًا للغزو، فأرسلوا جُملة بعثاتٍ لهذه الغاية، كانت آخِرها تلك التي ترأَّسها «الكونت سفورزا» للتنقيب عن معدن الفوسفات، وانضم إليها ضباط من هيئة أركان الحرب الإيطالية، فاستطاع أعضاؤها أن يضعوا المُصوَّرات والخرائط الحربية، وأن يقوموا بدراسة حالة الأرض دراسة كاملة؛ لأن هذه البعثة المشئومة على البلاد ظلَّت في الحقيقة تقوم بمهمتها المزعومة وتضرب في أنحاء البلاد إلى وقت إعلان الحرب، ولكن أعضاءها لم يتمكَّنوا من الإفلات في النهاية، فانكشفت حقيقة أمرهم أمام الجميع.

وكذلك اتخذ الطليان من الرغبة في تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية بين بلادهم وبين الأقطار الليبية ذريعةً لإرسال العدد الكبير من أبنائهم ورجالهم للتجارة وإنشاء المصانع والمعامل التي كانت في الواقع أشبهَ بالحصون ومخازن الذخيرة منها بأيِّ شيءٍ آخر، وعندما حصل الإيطاليون من الحكومة العثمانية في عام ١٩٠٥م على امتيازٍ بإنشاء فرعٍ لبنك دي رومة في طرابلس وبرقة صارت مُهمة هذا الفرع في الحقيقة نشر الدعاية الإيطالية والتجسُّس على أحوال البلاد والأهلين في ليبيا. ثم استفادت الحكومة الإيطالية من نظام الامتيازات المعمول به في أنحاء الإمبراطورية العثمانية، فأنشئوا في إيالة طرابلس الغرب (في بنغازي) مكتبًا للبريد يُرسلون بواسطته ما يريدون من رسائل وتقارير من غير رقابة، وقد سبق أن ذكرنا كيف اضطرَّت الحكومة العثمانية إلى الاعتراف رسميًّا بوجود هذا المكتب.

بيد أن الذي ساعد الإيطاليين على ذلك كله هو وجود الحالة السيئة التي سبَّبت الفوضى والارتباك في شئون الدولة العثمانية قبل حدوث الانقلاب الدستوري (في عام ١٩٠٨م) فلم تلقَ الولاية أي عناية أو اهتمام من جانب السلطات الحكومية في الآستانة، وأساء المسئولون اختيار الحكَّام ورجال الإدارة في طرابلس الغرب. ومع أن السنوسيين كانوا هم الذين وقع على كواهلهم وحدَهم عبء الحكومة في داخل البلاد خصوصًا، فقد اشتطَّت السلطات العثمانية في السنوات الأخيرة في معاملتهم، وضيَّقت عليهم، وذلك لخوف الدولة من الاشتباك مع الفرنسيين في نضالٍ من جهة، ولأن السلطان عبد الحميد على الرغم من الخطة التي اتخذها مع السيد المهدي كان لا يزال يُبطن الشك في نيَّات السنوسية ويخشى من استفحال أمرها لدرجة قد تُهدد «خلافته»، وزادت هواجسه في أخريات أيامه، خصوصًا بعد وفاة السيد المهدي. ومع أنه كان من المُنتظَر أن تتبدل الأحوال بزوال حكومة عبد الحميد المُستبدة، فإنه سرعان ما خابت ظنون مُحبي الإصلاح وذوت آمال أولئك الذين توقَّعوا الخير من حدوث الانقلاب العثماني؛ لأن الاتحاديين الذين قاموا بهذه الثورة سرعان ما أثاروا غضب العناصر التي كانت تتألف منها الإمبراطورية عندما أرادوا «تتريك» هذه العناصر، ولأنهم ما لبثوا أن رجعوا إلى الأساليب الماضية — كالرشوة وما إليها — في حكومتهم حتى قامت في أنحاء الدولة جُملة ثورات امتدَّ لهيبها من بلاد العرب إلى ألبانيا.

أضف إلى هذا أن جمعية الاتحاد والترقي التي استأثرت بالسلطة بعد فوز الثورة (في يوليو ١٩٠٨م) كانت تُغفل عمدًا شئون الولاية، بل صرح زعماء الاتحاديين غير مرة «بأقوال تدلُّ على أنهم لا يُريقون دم عسكري واحد لصيانة ولاية طرابلس الغرب في إيطاليا أو فرنسا أو غيرها من الدول.» وكانت هذه الجمعية قد عقدت اجتماعًا في سالونيك بحث فيه مندوبوها مسألة طرابلس الغرب، فقرَّ رأيهم على عدم تحصين أساكلها أو اتخاذ التدابير التي تصون الولاية من أي عدوان مفاجئ، كما قرروا عدم إثارة هذه المسألة كليةً في مجلس المبعوثان. ثم نشرت جريدة «طنين» لسان جماعتهم مقالًا على أثر قرارهم هذا جاء فيه: «إن ولاية طرابلس الغرب هي من الولايات التي لا تُفيد الدولة فائدة مالية يُعتدُّ بها، فيجب على الحكومة العثمانية الاقتصاد في الإنفاق على هذه الولاية التي لم يندمج أهلها لليوم في سلك الجندية.» ثم وصفت أهل الولاية بالجهل وحذَّرت منهم الحكومة كل تحذير. وعندما تسلَّمت أزمَّة الحكم بإستانبول وزارة إبراهيم حقي باشا الضعيفة — ويعتقد كثيرون أنه كان متواطئًا مع أعداء الدولة وخصوصًا الطليان الذين ربطتهم به روابط عديدة، منها زواجه من إيطالية، وشغفه بلعب الورق مع أصدقائه الإيطاليين، وخضوعه لسلطان الذهب! — ضاع كل أملٍ في أن تنال ولاية طرابلس الغرب شيئًا من عناية الدولة واهتمامها بها.

فمع أن حكومة السلطان عبد الحميد كانت تُدرك تمامًا خطورة المطامع الإيطالية في طرابلس الغرب وعملت جادة من مدة على اتخاذ الأهبة لردِّ أي اعتداء على الولاية، وأرسل إليها السلطان قائدًا من خيرة قواده، هو المرحوم رجب باشا الذي أُطلقت يده في شئون الولاية الإدارية والعسكرية، فمرَّن أهلها على الأصول الحربية، وفرَّق على شُبانها وشيوخها البنادق ومرَّنهم على استعمالها، وملأ المستودعات العسكرية بالذخائر، حتى أصبح عدد الجيش المُرابط في طرابلس حوالي الخمسة عشر ألفًا، وهذا عدا الفِرَق غير النظامية (قول أوغلي) من الأهلين العرب، وهؤلاء بلغوا الأربعين أو الخمسين ألفًا، ومُهمتهم معاونة الجيش النظامي، فقد أبطل الاتحاديون هذه الاستعدادات، وشرعوا ينزعون البنادق من الأفراد بدعوى أن الأهلِين المسلمين قد يقومون في وجه الحكومة إذا طلب منهم تأدية الضرائب والتكاليف الأميرية. وانتهزت وزارة حقي باشا فرصة استفحال أمر الثورة في اليمن فسحبت معظم جيشها النظامي من طرابلس الغرب لاستخدامه في إخماد هذه الثورة، على أنها لم تكتفِ بذلك، بل أهملت كل الإهمال الفِرَق الأهلية، فنقصت قوة الدفاع الطرابلسية إلى أقلَّ من الخمسة آلاف مقاتل فقط، ومع أن الطرابلسيين — أهل طرابلس وبرقة — ظلُّوا يطلبون الانتظام في سلك الجندية بعد إعلان الدستور العثماني، فقد أصمَّ الاتحاديون آذانهم ولم يُجيبوا الأهلين إلى ما طلبوه إلا قُبيل وقوع الاعتداء الإيطالي بفترة قصيرة، ولم تبدأ الإجراءات اللازمة لتجنيدهم إلا بعد قيام الحرب ذاتها. وزيادةً على ذلك فقد نقلت الحكومة العثمانية حوالي الأربعين ألف بندقية كانت الدولة قد درجت على حفظِها بالبلاد حتى يستخدِمها الأهلون عند الطوارئ، ثم لم تفعل شيئًا من أجل إصلاح الاستحكامات ومراكز الدفاع بالبلاد أو تمدها بالمدافع والذخيرة اللازمة للسهر على سلامتها.

وظل الحال على ذلك حتى قُبيل وصول الإنذار الإيطالي بأيامٍ قليلة فقط، إذ أرسلت الدولة إحدى النقالات العسكرية — درنة — تحمل كميةً من البنادق والخرطوش إلى ميناء طرابلس، وهي النقالة التي احتجَّ الإيطاليون على إرسالها على نحو ما تقدَّم.

أضف إلى هذا أن الحكومة أهملت شئون البلاد الاقتصادية، فتدهورت الحال من سيئٍ إلى أسوأ حتى أمحلت الأقطار الليبية منذ أربعة أعوام تقريبًا، وارتفعت أثمان حاجيَّات المعيشة ارتفاعًا فاحشًا، فبات الأهلون من جرَّاء الغلاء والجدب في ضنكٍ وبلاء عظيمَين. ومع هذا لم تفعل الحكومة العثمانية شيئًا لتخفيف حدَّة هذه الأزمة الخانقة التي تركت الأهلين يتضوَّرون جوعًا حتى اضطر كثيرون إلى الهجرة إلى تونس والبلاد الأخرى، بينما ازدحمت عاصمة الولاية بالشيوخ والأطفال والنساء والمرضى يُلحُّون في طلب الخبز والقوت، ومات من الجوع عدد كبير منهم، والحكومة لا تُبدي حراكًا لتخفيف ويلات القحط والمرض.

ويُحمِّل المعاصرون مسئوليةَ ذلك وزارةَ حقي باشا بالآستانة، فإن هذه الوزارة لم تقنع بارتكاب هذه فقط، بل عمدت أيضًا إلى تجريد البلاد من الموظفين الأكفاء الخبيرين بلُغة الأهلين وعاداتهم والمُلمِّين بجغرافية الأقطار الليبية وطبيعة أرضها، كما أنها استدعت القواد العثمانيين المُحنَّكين الذين كانوا يُشرفون على استحكامات الولاية ونظام الدفاع بها، وحدث هذا قبل بداية الاعتداء الإيطالي بفترةٍ قصيرة، وذلك على الرغم مما كان يُحذرها منه سفير تركيا في إيطاليا حسين كاظم بك، الذي أخطر هذه الوزارة منذ يناير ١٩١١م بنوايا الطليان الحقيقية وتدابيرهم الخفية من أجل الإغارة على طرابلس الغرب، فكانت وزارة الخارجية العثمانية تضرب بهذه التحذيرات عرض الحائط وتُهمل تقارير سفيرها ولا تفحصها، بل إن حقي باشا لم يلبث أن استقدم إلى الآستانة وإلى طرابلس وقتئذٍ إبراهيم باشا بدعوى أنه كان يقسو في معاملة الإيطاليين، حتى استحقَّ سخطهم، ثم أمعن حقي باشا في الاستهتار بمصالح الدولة، فلم يُعيِّن الباب العالي واليًا غيره، مع أن إبراهيم باشا هذا كان دائب النشاط ولا يدع فرصةً تمر دون أن يُحذر دولته من نوايا إيطاليا ويُبين حقيقة مطامعها في الأقطار الليبية. وهكذا كانت البلاد عند بداية العدوان الإيطالي من غير والٍ أو حاكم يسوس أمرها ويُدبر شئونها، ثم أفلحت إيطاليا في تضليل رجال الوزارة العثمانية وعلى رأسهم الصدر الأعظم إبراهيم حقي باشا الذي اتُّهم بالتواطؤ مع أعداء الدولة، فكانوا جميعًا لا يتوقعون أي سوء من جانب إيطاليا، بل وجدوا في تصريحات الحكومة الإيطالية في مناسباتٍ عدة مسوغًا لهذا الاطمئنان، خصوصًا أن وزير خارجيتها الماركيز دي سان جيليانو San Guiliano كان قد ردَّد في مجلس النواب الإيطالي في ٩ يونيو ١٩١١م قول أحد وزراء إيطاليا السابقين: «إن سياسة إيطاليا الخارجية كانت تسترشِد دائمًا بقاعدةٍ لا تتغير، ليس فقط فيما يتعلق بأوروبا، بل وبأفريقية أيضًا، هذه القاعدة هي أن المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية أمر واجب الاحترام ومُقدس.» ثم أضاف: «ولم تتغير الأسباب التي دعت سلفي إلى إصدار هذه التصريحات!» ولذلك كانت دهشتهم عظيمة حقًّا عندما فاجأتهم إيطاليا بإنذارها المشئوم في ٢٦ سبتمبر ١٩١١م، أي بعد أربعة أشهر فقط من تصريح وزير خارجيتها بالمحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية.

ومع أن هذه الخطوة الغادرة من جانب إيطاليا لا تُخلي وزارة حقي باشا من مسئولية ضياع طرابلس الغرب؛ لأن أطماع الإيطاليين في هذه البلاد كانت معروفة مشهورة، ولم يُقصِّر سفراء الدولة ورجالها في تحذيرها من نيَّاتهم، فلا بد من التساؤل أيضًا عن الأسباب المباشرة التي جعلت إيطاليا تُقدِم على فعلتها في هذه الآونة. حقيقةً اختار الطليان الظرف المناسب من كل الوجوه لاعتدائهم، في وقتٍ كانت فيه تركيا قد سحبت معظم قواتها النظامية من الولاية وأهملت وسائل الدفاع عنها، وكان الصدر الأعظم، على الأقل، من أصدقائها، ولكن الذي سبَّب مخاوف الإيطاليين، وجعل إعلان الحرب في نظرهم «أمرًا لا مفرَّ منه في النهاية» رواج الشائعات بأن «دولة ثالثة» سوف تُفيد من توسُّطها بين الأتراك والفرنسيين من أجل الوصول إلى تسوية مسألة الحدود بين تونس وطرابلس بالطُّرق السلمية. وتفصيل ذلك أن تركيا وافقت على تشكيل لجنة فرنسية تركية لبحث هذه المسألة نتيجة لتوسُّط الحكومة الألمانية التي طمعت في أن تنال مكافأة على توسطها واستخدام نشاطها في مصلحة العثمانيين «مرسى طبرق» أو أي مرفأ آخر في طرابلس الغرب يصلُح لأن يكون محطةً لتزويد السفن الألمانية بالفحم والوقود في البحر الأبيض المتوسط، فلمست إيطاليا في ذلك خطرًا يقضي على مصالحها وادعاءاتها في طرابلس، وقرَّرت العمل فورًا وقبل خروج هذه البلاد من دائرة نفوذها نهائيًّا، وعندئذٍ أرسلت إيطاليا إنذارها إلى الباب العالي، وحدَّدت أربعًا وعشرين ساعة فقط لوصول جواب الباب العالي على هذا الإنذار «عن يد السفير العثماني في رومية».

وكان الإنذار الإيطالي، كما هو مُنتظَر، شديد اللهجة، اتَّهمت فيه إيطاليا الحكومة العثمانية بأنها «كانت حتى الآن تُبدي عداءً دائمًا نحو الحركة الإيطالية الشرعية في طرابلس وبنغازي.» حتى أصبحت الحالة في طرابلس الغرب «عظيمة الخطورة بسبب التحريض العام ضد الرعايا الطليان». لكل ذلك، ولمَّا باتت لا تُجدي نفعًا أية مفاوضات للوصول إلى تسوية ودِّية أو إعطاء إيطاليا أية امتيازات من أجل إنهاء هذه الأزمة المختلَقة، فقد رأت الحكومة الإيطالية نفسها — كما قالت — مُرغمةً على الحفاظ على شرفها ومصالحها؛ ولذلك قرَّرت أن تحتل طرابلس وبنغازي احتلالًا عسكريًّا، وهي «تنتظر أن الحكومة السلطانية تُصدر أوامرها حتى لا تصادف إيطاليا في الاحتلال معارضةً من رجال الحكومة العثمانية، وألا تجد صعوبةً في إنفاذ ما تريد إنفاذه، وبعد ذلك تتفق الحكومتان على تقرير الحالة اللازمة».

ولمَّا كانت وزارة حقي باشا غير مُستعدة للحرب، ولا يزال يرجو أعضاؤها الوصول إلى تسويةٍ سلمية مع إيطاليا على أساس إعطاء هذه الدولة جميع ما تطلُبه من امتيازات اقتصادية، «لا يحدُّ من مداها سوى ما يتطلَّبه شرف الإمبراطورية [العثمانية] ومصالحها العُليا والمعاهدات السارية.» فقد أرسل الباب العالي جوابه على هذا الإنذار في ٢٩ سبتمبر، وكان جوابًا يحمل طابع الذُّلِّ والمسكنة، تنصَّلت فيه الحكومة العثمانية من مسئولية أية أعمال «كانت نتيجة الحكم الماضي»، ونفت أنها تريد تعطيل المصالح الإيطالية، وطلبت فتح باب المفاوضة لإرضاء رغائبها. وغنيٌّ عن البيان أن هذا الجواب لم ينل موافقة إيطاليا، فذهب مُمثلها إلى الصدر الأعظم وسلَّمه في مساء اليوم نفسه بلاغ إعلان الحرب، وأصدرت الحكومة الإيطالية بلاغًا آخر في رومة في الوقت نفسه يُعلن قيام الحرب بينها وبين الدولة العثمانية. وفي يوم ٣٠ سبتمبر ١٩١١م نشرت جريدة «التيمز» الإنجليزية بيانًا من مصدرٍ إيطالي مسئول يسرد الأسباب والوقائع التي تذرَّعت بها إيطاليا لإعلان الحرب على تركيا، ومنها إهانة الراية الإيطالية، وتعطيل نشاط الإيطاليين التجاري والعِلمي في ليبيا، ومساوئ نظام الحُكم العثماني نفسه في عهد الاتحاديين. هذا عدا حوادث القتل والاعتداء التي ذهب ضحيتها كثيرون من الطليان. وكذلك نشرت التيمز في اليوم نفسه بيانًا من مصدرٍ تركي مسئول عن أسباب هذه الأزمة. وفي يوم ٣ أكتوبر ١٩١١م أطلق الأسطول الإيطالي قذائفه على ميناء طرابلس، وبذلك بدأت الحرب الليبية-الإيطالية.

•••

أحدث الاعتداء الإيطالي دويًّا عظيمًا تردَّد صداه في أنحاء الإمبراطورية العثمانية والعالم الإسلامي، وعندما أعلن الطليان الحرب على تركيا اجتمع في أول أكتوبر عددٌ كبير من أعضاء مجلس المبعوثان العثماني وأنابوا عنهم وفدًا قابل السلطان، فألقى فيهم خطابًا استنكر فيه اعتداء إيطاليا الفظيع، وذكر أنه «عندما زار أدرنة وسالونيك فتش على الاستحكامات بهما، وأحبَّ أن تكون جميع استحكامات السلطنة على شاكلتها من المِنعة، ولكن أمر طرابلس من ذلك قد أُهمِل بإهمال وعدم يقظة وزارة حقي باشا.» وكان السلطان محمد رشاد قد أراد أن يجمع مجلس المبعوثان، فعارضته وزارة حقي باشا التي كانت مسيرة بإرادة جمعية الاتحاد والترقي. وعظُم استياء السلطان من الوزارة وتألب الرأي العام التركي ضدَّها حتى اضطرَّ حقي باشا إلى الاستقالة، وتألَّفت وزارة جديدة، كان أول ما عُنِيت به إرسال الكتب إلى حكومات أوروبا تطلُب توسُّطها لفض النزاع القائم وحقن دماء البشر، كما أبرق السلطان في ٢ أكتوبر إلى ملك إنجلترا وإمبراطور ألمانيا يطلُب إليهما التدخُّل، كما بعث بذلك أيضًا إلى رئيس الجمهورية الفرنسية وبقية الملوك والقياصرة، ولكن مِن غير جدوى، إذ اعتذرت كل هذه الحكومات عن التدخُّل. وعندئذٍ أفاقت الدولة العثمانية من غفوتها وظهر جليًّا أنه عليها وحدَها فقط تقع مسئولية ردِّ اعتداء الطليان والدفاع عن أملاكها.

وفي هذه الأثناء كان هياج الخواطر في العالم الإسلامي قد بلَغ ذروته، فأبرق إمام اليمن «جلالة الإمام يحيى حميد الدين» عن «استعداده للقيام بمائة ألف جندي تحت قيادته بين مُحارب ومتطوِّع»، وأبرق أمير مقاطعة نجد «الأمير عبد العزيز بن سعود» يقول: «إن مقاطعة نجد تفتخر اليوم من كل جوارحها بأنها مقاطعة عثمانية … وأنه وجميع القبائل تحت أمره مُستعدون للزحف في ظلِّ الأعلام العثمانية إلى حيث تأمُرهم الدولة العلية.» وجاء كثيرون من أبناء البلاد الإسلامية للتطوُّع في الجهاد في طرابلس الغرب ضد إيطاليا المُعتدية، وزاد عدد هؤلاء المتطوعين تدريجيًّا حتى بلغوا في بداية العام التالي (١٩١٢م) حوالي الستة عشر ألفًا. وتألَّفت لجان الإعانة لمساعدة المنكوبين، وأُرسلت البعثات الطبية إلى ميادين القتال في طرابلس وبرقة. وكان المصريون من أسبق الشعوب التي بذلت المعونة للمجاهدين العرب في ليبيا، فتشكَّلت اللجان لجمع التبرُّعات، وكانت أهمها اللجنة العُليا التي تأسَّست بعد وقوع الاعتداء الإيطالي بأيامٍ قليلة (١٤ أكتوبر ١٩١١م) برئاسة المغفور له الأمير عمر طوسن، كما تألفت جمعية الهلال الأحمر برئاسة المرحوم الشيخ علي يوسف، وقررت إنشاء عدة مُستشفيات ميدان، ثم سافرت البعثة الأولى في ٧ نوفمبر، وتوالى إرسال البعوث الطبية بعد ذلك.

وكانت أهم الأسباب التي دعت آلاف المُسلمين إلى التطوُّع في صفوف المجاهدين، قوة الرابطة التي دفعت بهذه الشعوب الإسلامية إلى التكاتُف والتسانُد في وجه العدو المُعتدي، وعلى الخصوص عندما وقع هذا الاعتداء على قُطر من أقطار دولة الخلافة الإسلامية، وكان المسلمون مُتحفِّزين وقتئذٍ للانتصار دائمًا لدولة الخلافة، ويُقبلون على الجهاد من أجل المحافظة على كيانها؛ لأنهم توقَّعوا من سقوطها وانحلالها ضياع الكلمة وضعف القوة، ولم يكن العرب قد استعدُّوا بعدُ لإنشاء دولة عربية متينة الدعائم لتكون مركزًا للإمامة العُظمى، كما كان يُخيفهم ويُزعجهم شبح الاستعمار الأجنبي، ويُشفقون على قُطر عربي شقيق من الوقوع في براثنه. أضِف إلى هذا أن الإيطاليين سرعان ما أظهروا في أثناء المعركة الأولى والتالية أنهم لا يتورَّعون عن ارتكاب أقسى أنواع الفظائع ضد الأهلين في أي مكانٍ نزلوا به بغية الظفر بأعدائهم والتنكيل بهم لإرغامهم على ترك المقاومة والرضا بالتسليم السريع.

والجرائم التي ارتكبها الطليان في أثناء هذه الحملة كثيرة، لعل أشهرها وأسوأها ذكرًا ما فعله هؤلاء بأهل «المنشية» شرقي مدينة طرابلس في ٢٣ أكتوبر ١٩١١م، فقد أعمل الإيطاليون في الأهلين السيف وأوقعوا بهم مجزرة كبيرة، لم ينجُ منها طفل أو شيخ أو امرأة، وأباح الجنرال «كانيفا» قائد الحملة البلدة ثلاثة أيامٍ لجنوده حتى يُبيدوا منها العرب، وامتدَّت فظائع الطليان إلى غيرها، وتعوَّد الجند إطلاق الرصاص عبثًا ولهوًا على الأهلين أينما صادفوهم، لا ينجو من أيديهم عربي، حتى ضجَّت الإنسانية من أعمالهم، وقابل العالَم فظائعهم بالاستنكار والسخط، واحتجَّت الحكومة العثمانية على ذلك كلِّه بمذكرة أرسلتها إلى الدول العُظمى في ٣ نوفمبر ١٩١١م، واحتجت كذلك الجمعيات والهيئات، ومنها الجمعية المصرية على لسان رئيسها الأمير عمر طوسن — رحمه الله. وكان مما زاد الطين بلةً أن إيطاليا لم تلبث أن أعلنت في ٦ نوفمبر ١٩١١م «أنها تضع طرابلس وبرقة تحت سيادة المملكة الإيطالية الكاملة والمُطلقة.» ثم أبلغت ذلك رسميًّا إلى الدول لإقراره. ولم يُغنِ شيئًا احتجاج تركيا أو استنكار العالم الإسلامي لهذا العدوان الصارخ.

وأما الأتراك، فإنه بمجرد وقوع الحرب وتبيُّنهم أنه لا مناص من القتال في النهاية من أجل الدفاع عن القُطر الذي أهمله أولو الأمر منهم زمنًا طويلًا، فقد شرعوا يُرسلون إلى طرابلس الغرب نُخبة من ضبَّاطهم الترك والعرب لتنظيم الدفاع، فكان من بين هؤلاء أنور بك الذي تولى القيادة العامة في برقة، ومصطفى كمال بك «كمال أتاتورك»، كما تطوَّع عدد من الضباط والشبَّان العرب الذين أنشئوا في الآستانة بعد إعلان الدستور العثماني الجمعيات والنوادي السياسية لإعلاء شأن الأمة العربية في نطاق الإمبراطورية العثمانية.

وكان من بين هؤلاء المتطوعين تحسين العسكري، الذي تخرج ضابطًا برتبة ملازم ثانٍ في مارس ١٩١٢م، وعُين في الفيلق الأول في الآستانة، ويقول تحسين بك العسكري في مذكراته المنشورة عن هذه الحوادث: «ولمَّا شاهدنا الاعتداءات المتوالية على البلدان العربية قائمة على قدَم وساقٍ في الداخل والخارج، رأت الشبيبة العربية، وفي مُقدمتها عزيز المصري، أن الفرصة سانحة لها لإرسالها من يُمكنه التطوُّع من الضباط إلى حرب طرابلس الغرب لمساعدة الشيخ أحمد (الشريف) السنوسي رئيس القبائل العربية الأفريقية بمنطقة طرابلس الغرب، وحثه على تأسيس دولة عربية هناك تحت لواء سيادته، وإعلان استقلالها لتكون أول دولةٍ عربية مُستقلة في أفريقيا التي كانت ولا تزال تئنُّ تحت نير المُستعمرين، فتطوَّع عزيز بك المصري وسافر متنكرًا إلى جهة طرابلس الغرب، فعُين قائدًا لمنطقة بنغازي، وحذا حذوه كثيرون من الضباط الطرابلسيين والسوريين والعراقيين من جمعية العهد، وهم شهيد الحرية المُلازم صبحي الطرابلسي، والملازم محمود حلمي الذي هو الآن في الجيش العراقي برُتبة المقدم (١٩٤٤م)، والملازم السيد عيسى الوتري البغدادي — رحمه الله — والملازم إسماعيل الطرابلسي، وتطوَّعتُ أنا وغيري من الضباط للالتحاق بقوة بنغازي.»

ومع هذا وقع عبء القتال ضد الطليان على كواهل المجاهدين الأوائل الذين ظلوا حتى نهاية الحرب الليبية يصمدون للطليان في كل ميدانٍ ومعركة، وهم السنوسيون الذين تدفَّقوا من داخل البلاد زرافاتٍ ووحدانًا لمؤازرة الحامِيات العثمانية الضعيفة في الشواطئ في برقة ثم في طرابلس أيضًا، فنجحوا في إحياء آمال القوَّات العثمانية النظامية وفي إمكان الدفاع عن البلاد بعد أن كاد التردُّد يُفضي إلى هزيمتها، فإنه بمجرد أن بلغ إستانبول خبر الهجوم الإيطالي على طرابلس أصدرت الوزارة أوامرها إلى نشأت بك الذي كان نائبًا عن الوالي في حكومة البلاد بعد أن سحبت وزارة حقي باشا والي طرابلس، ونشبت الحرب قبل أن ترسِل لها غيره بأن يُخلي طرابلس ويقاوم فقط خارج المدينة، ثم ينسحب جنوبًا إلى سهول غريان. وعندما وصلته هذه التعليمات عقد نشأت بك مجلسًا من الضباط الموجودين وثلاثة من زعماء العرب، فقرَّروا جميعًا، ما عدا الضابط التركي نظمي بك، إخلاء المدينة فورًا والانسحاب، فخرجت الحكومة من طرابلس ومعها الجند بقيادة نشأت بك قاصِدين جهات غريان، «وكانوا ينتظرون الأوامر من الباب العالي بالتسليم، وكانت إيطاليا تنتظر ذلك لعدم تصوُّر العقل إمكان أدنى مقاومة.» فلم يُغير ذلك سوى قيام الزعماء الطرابلسيين «يُهددون العسكر المنسحِب إلى خارج طرابلس بالقتال إن لم يُصْلِ الطليان الحرب.» ثم جعلوا يستنفرون الأهلين للجهاد، فتدفَّق المجاهدون العرب من أقاصي الولاية والفزان، بل ومن الواحات الجنوبية في السودان الغربي حيث يعظم نفوذ السنوسية.

وقد حدث مثل هذا في برقة أيضًا؛ لأن الإيطاليين الذين أطلقوا قنابلهم على درنة وطبروق وبنغازي (إلى جانب طرابلس والخمس) استطاعوا أن يحتلوا هذه المرافئ تحت حماية أساطيلهم، وأكرهوا الحاميات العثمانية الضعيفة على الانسحاب إلى الداخل، فكان تدفق المجاهدين السنوسيين على المعسكرات العثمانية سببًا في صمود هؤلاء في وجه المُعتدِين الطليان حتى حضر أنور بك ورفاقه، وتولَّوا تنظيم الدفاع عن هذه البلاد بمؤازرة السنوسيين وتعضيدهم. وتظهر هذه الحقائق واضحة جلية إذا ذكرنا طرفًا من سير الحرب منذ نشوبها إلى وقت عقد الصلح بين تركيا وإيطاليا في أكتوبر من العام التالي (١٩١٢م).

فقد دارت رحى الحرب في ميدانَين، أحدهما في طرابلس والآخر في برقة.

ففي طرابلس بدأت المقاومة ضد الطليان قبل اعتداءات هؤلاء على ميناء طرابلس بمدةٍ طويلة، وكان مهد هذه الحركة في الخمس، عندما أخذ مُتصرفها العثماني الدكتور رشيد يُنبه الأذهان إلى حقيقة نوايا الطليان، ويُحذر الوطنيين من نشاط «بنك دي رومة» ورغبة هذا البنك في أن يوقِع الأهلين في شراك الديون حتى يتَّخذ الطليان من ذلك ذريعةً لادعاء المحافظة على مصالحهم المالية في البلاد. وكان أول من شعر بهذا الخطر المُحدق بطرابلس أحد أبناء البلاد الغيورين، بشير بك السعداوي، وكان وقتئذٍ رئيسًا لكُتاب مجلس الإدارة في الخمس، ولقى معاونة كبيرة من الشيخ عبد الرحمن الزقلعي رئيس كُتاب المحكمة الشرعية، وعمل الاثنان على تعطيل الجهود التي كان يبذلها بنك دي رومة لشراء الأرض وإقراض الأهلين الأموال، وعندما حضرت بعثة «سفرزا» التي سبقت الإشارة إليها، ووصلت في تنقيبها عن الفوسفات «ودراسة الآثار القديمة» إلى مدينة الخمس، اشتدَّت حركة المقاومة في الخمس، فدعا متصرفها بشير بك السعداوي والشيخ عبد الرحمن الزقلعي واتفقوا جميعًا على عقد مؤتمر يحضره مندوبون عن كل الأقضية، في مصراتة وسِرت وزليتن ومسلاتة وغيرها، للاحتجاج على نشاط الطليان عمومًا. وعندما انعقد هذا المؤتمر في الخمس اتخذ الحاضرون عدة قرارات، منها منع كل معاملةٍ مع بنك دي رومة وبيع الأراضي لهذا البنك أو اقتراض الأموال منه. ولما كان لهذا البنك سفينة تحضر للعمل بالسواحل أكثر من مرة كل شهر، فقد قرَّر المؤتمر مقاطعتها، كما طلب الأعضاء أن يأتي بريد الآستانة على ظهر سفينة عثمانية بدلًا من السفينة الإيطالية التي كانت تُحضره في العادة، ثم أبرق المُجتمعون بهذه القرارات إلى إبراهيم باشا والي طرابلس وإلى الصحف الأوروبية كالطان الفرنسية والتيمز الإنجليزية، ثم طالب بشير بك وإخوانه بتجنيد الطرابلسيين بكل سرعة، واستبقاء الأسلحة بأيدي الأهلين حتى يكون لدى البلاد قوة كافية تستطيع الدفاع عنها. وكانت وزارة حقي باشا، على نحو ما تقدَّم، قد سحبت معظم القوات العسكرية من طرابلس بسبب ثورة اليمن، وشرعت في نزع الأسلحة من الأهالي، على أنه كان من أثر هذا النشاط الظاهر من جانب بشير وإخوانه الوطنيين في الخمس أن صارت إيطاليا تخشى ذيوع حركة المقاومة ضدَّها، وبادرت بالاعتداء المُسلح على طرابلس قبل أن تستكمل البلاد استعدادها، فكان إطلاق القذائف من بوارجها على ميناء طرابلس وغيره في أكتوبر ١٩١١م دون أي إنذار سابق.

وكان من أثر اعتداء الطليان على طرابلس أن زاد زعماء المقاومة في الخمس إصرارًا على الجهاد، فقامت الاستعدادات في كل مكان، واتخذ بشير السعداوي «ساحل آل حامد» مركزًا له، يرسِل منه الدعوة إلى القبائل ويحثُّهم على الجهاد، وذهب نوري بك السعداوي شقيقه ومعه الشيخ عبد الرحمن الزقلعي إلى مسلاته لإيصال الدعوة إلى داخل البلاد، واحتشدت أعداد عظيمة عند الساحل، وأنذر الطليان بشير بإطلاق القذائف على الخمس إذا امتنعت حكومتها عن التسليم. وفي الموعد المضروب أطلقت مدافع الأسطول قنابلها على البلدة، وحاول الطليان النزول إلى البر، ولكنهم عادوا أدراجهم، وظلَّت المقاومة مدة أربعة أيام كاملة، ثم استطاع الطليان النزول إلى البر، ومع ذلك فقد ثابر المجاهدون على القتال مع ضآلة عددهم، وعندئذٍ كانت قد تألَّفت جبهة للقتال في سواني بنياوم برئاسة القائد العثماني نشأت بك، الذي تولَّى القيادة في ميدان طرابلس.

وكان أول ما فعله نشأت بك أن أخلى مدينة طرابلس، فاحتلَّها الطليان في ٤ أكتوبر ١٩١١م، ثم انسحب على نحو ما تقدم قاصدًا غريان. وكان انسحاب الأتراك أولًا إلى «قرقارش» الواقعة غربي مدينة طرابلس، وفي اليوم التالي وصلوا إلى «عين زارة» في الجنوب. ولما كانت مدافعهم من النوع القديم والثقيل ويتعذَّر على الجنود أخذها معهم، فقد تركوها وراءهم واستولى عليها الطليان الذين بادروا باتخاذ مراكزهم في خطٍّ من الخنادق يمتدُّ من القلعة السلطانية غربًا إلى القلعة الحميدية شرقًا في جبهة طولها عشرة أميال تقريبًا. وحدث أول اشتباك بين الإيطاليين والأتراك أمام «بومليانة» في أكتوبر ١٩١١م، وكانت مناوشة صغيرة، وأما العثمانيون فقد واصلوا انسحابهم جنوبًا إلى «العزيزية»، وعندئذٍ ظهر في ميدان الجهاد زعيمان من كبار زعماء الطرابلسيين، كان لما أبدَياه من الهمَّة والنشاط في استنفار العرب للجهاد الفضلُ في وقف هذا الانسحاب نهائيًّا والتصميم على القتال، وهذان الزعيمان كانا سليمان الباروني وفرحات بك.

وكان فرحات بك من «الزاوية»، تعلَّم في طرابلس وتونس، ثم في باريس، حيث قضى خمس سنوات يدرس القانون، ثم تقلَّب بعد عودته في مختلف المناصب حتى صار قائمقام في إحدى جهات الفزان «الشاطئ»، وبعد إعلان الدستور العثماني مثَّل مدينة طرابلس نائبًا في مجلس المبعوثان، وكان عند نشوب الحرب الإيطالية-الليبية يقضي إجازته في «الزاوية»، فعرض خدماته على القائد التركي، وطلب من المشايخ مساعدة العثمانيين، وجمَع عددًا عظيمًا من المتطوِّعين من أهل الزاوية والعجيلات وزوَّاره وذهب بهم إلى «العزيزية»، فكان أول عربي جاء لنجدة العثمانيين، وشجع وصوله مع المُتطوعين نشأت بك على الوقوف في العزيزية واتخاذها مركزًا للدفاع، بينما بقِيت «غريان» قاعدة القيادة العامة.

على أن أهم الزعماء الذين ظهروا في هذه الآونة في طرابلس كان بلا مراء الشيخ سليمان الباروني، من أهل «فصَّاطو» في منطقة الجبل، وُلِد في سنة ١٨٧٠م، وتلقَّى علومه في تونس والجزائر ومصر. وبينما كان في مصر التحق بجمعية سرية ثورية تعمل ضد السلطان عبد الحميد، فوقفت السلطات على حقيقة أمره، وحُكم عليه بالأشغال الشاقة مدى الحياة، وبعد قليلٍ صدر العفو عنه، ولكن الجواسيس ظلوا يُراقبونه، فقُبض عليه ثانيةً وحكم عليه بالسجن عامَين، على أن يبقى بعد ذلك سنةً أخرى تحت المراقبة في مدينة طرابلس، ولما كان الباروني قد اكتسب شهرة طيبة بين مواطنيه، فقد تألف وفد من شيوخ الطرابلسيين ذهبوا إلى الآستانة خصوصًا لرجاء السلطان العثماني أن يصفح عنه، فأُطلق سراح الباروني. على أن البوليس ظل يراقب حركاته، وعندئذٍ قرَّر الباروني الرحلة إلى مصر، فأقام بها وأنشأ جريدة ثورية أطلق عليها اسم «الأسد»، ولكنه لم يظهر من هذه الجريدة سوى ثلاثة أعداد فقط لأن السلطات أمرت بإيقافها (١٩٠٧م). ومع هذا فإن أيام الاستبداد الحميدي كانت معدودة؛ لأنه لم يمضِ زمنٌ طويل على ذلك حتى قامت الثورة وأعلن الدستور العثماني (في يوليو ١٩٠٨م)، فعاد سليمان الباروني إلى وطنه وانتُخب نائبًا عن الجبل في مجلس المبعوثان العثماني، وعندما وقع اعتداء الطليان على طرابلس كان الباروني يقضي عطلته بين أهله وعشيرته في «فصَّاطو»، وهناك جاءته الأخبار بنزول الإيطاليين في العاصمة واحتلالهم لها، وانسحاب الحامية العثمانية من مدينة طرابلس إلى قرقارش ومنها إلى «سينات بني آدم» ثم إلى «العزيزية» في طريقها إلى غريان. ومثلما فعل فرحات بك اتصل الباروني في الحال بقائد الحامية نشأت بك، ثم حضر بعد ذلك إلى العزيزية على رأس خمسين شيخًا من شيوخ الجبل، فبحث الموقف مع نشأت بك، ثم وعد بإمداده بالمُتطوعين لمواصلة الحرب، وعاد من فوره إلى الجبل لهذه الغاية، وحث حوالي الألف على الخروج، وذهب بهم إلى ميدان القتال في الواحة حول مدينة طرابلس، فبلغ سينات بني آدم، ومنها إلى مقر القيادة التركية في عين زارة، ثم زحف مباشرةً ومن غير توقُّف إلى قصر «الهانئ» و«سيدي المصري»، وأغار برجاله على هذَين المركزَين في صباح يوم ٢٣ أكتوبر ١٩١١م. ومن ذلك الحين لم يترك الباروني أو أحد من رجاله الجيش العثماني.

وتُلخص أهم حوادث الحرب في ميدان طرابلس في أن الأسطول الإيطالي ظهر أمام مدينة طرابلس في ٣٠ سبتمبر وضرب حولها الحصار، وأمهل المدينة ثلاثة أيام للتسليم، ثم أطلق قذائفه على قلعتي المدينة؛ الحميدية والسلطانية، فلم تستطع الحامية الدفاع أكثر من ساعتَين؛ لأن مدافعها «كروب» القديمة كانت قصيرة المرمى لا تصِل قذائفها إلى الأسطول، فاضطرَّت إلى الانسحاب، وعندئذٍ أنزل الطليان جنودهم واحتلُّوا مدينة طرابلس، وهلَّل الطليان وكبَّروا لهذا الانتصار السهل السريع، وطفقوا يجمعون التبرُّعات لإقامة تمثالٍ لوزيرهم القديم «كريسبي» صاحب «مشروع فتح طرابلس العظيم»، واستولى الإيطاليون عند نزولهم إلى البر على قصر الهانئ وقلعة سيدي المصري (وهي غير ضريح سيدي المصري)، وسوق الجمعة، وجامع فشلون، ومع هذا فإنه بمجرد أن أخذت جموع المُتطوعين العرب تتدفَّق على المعسكر العثماني استطاع المجاهدون أن يستردوا هذه المراكز، فانكمشت منطقة احتلال الطليان حول مدينة طرابلس، حتى إذا كان يوم ٢٣ أكتوبر نشبت معركة كبيرة في بومليانة كان النصر فيها حليف الإيطاليين، فنصبوا مدافعهم في «بومليانة» وسيدي المصري القريبة منها. وفي ٢٠ نوفمبر شرع الطليان يحفرون الخنادق حول مراكزهم الجديدة. وفي أثناء ذلك كانت النجدات تصِل تباعًا لتعزيز القوات الإيطالية في طرابلس، فوصلتهم الإمدادات من صقلية في الأسبوع الأول من شهر نوفمبر، ثم جاءتهم إمدادات أخرى في ٧ نوفمبر حتى بلغت قوات الجنرال «ترجوني» في مدينة طرابلس حوالي الثلاثين ألفًا على أقل تقدير.

وأما الأتراك فقد كانت مراكزهم الأساسية بعد انسحابهم من مدينة طرابلس في «قصر العزيزية» — أو العزيزية — ثم في قصر غريان جنوبها، وهي التي قرروا اتخاذها قاعدةً رئيسية لتنظيم المقاومة كما تقدَّم.

ثم امتدت مخافرهم الأمامية إلى «عين زارة»، حيث أنشئوا أيضًا معسكرًا للفرسان. وعدا ذلك احتشد المتطوِّعون العرب على وجه الخصوص في «سنيات بني آدم»، ثم أنشئت إلى الشمال منها مراكز للدفاع في «قلعة مجوسة» و«فندق التجار»، بينما كان للمجاهدين والعثمانيين مراكز في «وادي مجانين» في قلعة «بن قشير» و«فندق العون». ولما كان معسكرهم في «عين زارة» أهم المراكز الأمامية، فقد عوَّلت القيادة الإيطالية على انتزاعها من أيديهم. وعلى ذلك فإنه سرعان ما جاءت الأخبار من المراكز الأمامية في يوم ٢٥ نوفمبر بأن الطليان بدءوا يزحفون صوب عين زارة، وفي اليوم التالي نشبت معركة كبيرة أسفرت عن ارتداد العدو على الرغم من قواته ومعداته العظيمة، وكان كل ما كسب الإيطاليون بعض المواقع البسيطة، ومن بينها قلعة سيدي المصري.

وفي الأيام التالية ظلَّت الطائرات الإيطالية تقوم بالاستطلاع فوق مراكز العثمانيين والعرب، بينما اعتمد الإيطاليون على مدافعهم في هجومهم، ونشطت مدفعيتُهم في «بومليانة» و«قلعة سيدي المصري»، وضريح «سيدي المصري»، كما أطلق أسطولهم قذائفه من الشاطئ، وشرع حوالي ٢٥ ألف مُقاتل في الزحف على «عين زارة»، وعندئذٍ وأمام هذه القوة الجارفة، ولِعجزهم عن مقاومة نيران المدفعية الشديدة، اضطُر الأتراك إلى الانسحاب من عين زارة، وكانت قوتهم لا تزيد على سبعمائة جندي نظامي وألف وخمسمائة من المجاهدين العرب وسبعة مدافع قديمة، فتقهقروا صوب العزيزية. وبدلًا من مطاردة العثمانيين إلى مراكزهم الجديدة اكتفى الإيطاليون باحتلال عين زارة، وهكذا ضيَّعوا من أيديهم الفرصة لكسب الحرب وإنهائها؛ لأنه لم يكن من المتوقَّع أن يتمكن العثمانيون من الصمود في هذه المراكز التي تقهقروا إليها أمام قوات العدو العظيمة.

وأما الأتراك فقد وصلوا إلى «بن قشير»، وكانت أهم المعارك التي وقعَت بعد ذلك معركة «بير طبراس» في ١٩ ديسمبر ١٩١١م، حمِيَ فيها وطيس القتال، وانهزم الطليان شرَّ هزيمة على الرغم من كثرة عددهم، وأرغموا بعدها على التزام مراكزهم في عين زارة. وكان بعد «بير طبراس» أن وصل المجاهدون في «نالوت» إلى «سينات بني آدم» التي اتخذوها مركزَ لقواتهم، وكان بها وقت المعركة حوالي «١٢٠٠» من الجبل و«٦٠٠» من الزاوية، وحضر مع مجاهدي «نالوت» سليمان الباروني.

وفي الحقيقة سرعان ما صار يتدفق المجاهدون على المعسكر العثماني طوال شهر ديسمبر، وفي شهر يناير ١٩١٢م والشهور التالية انضمت جماعات يتراوح عدد كلٍّ منها بين المائة والألف مقاتل من نالوت وفصَّاطو ويفرن وغريان وسنوان، هذا عدا أولاد سليمان من صحراء سرت بقيادة زعيمهم سيف النصر، وكان هؤلاء سنوسية، ثم التوارق، كما حضر «مجاهدو الفزان» بقيادة أحمد بن حسن ومهدي موسى. ومن المعروف أن السنوسية كانت ذات نفوذ عظيم لدى التوارق، وفي جهات فزان، حيث زاويتها الكبيرة في «مرزوق»، وكان السبب في تدفُّق جموع المتطوِّعين لقتال الطليان في ميدان طرابلس في هذه الجهات النائية — الفزان وبلاد التوارق خصوصًا، ثم من صحراء سرت، ويقطن بها أولاد سليمان — تحريض السنوسيين ونداء زعيمهم السيد أحمد الشريف الذي استفزَّ به العرب قاطبةً إلى الجهاد في برقة وطرابلس. بيد أنه قبل الكلام عن الدور الذي لعبه السنوسيون بزعامة السيد أحمد الشريف في هذا الجهاد خصوصًا في برقة، يجدُر معرفة الأثر الذي أحدثَه تدفُّق المجاهدين على ميدان القتال في طرابلس نفسها في سير الحرب ضد الطليان حتى أواسط عام ١٩١٢م، وقبل عقد صلح «أوشي-لوزان».

فكان أول ما عُني به الإيطاليون بعد سقوط عين زارة في أيديهم إنشاء التحصينات لحماية قواتهم بالمدينة، وقد بلغ عدد هذه القوات اثني عشر ألف مقاتل. ثم إنهم لم يكتفوا بذلك، بل هدتهم الحيلة إلى صُنع دُمى من الخشب على شكل مُحاربين وضعوها في الخنادق حول عين زارة لإدخال الرُّعب والهلع، كما توهموا، إلى قلوب المجاهدين! وفي يومَي ٥ و٦ يناير ١٩١٢م أسقطت الطائرات الإيطالية منشورات باللغة العربية تحمِل توقيع وكيل الوالي الجنرال «سلسازو»، تُطمئن الأهلين إلى أن إيطاليا إنما تريد باحتلال بلادهم وطرد الأتراك منها خدمةَ مصالحهم، وتُحذرهم من الاستماع إلى وشايات الخونة الغادرين. وتناسى الطليان مذبحة «المنشية» المشئومة! ثم استمرأ الطليان إسقاط المنشورات على العرب بدلًا من الخروج من خنادقهم وتجربة الالتحام مع المجاهدين في معارك فاصلة، فأسقطوا من الطائرات منشوراتٍ أخرى تتضمن أخبار نجاح عمليات أسطولهم في مياه طرابلس وفي البحر الأحمر، كما كان من بين هذه المنشورات «إنذار» بتوقيع قائد الحملة الجنرال «كارلو كانيفا» في ١٥ يناير ١٩١٢م، تحدَّث فيه القائد باللغة العربية، فقال مخاطبًا عرب طرابلس الغرب: «ماذا يصدُّكم عن القدوم إلينا؟ أما تُهمكم الصلاة في الجوامع والراحة أنتم وعائلاتكم في بيوتكم؟ أما يُهمكم رعي مواشيكم وتعاطي تجارتكم آمِنين؟ نحن أناس أصحاب دين، ومن أهل الكتاب، وأحرار. واعلموا أن دولة إيطاليا المعظمة قد أصبحت لكم بمقام الوالد بعد أن أخذت أُمَّكم وهي طرابلس الغرب. فاقدموا إلينا بلا خوف وبكمال الأمان، ونحن نؤكد لكم أنه ليس من يؤذيكم، وما من يسيء إليكم أو يضرُّكم بأدنى شيء، فإن الماضي لا يُذكر. واعلموا أن كل من يأتي إلينا ببارودته مع المهمَّات نُحسن إليه بعشرين فرنكًا مع كيس قمح أو شعير كيفما شاء. أما رؤساؤكم الدينيون والسياسيون فإن الحكومة الإيطالية تقبلهم وتؤيدهم بالصفة التي كانوا عليها قبلًا، بل يُعيَّن لهم رواتب ومعاشات. وناهيكم أن الكلام واحد، والله سبحانه وتعالى كريم، فاطلبوا إليه عزَّ وجل أن يفتح عيون عقولكم لتعرفوا الحق وهو يُخلصكم!»

وفيما عدا ذلك وقعت عدة مناوشات صغيرة في شهر يناير بالقُرب من عين زارة، واستطاع جماعة من «ترهونة» في إحدى هذه المناوشات أن يأسِروا عددًا من الطليان أحضروهم إلى العزيزية.

ولما كان الضباط الأتراك يعتقدون أن الاستطلاع الذي تقوم به طائرات العدو ليس الغرَض منه سوى الاستعداد للقيام بحركةٍ خطيرة، سواء من عين زارة أو من بومليانة، فقد عزَّزوا مراكزهم في «بن قشير» ومعسكر المجاهدين في «سنيات بني آدم»، وأرسلوا قوة لملاحظة الطريق من طرابلس إلى «زنزور» التي بقيت في أيدي العثمانيين. فحدث في صباح ١٨ يناير ١٩١٢م أن شاهدت جماعة صغيرة من عرب العجيلات بالقُرب من «قرقارش» قوة إيطالية، فالتحم الفريقان، وأُرغِم الإيطاليون على الارتداد إلى خنادقهم، وفي المساء كانت المعركة قد انتهت وغنم العرب غنائم كثيرة، واشتركت في معركة قرقارش هذه امرأةٌ عربية ظلَّت تحث المجاهدين على القتال حتى أُصيبت بجروح، ولكن انتصار العرب في هذه المعركة، مثل انتصارهم في معركة «بير طبراس» قبلها، لم يأت بنتيجة؛ لأن المجاهدين لم يكونوا يعرفون في الحقيقة كثيرًا عن خُطط الحرب النظامية، ولم يكن يقودهم في معركة قرقارش ضباط عثمانيون. وأما الطليان فقد استطاعوا بعد ذلك أن يحتلوا قرقارش ويحصنوها، كما وضعوا قوات كبيرة في عين زارة وبومليانة، وخصوصًا بعد أن جاءتهم النجدات من نابولي. وفي الأيام التالية — بقية يناير وطوال فبراير — كان كل ما حدث عبارة عن مناوشات صغيرة أمام عين زارة وبومليانة وفي وادي مجانين. وفي جميع هذه المناوشات كان المجاهدون هم البادئون بالهجوم دائمًا على أمل إخراج الإيطاليين من مواقعهم المُحصنة، بينما قبع الإيطاليون في خنادقهم وراء خطوط دفاعهم المحصنة، تحميهم نيران مدافعهم الشديدة. ثم تفتَّق ذهن قائد الحملة الجنرال «كانيفا» مرة أخرى عن إسقاط المنشورات على المجاهدين بواسطة الطائرات، وفي هذه المرة كان منشور كانيفا عبارة عن كراسة صغيرة ذات غلافٍ أخضر، معنونة باسم الأهلين في طرابلس ودرنة وبنغازي وفزان والجبل وهكذا. وفي هذا المنشور تحدَّث الجنرال عن الإرشادات والحِكَم الثمينة التي ذخر بها كتاب الله العزيز الحكيم، فقال إنه جاء في القرآن الكريم أن الجار خير من الغريب؛ ولذلك فإنه لما كانت إيطاليا أقرب إلى طرابلس الغرب من تركيا فالواجب على العرب إذن أن يُفضلوا حكم الإيطاليين على الأتراك، وزيادةً على ذلك فقد طلب الكتاب العزيز من كل مؤمنٍ صادقٍ الخضوع للسلطات القائمة. ولمَّا كان سبحانه وتعالى قد وضع طرابلس الغرب في قبضة الطليان فقد أصبح واجب كل مؤمنٍ صادق الخضوع لسلطانهم. أضِف إلى هذا أن إيطاليا لا تريد في الحقيقة سوى رخاء العرب وتأمينهم على أموالهم وأرواحهم؛ لأن حكومة رومة بمثابة الأم الرءوم التي ترغب فقط في أن تُعلم العرب كيف ينشِّئون أولادهم ويُربونهم، وكيف يصبحون أثرياء بفضل المُخترعات الجديدة في الصناعة التي سوف يأتي الإيطاليون بها إلى ليبيا.» إلى غير ذلك من الأقوال والوعود التي لم يُحقق الطليان شيئًا منها بطبيعة الحال عندما خلص لهم الأمر في ليبيا. ولم يكتف الطليان بإلقاء المنشورات من الجو، بل صاروا يُرسلون خطابات سرية إلى الشيوخ والزعماء، يُنددون فيها بمساوئ الحكم العثماني، ويُصورون، بخيالٍ رائع، ما ينتظر هؤلاء الشيوخ من الخير على أيدي الإيطاليين إذا هم سلَّموا لهم وخضعت قبائلهم وعشائرهم لسلطانهم.

بيد أن هذه الوعود والأقوال ذهبت هباءً، وكان جواب المجاهدين على هذه النداءات والمنشورات الاحتقار، فقال فرحات بك مثلًا: «من العبث إضاعة الوقت في الرد على هؤلاء الطليان الذين يظنون من المهارة اقتباس آي الذكر الحكيم من أجل إقناعنا بترك قضيتنا! إن هذه المحاولة من جانبهم تُثير في نفوسنا الاحتقار لهم والازدراء بهم!» وأما سليمان الباروني فقد اتخذ ردُّه على منشورات «كانيفا» ورسائل الطليان السرية إلى الزعماء والشيوخ شكلًا أوقع وأبلغ أثرًا، ذلك أنه فاجأ مع المجاهدين، مخافر الطليان في قرقارش ليلًا ونشر الهلع والرُّعب في قلوب حامياتهم، وفي ١٠ مارس ١٩١٢م هجم المجاهدون على «فندق غربي» و«فندق شرقي»، وأرغموا الطليان على التقهقر والانسحاب إلى المراكز التي أنشئوها جنوب عين زارة، ثم أحرق المجاهدون «فندق شرقي»، وقد أطلق العرب على هذه المعركة اسم «واقعة عين زارة». وفي ٨ يونيو هاجم الجنرال «كاميرانا» «سيدي عبد الجليل»، بينما كانت المدفعية في قرقارش وطرابلس وكذلك قنابل الأسطول تحمي هجومه، فأغار المجاهدون العرب على قلعة قرقارش من قاعدتهم في سنيات بني آدم، وأسرع الطليان بإرسال قوة من بومليانة منها جماعة من عسكر الإرتريا الذين استقدموهم لنجدتهم، فوجد المجاهدون أنفسهم بين نارَين واضطروا إلى الانسحاب، واحتل الطليان سيدي عبد الجليل، وانطلقت جرائدهم تُطنطن بهذا الانتصار الباهر في المعركة التي أطلقوا عليها اسم «واقعة زنزور». ومع هذا فقد تعذَّر على الطليان في الشهور التالية مغادرة خطوط تحصيناتهم التي أنشئوها للدفاع مُمتدة من «تاغورة» في الشرق إلى «عين زارة» في جنوبها ثم إلى بومليانة، ومن هذه غربًا إلى قرقارش، ثم سيدي عبد الجليل. وكانت أهم مراكزهم في داخل هذه المنطقة الضيقة في سيدي المصري وقصر الهانئ وسوق الجمعة (يونيو ١٩١٢م)، فكان كل ما استطاع الطليان الاستيلاء عليه بعد ذلك «سيدي سعيد» و«سيدي علي» على الشاطئ بالقرب من حدود طرابلس الغربية، الأول في ٢٨ يونيو والثاني في ١٥ يوليو ١٩١٢م، وكانا عديمي الأهمية.

ويُعزى فشل الإيطاليين في كسب هذه الحرب — التي استعدوا لها استعدادًا عظيمًا وبدءوها في ظروفٍ ملائمة لهم، وجلبوا لها الإمدادات والنجدات حتى بلغت قوتهم ١٢٠٠٠٠ جندي نظامي بمعداتهم وأسلحتهم الحديثة كاملة — إلى جملة أسباب، أهمُّها أن الطليان كانوا يفضلون دائمًا عدم الحركة والاحتماء في خنادقهم وخلف خطوطهم المُحصَّنة وتأجيل الزحف خوفًا من المجاهدين العرب، خصوصًا الذين بالَغوا مبالغة عظيمة في تقدير أعدادهم على الرغم من الاستطلاع الكثير الذي كانت تقوم بها طائراتهم فوق مراكز المجاهدين، بل إن الخوف من هؤلاء المجاهدين البواسل كثيرًا ما كان يجعل قوةً بأسرها تُولِّي الأدبار تاركةً وراءها سلاحها ومؤنها وذخائرها، لا تلوي على شيءٍ إذا صادفت في أثناء حركاتها الاستطلاعية كوكبةً من العرب المجاهدين، فأضاع الطليان بخوفهم هذا فرصًا عديدةً لو أنهم انتهزوها لاستطاعوا أن يُسيطروا على طرابلس الغرب في مدةٍ وجيزة كما كان يرى ذلك فريق من المُراسِلين الأجانب الذين صحبوا القوات العثمانية في هذه الآونة. ويرى كاتب من هؤلاء أن «بنك دي رومه» كان قد قام قبل الغزو بدعاية واسعة ناجحة في طرابلس، لدرجة أن بعض العرب في بداية القتال بادروا برفع الأعلام البيضاء على دورهم ومحالِّهم علامة على التسليم في مدينة طرابلس وفي غيرها من المدن، ولكن الطليان ضيَّعوا الفرصة بسبب إبطائهم، كما كان لجهود فرحات بك وسليمان الباروني الأثر الحاسم في جمع القلوب المتردِّدة حول راية الجهاد في النهاية.

أضف إلى هذا أن الطليان الذين ظهر أنهم تركوا القتال جانبًا وآثروا انتظار ما تُحدثه منشوراتهم ونداءاتهم من آثار قد تُكسبهم الحرب من غير حاجةٍ إلى الاشتباك في معارك فاصلة، كان من سوء حظهم أنهم أكثروا من بذل الوعود السخية التي لم يكن في نيَّتهم المحافظة على شيء منها، وقد سبق ذكر بعض هذه الوعود. ومع هذا فإنه ليصعُب على الإنسان أن يُغفل أمر ذلك المنشور «التاريخي» الذي شاء قائد الحملة «كارلو كانيفا» أن يحذو فيه حذو نابليون عندما جاء بجيوشه يغزو مصر في آخر القرن الثامن عشر، فقد أرسل «كانيفا» منشورًا باللغة العربية إلى أهلها في طرابلس على أثر احتلال جيشه لمدينتهم، بدأه «بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على كافة الأنبياء والمرسلين، صلى الله وسلم عليهم أجمعين.» ثم قال بعد أن بيَّن للأهلين مُهمته كقائد للعساكر الإيطاليين المُوكل إليها نحو الحكومة التركية في طرابلس والقيروان والمُقاطعات التابعة لها: «إن العساكر الخاضعة لأمري لم يُرسلها جلالة ملك إيطاليا «فكتور عمانويل الثالث» حماه الله لإضعاف واستعباد سكَّان طرابلس والقيروان والفزان والبلاد الأخرى التابعة لها التي توجَد الآن تحت سيادة الأتراك، بل لتُعيد إليهم حقوقهم وتقتصَّ من المعتدين عليهم، سواء كان الأتراك أو أي شخصٍ كان يريد استرقاقهم، وعليه، فأنتم يا سكان طرابلس والقيروان والفزَّان والبلاد الأخرى التابعة لها، من الآن سيحكمكم رؤساء منكم، مُوكل إليهم أن يقضوا بينكم بالعدل والرأفة عملًا بقوله تعالى: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ»، وطفق «كانيفا» يَعُد، باحترام، الشرائع الدينية والمدنية واحترام الأشخاص والأملاك والنساء والحقوق وجميع الامتيازات المُختصَّة بأماكن العبادة والبِر، كما ضمن لهم حرية العبادة وعدم إرغام أحد على الانخراط في سلك الجندية، وتوعَّد بإنزال العقوبة الصارمة بكل امرئ «لا يحترم الشرائع أو لا يَعتبر الأشخاص ويمس النساء أو يخترق حرمة الملك أو يُقاوم أو يثور على إرادة العناية الإلهية التي أرسلَت إيطاليا إلى هذه البلاد.» ثم اختتم المنشور بقوله: «فيا سكان طرابلس والقيروان والمُقاطعات التابعة لها، اذكروا أن الله قد قال في كتابه العزيز: لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، وقد جاء أيضًا: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ، وجاء أيضًا: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ، أي الذين يصلحون الأرض ويمنعون منها الفساد وينشرون فيها العدل والعمران، وجاء أيضًا: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ، أي لا تُفسدوا في الأرض إن تولَّيتم أمور الناس ولا تُقاتلوا بعضكم بعضًا، إن الذين يفعلون ذلك يلعنهم الله ويُصمهم ويعمي أبصارهم ويستبدلهم بغيرهم، وجاء أيضًا: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وجاء أيضًا: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، فإرادة الله ومشيئته سبحانه وتعالى قضتا أن تحتلَّ إيطاليا هذه البلاد؛ لأنه لا يجري في مُلكه إلا ما يريد، فهو مالك الملك وهو على كل شيءٍ قدير، فمن أراد أن يُظهر في الكون غير ما أظهر مالك الملك رب العالمين المُتفرد بتصرُّفاته في ملكه الذي لا شريك له فيه، فقد جمع الجهل بأنواعه وكان من المُمترين. وبناءً عليه يلزم على كل مؤمن أن يرضى ويُسلم بما تعلقت به الإرادة الربانية وأبرزته القدرة الإلهية؛ فالملك لله سبحانه وتعالى يؤتيه من يشاء. فإيطاليا تريد السلام وتريد أن تبقى بلادكم إسلامية تحت حماية إيطاليا وملكها المعظم، ويخفق فوقها العلم المُثلث الألوان (أبيض وأحمر وأخضر) إشارة إلى المحبَّة والإيمان والعشم في وجه الله.»

وفي هذا المنشور كما هو ظاهر حاول كارلو كانيفا إقناع الليبيين بأن الحملة الإيطالية على بلادهم كانت أمرًا مُقدرًا من الأزل بإرادة المولى سبحانه وتعالى ومشيئته، وأن مقاومة الحملة معناه مخالفة هذه الإرادة الإلهية، ثم حاول إلى جانب هذا إقناعهم بأن الحُكم الإيطالي سوف يبسط الأمن والسلام، ويحفظ الأرواح والأعراض والأموال، ويحترم الدين والعقيدة؛ ولذلك كان أقل ما يجب أن يفعله الغزاة بعد أن ربطوا أنفسهم بهذه المواثيق أن يُحققوا شيئًا من المبادئ التي انطوت عليها، ولكنهم بدلًا من ذلك أظهروا من ضروب الاستهتار بأرواح الأهلِين وعقائدهم وشعائرهم وتقاليدهم، ثم ارتكبوا من الفظائع التي تقشعرُّ من هولها الأبدان ما لطَّخ بالعار اسم إيطاليا وشرفها، وجعل العرب يَخفُّون إلى ميدان القتال أفواجًا من أقاصي البلاد بمجرد أن وصلتْهُم أخبارها. وأما أقسى هذه الجرائم وأفظعها فكانت تلك التي ارتكبها الإيطاليون في ناحية المنشية بعد أسبوع من نزولهم إلى مدينة طرابلس.

ويتلخَّص هذا الحادث المروِّع في أن الطليان عندما نزلوا إلى البر بعد انسحاب القوة العثمانية، عسكرت جنودهم في أطراف المدينة (في ٥ أكتوبر)، بينما تركوا ناحية «المنشية» خلفهم، فانتهز المجاهدون هذه الفرصة وهاجموا «المنشية» بقيادة بعض الضباط العثمانيين في ليل ١٢ أكتوبر ١٩١١م، فصمدت حامِيتها الطليانية إلى الصباح، وعندئذٍ انسحب المجاهدون، ولمَّا وصلت النجدات عثر الطليان على قتيلٍ في بساتين الناحية، فصبُّوا غضبَهم على الأهلين الأبرياء وألصقوا بهم تُهمة اغتيال جنودهم من غير أن يُكلفوا أنفسهم مشقَّة تحقيق هذا الحادث. وبناءً على ذلك استباح الجنرال «كانيفا» ناحية المنشية لجنوده ثلاثة أيام، قتلوا في أثنائها من الأهلين عددًا يتراوح بين الأربعة آلاف والسبعة آلاف نسمة، وهتكوا أعراض النساء، وألقَوا في غياهب السجون وفي الثكنات العسكرية وفي «مدرسة الصنائع» مئاتٍ من الرجال والنساء، ونفوا من العرب إلى جانب ذلك كله حوالي التسعمائة، وهكذا أضاف الطليان بفعلتهم الشنيعة هذه — إلى جانب الدفاع عن أرض الوطن ضد العدو المُعتدي — سببًا آخر حرك العرب وأثار حميَّتهم، هو الانتقام للضحايا الأبرياء وغسل الإهانات التي لحقت بشرفهم، ثم عظُمت كراهية العرب للطليان لدرجة لم تعُد تُثمر معها بعد ذلك في خلال السنوات الطويلة التالية أية محاولاتٍ لإزالة هذه الكراهية أو تخفيف حدَّتها.

وليت فظائع الطليان انتهت عند مذبحة المنشية هذه! ولكن هؤلاء الغزاة الذين أعلنوا وضع طرابلس وبرقة تحت السيادة الإيطالية التامة (٦ نوفمبر ١٩١١م) سرعان ما صاروا يعتبرون المجاهدين لهذا السبب مجرَّد «عصاة» و«ثوار» خارِجين على الحكومة الشرعية في مقاومتهم، ويستحقُّون لذلك الإعدام شنقًا أو رميًا بالرصاص إذا ما وقعوا في أيديهم. فطفقوا مِن ثَم يشنقون الرجال زرافاتٍ ووحدانًا من غير تحقيقٍ أو محاكمة في طرابلس ودرنة وغيرهما من المدن، ويفتكون بكلِّ عربي «يبلغ عمره الرابعة عشرة فما فوق» بتُهمة المحاربة في مؤخرة الطليان، سواء اشترك في أعمال المقاومة أم لم يشترك، وكانت دعوى الطليان في ذلك استنادًا إلى ما تقدَّم، أن مجرد استيلائهم على مدينة طرابلس والمدن الأخرى الساحلية من شأنه وحده فقط أن يجعل جميع العرب الموجودين في هذه الأماكن «رعايا طليان»؛ ولذلك إذا حمل أحد هؤلاء العرب سلاحًا للدفاع عن نفسه أو وطنه ضد الغزاة المُعتدين أصبح «ثائرًا» أو «عاصيًا»، وحُق عليه الإعدام عند القبض عليه من غير مُحاكمة.

وغنيٌّ عن البيان أن دعاوى الإيطاليين هذه كانت فاسدة؛ لأن الاحتلال ليس معناه الامتلاك، ولأنه لا يمكن لدولةٍ أن تمتلك أرضًا من مُمتلكات دولة أخرى إلا إذا أعطتها هذا الحق المعاهدات المُبرمة، وبغير ذلك يظلُّ الأهلون خاضعِين فقط للقوانين السارية في بلادهم قبل أن يحتلها العدو، ولا يمكن اعتبارهم عصاةً أو ثائرين. وقد ظهر هذا المبدأ واضحًا في مؤتمر بروكسل الذي عقدته الدول الأوروبية في عام ١٨٧٤م لتنظيم «قواعد الحرب العسكرية»، ولمَّا كانت الحرب بين الطليان وبين العثمانيين والعرب لا تزال دائرة، ولم يُسلِّم الأهلون للغزاة طوعًا أو كرهًا، ولم يُعقد الصلح بين الفريقين المتقاتلين، ولم يبرم الطليان أية معاهدة تعطيهم حق امتلاك طرابلس وبرقة، ولم يحدث في أيام العمليات العسكرية الأولى أن أصبح احتلالهم للمناطق التي نزلوا بها كاملًا وتامًّا بدليل ذلك الهجوم نفسه الذي قام به المجاهدون في ليل ١٢ أكتوبر، فلا يمكن لذلك كله أن يعتبر العرب عصاةً أو ثائرين، كما لا يقوم وجه ما لاعتبار هجوم ١٢ أكتوبر خرقًا لقواعد الحرب أو أنظمتها العسكرية، زِد على ذلك أنه إذا صح اعتبار هذا الهجوم مخالفًا لقوانين الحرب وتقاليدها فقد صرح الكونت «لنزا» مندوب إيطاليا في مؤتمر بروكسل (١٨٧٤م) «بأنه يجب الاعتراف رسميًّا بأن «الغرامة» فقط هي العقوبة التي يجب أن توقَّع فقط على أولئك الذين ينتهكون حرمة قوانين الحرب وتقاليدها.» ثم قال: «ولا يخلي إقدام أحد الطرفين على انتهاك هذه القوانين والتقاليد الطرف الآخر من واجب العمل بها واحترامها.»

أضف إلى هذا أن إعلان ٦ نوفمبر الذي ضمَّ الطليان بمُقتضاه برقة وطرابلس إلى أملاكهم كان لا يستنِد إلى أي أساس قانوني، فقد ضمنت الدول ومن بينها إيطاليا (سردينيا) كيان الإمبراطورية العثمانية في معاهدة باريس في ٣٠ مارس ١٨٥٦م، ثم تكرَّر إعطاء هذا الضمان في معاهدة لندن التي أبرمتها الدول في ١٣ مارس ١٩٧١م لتنظيم الملاحة في البحر الأسود والمرور من المضايق، ووقَّع الإيطاليون عليها أيضًا، فكان معنى هذا إذن أنه صار حتمًا على إيطاليا أن تحصل على موافقة بقية الدول الموقِّعة على هذه المعاهدات وموافقة الدولة العثمانية ذاتها قبل أن تُقدم على إحداث أي تغيير ينتقص من قيمة هذا الضمان. ثم كان عمل الدول قانونيًّا ولا شك عندما أبرمت في ١٣ يوليو ١٨٧٨م معاهدة برلين المشهورة لتسوية المشاكل التي أثارتها في البلقان الحرب الروسية التركية، فعدلت حدود الإمبراطورية العثمانية بمُقتضى معاهدة اشتركت في توقيعها الدول التي تعهَّدت بالمحافظة على كيان هذه الإمبراطورية من أيام معاهدة باريس (١٨٥٦م) كما حملت أيضًا توقيع الباب العالي نفسه.

ولذلك فإنه لمَّا كان إعلان ضم برقة وطرابلس الذي أذاعته إيطاليا في ٦ نوفمبر ١٩١١م من طرفٍ واحد فقط، وحدث في أثناء قيام الحرب وقبل انتهائها، وكان من جانب إحدى الدول (إيطاليا) التي وقعت على معاهدة باريس (١٨٥٦م) وعلى المعاهدات التالية التي ضمنت المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية وآخرها معاهدة برلين التي أكدت هذا الضمان مرة أخرى فيما يتَّصل بالممتلكات التي بقيت لتركيا بعد عقد الصلح، كما أن إيطاليا أقدمت على هذا الإعلان منفردة من غير اشتراك الدول الأخرى الموقعة على المعاهدات وبدون موافقة تركيا، فقد بادر الباب العالي لكل ذلك بالاحتجاج على إعلان الضمِّ بمجرد أن علم بصدوره وتبليغه إلى الدول، وعدَّ الأتراك هذا الإعلان — الذي لم يُبلغه الإيطاليون إليهم — اعتداءً على حرمة المعاهدات وخصوصًا تلك التي أُبرمت في باريس وبرلين واشتركت إيطاليا في توقيعها إلى جانب الدول الكبيرة لضمان المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية، وكان الأتراك مُحقِّين عندما اعتبروا في احتجاجهم هذا الإعلان «باطلًا وملغيًّا من الوجهة القانونية ولا وجود له في الحقيقة.»

والذي لا شك فيه أنه ما كان يكفي بتاتًا أن يصدر قائد الحملة «كانيفا» منشوراته التي سبق ذكرها استنادًا إلى إعلان الضمِّ هذا حتى يُصبح الليبيون من رعايا إيطاليا، كما أن تسليم بعض الأفراد القلائل في مدينة طرابلس الذين أثَّرت فيهم دعايات «بنك دي رومة» ثم استهوت أفئدتهم الليرة الطليانية لا يُغير شيئًا من حقيقة الموقف عندما كانت العمليات العسكرية لا تزال جارية، ويشترك أهل البلاد مع العثمانيين في الدفاع عن أوطانهم، ولا يمكن أن يجد الإيطاليون في قوانين الحرب وتقاليدها ما يُجيز لهم أن يعتبروا هؤلاء المجاهدين عصاةً أو ثوارًا أو خونةً نصيبهم الشنق والإعدام بالرصاص وهتك أعراض نسائهم والفتك بأطفالهم وشيوخهم، بدعوى أنهم يغدرون بمؤخرة جيش الغزاة الفاتحين.

ثم أنه كان من أسباب زيادة كراهية العرب للمُعتدين الطليان أن هؤلاء الغزاة الفاتحين بمجرد أن تبيَّن لهم إصرار الأهلين على المقاومة، وكان الهلع والجُبن من أسباب انهزام الطليان تقريبًا في كل موقعةٍ يشتبكون فيها وجهًا لوجهٍ مع المجاهدين البواسل — سرعان ما صاروا يستقدمون النجدات من «إرتريا» المستعمرة الإيطالية في أفريقية الشرقية؛ «فاشترك «العساكر» الأحباش في مواقع «بير التركي» و«عين زارة» وغيرها، ثم لم يكتفِ الطليان بذلك، بل صاروا يستخدمون أيضًا نوعًا من الرصاص المُتفجر الذي يُحطم أجسام المصابين تحطيمًا لا ينفع فيه معالجة ولا يُرجى منه شفاء، مُنتهكين في فِعالهم هذه حرمة قوانين الحرب وتقاليدها كما وافق عليها مندوبو الدول المتمدينة في مؤتمراتهم.»

وهكذا لم يُحقق الطليان شيئًا من الوعود التي تضمَّنتها منشوراتهم المتعددة، وبذلَها بسخاء قائد حملتهم، خصوصًا في منشوره الذي أمَّن فيه العرب على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، ووعدهم بقيام الحكومة العادلة الرشيدة بينهم، تعيد إلى بلادهم الرخاء والرفاهية. فقد أزهق الطليان أرواح الأبرياء وهتكوا أعراض النساء، ثم سلبوا أموال الأهلين وكلَّ ما وقعت عليه أيديهم. ثم كان من السخرية حقًّا أن يَعِد الطليان بإعادة الرخاء والرفاهية إلى البلاد وهم الذين أصدروا — بمجرد نزولهم إلى البر واحتلال مدينة طرابلس — «ورق النقد»، وصاروا يُرغمون الأهلين على التعامُل به بدلًا من العملة البُرنزية أو الفضية أو الذهبية التي لا يعرف هؤلاء سواها وسيلةً للتعامُل منذ أزمانٍ بعيدة، فتساءل الليبيون: «أهؤلاء حقًّا هم الذين جاءوا ليجعلونا أغنياء؟ إنهم ولا ريب أشد فقرًا من الأتراك؛ لأنه إذا كان الأتراك يجلبون إلى هذه البلاد مالًا قليلًا، فإن هذا المال على قلَّته كان نقودًا صحيحةً من الفضة والذهب، أما الطليان فإنهم يُعطوننا بدلًا من ذلك قصاصات من الورق القذِر!»

ولعل أعظم أخطاء الإيطاليين خطورةً كان مسعاهم من أول الأمر في أن يُكسِبوا هذه «الحملة» صبغةً دينية عريقة، فقد بارك قساوستهم أساطيل الحملة عند خروجها، ودقَّت النواقيس وأُقيمت الصلوات، ووزَّع رجال الكنيسة الصلبان المُهداة من البابا إلى هؤلاء الصليبيين الجدد، وأفرط الطليان عند كل مناسبةٍ في الاحتفال بالنصر في كنائسهم مهما كانت هذه الانتصارات المزعومة قليلة القيمة، ومهما كان مشكوكًا في نتائج المعارك التي وجد الطليان شجاعةً كافية لخوض غمارها. ثم لم يقنع الطليان بالاحتفال بالنصر في بلاهم، بل جعلهم سوء التدبير وعدم الفطنة يُقيمون هذه الاحتفالات الدينية في مدينة طرابلس ذاتها، يُقدِّمون الشكر لله العزيز الذي مكَّنهم من انتزاع «الهلال» وإعلاء «الصليب» مكانه، فأثارت هذه الحماقة ثائرة المجاهدين، وأشعلت في نفوسهم الكراهية للمُعتدِين الآثمين، وأدرك جماعة من الكتَّاب ومُراسلي الصحف الأوروبيين الذين شهدوا الحرب الإيطالية-الليبية خطورة هذا الخطأ، فقال أحدُهم — «أبوت» — إن عمل الطليان هذا كان على وجه التحقيق العامل الحاسم في إثارة شعور كل مُسلم يحفظ شيئًا ولو قليلًا من الاحترام لنفسه حتى اشتدَّت مقاومة العرب ضد الطليان، واستطاع الأتراك الذين ما كانت تربطهم بالأهلين — في نظر هذا الكاتب — سوى أواصر الاشتراك في الدين والعقيدة، أن يؤلِّفوا جبهة قوية للمقاومة ويستنفروا العرب للجهاد ضد الغزاة المُعتدين.

والحقيقة أن الأتراك لم يكونوا في حاجة لأن يتَّخذوا من حماقة الطليان هذه وسيلة لتحريك العرب وحثِّهم على المقاومة والدفاع عن أوطانهم، فقد تقدَّم كيف صارت جموع المجاهدين تتدفَّق على المعسكر العثماني بمجرد أن ذاع في البلاد خبر اعتداء الطليان على طرابلس وبرقة، ثم إن العرب لم يكونوا هم أيضًا في حاجة إلى هذه الأخطاء يرتكبها الطليان حتى يقوى تصميمهم على المقاومة، وهم الذين استرشدوا دائمًا بآراء زعمائهم ونصائحهم، كما تدلُّ استجابة جموع غفيرة منهم لنداء فرحات بك وسليمان الباروني. ومع هذا فقد ظل العرب في هذه المرحلة الأولى ينتظرون بفروغ صبر وصول «أولاد سليمان» إلى المعسكر العثماني وإلى ميادين الجهاد، ويتوقون إلى حضور «مجاهدي الفزان» وصناديد «التوارق»، لِما كانوا يتمتعون به من شهرة عظيمة بوصفهم مُحاربين بواسل وأبطالًا مغاوير. وقد حضر أولاد سليمان وحضر مجاهدو الفزان، وحضر التوارق، حتى زخرت بهم معسكرات المجاهدين وخصوصًا في «سنيات بني آدم». وقد جاء هؤلاء جميعًا من جهاتٍ انتشرت فيها السنوسية.

وكان مجيء هؤلاء المجاهدين من أتباع السنوسية وأنصارها مُطمئنًا لأهل طرابلس إلى درجة عظيمة؛ لأن هؤلاء المجاهدين اشتهروا بالشجاعة والإقدام، وحذق التوارق ومجاهدو الفزان خصوصًا فنون الكرِّ والفر، واكتسبوا خبرة كبيرة من اشتباكهم في القتال ضدَّ الفرنسيين في الصحراء والسودان الغربي، أضِف إلى هذا أن مجيئهم لنجدة إخوانهم العرب في طرابلس كان يدلُّ على أن السنوسيين بزعامة أميرهم السيد أحمد الشريف قد انحازوا بكامل قوَّتهم إلى جانب الأتراك والطرابلسيين في الدفاع عن طرابلس. وكان القلق ولا شكَّ يساور بعض زعماء الطرابلسيين لأنهم كانوا يعرفون أن عبء القتال الأعظم — كما سنرى — كان وقتئذٍ يقع على كواهل السنوسيين في برقة، ولأنهم كانوا يتوجَّسون خيفةً من عدم صفاء العلاقات بين الآستانة والكفرة بعد الانقلاب الدستوري خصوصًا في تركيا، ولكن السيد أحمد الشريف كان منذ ١٩١٠م قد استطاع الوصول إلى اتفاقٍ مع الأتراك الذين أرسلوا بعض الجند النظاميين إلى برقو والتبستي وواحة «ون»، وأسَّسوا قائمقامية في واحة الكفرة على نحوِ ما سبق ذكره، ومع هذا فقد ظلَّ مُحتملًا وجود بعض الخلاف بين السيد أحمد الشريف وبين العثمانيين الذين ساءهم أن يرَوا نفوذهم وسلطانهم يضيع نهائيًّا في الأقاليم التي خضعت للسنوسية، ثم حرصوا على ما يبدو في أثناء هذه الحرب الليبية-الإيطالية على أن تظلَّ قيادة الجهاد في برقة، وبالأحرى في طرابلس، في أيديهم، فاضطر السيد أحمد الشريف لذلك إلى البقاء بالكفرة وبخاصة عندما كان لا يزال النضال دائرًا في الجنوب بينه وبين الفرنسيين. ومع ذلك فإن اعتداء الطليان على طرابلس وبرقة سرعان ما أزال كل أثرٍ للخلاف بين الكفرة والقسطنطينية، ومن الكفرة خرجت الدعوة إلى المجاهدين البواسل، ليس فقط في برقة وفي صحراء طرابلس، حتى يردُّوا كيد المُعتدين على أوطانهم.

حقيقةً خف المجاهدون إلى ميادين القتال في برقة وطرابلس بمجرد وقوع العدوان الإيطالي، ولكن صدور الدعوة إلى الجهات من زعيم السنوسية كان بمثابة الشرارة التي أوقدت النار في طول البلاد وعرضها، فخفَّ العرب من أقاصي طرابلس والفزَّان ثم من السودان الغربي لمؤازرة إخوانهم المجاهدين في الجبل والغرب، وهي الجهات التي ظلَّ زعماؤها حريصين على استقلالهم ولا يُريدون منذ ظهور السنوسية الانضواء تحت لوائها. وواضح أن موقف الزعماء الطرابلسيين هذا كان من الأسباب التي جعلتهم، عندما جد الجد، وغزا الغزاة بلادهم يتوقون لمعرفة القرار الذي يبغي السنوسيون اتخاذه في هذه الظروف القاسية.

وكانت السنوسية عند حسن الظن بها، فتدفق أتباعها وأنصارها كالسيل الجارف على ميدان القتال في طرابلس، وفي منتصف يناير ١٩١٢م قال السيد أحمد الشريف كلمته لأهل طرابلس وجميع العرب، فأصدر نداءه المشهور يحثُّ فيه الطرابلسيين والبرقاويين أهل ليبيا على الجهاد ضد العدو المُعتدي، ويعلن فيه نبأ اعتزامه النزول بنفسه إلى الميدان على رأس قوةٍ من المجاهدين كبيرة. وقد نُقش «نداء» السيد السنوسي الكبير هذا على راية من الحرير حملَها المجاهدون في طرابلس من مكانٍ إلى آخر بين القبائل الضارية في الجنوب خصوصًا، فكان من أثر هذا «النداء» أن تدفَّقت جموع المجاهِدين والمتطوِّعين على المعسكرات العثمانية في العزيزية وغريان، وعلى مراكز العرب في «سنيات بني آدم»، فكان معسكر العرب في «السنيات» بعد ذلك يعجُّ بجموع المجاهدين من الزاوية والعُجيلات وزنزور ومصراتة وسرمان وأولاد بوسيف وورفلة وغريان والجبل والعزيزية وأولاد سليمان، ثم مجاهدي الفزان والتوارق. ثم لم يكتف السيد أحمد الشريف بذلك، بل أعد نجدة خاصة لتعزيز قوات العثمانيين والمجاهدين العرب في العزيزية. وفي ٢٥ مارس ١٩١٢م دخلت نجدات السيد أحمد الشريف إلى العزيزية مسلحة بالبنادق والحراب والسيوف، وتحمل معها نبأ تحرُّك نجداتٍ أخرى لا تزال تجدُّ السير في طريقها إلى المعسكر العثماني. وكان يوم وصول نجدات السيد هذه يومًا مشهودًا في تاريخ الجهاد في طرابلس.

وقد اعترف السلطان العثماني نفسه بهذه الجهود التي قام بها السيد أحمد الشريف من أجل تخليص الأقطار الليبية وتحريرها، فأهداه في هذا الشهر نفسه (مارس ١٩١٢م) سيفًا ونيشانًا مُرصعًا بالجواهر مكافأةً للسيد وتقديرًا لجهوده.

بيد أن زعامة السيد أحمد الشريف وجهود السنوسيين كانت بلا مِراء أكثر وضوحًا وأعمق أثرًا في سير الجهاد ضدَّ الإيطاليين في برقة: ميدان القتال الآخر في هذه الحرب الليبية-الإيطالية.

•••

فقد ضرب الطليان بمدافعهم من البحر المواني البرقاوية في الوقت الذي اعتدوا فيه على ميناء طرابلس الغرب والخمس، واستطاعوا في يوم ٢٤ أكتوبر ١٩١١م أن يحتلوا طبرق، أي قبل نزولهم في طرابلس بأسبوع تقريبًا، ثم نزلوا في درنة يوم ١٧ أكتوبر، ونزلوا في بنغازي بعد ذلك بيومَين. ومن أول الأمر قاومهم العرب مقاومةً شديدةً، فالتحموا معهم في الليلة الثانية من نزولهم إلى بنغازي، وهزموهم في محلةٍ يُقال لها الصابري، وكان العثمانيون قد اشتبكوا مع الطليان يوم نزولهم نفسه في معركةٍ حامية تعرف باسم «وقعة جوليانة»، ولكن الجند العثمانيين لم يستطيعوا الصمود أمام الطليان الذين استمرَّت سفنهم الحربية تضرب بنغازي بمدافعها من البحر، فانسحب قائدهم شاكر بك إلى «سيل الهواري» على مسافة أربعة كيلومترات من المدينة، ثم انسحب مع جُنده بعد ذلك إلى «الأبيار» على مسافة ثلاثين كيلومترًا، غير أن الموقف سرعان ما تبدَّل عندما انتشر في طول البلاد وعرضها خبر اعتداءات الطليان على برقة وطرابلس، واستنفر الزعماء السنوسيون في بنغازي وغيرها شيوخ الزوايا للجهاد، فكان السيد عمران الكوري شيخ زاوية المرج أول من خرج بجيشٍ لنجدة الأتراك، فاستنفر قبيلة العرفا — وكان شيخًا على زاويتها — وقبائل أخرى، فكان وصول هذه النجدة مثبِّتًا لأقدام العثمانيين الذين استطاعوا مع السنوسيين مقابلة الطليان ثم إرغامهم على التقهقر إلى بنغازي. وفي بنغازي اطمأن الطليان إلى حماية أسطولهم. وأما العثمانيون والعرب فقد اتخذوا «الرجمة» مقرًّا لهم. وكان كذلك في مقدمة الذين خفُّوا لنجدة العثمانيين والالتحام مع العدو في برقة: السيد عمر المختار، فقد كان — رحمه الله — يزور شيوخ السنوسية وزعيمهم السيد أحمد بالكفرة، وفي أثناء رجوعه من هذه الزيارة إلى زاويته «القصور» بلَغه نبأ نزول الطليان في بنغازي واحتلالهم لها، وكان وقتئذٍ بواحة «جالو»، فلم يلبث بمجرد وصوله إلى «القصور» أن أمر قبيلة العبيد المُنتسبة لزاوية القصور بالاستعداد للحرب، ثم تبع السيد عمر بقية شيوخ الزوايا. واستمر السنوسيون بقيادته بعد ذلك يُضيقون الخناق على العدو، وخصوصًا عند «بنينة» حتى جاء أنور إلى معسكر القيادة العامة في درنة وعزيز بك المصري إلى بنغازي.

وقد اهتم أنور بك منذ وصوله إلى برقة بالطواف بالقبائل وزيارة الزوايا السنوسية ودعوة الجميع للجهاد، وذلك حتى يكتمل لديه جيش قوي يستطيع أن يدفع به غائلة الطليان. ولما كان السيد أحمد الشريف يُقيم وقتئذٍ بالكفرة، فقد أرسل إليه القائد العثماني كتابًا «يُنبئه فيه بخيانة الطليان، ويرجوه أن يرسِل منشورًا إلى أتباعه ليحاربوا أعداء دينهم وبلادهم.» وفي ٢٨ نوفمبر ١٩١١م رجع أنور بك إلى معسكر درنة بعد أن جمع في طوافه حوالي الخمسة آلاف مقاتل من العرب مشاةً وفرسانًا، كما أحضر معه الجند العثمانيين الذين كانوا مُتفرقين بالصحراء للمحافظة على الأمن، وعددهم «٦٠» جنديًّا.

وأما السيد أحمد الشريف، فقد أعد منشورًا كبيرًا أرسلَه إلى مشايخ الزوايا ورؤساء القبائل لكي يحضوا العرب على الجهاد، وقد طلب السيد أحمد من كلِّ عربيٍّ يبلغ الرابعة عشرة من عمره إلى الخامسة والستين الذهاب إلى ميدان القتال مزوَّدًا بمئونته وسلاحه، وأن يخضعوا جميعًا لأوامر أنور بك بصفته نائب السلطان وقائدًا عامًا. ثم بعث في الوقت نفسه (١٧ ديسمبر ١٩١١م) إلى أنور بك رسالة خاصة جاء فيها ردًّا على خطابه: «وقد كتبنا للإخوان وحرَّضناهم على المساعدة وعدم المُخالفة في إعلاء كلمة الله.»

وكان منشور السيد أحمد الشريف أكبر حافز للعرب على المُضي في الجهاد، كما كان لوجود كبار السادة السنوسية — السيد محمد إدريس، والسيد محمد الرضا، والسيد محمد عابد — في المعسكر في هذه الآونة أكبر الأثر في التفاف العرب المجاهدين حول القائد العثماني. وعلى ذلك فقد استطاع أنور مناوشة العدو بنجاحٍ طول شهر ديسمبر ١٩١١م، وفي أواخر هذا الشهر استقدم «مدفعَين» من بنغازي، وفي ٢٧ و٣١ التحم المجاهدون مع الطليان في معركة كبيرة اشتركت فيها قبائل «الحسا» و«الدرسة» وعائلة منصور وقبيلة النواعر، إلى جانب الجند النظامي، واستولوا على غنائم كثيرة، وقُتل من الأعداء ما يزيد على الألف، بينهم كثيرون من الضباط.

ويقول الأمير شكيب أرسلان: «أما بعد وصول أنور فإن الطليان امتنعوا عن الخروج مدة، واعتصموا باستحكاماتهم، وأخيرًا خرجوا بقوةٍ عظيمة، وصارت الواقعة المُسمَّاة بواقعة الضبط، وألحُّوا على معسكر أنور، ولكن العرب هزموهم وتركوا مئاتٍ من القتلى والجرحى، وغنم العرب ١٣ بغلًا موقرة ومئات من البنادق، واستُشهد من العرب ٤٠ مجاهدًا، وكانت هذه المعركة في ٣١ ديسمبر ١٩١١م.»

ومن تاريخ هذه المعركة في الحقيقة ازداد وفود العرب على معسكر درنة، حتى قدَّرهم أحد المعاصرين الذين اشتركوا في هذه الوقائع بتسعة عشر ألف مقاتل، هذا عدا الأتراك المُشاة ورجال المدفعية وكانوا حوالي الخمسمائة، فحضر إلى ساحة القتال بمعسكر درنة شيوخ زوايا السنوسية في درنة والبيضا وقفنطة وشحات وترت وبشارة والمرازيف ومارة ومرتوبة وأم أرزم وأم حضين والمخيلي والعزيات وأم بركة والحمامة والعجالي. ولمَّا كان يتبع هذه الزوايا كثير من القبائل فقد وجدت بميدان القتال عدة قبائل من أشهرها: البراعصة وحسا والعواكلة ومنصور وغيث والنواعر ودسة ومنافة.

وعندما تدفق السنوسيون على ميدان القتال اشتبك المجاهدون مع الطليان في مناوشات كثيرة، ثم التحموا معهم في منطقة بنغازي في معركة عند «الكويفية» في ٢٨ نوفمبر ١٩١١م، وهاجموا بنغازي وتحمَّل الطليان عناءً كبيرًا في الدفاع عنها (في ٢٥ ديسمبر ١٩١١م). وبعد حضور عزيز علي بك المصري قائدًا لمنطقة بنغازي جرت وقائع كثيرة، فهجم العرب على استحكام «مشويليك»، وقضوا على الحامية الطليانية به (١٥ يناير ١٩١٢م).

وفي اليوم التالي هاجموا استحكام «الفويهات»، وفي ١٨ يناير اشتبك المجاهدون مع العدو في واقعة «الزريعية»، واشترك الأسطول الطلياني في المعركة.

وفي ٢٢ فبراير هجم العرب «السنوسيون دائمًا» على استحكام الطليان عند «اللثامة»، وعندما حاول الطليان بعد أربعة أيام احتلال «غريونس» على شاطئ البحر وزحفوا إليها من جهة استحكامهم في «شويليك» صدَّهم العرب عنها وألحقوا بهم الهزيمة. وفي ١٢ مارس التحم الفريقان في معركة «سواني عبد الراني» المشهورة عند الطليان باسم معركة النخلتَين، ويقول الأمير شكيب أرسلان: «وفي ١٢ مارس جرت وقعة الفويهات الشهيرة، وكان سببها أن ٢٠٠ عربي دخلوا بين استحكامَي الفويهات والبركة، فثار في وجوههم الطليان، واشتدَّت الحرب، وأحاط الطليان بهذه المائتي مجاهد من العرب، وقصد عزيز بك المصري ومن معه من العرب إمداد هؤلاء العرب فلم يتمكنوا من ذلك بسبب القنابر التي كانت تتساقط كالمطر من البر والبحر، فلبث هؤلاء العرب يقاتلون مُستميتين إلى الظلام، وعند ذلك نجا فلُّهم ولحقوا بالمعسكر العربي بعد قتالٍ استمر طول النهار، ويُقال إنه نجا ٨٠ رجلًا من المائتين.

وأما الطليان فقُتل وجُرح منهم ألف وخمسمائة مقاتل، منهم ٢٨ ضابطًا برُتَب مختلفة، وجنرال برتبة لواء، وأُصيب بالجنون عدة ضباط من هول تلك الوقعة. وكانت هذه الوقعة قد شقَّت كثيرًا على العرب، وقامت النوادب تندب أولئك الأبطال الذين حالت مدافع الطليان دون إمكان نجدتهم. وبينما العرب في مآتم على قتلاهم وردت برقية من أنور القائد العام في درنة إلى عزيز علي المصري قائد مجاهدي بنغازي عن برقية من الآستانة عن برقية من برلين عن برقية من رومة تُفيد أن وقعة الفويهات هذه كانت من أشدِّ المصائب على الطليان، خسروا فيها ألفًا وخمسمائة مقاتل، ومنهم ضباط كثيرون قتلى وجرحى، ومنهم من أصابهم الجنون من هول ذلك اليوم.»

وحدثت بعد ذلك جُملة مناوشات ووقائع صغيرة بين الفريقَين في الفويهات أيضًا (٤ أبريل)، وعند استحكام السلماني، وواقعة البركة، وفي ١٩ يونيو حدث اشتباك بين دورية العرب في الكويفية (وكانت ٥٥ مجاهدًا فقط) وبقي الطليان في «سواني عثمان»، وكان هؤلاء مُجهَّزين بالمدفعية الجبلية والصحراوية، ومع ذلك فقد صمد العرب أمامهم حتى وصلتهم النجدات، وعندئذٍ انهزم الطليان وغنم العرب أسلابًا كثيرةً.

وأما في منطقة «درنة» فقد اشتبك الطليان مع العرب المُخيم شرقي درنة في معركة في ١٧ يناير ١٩١٢م، وفي ٣٠ يناير هجمت قبيلة البراعصة على استحكام سيدي عبد الله ليلًا «وهو ملآن بالمدافع الهائلة الكبيرة، وكان هجومًا بجرأة نادرة المِثال في تواريخ الحروب، إلا أن البراعصة لم يقدروا على الاستحكام ووقع منهم ٧١ شهيدًا.»

وفي ١١ و١٢ فبراير شن المجاهدون بقيادة أنور بك غاراتٍ ليلية على استحكامي الطليان في «لمبارديا» و«كلابريا»، وفي ٣ مارس وقعت معركة أخرى هامة في «سيدي عبد الله»، ثم استمرَّت المناوشات والمعارك الصغيرة إلى نهاية مارس. وفي أثناء ذلك كله كان الأسطول الطلياني يشترك في هذه المناوشات والمعارك في البحر، هذا إلى جانب ما كان يقوم به من أعمال أخرى، أهمها إنزال القوات والنجدات الإيطالية إلى البر من وقتٍ إلى آخر ثم حراسة القوافل في البحر.

ويصف توزيع القوات العثمانية والعربية المجاهدة في ميادين القتال في هذه الآونة السيد تحسين العسكري بك، وكان سيادته من أوائل العراقيين المُتطوِّعين في هذه الحرب، فوصل عن طريق مصر ومريوط والسلوم وطبرق «بئر الغزالة» إلى معسكر المجاهدين بالقُرب من درنة في يونيو ١٩١٢م، فقال عن «الوضع الحربي في ٢٢ حزيران (يونيو) سنة ١٩١٢م: كانت جميع معسكرات الجيش العثماني تبعُد عن السواحل مسافات تتراوح من ١٥ كيلومترًا إلى ٢٠ كيلومترًا نحو الجنوب، وذلك لتكون مصونة من قنابل مدافع الصحراء الطويلة المدى ومدافع الأسطول الإيطالي، وأما الخطوط الأمامية فلم تبعُد عن معسكرات العدو أكثر من ٥ كيلومترات، وينقسِم ميدان بنغازي إلى ثلاث مناطق، وكان قائدها العام المقدم ضابط الركن أنور بك (الذي عُين وكيل القائد العام في سنة ١٩١٤م في الحرب العُظمى)، وهي: (المنطقة الأولى) بنغازي بقيادة المقدم ضابط الركن عزيز علي بك المصري، (المنطقة الثانية) درنة بقيادة المقدم ضابط الركن مصطفى كمال بك (رئيس جمهورية تركيا الغازي مصطفى كمال باشا)، (المنطقة الثالثة) طبرق بقيادة الفقيد ناظم بك ضابط الركن، وكان الرئيس الأول وسليمان عسكري بك رئيسًا لضباط الركن في بنغازي.»

•••

بيد أن الحرب الليبية-الإيطالية في هذه الآونة كانت قد وصلت «من الوجهة الرسمية» إلى نهايتها بين تركيا وإيطاليا، عندما قبل العثمانيون — تحت ضغط الدول الأوروبية وبسبب الهزائم التي أصابتها في ميادين أخرى — الدخول في مفاوضة من أجل عقد الصلح مع إيطاليا، وبدأت هذه المفاوضات فعلًا في لوزان في ١٢ يوليو ١٩١٢م.

والواقع أنه منذ حشد السنوسيون جموعهم وصمدوا للجيوش الإيطالية بعد نزولها إلى الشواطئ، ثم تقاطر المتطوعون على طرابلس وبرقة من كل حدَب وصوب لشَدِّ أزر المجاهدين، وصممت الدولة العثمانية على المقاومة فأرسلت نخبة من ضباطها وقوادها المشهورين أمثال أنور ومصطفى كمال، وكابد الإيطاليون خسائر فادحة في معارك شهر أكتوبر ١٩١١م على وجه الخصوص، وجدت إيطاليا لذلك كلِّه أن خير وسيلة لإرغام الأتراك على قبول الصلح هي غزو السواحل العثمانية ومحاصرتها، ولم يمنعها من ذلك سوى معارضة الدول الأوروبية. ومع هذا فقد وافقت هذه الدول على أن تُطلق يد إيطاليا في مهاجمة ساحل البحر الأحمر العثماني بدلًا من مهاجمة شواطئ الدولة في أوروبا، فضرب الأسطول الإيطالي في البحر الأحمر المراكز والمواني العثمانية في الصليف والقنفذة والشيخ سعيد والحديدة وغيرها في عملياتٍ استمرَّت من يناير إلى يوليو ١٩١٢م، وعلاوةً على ما تقدَّم فقد شجَّع الإيطاليون الثوار في العسير على الدولة.

وفي هذه الظروف توسَّطت الدول منذ مارس ١٩١٢م (إنجلترا والروسيا وألمانيا والنمسا وفرنسا) من أجل عقد الصلح بين الفريقَين المتحاربَين تركيا وإيطاليا. ولكن هذا التوسُّط لم يثمر ثمرته المرجوة لأن إيطاليا أرادت أن تنتزع من تركيا الاعتراف بضمِّ طرابلس الغرب إلى مُمتلكاتها، بينما صعُب على تركيا النزول عن هذه الولاية لجُملة أسباب من أهمِّها ولا شك خوفها سخط الرأي العام في داخل البلاد العثمانية وعدم إقراره لأي صُلح ينعقد على مثل هذه الشروط الظالمة، هذا إلى ظهور حركة واسعة في معسكرات المجاهدين أنفسهم في برقة وطرابلس على أساس المُطالبة بجلاء إيطاليا وإخراجها كليةً من البلاد، بمجرد أن ترامى إليهم خبر مساعي الصلح، وكان المُتزعِّم لهذه المعارضة القوية كما هو مُنتظر بطل الجهاد الأول وزعيم المجاهدين السيد أحمد الشريف.

ويحفظ التاريخ للزعيم والمجاهد الكبير خطابًا مشهورًا بعث به إلى أنور بك في درنة، يذكر فيه ما بلغه من أن الدولة تعتزم، بالاتفاق مع الدول، إعطاء طرابلس إلى الإيطاليين، فيُعارض في ذلك، ويقول — رحمه الله: «نحن والصلح على طرفي نقيض، ولا نقبل صلحًا بوجهٍ من الوجوه إذا كان ثمن هذا الصلح تسليم البلاد إلى العدو.» وزيادةً على ذلك فقد حذَّره السيد مما سوف يُحدثه ولا شك قبول الصلح في نفوس المسلمين في جميع الأقطار من نفورٍ شديد من الدولة العثمانية. وحمل هذا الكتاب، كما يقول أحد المؤرخين، أربعون شيخًا من كبار السنوسية المجاهدين إلى القائد العثماني، وتحدث الوفد في هذا المعنى أيضًا مع أنور وأبلغوه رأي السيد، فوعدهم أنور خيرًا.

ولم يكن المجاهدون في برقة وحدهم الذين قرروا المضيَّ في القتال ورفضوا الصلح مع إيطاليا على أساسٍ غير الجلاء عن بلادهم، فقد صرَّح بمِثل ذلك أيضًا زملاؤهم في طرابلس الغرب، فأرسل سليمان الباروني برقية إلى مجلس النواب العثماني يُعارض فيها باسمه وباسم إخوانه المجاهدين عقد أيِّ صلح مع إيطاليا لا يكفل جلاءها عن البلاد التي أغارت عليها.

ومع ذلك لم يكن مقدرًا أن تلقى هذه الرغبات جميعها ترحيبًا من جانب الحكومة العثمانية؛ لأن تركيا باتت تهتمُّ في هذه الآونة بإنهاء الحرب الطرابلسية قبل كل شيء، وذلك لأنها رأت الحرب تمتدُّ إلى الشواطئ التركية وممتلكات الدولة في البحر الأبيض المتوسط، وكانت تتوقَّع اندلاع نيران الحرب في شبه جزيرة البلقان عند أول بادرة، وتريد أن تتفرغ لمواجهة الأخطار الجديدة.

وأما سبب هجوم الإيطاليين على ممتلكات تركيا في البحر الأبيض فهو أن إيطاليا كانت قد اتفقت سرًّا مع الدول العظمى على أن تطلق هذه يدَها في مهاجمة السواحل العثمانية والإغارة على جزرها ومُمتلكاتها في البحر الأبيض إذا أخفقت وساطة الدول مع تركيا، فلمَّا تعذَّر على الباب العالي قبول التسوية التي عرضتها عليه الدول، اعتدت الأساطيل الإيطالية على السفن والمراكز العثمانية في البحر الأبيض، وحاول الأسطول الإيطالي في شهر أبريل ١٩١٢م أن يقتحم مضيق الدردنيل، ولكن نيران العثمانيين لم تلبث أن ردَّت الطليان على أعقابهم، وعندئذٍ انصرف هؤلاء إلى الهجوم على جُزر «الدودكانيز»، فاحتلوا رودس وبقية الجزر القريبة منها (في مايو)، وساءت حال الدولة وزادها سوءًا وجود الانقسامات الداخلية والمنازعات بين الائتلافَين من خصوم الوزارة والاتحاديين أنصارها، وعندئذٍ رأى الأتراك من الخير أن يتكاتف كبار الساسة والزعماء لمعالجة هذه الصعوبة، فتألفت «الوزارة الكبيرة» لأنها تضم كبار القوم في ٢٣ يوليو ١٩١٢م، وسقطت وزارة حقي باشا القديمة، وحدث هذا في الوقت الذي كانت لا تزال فيه مفاوضات الصلح جارية بين تركيا وإيطاليا، وهي المفاوضات التي بدأت — كما تقدم — في لوزان يوم ١٢ يوليو ١٩١٢م.

وكان لسقوط وزارة حقي باشا — التي بدأت في عهدها مفاوضات الصلح مع الطليان، والتي ذاع اتهامها بالتواطؤ مع العدو — بعض الأثر في تهدئة خواطر المجاهدين نوعًا ما في برقة وطرابلس؛ لأن أعظم ما كانوا يخشونه أن يقبل الأتراك الصلح مع إيطاليا وأن يتخلَّوا عن طرابلس وبرقة. ولكن سرعان ما تجدَّدت مخاوف السنوسيين وإخوانهم المجاهدين العرب عندما وجدوا الوزارة الجديدة تستأنف المفاوضات بشكل جدي، فقد أسرعت الحكومة العثمانية بمجرد تأليف هذه الوزارة في إرسال تعليماتها إلى مندوبيها في مؤتمر الصلح حتى يُواصلوا مفاوضاتهم، وأكثر السنوسيون من الاحتجاج على هذا العمل، وكان في هذه الآونة أن رأى أحد المجاهدين العرب الذين وفدوا إلى برقة للاشتراك في النضال ضد العدو المُعتدي أن خير خدمةٍ يُسديها لمصلحة الأقطار الليبية هي الذهاب بسرعة إلى الآستانة «لمذاكرة رجال الوزارة الجديدة، وهي وزارة مختار باشا وكامل باشا وحسين حلمي باشا في أمر طرابلس، وثني عزمهم عن التساهل مع الطليان كما كان شائعًا.» وكان هذا المجاهد الكبير الأمير شكيب أرسلان، من أشدِّ خصوم إيطاليا وأعدائها في تلك الآونة (يوليو، أغسطس ١٩١٢م).

بيد أن رغبة المجاهدين في الأقطار الليبية، كما صرَّح بها أميرهم وزعيمهم السيد أحمد الشريف، لم تؤثر شيئًا في تعطيل أو وقف مفاوضات الصلح؛ وعلى ذلك فقد ظلَّ المندوبون العثمانيون يُقلبون وجوه الرأي مع المندوبين الطليان طوال شهر أغسطس، ثم في خلال الأسبوعين الأولَين من شهر سبتمبر، يرجون الظفر بصُلح مشرِّف، حتى إذا تلبَّد الأفق السياسي في بلاد البلقان، وتحرَّجت الأمور في هذا الجانب من ممتلكات الدولة العثمانية، ووجدت تركيا أن لا مناص من خوض غمار حرب جديدة في النهاية، بادرت الوزارة بانتداب أحد أعضائها للسفر إلى المؤتمر مزوَّدًا بسلطاتٍ واسعة، فوقَّع الفريقان على معاهدة الصلح في أوشي «لوزان» في ١٨ أكتوبر ١٩١٢م. وبمُقتضاها تعهدت الدولتان بإيقاف الحرب، وتعهد العثمانيون باستقدام ضبَّاطهم وجيوشهم وموظفيهم المدنيين في طرابلس.

ولمعاهدة أوشي ثلاثة ملاحق: أولها منشور من السلطان العثماني إلى سكان طرابلس الغرب وبرقة يمنحهم فيه «بما له من حقوق السيادة استقلالًا داخليًّا مُطلقًا وتامًا.» ويُعين مُمثلًا له في بلادهم يمنحه لقب «نائب السلطان» لحماية المصالح العثمانية، ثم يحتفظ بحق تعيين القاضي الذي يتولى تعيين نائبَين عنه من العلماء وأبناء البلاد حتى يقضوا بين الأهلين طبقًا لأصول الشريعة الغرَّاء. وأما الملحق الثاني فكان عبارة عن منشور صدر من جانب ملك إيطاليا إلى سكان طرابلس الغرب وبرقة، جاء في مقدمته «عملًا بالقانون رقم ٣٨ الصادر يوم ٢٥ فبراير ١٩١٢م، والذي يجعل طرابلس الغرب وبرقة خاضعتَين خضوعًا تامًا مُطلقًا للسيادة الملوكية الإيطالية، ورغبةً في التعجيل بإعادة السِّلم إلى هاتَين المقاطعتَين»، أصدرت الحكومة الإيطالية مرسومًا، أهم ما جاء فيه إلى جانب منح العفو العام للطرابلسيين والبرقاويين، وعد إيطاليا بالمحافظة على الشعائر الإسلامية، بما في ذلك «ذكر اسم جلالة السلطان الأعظم بصفته خليفة المسلمين في الصلوات العامة.» وأما الملحق الثالث والأخير فكان يتَّصل بأمر العفو عن سكان بحر إيجه الذين اشتركوا في الأعمال العدائية ضد العثمانيين في أثناء الحرب.

وقعت الحكومة العثمانية على هذه المعاهدة من غير أن تستشير الزعماء العرب، وأغفلت رغبات المجاهدين السنوسيين الذين قامت على أكتافهم هذه الحرب بقيادة السيد أحمد الشريف، فلم يكن لهم رأي في هذه المُقررات التي تناولت مصيرهم، هذا على الرغم من أن هؤلاء مع بقية إخوانهم المجاهدين العرب كانوا يقومون بعبء الحرب الأكبر، وأرغموا إيطاليا — ذات الجيوش المُجهزة بالأسلحة الحديثة والعتاد، والتي حمى أسطولها ظهور جندها في البحر — على البقاء بالسواحل، وعدم الجرأة على التوغُّل في الداخل، وكان كل اعتماد الدولة عليهم، وبخاصة عندما جاءت أوامر وزارة الحرب العثمانية إلى السلطات الحكومية المحلية بالانسحاب والتقهقر إلى المراكز الداخلية، ليس فقط في مناوشة العدو، بل وفي حماية العدد القليل من الجند العثماني الذي سمحت وزارة حقي باشا ببقائه في طرابلس الغرب، وطلبت الدولة إلى رجالها في برقة في ظروف الحرب في هذه الأيام العصيبة الأولى أن يُشركوا معهم في الرأي زعماء وشيوخ السنوسية، وأسرع هؤلاء لنجدة العثمانيين والذَّود عن وطنهم.

ومع هذا وعلى الرغم من ذلك كله فإن الدولة لم تكن قانعة على ما يبدو بأنها سلمت بمُقتضى «المعاهدة» الأقطار الليبية إلى العدو، بل أرادت الإمعان في استثارة شعور العرب والمجاهدين، عندما أرسلت إلى طرابلس «نائبًا للسلطان» في شخص «شمس الدين باشا» لم يلبث أن أظهر بمجرد وصوله مَيلًا واضحًا نحو إيطاليا، فصار يدعو العرب إلى وضع السلاح والتسليم والكف عن المقاومة، وفرح به الطليان وطربوا لقدومِه، وأخذوا يجمعون له الناس في طرابلس وبنغازي حتى يتلو على أسماعِهم «الفرمان السلطاني»، ثم لم يكتف شمس الدين بذلك، بل شرع يخطب الأهلين ويحضُّهم على ترك السلاح ويطلب إليهم أن يقبلوا العيش تحت الحكم الإيطالي، وزيادةً على ذلك فقد بادرت الحكومة العثمانية — عملًا بنصوص المعاهدة أيضًا — بإرسال التعليمات إلى قوَّاد الجيش في برقة وطرابلس حتى يكفُّوا عن القتال ويعودوا إلى تركيا.

ومع هذا فقد كان موقف العثمانيين وقتئذٍ في غاية من الحرج، فهم من ناحية كانوا مُضطرِّين إلى التفرُّغ لمواجهة الحرب الجديدة في البلقان، بينما كان تخلِّيهم من ناحية أخرى عن طرابلس الغرب أمرًا يُسقط من هيبتهم في نظر شعوب العرب وبلدان الخلافة الإسلامية. أضف إلى هذا أنه لم يكن من الهيِّن على الحكومة العثمانية أن تقبل انسلاخ الأقطار الليبية عن جُثمان الدولة، بدليل أن المفاوضين العثمانيين امتنعوا عن الاعتراف صراحةً في المعاهدة بانفصال هذه البلاد ودخولها ضِمن المُمتلكات الإيطالية، فمنحوا البلاد «استقلالًا داخليًّا مطلقًا وتامًّا»، واحتفوا بنائب للسلطان في ليبيا؛ ولذلك ظلَّت تركيا في الفترة القصيرة التالية من تاريخ توقيع معاهدة «أوشي» في أكتوبر ١٩١٢م إلى وقت قيام الحرب العالمية الأولى في أغسطس ١٩١٤م تتردَّد بين أمرَين: بذل المساعدة للسنوسيين وحضهم على مواصلة الكفاح والقتال ضد إيطاليا، أو العمل على احترام نصوص المعاهدة ومنع المساعدة عن السنوسيين خوفًا من استثارة الطليان ضد تركيا في الحرب البلقانية. وقد استمرت تركيا مُتردِّدة بين هذين الأمرين، حتى إذا قامت الحرب العالمية الأولى قررت مؤازرة السنوسيين، وذلك مما جعل من الأقطار الليبية ميدانًا للحرب تشنُّها على الدول المتحالفة الغربية، وخصوصًا عندما انضمَّت إيطاليا (في مايو ١٩١٥م) إلى جانب هذه الدول المتحالفة. وفي ضوء هذه السياسة العثمانية يمكن تفسير ما وقع من حوادث بعد إبرام الصلح مع إيطاليا في عام ١٩١٢م.

فمع أن الدولة لم تلبث أن استدعت قوادها وضباطها كما تقدَّم، فقد قرر أنور، عندما اعتزم مغادرة البلاد، أن يُسلم القيادة العامة إلى عزيز علي المصري قائد منطقة بنغازي، وأن يزور السيد أحمد الشريف الذي انتقل عندئذٍ من الكفرة إلى الجغبوب. فأما تسليمهم القيادة العامة لقائد آخر من الذين اشتركوا في النضال، فكان معناه أن «ممثل» الدولة في الأقطار الليبية ما كان يرى في عقد الصلح سببًا يدعو في الحقيقة إلى وقف القتال في ليبيا، بل إن هناك من يقول إن أنور باشا عندما استقدم إليه عزيز بك المصري (وكان عزيز المصري وقت نشوب الحرب الليبية-الإيطالية في أرض اليمن)، إنما كان يريد، إذا اضطرت الحكومة العثمانية إلى قبول الصلح مع إيطاليا في آخر الأمر، أن يبقى عزيز المصري في الميدان لإدارة الأعمال العسكرية، ويدعو وجوده في الوقت نفسه، وهو مصري الجنسية، إلى إقبال مصر على مساعدة العرب الذين يتولَّى قيادتهم. ومع أن مصر أقبلت بالفعل على مساعدة الطرابلسيين في جهادهم، مدفوعة بعاطفة العروبة القوية، ورغبة الانتصار للمظلوم على الظالم المُعتدي، فقد تبدَّل موقف حكومتها بعد عقد الصلح، بينما ظلَّ عزيز المصري يدير دفة الحرب في منطقته ويشجع أهل طرابلس المجاهدين بزعامة سليمان الباروني على المقاومة حتى اضطرَّ هو الآخر — أي عزيز المصري — إلى الانسحاب من الأقطار الليبية في ظروفٍ سوف يأتي ذكرها.

وعلى كل حال، فإنه لمَّا كانت رغبة الدولة واضحة عند عقد معاهدة «أوشي» في عدم التخلي عن ليبيا، وكانت لا تزال مُتردِّدة في خُطتها وتريد أن تستمر المقاومة ضد إيطاليا بزعامة السنوسية العتيدة، فقد رأى أنور باشا من واجبه زيارة أمير السنوسية لتبليغه ما صحَّ عليه عزم الخليفة والسلطان العثماني، فقرر الذهاب إلى الجغبوب؛ وعلى ذلك استقل أنور باشا سيارته في يوم ١٩ نوفمبر ١٩١٢م، وكانت هذه أول سيارة دخلت الصحراء، فبلغ الجغبوب في اليوم التالي، وقوبل بحفاوة عظيمة، وكان السيد أحمد الشريف مع الإخوان وأهل جغبوب ينتظرونه للترحيب به خارج الزاوية، وأقام أنور في ضيافة السيد ثلاثة أيام، عاد بعدَها إلى معسكر درنة، ثم غادرها بسيارته إلى السلُّوم ومنها إلى الإسكندرية، ثم إلى رومة مُتنكرًا، ومنها إلى الآستانة كي يُنظم جيوش الدولة استعدادًا لحرب البلقان. وفي أثناء إقامته بالجغبوب أبلغ أنور السيد أوامر الخليفة وأدلى إليه برغائبه، فكانت هذه «إسناد أمر الأمة الليبية إلى سيادته وإخباره بأن الخليفة قد منح الأمة الطرابلسية استقلالها تاركًا لها الحق في أن تُقرر مصيرها وتدافع عن نفسها.»

ولهذا التبليغ ولا شك أهمية عظيمة، فهو إلى جانب أنه يفصح عن مقصد تركيا من «منح البلاد استقلالًا داخليًّا مُطلقًا وتامًّا»، ويدلُّ على أن تركيا ما كانت تريد في هذا الوقت أن تُسلِّم الأقطار الليبية إلى إيطاليا على الرغم من توقيع المعاهدة، فهو — أي التبليغ — قد دعم نهائيًّا أركان الإمارة السنوسية المُستقلة، ومن هذا التاريخ يتغير حتمًا موقف هذه الإمارة من دولة الخلافة تغيرًا جوهريًّا.

فإنه منذ اعترفت تركيا «بإمارة» السنوسيين في عهد المؤسس الكبير السيد محمد بن علي السنوسي، ثم أيَّدت هذا الاعتراف في ظروف شتى بعد ذلك في أيام السيد المهدي، ظلَّت تركيا تبسط على البلاد سيادتها، وظلَّ السنوسيون مُنضوِين تحت لوائها ولواء الخلافة يشدُّون أزر الدولة ويحفظون لها السيادة على الأقطار الليبية. ثم لم يُغير السيد أحمد الشريف شيئًا من هذا كله منذ تسلَّم زمام الأمور بعد وفاة عمه السيد المهدي. أما الآن فقد أعطى صاحب الحق الشرعي والقانوني وهو الخليفة الاستقلال إلى السادة السنوسية، وأسند إليهم النظر في شئون الأمة الطرابلسية، فأضحى من هذا التاريخ «استقلال» الإمارة السنوسية حقيقةً كاملة لا من ناحية الأمر الواقع فحسب، بل ومن الناحية الشرعية والقانونية كذلك. ولم يكن في هذا الوضع الجديد وجود نائب السلطان أو ذكر الخليفة الإسلامي في الصلوات العامة إلا مظهرًا من مظاهر التقاليد الإسلامية واحترامًا لرابطة الخلافة العُظمى، ثم بمثابة الضمان أو السياج الواقي من أطماع الإيطاليين الذين قرَّروا بسط «سيادتهم» على البلاد، على الرغم من أن هذه «السيادة» بعد حروبهم العدوانية كانت لا تستنِد إلى أي أساسٍ شرعي أو قانوني. وزيادةً على ذلك فقد أصبح للسنوسيين بمُقتضى «التبليغ» حق الحكم، كما انتقلت إليهم أيضًا حقوق السيادة في طرابلس إلى جانب برقة. وقد عبر أحد الكُتاب المؤرخين عن هذه الحقيقة بقوله: «إن السيد أحمد الشريف كان يعتبر نفسه مسئولًا أمام الله والناس عن القُطر الليبي كله؛ لأن أنور باشا أبلغه رسميًّا بأن الخليفة الأعظم سلَّم لسيادته مقاليد الأمور للقطر الطرابلسي كله، وفوَّض له الأمر حسب ما يرمي ويريد، أما قبل ذلك فكان سيادته مساعدًا للحكومة العثمانية بكل ما أوتي من نفوذٍ وجاه؛ لأنها هي دولة الخلافة وصاحبة الشأن.»

أضف إلى هذا أنه لما كان السيد أحمد الشريف في هذه المقابلة مع أنور قد وافق على تسليم القيادة العامة في برقة إلى عزيز المصري بك، فقد ذهب القائد الجديد إلى الجغبوب حتى يشكر السيد على تعيينه، وصحِبه في هذه الرحلة السيد عمر المختار.

وعلى ذلك لم يتوقف الجهاد ضد الإيطاليين في ليبيا على الرغم من توقيع تركيا معاهدة «أوشي»، بل ظلَّ يشرف عليه السيد أحمد الشريف، ويقود عملياته العسكرية عزيز المصري. وعبثًا حاول الطليان أن يثنوا القائد العام الجديد عن مواصلة الكفاح عندما أبلغوه نبأ عقد الصلح ودعَوه إلى التسليم، فقد أبى عزيز بك أن يُسلم إليهم وقرَّر الجهاد إلى النهاية، وأظهر في هذا الكفاح السيد عمر المختار بسالةً نادرة ومقدرة كبيرة.

وكان القتال في هذه الآونة يدور في ميدانَين: طرابلس الغرب وبرقة، أما في طرابلس فقد تطوَّرت الحال بعد استسلام تركيا وقبولها الصلح في «أوشي»، وكان هذا التطور لمصلحة استئناف الجهاد بكل همَّة عندما عقد زعماء المجاهدين والوطنيين جُملة اجتماعات في لواء الجبل العربي ولواء فزان وورفلة، وقرروا الاستفادة من منشور السلطان الملحق بالمعاهدة، والذي يقرر فيه السلطان «بما له من حقوق السيادة على سكان طرابلس الغرب وبرقة» منحهم «استقلالًا داخليًّا مطلقًا وتامًّا»، فاجتمعت كلمتهم على قبول هذا الفرمان والرضاء به، وكلَّفوا الشيخ سليمان الباروني «بإعلان استقلالهم وتبليغه إلى من يلزم التبليغ إليه وتشكيل حكومة تقوم بما يلزم اتخاذه من حفظ الراحة وتعميم الأمن ومحافظة شرف الدين والوطن على قواعد الشرع الشريف والنظامات العمرانية مع القيام بكل ما يجِب اتخاذه من وسائل المُدافعة كالمال والرجال والسلاح.» وتولَّى سليمان الباروني رئاسة الحكومة الجديدة، وقام بتبليغ ما حدث إلى الدول وإلى شمس الدين باشا نائب السلطان في طرابلس، وأرسل وفدًا إلى أوروبا مهمته السعي لدى الدول حتى ينال اعترافها بالحكومة الجديدة، ثم تنظيم الدعاية في الخارج لهذه الحكومة. وفي أواخر العام نفسه (١٩١٢م) شرع الباروني يُنظم الحكومة والإدارة في البلاد، ولكن الحكومة الطرابلسية الجديدة لم تلبث أن صادفت جُملة صعوبات، منها أن نائب السلطان كان قد انقلب، كما تقدَّم، داعيةً للطليان يحضُّ الناس على ترك السلاح وقبول العيش تحت حكومتهم، فأرسل إلى الباروني ردًّا على «تبليغه» أشعره فيه بأنه لا يزال نائب السلطان في طرابلس وبنغازي، ويُردِّد ما ذكر عندما خطب في أهل طرابلس وبنغازي من «آيات وجوامع كلم» كان شمس الدين باشا يظنُّ كما قال «أنَّ فيها صلاح مَن في هذه البلاد من المسلمين خاصة، ومن سائر الأقطار منهم عامة»، وكانت رسالة شمس الدين باشا المُثبِّطة هذه في ٢٧ ديسمبر ١٩١٢م، وكذلك حاول الإيطاليون أن يُقنعوا المجاهدين في طرابلس الغرب حتى يُلقوا السلاح ويكفوا عن القتال، وبذلوا جهودًا كبيرةً لإغراء الباروني على الاتفاق معهم والتسليم بالأمر الواقع، وكانوا قد بدءوا هذه المحاولة قبل توقيع صلح «أوشي-لوزان» بمدة طويلة، منذ أرسل الجنرال «سالساتو مانرو» إلى الباروني في ١٦ يناير ١٩١٢م رسالة طويلة حتى يتقرَّب من الأتراك الذين قال الجنرال الإيطالي عنهم «إنهم أفقروا بلاد «الباروني» وأوقعوها في البؤس والجهل.» وكي يُحبب إليه مقاصد الطليان، ويُحمِّله في الوقت نفسه «أمام الباري عز وجل وأمام الناس.» هو ورؤساء وأعيان العرب الذين فضلوا تعضيد الأتراك «مسئولية إهراق الدماء السائلة كل يوم.» كما وعده إذا أقبل على مساعدة إيطاليا بأن «تَنسى هذا ما أسلفَه (الباروني) في حقها إلى هذا اليوم وتمنحه تمام العفو، وتُكافئه على خدماته بصورةٍ تفوق تصوُّرَه.» ولكن هذه المساعي ذهبت سُدًى، فقد أجاب الباروني على هذه الرسالة في ١٩ فبراير ١٩١٢م بكلماتٍ قليلة، ولكنها كانت كافية لإظهار عزمه على مواصلة الكفاح ضد إيطاليا.

وقد سبق وصف العمليات العسكرية في ميدان طرابلس إلى الوقت الذي احتل فيه الإيطاليون مراكز سيدي عبد الجليل وسيطروا على مدينة زنزور في يونيو ١٩١٢م؛ فقد تجمَّع العرب والأتراك بعد ذلك لتخليص هذه المراكز والتحموا مع الطليان في معركة «زنزور الثانية» في ٢٠ سبتمبر ١٩١٢م، ولكن النصر لم يكن حليفهم. ثم استطاع الطليان، بعد معاهدة «أوشي-لوزان»، وإعلان فرمان السلطان الذي يُقرر الصلح مع إيطاليا، أن يحتلُّوا منطقة الجفرة إلى الجبل، بما في ذلك غريان ومسلاتة ومصراتة وبني الوليد في مدة ثلاثة شهور تقريبًا، ولم يحدث اصطدام كبير مع العرب إلا في «قصبات» في ١٤ ديسمبر ١٩١٢م وفي بني الوليد في ٦ فبراير من العام التالي، كما اشتبكوا مع الحامية العثمانية في «سرت» في آخر ديسمبر ١٩١٢م.

بيد أن الباروني كان لا يزال يجمع حوله جيشًا كبيرًا من العرب في منطقة الجبل الغربية، ولم يفُتَّ في عضده استيلاء الطليان على غريان، فاضطرَّ هؤلاء إلى سَوق الجيوش ضدَّه واشتبكوا مع قواته في معركة «أصابة» في ٢٣ مارس ١٩١٣م، واحتلوا منطقة الجبل حتى «نالوت» والحدود التونسية، ثم زحفوا بقوَّاتهم على واحة «غدامس»، فاحتلوها في أبريل وعلى «مزدة»، فاحتلوها في يوليو، ثم جهز الطليان بعد ذلك حملةً كبيرة لاحتلال «الفزان»، فغادر جيشهم «سرت» إلى «سوكنة» واحتلوها، وهبَّ أهل «فزان» للدفاع عن بلادهم، وخرجت منهم قوة كبيرة بقيادة «محمد بن عبد الله» لمقابلة الطليان، فالتحموا معهم في ثلاث معارك شديدة في «سرير الشيب»، «شيدة»، «محروقة»، بين ١٠ و١٤ ديسمبر ١٩١٣م وقُتل القائد العربي في ساحة القتال.

وأمام هذه الصعوبات لم يلبث سلميان الباروني أن وجد مواصلة القتال تقتضي بذل جهودٍ عظيمة، وتتطلَّب موارد كثيرة، هذا بينما كانت قوات العدو مُتفوقة في كل مكانٍ تقريبًا، فرأى من الأفضل إذا استطاع أن تنال طرابلس استقلالًا إداريًّا وداخليًّا تحت سيادة إيطاليا، ولكن الإيطاليين الذين ما كانوا يبغون سوى إخضاع هذه البلاد تمامًا لسيطرتهم أخذوا يُسوِّفون ويُماطلون، بينما حشدوا قواتهم للقيام بالعمليات العسكرية التي أسفرت عن تراجُع الباروني والمجاهدين معه إلى «يفرن» ونفاد المؤن التي معهم. ولمَّا كان الطليان في أثناء ذلك قد قبلوا مبدئيًّا إرسال وفدٍ إلى تونس للمفاوضة مع الباروني، كما أخبروه بأنهم يقبلون الاعتراف باستقلال طرابلس الغرب داخليًّا، فقد وجد المجاهدون في قبول إيطاليا فرصة مواتية لإنهاء القتال والخلاص من العُسر الذي هُم فيه بسبب نضوب ذخائرهم وانقطاع ورود الأسلحة إليهم وعجزهم عن ردِّ العدو؛ ولذلك قرروا الدخول في المفاوضة والالتجاء إلى حدود تونس. وكان مما أحيا آمال الطرابلسيين أن الكونت سفرزا — وقد تقدَّم ذكره — لم يلبث أن أرسل الدعوة إلى الباروني وهو في طريقه إلى الحدود حتى يُقابله في تونس ذاتها للمفاوضة، بيد أنَّ الأمل في الحصول على الاستقلال الداخلي لم يلبث أن ضاع عندما طلَب الإيطاليون تغيير الأساس الذي وافقوا عليه في أول الأمر لعقد الصلح، أي الاعتراف باستقلال طرابلس الداخلي، ذلك أن الانتصارات التي أحرزوها أخيرًا من شأنها أن تُغير ذلك، وعندئذٍ وافق الفريقان على قواعد جديدة تتضمَّن العفو عن المجاهدين ثم بعض المنافع الأخرى لهم. وأصدرت الحكومة الإيطالية هذا العفو، واضطُرَّ الباروني أمام الرغبة التي أبدتها السلطات الفرنسية بتونس إلى أن ينصح اللاجئين الطرابلسيين بالعودة إلى بلادهم، فرضي فريق منهم بالعودة إلى أوطانهم، وفضل فريق آخر الارتحال بأسلحتهم إلى «فزان» و«غات» لمواصلة الجهاد ضدَّ العدو. وأما الباروني فقد ارتحل إلى الآستانة عن طريق مرسيليا، وكان ذلك في أواخر عام ١٩١٣م.

وفي برقة ميدان الجهاد الثاني استمر القتال من غير هوادة، فامتدَّت الجبهة إلى آثار «قصر رأس اللبن»، وفي ١٤ سبتمبر ١٩١٢م اشتبك الفريقان في معركة سيدي عبد الله الثانية، وبعد ذلك بأيامٍ هاجم العرب — وهم السنوسيون دائمًا في هذا الميدان خصوصًا — والأتراك بقيادة أنور بك، مراكز الطليان الجديدة، فصدَّهم الطليان في معركة «قصر رأس اللبن» في ١٧ سبتمبر، وانهزم أنور بك بعد ذلك في معركة سيدي عبد الله الثالثة في ٨ أكتوبر ثم في معركة «براق سادا» في ١٠ أكتوبر ١٩١٢م؛ واستمرت المناوشات بعد ذلك في الجنوب الشرقي من بنغازي وبالقرب من طبرق. وعندما تم الصلح في أوشي-لوزان، صرح أنور بجلاءٍ — كما يقول مؤرخو الطليان — أنه لا يقبل الصلح؛ ولذلك لم ينسحب بقوَّاته من برقة، بل حرص — عندما اضطُر إلى مغادرة البلاد على حسب أوامر الحكومة العثمانية استعدادًا لخوض غمار الحرب البلقانية — على أن يترك بالبلاد مقاومةً منظمة ضد الإيطاليين، وآزرَه السنوسيون بطبيعة الحال مؤازرةً عظيمة، واشتدَّت العمليات العسكرية في ميدان برقة «بفضل الانسجام الذي زادت أسبابه توطُّدًا بين الجند العثماني النظامي وبين المجاهدين العرب.» واستأنف عزيز المصري العمليات العسكرية بكل جدٍّ وهمة. وفي هذه الظروف قررت الحكومة الإيطالية احتلال الجبل الأخضر، والتحم الطليان مع المجاهدين في معارك متعددة في المنطقة الغربية والوسطى، فاحتل الطليان «طولميثة» في ١٢ أبريل ١٩١٣م، ثم «بنيثة» بعد معركة حامية في اليوم التالي، ثم «المرج» في ١٩ أبريل، ووقعت في ٢٢ أبريل معركة «الرحمة»، واحتلَّ العدو «بومريم» بعد ذلك بثلاثة أيام، و«الأبيار» في اليوم التالي، ثم «توكرة» في يوم ٢٩ أبريل. وفي ١٦ مايو حصلت في الجبل الأخضر «واقعة يوم الجمعة» المشهورة بالقُرب من درنة، وهي الواقعة التي اشترك فيها السيد أحمد الشريف مع قبائل العبيدات والبراعصة والدرسة، وساهم فيها الضباط العثمانيون، وانهزم الطليان وارتدُّوا إلى درنة. وكان من جرَّاء هذا النصر أن أصبح للسيد أحمد الشريف شهرة واسعة، واعتقد الليبيون أن قوةً إلهيةً هي وحدَها التي أعطت هذا النصر. وفي شهر مايو أيضًا اشتبك الفريقان في معركتي «القيقب» و«مرسى مسوسة أو أبولونيا»، واحتل الطليان «القيقب» في ٢٦ مايو، ثم «زاوية الفيدية» بعد قتال شديد في ٥ يونيو، ثم «البويرات» في الشهر نفسه. ووقعت واقعة كبيرة في «صفصف» في أول يوليو، واحتل العدو «سلوق» و«قمينس» في أغسطس، ووقعت معارك في «تكنس» و«تلجازه» في سبتمبر؛ وفي ٢٧ سبتمبر احتلَّ الطليان «الزاوية البيضاء»، وفي أكتوبر ١٩١٣م اشتبكوا مع المجاهدين في واقعة «عين بوشمال». وفي المنطقة الشرقية لم يصب الطليان التوفيق في مبدأ الأمر عندما اشتبكوا مع المجاهدين في معركة «سيدي جرباعة» في ٢٦ مايو، ولكنهم ما لبثوا أن احتلُّوا «التانجي» في يونيو وخربوها، ثم احتلوا «مرتوبة» في الشهر نفسه. وفي ١٨ يوليو دارت معركة في «مدور» التي احتلَّها الطليان.

بيد أن الصعوبات الشديدة سرعان ما أحاطت بالمجاهدين من كل جانب لانقطاع الموارد عنهم من أسلحة وذخائر ومؤن وغير ذلك، ثم بسبب ما نجم عن الضغط الشديد الذي استخدمته إيطاليا مع الدولة العثمانية حتى تأمُر هذه الأخيرة باستدعاء بقية القوات التي ظلَّت تُحارب في برقة بالرغم من عقد الصلح، وتكف عن مساعدة المجاهدين إطلاقًا. أضف إلى هذا ما فعلته إيطاليا حتى تصرف الحكومة المصرية عن إمداد المجاهدين في برقة بما يحتاجون إليه من أسلحةٍ وذخيرة ومؤن.

وكان المصريون من أسبق الشعوب التي أقبلت على نجدة المجاهدين ومساعدتهم في طرابلس وبرقة، فقد شكَّلت مصر اللجان لجمع التبرُّعات وخصوصًا اللجنة العُليا التي تألفت في ١٤ أكتوبر ١٩١١م برئاسة سمو الأمير عمر طوسن، ثم جمعية الهلال الأحمر التي تشكَّلت برئاسة الشيخ علي يوسف وقرَّرت إنشاء عدة مُستشفيات ميدان، فكان من أثر ذلك أن سافرت البعثة الأولى في ٧ نوفمبر في العام نفسه، ثم توالت البعوث الطبية بعد ذلك. وفي يناير ١٩١٢م أُقيمت سوق خيرية في حديقة الأزبكية لجمع التبرُّعات للهلال الأحمر. ومع ذلك فقد وقفت الحكومة المصرية ذاتها من أول الأمر موقف الحياد من النزاع القائم، فعُيِّن الإنجليز بدلًا من المأمورين المصريين في الحدود الغربية ومُنع أهل برقة وطرابلس من دخول الأراضي المصرية، وفُرضت على الحدود مراقبة صارمة حتى تعطَّلت التجارة بين طرابلس ومصر، وأُرغمت على العودة كل قافلة جاءت بالمتاجر من هذه الأقطار الليبية، ورفض «اللورد كتشنر» المُعتمد البريطاني في مصر إرسال «بعض أورط» من الجيش المصري لمساعدة الأتراك، كما رفض الموافقة على تطوُّع جماعة من الضباط المصريين في الجيش التركي، وصرف بعض مشايخ العربان عن رغبتهم في الالتحاق بصفوف المجاهدين في ليبيا، وذلك كله حتى يتخلَّص اللورد من «مسئولية حياد مصر»، فكان لهذه الإجراءات أثر ظاهر في إضعاف قوة المقاومة ضد الطليان في ليبيا.

أضف إلى هذا أن سموَّ الخديوي السابق (المغفور له عباس حلمي الثاني) الذي سهل عليه في أول الأمر إرسال الإعانات والبعثات إلى المجاهدين، — ومن هذه الأخيرة ما كان يحمل مدافع مُفككة وسلاحًا وذخيرةً ومئونة بعد أن أرسل رشدي باشا (رئيس نُظارِه) إلى كتشنر للتفاهم معه قبل منح التسهيلات اللازمة بدون مسئولية عليه أو على حكومته — لم يلبث أن غير موقفه، وحدث هذا التحول تقريبًا في الوقت الذي ذاع فيه أن الدولة العثمانية تبغي التساهل في أمر طرابلس الغرب حتى تعقد الصلح مع إيطاليا. ويوضح الأمير شكيب أرسلان مدى ما طرأ على موقف الخديوي من تغيير في رسالةٍ بعث بها إلى فضيلة الشيخ محمد الأخضر العيساوي، من جنيف في ١٨ سبتمبر ١٩٣٦م، يشرح فيها ما وقع له عندما قابل سمو الخديوي في أثناء سفره من طرابلس ومروره بمصر في طريقه إلى الآستانة للبحث — كما سبقت الإشارة إليه — في مصير طرابلس الغرب مع الوزارة العثمانية الجديدة، فكتب الأمير: «وعندما جئت من طرابلس إلى مصر في شهر أغسطس ١٩١٢م وذهبتُ من مصر إلى الآستانة مسرعًا … كان السبب في ذلك أني علمتُ بأن الدولة قررت الصلح مع إيطاليا، فخفتُ أن تهمل طرابلس تمامًا، فأحببتُ أن أجعل الدولة تساعد الطرابلسيين بطرق خفيفة عن يد الأمير عمر طوسن وغيره حتى يستمر الجهاد ولا تذهب طرابلس.

ولمَّا وصلت إلى السلوم قال لي رجال الحكومة المصرية هناك إن سمو الخديوي أرسل يسأل عني، وأمر بأن الباخرة التي تأتي إلى مرسى السلوم تأخذني أنا وجماعتي إلى الإسكندرية، وانتظرتني الباخرة فتأخَّرت عن الورود، فرجعَت بدوني، فبقيتُ سائرًا حتى وصلتُ إلى المكان الذي ينتهي فيه سكة الحديد خاصة الخديوي، وكان يُقال له رأس التركيب، فقالوا لي هناك أيضًا إن الخديوي جاء بنفسه وسأل عنك، وقد أمر أنك عند وصولك تعرض له، ففرحت أنا بهذه الأخبار ظانًّا أن الخديوي مُتشوق إلى أخبار الجهاد يريد أن يعرفها مني فيلحُّ في وصولي. فلما وصلت إلى الإسكندرية وجدت صديقي أحمد بك العريس البيروتي أحد أعوان الخديوي في انتظاري، فقال لي: إن أفندينا أرسلني لاستقبالك ولأذهب بك إلى سراي رأس التين لتنزل ضيفًا عنده، فذهبت ودخلت عليه وأنا بثياب السفر بحسب إرادته، وكنت أظنُّ أن أول سؤاله يكون عن المجاهدين وحالة الجهاد، وكان مرادي أن أقول له إن كل شيء جديد لولا قلَّة علف البواريد لعلَّه يساعد بطريقةٍ فنزيح هذه العلة، فما راعني إلا كون الخديوي سأل عن كل شيءٍ ما عدا الجهاد، فبرد وجهي وخرجتُ مُنقبض الصدر وكاشفتُ أحمد العريس بما وجدته في نفسي، فقال لي: إذا سألك أفندينا عن الحرب فلا تقُل له إنه يلزم جبخانة وأنها قليلة، قلت له: لماذا؟ قال: يجوز أن أفندينا يقول ذلك لأحدٍ بدون قصد، فمن واحدٍ إلى آخر يصل الخبر إلى الطليان، والحقيقة التي علمتُها فيما بعد أن الخديوي كان اتفق مع إيطاليا على أن يبيعها سكة حديد مربوط بثمن عظيم، وبمقابلة ذلك يساعدها على إخماد الحرب. ولكن أحمد العريس لم يكن يقدِر أن يبوح بالسرِّ وهو مُسلم مُخلص، فنبَّهني حتى لا أقول للخديوي إن المجاهدين في احتياج إلى الجبخانة، ثم كنا على الإفطار لأن الوقت كان رمضان، وكان على المائدة الخاصة بسمو الخديوي بجانبه حسين باشا رشدي ثم قاضي مصر وكان تركيًّا، وهذا العاجز والشيخ علي يوسف، وكانت بقية الموائد مصفوفة وعليها مُفطرون كثيرون، وبدأنا بالحديث على الأكل، فقال الشيخ علي يوسف: إن الدول قررت عدم إقراض مال لتركيا إذا كانت لا تزال ترفض الصلح مع إيطاليا، فقلت له: إن تركيا مُضطرة أن تتابع الحرب حفظًا لشرفها، فقال: ومن أين تأتي بالمال؟ فقلت له: كل ما تنفقه تركيا على حرب طرابلس هو ٧٠ ألف جنيه كل شهر، والحال أن إيطاليا تنفق في الشهر مليون جنيه، فقال الشيخ علي: إلا أن السبعين ألف جنيه بالنسبة إلى تركيا كالمليون جنيه بالنسبة إلى إيطاليا، فالدولة لا تقدر على متابعة الحرب، فقلت له: إذا عجزت الدولة فالعالم الإسلامي يقدر على مساعدة طرابلس، فقال: أما نحن أهالي مصر فلا نقدِر إذا صالحت الدولة على طرابلس أن نستمرَّ على مساعدة الطرابلسيين، إذ يكونون حينئذٍ رعية ثائرة على إيطاليا.»

«هذا كله كان يقوله الشيخ علي يوسف لا الخديوي، بل الخديوي كان ساكنًا وقد علَت وجهه الحمرة. وفيما بعد فهمتُ أن الشيخ علي كان مقصده بهذا الكلام التزلُّف للخديوي؛ لأنه كان مطلعًا على الدسيسة، فأنا لم أكن أعلم شيئًا عن هذه الدسيسة، ولم أكن لأُبالي بها على فرض أني علمتُ بها. فلمَّا سمعت جدال الشيخ علي هذا غضبت، وقلتُ له بحدة: لا تساعدون أهل طرابلس، فالله يُغنيهم عنكم. فانقطع الكلام على أثر هذه الحدة، ووجم الخديوي وصار قاضي مصر يبتسم، وقُمنا عن السفرة إلى الصلاة، فأخذَني الخديوي بيدي لأنه شعر بكوني تأثرتُ جدًّا، وما زال حتى وصلنا إلى السجادة الخاصة به، فتنحَّى قليلًا إلى اليمين حتى إن السجادة تسعه وتسعني. وكل هذا يقصد به تلطيف خاطري، وأنا لا أعي من التأثر. فلمَّا بدأ الإمام بالصلاة ولم يكن الإمام حاضرًا مجلسنا ولا سمع شيئًا مما دار بيني وبين الشيخ علي ألهمه الله أن يقرأ بعد الفاتحة قوله تعالى: فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعًا …» ويذكر هذا الخطاب مسألة اتفاق سمو الخديوي السابق مع إيطاليا على أن يبيعها سكة حديد مربوط بثمن عظيم في نظير مُساعدتها على إخماد الحرب، وهي مسألة تحدَّث عنها المرحوم الحاج أحمد شفيق باشا في الجزء الثاني من كتابه «مذكراتي في نصف قرن»، فذكر أنه أُشيع بعد عقد الصلح بين الأتراك والطليان بثلاثة شهور، أي في أوائل عام ١٩١٣م، وفي أثناء استمرار القتال في طرابلس والبلقان أن الخديوي باع سكة حديد مربوط إلى بنك درسدن الألماني، ولكنه لم يلبث أن اتضح بعد ذلك أن عقد البيع قد أُمضِي في الحقيقة مع بنكٍ إيطالي، ورخص له الخديوي بأن يمد هذا الخط إلى نهاية حدود طرابلس في السلُّوم، فأثار عقد هذه الصفقة اهتمام الإنجليز، وتدخَّل اللورد كتشنر في الأمر «وهدد «عباسًا» وأحرَج مركزه.» فاضطر الخديوي إلى العدول عن بيعها لإيطاليا، وألغى عقد البيع مع البنك الإيطالي، وباع السكة إلى الحكومة المصرية.

وزيادة على ذلك فقد وسط الإيطاليون «الخديوي» أيضًا حتى يُقنع السنوسيين بضرورة الإخلاد إلى السكينة، ويُجزل لهم الوعود الطيبة إذا هم قبلوا الأمر الواقع وكفُّوا عن مواصلة الجهاد، فقبل سموُّه الوساطة وأرسل إلى السنوسيين وزعيمهم السيد أحمد الشريف بالجبل الأخضر في أواسط عام ١٩١٣م وفدًا يتألف من السادة المأمون والسنوسي ومصطفى؛ أنجال السيد عبد المتعال الإدريسي، ومعهم عبد الحميد بك شديد، من رجال المال في مصر، يحملون كتابًا خاصًّا من الخديوي إلى السيد أحمد الشريف، ولكن السيد — رحمه الله — كان مصرًّا على ضرورة جلاء إيطاليا عن البلاد كليَّةً قبل التفاهُم في شيء، فرجع الوفد إلى القاهرة وأخفقت هذه الوساطة. ويَذكر الحاج أحمد شفيق باشا إلى جانب ما تقدَّم شيئًا عن مهمة عبد الحميد شديد بك للسيد إدريس السنوسي (وهو سموُّ الأمير السيد محمد إدريس المهدي السنوسي، مَعقِد آمال الأمة الليبية في وقتنا هذا) ليُغريه بالاتفاق مع إيطاليا حسمًا للحرب «على أن يسعى الخديوي في الحصول له على امتياز من إيطاليا وتنصيبه رئيسًا على السنوسيين بدلًا من عمِّه الشيخ أحمد السنوسي الكبير، وفي نظير ذلك يتحصل سموُّه على وعدٍ بمبيع سكة حديد مريوط لأحد بنوك إيطاليا بثمن يُرضيه، ولكن المساعي التي كان عباس يبذل الجهد فيها للوصول إلى ذلك قد فشلت لأن كتشنر ضربها ضربة قاضية.»

وغني عن البيان أن أية محاولة من هذا القبيل كان لا بدَّ من إخفاقها في النهاية. وجاء في المذكرات نفسها «ولمَّا توالت انتصارات الإيطاليين في طرابلس في الأشهر الأخيرة من الحرب، وتغير موقف الخديوي، عاد فطلب من كتشنر بواسطة حسين رشدي باشا وقف المساعدات، فامتنع عن اتخاذ خطة صريحة بذلك بعدما سمح بإرسالها أولًا، وانتهى الأمر بأن يُقال إن البعوث الأخيرة ضلَّت الطريق. وقد منعت بعوث الهلال الأحمر العائدة من الدخول بالمرضى.» إلى مصر.

بيد أن متاعب السنوسيين والمجاهدين في أثناء هذا النضال الشاق لم يكن مقدرًا لها أن تنتهي عند ذلك، فإنه سرعان ما تعكَّرت العلاقات في معسكر المجاهدين بين القائد العام «عزيز بك المصري» وبين العرب، ونجم عن ذلك حوادث يؤسَف لوقوعها، فقد صادف أن جاء وقت الحصاد في عام ١٩١٣م في أثناء اشتداد المقاومة ضد إيطاليا، فاضطر أغلب المجاهدين إلى ترك الجيش والذهاب للحصاد، فعلم الإيطاليون بذلك، وانتهزوا الفرصة للهجوم على الجيش على غِرة، ولم يكن وقتئذٍ «عزيز المصري» موجودًا، فانسحب الجيش بمعداته الحربية إلى معسكر درنة، واشتبك عزيز المصري مع الإيطاليين في معارك دامية وانتصر المجاهدون على العدو في جُملة وقائع وألحقوا به خسائر فادحة، خصوصًا عند قدوم السيد أحمد الشريف من الجغبوب، وأخذ المجاهدون أسرى كثيرين بعثوا بهم إلى «زاوية العزيات» لبُعدها عن ميدان القتال. وأراد عزيز المصري أن يُطلق سراح بعض هؤلاء الأسرى، فعارض السنوسيون، وكان هذا مبدأ سوء التفاهُم بينهم وبين عزيز بك المصري، وازداد سوء التفاهم هذا عندما وصلت إلى عزيز المصري بعد ذلك برقية من الحكومة العثمانية تأمره بالانسحاب بمن معه من الضباط والجنود من برقة إلى السلوم، حيث يجدون في انتظارهم باخرة عثمانية لنقلهم إلى تركيا، فشرع عزيز المصري يتجهَّز للانسحاب بما كان لدَيه من قوة وسلاح وذخيرة نحو الحدود المصرية، وكان غرضه من الانسحاب بجُنده النظامي وأسلحته أن يكون مُستعدًّا لمقابلة الطوارئ في أثناء انسحابه إلى السلوم.

ولكن هذا التصرف من جانب القائد العام لم ينل رضاء المجاهدين الذين عوَّلوا على مواصلة القتال ضد جند إيطاليا، فساءهم أن يخرج عزيز المصري بجنده النظامي، وأن يحرم المجاهدون الأسلحة والذخائر التي كانوا بحاجةٍ شديدة إليها بسبب انقطاع الموارد عنهم. فطلبوا إلى القائد المنسحِب أن يُسلِّمهم الأسلحة والذخيرة، ولكنه رفض لأسبابٍ منها — كما قيل — أنَّ تسليم الأسلحة التي مع عسكره إلى العرب لا تتَّفق مع الأصول الحربية التي تقضي، بعد انعقاد الصلح بين تركيا وإيطاليا، بألَّا يُسلم العسكر العثماني أسلحته لأعداء إيطاليا. زد على ذلك أنه كان فيما يفعل يُذعن للأوامر التي وصلته من حكومة الآستانة. بيد أن ذلك كله لم يكن ليُقنع المجاهدين الذين عندما يئسوا من تسلُّم الأسلحة سِلمًا أرسل السيد أحمد الشريف لأخذِها عنوةً السيد عمر المختار. ولكن قبل وصول السيد عمر كان المجاهدون من قبله قد أطلقوا الرصاص على الجُند المنسحِبين، وكان هؤلاء قد خيَّموا في «دفنة» غربي السلوم، فصمدوا لهم، ومن ثم نشبت معركة حامية، فسقط من العرب أكثر من الستِّين قتيلًا، وتقاطرت جموعهم من كل جهة بُغية الانتقام من «عزيز المصري» وعسكره في «دفنة» و«البطنان»، وكاد يحدث التحامٌ كبير، لولا أن «عزيز المصري» استطاع الوصول إلى السلوم. وفي ١٦ يوليو ١٩١٣م بلغ الإسكندرية، ومنها ذهب إلى الآستانة.

وهكذا أحاطت الصعوبات بالمجاهدين في طرابلس وبرقة من كل جانب، فإنه إلى جانب قطع الموارد عنهم من جهة تونس ومصر، فقد انسحبت القوة التركية العاملة في برقة والجبل الأخضر بكامل معداتها، وبقِيَت البلاد خالية من وسائل الدفاع ومُعرضة لهجوم العدو. وفي هذه الظروف الشديدة صمد السنوسيون في وجه الطليان، ثم أسندت قيادة المجاهدين إلى السيد عمر المختار، ولم يتردَّد هذا المِغوار في قبولها، فشكَّل جيشًا وطنيًّا جعل من خطته التزام الدفاع والتربُّص بالعدو، حتى إذا خرج الطليان من مراكزهم انقضَّ المجاهدون عليهم فأوقعوا بهم شرَّ مقتلة وغنِموا منهم أسلابًا كثيرةً أمدَّتهم في الحقيقة بأكثر الأسلحة والعتاد ودواب النقل مما كانوا في حاجة ملحَّة إليه جميعه. وظلَّ الحال على هذا المنوال حتى نشبت الحرب (العظمى) العالمية الأولى في أغسطس ١٩١٤م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥