الفصل السابع

السنوسية والحرب العالمية الأولى

بعد معركة «مدور» في يوليو ١٩١٣م عاد معظم العثمانيين إلى وطنِهم؛ ولذلك بقي السنوسيون وحدَهم يُديرون دفة الحرب في الشهور التالية، فوزَّعوا جنودهم النظامِيِّين على مراكز مُتعددة في المناطق المختلفة حتى يجمعوا حولهم القبائل العربية في جهودٍ مُتصلة ضدَّ الإيطاليين الذين كانوا قد فصلوا برقة عن طرابلس وأنشئوا لكلٍّ من الإقليمَين حكومةً منفصلة منذ سبتمبر ١٩١٣م، وعيَّنوا لبرقة الجنرال «بريكولا» أول وُلاتها، ثم في ١٦ أكتوبر ١٩١٣م الجنرال جيوفاني أميليو، الذي أشرف على العمليات العسكرية في برقة من ذلك الحين حتى بداية الحرب العالمية الأولى. ولمَّا كان السنوسيون قد اتخذوا خطة مفاجأة المعسكرات الإيطالية وإشعال الثورة في الجهات التي يُمثلها الطليان، فقد اضطر الجنرال «أميليو» إلى تقسيم قواته إلى جماعاتٍ على استعدادٍ لمقابلة هجوم المجاهدين والإغارة على مراكز العرب في الجهات التي دخلت في حوزة الطليان، وعلى ذلك اشتبك الإيطاليون مع المجاهدين في جُملة معارك بدأت من فبراير ١٩١٣م باحتلال زاوية «العرقوب» و«اسلنطة»، واستمرَّت خلال الشهور التالية، فوقعت في شهر فبراير نفسه معارك «سيدي مهيوس» و«زاوية أم شخنب» و«شليظيمة». وفي شهر مارس ضرب الطليان زاوية مسوس، والتحموا مع المجاهدين في معركة الزويتية الليلية في ١١ و١٢ مارس سنة ١٩١٤م، ثم في «بوجسال» وضربوا أجدابية، كما احتلوا «مرادة» بعد التحام مع المجاهدين، وفي هذا الوقت أيضًا احتلوا «الحزوب» واشتبكوا مع العرب في معركة «بوجسال» الثانية، وفي شهر أبريل حدثت معارك «بوجسال» الثالثة، و«قصر قصيس» وزاوية نايان (التي خربوها) وأم الجوابي أو لصقة، وفي مايو وقعت معارك «بير الجلتة» ومناوشات عند «الكويسية»، وفي يونيو التحم الفريقان في «الرحيبات» وقصر حليجيمة، وقصور المجاهير وبيضا والأنجال. وفي يوليو وقعت معارك زاوية القطوفية وسادنو وسيدي داود ولصقة، ثم خولان في آخر يوليو ١٩١٤م، وكان ذلك قبل بدء الحرب العالمية الأولى بأيامٍ قليلة.

وقد استطاع الطليان في أثناء هذه الشهور الثلاثين، تقريبًا منذ بداية عدوانهم على الأقطار الليبية في عام ١٩١١م، احتلال جُملة مراكز في كلٍّ من برقة وطرابلس، فاضطُرَّ السنوسيون إلى الانسحاب في الجهات الشمالية الغربية من الشاطئ والتوغُّل في الصحراء، وكان الهدف الذي يرمي إليه السنوسيون في الفترة التالية مباشرةً هو إخراج العدو من الفزَّان والاحتفاظ بها للمجاهدين وتوطيد أقدامهم بها.

وعلى ذلك، فإنه لمَّا بدأت الحرب الكونية الأولى، كان النزاع بين الطليان والسنوسيين يدور في الحقيقة حول «الفزان»؛ فقد أدرك السيد أحمد الشريف أهمية بقائها في أيدي المجاهدين حتى يطمئنَّ إخوانهم في الجهات الأمامية والساحلية ويُواصلوا الاشتباك مع العدو في كل فرصة وكل وقت؛ لأنهم أصبحوا في مأمَنٍ من العدوان على عكس ما يحدث، لو أن الفزَّان خرجت من أيدي المجاهدين كلية، فيتعرَّض هؤلاء في منطقة سرت والجبلة (القبلة) والجبل لهجوم العدو عليهم من الخلف. ولذلك فإن معنى ضياع الفزان في هذه الظروف العصيبة إنما هو ضياع ليبيا كلها في الحقيقة، ومن ثَم فقد عمل السيد أحمد الشريف على تنظيم المقاومة في الفزان ضد الإيطاليين، فأرسل أحد السادة السنوسية «السيد محمد علي الأشهب» إلى «مرزوق» لذلك الغرَض، وكان هؤلاء الإيطاليون، منذ انتصارهم على جيوش «محمد بن عبد الله» في سرير الشيب والشيدة ومحروقة بين ١٠ و١٤ ديسمبر ١٩١٣م، قد قضوا على مقاومة المجاهدين، فأصبح احتلال الفزَّان بأجمعِها، بما في ذلك واحة غات، يتطلب استعداداتٍ سياسية وعسكرية كبيرة من جانب الطليان، وتجهيز حامياتهم بالمؤن والمهمَّات.

ولما كان السنوسيون قد حملوا القبائل المُقاتلة في منطقة «الجبلة» على الانتقال إلى منطقة «سرت» الوسطى، وهددوا بذلك خطوط مواصلات الطليان بين «سرت» والفزَّان، فقد اضطُر الطليان إلى الالتحام مع المجاهدين في معركة شديدة استطاعوا بعدَها احتلال «النوفيلية» في ٢٣ مارس سنة ١٩١٤م. ومع ذلك فقد هاجم المجاهدون «مرسى العويجة»، وهي ميناء النوفيلية في ٢٤ أبريل، ثم أوقعوا هزيمة منكرة بقوة إيطالية عند «السلطان»، وأرغموها على الارتداد، وكبَّدوها خسائر فادحة (٧ يوليو سنة ١٩١٤م). وكان قائد العمليات الإيطالية في هذه المنطقة «الكولونيل مياني»، وعندما أرسل السيد أحمد الشريف السيد محمد علي الأشهب إلى «مرزوق» قام الأهلون بالثورة على الطليان، وهاجم المجاهدون قوات «مياني» وطوقوها من كل جانب، فخشِيَ «مياني» أخطار العزلة وانسحب إلى الساحل. وقد بدأ المجاهدون أعمالهم بالاستيلاء على قافلة تموين إيطالية بالقُرب من «بير فتية» في ٢٦ أغسطس ١٩١٤م، ثم كرروا هجومهم على القوافل والنجدات الإيطالية الواقعة على طول طريق «سرت – سوكنة – سبهة»، وفي أواخر نوفمبر زادت صعوبات الإيطاليين عندما اشتدَّ نشاط المجاهدين في منطقة «الشاطئ»، هذا وقد حضر لقيادة المجاهدين في الفزان مهدي السني الذي اشتهر بتنظيم المقاومة ضد الفرنسيين في «برقو» في عامي ١٩١١م و١٩١٣م، واستطاع أن يتزعَّم الحركة في «فردة» ويقضي على حامية من الجند الطليان في «أدري» الواقعة بين منطقتَي الشاطئ وسبهة.

وأما السيد محمد علي الأشهب فقد جمع عددًا عظيمًا من المجاهدين في «واو»، كما استطاع السيد محمد عابد (أخو السيد أحمد الشريف) أن يُنشئ معسكرًا للمجاهدين في «زلة»، وبذلك فقد تمكن المجاهدون من الإحاطة بمركز الطليان في «سبهة»، وقضوا على حاميتهم في ٢٨ نوفمبر سنة ١٩١٤م، ونجم عن ذلك أن فقد الطليان مركزهم الآخر في «أوباري» وأُرغم الباقون منهم في واحة غات على الانسحاب إلى المنطقة الفرنسية، والاتصال بالساحل عن طريق تونس. وفي ١٠ ديسمبر ١٩١٤م اضطرَّت بقية القوات الإيطالية في الفزان بقيادة «مياني» إلى التقهقُر من «براك» والانسحاب صوب «سوكنة»، وبعد أسبوعين التحم المجاهدون بالطليان في معركة دامية عند «بونجيم» انهزمت فيها الحامية الطليانية وأُرغمت على الانسحاب إلى «مصراتة»، فوصلت إليها في ٢٥ ديسمبر، كما وصل الكولونيل مياني نفسه إلى مصراتة في ١١ فبراير سنة ١٩١٥م بعد أن صمد فترة في سوكنة، ثم غادر مصراتة بعد ذلك إلى إيطاليا، وكان كلُّ ما أدركه الإيطاليون من نجاح إنما هو انتصار فصيلةٍ صغيرة من قوَّاتهم غادرت سرت واشتبكت مع المجاهدين في يوم ١١ فبراير نفسه في «قصر بوهادي»، وكان يُقاتل في صفوف السنوسيين في هذه المعركة رمضان شتيوي أو السويحلي الذي وثق به الطليان من قبل.

ولم تلبث أن ظهرت آثار انسحاب الطليان من «الفزان» في منطقة «القبلة» — الجبلة والجبل — ثم في «الجفرة»، فاستمر تقهقُرهم وانسحبوا بعد ذلك من «جريات» إلى «مزدة»، وفي «غدامس» و«سنوان» إلى «نالوت»، فأعلنوا حالة الطوارئ في طرابلس كلها.

بيد أن حكومة الطليان المركزية في طرابلس لم تلبث أن أمرت بإعادة احتلال «غدامس»، فنشبت معركة حامية في «مرزم» في أواخر يناير سنة ١٩١٥م، واحتل الطليان غدامس مرة أخرى في منتصف فبراير، ولكن سرعان ما هاجم العرب مراكز الطليان في «ودان» و«بير قطوفية» في منطقة الجفرة، فاضطر هؤلاء إلى الانسحاب إلى «سوكنة»، ثم انسحبوا بعد ذلك بأمر الحكومة من المنطقة بأجمعها في ٢٧ يناير ١٩١٥م إلى «بني وليد»، وقد هاجم المجاهدون «بونجيم» في أوائل فبراير، فخسروا كل قوافلهم، وأخيرًا بلغوا «ورفلة» في منتصف الشهر نفسه. وفي هذه الآونة قوي نشاط المجاهدين كذلك في منطقة مصراتة، وكانوا قد شنُّوا هجومًا عنيفًا على «تاورغة» في ٢٥ يناير. وإزاء هذه الانتصارات المُتتابعة من جانب المجاهدين أعدَّت حكومة الطليان حملتَين عسكريتَين في طرابلس إحداهما للعمل في منطقة «القبلة» والأخرى في منطقة «سرت».

أما الحملة الأولى فقد غادرت «مزدة»، واشتبكت مع المجاهدين في معركة «خرمت الخدامية» في ٦ أبريل سنة ١٩١٥م. وفي الليلة التالية فاجأ العرب الإيطاليين في وادي مرسيت، وأرغموا الحملة على التقهقُر بدون انتظام في «مزدة» بعد أربعة أيام فقط من خروجها. وكان مياني في هذه الأثناء قد رجع من إيطاليا وأخذ في القيام بحملته «التأديبية» ضد السنوسيين وبقية المجاهدين في منطقة سِرت، وهي الحملة الثانية. وكان من رأيه أيضًا أن يتسلَّم قيادة الحملة «رمضان شتيوي»، فنصحه كثيرون بالعدول عن رأيه ولكن بدون جدوى، فخرجت الحملة من مصراتة في يوم ١٥ أبريل ١٩١٥م، وكان عدد الطليان أربعة آلاف يتقدَّمهم ويسير على جانبي قوتهم رجال رمضان السويحلي وعددهم ثلاثة آلاف وخمسمائة. وفي ٢٨ أبريل هاجمت الحملة «دور» أو معسكر المجاهدين في «قصر بوهادي»، ولكن بمجرد أن بدأ القتال انقلب رمضان شتيوي ورجاله ضد الطليان وأطلقوا عليهم النيران، فانهزمت الحملة ولم تستطِع فلولُها النجاة إلا بشقِّ الأنفس، وكان «مياني» من بين الناجين، وهكذا نجحت خطط السنوسيين في طرابلس بفضل هذه الكارثة التي حلَّت بالإيطاليين في «قصر بوهادي»، فقد خسرت الحملة كل سلاحها وذخيرتها ومدافعها وقافلة التموين بأجمعها، ثم «خزينة» القيادة.

وكان من أثر انتصار السنوسيين في «قصر بوهادي» أن بدأت تشقُّ عصا الطاعة وتثور ضد الإيطاليين تلك القبائل التي كانت قد اضطرَّت إلى التزام الهدوء والسكينة في طرابلس، وكان من أهمها قبائل «القبلة»، كما بدأت روح التذمُّر تسري بين البربر في الجبل، وعندئذٍ لم تجد حكومة الطليان في طرابلس مناصًا من أن تُصدر أوامرها بالانسحاب من غدامس ونالوت إلى الساحل. وهكذا لم يبقَ لدى الطليان في طرابلس الغربية سوى «زوارة» و«زنزور». أما في طرابلس الوسطى فقد انسحب الطليان من «مزدة» و«غريان»، وفي طرابلس الشرقية صارت الكلمة للمجاهدين في المنطقة كلها بعد كارثة «قصر بوهادي»، وكافأ السنوسيون رمضان شتيوي على حُسن بلائه فسلَّموه القيادة العُليا في هذه الناحية. وأما الأسلحة والذخيرة والعتاد التي غنِمها المجاهدون في قصر بوهادي فقد استُخدمت كلها في إعداد الجيوش الجديدة لمناوأة الإيطاليين، وساء حال الإيطاليين في طرابلس لدرجة أن الأهلين في الأرض المُحتلة سرعان ما أخذوا يثورون ضدَّهم، إما لأنهم — كما يقول مؤرخو الطليان — «لم يكونوا أصدقاء مُخلصين (لهم) بالمرة» وإما لأنهم كانوا مُستائين من اعوجاج سياسة «الطليان» المحلية وعدم استقرارها، وإما لأنهم كانوا يخشون من الأخطار التي يتعرضون لها بسبب زحف «المجاهدين والسنوسيين المُنتصرين»، وكان رمضان شتيوي يقود معظم قوات المجاهدين التي اتَّجهت صوب مصراتة.

وهكذا نجحت خُطط السنوسيين في هذه الآونة في الفزان وفي طرابلس، ولو أن النصر لم يكن حليفهم في برقة ذاتها، وذلك لانسحاب الأتراك من ميدان القتال وإغلاق الطرق التي كانت تأتي منها كل المؤن والذخائر والأسلحة إلى المجاهدين في برقة من جهتي الشرق والغرب، أي من جهتي مصر وتونس.

بيد أن اشتعال الحرب الكونية الأولى لم يلبث أن أدخل تغييرًا كبيرًا على الموقف في برقة، وأحيا آمال السنوسيين في القُدرة على مواصلة الكفاح بنجاح ضد إيطاليا. ويرجع السبب في ذلك إلى أن الأتراك الذين وجدوا من قبل أن من مصلحتهم الانسحاب من ميادين برقة وطرابلس ثم التمسُّك بموقف الحياد والامتناع عن مساعدة المجاهدين بعد أن كان من سياستهم، في مبدأ الأمر، إتاحة الفرصة للسنوسيين حتى يستمروا في القتال ضد إيطاليا «لم يلبثوا أن أقبلوا مرة ثانية على استئناف جهودهم بعد نشوب الحرب العالمية في أغسطس ١٩١٤م في الميادين الطرابلسية البرقاوية ضد الدول المتحالفة الغربية».

ومما لا شك فيه أن تركيا أسرعت بالدخول إلى جانب ألمانيا لأنها كانت عظيمة الثقة في انتصار الألمان على الحلفاء (إنجلترا وفرنسا والروسيا)، هذا بينما انحازت إيطاليا إلى جانب هذه الدول المُتحالفة في مارس ١٩١٥م لتحقيق مطامعها في البحر الأبيض المتوسط وفي أفريقية الشمالية. وهكذا وجد الأتراك أنفسهم في نزاعٍ جديد مع إيطاليا، وعندئذٍ قرَّروا استئناف النضال في الأقطار الليبية.

ولم يدفع الأتراك إلى مؤازرة السنوسيين في هذه المرة سوى رغبتهم في اتخاذ برقة ميدانًا يُرسلون منه جيشًا كانوا اعتزموا إعداده لغزو الأراضي المصرية وتحديد حدودها الغربية؛ لأن الألمان قرَّروا بالاشتراك مع العثمانيين إرسال حملة من الشام للإغارة على قناة السويس وغزو مصر من الجهة الشرقية، ورأوا لضمان نجاحها أنه لا بد أن يُشغَل الإنجليز في الوقت نفسه بأمر الدفاع عن مصر من جهة حدودها الغربية حتى تتوزَّع قواتهم ويسهل على الألمان والعثمانيين تنفيذ مآربهم. وجاء في رواية بشير بك سعداوي أنه غادر طرابلس إلى إستانبول في آخر عام ١٩١٣م، وكان لا يزال مقيمًا بها، عندما أخذت تركيا تتهيأ لخوض غمار الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا، فحدث أن ألَّف الأتراك لجنة سمَّوها لجنة التشكيلات المخصوصة وضعوها تحت رئاسة سليمان عسكري بك، وكانت تتألف من محمد بك فريد رئيس الحزب الوطني المصري والشيخ صالح التونسي والشيخ عبد العزيز جاويش وعلي باشا حامبا (من تونس) وكثير غيرهم. وعندما دخلت تركيا الحرب أراد العثمانيون إرسال نوري أخي أنور باشا إلى طرابلس، واختاروا بشير بك سعداوي لمرافقته، وكان بشير يعتقد أن مهمة نوري ومهمته هي الحرب ضد إيطاليا، غير أنه حدث في أحد الاجتماعات التي عُقدت بمنزل أنور باشا بحضور طلعت باشا وخليل باشا عم أنور أن سلَّم أنور بشيرًا كتابًا معنونًا باسم السيد أحمد الشريف كان قد فرغ من إعداده، ومضمونه أن دول الحلفاء الثلاث فرنسا وإنجلترا وروسيا قد أعلنوا الحرب على تركيا؛ ولذلك قررت تركيا الحرب ضد هذه الدول في كل مكان، ويطلب من السيد أحمد الشريف أن يعلن الحرب على الإنجليز ويزحف على مصر، وأخبر أنور السيد أحمد الشريف في كتابه هذا أن يُوفِد إليه شقيقه نوري مزوَّدًا بالمال، ويعِد السيد أحمد في الوقت نفسه بإرسال السلاح إليه. وعندما قرأ بشير بك هذا الخطاب تملَّكته الدهشة؛ إذ كيف يستطيع السيد أحمد محاربة الإنجليز بدون أسلحة؟ صحيح أن إرسال المال أمر سهل هيِّن يمكن تدبيره، ولكن كيف السبيل إلى إرسال الأسلحة؟ وعلى ذلك فقد ذكر بشير لأنور أنَّ من المُتعذِّر على الليبيين أن يقاتلوا الطليان والإنجليز في آنٍ واحد، وسأله عن الطريقة التي يمكن بها إرسال السلاح إلى السيد. ويقول بشير بك السعداوي إنه لمَّا تبيَّن له أن غرض الأتراك لم يكن سوى إثارة القلاقل والاضطرابات على الحدود والدخول في مناوشات مع الإنجليز الغرَض منها شغلهم فحسب لا تخليص البلاد من قبضة الطليان، وأن الذهاب مع نوري إلى طرابلس قد يترتَّب عليه «توريط» السيد أحمد الشريف في غير ما يُحقق مصلحة الوطن، امتنع عن موافقة نوري، فوقع الاختيار على جعفر العسكري للذهاب مع نوري إلى طرابلس.

وعلى ذلك ذهب نوري يحمل كتاب أخيه أنور إلى السيد الشريف وخرج معه جعفر العسكري، وهو أحد الضباط العرب العراقيين الذين كانوا في خدمة الجيش العثماني، وكان جعفر يحمل كذلك كتبًا أخرى من أنور باشا إلى عددٍ من كبار المصريين الذين عرفهم أنور في أثناء إقامته ببرقة، يدعوهم جميعًا للقتال، وينقل إلى أصدقائه ومعارفه من المصريين خبر إعداد الحملتَين المُزمع إرسالهما إلى حدود مصر الشرقية والغربية معًا، فحضر جعفر العسكري إلى مصر في طريقه إلى برقة، واستطاع أن يتجوَّل في القُطر المصري مُتخفيًا، وأبلغ رسالته، ثم غادر مصر إلى برقة خفيةً، وعند وصوله إلى السلوم استقبله نوري بك الذي أرسله شقيقه أنور باشا ليتولَّى القيادة العامة.

وقد قامت غوَّاصة ألمانية بنقل نوري بك وصحبه من ميناء «بولا» عند خليج «كوارنيرو» Quarnero في طرف بحر الأدرياتيك الشمالي، وكانت «بولا» هي القاعدة التي اتخذها الألمانيون لغوَّاصاتهم في بحر الأدرياتيك والبحر الأبيض، فأنزلت نوري وجماعته في الطرف الغربي من خليج السلوم عند ميناء «بردي سليمان» في قسم الخليج التابع لحكومة برقة؛ لأن خليج السلوم كانت يمتلكه مناصفةً فيما بينهما كلٌّ من الحكومة المصرية، ولها الطرف الشرقي، ثم حكومة برقة ولها الطرف الغربي. وأحضر نوري معه قدرًا من الأسلحة والذخيرة وجانبًا من المال وعددًا من الضباط العثمانيين، ثم صحبه أحد دهاة الألمان وضباطهم المُلمِّين بأحوال بلاد المغرب، وهو الكونت «مانسمان» ليُمثل القيادة العليا الألمانية في أفريقية الشمالية إلى جانب اشتراكه في العمل مع القائد العثماني، وكانت مهمة نوري عند نزوله في «بردي سليمان» الاجتماع بالسيد أحمد الشريف على الفور.

وأما السيد أحمد فقد اهتم من جانبه بمقابلة القائد العثماني، وتمت المقابلة في مكان بالقرب من السلوم يُسمى «المسيعيد»، وسلمه نوري رسالة شقيقه أنور باشا، وكانت تحمل أنباء إعلان الجهاد وتعيين السلطان محمود رشاد لسيادته نائبًا عنه (عن الخليفة) في «أفريقية الشمالية» والإنعام عليه برتبة الوزارة الأولى، وهي رتبة رفيعة الشأن، ومنحه حق إعطاء الرُّتَب والنياشين. وبالفعل أحضر «نوري» معه قدرًا من النياشين والأوسمة لتوزيعها على الرؤساء وكبار القوم والسادة السنوسية، فأكد هذا التعيين ذلك المركز المُمتاز الذي كانت تشغله الإمارة السنوسية منذ نوفمبر ١٩١٢م ولا تربطها بدولة الخلافة الإسلامية غير التقاليد التي أبقى عليها ذكر اسم السلطان في الخطبة — وهو خليفة المسلمين — ووجود نائب في الأقطار الليبية. ومن ذلك الحين عندما احتدم الكفاح طيلة السنوات التالية «صارت أوامر السيد ومحرراته فيما يتعلق بشمال أفريقية تصدُر إلى جميع النظارات بدار الخلافة، مرعية معتبرة في جميع الأوامر الملكية والعسكرية، وأرسلت إليه الإرادة السلطانية ليُمليها حسبما يظهر له.» فتأيد بذلك مركز الإمارة، غير أنه كان من الواضح منذ مقابلة السيد للقائد العثماني وصاحبَيه الكونت مانسمان الألماني وجعفر بك العسكري، أن الأتراك (والألمان) إنما يريدون أمرًا واحدًا فقط، هو أن يشترك السيد معهم في الهجوم على حدود مصر الغربية وتجهيز حملة كبيرة لهذه الغاية، فقد بذل «نوري» و«مانسمان» جهودًا عظيمة حتى أقنعا السيد بوجاهة هذا العمل وضرورته. ولما كان جعفر العسكري عراقيًّا ومقربًا من السيد أحمد، حتى إنه كان عظيم الثقة به لصبغته العربية، فقد أُتيحت الفرصة لجعفر كي يُساهم بقسط كبير في هذا الغرَض، ولكن دون جدوى. ومما كان له كبير الأثر في إحجام السيد أن القائد العثماني أراد منه أن يُهادن السنوسيون الطليان في هذه الآونة حتى يستطيعوا التفرُّغ لتدبير أمر هذه الحملة الجديدة. ولمَّا كان من المزمع إرسال هذه الحملة ضد الحدود المصرية، فقد وجد السنوسيون أنهم سوف يشتبكون في حربٍ ضد الإنجليز، ولم يكن من رأي السيد أحمد ولا مِن رأي كبار السادة السنوسية ولا من رأي بقية المجاهدين مُهادنة إيطاليا، ذلك العدو القديم، ومنازلة دولة هي إنجلترا لم تقُم بينها وبين السنوسيين حتى هذا الوقت سوى أحسن العلاقات وأصفاها. وكان السيد محمد إدريس المهدي ابن عم السيد أحمد من أشد المُعارضين لمشروع الحملة ضد الحدود المصرية.

وحقًّا لم يكن ذلك بالأمر الهين على نفوس السنوسيين، كما أنه لم يكن يتفق ومصالحهم في هذه الظروف الدقيقة قيام الإنجليز ضد المجاهدين في الأقطار الليبية، ومع أن الإنجليز في أثناء الحرب الليبية-الإيطالية تمسَّكوا بموقف الحياد بين العرب وأعدائهم الإيطاليين، فإنهم من الوجهة العملية قد تركوا العرب يبيعون الأسلاب التي غنموها من الطليان المُنهزمين في ميناء السلوم، وهم إلى جانب ذلك قد حرصوا على أن تظلَّ العلاقات بينهم وبين السيد محمد الشريف مشوبة بروح الودِّ والصداقة، كما حرص السيد أحمد من جانبه على استيفاء صِلات المودة بينه وبينهم، فكان السير جون ماكسويل القائد العام للجيوش البريطانية بمصر «يُصانع السيد كثيرًا ويُراسله دائمًا ويُتحفه ببعض الكتب ويتزلَّف إليه بكل الوسائل اتقاء غارةٍ من جهة السنوسية على مصر، كما أن السيد كان يُصانع الجنرال ماكسويل ويؤمِّنه من جهة السنوسية ويستخدِمه في قضاء أغراضه، وكان يستصنع في مصر ألبسة لتوابير الجيش السنوسي»، وكان رجال الحامية المصرية بالطرف الشرقي من خليج السلوم — ولا يزيدون عن الخمسين جنديًّا إلى جانب عددٍ من رجال السواحل — يُقيمون في «العقر» وعلى شواطئ البحر تحت قيادة الكولونيل «سيسل سنو» بك الإنجليزي الذي كان محافظ الصحراء الغربية، وضابط المخابرات الإنجليزية. وتدعَّمت الصِّلات الودية بينه وبين السنوسيين، وحرص السيد أحمد على هذه المكانة الطيبة، وعلاوةً على ذلك فقد كان السيد وزعماء السنوسيين يخشون لو هاجموا الحدود المصرية أن يقع الفشل في صفوف المجاهدين وأن يُغلبوا على أمرهم بسبب ما كانوا يعلمونه من استعدادات الإنجليز العظيمة؛ ولذلك كان من رأي السيد أحمد الشريف مهادنة الإنجليز ومطاردة الطليان على عكس ما كان يُشير به نوري ورفاقه.

أضف إلى هذا أن الإنجليز لم يغفلوا في هذه الآونة عن السعي جديًّا لحمل السيد أحمد الشريف على التزام موقف الحياد والامتناع عن تأييد التدابير العثمانية الألمانية، فإن السير هنري مكماهون عند وصوله إلى مصر نائبًا عن بريطانيا العُظمى وإمبراطور الهند بعد إعلان الحماية الإنجليزية على مصر، بادر بالكتابة من القاهرة في ١٥ يناير ١٩١٥م إلى «قطب دائرة أهل الفضل والكمال وخلاصة أرباب الحِجى والجلال، إمام المصلحين وقدوة المرشدين، الأستاذ الأعظم والملاذ الأفخم، السيد أحمد الشريف السنوسي أعزَّه الله»، «ولما كانت علاقة هذا القُطر (مصر) على الدوام ودِّية مع سيادتكم، رأيتُ أن أبلغكم وصولي، وأؤكد لكم أن العلاقات الودية التي كانت لكم ولأسلافكم الكرام مع الحكومة المصرية ستستمر في هذا العهد الجديد، كما كانت عليه من قبل من الودِّ والسلام.»

وزيادةً على ذلك فقد وسَّط الإنجليز سلطان مصر الأول المغفور له السلطان حسين كامل من أجل إقناع السيد أحمد بتجنُّب القتال والاشتباك معهم، فأرسل السلطان وفدًا مؤلفًا من السيد محمد الشريف الإدريسي ونجلِه الأكبر السيد محمد مرغني لمقابلة السيد أحمد الشريف في «المسيعيد»، وغادر الوفد القاهرة في سبتمبر ١٩١٥م، يحمل معه ثلاثة كتب: أحدُها من السلطان والثاني من السير هنري مكماهون نائب ملك الإنجليز، والثالث من السير جون ماكسويل القائد العام، ووعد الإنجليز السيد أنه إذا احتفظ بالحياد ولم يشترك في الحرب القائمة ساعدوه على استقلال بلاده واجتهدوا حتى يُوفِّقوا بينه وبين الحكومة الإيطالية. فبلَّغ الوفد هذه الرسالة، واستطاع السيد محمد مرغني الاجتماع بالقائد العثماني نوري، وفي أثناء الحديث معه وقف منه على حقيقة نوايا العثمانيين الذين ما يبغون من تدبير الهجوم على مصر سوى إرغام الإنجليز على حشد أكبر قوةٍ لديهم وتعطيلها من الاشتراك في الميادين الهامة الأخرى، ولو أدى هذا العمل إلى إلحاق الأذى والضرر بمصلحة المجاهدين أنفسهم في برقة، وعندئذٍ لم يتوانَ السيد محمد مرغني في تبليغ ما وقف عليه إلى السيد أحمد الشريف، فكان كل هذا ممَّا جعل السيد مترددًا لا يرغب في الهجوم على الحدود المصرية.

وقد كان لهذا الوفد مقابلات أخرى مع زعماء المجاهدين، وعلى الخصوص مع السيد محمد إدريس الذي لم يكن من رأيه قطعًا جلب عداء الإنجليز ضد العرب وتكدير صفو العلاقات معهم، وامتنع عن الموافقة بتاتًا على تدبير الهجوم على الحدود المصرية. غير أن الوفد في أثناء إقامته بين المجاهدين لم يلبث أن شهد الأمور تخرج مِن يد السيد أحمد الشريف عندما نجح العثمانيون في تدبير الاعتداء على السلوم بصورةٍ أرغمت سيسل سنو على الانسحاب منها إلى مرسى مطروح. وكان هذا الحادث آخر حلقة من حلقات سلسلة تلك المحاولات التي ظلَّ العثمانيون يقومون بها منذ قدوم نوري وجعفر العسكري من أجل تعكير صفو العلاقات بين السيد أحمد الشريف وبين الإنجليز، وإرغام السيد على قطع صِلاته مع الإنجليز والاشتباك في الحرب معهم. وقد حدث قبل واقعة السلوم هذه أن أرسل هؤلاء الضابط وصفي، وكان من الضبَّاط العرب لاحتلال حطية قربة التي تبعُد حوالي خمسة عشر كيلومترًا غربي واحة سيوة، وتدخل ضمن الحدود المصرية، وكان القومندان المصري في ذلك الوقت لمنطقة مرسى مطروح وسيوة اليوزباشي محمد صالح حرب، فأبرق إليه سنو بك حتى يذهب إلى سيوة لمقابلة هذه القوة والمفاوضة معها باسم الحكومة المصرية حتى تنسحب من الحدود المصرية، فاستقلَّ اليوزباشي المصري أول سيارة استُخدمت في الصحراء بين مرسى مطروح وسيوة، وحاول محمد صالح حرب إقناع الضابط وصفي بالانسحاب من الأراضي المصرية، ولكن هذا كان مُصممًا على عدم الانسحاب إلا إذا أتته أوامر قاطعة بذلك من السيد أحمد الشريف ومن نوري، وأظهر استعداده للمقاومة، وقال إنه إنما حضر إلى قربة لتحصيل المكوس والعوائد من القوافل بين قربة والجغبوب ومُراقبتها. وعندما بعث محمد صالح حرب يستفسر من سنو بك عما يجب فعله ويطلُب إليه أن يتَّصل بالسيد أحمد الشريف لإصدار الأوامر اللازمة إلى الضابط العربي حتى ينسحب بسلام، أبرق إليه سنو بك بالعودة سريعًا إلى مرسى مطروح لفضِّ مُشكلٍ آخر من تدابير الأتراك كذلك.

فقد حدث في أثناء ذهاب الضابط وصفي إلى قربة أن أغرى العثمانيون نوري وجعفر العسكري والسيد محمد هلال السنوسي بالنزول في زاوية سيدي براني لتحريض السنوسيين على الثورة ضد الإنجليز، دون علم السيد أحمد الشريف، وجاء السيد هلال فعلًا إلى سيدي براني، فطلب سيسل سنو والجنرال ماكسويل من قومندان مرسى مطروح أن يبذل قصارى جهده لإقناع السيد هلال بالانسحاب من سيدي براني، وكان الإنجليز قد حاولوا ذلك قبلًا مع السيد هلال، ولكنهم أخفقوا، فكتبوا الآن إلى صالح حرب يرجونه «بما هو معروف عنه من صدق إسلام وتقدير مسئوليات واجباته وما يتحلَّى به من صفات الحزم والكياسة معًا أن يتوسط لدى السيد هلال حتى لا يأتي عملًا مناقضًا لسياسة أخيه الأكبر، فما يستطيع الإنجليز أن يقفوا إزاءه مَكتوفي الأيدي، بل قد يجدون أنفسهم مُنساقِين إلى القيام بعمل مقابل يُورث السيد هلال الندم طول حياته»؛ فذهب صالح حرب إلى سيدي براني في ١٩١٥م وقابل مأمورها، وأبلغه المأمور المصري أن السيد هلال وجماعته قد ظلُّوا ثلاث ليالٍ متواصلة يُهاجمون القسم ويُطلقون النار على الضباط المصريين والعساكر السودانيين الذين به، فذهب صالح حرب بمُفرده لمقابلة السيد هلال ودخل عليه في «حجرة مضيفة الزاوية»، فوجده جالسًا ومن حوله بعض مشايخ السنوسية في العقبة وعُمَد ومشايخ آخرون كانوا في خدمة الحكومة المصرية، ثم استغنت هذه عن خدماتهم لسوء إدارتهم ولأسبابٍ أخرى، وكان السيد هلال يُحرض هؤلاء جميعًا على «إعلان الجهاد» ضد الإنجليز، فانتظر صالح حرب حتى انفرط عقد المجلس، ثم تكلَّم كلامًا طويلًا مع السيد هلال الذي كان يعتقِد على ما يبدو أن نوري وجعفر العسكري إنما يُريدان من وراء هذه الحركة إخراج الإنجليز من مصر، فأظهر له صالح حرب خطأ اعتقادِه وأنه إذا كان ذلك صحيحًا فلا جدوى من عملٍ مثل هذا دون إشراك السيد أحمد الشريف وموافقته على هذه الحركة، وفضلًا عن ذلك فإن هؤلاء العرب المُلتفِّين حوله لا يمكن الاعتماد عليهم في شيء، وأقام صالح حرب البرهان على صِدق ما يقول عندما طلب حضور المشايخ والعُمَد مرة ثانية وأمرَهم بالعودة من حيث أتوا والانفضاض وإلا أوقع بهم أشد العقوبات الصارمة، فامتطوا جميعًا صهوات خيولهم وذهبوا، وبقي السيد هلال وحدَه دون أي نصير، وعندئذٍ وافق السيد هلال على الذهاب مع صالح حرب إلى قسم سيدي براني ومنه إلى السلوم حيث كان ينتظرهما سنو بك، وأرسل السيد هلال إلى أخيه السيد أحمد الشريف في مساعد (المسيعيد)، وانتهى تدبير العثمانيين بالفشل.

غير أنه حدث عقب هذه الواقعة أن طلب محمد صالح حرب من سيسل سنو أن يأذن له بمقابلة السيد أحمد الشريف في مساعد، ففعل، واستطاع محمد صالح حرب مقابلة السيد أحمد الشريف، وكان لهذه المقابلة آثار هامة لعدة أسباب، فإن معرفة ما دار من أحاديث في أثنائها بين الضابط المصري والسيد أحمد الشريف يساعد على معرفة موقف السيد أحمد من مسألة الحرب ضد الإنجليز في وقتٍ كانت تنقص قواته وقوات العثمانيين عمومًا المؤن والذخائر والأسلحة، ولا يجد السيد أحمد، بسبب ذلك، أن من الحكمة وأصالة الرأي معاداة الإنجليز والاشتباك معهم في حربٍ لا جدوى منها وخسارتها مُحققة، فقد أراد السيد أحمد الشريف أن يعرف حقيقة موقف الإنجليز في مصر وسياستهم ونواياهم نحوه، وتحدَّث في هذا الشأن مع محمد صالح حرب بصراحةٍ تامة نظرًا للمساعدات التي كان يبذلها لهم محمد صالح حرب، وهو نائب لقومندان مرسى مطروح الإنجليزي رويال بك، والإغضاء عن تهريب المؤن والأسلحة إلى المجاهدين في أثناء الحرب الإيطالية الطرابلسية، أو قُل إذا شئتَ مساعدة المُهربين في عامي ١٩١١م و١٩١٢م؛ وعلى ذلك فإنه عندما استفسر منه محمد صالح حرب عن «حقيقة موقفه» هو، قال السيد أحمد الشريف: إن الأتراك إنما يريدون أن يورِّطوه في حرب مع الإنجليز قبل أن يستعدَّ لها الاستعداد الكافي، وأنه لا يُمالئ الإنجليز «محبةً فيهم أو تقربًا منهم»، ولكن مصر هي «الباب الوحيد المفتوح الذي تأتيه منه الأرزاق والأقوات التي يستطيع بفضلها متابعة القتال ضد الطليان، فإذا قفل هذا الباب تحرَّج موقفه، وأنه لم يستدع الأتراك إلى ليبيا إلا ليجلبوا معهم الإمدادات الكافية والتي يكون فيها الغَناء عن ذلك الباب المفتوح، ولكن هؤلاء حضروا وليس معهم أية إمدادات أو أرزاق أو مال، ومع ذلك فهم يطلبون منه كل يوم القيام بحركة ويلحُّون في هذا الطلب، مع العلم أن بدء الحركة قبل أن يحين الوقت الملائم لذلك يعود بالشرِّ والوبال على الجميع»، ثم اختتم السيد حديثه بقوله: «وإني أصرح لك بأنه لا سلاح ولا ذخيرة ولا مال ولا أرزاق كافية لدَينا، وأنا ليس في نيتي أن أحارب الإنجليز.»

وبعد انتهاء هذه المقابلة طلب نوري باشا مقابلة محمد صالح حرب في «صينوانة»، وشكا نوري لصالح حرب تردُّد السيد أحمد الشريف وامتناعه عن محاربة الإنجليز، مع أن الأتراك — نوري وجعفر العسكري وصحبهما — عندما حضروا من إستانبول بناءً على دعوة السيد أحمد الشريف كانت الفكرة على حد قول نوري «أن يقوم السيد أحمد بحركة ضد الإنجليز تجذب شطرًا من قواتهم إلى الغرب بحيث يسهل على جمال باشا القائد العثماني المُرابط في الشام أن يقتحم بجيوشه قناة السويس، ويُخلص مصر من الإنجليز، ولكن السيد أحمد بدلًا من ذلك يكتفي ببذل الوعود ولا يُريد أن يحرك ساكنًا.» واعترف نوري باشا بأنه صار مرغمًا بسبب سكون السيد أحمد على تدبير الخُطط لفصم العلاقات القائمة بين السيد أحمد الشريف وبين الإنجليز. على أنه مما يجدُر ذكره أنه كان في أثناء هذه المقابلة مع القائد العثماني أن تبيَّن للضابط المصري عجز القيادة عن إعداد الخطط العسكرية اللازمة لضمان نجاح أية حركاتٍ قد يقوم بها العثمانيون والسنوسيون ضد الحدود المصرية، فلا القائد العثماني يعرف إذا كان في استطاعته الاعتماد على تموين قواته من جهات العقبة — وهي المنطقة المُمتدة من السلوم إلى ما قبل محطة فوكة بينا أهل هذه الجهات وهم عربان أولاد علي يعتمدون في تموينهم على المؤن التي تأتيهم من داخل القطر المصري — ولا هو يعرف كذلك إذا كان لدى أولاد علي أسلحة كافية وذخائر ويصح الاعتماد على مؤازرتهم للجيوش الزاحفة على القطر من جِهتهم، مع العلم بأنهم ممنوعون قانونًا من حمل الأسلحة وليس لديهم سلاح ولا ذخائر.

ومع أنه كان من الواضح أن لا أمل قط في نجاح أية عمليات عسكرية من جانب الأتراك على الحدود المصرية، فقد ظل هؤلاء يضغطون على السيد أحمد الشريف لإنهاء علاقاته مع الإنجليز، ويحوكون خيوط المؤامرات لإيقاع النفور والشقاق بين السيد وبين هؤلاء، ويضعون السيد «أمام الأمر الواقع» إذا نجحت تدابيرهم ومؤامراتهم على إعلان النضال ضد الإنجليز، وكان من تدابير نوري بك وجعفر العسكري بعد فشل حادثة السيد هلال، ذلك الحادث الذي انتهى بانسحاب «سيسل سنو» من السلوم. أما تفاصيل هذا الحادث فهي، كما يؤخَذ من روايتَي محمد صالح حرب (باشا) والشيخ عبد الرحمن الزقلعي الذي كان بمعسكر السيد أحمد الشريف وقتئذٍ، أن نوري حضر لزيارة السيد أحمد الشريف ذات ليلة وقال له: إن الضابط الإنجليزي رويال بك مساعد مفتش الحدود الغربية يأتي ليلًا مُتزييًا بزي «الإخوان» السنوسيين، ويجوس خلال المعسكرات في السلوم يجمع أخبارها؛ ولذلك يجب على المجاهدين أن يقضوا عليه حتى يقيموا الحجة على الإنجليز ويثبتوا عدم إخلاصهم للسيد، فوافق السيد أحمد الشريف، واختار نوري ضابطَين هما أحمد الفلالي وبلقاسم الزنتاني للقيام بحراسة المعسكر ليلًا والقبض على الإنجليزي رويال، وطلب نوري من السيد أمرًا بذلك.

فأمر السيد أحمد كاتبه عبد اللطيف أن يكتب لهم ما يُريدون، فأملى نوري على الكاتب العبارة الآتية على لسان السيد أحمد بعد الديباجة: «هناك خدمة وطنية يُمليها عليكم نوري باشا، فنفِّذوا ما يأمركم به.» فأخذ نوري صورتَين من هذا الخطاب عليهما ختم السيد أحمد الشريف، واستغلَّ ما جاء بهذه الكتب وأصدر أمرًا إلى الفلالي بالهجوم على السلوم وأمرًا آخر إلى بلقاسم الزنتاني بالهجوم على البنبة. وبحث نوري وصحبه في الوقت نفسه عن بعض الجواسيس الذين ينقلون أخبار المعسكر السنوسي إلى الإنجليز حتى عثروا على اثنَين منهم رشوهما بمبلغٍ من الجنيهات التركية الذهب نظير أن يُبلغا سنو بك أن السيد أحمد الشريف قد اتفق نهائيًّا مع الأتراك على مهاجمة الإنجليز بعد يومَين، وأنهم قد استقدَموا إلى مساعد الكتائب الموجودة في بير واعر.

وعندما تم إحكام المؤامرة على هذا النحو هاجم نوري وجعفر والضابطان العربيان نقطة السلوم المصرية في أثناء الليل، وكان بها الملازم أول محمود لبيب وقوة من الهجَّانة، فحملوهم جميعًا إلى المعسكر السنوسي في مساعد، وعلاوةً على ذلك أمر نوري وجعفر المدفعية التركية بأن تقوم بمناورات حول ثكنة العساكر المصريين فوق السلوم على هيئة جيشٍ يقصد الهجوم، فأيقن سنو بك أن الأخبار التي بلغته صحيحة. ولمَّا كان الوفد الإدريسي ما يزال حتى هذا الوقت مقيمًا في مساعد للمُخابرة والمفاوضة مع السيد أحمد الشريف، فقد زال كل شكٍّ لدى الإنجليز وأيقنوا تمامًا أن السيد أحمد الشريف يبغي الغدْر بهم، فأمر سيسل سنو القوة الموجودة بالسلوم بالانسحاب فورًا، فحملتهم جميعًا الطوَّافة عبد المنعم من السلوم إلى مرسى مطروح، وكان معهم سيسل والضابط رويال بك، واستقبلهم محمد صالح حرب، وأكد له سنو أنهم لو تأخروا قليلًا في السلوم لاغتالهم الأتراك والسنوسيون جميعًا. أما السيد أحمد الشريف فإنه لم يعلم شيئًا بما جرى حتى صباح يوم الحادث، فاضطرب — رحمه الله — اضطرابًا شديدًا وصار يُردِّد: «أنا مخالف لنوري»، وبعث برسله على الفور إلى السلوم وعلى رأسهم السيد محمد الشريف الإدريسي وأعضاء الوفد الآخرين لمقابلة سيسل سنو وإبلاغه الحقيقة، غير أن هؤلاء وصلوا بعد خروج الطوافة من الميناء وعبثًا صاروا يلوِّحون لها ويصرخون كي تعود إلى مرساها، فتألم السيد أحمد الشريف من تصرف الأتراك ومحاولاتهم المُتكررة لقطع العلاقات بينه وبين الإنجليز في وقتٍ لم يكن يراه السيد أحمد مناسبًا لقطعها. وعندما اشتد الحرج عمد إلى استشارة جماعة من الإخوان السنوسيين فيما يجب عليه صنعه. ولمَّا كان هؤلاء ضالعين مع الأتراك فقد أشاروا عليه بالانضمام إلى العثمانيين في هذه الحركة لئلَّا يذاع عن السيد أنه على وفاق مع الإنجليز، وأن هؤلاء قد أعطوه مالًا، فاضطر السيد أحمد الشريف إلى العمل «بنصيحتهم» منعًا لهذه الشبهة، وعلاوةً على ذلك فقد كان الجيش منحازًا إلى جانب نوري، وقرَّ الرأي عندئذٍ على السير إلى مرسى مطروح.

ومع ذلك فقد كان يبدو أن انحياز السيد أحمد الشريف إلى جانب الأتراك ومحاربته الإنجليز أمر لا مفرَّ منه في النهاية، ولا سيما بعد أن وصل إلى عِلم السيد بعد انسحاب «سيسل سنو» أن الإنجليز يحشدون قوة عسكرية كبيرة في مرسى مطروح لقتال السنوسيين وصدِّهم، فسرعان ما أرسل السيد جعفر العسكري إلى المراكز الأمامية لتهدئة الحالة. غير أن جعفر بك انتهز هذه الفرصة لكي يتحرش بالقوة الموجودة في «المرسى»، زد على ذلك أن نوري وجماعته كانوا من ناحية أخرى يُطلقون النار على السفن التجارية التي أتت مُحملة بالمؤن والسلع إلى السلوم، هذا بينما كانت جماعات من المحافظة المُسلحين تجيء إلى الأراضي المصرية على الدَّوام كما قال الجنرال ماكسويل في إحدى رسائله إلى السيد أحمد: «إما بعلم من السيد أو بغير علم منه.» فتسيء معاملة العرب الذين كانوا تحت إدارة محافظ الصحراء الغربية، وتأخذ منهم الضرائب عنوة، وفضلًا عن ذلك، فإنه بينما كان المجاهدون بقيادة جعفر العسكري ونوري (باشا) يرحِّبون بالغواصات الألمانية التي كانت تُنزل الأسلحة والجند بالقُرب من بردي سليمان، كانوا يطلقون النار على الغواصات الإنجليزية «بغير سبب»، ثم حدث عندما أغرقت غواصة ألمانية باخرتَين إنجليزيتَين قرب السلوم أن قبض المجاهدون على بعض بحَّارة الباخرتَين الذين تمكَّنوا من بلوغ الساحل وأرسلوهم إلى الاعتقال في «زاوية العزيات» البعيدة، وكذلك مما أثار شكوك السيد في نوايا الإنجليز أن بعض رجاله ادَّعوا العثور بين أوراق «سنو بك» عقب انسحابه من السلوم على نص معاهدة كانت مبرمةً بين الطليان والإنجليز، مع أن الجنرال ماكسويل لم يلبث أن نفى، في إحدى رسائله إلى السيد، أمرَ هذه المعاهدة كلية لسببَين: «الأول لأنه لم يعمل معاهدة مثل هذه قط، والثاني لأن سنو بك لم يكن عنده السلطة لأن يعقد معاهدة كهذه».

غير أن السيد على الرغم من هذا كله كان لا يزال يريد المحافظة على العلاقات الودية مع الإنجليز، متمسكًا بموقف المساعدة معهم، وذلك بتبادُل المكاتبات مع الجنرال ماكسويل لإظهار صداقته له ولإزالة أي أسبابٍ قد تدعو إلى الشك وإثارة سوء التفاهم بينهما، كما حدث في مسألة المعاهدة المزعومة مثلًا، وكذلك كان الإنجليز من جانبهم يبذلون — كما تقدم — جهدًا جبارًا من أجل إرضاء السيد ومنعه من الاندفاع في التعاون مع جعفر ونوري في الإغارة على الحدود المصرية، وعرضوا عليه وعودًا سخيةً إذا هو تمسَّك بخطة المسالمة. ولكن حبطت هذه المساعي جميعها من الجانبَين معًا لأن الإنجليز كانوا يريدون من السيد أن يُقيم البرهان الساطع على ما يكنُّه لهم من ودٍّ وصداقة ورغبة في المسالمة، وذلك كما جاء في كتاب السير جون ماكسويل إلى السيد في ٣ ديسمبر سنة ١٩١٥م، بأن يُرسِل السيد أحمد «حالًا إلى مرسى مطروح الرجال الإنجليز الذين نجوا من مركبهم، وهم الآن غرب حدودنا، وأن تُعيدوا العلاقات الودية معنا وتُخرجوا من بلادكم المُستشارين الأتراك والألمان، أي نوري بك ومانسمان وغيرهما من الذين لا شك في أنهم يجلبون عليكم وعلى بلادكم بلاءً عظيمًا.» إلا أنه لم يكن في استطاعة السيد أن يُجيب رغبة الإنجليز في إخراج نوري ومانسمان ورجالهما «وطردهم من برقة»، وبخاصة بعد أن تحرش أتباعه ورجاله بالإنجليز مرارًا، سواء أَحَدَث هذا التحرش على غير عِلم من السيد أو بعلمه. وقد هدد الجنرال ماكسويل في كتابه هذا أنه إذا أصرَّ السيد على اتخاذ «خطة عدائية»، فإنه عندئذٍ «لا يجلب عليه إيطاليا فقط بل وفرنسا وإنجلترا ومصر، ويتحمل مسئولية جميع النفوس التي تضيع في هذا السبيل ويُعرِّض بلاده للجوع، إذ تسدُّ عليهم طرق الزاد والمئونة برًّا وبحرًا، وتحصر الشطوط البحرية.» ولكن هذه التهديدات أو النصائح كما شاء السير جون ماكسويل أن يُسميها، بقِيت من غير أثر ولم يطرد السيد من برقة نوري ومانسمان. وأما السبب الثاني في إخفاق مساعي المسالمة من الجانبَين فهو أن نوري كان يُكثر من الضغط على السيد لإرغامه على الاشتراك في الهجوم على مصر.

ولم تكن العلاقات بين السيد أحمد الشريف ونوري بك على درجة كبيرة من الصفاء في أثناء وجودهما بالسلوم، بل كثر الخلاف بينهما، لأن نوري كان يُمعن في التحرش بالإنجليز ويُطلق رجاله النيران على السفن الآتية إلى السلوم، وهي سفن مُحملة بالأرزاق والمتاجر التي يحتاج إليها السنوسيون حاجةً شديدة؛ مما أغضب السيد. زد على ذلك أن نوري أخذ يجفو في مُعاملته مع السيد لأنه كان لا يرضى عن موقف المسالمة الذي أراد السيد أن يقِفَه من النزاع على الحدود الغربية بين الأتراك والإنجليز، فأرسل نوري الكتب إلى أخيه (أنور باشا) «يقول إن السيد لا يريد معاداة الإنجليز، بل إنه مُمالئ لهم سرًّا، وغير ذلك من الأقاويل»، حتى صار رجال وزارة الحرب العثمانية «يلمزون السيد ويعزون إليه أمورًا» كانت ولا شك غير صحيحة «مثل كونه يريد الخلافة لنفسه، ومثل أنه غير مخلص للدولة». إلى غير ذلك. ثم جاءت الكتب الكثيرة من أنور باشا إلى السيد تحضُّه على إجابة رغبات نوري، وتطلُب منه عدم التباطؤ في الهجوم على مصر، ثم أرسل نوري إلى جانب هذا سعاةً إلى مصر يُذيعون عن السيد أنه لا يريد الهجوم على هذه البلاد حرصًا منه على مودة الإنجليز وصداقتهم مع أن العثمانيين — كما قال — كانوا يسعون جهدهم لطرد الإنجليز من مصر وأوفدوا نوري لتدبير الحملة على الحدود الغربية لهذه الغاية.

ثم زادت متاعب السيد عندما صارت تأتي إليه الرسُل من مصر ذاتها «تُعاتبه على موقفه هذا، وتُبين له ما يُخالج المصريين نحوه من الظنون بسبب تخلُّفه عن الزحف». وعندئذٍ قرر السيد أحمد الشريف، بسبب ما تقدم جميعه، وبعد حادث السلوم خصوصًا أن يشترك مع العثمانيين و«الألمان» في الزحف على حدود مصر الغربية. وعندما وصل السيد إلى هذا القرار استدعى نوري بك وخاطَبه قائلًا: «هو ذا أنا حاضر للمسير، فلا تقدِر أن تقول إن العائق كان مني، وإنما إذا فشلت هذه الحملة فلا أكون أنا المسئول.»

وعندئذٍ أرسل السيد قوة لاحتلال سيوة بقيادة اللواء وصفي باشا الحازمي الطرابلسي، فتمَّ له ذلك، وأما السيد نفسه فقد سار بالجيش — وعدده أربعة آلاف مقاتل — ومعه نوري قائدًا أول وجعفر العسكري قائدًا ثانيًا، وغرضهم الهجوم على السلوم، فأخلى الإنجليز منطقة السلوم ثم «بقبق»، وتقهقروا داخل الحدود، وأنذروا في الوقت نفسه القائد العثماني «نوري» بأنه إذا تجاوز بجيشه نقطة سيدي براني إلى الشرق صمدوا له وقامت الحرب.

ولكن نوري لم يأبه بهذا الإنذار، بل ظلَّ في تقدمه حتى تجاوز العرب سيدي براني، وبلغوا في زحفهم زاوية أم الوخم غربي مرسى مطروح، وعندئذٍ جهز الإنجليز لقتالهم جيشًا بلغ الثلاثين ألفًا من مشاة وفرسان إلى جانب عددٍ كبير من المدافع، فقامت بين الفريقَين معارك ساهم فيها محمد صالح حرب قومندان مرسى مطروح بنصيبٍ وافر.

ويقول محمد صالح حرب باشا إنه حدث عقب وصول سيسل سنو ورويال مع القوة المنسحبة من السلوم إلى مرسى مطروح أن سنو بك ما لبث حتى حضر لمقابلته بالمكتب، وأعطاه سلطات الحاكم العسكري في المرسى، وطلب إليه إخلاء العزبة من جميع الغرباء والقاطنين بها كالطليان واليونانيين ومن إليهم، ثم الاستيلاء على المتاجر الموجودة بها لحساب الجيش بعد تقدير أثمانها، وذلك كله تمهيدًا لاتخاذ مرسى مطروح مركزًا للعمليات العسكرية المُنتظَرة.

وفي اليوم التالي بدأت تصل النقالات إلى المرسى تحمل الجنود الهنود والسيارات المُدرعة، وكان في وسط هذه الظروف أن شرع صالح حرب يُفكر جديًّا في الانضمام إلى المجاهدين العرب، يدفعه إلى ذلك شعوره العميق بالعزة القومية والكرامة الوطنية في وقتٍ كان الإنجليز قد أعلنوا فيه الحماية على مصر منذ بدء الحرب العالمية (الأولى)، ويدفعه الواجب الوطني إلى إعلان الجهاد ضدَّهم. وبالرغم من أنه كان يتنازع القومندان المصري عامل اليأس في نجاح حركات العثمانيين والسنوسيين لِما شهده من تفرُّق كلمتهم عند زيارة معسكرهم في مساعد، وعدم وجود أية مؤن أو ذخائر أو أسلحة لديهم، إلا أن دافع العاطفة الوطنية كان أشد وأقوى. وفضلًا عن ذلك فقد اعتمد صالح حرب على تحريك عربان أولاد علي المنتشرين على الحدود الغربية الشمالية واستمالتهم إلى الثورة ضد الإنجليز. أضف إلى هذا أن سنو بك لم يُظهر أي اهتمام بمصير القوة المصرية السودانية في سيدي براني وفي بقبق بعد الانسحاب من السلوم، فقد أرسل سنو إلى سيدي براني سيارات مدرعة بقيادة تويدي أحد الضباط الإنجليز قبل الانسحاب، ثم علِم منه صالح أنه سوف يعود بهذه السيارات إلى مرسى مطروح تاركًا المصريين والسودانيين الموجودين في سيدي براني وشأنهم، بدعوى «أن هؤلاء الجند مُسلمون والأتراك والعرب مسلمون في وسعهم جميعًا أن يفعلوا ما يشاءون بعضهم ضد بعض»، هذا مع العلم بأن العثمانيين كانوا يُطلقون النار على هذه القوة المُرابطة في سيدي براني على نحو ما تقدَّم ذِكره. وعندما أصر صالح حرب على ضرورة انتظار تويدي في سيدي براني حتى يتم انسحاب جميع المصريين وينجوا من هجوم العدو عليهم وقتلهم، اكتفى سنو بك بأن يعِد بإرسال تويدي مرةً أخرى إلى سيدي براني بعد عودته بالسيارات المدرعة منها، وكان من الواضح أنه يتعذَّر تحقيق هذا الوعد بعد الانسحاب من السلوم إلى مرسى مطروح، فكان من أثر هذه العوامل جميعًا أن قرَّر صالح حرب في ليلة ٢٥-٢٦ نوفمبر ١٩١٥م الانضمام إلى المجاهدين وإعلان الثورة ضد الإنجليز.

وكانت القوات المصرية الخاضعة للقومندان المصري في ذلك الوقت موزعة بين مرسى مطروح والسلوم وسيدي براني وقربة (عند واحة سيوة)، وكانت قوته في المرسى تتراوح بين خمسة وأربعين وخمسين جنديًّا عدا أربعة من الضباط و«باشكاتب القسم»، فخرج بهم جميعًا وسط السيارات المدرعة، وكانوا جميعًا ما عدا أحد الضباط فقط يجهلون نواياه، ولم يشكَّ الإنجليز في أنه كان يعتزم القيام بعملية كشف (أو دورية) بوصفه قومندان المرسى، فأفسحوا له الطريق، واتجه صوب السلوم، ثم أخذ يمرُّ في طريقه بعُمَد ومشايخ مرسى مطروح ويضمُّهم إليه، وعند الفجر وصل الجميع إلى دوار (أو دور) عائلة العاصي من قبيلة «القنيشات»، وهناك جمع صالح حرب الرؤساء والضباط والمشايخ والعُمَد وخاطبهم قائلًا: «نقف الآن بين معسكرَين، أحدهما معسكر الإنجليز أعداء الله والوطن الذين رفعوا علينا الحماية، والآخر معسكر العرب والأتراك الذين يقولون إنهم جاءوا ليُخلصونا، وقد أقنعني ضميري وواجبي الديني بعدم البقاء مع الإنجليز، وقد خرجتُ في سبيل الجهاد ضدهم، فمن كان منكم يحرص على حياته أو تُلزمه أية مسئوليات عائلية بالعودة إلى مرسى مطروح، فإنني لا أحول بينَه وبين العودة، إنما على شريطة أن يترك ما معه من سلاح ومئونة، فلم يرغب أحد منهم في العودة، بل أبدَوا جميعهم تصميمهم على البقاء إلى جانب رئيسهم، يعيشون معًا ويموتون معًا.» وعاهدوا الرئيس على الجهاد، ومن ذلك بدأت الثورة بصورة علنية، واستجاب له عربان قبائل أولاد علي، وأمر صالح حرب بإنشاء أول دور للمجاهدين في وادي ماجد على مسافة عشرة كيلومترات إلى الجنوب الغربي من مرسى مطروح، وانتشرت الثورة في أنحاء العقبة والعقيبة — ويُطلق اسم العقيبة على المنطقة المُمتدة من الحجاج غربي محطة فوكة إلى مريوط — وكان انتشار الثورة في هذه الجهات مفاجأة للإنجليز لأنه ما كان يخطر ببالِهم أن يثور أولاد علي والضباط المصريون عليهم. ثم استأنف محمد صالح حرب سيره صوب الغرب، حتى إذا اقترب من سيدي براني صادف جماعات من المحافظة وهم جنود السنوسيين النظامِيُّون، فأطلق هؤلاء النار على صالح حرب والقوة التي معه ظنًّا منهم أنهم أعداء يقصدون قتالهم، وقد استطاع المجاهد المصري، بعد التفاهُم معهم، أن يعرف ما وقع من حوادث بعد انسحاب سيسل سنو من السلوم.

فقد خرجت بعض الكتائب السنوسية من السلوم بقيادة الضباط الأتراك وتحت رئاسة «جعفر» باشا العسكري، وزحفت هذه القوات على سيدي براني واحتلُّوها، ولكن جعفر العسكري ما كان يدري ما يجب عليه أن يفعله بعد الوصول إلى سيدي براني، بينما كانت الفوضى تمدُّ رواقها على معسكره ولا أثر للنظام بين جنوده. وفضلًا عن ذلك فإن السيد أحمد الشريف لم يوافق على هذه الحركة ولم يُباركها. وعندما وصلت القوات المصرية إلى سيدي براني قابلها جعفر العسكري بترحاب عظيم، ورجا صالح حرب أن يذهب إلى السلوم عساه ينجح في التوفيق بين معسكر السنوسيين (السيد أحمد الشريف) ومعسكر الأتراك (نوري باشا)؛ فقد ظل الخصام قائمًا بين المعسكرين، وبذا استحال على جعفر العسكري — كما قال — أن يتقدَّم إلى الأمام خطوة واحدة.

وعلى ذلك فقد خرج صالح حرب قاصدًا السلوم، فنزل أولًا في بقبق، ووجد بها «طابورَين» أو كتيبتين «نموذجية» بقيادة أمين بك وغالب بك من الضباط الأتراك، وليس معهما «قوت يوم»، ثم تابع صالح حرب سفره إلى السلوم فقُوبل بحماسٍ عظيم، واحتفل المعسكران السنوسي والعثماني باستقباله احتفالًا كبيرًا، ووجد المجاهد المصري في السلوم الوفد الإدريسي السيد محمد الشريف بن عبد المتعال الإدريسي وأعضاء أسرته في ضيقٍ وحرج شديدَين، وأخبره السيد أحمد الشريف بتفاصيل خدعة الأتراك التي أفضت إلى انسحاب سيسل سنو من السلوم. ووجد صالح حرب أن اليأس قد بلغ من العثمانيين حدًّا بسبب موقف السيد أحمد الشريف منهم جعلهم يحتفظون بقنابل يدوية صغيرة في جيوبهم استعدادًا لنسف المعسكر إذا انقلب السيد عليهم، وباءت مشروعاتهم بالفشل، فبذل صالح حرب قصارى جهده لإقناع السيد أحمد بالعدول عن موقفه على أساس أن السيد إذا ظلَّ مصرًّا على خطته السلبية حيال تلك الحركات التي يُراد بها خلاص مصر من قبضة الإنجليز ومساعدة دولة الخلافة في حربها ضد العدو، فإن هذا الموقف السلبي لن يُفسَّر لصالحه إطلاقًا، بل سوف يتَّخذه أعداؤه وسيلةً لإلحاق الأذى بسُمعته في العالم الإسلامي قاطبةً، ويُظهرونه بمظهر الضالع مع الإنجليز والطليان والمُمالئ لهم ضد بلاده، وعلاوةً على ذلك فقد أفلت زمام الأمور من يدِه وصار واجبه الآن يقتضيه إما التقدُّم وإما الانسحاب إلى الأدوار الخلفية وترك الميدان حرًّا للعثمانيين يعملون ما بدا لهم على شريطة أن يكون ذلك بمحض إرادته. واستطاع صالح حرب كذلك أن يُقنع نوري باشا وصحبه بضرورة الاعتذار للسيد عن حادث السلوم واسترضائه، فطيَّب نوري خاطر السيد وانتهى الخلاف الظاهر بينهما. ولمَّا علِم صالح حرب باشا أنَّ العثمانيين يُبيتون النية على الفتك بأعضاء الوفد الإدريسي عند انسحابهم من السلوم إلى مصر بعد إخفاق المفاوضات بدعوى أن هؤلاء خونة وتقع عليهم مسئولية تأخير الحركات العسكرية، استطاع أن يُقنع نوري باشا باستدعاء الكمين الذي كان يترقَّبهم في طريق عودتهم من السلوم، وغادر الوفد السلوم بأمان، ثم تركت قوات المجاهدين السلوم قاصدةً العقبة، ومنها إلى سيدي براني، ومن ثم بدأت العمليات العسكرية.

وكان أول المعارك الجدِّية التي حدثت في وادي ماجد بين المعسكر الذي أقامه صالح حرب في تلك الجهة وبين الإنجليز، هذه المعركة الشديدة التي فشل في أثنائها سيسل سنو، ثم تلا ذلك معركة أخرى في أم الرخم بين طلائع الأتراك والسنوسيين الزاحفة وبين الإنجليز، وعند اكتمال حشد هذه القوات وقعت معركة وادي ماجد الثانية في ديسمبر ١٩١٥م، وقد اشترك في هذه الموقعة والمواقع التالية إلى جنب صالح حرب (باشا) جماعة من الضباط المصريين، نذكر منهم اليوزباشي سيد أحمد أفندي أبو شادي والمُلازم الأول عبد الحميد حمدي والمُلازم الأول أمين ذهني والملازم الأول محمود لبيب والملازم الأول أحمد سالم والملازم الثاني إبراهيم عوض والملازم الثاني محمود عبد الواحد عدا صولَين وضابط بحري هو الملازم الأول أبو زيد مقلد وباشكاتب القسم عثمان أفندي الدرعي. وبعد معركة وادي ماجد الثانية تقدم صالح حرب مع الهجانة والمجاهدين السنوسيين إلى جهة الزرقاء إلى الجنوب الشرقي من مرسى مطروح، بينما انسحب جعفر العسكري بالجيش من وادي ماجد، ثم طلب إلى صالح حرب أن ينسحب هو الآخر من الزرقاء إلى الشرق، وأن يجتمع ببقية القوات في بئر الصريحات. ولمَّا لم يجد الجيش ماءً بهذا المكان الأخير انسحبت القوات إلى بئر تونس على أمَل العثور بها على ماء، ولمَّا لم يجدوا بها ماءً كذلك أشار السيد أحمد الشريف باستسقاء الماء، فتفتحت أبواب السماء وانهمر المطر مدرارًا حتى رويت القوة بأجمعها، وكان لانهمار المطر في ذلك الوقت فائدة أخرى هامة، وهي أن الإنجليز الذين كانوا قد صحَّ عزمهم على مفاجأة المجاهدين بعد انسحابهم من وادي ماجد، وجمعوا لهذه الغاية حوالي ثلاثة عشر ألف مقاتل حبط مسعاهم لأسْر القوة المحتشدة في بئر تونس بسبب تعذُّر السير بسياراتهم المدرَّعة. وعلى ذلك فما كاد الجو يصفو من المطر الذي ظلَّ ينهمر مدة يومَين حتى شاهد المجاهدون سيارات الإنجليز ومعسكرهم على بُعدٍ يسير منهم، وسرعان ما نشبت معركة بئر تونس، وكانت حامية الوطيس، غير أن المجاهدين كانت تنقصهم المؤن والذخائر، فاضطروا إلى التقهقر، وعندئذٍ عقد السيد أحمد الشريف مجلسًا حربيًّا دعا إليه الضباط الأتراك وعلى رأسهم نوري باشا وجعفر العسكري، وحضرة صالح حرب نائبًا عن الضباط المصريين وثلاثة من كبار مشايخ السنوسية برئاسة السيد أحمد نفسه لبحث الموقف، وكان السيد أحمد في غضبٍ ظاهر، وأنحى باللائمة على الأتراك الذين تسرعوا في بدء هذه العمليات العسكرية على الرغم من عدم استكمال الاستعدادات اللازمة لها، الأمر الذي سبَّب تردُّد السيد أحمد واعتراضه السابق عليها. وقد اختتم السيد أحمد حديثه — بعد أن شرح الحالة وما حدث من تقهقر إلى الوراء بدلًا من التقدم إلى الأمام والزحف صوب مصر — بقوله مخاطبًا نوري وجعفر العسكري وزملاءهما: «فما رأيكم وقد أوصلتمونا إلى هذا الحال، وظهر أني كنتُ على هُدًى وكنتم على ضلال؟» فاقترح نوري وجعفر العسكري اللجوء إلى فكرة حرب العصابات، وطلب السيد أحمد إلى صالح حرب أن يُدلي برأيه، فعارض المجاهد المصري هذه الفكرة معارضةً شديدة كما نقد الخطة الاستراتيجية التي سار عليها الأتراك حتى ذلك الوقت نقدًا مرًّا على أساس أن التقدُّم من ساحل البحر في أرضٍ مكشوفة يسهل على الإنجليز معرفة مواقع قوات المجاهدين، وتسليط النار عليها من مدافع سفنهم، وفضلًا عن ذلك فإن الأرض صلدة متماسكة تصلح لسير السيارات المدرعة عليها واستخدام قوات الفرسان الكبيرة، كما تصلح لنقل المشاة على العربات من مكانٍ آخر، هذا علاوةً على أن القُرب من الساحل يمكِّن الإنجليز من إنزال أية نجدات أو إمدادات يشاءونها من سفنهم إلى البر بسهولة بصورة يستطيعون معها أن يقطعوا خطَّ الرجعة على المجاهدين. وذلك كلُّه في وقتٍ لم يكن فيه لدى المجاهدين من وسائل النقل سوى جَمل واحد لكل ثمانية أنفار، وتنقُصهم الأرزاق والمؤن، ولا سبيل لحماية مواصلاتهم. وعلاوةً على ما تقدم فإن الإقدام على حرب العصابات في منطقة العقبة والعقيبة، كما يريد نوري وجعفر العسكري، خرَق في الرأي ما في ذلك شك؛ إذ البلاد في هذه الجهات منبسطة كالكف، لا يُوجَد بها غابات ولا جبال ولا قرًى تستطيع العصابات أن تلجأ إليها وتعتصِم بها، ومن الهيِّن على الإنجليز أن يكشفوا مواقعها. وكان من رأي صالح حرب للخلاص من هذا المأزق أن ينتقل المجاهدون إلى الجنوب ويحتلوا الواحات، وهي المكان الذي يصلح لتنظيم حرب العصابات، ولكن نوري وجعفر أصرَّا على «عدم الابتعاد عن الإسكندرية والبحيرة»، والمُضي في خطتهما القديمة. وعند ذلك رأى السيد أحمد الشريف، إرضاءً للأتراك من ناحية، ولأنه تبيَّن الصواب فيما ذكره صالح حرب من ناحية أخرى، أن تنقسِم القوة فريقَين: فريق يذهب إلى الجنوب وهدفه احتلال الواحات، وكان يتألف من حوالي خمسمائة وثلاثة آلاف جندي، والفريق الآخر وعدده ستة آلاف جندي تقريبًا يبقى في الشمال، وعهد بقيادة الجناح الجنوبي إلى محمد صالح حرب، بينما تولَّى جعفر العسكري قيادة الجناح الشمالي، وبقي نوري باشا قائدًا عامًّا على الجناحَين، على أن يظلَّ مع جعفر باشا العسكري في الشمال، وينتقل السيد أحمد الشريف إلى الجنوب، فلم يسَع نوري وجعفر سوى الإذعان. ثم منح السيد أحمد بما له من الحق كنائب الخليفة الأعظم رُتبة اللواء الفخرية لصالح حرب باشا، ثم انسحبت قوة نوري وجعفر من بئر تونس قاصدةً بئر الكلاب، بينما تحركت قوة صالح حرب والسيد أحمد الشريف قاصدةً سيوة.

وحدث عند بئر الكلاب أن فاجأ الإنجليز قوات نوري وجعفر العسكري، ودارت بين الفريقين معركة شديدة عُرفت باسم معركة العقاقير شرقي سيدي براني في فبراير سنة ١٩١٦م، وكان الإنجليز بعد أن تقهقر المجاهدون من بئر تونس قد صحَّ عزمهم على الاشتباك معهم في معركةٍ فاصلة، فكان لهم ما أرادوا، وجرح جعفر العسكري في هذه المعركة وأفلت نوري من أيديهم بأعجوبةٍ بعد أن أبلى هو وضباطه والجيش بلاءً حسنًا. وقد حضر هذه الموقعة مجاهد مصري شابٌّ هو الأستاذ عبد الرحمن عزام، وكان قد وصل بعد اجتيازه الحدود المصرية إلى معسكر المجاهدين عقب واقعة بئر تونس وبقي مع فريق نوري وجعفر العسكري، فحضر موقعة العقاقير، وكان من أثر هذه المعركة الفاصلة أن تشتَّت شمل القوات الشمالية تمامًا، واستطاع الإنجليز مطاردة فلول الجيش، وتعقَّبتهم السيارات المدرعة متوغِّلة في برقة إلى ما وراء بئر واعر، واضطرَّت بقايا قوات نوري باشا إلى الالتجاء أخيرًا إلى العقيلة، فعسكروا بها، أما الإنجليز فدخلوا السلوم في ٢٤ مارس ١٩١٦م، واستولوا على معسكر السنوسيين والمجاهدين بها.

غير أن الإنجليز على الرغم من انتصاراتهم ظلُّوا يُعلِّلون النفس بإمكان الوصول إلى تسويةٍ سلمية مع السيد أحمد الشريف، رغبةً منهم في تضييق دائرة الحرب وتوفير الجهود، حتى يتسنَّى لهم مقابلة أعدائهم في ميادين أخرى كانت أشد خطرًا وأعظم أهمية. وعلى ذلك فقد استمرَّت المُكاتبات بينهم وبين السيد أحمد الشريف بقدْر ما سمحت الظروف وقتئذ، فأعاد السير جون ماكسويل قائد الجيش البريطاني العام في هذه الجبهة القول على السيد أحمد في ٨ مارس ١٩١٦م، أي بعد معركة العقاقير بأيامٍ قليلة، يعرض عليه الشروط التي رأى أنها مُمكنة لبدء المفاوضة على أساسها من أجل إنهاء الحرب وعقد الصلح معه، وكان السير جون ماكسويل قد أبلغ السيد أحمد الشريف هذه الشروط ذاتها منذ ٤ يناير ١٩١٦م، وأما هذه الشروط فكانت تنحصر في أن يُسلم المجاهدون جميع الأسرى من البريطانيين أو الهنود أو الأوروبيين الذين وقعوا في قبضتهم، ثم إبعاد جميع الأتراك والألمان الذين كانوا في معسكر السيد أحمد الشريف أو تسليمهم إلى الإنجليز كأسرى حربٍ إذا تعذَّر على السيد أحمد إبعادهم، كما كان على السيد أحمد أن يُخرج رجاله المسلحين من الأراضي المصرية، وأن يتعهد في الوقت نفسه بمنع دخول هؤلاء إليها وإلا عوملوا معاملة الأعداء «حيثما وجدوا»، وأخيرًا طلب من السيد أحمد وأعوانه أن يجلوا جلاءً تامًّا عن سيوة والسلوم والجهات الواقعة إلى الشرق منها، وأن يُقيموا السلام في جغبوب، ولكن هذه العروض لم تلقَ اهتمامًا من السيد أحمد.

ذلك بأن السيد بعد موقعة بئر تونس كان في طريقه إلى سيوة لمواصلة النضال في الجنوب، وعلاوةً على ذلك فقد كان رحِمَه الله يعقد آمالًا عظيمةً على نجاح حركة علي دينار وثورة دارفور، وكان علي دينار قد شقَّ عصا الطاعة على حكومة السودان في ذلك الوقت واشتبك مع قوات الحكومة في مناوشات ومعارك عدة، أضف إلى هذا أن السيد كان يؤمِّل خيرًا من قيام العمليات العسكرية على الحدود المصرية في الصعيد، بيد أن ثورة علي دينار سرعان ما قُضي عليها في مايو ١٩١٦م، ثم لقي علي دينار نفسه حتفَه في نوفمبر من تلك السنة، وذلك في أثناء العلميات العسكرية التي استمرت على الحدود الغربية طيلة عام ١٩١٦م وأوائل العام التالي أيضًا.

وقد استطاعت قوة محمد صالح حرب الوصول بسلامٍ إلى سيوة، وكانت تتألَّف من حوالي خمسمائة وثلاثة آلاف جندي كما تقدَّم ذكره، وبعض الضباط الأتراك وهم نديم وعبد القادر من المُشاة وفوزي مع مدافع الماكينة وضياء مع الطوبجية، ثم الضباط المصريين إبراهيم عوض ومحمود عبد الواحد ومحمود لبيب وأمين ذهني والصول عبد الله والباشكاتب عثمان الدرعي والدكتور السيد دسوقي. ثم نزلت القوة من سيوة إلى الواحات البحرية والفرافرة والداخلة، وانضمَّ إليها جميع من كانوا بهذه الواحات من الموظفين المصريين، ومن بين هؤلاء الدكتور محمد عبد الله، ومن ضباط البوليس عبد القادر طراف من البحرية، ثم مأمور هذه الواحة ومأمور الداخلة. واستمرَّت حرب العصابات ضد الإنجليز طول عام ١٩١٦م وأوائل العام التالي. وأنشأ الإنجليز في الواحات الخارجة معسكرًا يُرسِلون منه الطائرات على العصابات، بينما ظلَّت هذه العصابات تشنُّ الغارة عليهم في الواحات الخارجة من حينٍ لآخر. وترك صالح حرب قوة قليلة في واحة سيوة لملاحظة الأمن والسهر على حماية هذه الواحة، كما ترك قوةً أخرى لهذا الغرَض في كلٍّ من واحة البحرية والفرافرة، وأنشأ معسكرًا في قرية فنيدة من قرى الواحات الداخلة، وأقامت القوة الرئيسية في الداخلة، ثم بدأ صالح حرب مفاوضاته مع مشايخ العرب من الصعيد في المنيا وأسيوط والفيوم. ولكن لم تلبث أن جاءت ردودهم غير مُشجعة على إرسال العصابات إلى بلدان الصعيد. وكان أشد ما يخشاه رئيس هذه القوات «صالح حرب» أن تترك العصابات في الصعيد على غير رغبة هؤلاء المشايخ، فلا تجد المأوى والأرزاق، وتُضطر إلى النهب والسلب، ويقع الاصطدام بينها وبين الأهلين، ولكنه استطاع أن يمنع نزولها على الرغم ممَّا كان يُقاسيه أفرادها من شظف العيش، حتى إنهم باتوا لا يجدون ما يرتدون أو ينتعِلون، وصاروا يعيشون على التمر وحدَه عدة شهور، واستمرَّت أعمال العصابات مقصورةً على مهاجمة معسكر الإنجليز في الخارجة والاشتباك مع دورياتهم، بينما ظلَّ هؤلاء يُلقون قنابلهم من الطائرات على العصابات ومراكز المجاهدين. وأفلح صالح حرب في الغرض الذي سعى إليه من هذه الحركة، وهو احتجاز قوات إنجليزية كبيرة على الحدود الغربية. وفي القُطر المصري كان الإنجليز في أشد الحاجة إلى استخدامها في حملة الدردنيل المشهورة.

واضطر الإنجليز آخر الأمر إلى وضع خطة عسكرية كبيرة، الغرَض منها القضاء على حرب العصابات قضاءً مبرمًا، وقوام هذه الخطة أن يجتمع حشد كبير من الإنجليز في الواحات الخارجة، يشن هجومًا عنيفًا على المجاهدين في الواحات الداخلة، بينما تجتمع قوات إنجليزية أخرى عند عزو الرماك الواقعة إلى الغرب من الفيوم، مُهمتها الهجوم على الواحات البحرية، ثم تجتمع قوة ثالثة من السيارات المدرعة في الجفرة قرب منخفض القطارة حتى تقطع خط الرجعة على المجاهدين. ولما كان معنى ذلك، إذا نجحت خُطط الإنجليز، الإحاطة التامة بعصابات المجاهدين ومركزهم العام في الواحات الداخلة، فقد بات من الضروري الانسحاب من الداخلة إلى الغرب جنوب سيوة والجغبوب، ولا سيما أنه قد وصلت الأخبار إلى الداخلة مُنبئةً بفشل حركات الشرق وإخفاق جيش جمال باشا في اقتحام قنال السويس، هذا فضلًا عن أن الإنجليز استطاعوا أن يكشفوا مركز المجاهدين بواسطة طائراتهم وجلبوا الإمدادات العظيمة للإحاطة بقوتهم وتحطيمها؛ ولذا فلم يعد من الحكمة بقاء العصابات في الداخلة، فاستقر الرأي على الانسحاب بعد أن شغلوا الإنجليز مدة طويلة. وفي هذه الأثناء وصل السيد أحمد الشريف من الجغبوب وسيوة في أواخر ١٩١٦م، فقامت الاستعدادات على قدم وساق لإتمام الانسحاب من الداخلة بكل سرعة، وكان الانسحاب مهمةً عسيرة شاقة؛ لأنه كان من الضروري قبل كل شيءٍ أن يتم الانسحاب دون علم العدو حتى لا يقوم بهجوم على الجيش المنسحِب، ثم كانت هناك مشكلة النقل العويصة، ذلك أنه لم يبقَ لدى جيش صالح حرب سوى عشرين ومائة جمل فقط من حوالي الثمانمائة جمل عنده حوَّلهم إلى الواحات. هذا فضلًا عن أن ثمانين في المائة من الجنود كانوا مرضى بحُمَّى الملاريا، وكان أيضًا ينقص الجيش الأوعية اللازمة لنقل الماء، ولكن سرعان ما تغلَّب قائد الجيش على هذه الصعوبات جميعًا، فتحركت الحملة بسلام من الواحات الداخلة إلى الواحات البحرية بعد أن أدخل المجاهدون في روع الإنجليز أنهم يُريدون تركيز قواتهم في الواحات البحرية لمُهاجمتهم في الفيوم (عزو الرماك) من هذه الواحات. وجهز صالح حرب مفرزة صغيرة بعث بها لتقوم بحركة «كشف تعرضية» شرقي عزو الرماك، حتى يتوهَّم الإنجليز أنها مُقدمة لهجوم عام على مراكزهم، فاحتلَّت المفرزة عزو الرماك، وأطلقت النيران على القوات الإنجليزية، واعتقد الإنجليز أن المجاهدين على وشك القيام بهجومٍ عامٍّ ضدهم، فأخذوا يجمعون قواتهم، وانتهز صالح حرب هذه الفرصة فأمر بانسحاب الحملة من الواحات البحرية، ثم انسحبت المفرزة من عزو الرماك، وتابع الجميع سيرَهم صوب الغرب. ولما تبيَّن للإنجليز أمر هذه الخدعة جاءت سياراتهم المدرعة تتعقَّب جيش الحملة، ولكن المجاهدين كانوا قد استطاعوا الاعتصام بالغرود (وهي الجبال الرملية)، فتعذَّر على السيارات أن تسير في أثرهم، ووصلت الحملة في أمان إلى سيوة، وكان أول ما عُني به رئيس الحملة عند وصوله إلى سيوة إرسال التمر إلى الجغبوب لتموين الجيش عند وصوله إليها. ولمَّا لم يكن لدى الحملة عدد كافٍ من الجمال لنقل التمر إلى الجغبوب فقد اضطر الجيش إلى الانتظار في سيوة مدة شهر تقريبًا.

ومع ذلك فقد استطاع صالح حرب أن يرسِل أكثر المجاهدين إلى جغبوب، حتى إنه لم يبقَ لديه سوى كتيبة «الحافظية»، وهم حملَة القرآن الكريم وحرس السيد أحمد الشريف الخاص، وكتيبة أخرى من الحاسة، وثالثة من العبيدات، ومدفعَين من طراز «مانتل» القديم، ومدفعي ماكينة بقيادة الضابط فوزي، وطوبجية مدفعين بقيادة ضياء، وبلوك واحد من الزنوج السنوسيين، واستقرَّت هذه القوة الصغيرة في قربة، وكانت تتألَّف من حوالي المائتين أو الثلاثمائة مقاتل.

وكان في أثناء اهتمام المجاهدين بإرسال التمر وقواتهم المحاربة إلى جغبوب أن استطاع الإنجليز من ناحيتهم إتمام استعداداتهم العسكرية في مرسى مطروح، فقاموا بهجومٍ مفاجئ على مراكز المجاهدين في قربة، ونشبت معركة حامية بين الفريقين، وكان صالح حرب يتولى قيادة المجاهدين، وقد أبدى مهارة فائقة في تعطيل حركات العدو ومناوراته العسكرية. ولمَّا كان مع الإنجليز ثلاثمائة سيارة، منها ستٌّ وعشرون سيارة مدرعة، فقد رأى قائد المجاهدين أن من الحكمة أن ينسحِب أمام تفوُّق الإنجليز في الرجال والأسلحة، وأشار على السيد أحمد الشريف بالانسحاب من حطية أم عشا، ثم تمكن صالح من الانسحاب هو الآخر بمدافعه وذخيرته وقوته بسلام إلى أم عشا، ثم تابع الجميع سيرهم حتى وصلوا إلى «المناصب»، حيث وجدوا العدو الذي أخذ يتعقَّبهم يسد عليهم الطريق بسياراته في السهل، غير أن عجز السيارات عن الصعود على الغرود (وهي التلال الرملية المنحدرة) حتى أخذ المجاهدون أماكنهم، ما لبث أن فوت على العدو غايته، ووصل المجاهدون إلى قرية «حطية» الشهيات، ومنها إلى الجغبوب، فدخلوها بسلام في أوائل عام ١٩١٧م.

ويقول محمد صالح حرب (باشا): «وقد أقمنا في الجغبوب أسبوعًا واحدًا، ثم جاءنا خطاب من السيد محمد إدريس السنوسي وهو بعكرمة، مضمونُه أنه جاءه إنذار من الإنجليز يقولون فيه إنه إذا لم يبرح السيد أحمد الشريف ومحمد صالح حرب جغبوب في خلال أيام محدودة فإنهم سيُضطرون إلى تدمير جغبوب وتحطيم مقام السيد محمد بن علي السنوسي المشيَّد بها، وأنهم — أي الإنجليز — احترامًا منهم لقداسة هذه البقعة رأوا أن يوسِّطوا السيد محمد إدريس حتى يمنع هذه الكارثة الخطيرة التي ستترتَّب على وجود السيد أحمد الشريف ومحمد صالح حرب بالجغبوب، وذلك بأن يعمل على ترحيل قوات المجاهدين منها.» وأحدثت هذه الرسالة في نفس السيد أحمد الشريف قلقًا شديدًا؛ لأنه خشي أن ينفذ الإنجليز عزمهم فيُدمرون القبة، وعلاوةً على ذلك فإن السيد أحمد لم يشأ أن يُعطِّل بوجوده في الجغبوب اتفاقات الصلح بين السيد محمد إدريس وبين الإنجليز والطليان، فقرَّر مغادرة الجغبوب إلى واحات جالو وأوجلة، على الرغم من طول المسافة ومشقَّات السير وانعدام وسائل النقل الكافية لحمل المجاهدين، ويبلغون حوالي الأربعة آلاف، وحمل الماء اللازم لسقايتهم في أثناء هذه الرحلة المُرهِقة. ولم يشأ السيد أن يسمع لرأي صالح حرب، وكان قد غدا «فريقًا» وقائدًا عامًّا لجيشه بعد معارك سيوة، وفضل الانسحاب من جغبوب وعدم تعريض مقام جدِّه لخطر التدمير على الاشتباك مع الإنجليز في معركة أخيرة فاصلة. وعند وصول المجاهدين إلى حطية الفريدغة جاءتهم رسالة أخرى من السيد محمد إدريس يحثُّهم فيها على ضرورة الإسراع بالانسحاب، فرجع كثيرون من المجاهدين إلى مظاعنهم في دفنة والجبل الأخضر، واستأنف الباقون السير حتى وصلوا إلى «الخط»، ثم إلى واحة أوجلة، ثم إلى زلة، فمكثوا بزلة مدة شهر تقريبًا كانوا في أثنائها موضع عناية أهلها الذين أكرموا المجاهدين إكرامًا كبيرًا، ثم ارتحلوا منها إلى واحة مرادة، ثم إلى الجفرة، فقابلهم الشيخ سيف النصر من أولاد «أبو سيف» حاكم هذه المنطقة، وكان أولاد أبي سيف هؤلاء من العرب الشجعان، حاربت قبائلهم الطليان ودفعتهم عن هذه البلاد، وكان من الواضح أنه لم يكن هناك أي انسجام بينهم وبين الأتراك، فضلًا عمَّا كان بينهم وبين رمضان السويحلي صاحب مصراتة من عداء مُستحكم بسبب حادث السيد صفي الدين خاصة. وعلى ذلك فإن وجود المجاهدين مع السيد أحمد الشريف ومحمد صالح حرب في هذه المنطقة ما لبث أن أقلق السويحلي، وانتقلت عدوى هذا القلق إلى نوري باشا الذي بعث إلى مصراتة يطلب إلى صالح حرب أن يبذل ما وسِعه من جهد وحيلة لإقناع السيد أحمد الشريف بأن ينزل بقوَّته إلى ساحل البحر في جهة سرت أو سلطان، لمحاربة الطليان، لإزالة ما يُسببه وجوده في جنوب الوادي من قلقٍ عظيم لدى أهل مصراتة. ولمَّا كان السيد أحمد الشريف قد عقد النية على التوجُّه إلى الفزان ثم إلى السودان الغربي إذا لزم الحال، فقد لقي صالح حرب صعوبات عدة في إقناع السيد أحمد، ولكن تغلَّب عليها، فنزل الجميع إلى الشمال ووصلوا إلى سلطان وعسكروا في جهة العقيلة، وعمد صالح حرب قبل القيام من الجفرة إلى إرسال كتاب مع الطبيب المِصري سيد دسوقي إلى نوري باشا، أوضح له فيه عزمَهم على النزول إلى الشمال، وشرح له سوء حال المجاهدين وحاجتهم المُلحَّة إلى السلاح والذخيرة والملابس والمال، حتى يتمكنوا من قتال الطليان. أما المجاهدون فقد عسكروا في العقيلة حتى بدءوا يُنظمون سراياهم لمناوشة الطليان، ثم أرسل صالح حرب أحد الضباط المصريين وهو عبد القادر طراف ومعه جماعة قليلة من الضباط العرب حتى يأتوا بالقافلة التي أزمع نوري باشا إرسالها من مصراتة محملة بالمؤن والأسلحة لنجدة المجاهدين إثر وصول الدكتور سيد دسوقي برسالة صالح حرب إليه. وفعلًا قامت القافلة المرتقبة وكان على رأسها سيد دسوقي وعبد القادر طراف مع بعض الجند الهجانة المصريين والمجاهدين العرب، ولكن لم تكَد هذه القافلة تبتعِد عن مصراتة بمرحلةٍ واحدة فقط حتى فاجأهم كمين أعدَّه رمضان شتيوي، فأوقعوا بهم مقتلةً عظيمة غدرًا وخيانةً وهم رقود، فاغتالوهم عن آخِرهم. ويقول صالح حرب باشا: «وهنا كاد يُفلت من يدي زمام القوات الموجودة معي؛ لأن المجاهدين أصرُّوا على مهاجمة مصراتة اقتصاصًا من هؤلاء على فعلتهم الشنيعة، ولو أدى هذا العمل إلى هلاك المجاهدين جميعًا، وقد استطاع السيد أحمد الشريف بفضل ما كان يتمتَّع به دائمًا من نفوذ عظيم على المجاهدين، ويُعاونه صالح حرب، بعد جهود شاقَّة مُضنية، أن يصلا إلى تهدئة النفوس الثائرة، ولو أن هذا لم يحُل دون تسلُّل بعض المجاهدين في صورة عصاباتٍ مسلحة للانتقام من مصراتة. وقاسى المجاهدون في سلطان والعقيلة عنتًا وإرهاقًا عظيمَين بسبب عدم وصول القافلة، فقضوا حوالي سبعة عشر يومًا يقتاتون بالعُشب فحسب، حتى انكشفت هذه الغمة أخيرًا عندما أرسل السيد محمد إدريس وبعض الرؤساء المُخلصين في بني غازي الأرزاق والأقوات إليهم، وذهب صالح حرب من العقيلة إلى مصراتة للوصول إلى رأي في مسألة إمداد معسكرات المجاهدين بالمؤن والأسلحة اللازمة، فقابل هناك الأمير عثمان فؤاد وعبد الرحمن عزام ورمضان شتيوي، ثم عاد أدراجه إلى العقيلة. وبقِي السيد أحمد الشريف في العقيلة حتى أغسطس ١٩١٨م، وعندئذٍ وصلت السيد أحمد دعوة من إستانبول لحضور حفلة تتويج السلطان الجديد محمد وحيد الدين (السادس) وتقليده السيف، فغادر السيد أحمد الشريف ومعه محمد صالح حرب طرابلس على نفس الغوَّاصة الألمانية التي أحضرت هذه الدعوة، غير أنه قبل مغادرة السيد أحمد الشريف الأقطار الليبية بمدةٍ طويلة كانت زعامة المجاهدين في ليبيا قد انتقلت إلى السيد إدريس السنوسي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥