الزعامة الجديدة
السيد محمد إدريس المهدي هو ابن خليفة السنوسيين، الأول: السيد المهدي وحفيد مؤسس السنوسية السيد محمد بن علي السنوسي الكبير، وُلد — أعزَّه الله — بزاوية الجغبوب في العشرين من شهر رجب في عام ١٣٠٧ﻫ (الموافق ١٢ مارس ١٨٩٠م)، نشأ في رعاية أبوَيه، حتى إذا تُوفيت والدته الكريمة، والسيد ما يزال في دور الطفولة، احتضنَتْه جدَّته لوالدته، وعُني والده بتنشئته تنشئةً صالحة طيبة، فبدأ يحفظ القرآن الكريم وهو في سنِّ السابعة على والده السيد محمد المهدي وكان هذا في الكفرة، لأن السيد محمد المهدي كان قد نقل مكان إقامته في الجغبوب إلى هذه الواحة البعيدة بعد مولد ابنه بأربع سنواتٍ تقريبًا (١٨٩٤م).
وظل السيد محمد إدريس يحفظ على أبيه آي الذِّكر الحكيم مدةً، أوفدَه والده بعدها لتلقِّي العلم على أيدي شيخٍ عُرف بالصلاح والتقوى، مع أخيه السيد محمد الرضا وأبناء عمِّه أبناء السيد محمد الشريف. ثم حدث أن تُوفِّي السيد محمد المهدي (في أول يونيو ١٩٠٢م)، فكفلَهُ ابن عمِّه السيد أحمد الشريف. ولمَّا كان السيد أحمد الشريف كبير الأسرة في ذلك الحين بعد وفاة عمِّه، فقد تولَّى زعامة السنوسيين وصيًّا على السيد محمد إدريس أكبر أبناء السيد محمد المهدي وخليفته الشرعي. واستطاع السيد إدريس التفرُّغ لطلب العلم، فحضر على عددٍ من أفاضل العلماء اشتهر من بينهم السيد العربي الفاسي والسيد أحمد أبي سيف والسيد العربي الغماري والسيد حسين السنوسي (وكان شيخًا لزاوية الجغبوب في المدة الأخيرة). ولمَّا كان السيد أحمد الشريف ابن عم السيد إدريس عالمًا جليلًا، فقد حضر السيد إدريس عليه دروسًا منوعةً كما حضر على السيد أحمد الريفي أستاذ ومرشد السيد أحمد الشريف نفسه، فحصَّل السيد إدريس بفضل ذلك كلِّه شيئًا كثيرًا، وأتقن القراءات وعلوم الحديث كما أتقن البخاري ومسلم ومُسند أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وموطَّأ مالك ومسند أبي حنيفة والإمام أحمد وكتاب الأم للشافعي، وغير ذلك من كتب الفقه والحديث والتفسير واللغة. وفضلًا عن ذلك فقد درس السيد علوم التاريخ وتقويم البلدان، ووُفِّق، أعزه الله، في دراسته، فحصَل على إجازاتٍ عدة، وانتهى دور التحصيل والسيد يبلُغ العشرين ربيعًا تقريبًا، وكان ذلك في عام ١٣٢٧ هجرية (١٩٠٩ ميلادية).
ولمَّا كان السيد أحمد الشريف لا يزال يتولَّى زعامة السنوسية ويقود الجهاد في السودان الغربي ضد الفرنسيين، لم يشأ السيد إدريس أن يطلُب إلى ابن عمه أن يتخلَّى عن الزعامة لصاحبها الشرعي، وفاءً منه للسيد أحمد الشريف الذي كفلَه بعد وفاة أبيه، والذي كان يحمِل في نفسه إجلالًا وتعظيمًا لعمِّه السيد المهدي والد السيد إدريس، ويتَّخذه قدوةً صالحة يقتدي بها، كما أن السيد إدريس من جانبه كان يُكنُّ له الحب والاحترام ويُبجله لكِبر سِنِّه، ويحرص على شعوره حرصًا جميلًا، فرضي لذلك كله بأن يظلَّ السيد أحمد الشريف في زعامته. وتجلَّى حرص السيد إدريس على جمع كلمة المسلمين ولمِّ الشمل وعدم التفرقة عندما تأزَّمت الأمور، وقتَ أن بدأ الطليان اعتداءهم المَمقوت على القطر الليبي، ورأى فريق كثير من الإخوان — وهم الأعضاء العاملون في الطائفة — أنْ يُنَحُّوا السيد أحمد الشريف عن الزعامة، وعرضوا على السيد محمد إدريس أن يتولَّى منصب الزعامة حقًّا موروثًا (١٩١١م)، فقد رفض السيد إدريس عروضهم وجمع بذلك كلمة المجاهدين، وأبلى المجاهدون في الحرب بلاءً عظيمًا، على الرغم من أن الطليان — كما سبق ذكر ذلك — استطاعوا احتلال المدن الساحلية، حتى إذا سقطت بنغازي في أيديهم في أكتوبر ١٩١١م استقر رأي الإخوان السنوسيين، بعد التشاور فيما ينبغي اتخاذه من إجراءات تكفل تنظيم المقاومة الجدية في داخل البلاد، على أن يذهب السيد أحمد الشريف إلى الجغبوب بينما يبقى السيد محمد إدريس بواحة الكفرة، يقوم على تصريف شئونها العامة مكان ابن عمِّه السيد أحمد الشريف. وكان السيد أحمد لا يزال بالجغبوب عندما قبِل العثمانيون صُلح أوشي مع الطليان، وتقرَّر عقب ذلك استئناف الجهاد ضد الإيطاليين، وعندئذٍ طلب السيد أحمد إلى ابن عمِّه السيد إدريس الحضور إلى الجغبوب، على أن يستخلف في الكفرة بدلًا منه السيد محمد عابد من إخوة السيد أحمد، فكان ذلك.
وفي أوائل عام ١٣٣٢ هجرية (وأواخر ١٩١٣ ميلادية) رغب السيد إدريس في أداء فريضة الحج، واعتزم السفر عن طريق مصر، فقُوبل، في كل مكانٍ حلَّ به، بترحابٍ عظيم، وكرَّمته الحكومة الخديوية المصرية تكريمًا بالغًا، فأرسل المرحوم عباس باشا حلمي الثاني (آخر الخديويين) قطارًا خاصًّا ينقل السيد من الضبعة إلى سراي رأس التين، ونزل السيد في ضيافة الحكومة المصرية بسراي رأس التين تسعة أيام، استأنف بعدها السفر إلى بورسعيد في ١٤ يونيو ١٩١٤م في قطار خاص، ثم استقل باخرة إلى حيفا، وكان انتقال السيد إلى حيفا في هذه الباخرة على نفقة الحكومة المصرية مبالغةً في إعزازه وتكريمه، وخُصِّص لنقل السيد إلى الحجاز، بأمر أنور باشا، الصالون الخاص الذي استُخدم في نقل الخديوي السابق في حَجِّه، وبمجرد أن وصل إلى المدينة المنورة أُقيم لاستقباله حفل رسمي، ثم تابع السيد سفره إلى مكة المكرمة، وقوبل خارجها بالمكان الذي به مقام عبد الله بن عمر — رضي الله عنهما — بكل إعزازٍ وتبجيل. ثم تكررت مظاهر الحفاوة عند وصول السيد إلى الطائف، وقد أقام السيد بالطائف مدة شهر رمضان، ثم أدى فريضة الحجِّ ورجع بعد ذلك إلى المدينة المنورة، فأدَّى الزيارة ومكث بها مدة شهرَين. ولمَّا كانت نار الحرب العالمية الأولى قد اندلع لهيبُها والسيد ما يزال بالطائف (شهر أغسطس ١٩١٤م)، فقد قرَّر السيد العودة إلى أرض الوطن، فغادر الحجاز إلى فلسطين على أمَل أن يتمكن من العودة إلى بلاده بطريق البحر مارًّا بالديار المصرية، فوجد سفينةً من سفن الشركة الإيطالية على أُهبة السفر إلى بورسعيد، فتزيَّا السيد بزيِّ حاجٍّ مغربي واستقلَّ هذه السفينة مع جماعة كبيرة من صحبِه إلى بورسعيد. وعند وصوله إلى بورسعيد وجد الخديوي قد أُقصِي عن العرش، وأعلنت مصر سلطنةً يتبوَّأ عرشها المغفور له السلطان حسين كامل تحت الحماية الإنجليزية، وينوب عن ملك الإنجليز في مصر السير هنري مكماهون، ويتولَّى منصب القائد العام السير جون ماكسويل، فاستأذن السيد الحكومة المصرية في النزول، ونقلَه قطار خاص إلى القاهرة، حيث جرى استقباله بها رسميًّا، ومكث في ضيافة السلطان حسين كامل بضعة أيام غادر بعدَها القاهرة، ثم ركب البحر إلى بلاده، فبلغ السلوم في وقتٍ كان فيه السيد أحمد الشريف قد انتقل إلى هذه الجهات بجيشه، فنزل السيد عنده، ومكث معه حوالي تسعة شهور يشهد عن كثَبٍ مُجريات الأمور (فبراير–نوفمبر ١٩١٥م).
وكان في أثناء وجود السيد بالسلوم أن حضر «نوري» و«مانسمان» إلى بردي سليمان، وتمَّت مقابلتهما الأولى مع السيد أحمد الشريف في المسيعيد (أو مساعد)، وذلك لتدبير أمر الهجوم على مصر في ظروفٍ سبق بيانُها. كما حدث في هذه الآونة كذلك أن حضر السيد محمد الشريف الإدريسي ونجله الأكبر السيد محمد مرغني إلى المسيعيد لمقابلة السيد أحمد الشريف والتوسُّط في إقناعه بتجنُّب مقاتلة الإنجليز، وقد سبقت الإشارة إلى آراء السيد محمد إدريس القاطعة في عدم استعداء الإنجليز ضد السنوسيين وهم في جهادهم المرير مع الطليان، وتجنب الهجوم على مصر حتى لا تُقفَل الطرق التي تأتي منها المؤن والمساعدات إلى المجاهدين. ومن الثابت أن السيد محمد إدريس كان لا ينفكُّ يُكرِّر النصح للسيد أحمد حتى لا ينساق في أعمالٍ عدائية مع الأتراك ضد الإنجليز لِما يُسببه ذلك من أضرارٍ جسيمة تلحق بالأقطار الليبية لا محالة. كما أن السيد لم يكتم عن الوفد الإدريسي رأيه، وكان رأيًا معروفًا مشهورًا، ولكن السيد أحمد الشريف لم يأخذ بنصيحة ابن عمِّه، بل قرَّر، في الظروف التي تقدَّمَ بيانها، الزحفَ على حدود مصر الغربية، فكانت تلك الوقائع التي أفضت في النهاية إلى انسحاب السيد أحمد الشريف إلى واحة الجغبوب والتحصُّن بها.
وأمام انسياق السيد أحمد الشريف إلى التورُّط في الحرب مع نوري ومانسمان وأعوانهما ضد الإنجليز وإغفال نصيحة ابن عمِّه السيد إدريس، لم يعُد هناك مسوغ لبقاء السيد بالمسيعيد، فانتقل إلى الجبل الأخضر. ومن رأي بعض الكُتاب أن انتقال السيد إدريس من المسيعيد كان يحمل معنى الاحتجاج على إشراك المجاهدين في النضال الجديد وإغفال نصيحته، بيد أن السبب الأهم لانتقال السيد وقتذاك أن السيد أحمد الشريف عندما قرَّر الاشتراك مع نوري ومانسمان في الهجوم على الحدود المصرية الغربية رأى أن يُرتِّب شئون الإدارة في برقة حتى يتفرَّغ هو للجهاد، فقسَّم — رحمه الله — القُطر البرقاوي إلى مناطق، وجعل السيد إدريس على منطقة برقة ومركزه في أجدابية، على أن يكون تحت إشرافه في دفنة السيد محمد هلال وهو من إخوة السيد أحمد، بينما تسلَّم السيد محمد الرضا أخو السيد محمد إدريس الإدارة في الجبل الأخضر، وأرسل السيد أحمد لتزعُّم الثورة في طرابلس السيد محمد صفي الدين من إخوة السيد أحمد الشريف، كما أرسل السيد محمد عابد من إخوته كذلك إلى الفزان والقبلة (الجبلة) في طرابلس أيضًا، ثم انتقل السيد أحمد الشريف نفسه بعد ذلك إلى الجغبوب ومنها إلى الواحات البحرية والفرافرة والداخلة لتنفيذ خطة الهجوم على الحدود المصرية على نحوِ ما سبق تفصيله. وعلى ذلك انتقل السيد محمد إدريس إلى برقة — وهي من أهم المناطق — للقيام بأعباء الحكومة بها في هذه الظروف العصيبة دون مراعاة أي اعتبارٍ آخر.
وفي الوقت الذي كان فيه السيد أحمد الشريف يشنُّ الغارة على الحدود المصرية، كان السيد إدريس يدير دفَّة الحكم في برقة بكل حزمٍ ومهارة، فأظهر مواهبه كرجل الإدارة المُحنك والحاكم الحازم. وكانت برقة تشكو، في هذه الفترة المُضطربة، اختلال الأمن وتعرُّض الأهلين لشرور المُفسدين، فضرب السيد إدريس على أيدي هؤلاء المُفسدين، واستصدر من علماء البلاد «فتوى» لإعدام بعض السودانيين الذين وجدَهم يعيثون في الأرض فسادًا، ينهبون الأموال ويفتكون بالأرواح بغيًا وعدوانًا، «فكانت هذه المسألة ضربةَ لازبٍ قضت على كلِّ من تُحدِّثه نفسه بالعبث بالأمن والنظام من المُفسِدِين والأشرار الآثمين.»
وعندما انهزم السيد أحمد الشريف على أيدي الإنجليز عند الحدود المصرية، رأى السيد أحمد أن يكتفي بالزعامة الدينية، ونزل عن كل سلطاته الإدارية والعسكرية، فأصبح السيد إدريس يُمارس هذه السلطات كاملة في دفنة وبرقة وسِرت الشرقية، يُساعده كلٌّ من السيد محمد هلال والسيد محمد الرضا، بينما صارت للسيد محمد صفي الدين هذه الاختصاصات في منطقة سرت الغربية وطرابلس، وصار للسيد محمد عابد مثلها في الفزان والجبلة، وأُعطي مثلها كذلك علي الخطاني في واحات الوسطة «أوجلة وجالو وكفرة».
وكانت مهمة السيد محمد إدريس في برقة مهمةً شاقة عسيرة، وبخاصة بعد ذلك الفشل الذي أصاب المجاهدين تحت زعامة السيد أحمد الشريف على أيدي الإنجليز؛ فإن برقة كانت تُعاني الأمرَّين في الحقيقة من جرَّاء انتشار المجاعة بها وقتذاك (١٩١٥م) بسبب احتباس الأمطار. وفضلًا عن ذلك فإن أرجال الجراد ما لبثت أن غزت البلاد في العام التالي، فأتت على الزرع وانتشر وباء الطاعون (خصوصًا في عام ١٩١٧م)، وظل المطر مُحتبسًا طوال هذه المدة تقريبًا، فكان أعظم بلاءٍ شهدته برقة في تلك الآونة هو بلاء المجاعة التي تسلَّل شبحُها المُخيف يُهدد البلاد بالفناء العاجل، عندما صار يموت الألوف من الأهلين جوعًا، فامتلأت شوارع أجدابية بأشلاء الموتى، واضطُرَّ الأحياء إلى أكل لحوم هؤلاء الموتى، بل ذهب الجوع بعقل امرأة فأكلت لحم ابنةٍ لها، وطلب الأحياء الهزالى ما يسدُّون به الرمَق من أي سبيل، واضطُرَّ كثيرون منهم إلى تسليم ما معهم من أسلحةٍ إلى الأعداء الطليان لقاء حفنةٍ من الأرز يتبلَّغون بها. وكان من آثار الحملة التي قادها السيد أحمد الشريف على الحدود المصرية أن أُغلِقت السوق المصرية في وجه المجاهدين وأهل البلاد عمومًا، وهي السوق التي كانت تأتيهم منها الأرزاق، ويبيع العرب فيها ما كان لدَيهم من سِلَع ومتاجر يستبدلون بها ما يحتاجونه من أقواتٍ وذخيرة، فأُغلِقت الآن من دونهم، كما سُدَّت السلوم في وجوههم، وساءت أحوالهم من جرَّاء ذلك كثيرًا. وأمام هذا الخطر الماثل والفناء العاجل الذي نجم بدرجةٍ كبيرة عن تلك الحرب التي أثارها الأتراك مع الإنجليز واشترك فيها السيد أحمد الشريف، لم يجد السيد محمد إدريس مناصًا من أن يُوضِّح وجوه المسألة للسيد أحمد الشريف، ويُحذِّره عواقب التمادي في هذه الخطة التي وضعت أهل البلاد أمام أمرَين لا ثالث لهما: إما الجدب والقحط وإحاطة العدو بالمجاهدين شرقًا (الإنجليز) وغربًا (الطليان)، وإما عقد السلام ولو بصفةٍ مؤقتة بين المجاهدين وبين أعدائهم الإنجليز والطليان «لفتح السكة»، وكان لا مفرَّ من هذا الأمر الأخير كعلاجٍ سريع حاسم.
والواقع أن السيد إدريس منذ أن تسلَّم مهامَّ الأمور في برقة واستقامت له أحوالها، وشهد هذه الأخطار مجتمعةً تُهدِّد كيان البلاد ذاته، كان يتدبَّر الموقف ويُقلِّب وجوه الرأي فيما يجِب اتخاذه من وسائل لدفع هذه الغمَّة، ووجد أن الوقت قد أزِف لبروزه إلى الميدان سيدًا شرعيًّا للسنوسية، من الناحيتَين السياسية والدينية على السواء، يؤيده في ذلك الإخوان أعضاء الطريقة السنوسية العاملون. وكان من رأيه أن سياسة التفاهم مع العدو والوصول، على الأقل، إلى اتفاقٍ مؤقت كحلٍّ وسط يُقرب، بقدْر الإمكان، بين وجهات النظر، هو أسلم الحلول في هذه الظروف القاسية لفتح الطرق والأسواق المصرية خصوصًا؛ حتى يمكن القضاء على المجاعة.
ومع هذا فقد كانت هناك عدة عوامل جعلت من الحكمة ومن أصالة الرأي السياسي الوصول إلى هذا «الحل الوسط والمؤقت» مع الأعداء، وأهم هذه العوامل، بعد حفظ كيان البلاد من غائلة المجاعة، ما كان يعرفه السيد إدريس عن رغبات الأهلين الحقيقية؛ لأن رجال القبائل الذين سلَّموا أسلحتهم إلى الطليان في نظير الحصول على ما يقتاتون به كانوا يُريدون ضرورة إنهاء القتال مع الإنجليز، حتى يتم فتح الطرُق إلى الأسواق المصرية خصوصًا، فيتمكَّنون، بفضل ذلك، من الصمود في النضال مع الطليان. فقد عقد وجوه وأعيان وشيوخ البلاد في برقة والجبل الأخضر، وكذلك رؤساء المجاهدين والقوات المسلحة، اجتماعاتٍ عدة في طول البلاد وعرضها، وأعدُّوا «مضابط» كثيرة يبسطون فيها شكواهم من الحالة السيئة والخطيرة التي وصلوا إليها بسبب المجاعة والحرب، ويطلبون إلى السيد أن يتدبَّر الأمر بحكمتِه، حتى يجِد لهم وللبلاد مخرجًا من هذه الأزمة السياسية والاقتصادية التي استحكمت حلقاتُها وهددتُهم بالفناء العاجل. على أن أهم ما كان يسترعي النظر في هذه «المضابط» أن أصحابها ألحُّوا على السيد في ضرورة عقد الصلح مع الإنجليز حتى يتمكنوا من التفرُّغ لمُنازلة الإيطاليين أعدائهم، كما طلبوا إلى السيد «أن يُوقف نوري باشا عن حركته المضرة بالبلاد وأهلها.» وأخيرًا فوَّضوا للسيد نفسه الرأي فيما يجب اتخاذه من إجراءاتٍ تكفُل تحقيق المصلحة العامة.
ولا جدال في أن موقف العثمانيين أنفسهم منذ أن قرَّروا استئناف القتال في القُطر الليبي عند نشوب الحرب العالمية الأولى، كان لا يدعو إلى الارتياح والاطمئنان إلى أغراضهم، بل يُضعف الثقة في نواياهم؛ ذلك أن العثمانيين الذين دبَّروا ذلك الهجوم الفاشل الذي أشركوا فيه السيد أحمد الشريف على الحدود المصرية، وكانوا من عوامل اشتداد بلاء المجاعة في البلاد، ساءهم أن يرَوا السيد محمد إدريس يُدير شئون برقة والجبل الأخضر بنجاح، فرفضوا بادئ ذي بدءٍ الاعتراف بزعامته الدينية على السنوسية — وهو حقُّه الشرعي — وكانت لهم مِن هذا الموقف غايات، ثم سعوا الآن يبذرون بذور الشِّقاق والتفرقة بين المجاهدين ويناوئون الزعامة السنوسية ذاتها بدرجاتٍ أثارت تذمُّر وشكوى السيد أحمد الشريف نفسه، وصاروا يعملون لانتزاع الفزَّان من قبضة السنوسيين. وكان معنى ضياع الفزان ضياع ليبيا بأجمعها.
فقد كان من أثر إلحاح نوري على السيد أحمد الشريف في الظروف التي سبق بيانُها، بصدد الهجوم على الحدود المصرية، ثم إخفاق هذا الهجوم، أن فقَدَ نوري باشا عطف السنوسية. وكان من أسباب نفور السنوسيين منه أنه أكثر مَن بذل الوعود السخيَّة عن جلب الإمدادات والنجدات الكثيرة وعلى جناح السرعة. ومع ذلك فإن شيئًا من هذه الوعود لم يتحقَّق، ولم يتلقَّ السيد أحمد الشريف، في آخر مراحل نِضاله مع الإنجليز في الواحات وسيوة، معونة أو نجداتٍ ما من العثمانيين، حتى إنه اضطُر إلى الانسحاب إلى جغبوب في بداية عام ١٩١٧م. وشعر نوري باشا بحرَج موقفه ونفور جمهرة السنوسيين منه، فطفق الآن يُدبر الخطط للنيل من السنوسية ذاتها وإضعافها بتصويب ضربةٍ قاتلة إلى أهم مراكز قوَّتهم الباقية، بتحريك الثورة ضد السنوسية في الفزان. وكان يقوم على شئون الفزان أخو السيد أحمد الشريف: السيد محمد عابد، فاختار نوري لهذه المهمة ثلاثةً من رجاله، هم إحسان ثاقب بك وأصله من طرابلس، والمُلازم أول سنوسي شوكت وهو برقاوي الأصل، والمُلازم ثان محمد الأرناءوطي من المُغامرين الأذكياء؛ فقام ثلاثتهم من أجدابية، المكان الذي استقر به نوري عقب انسحابه من منطقة الحدود المصرية عن طريق مراوة وزلة، واتجه الملازمان صوب «واو» (مكان السيد محمد عابد) ومعهما هدايا له ورسالة بتوقيع «فريق» مِن كبار رجال السلطان العثماني محمد رشاد، وكان الغرض من زيارتهما للسيد محمد عابد وتقديم احترامهما له إخفاء أمر المغامرة التي كان يقوم بها وقتذاك إحسان ثاقب بك.
فقد توجَّه إحسان ثاقب بك إلى مرزوق واستولى عليها باسم تركيا في أثناء ذهاب المُلازمَين إلى الفزَّان ومقابلتهما للسيد عابد، وعندئذٍ انكشف أمر هذا التدبير، وفطن السيد محمد عابد إلى غرض العثمانيين، فسيَّر ضدَّ مرزوق حملتَين، كان نصيب الأولى منهما الوقوع في الأسر، بينما هزَم العثمانيون الحملة الثانية في العدم، واستتبَّ الأمر في مرزوق لثاقب بك، فشرع يؤلِّف قوةً كبيرة من ألف وخمسمائة مقاتل لمواصلة النزال ضد السيد محمد عابد الذي جمع من جانبه جيشًا كبيرًا مُجهزًا بثلاثة مدافع ووضعَه تحت قيادة محمد علي الأشهب.
وفي النضال الثاني استطاع السنوسيون أن يرغموا الأتراك على الانسحاب من زويلة إلى «تراجن». ومع أن الأتراك استولَوا في هذه الأثناء على قافلة كبيرة آتية من جهة «الإير»، مُحملة بالغنائم وتقصد السيد محمد عابد، ومكَّنهم هذا العمل من مقاومة الأشهب مدة، فإنه سرعان ما اشتدَّ الضغط عليهم ونفدت لدَيهم الذخيرة، وأُرغموا في النهاية على الانسحاب إلى مرزوق، ثم إلى إخلاء مرزوق ذاتها في ١٠ يوليو ١٩١٧م والذهاب إلى «سبهة»، وفي «سبهة» وصلت الأتراك إمدادات كثيرة من جهة مصراتة، أي من المكان الذي اتخذه نوري باشا مقرًّا له بعدَ انسحابه من أجدابية في ظروفٍ سوف يأتي ذكرُها. وعلى ذلك فقد استطاع الأتراك أن يصدُّوا هجومًا قام به من «الأبيض» السيد محمد علي الأشهب في ٢٠ أغسطس ١٩١٧م، ودار قتال عنيف بين الفريقَين في هذه المعركة، وانتهز الأتراك فرصة توقُّف السنوسيين عن القتال وانقضُّوا عليهم فجأة في جُنح الظلام، وقضَوا على أكثر قوَّتهم، وطاردوا الأشهب حتى أوقعوه في الأسر، ثم قتلوه بعد أن عذبوه تعذيبًا قاسيًا في مرزوق. وعندئذٍ اضطُر السيد محمد عابد إلى إخلاء الفزان والتقهقُر إلى واحة الكفرة يتحصَّن بها في سبتمبر ١٩١٧م.
كشفت هذه الحوادث الدامية عن نيات الأتراك الصحيحة، وأزالت البقية الباقية من كل ثقةٍ كان لا يزال يضعها فيهم السيد أحمد الشريف، وأولئك السنوسيون الذين ما كانوا يتوقَّعون قطُّ أن يغدُر بهم العثمانيون على هذه الصورة. وفضلًا عن ذلك، فقد زادت هذه الحوادث السيد إدريس عزمًا فوق عزمِه على ضرورة المفاوضة مع الإنجليز من غير إمهال؛ لا ليضع حدًّا للمجاعة المُهلكة فحسْب، وإنما لتدارُك الموقف في الفزان كذلك.
غير أن هذه لم تكن كل الصعوبات التي صادفها السنوسيون وقتذاك بسبب تدابير نوري باشا والعثمانيين في برقة (على الحدود المصرية)، وفي الفزان (على النحو الذي تقدم وصفه)؛ ذلك أنه في الوقت الذي كان فيه العثمانيون يُرسلون للسيد أحمد الشريف كُتب السلطان وأنور باشا، ثم فرمان تعيينِه نائبًا عن السلطان في جميع القطر الليبي، بما في ذلك طرابلس، «ومُمثلًا له في أفريقية»، وهذا فضلًا عن فرمان آخر بتوليته منصب الوزارة، ثم هدايا السلطان، مثل كسوة التشريف وخاتم من الماس وليرات عثمانية من الذهب إلى غير ذلك، وفي الوقت الذي كان فيه نوري باشا يُكرِّر وعوده للسيد أحمد بتأييد تعيين السيد نائبًا عن السلطان في القُطر الليبي وإرسال النجدات والإمدادات، خصوصًا في الفترة التي سبقت سقوط السلوم في أيدي الإنجليز (مارس ١٩١٦م)، نقول إنه في أثناء ذلك كلِّه كان نوري باشا يجفو في معاملة السيد أحمد، ويسعى لحرمانه من السلطة عمليًّا، ثم لا يكتفي بتدبير المؤامرة لانتزاع الفزَّان من أيدي السنوسيين، بل يعمل لتأييد سليمان الباروني في طرابلس وإقصاء نفوذ السنوسية من هذا القُطر إقصاءً تامًّا، حتى إن السيد محمد إدريس نفسه لم يجد بدًّا من تذكير ابن عمه بهذه الأمور التي أفقدته وأفقدت السنوسيين عمومًا الثقة في وعود الأتراك أو الاطمئنان إلى أغراضهم في رسالة أثبت ترجمتها المؤرخ الإيطالي «سيرا»، وكان قد بعث بها السيد إدريس إلى ابن عمِّه في ٢٦ ربيع أول ١٣٣٥ﻫ (٢ يناير ١٩١٧م)، وتساءل فيها السيد إدريس عن ثمرة وعود الأتراك المُتكررة عندما أرسل هؤلاء «الباروني» ممثلًا لجلالة السلطان في طرابلس، وأعطوه أسلحةً وذخيرة، وزوَّدوه بمنشوراتٍ كثيرة بمقدار ما يملأ الدنيا منها، بينما أنتم — مخاطبًا السيد أحمد الشريف — تُجاهدون من أجلهم، وهم لا يكتفون بعدم الاهتمام بكم، بل يغدرونكم بإرسال خائن إلى بلادكم ويبذلون له كل مساعدة، في الوقت الذي يتحدَّث فيه، فقط وقبل كل شيء، عن طرابلس، ولا يذكر السنوسية بكلمةٍ واحدة». وفضلًا عن ذلك، فإن السيد أحمد — على حدِّ ما جاء في هذه الرسالة — كان يقول دائمًا: «إن أنور «أخبره» بأن السلطان أصدر فرمانًا بتعيينه نائبًا عن الخليفة في أفريقية، ولكن ما قيمة هذا الكلام إذا كانت الأقوال تختلف عن الأفعال؟ فإلى متى يجِب علينا نحن وأتباعنا أن نقف مكتوفي الأيدي أمام هذه الوعود الباطلة الكثيرة التي سوف تنتهي من غير شكٍّ بنتيجة واحدة، هي القضاء علينا وعلى أوطاننا، ويا لها من كوارث عظيمة تلك التي نزلت بأهل هذا الوطن! لقد أكثرَ الأتراك من الوعد بإرسال النجدة إبَّان حملة الحدود المصرية «من الوقت الذي سبق مسألة السلوم وسقوطها إلى أيامنا هذه، ويكفي ما سبَّبه ضياع السلوم من آثار سيئة في نفوس المجاهدين والمُسلمين قاطبةً. ويكفي ما سببته هذه الحملة الفاشلة من بلاء نزل بالوطن وأهله.»
والواقع أن هذه الرسالة التاريخية — وكانت ردًّا على كتاب من السيد أحمد الشريف إلى السيد إدريس في ٢٥ صفر ١٣٣٥ﻫ (٢١ ديسمبر ١٩١٦م) بعد فشل حملته وانسحابه إلى سيوة — تُظهر بجلاء مقدار الاختلاف الواقع بين الزعيمَين المجاهدَين في تقدير الأمور من وجهة نظر السياسة وتدبُّر عواقب الأمور، ومقدار ما بلغه السيد محمد إدريس نفسه من مكانةٍ رفيعة كزعيم للمجاهدين ورئيس ديني يحتلُّ مركزه الشرعي، ثم يفرض احترام شخصه وآرائه فرضًا على السيد أحمد الشريف وعلى بقية المجاهدين بفضل ما أثبت من حنكةٍ ودراية وهو يسوس شئون الحكم في أجدابية، ثم ما أظهر من بُعد النظر السياسي وهو يُلقي هذه التوجيهات على ابن عمِّه ويسوق أمامه الموعظة بعد الموعظة.
قال أعزه الله مخاطبًا السيد أحمد في هذه الرسالة نفسها: «هل لا تنظر إلى ما حدث للشريف حسين أمير مكة الذي عيَّنه الأتراك ثم وجد تحقيقًا لمصلحة بلاده أن ينقلِب عليهم، ثم أُرغم على الوقوف خصمًا لهم، فأعلن استقلال البلاد، ووافقت الدول المتحالفة على ذلك، ونُودي به ملكًا على العرب، وهو الآن يبذل قصارى جهده في إدارة شئون بلاده، فيؤسس المجالس وينشئ الإدارات والمصالح، ولو أنه قبل أن يدخل الحرب إلى جانب الأتراك لكان الحلفاء الآن يحتلُّون مملكتَه كما احتلوا البصرة (العراق) ومناطق أخرى، فالملك حسين كوَّن جيشًا كبيرًا الآن، ويُريد احتلال الشام وأرسل إليه الضبَّاط، وجاءت المدفعية من مصر ووصله كلُّ ما يحتاج إليه للقيام بحركة واسعة، وأذاع في العالم الإسلامي أنه لا يريد بالإسلام شرًّا وإنما يعمل فقط ضد جماعة الاتحاد والترقي، ويذكر في خطبه اسم الخليفة العثماني، وهو الخليفة المُقيَّد والذي فقد كل سلطةٍ بفضل القيود التي فرضها عليه أولئك الذين أحاطوا به من كل جانبٍ من هؤلاء الاتحاديين، وقرَّر العرب المحافظة على شرفهم والذَّود عنه ضد هؤلاء الجماعة أيضًا، فأقاموه ملكًا عليهم. ثم حدِّثني بالله يا سيدي كيف يستطيع الأتراك غزو مصر ودخولها، وهم الذين أخفقوا في محاولة استرجاع الحجاز؟ وهل لا تنظر يا سيدي إلى السيد إدريس في بلاد اليمن؟ فهو يحتفظ دائمًا باستقلاله، ويتمسَّك بحياده، وهذا على الرغم مما يفعله الإنجليز الذين يُحاولون إقناعه بمحاربة الأتراك، ومما يفعله الأتراك الذين يُريدونه أن يُحارب الإنجليز، ولكنه لا يريد أن يورِّط نفسه في شيءٍ من هذا كله، وكان في إمكانكم أن تفعلوا مثل هذا قبل حادث السلوم، وكان في أيديكم الإنجليز والترك معًا، ولكن ما فائدة الحسرة على الماضي والندم على ما فات، إن الذي أُريد أن أسترعي نظركم إليه هو العالم الإسلامي؛ لأن الإسلام يريد يا سيدي أن يعرف، ومِن حقِّه أن يُدرك ويفهم فهمًا صحيحًا ما تفعلون وما تُريدون، ويجب علينا قبل كل شيء الانتباه إلى ما فيه فائدتنا وما يُحقق مصلحة بلادنا حتى لا نذهب ضحية لغيرنا.»
وقد تُبُودلت هذه الرسائل بين السيدَين في وقتٍ كان فيه السيد محمد قد بدأ مفاوضات، لكل هذه الأسباب التي ذكرت، مع الإنجليز ثم مع الطليان، على أمل الوصول إلى ذلك الاتفاق المؤقَّت والحل الأوسط الذي يكفل فتح الطريق من مصر وإزالة شبح المجاعة من البلاد، وجمع كلمة القبائل والمجاهدين خصوصًا في بلاد برقة، ثم يتمكَّن الزعماء السنوسيون بفضله من تصفية الموقف في الفزَّان ثم في طرابلس. على أنه مما يجدُر ذكره كذلك أن السيد محمد إدريس بعد أن أجمع وجوهُ البلاد وأعيانُها وشيوخُها على الرأي الذي أثبتوه في «المضابط» الكثيرة التي قدَّموها للسيد، لم يشأ الدخول في المفاوضة مع الإنجليز قبل أن يوضح الحالة على حقيقتها للسيد أحمد الشريف الذي بعث بدوره، وكان وقتئذٍ في الواحات الداخلة، يقول من فوره مخاطبًا السيد إدريس: «أنقذ البلاد مما وقعت فيه، ويرى الحاضر ما لا يرى الغائب، وأنا موافق على مطالب أهل الوطن حيث إن لهم حقًّا في ذلك.»
قرَّر إذن السيد محمد إدريس المفاوضة مع الإنجليز، وكان مما يَسَّر على السيد مهمته أنَّ الوفد الذي حضر إلى المسيعيد من السيد محمد الشريف الإدريسي والسيد محمد مرغني للمفاوضة مع السيد أحمد الشريف، ثم رجع إلى مصر بعد انسحاب «سيسل سنو» من السلوم إلى مرسى مطروح، كان قد اقترح على ولاة الأمور في مصر أن يتَّصلوا بالسيد محمد إدريس لما شهده في السيد من صفات الحزم وأصالة الرأي، وعرَفَه عن معارضته الأعمال العسكرية التي يُدبرها نوري وجعفر العسكري، فأذِن هؤلاء للوفد بأن يكتب إلى السيد إدريس بغية الوصول إلى اتفاق معه، وشرع الإنجليز من ذلك الحين يُخاطبون السيد في الصلح على أساس إخراج نوري باشا وصحبه من الأتراك من برقة، ثم إسداء النُّصح لابن عمِّه السيد أحمد الشريف حتى يخرج من الجغبوب التي تحصَّن بها بعد انسحابه من سيوة، وقد هدد الإنجليز على نحو ما تقدَّم بالهجوم على الجغبوب ذاتها — وبها ضريح السيد محمد بن علي السنوسي الكبير — والاستيلاء عليها عنوةً إذا أصر السيد أحمد الشريف على البقاء بها (مارس، أبريل ١٩١٦م)، وهذه شروط كان من الميسور المناقشة في سبيل الاتفاق على أساسها؛ ولذلك أبلغ السيد إدريس القنصل الإنجليزي في بنغازي رغبته في أن يحضر السيد محمد الشريف الإدريسي حتى يكون وسيطًا في المفاوضة، كما أرسل في الوقت ذاته وفدًا مؤلفًا من السيد عمر المختار والسادة إبراهيم المصراتي وخالد الحموي ومرتضى الغرياني لمقابلة نوري باشا في معسكره، وكان نوري لا يزال في هذه الآونة مُقيمًا بالبطنان على مقربة من خليج بنبة في مكان يُسمى العقيلة الشرقية، وذلك حتى يطلبوا إليه صراحةً القدوم إلى أجدابية، مقر السيد إدريس، والابتعاد عن الحدود المصرية. ولما كان نوري باشا لا يزال يرجو التأثير في العرب والمجاهدين في عهد الزعامة الجديدة حتى يستبقيهم إلى جانبه في النضال ضد الإنجليز، ولمَّا كان قد انعدم في الواقع أمام انتصارات الإنجليز المُتتابعة في هذه الجبهة أيُّ أملٍ في إمكان استئناف الهجوم على الحدود المصرية، وفشلت كذلك حملة الأتراك الموجهة ضد حدود مصر الشرقية، فقد وجد نوري من حُسن السياسة أن يُجيب هذه الرغبة. وعلاوةً على ذلك فقد وجد نوري في ذهابه إلى السيد فرصةً مواتية تُمكنه من التحدُّث إليه وإقناعه بضرورة مواصلة القتال من جهة، وتُمهد له السبيل كي يعمل على إبطال مساعي الصلح من جهةٍ أخرى، وحتى يكون أكثر اتصالًا بداخل البلاد من جهة ثالثة، فيستطيع العمل على هدم سلطان السنوسية في الفزان مركز قوتهم على نحوِ ما حاول فعلًا كما رأينا. أضِف إلى ذلك أن وجوده بأجدابية يجعله قريبًا من ميدان الجهاد الآخر بطرابلس مَوئله الأخير قبل أن يُغادر نهائيًّا القطر الليبي بأجمعه على نحوِ ما سيأتي ذكره.
وعلى ذلك فقد لبَّى نوري دعوة السيد محمد إدريس وغادر البطنان إلى أجدابية، واصطحب معه «محمد أبو جبريل»، ثم المجاهد المصري الشاب عبد الرحمن عزام أو العزام كما صار يُعرف في هذه الأقطار بعد قليل عندما طبقت شهرته الآفاق. ومن ذلك الحين أصبحت أجدابية مركز نشاط عظيمًا، لا بوصفها مقر حكومة السيد إدريس منذ انتقل إليها من السلوم من أواخر العام السابق (١٩١٠م) فحسب، بل وباعتبارها المكان الذي أقام به زعماء العثمانيين يبذلون قصارى جهدهم حتى يثنوا السيد إدريس عن عزمه ولكن من غير نتيجة، وفي أجدابية جرى الاتفاق على بدء المفاوضات التمهيدية.
فقد أبلغ الإنجليز السيد محمد إدريس أنهم لا يدخلون في مفاوضات بشأن الصلح مع المجاهدين العرب ما دام العرب يرفضون المفاوضات مع إيطاليا لعقد السلام معها، فكان أول ما فعله السيد أنه أخذ يطلب رأي وجوه البلاد وأعيانها وشيوخها في هذا الوقت الجديد، ولكن هؤلاء جميعًا وافقوا على المفاوضة مع الطليان ورضوا بها خوفًا من زيادة استحكام الضائقة الاقتصادية التي اشتدَّت وطأتُها بسبب إغلاق الطرُق بين الجبل الأخضر ومصر، وهي الضائقة التي سبق بيان طرفٍ من أهوالها. وعندما أُخبر السيد أحمد الشريف بالأمر وافق — رحمه الله — على المفاوضة مع إيطاليا إلى جانب إنجلترا، نزولًا على رغبة الأهلين، ولو أنه اشترط في الوقت نفسه أن يظلَّ بعيدًا عن الصلح فلا يشمله، ذلك أنه فضَّل الانتقال إلى مكانٍ آخر على الصلح مع الطليان؛ لأنه على ما يبدو كان لا يزال يثق بوعود العثمانيين الزائفة، الأمر الذي انتهى بخروج سيادته من القطر الليبي كله في ظروفٍ سوف يأتي ذكرها. وأما نوري فقد ظلَّ منذ مَجيئه إلى أجدابية يلحُّ على السيد إدريس في ضرورة مواصلة القتال ضد الإنجليز، وكان نوري الذي عرف قليلًا من العربية البسيطة يبذل منفردًا هذا الجهد في إقناع السيد، ولكن السيد إدريس رفض الاستماع إليه، وتمسَّك بضرورة إجابة رغبات أهل البلاد وزعمائهم، وهذه كانت رغبات صريحة لا تحتمِل شكًّا أو تأويلًا، وفضلًا عن ذلك فإن المبادرة ببدء المفاوضات كانت كذلك ضرورة لا تحتمِل هي الأخرى تسويفًا أو تأجيلًا.
وعلى ذلك فقد استعدَّ السيد لمقابلة معتمد إنجليزي للمفاوضة، وطلب من وكيل الوالي الإيطالي في بنغازي أن يُرسِل إليه معتمدًا إيطاليًّا من قبله لهذه الغاية، فاختارت الحكومة الإنجليزية وفدًا للمفاوضة مؤلفًا من الكولونيل «تالبوت» والضابط «هسلم»، ثم أحمد بك حسنين لمعاونة تالبوت، وكان حسنين بك (رفعة المرحوم أحمد حسنين باشا فيما بعد) يعمل في هذه الآونة سكرتيرًا عربيًا للجنرال ماكسويل ثم لخلفاء ماكسويل في القيادة، وكذلك حضر مع الوفد الإنجليزي كلٌّ من السيد محمد الشريف الإدريسي والسيد محمد مرغني، وغادر الوفد الإنجليزي القاهرة، وسافر بحرًا إلى بنغازي للاجتماع بوفد المفاوضة الإيطالي. وأما الوفد الإيطالي فكان يتألف من الكولونيل «فيلا» والسنيور «بياشنتيني». وفي شهرَي مايو ويونيو ١٩١٦م بدأت المفاوضات مع السيد محمد إدريس في «الزويتينة» على شاطئ خليج سِرت، ولا يفصلها عن سرت غير مسافةٍ قصيرة، وبدأت المفاوضة أولًا في موضوع تبادُل الطليان الذين أسرَهم المجاهدون في أثناء الحرب مع بعض الأهلِين الذين أودعتهم السلطات الإيطالية السجون لأسبابٍ سياسية، ثم قدَّم الطليان بعد ذلك شروطهم التي ارتأوا أنها ضرورية لإمكان الاتفاق مع السنوسية، وهذه كانت شروطًا كثيرةً، فحواها أن يعترِف السيد إدريس بالسيادة الإيطالية على كل برقة من منطقة بنغازي إلى منطقة الكفرة، وأن يُسلم العرب والمجاهدون أسلحتهم فلا يبقى لديهم سوى ما يكفي للمحافظة على أنفسهم، ثم إنهاء حالة الحرب القائمة وحل جميع أدوار (أي جيوش ومعسكرات) المجاهدين. وفي نظير ذلك ترضى إيطاليا برجوع مشايخ الزوايا إلى مراكزهم وتعترِف بالطريقة السنوسية، وتُعطي الكفرة استقلالًا إداريًّا، وتُعفي الأسرة السنوسية من كل الرسوم الجمركية، كما أنها تتعهَّد بإعطاء ضمانات تكفل قيام المحاكم الشرعية الإسلامية بأعمالها ومباشرة وظائفها؛ هذا إلى جانب ما تبذُله من مساعدات لتحسين الأحوال الصحيَّة في البلاد وإنشاء المدارس وما إلى ذلك.
وكانت هذه الشروط شروطًا قاسيةً، وظهر أنه لا مناص من انقضاء وقتٍ غير قصير قبل الوصول إلى تسوية عادلة. وكانت مسألة الاعتراف بالسيادة الإيطالية على برقة من أخطر المسائل التي تقدَّم الطليان بها ولا يُمكن البتُّ فيها بسهولة؛ ولذلك فقد تأجل بحثُها حتى إذا ما فرغ المتفاوِضون من فحص المسائل الأخرى بصورةٍ قد تُقرِّب بين وجهتي نظر الفريقَين أمكن عندئذٍ بحث مسألة السيادة الشائكة، ولكن الطليان سرعان ما أظهروا تصلُّبًا لا مُسوِّغ له عند النظر في بقية المسائل، حتى انتهى الأمر بأن يُصدر والي برقة وقتذاك الجنرال جيوفاني أميليو — وكان يشغل هذا المنصب منذ أكتوبر ١٩١٣م — أمرًا بقطع المفاوضات، فتمَّ له ما أراد وأخفقت مفاوضات الزويتينة. وأما الوفد الإنجليزي فإن مُهمته في أثناء هذه المفاوضات كانت تخرُج عن مجرد بذل الجهود من أجل التوفيق بين وجهات النظر، على اعتبار أنه لم يكن هناك أي خلافٍ في الحقيقة بين مصر والإنجليز من جانب، وبين السنوسيين من جانب آخر. وعلى ذلك كان كل ما يدور البحث فيه مع الإنجليز بصفةٍ مبدئية هو ما يجب اتخاذه من وسائل تكفُل تأمين سلامة الحدود بين مصر وبرقة، ومنع حدوث أي احتكاكٍ في المستقبل بين البلدَين في منطقة الحدود. وكان ظاهرًا من أول وهلةٍ أن الاتفاق على هذه المسائل بين السنوسيين والإنجليز سهل ميسور، ولكن رئيس الوفد الإنجليزي «تالبوت» كان متمسِّكًا بعدم التوقيع على أي اتفاقٍ مع السنوسيين قبل أن ينتهي السيد إدريس من الاتفاق مع الطليان ويتم التوقيع من الطرفَين على هذا الاتفاق نهائيًّا.
وكان يقابل المشروع الإيطالي مشروعٌ آخر تقدم به السيد، ويقوم على ضرورة اعتراف الطليان باستقلال السنوسيين والاعتراف بالسيد إدريس أميرًا على برقة، وتخطيط الحدود بين الأراضي التي ظلَّت في حوزة السنوسيين وبين تلك التي أصرَّ الطليان على التمسُّك بها واحتلالها خصوصًا في الساحل، وهي الأراضي التي استولى عليها الطليان عنوةً في بداية الحرب وكانوا يحتلُّونها فعلًا. وفضلًا عن ذلك فقد كان من أهم ما تمسَّك به السنوسيون أن تُفتح الطرق وتعود البلاد إلى حالة السلام السابقة، وكان فتح الطريق ضروريًّا حتى تأتي الأرزاق والأقوات إلى برقة ويزول، بفضل ذلك، خطر المجاعة. وأسفرت مفاوضات الزويتينة عن تخطيط الحدود بين أراضي الفريقين واحتفظ كل فريقٍ بخريطة للرجوع إليها عند الحاجة.
وعلى ذلك فإنه لمَّا كان مُتعذرًا إبرام أي اتفاقٍ في الزويتينة فقد غادر الوفد الإيطالي البلاد إلى رومة حتى يعرض على الحكومة الإيطالية نتيجة ما وصل إليه مع السنوسيين، ثم أُرجئت المفاوضات إلى مكانٍ ووقت آخرين، وحدث في هذه الآونة أن الدول الثلاث المتحالفة: إيطاليا وإنجلترا وفرنسا، ما لبثت حتى اتفقت فيما بينها في آخر يوليو ١٩١٦م على أن تسلُك جميعها طريقًا واحدًا مع السنوسية، فلا يختلفون في خُططهم معها. وفي آخر هذا العام وأوائل العام التالي جاءت الأخبار من رومة بأن الحكومة الإيطالية ترغب حقيقةً في الاتفاق على أساسٍ أكثر تساهلًا من السابق ويكفل إجابة مطالب السنوسيين لدرجة كبيرة. وعلى ذلك، فإنه سرعان ما تألَّف وفد إيطالي جديد لهذه الغاية، كان أعضاؤه الكولونيل دي فيتا والقومنداتوري لويجي بنتور، وحضر المفاوضة الجديدة كذلك السيد محمد الشريف الإدريسي وولده السيد محمد مرغني. وفي هذه المرة ألَّف الإنجليز وفدَهم من الكولونيل «تالبوت» الذي ظلَّ، لعدم معرفته اللغة العربية، يعتمد على أحمد حسنين بك كل الاعتماد، ثم حضر معه الملازم «رود» ابن السفير الإنجليزي وقتذاك في رومة، وكان هو الآخر لا يعرف العربية.
واختار السيد محمد إدريس مكانًا للمفاوضة «عكرمة» بجهة طبرق، وانتقل إليها، وحضر الوفدان الإنجليزي والإيطالي إلى طبرق. وفي شهر يناير ١٩١٧م بدأت المفاوضات الجديدة في «عكرمة».
واعترضت المفاوضات عقبات جمَّة، كان سببها أن المفاوضين الطليان لم يكونوا مزوَّدين بتفويضٍ كامل لإبرام الاتفاق، فاضطروا دائمًا إلى مراجعة السلطات العُليا في كل المسائل البسيطة والنقط التفصيلية، كما أن غرض السيد إدريس الأول كان الاتفاق قبل كل شيءٍ على تبادُل الأسرى وفتح الطرق حتى يمكن الحصول على الأرزاق والأقوات الضرورية لتخليص البلاد من شرور المجاعة. وعلاوة على ذلك فإن المفاوضين الطليان كانوا يريدون الحصول على ضماناتٍ وافية في كل ما يتعلق بمصالح السنوسية الأدبية والسياسية بالنسبة للسيادة الإيطالية المُطلقة والشاملة في كل منطقة برقة؛ وعلى ذلك فإن كل ما أمكن الاتفاق عليه حتى شهر مارس ١٩١٧م كان في مسألة تبادُل الأسرى وفتح الطريق على نحو ما أراد السيد إدريس نفسه. وكان ذلك إلى حدٍّ بعيد نتيجة للمهارة التي أظهرها السيد في أثناء هذه المفاوضة. على أنَّ المفاوضات لم تلبث أن سارت بعد ذلك سيرًا حثيثًا بسبب حرص السيد على تعطيل تدبيرات العثمانيين في الفزان وغيرها، ثم بسبب ما ظهر له من رغبة الأتراك في بذْر بذور التفرقة بينَه وبين السيد أحمد الشريف، ولرغبته في المحافظة على توحيد الكلمة، فضلًا عن أنه أراد أن يكسب بإبرام الاتفاق مع الطليان إزالة ذلك الحصار الخانق الذي ضربه الإنجليز على البلاد من جهة الشرق والطليان على حدودها الشمالية والغربية.
وعلى ذلك فقد وصل الفريقان إلى اتفاق عكرمة أو طبرق، ذلك الحل المؤقت الذي كان أول اتفاقٍ من نوعه عقده السنوسيون والمجاهدون العرب مع الطليان في ١٦ أبريل ١٩١٧م تحت عنوان: «شروط تمهيدية لتهدئة خواطر أهل البلاد»، وكان إبرام هذا الاتفاق التمهيدي أو المؤقَّت في عكرمة، أي في مقرِّ السيد إدريس نفسه، وكان يتألف من ثلاث عشرة مادة تضمَّنت إعلان رغبة الفريقَين في إنهاء القتال والكفِّ عن المحاربة في قُطر برقة وفتح الطرق بين الساحل وداخل البلاد للتجارة بكل حُرية في بنغازي ودرنة وطبرق فقط، ومؤقتًا «نظرًا لوجود الفتن» في بقية البلاد، حتى إذا انطفأت هذه الفتن «تُطلق التجارة في جميع النقط»، ثم التزم الإيطاليون بأن يقفوا عند «نقطهم، التي كانوا يحتلُّونها وقت إبرام الاتفاق فعلًا، فلا يجدون نقطًا عسكريةً زيادةً على ما هو كائن.» وعلى أن يفعل السنوسيون مثل ذلك من جانبهم أيضًا. وفضلًا عن ذلك فقد تعهَّدت إيطاليا «بإبقاء المحاكم الشرعية في الأماكن التي يقتضي وجودها بها، وبأن يقضي بها قضاة علماء موثوق بهم ولهم صلاحية في الدعاوى المُتعلقة بالنكاح والطلاق والفرائض وكل الأحكام الدينية الإسلامية.» وكذلك تعهَّدت إيطاليا بأن توجَد في برقة مدارس للعلوم والصناعات «ويكون فيها تعليم القرآن، وبها علماء دينيون، حتى يتيسَّر إرسال أبناء العرب المُمكن إرسالهم للتعليم في داخلية البلاد إلى هذه المدارس.» ومما هو جدير بالذكر أن إيطاليا أعلنت في هذه المعاهدة أنها «تُحب الدين الإسلامي وتحترِمه وتسعى في نشره وتعليمه.» وكذلك نصَّت المعاهدة على إعادة الزوايا وأراضيها والأملاك «المملوكة لها»، وكانت لا تزال وقت الاتفاق بأيدي الإيطاليين أو يحتلُّها جنودهم، ثم نَظمت نصوص الاتفاق الطريقةَ التي يجب أن تجري بها العلاقات بين السلطات الإيطالية والسيد إدريس. وأما جميع المسائل الخاصة بواحات الكفرة فقد أُخرجت من الاتفاق وتأجَّلت إلى أجلٍ غير مُسمَّى، وصار الاكتفاء بذكر هذه الفقرة: «ومتى لزم السنوسيين إصلاح، يأخذونه من الحكومة الإيطالية.»
وظاهر من نصوص اتفاق عكرمة أن السيد محمد إدريس كان يقصد من عقده مع الإيطاليين تحقيق أهدافٍ مُعينة، أولها إنهاء حالة الحرب التي أضرَّت بالبلاد وأهلها، ثم فتح الطرق للتجارة بين داخل البلاد وثغورها التي كانت بأيدي الإيطاليين من وقت ابتداء الحرب، الأمر الذي مكَّن إيطاليا من محاصرة الشواطئ الشمالية ومنع الأرزاق عن العرب، ثم احترام الشعائر الإسلامية والمحافظة على الدين الإسلامي وأنظمة الشرع الحنيف والثقافة العربية.
وأخيرًا رفع الأضرار التي لحقت بالجماعة السنوسية بأجمعها وتخليص زوايا السنوسيين والأراضي والأملاك التي يُنفَق ريعُها على هذه الزوايا وطلاب العلم والقائمين بالشعائر والعبادة والعمل بهذه الزوايا من أيدي الإيطاليين، ثم إبعاد هؤلاء، قبل كلِّ شيء، عن الكفرة مقر السنوسية العتيد بعد واحة الجغبوب. ولا شكَّ في أن السيد قد حقَّق مصالح المجاهدين العرب إلى أقصى غاية، فقد أزال هذا الاتفاق كابوسًا جثم على صدور الأهلين في برقة ردحًا من الزمن، وفتح أمامهم آفاقًا جديدةً من الأمل. ومن الثابت أن السيد سواء أكان يريد الصلح نهائيًّا مع الطليان حقيقةً أم يريد كسب الوقت لاستئناف الجهاد ضد العدو، فإنه كان يبغي قبل كلِّ شيءٍ أن يبسط لواء الأمن والسلام في برقة حتى تهدأ الأحوال في هذا القُطر أولًا ويتنفَّس الأهلون الصعداء عند زوال الكرب الذي نزل بهم بسبب امتناع الأقوات والأرزاق عنهم. وفضلًا عن ذلك فإن السيد كان يطلب الوقت دائمًا حتى يتفرغ لمواجهة ما كان يريده أعداء السنوسية في طرابلس والفزان. أضف إلى هذا أن السيد في هذا كله إنما كان يُحقق رغبات الأهلين التي أعلنوا عنها في تلك المضابط التي سبق ذكرها. زد على ذلك أنَّ إبرام هذا الاتفاق مع الطليان كان كسبًا سياسيًّا عظيمًا وانتصارًا دبلوماسيًّا كبيرًا؛ فإن الطليان الذين أعلنوا منذ ٦ نوفمبر ١٩١١م — وكان إعلانًا باطلًا ولا ريب — أنهم يضعون طرابلس وبرقة تحت سيادة المملكة الإيطالية الكاملة والمُطلقة، ثم أبلغوا هذا الإعلان رسميًّا إلى الدول لإقراره، ثم فصلوا بين حكومتي برقة وطرابلس بمرسومٍ ملكي في ٩ سبتمبر ١٩١٢م، وظلوا طوال المدة التالية في حروبٍ مُستمرة مع السنوسيين في برقة، سرعان ما وجدوا ابتداءً من عام ١٩١٥م أنه قد بات واجبًا عليهم في الحقيقة أن يسعوا من أجل الاتفاق مع السنوسيين، ولو أدى هذا الاتفاق إلى الاعتراف عمليًّا وضمنيًّا من جانبهم بما كان يتمتَّع به السنوسية من سلطان واسع في البلاد. والواقع أنه مع عدم اشتمال اتفاق عكرمة على نصوصٍ صريحة تعترف بهذا السلطان، فقد كان مجرد دخول الإيطاليين في مفاوضة مع السنوسيين اعترافًا من جانبهم ولا شكَّ بسلطة السنوسية وبأن الزعامة التي جمعت كلمة العرب في برقة هي زعامة شرعية. وهذا ما حرص السيد إدريس ولا ريب على تحقيقه، وهذا ما أدركه أهل البلاد — باعتراف الطليان أنفسهم — عندما وجدوا الطليان المُتغطرسين يدخلون في مفاوضات سياسية ويعقدون هذا الاتفاق في وقتٍ كانت لا تصِل إلى أيدي المجاهدين أسلحة أو ذخائر وفي وقتٍ احتبست الأرزاق والأقوات عنهم وكان لا مندوحة عن انهزامهم في النهاية بسبب انتشار المجاعة والطاعون إذا استمروا في جهادهم العنيف ضد إيطاليا، فكان من آثار هذا الاتفاق في عكرمة أن تأيد مركز السنوسية رسميًّا في زعامة هذه البلاد السياسية لخير العرب والمجاهدين كأداةٍ أو منظمة حكومية تحفظ الوطن القومي وتجمع المجاهدين العرب في صعيدٍ واحد وتحت لواء إسلامي واحد. واستطاع السيد إدريس عندما عقد اتفاق عكرمة التمهيدي، ثم ما تبِعه من اتفاقات أخرى كذلك؛ استطاع أن يكفل السلام في برقة في وقتٍ كان العالم لا يزال يكتوي بنار الحرب العالمية الأولى. ولا جدال في أنه كان لا يمكن تحقيق هذه الغايات جميعها من غير الوصول إلى «اتفاق» مع الطليان كان من نتائجه المباشرة كذلك إبرام اتفاقٍ آخر مع الإنجليز لفتح طريق السلُّوم المُوصِّلة إلى الأسواق المصرية، هدف زعماء وشيوخ البلاد الأول كما سبق بيانه.
فقد أمضى في عكرمة الكولونيل تالبوت عن الإنجليز اتفاقًا كان يحوي تلك النصوص التي سبق التفاهُم عليها في الحقيقة في مفاوضات الزويتينة بين السيد إدريس وبينهم، وكان الغرض من هذا الاتفاق المحافظة على علاقات المودة والصفاء بين الإنجليز والسنوسيين في زمن الحرب العالمية (الأولى) على أساس فتح الطرق بين مصر وبرقة، واتخاذ السلوم مركزًا للتبادُل التجاري بين الفريقَين، وهذا من جانب السنوسيين، ثم على أساس أن يُمنَع السنوسيون من إنشاء زوايا لهم في الأراضي المصرية، والاكتفاء بأن يكون «للطريقة السنوسية» الحق في قبول التبرُّعات بشروطٍ مُعينة، وأخيرًا على أساس الاعتراف بواحة جغبوب أرضًا مصريةً مع بقاء الإدارة المحلية في أيدي السيد محمد إدريس بطريق الوكالة. وكل هذا من جانب الإنجليز، وعلى ذلك فقد نصَّ الاتفاق الأخير: (أولًا) على تسليم جميع الأفراد الذين يصِلون إلى جهاتٍ لا يحتلُّها الطليان في برقة وسرت، سواء كان وصولهم بسبب غرَق سفنهم أو لأي سبب آخر متى كان هؤلاء تابِعين لبريطانيا أو لدولة من حلفائها أو كانوا من أية جنسيةٍ أخرى. (ثانيًا) تسليم جميع الضبَّاط الترك والآخرين «المَنسوبين لدولةٍ معادية» إلى البريطانيين كأسرى حرب، وكذلك الأشخاص «الذين يُنسبون لدولة معادية لبريطانيا ويكونون تابعين لتلك الدولة إذا وقع هؤلاء الأشخاص في قبضة «السيد إدريس»، ولسيادته الخيار إذا شاء في أن يُبعدهم عن قارة أفريقية، على أنه مما يجب ذكره أن السيد لم يُسلم أحدًا من هذا الطراز كأسرى حرب لدولة بريطانيا. (ثالثًا) إبعاد المفسدين والعابثين بالأمن ومُحدثي القلاقل بين السنوسيين والحكومة البريطانية في الجغبوب وبرقة، وعدم السماح لأحدٍ من السنوسيين المُسلحين بالإقامة في سيوة أو الجغبوب أو الدخول في جهةٍ أخرى من الأراضي المصرية، محافظةً على الأمن والنظام في الحدود. (رابعًا) فتح طريق التجارة بين مصر وبرقة، على أن تكون السلوم سوق هذه التجارة بشروط كان الغرَض منها في الحقيقة مُراقبة عدم تسرُّب شيء من هذه التجارة إلى أعداء بريطانيا وحلفائها. ولمَّا كان السيد لا يريد أن يُغفل أمر أعوان السيد أحمد الشريف، فقد نصَّ الاتفاق على أن الأشخاص المُعتقلين في مصر والمُشتبه فيهم بانحيازهم ومساعدتهم للسيد أحمد يُطلق سراحهم حتى يتبيَّن للحكومة أن إطلاق سراحهم لا يعود بالضرَر عليهم ولا على الحكومة.» وأخيرًا عهد في هذا الاتفاق إلى السيد محمد إدريس بإدارة شئون الجغبوب الداخلية «ولو أن الجغبوب ستبقى كما كانت داخلة في الحدود المصرية.»
وظاهر من نصوص هذا الاتفاق أن غاية الطرفَين المتعاقدَين كانت تجنُّب كل ما من شأنه أن يسيء إلى العلاقات القائمة بينهما، ثم العمل على تأمين الحدود بين مصر وبرقة على قواعد تتَّفق مع القوانين وأصول المعاملات الدولية، وفضلًا عن ذلك فإن السيد كان يُعنى قبل كل شيء بفتح ثغر السلوم، وهو طريق التجارة والأرزاق الآتية من جهة مصر خصوصًا إلى برقة، وهكذا يكون السيد بفضل هذَين الاتفاقَين مع الطليان والإنجليز في عكرمة قد نجح في فتح ثغور الشاطئ، درنة وطبرق وبنغازي ثم السلوم، ومهَّد بذلك لزوال المجاعة التي هدَّدت بفناء شطر عظيم من الأهلين في برقة والجبل الأخضر. وقد كان من أثر تدخُّله المباشر في مسألة المُعتقلين بمصر أن أخذت السلطات الحكومية بالقاهرة تفكُّ اعتقال هؤلاء رويدًا رويدًا.
وكان من أهم الدوافع التي حملت السيد إدريس على قبول الاتفاق مع الإيطاليين تحرُّج الأمور بالفزان على نحوِ ما سبقت الإشارة إليه، ثم تحرُّج الأمور في طرابلس على نحو ما سيأتي بيانُه في الفصل التالي، وكان منشأ الصعوبات التي صادفها السنوسيون في كلا الجهتَين ولا شك تدابير الأتراك الذين ساءهم أن يرَوا السيد عاقدًا العزم على الصلح مع العدو إنقاذًا للبلاد من ويلات المجاعة والطاعون، وإعطاء الأهلين فسحة من الوقت للاستجمام بعد تعَب الجهاد المُتصل منذ عام ١٩١١م. أما فيما يتعلق بالفزان، فقد انتهت الحال فيه إلى اضطرار السيد محمد عابد إلى مغادرة واو والنجاة بنفسه إلى الكفرة في سبتمبر ١٩١٧م، ووقوع الفزان في قبضة الأتراك، مما صار يدعو إلى اتخاذ إجراءات حاسمة سريعة من جانب السيد إدريس والسيد أحمد الشريف نفسه لتدارُك الموقف في هذا الإقليم الذي هو دعامة السنوسيين في الجنوب. وسوف نرى في الفصل التالي كذلك كيف عالج السيدان الموقف في هذه الجهات. وأما فيما يتعلق بتدابير الأتراك والمؤيدين لهم، فإن هؤلاء، إلى جانب التأثير في السيد أحمد الشريف حتى يشترك معهم في الهجوم على الحدود المصرية، كانوا من جهةٍ أخرى يُريدون أن يشتبك المجاهدون (والسنوسيون) في قتالٍ مع الفرنسيين على حدود البلاد الغربية من أواخر عام ١٩١٥م. فقد حضر إلى مصراتة في ١٢ أغسطس من هذا العام — أي في الوقت الذي كان قد بدأ يظهر سافرًا تردُّد أحد زعماء الطرابلسيين من أهل مصراتة، وهو رمضان السويحلي أو الشتيوي وانقلابه على السنوسيين — حضر حسن الشريف أحد الضباط الطرابلسيين الذين تلقَّوا علومهم في تركيا وكانوا في الجيش العثماني، لمقابلة السيد صفي الدين، وطلب إليه باسم نوري باشا أن يقوم مشتركًا مع السويحلي بالهجوم على الحدود الفرنسية (بين طرابلس الغرب وتونس) بدلًا من مهاجمة الطليان الخمس وفي مدينة طرابلس وعلى حسب الخطة الموضوعة، فرفض السيد صفي الدين أن ينساق إلى حربٍ مع دولة ثالثة هي فرنسا إلى جانب إنجلترا وإيطاليا، وعندئذٍ دب الخلاف بين السيد صفي الدين وبين السويحلي الذي أيَّد رغبات العثمانيين، فغادر السيد صفي الدين مصراتة إلى ورفلة ثم إلى البوبرات — مركز ترهونة — وهناك اجتمع زعماء البلاد وشيوخها فأطلعهم السيد صفي الدين على أسباب الخلاف بينَه وبين رمضان السويحلي والأسباب التي جعلته يرفض الهجوم على الحدود الفرنسية التونسية نزولًا على رغبة العثمانيين؛ لأن المجاهدين — على حد قول السيد صفي الدين — ما كانوا يستطيعون في الحقيقة الصمود أمام قواتٍ ثلاثٍ في وقتٍ واحد، بل إن من واجبهم أن يتفرغوا قبل كل شيء لمنازلة إيطاليا. وقد أقرَّ المجتمعون السيد صفي الدين على رأيه. ومع ذلك فقد حدث أن قام أحد الضباط العثمانيين بالهجوم على الحدود الطرابلسية التونسية في «ابن قردان» في سبتمبر ١٩١٥م، وأرسلت الحكومة الفرنسية مندوبًا إلى صفي الدين يستفسِر عما إذا كان الهجوم قد وقع بناءً على إذنٍ من السيد صفي الدين نفسه، فبادر السيد بإرسال كتاب إلى الضابط العثماني يأمره بالكفِّ عن القتال ويُنذره باستخدام القوة ضدَّه واسترجاعه عنوة إذا هو أصرَّ على المُضي في هجومه، فاضطر الضابط العثماني حينئذٍ إلى التقهقر والعودة بعد أن أخذ أربعين أسيرًا من الفرنسيين بعث بهم إلى واحة الكفرة عن طريق الفزان. وقد أطلق سمو السيد إدريس سراح هؤلاء الأسرى بعد ذلك وأرجعهم إلى بلادهم في عام ١٩١٩م.
وهكذا فشل تدبير العثمانيين وكأنما عزَّ عليهم أن يلحق بهم الفشل، فكشفوا القناع عن نيَّاتهم، وانتهز كلٌّ من حسن الشريف وضابط عثماني آخر يُدعى سليمان ذهني، فرصة قيام السيد صفي الدين من ترهونة إلى ورفلة في طريقه إلى السلوم حتى يلحق بالسيد أحمد الشريف، فاعترضه الضابطان بقوةٍ في الطريق بين ترهونة وورفلة ودار القتال مع السيد صفي الدين، ولكن السيد تغلَّب على قوتهما واستطاع الدخول إلى قصر ورفلة، ثم حضر رمضان السويحلي برجاله إلى خارج القصر واشترك مع العثمانيين في تضييق الحصار على السيد صفي الدين مدة أربعين يومًا. ولمَّا تمكن السيد صفي الدين من تحطيم هذا الحصار والخروج من ورفلة تعقَّبه المتحالفون الثلاثة واشتبكوا معه في معارك في وادي دينار وقرارة القطف، ولم يُخلِّص السيد صفي الدين من هذا المأزق سوى وصول النجدة إليه من عمر بك سيف النصر بقوَّات من قبائل العمامرة وأولاد سليمان، وعندئذٍ اضطُرَّ السويحلي وصحبه إلى التوقف، ونزل السيد صفي الدين في معطن الوشكة — بين سرت ومصراتة — وانضمَّت إليه جماعة كبيرة من الزعماء والأعيان في مصراتة وزليطن من عائلات عبد الملك ولاغا والمهرك وعمر شقلوف وعبد الله بك بن قدارة، ثم توجَّه الجميع إلى سرت، ومنع السيد صفي الدين المجاهدين من الارتداد لاقتفاء أثر الضباط العثمانيين ورمضان السويحلي حقنًا للدماء (فبراير ١٩١٦م). فإذا تذكَّرنا أن هذه الحوادث جميعها وقعت في الوقت الذي كان يقوم فيه السيد أحمد الشريف — بتأثير من الأتراك قبل أي أمرٍ آخر — بالهجوم على الحدود المصرية، اتضح لنا مقدار الأخطار الجسيمة التي كان الزعماء السنوسيون — قادة البلاد وأصحاب الإمارة فيها، من أيام السيد محمد المهدي، قطعًا، ودون حاجةٍ إلى برهان — يُستهدَفون لها في طرابلس وفي الجهات الأخرى، خصوصًا في الفزان التي كان للعثمانيين ضلعٌ كبير في تحريك المقاومة في أنحائها ضد السنوسية.
وقد حدث في أثناء إقامة السيد صفي الدين في سرت أن حضر في أوائل مارس ١٩١٦م الضابط الألماني مانسمان يطلُب منه تصريحًا حتى يلتحِق بالضباط العثمانيين الذين كانوا يُريدون شنَّ الغارة على الحدود الفرنسية في تونس، ولكن السيد صفي الدين ما لبِث حتى احتجزه عندما تبين أن مانسمان لم يكن يحمل أمرًا بذلك من السيد محمد إدريس أو السيد أحمد الشريف، ثم أرجعه تحت حراسة السنوسيين إلى أجدابية مقر السيد إدريس. ولمَّا كان السيد إدريس قد طلب إلى السيد صفي الدين الحضور إلى أجدابية، فقد ارتحل السيد صفي الدين في أثر مانسمان إليها في الشهر نفسه، وهناك وجد السيد صفي الدين السيد محمد إدريس ونوري باشا والمجاهد المصري الشاب عبد الرحمن عزام. على أن السيد صفي الدين ما لبث حتى استأذن في السفر إلى الكفرة، فقضى بها بضعة شهور، ولم يعد منها إلا في شهر فبراير ١٩١٧م. ووجد عند عودته السيد محمد إدريس مشغولًا بالمفاوضة مع الإنجليز والطليان في عكرمة وبعيدًا عن أجدابية التي اتخذ منها العثمانيون في هذه الفترة العصيبة من تاريخ البلاد مركزًا ينشرون منه دعايتهم ضد الصلح والاتفاق ويُدبرون منه المكائد ضد السنوسية.
فقد سبقت الإشارة إلى أن نوري باشا لم يكن راضيًا عن دخول السيد إدريس في أية مفاوضات مع الإنجليز والطليان، وحاول مرارًا وهو بأجدابية أن يقنع السيد بوجهةِ نظره، ولكن كل هذه المحاولات لم تُفد شيئًا في صرف السيد عن عزمه، وظل نوري باشا يتدبر الأمر، فانتهز فرصة خروج السيد صفي الدين من أجدابية إلى الكفرة وبعث إليه بكتابٍ والسيد ما يزال في «جالو» في طريقه إلى الكفرة يطلُب إليه العودة إلى العقيلة حتى يشترك مع العثمانيين في القيام بهجوم على الإنجليز في هذه المنطقة، وأظهر له نوري باشا في كتابه استعداد الحكومة العثمانية لأن ترسِل إليه غواصات تحمل المؤن والذخائر والمال اللازم لتدبير هذا الهجوم، ولكن السيد صفي الدين رفض هذه العروض التي وجد في قبولها ضررًا يلحق بالبلاد، واستأنف السير إلى الكفرة.
ومما يجدر ذكره أن كتاب نوري باشا وصل إلى السيد صفي الدين في شهر يوليو ١٩١٦م، أي في الوقت الذي كانت ما تزال تجري فيه المفاوضات في الزويتينة بين السيد إدريس وبين الإنجليز والطليان، وكان المقصود من القيام بهذا الهجوم المفاجئ ضد الإنجليز في العقيلة تعطيل هذه المفاوضات وإخفاقها، ومع ذلك، وعلى الرغم من كل هذه المحاولات، فقد ظل السيد إدريس متمسكًا بموقفه، واستمرَّت المفاوضات سائرة في طريقها؛ الأمر الذي سبب الحيرة للقائد العثماني نوري وجعله — إلى جانب مشروع الاستيلاء على واحة الفزان — يُفكر في تهييج الخواطر ضد السنوسية وإثارة القلاقل بين العرب والمجاهدين السنوسيين أنفسهم. وعلى ذلك فإن السيد صفي الدين عقب عودته من الكفرة في فبراير ١٩١٧م — أي بعد شهرٍ من بدء مفاوضات عكرمة — سرعان ما أدرك حقيقة هذه الحركة الخفية، ووجد أن الأتراك استطاعوا فعلًا أن يستميلوا إليهم دُعاةً في الأدوار أو المعسكرات السنوسية لتأليب المجاهدين على السيد إدريس نفسه، فعلوا ذلك في دور «حجرة» مركز قبائل العواقير وفي «تاكنس» مركز العرفة والعبيد وفي «مرادة» مركز البراعصة والحاسة. وكان في هذه الأثناء أن انتقل من أجدابية إلى مصراتة كلٌّ من نوري باشا وعبد الرحمن عزام بك، وكان «العزام» من أقرب المُقربين إلى نوري وموضع ثقته، ويرى في هذا الحين عن إيمان وعقيدة ثابتة أنه من الخير أن يستمر الجهاد ضد الإنجليز والطليان، وأن الجهاد وحدَه هو السبيل المُثمر المؤدي إلى خلاص البلاد وتحريرها.
وأما السيد صفي الدين، فإنه بمجرد أن وقف على حقيقة الحال في أجدابية، بادر مُسرعًا بالذهاب إلى مكان مفاوضة السيد إدريس في عكرمة، أي عند الطرف الآخر من برقة وعلى مسافة شاسعة من مقرِّ حكومته. وكان غرَض السيد صفي الدين من الذهاب إلى عكرمة أن يوضح للسيد إدريس حقيقة الأمور، فوجد السيد إدريس نازلًا عند بير الأشراف بالقُرب من المخيلي. وكان مما جعل السيد إدريس بعيدًا عن الأخبار وهو بمكان المفاوضة أن «كردونًا صحيًّا» كان قد أنشئ في تلك الآونة لمكافحة وباء الطاعون المُنتشِر في البلاد وقتذاك، وعلى ذلك، فإنه بمجرد أن وقف على حقيقة الحال من السيد صفي الدين، قرَّر الذهاب بنفسه إلى أجدابية لتدارُك الموقف قبل أن يستفحِل الشر، فغادر بير الأشراف إلى تاكنس حيث كان السيد عمر المختار يُقيم مع قوة من المجاهدين، فسار المختار مع السيد إدريس إلى المكان الذي كان معسكرًا به قائد السنوسيين الآخر قجة عبد الله السوداني، فأخذه السيد بجيشه وسار الجميع قاصدين أجدابية، واخترقوا النظام الصحي، ثم عسكروا خارج المدينة وضربوا حول معسكر الأتراك بالمدينة نطاق الحصار، ثم خيَّر السيد إدريس المحاصَرين بين أمرين: إما التسليم وإما الذهاب واللحاق بنوري باشا في مصراتة، واعتقل السيد جماعة من العثمانيين وأنصارهم، فأرسل فريقًا منهم إلى الجغبوب وفريقًا آخر إلى الكفرة، وهكذا استطاع أن يُخمد حركةً كانت، لحُسن الحظ، لا تزال في مهدِها، وبمجرد أن تمَّ له ذلك عاد السيد إدريس إلى عكرمة لإنجاز الاتفاق مع الإنجليز وحلفائهم الطليان.
ولا جدال في أن مصلحة البلاد في هذه الظروف الدقيقة كانت تقتضي إنشاء الحكومة الوطنية المُنظمة، يهيمن على شئونها السيد إدريس الذي استطاع بفضل حكمتِه وبُعد نظره أن يقرَّ السلام في القطر البرقاوي، وكان إبرام اتفاق عكرمة (أو طبرق) خير وسيلةٍ، كما أثبتت الحوادث بعد ذلك، لتحقيق السِّلم وصون مصالح العرب المجاهدين في هذا القطر، وإتاحة الفرصة لتنظيم القبائل تنظيمًا من شأنه أن يجمع الكلمة ويقضي على بذور الفتنة والاضطراب. وكان الوصول إلى هذا الاتفاق مع الطليان، باعتراف الإيطاليين أنفسهم، من أكبر العوامل التي ساعدت على استقرار الأمور في برقة، وساعدت كذلك على تأييد نفوذ السيد محمد إدريس حتى بدأ الأهلون من ذلك الحين يُلقِّبون السيد ﺑ «المُنقذ». وفضلًا عن ذلك كان تأييد نفوذ السيد من غير شكٍّ في مصلحة هذه البلاد لعدة أسباب، لا تلبث أن تتَّضح، إذا عرفنا أن غاية الطليان أنفسهم من إبرام اتفاق عكرمة، كانت تمكينهم من أن يتَّصلوا مباشرةً بالأهلين، وأن يمدُّوا نفوذهم في داخل البلاد عن طريق هذا الاتصال المباشر. وهذا ما كان السيد إدريس يُدركه حق الإدراك ويعمل من جانبه على تعطيله ومقاومته، ثم تكللت مساعيه بالنجاح، فاستطاع أن يُضعف نفوذ الإيطاليين ويقضي عليه إلى درجة بعيدة.
ذلك أن جهود السيد ما لبثت حتى تركزت في الفترة التالية في أمرَين هامَّين: أولًا إقامة الحكومة الوطنية الرشيدة التي تحفظ صوالح البلاد وتتولَّى زعامة العرب وتتَّخذ موقف الدفاع عن مصالحهم دائمًا والمطالبة بكامل حقوقهم، وثانيًا مقاومة نفوذ الطليان ومنع اتصالهم بالعرب بكل الوسائل في داخل البلاد. أما فيما يتعلق بالأمر الأول، فقد كان للسيد مواقف معروفة عند حدوث أي اختلافٍ بين العرب الخاضعين لسلطانه وبين إخوانهم الذين ظلُّوا مُقيمين في منطقة النفوذ الإيطالي، فقد تحدَّدت منطقة نفوذ السيد ومنطقة نفوذ الطليان على السواء في اتفاق عكرمة بالصورة التي سبق ذكرها. فكان يفصل بين المنطقتَين خط سمَّاه العرب «خط النار» بسبب ما كان يقع حول هذا الخط من مناوشات منشؤها التنازُع بين العرب في المنطقتَين على الجهات الداخلة في حدود السيد والخارجة عن هذه الحدود، عندما شرع العساكر السنوسية يجمعون «العشر» وأموال الزكاة من القبائل، وكان الطليان يُشجعون هذه المناوشات من جانبهم واستعداد القبائل الخاضعة لسلطانهم ضد السيد؛ لأن سياسة الطليان في تلك الآونة كانت تدور حول الحدِّ من نفوذ السيد وإضعاف سيطرته. ولا جدال في أن الطليان عندما عقدوا اتفاق عكرمة لم يكونوا خالصي النية أو يُريدون حقيقةً إنشاء حكومة وطنية، بل إنهم كانوا يبغون، باعتراف كتَّابهم أنفسهم، أن يتَّخذوا من عقد هذا الاتفاق المؤقت وسيلةً تُمكنهم من الاتصال المباشر بالأهلين بعد أن تزول أسباب النزاع الظاهرة بينهم وبين السنوسية في برقة، وذلك في وقتٍ كان من دأب زعماء العرب والمجاهدين أن يمنعوا هذا الاتصال بكل الطرق. وكان كل أمل الطليان بعد انتهاء الحرب العالمية (الأولى) — وبعد أن يكونوا قد مهَّدوا، بفضل هذا الاتصال المباشر بالقبائل، السبيل لاستمالة العرب إليهم — أن يستطيعوا عقد اتفاقٍ آخر يكون أكثر ملاءمةً لمصالحهم، ويكفُل لهم الاحتفاظ بنفوذهم في البلاد. وأدرك السيد إدريس غايات الطليان وأغراضهم، واعتمد على مهارات السياسية وحنكته في تعطيل هذه الأغراض، والعمل جديًّا من أجل إنشاء الحكومة الوطنية الموطدة، تلك الحكومة التي سوف يُصبح في استطاعتها، عندما تضع الحرب العالمية أوزارها، أن تُجابِه الطليان بالأمر الواقع وتُرغمهم على الاعتراف بحكومة العرب الإسلامية الوطنية في برقة.
ولم يستطع الطليان أن يُحققوا أغراضهم في هذه الآونة لعدة أسباب، من أهمِّها فيما يتَّصل بالقصر البرقاوي ذاته يقظة السيد والتفاف العرب حوله، ثم تدهور الحالة السياسية في إيطاليا بعد انتهاء الحرب العالمية (الأولى)، ذلك أن إيطاليا خرجت من تلك الحرب منهوكة القوى، ولا يجسُر أحد من رجال حكومتها على إرسال إمداداتٍ عسكرية إلى ليبيا للقيام بعملياتٍ حربية جديدة، أضف إلى هذا أنه سرعان ما ظهرت بإيطاليا الأحزاب السياسية الكثيرة التي ما فتِئت تُنادي بالمبادئ الحرة منذ ظهورها وتَبني دعايتها على ضرورة استمتاع الشعوب قاطبةً بالحرية، فكان من المُنتظر في هذه الظروف أن يعمد الطليان إلى التفاهُم مع المجاهدين في برقة والعمل بالطُّرق الدبلوماسية من أجل استبدال اتفاق عكرمة المؤقَّت باتفاقٍ آخر قد يتوصَّلون بفضله إلى تنفيذ مآربهم. وفضلًا عن ذلك فإن الطليان كانوا يُلاقون في القُطر المجاور طرابلس متاعب كثيرة على نحو ما سيأتي ذكره، بسبب استمرار مقاومة المجاهدين وإنشاء الجمهورية الطرابلسية (في نوفمبر ١٩١٨م)، ووجدت إيطاليا، عندما عجزت عن إرسال الإمدادات إلى طرابلس، أن تسلك طرقًا أخرى لدعم سلطانها، فكان من أثر ذلك إبرام اتفاق سواني بن بادم مع حكومة الجمهورية الطرابلسية في ٢١ أبريل ١٩١٩م، وهو الاتفاق الذي قبلت بمُقتضاه الجمهورية «القانون الأساسي» للقُطر الطرابلسي. وقد صدر هذا القانون فعلًا ونُشر رسميًّا في أول يونيو من العام نفسه، وكان الغرَض من هذا القانون على نحو ما سيأتي بيانُه إنهاء حالة النزاع القائمة في طرابلس بين العرب والطليان على قاعدة الاعتراف بسيادة ملك إيطاليا فكتور عمانويل الثالث على طرابلس مع إنشاء مجلس نواب محلي ومجلس حكومي يشترك فيه وطنيون.
وعلى ذلك فقد اتجهت نوايا الطليان في برقة إلى تسوية علاقتهم مع حكومة السيد الوطنية على أُسس النظام الذي وضعوه للقطر الطرابلسي، وكان أهم ما يَعنيهم من ذلك إدخال القانون الأساسي إلى القُطر البرقاوي لسببَين؛ أولهما تقرير السيادة الإيطالية بمُقتضى اتفاقٍ دائم بدلًا من اتفاق عكرمة المؤقَّت على القطر البرقاوي، ثم استخدام المزايا التي يتضمَّنها القانون الأساسي في كلِّ ما كان مُتصلًا بحقوق الوطنيين وواجباتهم — وهي حقوق وواجبات نصَّ عليها القانون الأساسي في الفصل الخامس منه، وكلها تكفل الحرية الشخصية والدين والعادات والمِلكية وما إلى ذلك — نقول استخدام هذه المزايا لتأييد غريزة الحياة الاستقلالية لدى القبائل العربية، ثم العمل على تعزيز هذه الحياة الاستقلالية ونموها بصورةٍ تُمكِّن الطليان في النهاية من انتزاع هذه القبائل العربية من أحضان السنوسية، مُعتمِدين في بلوغ هذه الغاية على ذلك البرلمان أو المجلس النيابي المحلي الذي نصَّ على إنشائه القانون الأساسي؛ إذ إنهم كانوا يتوقَّعون أن يُصبح هذا البرلمان وسيلةً مؤاتية لتدبير ظهور مقاومة جدِّيَّة ضد نفوذ السلطات الوطنية الحاكمة في برقة. وعلى ذلك فقد اهتمَّ الطليان بأن ينالوا من السيد اعترافًا بهذا القانون الأساسي، وشرعوا في مفاوضته من أجل عقد اتفاقٍ آخر بدلًا من اتفاق عكرمة المؤقت.
وكان السيد ولا شك واقفًا على حقيقة نوايا الإيطاليين، ويُدرك تمامًا خطورة الأمر الذي يُضمرونه؛ ومع ذلك فقد كان السيد من ناحيته ظاهر الرغبة كذلك في أن يستبدل باتفاق عكرمة المؤقت اتفاقًا آخر يحمل صبغة الاستقرار والاستدامة من جهة، كما أنه لم يجفل من إدخال القانون الأساسي إلى القطر البرقاوي أو كان يخشى عواقبه من جهة أخرى. والسبب في ذلك أنه كان من مصلحة تلك الحكومة الوطنية الناشئة التي أوجدها السيد في برقة أن تستقرَّ الأمور في نصابها نهائيًّا، حتى يستطيع أن يستكمل للبلاد تلك المنافع التي أمكن سيادته أن ينتزِعها من الاتفاق السابق. وفضلًا عن ذلك فقد دلَّت التجربة الماضية على أن تسوية الموقف مع الطليان خطوة مُمهدة في الواقع للاعتراف بحق المجاهدين العرب في إنشاء الحكومة الوطنية برئاسة زعمائهم. أضِف إلى هذا أن هذه التسوية ساعدت — على غير ما كان ينتظره الطليان — على تعزيز الزعامة العربية الوطنية في شخص السيد والْتفاف قلوب العرب حوله حتى سمَّوه «المُنقذ» كما ذكرنا، ووجدوا في الصوت الذي رفعه السيد دائمًا من أجل الدفاع عن حقوقهم صدًى مُدويًا وترديدًا لِما كان يجول بخواطرهم ويدور على ألسنتهم. وعلاوةً على ذلك، فإن القانون الأساسي كان، إلى جانب الحقوق التي سبقت الإشارة إليها، يكفُل للعرب إنشاء المدارس ومعاهد التعليم واحترام لُغتهم وشعائرهم؛ ولذلك بات مُنتظرًا — إذا أدمجت هذه الحقوق التي ذكرها القانون الأساسي المُعطى لطرابلس في اتفاق دائم بين الطليان والسيد — أن يتمكن السيد من المُضي في خطته بصورة تضمن تحقيق أغراضه لمصلحة البلاد التي يُهيمن على شئونها. وكان السيد من غير شكٍّ يعتمد على نفس المهارة التي مكَّنته من الاستفادة من اتفاق عكرمة في إمكان الاستفادة كذلك من أي اتفاقٍ جديد قد يكون من أهم مزاياه إضفاء صفة الاستقرار والدوام على «الوضع» الذي تمَّتعت به برقة. ولعل قيام الحكومة الوطنية «الفعلية» في برقة منذ عام ١٩١٧م كان أكبر ضمانٍ لاستطاعة البرقاويين أن يُفيدوا من أي اتفاقاتٍ جديدة تشتمل على الأقل على مبدأ الحكومة الذاتية.
وعلى ذلك تلاقت رغبات الطليان من جانب ورغبات السيد من جانب آخر، وإن كانت أغراض كل فريقٍ تختلف في جوهرها عن أغراض الفريق الآخر، فبدأت المفاوضات، وتولَّى الوساطة في هذه المفاوضات أحد رجالات العرب المُحنَّكين، عمر باشا منصور الكخيا. وكان عمر منصور الكخيا نائبًا في مجلس المبعوثان العثماني، منحه السلطان عبد الحميد رُتبة الباشوية، وعُين قائمقام في جالو، ثم استمرَّ مبعوثًا في الآستانة بعد الاحتلال الإيطالي، وجاء إلى مصر عقب إعلان الحرب الطرابلسية حتى يطلُب من الإنجليز التدخُّل في مسألة احتلال الإيطاليين القُطر الليبي، فأرسل اللورد كتشنر وقتذاك إلى السيد أحمد الشريف يُخبره بمساعي منصور باشا الكخيا، ويترُك له الخيار في الموافقة على تدخُّل الإنجليز، إذا أراد الصُّلح، أو إبطال هذا المَسعى إذا كان لا يزال مُصرًّا على القتال. ولمَّا كان السيد أحمد الشريف مُصممًا على الاستمرار في القتال ضد الطليان إلى النهاية، فقد أخفقت مساعي عمر باشا. وعندما أُعلِنت الحرب العالمية الأولى (١٩١٤م) فضَّل عمر باشا البقاء في القُطر المصري، حتى إذا انساق السيد أحمد الشريف إلى الهجوم على الحدود المصرية، خيَّر الإنجليز عمر باشا بين الذهاب إلى وطنه أو إلى أي بلدٍ آخر، فاختار الذهاب إلى رومة، ثم بقي فيها إلى وقت بدء المفاوضات بين السيد محمد إدريس وبين الطليان، فعاد إلى برقة وتولَّى الوساطة بين الفريقين. وأما هذه المفاوضات فقد أسفرت عن عقد اتفاق الرجمة في ٢٥ أكتوبر ١٩٢٠م، ووقَّع هذا الاتفاق عن الحكومة الإيطالية الوالي ديمارتينو. وكان اتفاق الرجمة يتألَّف من مقدمة وعشرين مادة إلى جانب مُلحقَين.
ويقوم اتفاق الرجمة على مبادئ واضحة مُعينة، أولها الاعتراف بإمارة السيد محمد إدريس مع تقسيم القُطر البرقاوي إلى قسمَين ظاهرَين؛ قسم السواحل والأماكن الواقعة على الحدود، وهذه ظلَّت الراية الإيطالية تخفق عليها، وقِسم داخل البلاد بأكملِها بما في ذلك واحات أوجلة وجالو والكفرة والجغبوب «المُستقلة داخليًّا» وهذه — على نحو ما ذكرَتْه مقدمة الاتفاق — فوضت الحكومة الإيطالية إدارتها إلى الأمير، وصار يرفرف عليها علم السنوسية. ولكنه مما يجدُر ذكره أن «إمارة» السيد إدريس — ومركزها أجدابية — كانت تمتدُّ فعلًا إلى السواحل وأماكن الحدود؛ لأن اتفاق الرجمة نصَّ في مادته الثانية على أن «للأمير الحق في الإقامة والتجوال في جميع أنحاء القطر البرقاوي بالاتفاق مع الحكومة، وتكون الحكومة (الإيطالية) مسرورة كلَّما قدَّم لها ملاحظات على جريان الأمور لأجل مصلحة البلاد وسعادة أهلها.» أي إنَّ هذه المادة أعطت الأمير الحق في الإقامة والتطواف في المناطق الخاضعة لإدارة الطليان، كما أنها أعطته «حق التدخُّل» في شئون هذه الإدارة تدخُّلًا فعليًّا كلما بدا له ذلك في كل أمرٍ يتعلق بمصالح العرب، وفضلًا عن ذلك فإن اتفاق الرجمة، في مادته الثالثة التي استبْقَت السواحل وأماكن الحدود في قبضة الإدارة الإيطالية، نصَّ على أن الغرَض من استبقائها إنما كان «حفظًا لسلامة أراضيها إزاء الدول».
ومعنى هذا أن إخراج هذه المناطق من دائرة نفوذ الأمير المباشرة لم يكن إلا لأغراضٍ دفاعية أو عسكرية وحسْب، وكان هذا بمثابة المُسوِّغ الذي ارتأته الحكومة الإيطالية لبقاء هذه المناطق مُنفصلةً عن إدارة الأمير مباشرة. وفضلًا عن ذلك فإن هذا المُسوِّغ كان يحمِل في طيَّاته معنى الاعتراف بحقوق الإمارة حتى على هذه الجهات التي أخرجت من نفوذها المباشر. وقد ترتَّب على الاعتراف بمبدأ «الإمارة» أن بات ضروريًّا تعيين شكل الحكومة الوطنية الجديدة من جهة، ثم تعيين تلك الحقوق التي كان يُقتضى أن يستمتع بها الأمير في هذا الوضع الجديد. وعلى ذلك فقد نصَّت المادة الأولى على أن الإمارة وراثية في «أولاد الأمير وأنساله الأكبر فالأكبر، وفي الوقت الحاضر ينتخِب الأمير بمعرفة أحد أفراد عائلته خلفًا له في رُتبته وما يتعلق به.» ثم كفلت مقدمة الاتفاق حقوق هذه الإمارة، فجاء في الفقرة «ﺟ» أنه يجب على الحكومة (الإيطالية) أن تستمع إلى رأي الأمير، وذلك في أوامرها إذا أصدرت أوامر تتعلق بالواحات أيضًا كالأنظمة القانونية مثلًا.» كما جاء في الفقرة «د» أن «يكون للأمير السنوسي الحق في التشريفات والأشعرة والنعوت.» التي فُصِّلت على حدة في ملحق حرف «أ» من الاتفاق. وتعهدت الحكومة بمُقتضى المادة الخامسة أن تضع تحت تصرُّف الأمير «باخرة لائقة بمقامه»، وفضلًا عن ذلك فقد بات من حق الأمير بمُقتضى المادة العاشرة «إذا اقتضت الحالة أو المصلحة العامة أن يُشير على الحكومة بتخفيف جزاء أحد المحكومين أو يسعى في استحصال العفو له بالطرق القانونية.» كما تعهدت الحكومة (في المادة السابعة عشرة) بأن تُعين «فيلقًا مخصوصًا للأمير — حتى يسهروا على حراسة سموِّه — ويقوموا بالخدمات الشريفة وبالمحافظة على الأمن في الواحات والجهات التي تُفوِّض الحكومة إلى الأمير حفظ راحتها وأمنِها، وذلك بشرط ألا يكون — هذا الفيلق — دون الألف، ويسوغ زيادة عددهم باتفاق مع الحكومة.» وفي ملحق الاتفاق الثاني (حرف ب) تحدَّدت مُخصَّصات الأمير وأعضاء الأسرة السنوسية.
وأما المبدأ الثاني الذي قام عليه اتفاق الرجمة فهو أن تُقرَّر أمهات القواعد التي تضمَّنها القانون الأساسي الصادر للقُطر الطرابلسي في صلب الاتفاق مع السيد أولًا فيما يتعلق بشكل الحكم الداخلي، وثانيًا في جميع ما يكفل الضمانات الجوهرية لإمكان إنشاء حكومة وطنية مُستقرة، يصبح في استطاعتها أن تعمل على إسعاد أهل البلاد والسير بهم في طريق الإصلاح والتقدم. وعلى ذلك فقد وضعت الحكومة الإيطالية «قانونًا أساسيًّا» لبرقة صدر في أول مايو ١٩١٩م، ويختلف في نصوصه عن القانون الأساسي المُعطى لطرابلس، اللهم إلا بالاستعاضة عن كلمة طرابلس بكلمة برقة عند كل مناسبة. وبمُقتضى هذا القانون الأساسي صارت حكومة برقة تتألَّف أولًا: من والٍ يُقيمه «ملك إيطاليا» ويجمع بين كلٍّ من الولاية المدنية والعسكرية على نحو ما حدَّدَته الأحكام الخاصة بذلك. ثانيًا من مجلس نواب محلي يتألَّف من نواب قبائل القُطر وحضره، يلحق بهم عددٌ معلوم من أعضاء يستحقُّون الجلوس فيه بمُقتضى وظائفهم، ومنهم من يُعينهم الوالي. وثالثًا من دوائر رئاسية (مصالح) مدنية وعسكرية، يُنصَّب رؤساؤها بأمر ملوكي. وهذا الترتيب على حسب ما جاء في الفصل الثالث عشر من القانونَين الأساسيين لبرقة وطرابلس، وقد فصلت المواد — أو الفصول — التالية (١٤ و١٥ و١٦ و١٧ و١٨ و١٩، ويُقابل هذه نفس المواد من القانون الأساسي لطرابلس) شروط الانتخاب للمجلس النيابي وعدد أعضائه ومدَّته، وهذه كانت أربع سنوات. وأما فيما يتعلق باختصاصات المجلس النيابي إلى جانب الموافقة على «الترتيبات اللازمة لإجراء الأصول المندرجة» في القانون الأساسي نفسه، فقد نصَّ الفصل العشرون من القانونَين على أن للمجلس أيضًا «القرار: (أ) في جعل الضرائب الحكومية الموضوعة مباشرة مع ما يخصُّها من كيفية التنفيذ والتوزيع على من جعلت عليه تلك الضرائب، (ب) في القواعد المرشدة للخدمات المدنية العامة الجارية بالمبالغ المُخصَّصة لها في القسم الاعتيادي لميزانية قطر برقة، بشرط ألا تزيد المَبالغ المَطلوبة على القدْر المُعين في الميزانية. وقد التزم الطليان مرةً أخرى في المادة أو الفصل التاسع من القانونين الأساسيين بأن «لا تُجعل في قُطر برقة ضرائب حكومية مضروبة مباشرة إلا إذا عمَّت جميع سكانه أو كل من له مصالح فيه، ووافق عليها مجلس النواب المحلي، وللمجلس أن يُقرر كيفية تنفيذها وتوزيعها على من جُعلت عليه تلك الضرائب، ولا تُصرف الواردات الناشئة مما ذكر إلا في مصالح برقة لا غير.»
وفضلًا عن ذلك تضمن القانونان الأساسيان (لبرقة وطرابلس) جميع المبادئ التي تكفل حرية العبادة والدين والملكية الشخصية وحرية الطبع والاجتماع في حدود القانون، وحق التعلم وتأسيس المدارس واحترام لغة البلاد «وحق مباشرة الحرف العالية في إيطاليا، بشرط حصول «البرقاويين» على الشهادات اللازمة.» ثم أُعفي الوطنيون من الخدمة العسكرية الإجبارية، وإنما يجوز تشكيل قوة عسكرية محلية بتجنيدٍ اختياري (يجري تنظيمه) بمُقتضى تنظيماتٍ خصوصية.» وقد تضمَّنت ذلك كل المواد أو الفصول: ٥ و٦ و٧ و٨ و١٠ و١١ و١٢ ويُقابلها نفس المواد في القانون الأساسي الصادر لطرابلس، وعلاوةً على ذلك فقد نص الفصل الحادي والثلاثون — ويقابله الفصل الثلاثون في القانون الصادر لطرابلس — على أن: «الأمور المُتعلقة بالأحوال الشخصية وحقوق العائلة والمواريث والمناسك الدينية تُرفع إلى المحاكم الشرعية فيما يخصُّ الوطنيين المُسلمين، وإلى محاكم الأحبار فيما يخصُّ الوطنيين الإسرائيليين.» وكذلك تضمَّن القانون الأساسي لبرقة بضعة فصول متعلقة بتنظيم الحكومة المحلية من حيث تقسيم سكان برقة «باعتبار تركيبهم منذ القديم إلى قبائل وبطون، وهي العائلات، وأقسام لكل بطن أي عائلة شيخ، كما أن لكل قبيلةٍ شيخًا هو شيخ المشايخ، على أن يكون لدى كل شيخٍ من شيوخ المشايخ — وإذا ناسب الحال لدى شيوخ البطون أي العائلات الكبرى — مجلس انتخابي مؤلَّف من أفراد جماعته يُدعى مجلس الشيوخ له من الوظائف ما ستُقرره الترتيبات.» ثم جعل عمل شيخ المشايخ بمعاونة مجلس الشيوخ مراقبة الأمن في الأرض النازلة فيها القبيلة، وهذا عدا الاختصاصات الأخرى الإدارية والحقوق، أو ما أقرَّه العُرف عند الجماعة، وزيادةً على ذلك فقد أعطى شيوخ البطون أي العائلات — تحت مراقبة شيخ المشايخ ومسئوليته رأسًا — نفس هذه الحقوق والاختصاصات «في نطاق جماعته» (المواد: ٢١ و٢٢ و٢٣ و٢٥). ومما يجدُر ذكره أن القانون الأساسي المُعطى لطرابلس كان خلوًا من هذه التنظيمات، وكان غرَض الإيطاليين من هذه الترتيبات في برقة — على نحو ما سبقت الإشارة إليه — تعزيز «الغريزة الاستقلالية» لدى القبائل العربية والوصول من ذلك إلى إضعاف نفوذ السنوسية في داخل البلاد خصوصًا، وهو الأمر الذي عوَّل سمو الأمير على الاحتياط له في مبدأ الأمر، واستطاع إبطاله بفضل خِبرته وحكمته السياسية والتفاف المجاهدين حوله. وفيما عدا هذا فقد اشتمل القانون الأساسي لبرقة — كما اشتمل نظيره في طرابلس — على التنظيمات اللازمة لمُمارسة شئون الإدارة والقضاء في النواحي والمراكز والمُتصرفيَّات وتأسيس البلديات ومجالسها في المراكز أو المدن الرئيسية (مواد: ٢٦ و٢٧ و٢٨ و٣٠ و٣٢ و٣٣) ويُقابلها في القانون الأساسي لطرابلس المواد: ٢١ و٢٥ و٢٧ و٢٨ و٣١. وأما بقية مواد أو فصول القانون الأساسي فكانت خاصةً بالكيفية التي يمكن بها اكتساب حق المواطن الإيطالي، أي بيان الأحكام التي يُعتبر بمُقتضاها أهل البلاد في برقة (وفي طرابلس) مواطنين إيطاليين (شيتاديني إيتالياني)، ثم بعض الأحكام المُتعلقة بالتقسيم الإداري والحكومة المركزية والأخرى المحلية والقواعد العامة (مواد: ١ و٢ و٣ و٤ و٢٩ و٣٤–٤٢، ويقابل هذا في القانون الأساسي لطرابلس المواد: ١ و٢ و٣ و٤ و٣٠–٤٠). وأما عدد جميع مواد القانون الأساسي فكانت ٤٢ يُقابلها ٤٠ فقط في قانون طرابلس الأساسي.
هذه القواعد والمبادئ أُدمجت في صلب اتفاق الرجمة، فالتزم الطليان باحترام حقوق الملكية (المادة الرابعة)، وأعلنت الحكومة الإيطالية «على رءوس الأشهاد أنها لا تنوي أصلًا أن تتملَّك أراضي الأهالي، سواء كانت مملوكة لأفرادٍ أو لجماعات فضلًا عن أراضي الزوايا لكي تُعطيها ملكًا لآخرين» (المادة ٧). بيد أنه لمَّا كان الأمير يحرص على مصلحة أهل البلاد، ولا يكفيه مجرد النص على احترام الملكية، فقد التزمت الحكومة الإيطالية، بمُقتضى ما جاء في المادة الرابعة ذاتها، بأن «تعتبر ما سيُبديه لها الأمير من رأيه وفكره عند منحِها لكل شركةٍ رخصة امتياز لأجل إجراء أعمالٍ إصلاحية أو تجارية في قُطر بنغازي كله، ولكي تُبين للناس أجمعين أن الحكومة لا تريد إيجاد مصالح لأحدٍ خلافًا لأبناء البلاد، من الآن فصاعدًا على أرباب كل مشروع كبير يزيد رأس ماله عن ٥٠٠ ألف فرنك أن يُقيموا اكتتابًا عامًّا لا يقلُّ عن ربع رأس المال، يكون مُخصصًا لأبناء الوطن ومِن جُملتهم العائلة السنوسية الكريمة دون غيرهم، ويتركوه مفتوحًا لمدة ستة أشهر كاملة ليشتركوا معهم في المشروع.» وفي المادة التاسعة التزم الطليان بعدم فرض أية ضرائب من غير أن يكون المجلس الأعلى قد بحث في ذلك «وقرَّر إمكانه أو عدمه، فإذا حدثت أحوال تراءى فيها من المصلحة استشارة بعض ذوي المكانة غير الحائزين لصفة النيابة، فيمكن الحكومة أن تستقدِمهم وتستشيرهم في ذلك الموضوع.» كما أُعفي «العرب من أهالي قُطر برقة كافةً من الخدمة العسكرية إلا من تطوَّع بحُريته ورضاء نفسه كما ورد في القانون الأساسي» (المادة ١٢). ونصت المادة ١٣ على أن: «تؤسَّس بكل سرعة مُمكنة مدارس ابتدائية وإعدادية حسب ما يقتضيه الموقع، تُدرَّس فيها جميع الفنون الدينية والعصرية.» فتدرس بها المبادئ الدينية واللغة والعلوم الإسلامية والآداب العربية وتاريخ العرب للمُسلمين في جميع صفوف المدارس الابتدائية والوسطى باللغة العربية. وأما سائر العلوم فتدرس باللغة الإيطالية (حسب المادة ١١ من القانون الأساسي)، «وهكذا يعترف الطرفان — تكملة المادة ١٣ من اتفاق الرجمة — بلزوم تأسيس مدرستَين؛ إعدادية وعالية في بنغازي وإعدادية في درنة وواحدة رشدية في كلٍّ من طبرق وأجدابية والمرج، وعند اللزوم واحدة رشدية في كلٍّ من مراوة والزاوية البيضاء. وأما المكاتب الابتدائية فتؤسَّس جميعها في المراكز الداخلية والشواطئ، ويكون جلب الأولاد لها تكليفًا إجباريًّا على الأهالي المُسلمين. وأما ما يختصُّ بالنظام المدرسي فسيُقرره مجلس النواب والمعارف الخصوصية التي يمكن أن تُشكَّل لهذا الغرض.» واعترفت المادة الرابعة عشرة باللغة العربية لغةً رسمية إلى جانب الإيطالية في برقة «وفقًا للقانون الأساسي، وأيضًا في المحاكم تكون المُرافعات بالإيطالية والعربية إذا أمكن.»
وأما فيما يتَّصل باختصاصات مشائخ القبائل ومجالس الشيوخ التي نصَّ عليها القانون الأساسي لبرقة، فقد نصَّت المادة السادسة من اتفاق الرجمة عند الكلام عن نزع الأسلحة وفضِّ الأدوار أو المعسكرات على أن يكون مجلس الشيوخ مُلزمًا بما فُرِض عليه في المادة التاسعة من القانون الأساسي، وأن «يكون رؤساء القبائل ومشايخ المشايخ هم الذين يديرون شئون قبائلهم على حسب نص القانون الأساسي، ووفقًا لهذا القانون يكونون هم المسئولين إزاء الحكومة عن حفظ النظام والأمن في الأراضي القاطنة فيها قبائلهم والتي هي بمنزلتها.» ثم نصت المادة الثامنة على أن تُرتب الحكومة لمشايخ قبائل الوحدات ولمشايخ القبائل الأخرى معاشاتٍ دائمة «باعتبار دفاتر الأسماء التي يُقدمها الأمير للحكومة.»
ولمَّا كان إطلاق التجارة ضروريًّا حتى تأتي المتاجر والأرزاق إلى برقة والجبل الأخضر، فلا يُعرَّض القطر البرقاوي لأخطار المجاعة على نحو ما حدث سابقًا، وكانت البلاد لا تزال تُعاني من آثاره، فقد نصَّت الفقرة الثانية من المادة التاسعة عشرة على أنه: «تطبيقًا للمبادئ الحرة، تكون التجارة حرةً في كل البلاد حتى إلى أقصى الداخلية والعكس بالعكس.» وتعهدت الحكومة الإيطالية بمساعدة «المبادلات التجارية بأحسن وجه حتى بإجراء ما يستفيد منه تجار القوافل من الأعمال النافعة والإنشاءات الصالحة، أما الأمير فهو من جهةٍ يتعهَّد باستعمال نفوذه العظيم في الإرشاد والإقناع كي لا يحُول أحدٌ بأي وجهٍ كان دون مدِّ الطريق والسكك الحديدية وخطوط البريد والأوتومبيلات والسيارات والتلغرافات والتليفونات، ودون الأشغال اللازمة كرسم الأراضي ومساحتها، ودون العمليات التي تقتضيها القوانين العقارية، فإن مثل هذه الأشغال كلها لا بد منها لتعمير البلاد وترقيتها وترويج تجارتها.»
وكان اتفاق الرجمة لا يخلو من أمورٍ التزم بها الأمير، من ذلك ما جاء في الفقرة الأولى من المادة التاسعة عشرة نفسها، حيث تعهَّد سموُّه بأن «يبذل قصارى جهده في معاونة الحكومة لأجل حُسن تطبيق القانون الأساسي، (وذلك بأن) يسهل لدى الأهالي تنفيذ هذا القانون وفروعه المشترط عرضها على مجلس النواب المحلي لكي يُصادق عليها، فيتمكن أبناء البلاد من تدبير شئون أنفسهم بما يستحقُّون من الأعمال الحرة.»
وقد تقدم كيف أن الأمير كان لا يقل رغبةً عن الإيطاليين في تطبيق هذا القانون الأساسي في البلاد للأسباب التي ذكرت، ومن أهمها تقرير «الوضع» الذي نالته برقة على قاعدة إنشاء الحكومة الذاتية في ظلِّ الإمارة السنوسية. وكذلك نصَّت المادة الثامنة عشرة على «أن يُمنع الأمير بصورة قطعية عن تحصيل ما يُقال له الجمرك، وعن جباية الويركو والأعشار وغير ذلك، ولا تُعارض الحكومة في قبوله لشخصه أو زواياه الزكاةَ الدينية المُقدمة له طوعًا وبدون إكراه حسبما يُعطيه الشرع الشريف.»
ولعل أخطر الالتزامات وأكثرها صعوبة كانت تلك التي نصَّت عليها المادة السادسة الخاصة باختصاصات «رؤساء القبائل ومشايخ المشايخ»، والتزامات مجلس الشيوخ القبلي، فقد جاء في هذه المادة أنه «سيُترك لأهالي القطر البنغازي من الأهالي، الحاضر والبادية، ما عندهم الآن من السلاح ليحافظوا على الأمن ويدافعوا عن أنفسهم مع بقاء مجلس الشيوخ ملزمًا بما فُرض عليه (بمقتضى مواد القانون الأساسي لقطر بنغازي)، وهكذا يكون رؤساء القبائل ومشايخ المشايخ هم الذين يُديرون شئون قبائلهم حسب نص القانون الأساسي. ووفقًا لهذا القانون يكونون هم المسئولين إزاء الحكومة عن حفظ النظام والأمن في الأراضي القاطنة فيها قبائلهم، والتي هي بمنزلتها؛ ولذلك — وهنا الغرض الهام من هذه المادة — سيُلغي الأمير بصورة دائمة الأدوار وقرقولاته وكل التشكيلات السياسية والإدارية والعسكرية أيًّا كانت من الجهات التي تُعهَد إدارتها إليه، ويكون إجراء ما ذُكر في الفقرة السابقة في مدةٍ لا تزيد عن ثمانية أشهر من تاريخ التوقيع على هذا الاتفاق.»
هذه كانت مواد اتفاق الرجمة، وفي المادة الأخيرة وهي «المادة العشرون» من هذا الاتفاق جاء النص على «أن المُتعاقدَين يتعهدان أن يُعيدا النظر على ما لم يُنَص عليه في هذا من المسائل الواردة في التسوية السابقة التي قبِلها السيد إدريس مبدئيًّا، وعلى كل مسألة تنشأ بعد هذا الاتفاق، فتحل المسائل المذكورة بصفةٍ ودادية وموافِقة للمبادئ المُقررة هنا، مثلًا كيفيات تحصيل رسوم الجمرك وغيرها المفوَّضة إرادتها المختارة إلى الأمير.»
وبمقتضى إصدار القانون الأساسي لقُطر برقة (أول مايو ١٩١٩م) وإبرام اتفاق الرجمة في ٢٥ أكتوبر ١٩٢٠م وُضعت إذن الأسس التي قام عليها نظام الحكومة الوطنية في ظلِّ الإمارة السنوسية في شطرٍ كبير من القُطر البرقاوي، وإن كانت الإمارة الوطنية الجديدة — على نحو ما سبق توضيحه — قد امتدَّ ظلُّها حتى شمل، بطريق غير مباشر، تلك الأصقاع التي ظلَّت في حوزة الطليان وتحت إدارتهم في السواحل وكان مقرُّ الإمارة السنوسية في أجدابية. وأما الخط الفاصل بين هذه الحكومة السنوسية وبين المناطق التي ظلَّت تحت إدارة الطليان مباشرة بعد اتفاق الرجمة، فكان يمتدُّ من جنوبي «خميس» وسلوك والرجمة إلى شمالي دور الأبيار — الذي يدخل ضمن المنطقة السنوسية — ثم يجري في إقليم الجبل الأخضر شمال سيدي مهيوس وسيدي جبريل، فيمرُّ بغوط ساس ويمتد إلى شمالي القصور، ثم ينحرف إلى جهة مراوة فيمر من شمالها وجنوبي سيدي رافع، ثم ينحرف صوب الصفصاف ويمر شمالي بشارة، ثم يجري بين خولان والقبة وينحرف صوب الشمال إلى مرتوبة ومنها إلى التميمي، ويمر بعين الغزالة وشمالي زاوية المرصص إلى طبرق. وهكذا يدخل في حدود المنطقة السنوسية مرادة والجغبوب والكفرة وأجدابية (العاصمة) وبرقة البيضاء وبرقة الحمراء.
وقد أخذ السيد إدريس ينظم حكومته الوطنية. وفي الواقع كان اهتمام الأمير بتشكيل هذه الحكومة العربية الوطنية ظاهرًا من أيام مفاوضاته الأولى في عكرمة، كما ذكرنا سابقًا، وكانت أولى الخطوات التي اتُّخذت في هذا السبيل القضاء على مكايد الأتراك «وتطهير» أجدابية من العناصر التي كان يعتمد عليها هؤلاء في تعطيل جهود السيد. وقد كلَّف السيد، عند رجوعه من أجدابية حتى يستأنف المفاوضة في عكرمة، السيد صفي الدين بأن يتوجَّه إلى دور (أو معسكر) الأبيار مركز العواقير الجديد، بعد أن تحوَّل مركزهم من وادي حجرة، وذلك حتى يتسلَّم من الطليان العتاد والأسلحة والذخائر اللازمة لاتخاذ الحيطة ضد مغامرات رمضان شتيوي «سويحلي» الذي كان يُريد في هذه الآونة (سبتمبر وأكتوبر ١٩١٧م) الإغارة على برقة وغزوها. وكان السيد قد طلب هذه الأسلحة والذخائر من الطليان استعدادًا للدفاع عن حدود البلاد، فوصل السيد صفي الدين إلى الحزوية بين تاكنس والأبيار، وهناك وجد نتيجةً لمكايد الأتراك السابقة ضد السيد إدريس أنَّ الحرب كانت قائمة فعلًا بين قبائل عرفة والعبيد وبين الدرسة والعبيد وعرفة، يُغِير الجميع بعضهم على بعض بُغية السلب والنهب، كما وجد عصابة من قطَّاع الطريق بين دور الأبيار وبين تاكنس أقامت حكومةً أسمتها «حكومة الصلب»، فأشار السيد صفي الدين على السيد إدريس بضرورة تسوية الدور بين الدرسة والعبيد، وعقد السلام بين القبيلتين، كما أشار بضرورة القضاء على «حكومة الصلب». فقرَّر السيد إدريس أن يُنيب (المرحوم) الشارف الغرياني عن السيد صفي الدين في تسلُّم الأسلحة والذخائر من الطليان لإنشاء المراكز في الحدود وتأمين هذه الحدود، بينما يتفرَّغ السيد صفي الدين لفضِّ النزاع المُستحكم بين القبائل المختلفة. وبالفعل صدع صفي الدين بأمر السيد إدريس، وكان موفقًا في مسعاه، فاستطاع أن يصِل إلى اتفاقٍ مع «حكومة الصلب» على أساس أن يُسلِّم أفراد هذه العصابة أنفسهم في نظير الصفح عن أعمالهم السالفة، فسلَّم بعض أفرادها أنفسهم للحكومة الإيطالية وسلَّم آخرون للسيد إدريس وانتهى أمرهم (في يناير ١٩١٨م).
وفي إبريل كان قد تكلل بالنجاح مسعى السيد صفي الدين في التوفيق بين القبائل المُتخاصمة، ثم ذهب بالقوة أو بالجيش الذي كان يصحبه من الجبل الأخضر إلى أجدابية في أبريل ١٩١٨م، لتسليم هذه القوة إلى وكيل السيد إدريس بالحدود؛ الشارف الغرياني. وكان وجود هذه القوة ضروريًّا لأن رمضان السويحلي كان في هذه الأثناء وقبل تنظيم الحدود الغربية وتأمينها قد أغار على برقة البيضاء والْتحم مع السنوسيين في معركة دامية، كان ممَّن استُشهدوا فيها أحد المجاهدين البارزين من قبيلة المغاربة (الشريف الحزبة). وفي أكتوبر ١٩١٨م عيَّن السيد محمد إدريس السيد صفي الدين نائبًا عن المنطقة الشرقية من الجبل الأخضر في دور عكرمة وخولان ومراوة، وهي منطقة قبائل البراعصة والحاسة والعبيدات. وبمجرد أن تم اتفاق الرجمة بين السيد إدريس والطليان في أكتوبر ١٩٢٠م قسَّم السيد منطقة الجبل ثلاث نيابات، وعيَّن السيد صفي الدين نائبًا عنه في منطقتي مراوة وخولان، وكانت المُهمة التالية التي عهِد بها إلى صفي الدين هي الإشراف على إجراء الانتخابات اللازمة لمجلس النواب المحلي بين أدوار العرب داخل وخارج الحد الفاصل. ولمَّا كان «للإدارة المختارة» وهي حكومة السيد بمُقتضى اتفاق الرجمة ومركزها أجدابية نائب واحد في البرلمان، فقد تعيَّن السيد صفي الدين نائبًا عن هذه الإدارة المختارة. وعند الانتهاء من إجراءات الانتخابات بدأت الدورة البرلمانية الأولى، وحضر حفلة الافتتاح مُمثِّل ملك إيطاليا الدوق أوديني، وتولَّى الرئاسة أكبر النواب سنًّا (المرحوم) السيد عثمان بك العنيزي، ثم انتُخب السيد صفي الدين بالإجماع بعد ذلك رئيسًا للمجلس. وهكذا بدأت الحكومة الوطنية حياتها في برقة.
بيد أنه كان أمام هذه الحكومة صعوبات عدة منشؤها ما نصَّ عليه اتفاق الرجمة (المادة السادسة) من ضرورة «إلغاء الأدوار بصورةٍ دائمة وجميع القرقولات وكل التشكيلات السياسية والإدارية والعسكرية أيًّا كانت من الجهات التي تعهد إدارتها» إلى سموِّ الأمير. فقد تعذَّر إقناع الأهلين بتسليم الأسلحة وحل الأدوار، وهم الذين كانوا على الرغم من إنشاء الحكومة الوطنية لا يزالون يشكُّون في نوايا الحكومة الإيطالية، ولا يطمئنون إلى تسليم أسلحتهم أو معسكراتهم. وكان السبب في هذه الشكوك ما درج عليه الطليان أنفسهم، الذين اعتقدوا في قرارة نفوسهم أن اتفاق الرجمة وما سبقه من اتفاقات، لم يكن ذلك جميعه إلا ذريعة تُمكنهم من الاتصال برجال القبائل العرب ورؤسائهم ومشايخهم، فيتخذون من هذا الاتصال المباشر وسيلة لتحطيم نفوذ السنوسية وتقويض دعائم الإمارة التي أُرغموا على الاعتراف بها في الظروف التي مرَّ ذكرها، فقد عمد الطليان إلى اتباع طريق المخادعة مع السيد إدريس، يُظهرون له الاحترام والتبجيل في كل مناسبة، وغرَضهم من ذلك أولًا أن يُلقوا في روع الأهلين أن الأمير مُنضم إليهم انضمامًا كليًّا، ويتعاون معهم في تنفيذ مآربهم، وثانيًا أن يزيدوا في إحراج السيد إدريس فلا يجِد من السهل على نفسه مُراجعتهم في أمر من الأمور التي تتنافى مع مصلحة أهل البلاد والوطن. بينما كان الطليان، باعتراف كُتابهم ومؤرِّخيهم، يتَّخذون من هذا التبجيل الحكومي الظاهر أداةً لتنفير العرب والقبائل من الأمير ولتحطيم سلطان السيد ونفوذ السنوسيين عمومًا في البلاد. ويظهر ذلك من التبجيل الذي أحاطوا به السيد عندما اعتزم تأدية فريضة الحج في عام ١٩١٩م، فقد سافر السيد وقتذاك من الزويتينة إلى السلُّوم يُريد الذهاب إلى الحجاز بطريق مصر، فانتهز الطليان تعذُّر سفر السيد بطريق القطر المصري بسبب ما فعله الإنجليز الذين رفضوا عبور السيد الحدود، وأحضروا له البارجة الحربية «طبرق» فأقلَّته إلى الإسكندرية، ومن هناك استأنف السيد سفره إلى الحجاز. وكذلك أظهر الطليان لسمو الأمير ضروبًا من التبجيل والتكريم منوَّعة عقب اتفاق الرجمة في عام ١٩٢٠م، فقد سافر الأمير في نوفمبر من هذا العام إلى رومة، واستقبلته الحكومة الإيطالية استقبالًا رسميًّا، واحتفى به ملك إيطاليا فكتور عمانويل الثالث حفاوة بالِغة، وكرمته الحكومة الإيطالية تكريمًا عظيمًا مدة إقامته بإيطاليا، وقد بلغت أربعين يومًا، زار في أثنائها معظم المدن الإيطالية ثم عاد إلى بنغازي في يناير من العام التالي.
ومع ذلك فإن مساعي الطليان مع رؤساء القبائل والمشايخ لم تُثمر ثمرتها المرجوة، وأدرك المجاهدون العرب كما أدرك الأمير نفسه حقيقة ما يُضمره الطليان للقُطر البرقاوي، وأسفرت تدابير هؤلاء الملتوية عن ضياع ثقة العرب بهم في آخر الأمر، حتى أصبح متعذرًا إقناعهم بتسليم الأسلحة أو إلغاء الأدوار على نحو ما تقدم. ومن الغريب أن الطليان الذين شهدوا نتيجة سياستهم الفاشلة — وهي نتيجة كانت متوقعة ولا مفرَّ من الوصول إليها — سرعان ما صاروا يَعزُون إلى السيد وإلى «تردُّده» امتناع العرب عن تسليم الأسلحة وفض الأدوار. ولم يزِدهم هذا الاعتقاد الفاسد إلا إلحاحًا على الأمير وإلحافًا في المطالبة بتنفيذ شروط اتفاق الرجمة (المادة السادسة منه)، وقد وجد الأمير أنَّ من حُسن السياسة أمام هذه الدوافع المتباينة أن يُوقِف الحكومة الإيطالية ذاتها على حقيقة الرأي في البلاد وبين المجاهدين العرب ورؤساء القبائل ومشائخهم، وهم الذين كانت تريد الحكومة الإيطالية الاعتماد عليهم في تقويض نفوذ الإمارة، فعقد اجتماعًا عامًّا من كل هؤلاء في الأبيار في محرم الحرام عام ١٣٤٠ هجرية (سبتمبر ١٩٢١م). وأوفد إلى الاجتماع ابن عمه محمد صفي الدين. وفي اجتماع الأبيار ظهر جليًّا أن الرؤساء والمشايخ لا يؤمنون إلا بمبدأ واحدٍ هو ضرورة الدفاع عن مصالح البلاد وتأييد السنوسية والعمل بكل الطرُق للحدِّ من نفوذ الطليان وإبطال مساعيهم، كما كانوا في أشد الاستياء من استمرار تدخُّل الطليان المُتواصل، ويرَون في إصرارهم على هذا التدخُّل مضيعةً لحقوق الوطن. وقد ظهرت عدم ثقة المجتمعين بالحكومة الإيطالية وبوعودها في القرارات التي اتخذوها بصدد نزع السلاح وفض الأدوار، وحضر الأمير نفسه الاجتماع عند المناقشة في خير الطرق التي تكفُل سلامة الوطن وأهله. فكان من رأي المُجتمِعين عدم حلِّ الأدوار لأنهم لا يأمنون على حياتهم من إيطاليا إذا تشتَّتت المراكز وتفرَّقت الجموع المُحتشدة في الأدوار وسلَّم المجاهدون سلاحهم. ثم اقترحوا على السيد حلًّا وسطًا، هو أن يعرِض سموُّه على الحكومة الإيطالية إنشاء معسكر إيطالي إلى جانب معسكر سنوسي في المراكز المختلفة، على أن يُنفق الطليان على الأدوار مدة خمس سنوات — وكان ذلك من الوسائل التي لجأت إليها لاستمالة الأهلين والرؤساء في داخل البلاد — فقد طلب المجتمعون أن يستمر بقاء الأدوار المُختلطة طوال هذه المدة، حتى إذا تبين بعد انتهائها أن إيطاليا قد أوفت بكل عهودها والتزاماتها ونفذت القانون الأساسي المُعطى لبرقة تنفيذًا كاملًا. لا يجد العرب ما يمنع من انسحاب المراكز الإيطالية من جهة وتسريح الأدوار السنوسية رويدًا رويدًا من جهة أخرى. وكان عمر باشا منصور الكخيا يقوم بالوساطة بين الأمير والوالي الإيطالي ديمارتينو، بينما كان يقوم السيد محمد صفي الدين بهذا الدور بين الأمير والأهلين المُجتمعين في الأبيار. وأما هذه المفاوضات فقد أسفرت عن عقد اتفاق جديد بين السيد محمد إدريس وبين الطليان (الوالي ديمارتينو) في بومريم في ٣٠ سبتمبر ١٩٢١م.
ويظهر فحوى اتفاق بومريم من المُكاتبات المتبادلة بين سمو الأمير السيد إدريس وبين الوالي ديمارتينو؛ فقد أخبر الأمير حكومة الوالي بأنه كان مُصممًا على حلِّ الأدوار في الجبل الأخضر، ولكنه اضطرَّ إلى إرجاء حل هذه الأدوار، خوفًا من حدوث ردِّ فعلٍ بين القبائل، وخوفًا من أن يستأنف البدو القتال بعضهم مع بعض، وأنه من الخير، نظرًا للظروف السياسية القائمة، أن يصل الجميع إلى حلٍّ وسط. فأجاب الوالي في ١٨ أكتوبر ١٩٢١م بأنه «قد أخذ علمًا باعتراف السيد بأنه يتعذَّر عليه حل الأدوار، كما أخذ علمًا بوعد السيد أنه يريد تنفيذ الاتفاق الأول (الرجمة) بعد فترةٍ تمهيدية، وبأن الأمر الذي يجب تنفيذه الآن هو أن يجري تأسيس أدوار مشتركة بدلًا من الأدوار السنوسية البحتة، وأن تكون نسبة الجُند المشتركين في هذه الأدوار من قِبل الحكومة الإيطالية ومن قبل الأمير عشرة إلى ثمانية. فردَّ السيد محمد إدريس على رسالة الوالي ديمارتينو في ٢٨ أكتوبر قائلًا: «إن هذه هي المرة الأولى التي تتخذ فيها الحكومة (الإيطالية) قرارًا عادلًا مَبنيًّا على الاعتراف بحقيقة الأمور.» ثم طلب السيد في هذه الرسالة أن يُبلغه الطليان أسماء المُديرين والضباط والموظفين الذين يقع الاختيار عليهم، وذلك قبل تعيينهم، كما طلب من الحكومة الإيطالية كلَّما أرادت القيام بأية أعمال لتنظيم القبائل أن تُبلغه ما اعتزمت فعله «حتى يتمكن من مساعدتها عند الحاجة، وحتى يمنع وقوع أي حادثٍ لا قدَّر الله.» ثم اختتم الأمير رسالته هذه بقوله إنه يقبل ردَّ الحكومة بخصوص عدد العسكر الحكوميين والسنوسيين بنسبة عشرة من الأوَّلين إلى ثمانية من الآخرين، كما أنه يوافق على تأسيس أدوار مؤقتة لحفظ الأمن واستقرار الهدوء والسكينة، وهي أدوار يجب تأسيسها عند حلِّ الأدوار الأولى، وتبقى قائمة إلى أن يتم تنظيم القبائل وفق المبادئ التي أتى بها القانون الأساسي لقُطر برقة (في أول مايو ١٩١٩م). وبناءً على ذلك وافق مجلس الوزراء الإيطالي في ١٥ أكتوبر ١٩٢١م على اتفاق بومريم، واعتمد تأسيس الأدوار المُختلطة أو المشتركة في كلٍّ من الأبيار وتاكنس واسلنطة وعكرمة، ثم أُضيف إلى هذه بعد ذلك دور في المخيلة. وكان في كل دورٍ من هذه الأدوار ناظر سنوسي من قبل السيد إدريس ومفتش أو ناظر إيطالي، ثم تُعين الحكومة الإيطالية مديرًا، بينما يُعين السيد إدريس مستشارًا سنوسيًّا. ويأخذ الجنود السنوسيون في الأدوار مُرتباتهم من الحكومة الإيطالية، ويقوم الطليان بتمرينهم. وعين السيد إدريس أخاه السيد محمد الرضا ناظرًا سنوسيًّا، بينما عهِد بمنصب المُستشار إلى الشيخ صالح العوامي شيخ زاوية بنغازي، وكان الناظر الإيطالي الجنرال دي فيتا.
وهكذا أجابت الحكومة الإيطالية مطالب أهل البلاد، كما بيَّنها رؤساؤهم ومشائخهم في اجتماع الأبيار، واعتبر اتفاق بومريم في الحقيقة نصرًا لسياسة السيد محمد إدريس الذي استطاع بصورةٍ عملية أن يشلَّ نشاط الطليان في علاقاتهم مع القبائل في داخل البلاد. وفضلًا عن ذلك فقد حصل السيد بموجب اتفاق بومريم نفسه على الحق القانوني في تقييد تدخُّل الحكومة الإيطالية في شئون القبائل العربية بدعوى العمل على تنظيمها. وبذلك تكون قد نجحت أغراض الأمير المُتحدة مع أغراض الأهلين ورؤساء ومشائخ القبائل.
بيد أن هذا النجاح الظاهري الذي أحرزته الإمارة الجديدة كان لا يُرضي الطليان بحالٍ من الأحوال، بل يُسبب لهم إساءة شديدة؛ فقد اعتبر هؤلاء أن السنوسية، بفضل اتفاق بومريم، قد وطَّدت زعامتها في توجيه المطالبة بحقوق أهل البلاد والدفاع عن مصالح القبائل وحريات الأهلين، وذلك خلاف ما كان يريده الطليان الذين هدفوا عند عقد اتفاق الرجمة — أي منذ أكتوبر ١٩٢٠م — إلى سريان القانون الأساسي بحذافيره، وكان من أهم أغراض هذا القانون كما وصفه الطليان أنفسهم وفهموه أن يتمكنوا في نظير إقامة الحكومة الوطنية الذاتية من انتزاع أسلحة الأهلين، وحل الأدوار المختلفة، إلى جانب التدخُّل في شئون القبائل بدعوى تنظيمها؛ بغية الحد من نفوذ الأمير وتقويض سلطة السنوسية. ولكن الطليان وجدوا بدلًا من ذلك أن الأمير صار يقف، بفضل اتفاق بومريم، موقف المدافع عن حقوق البلاد، ويسعى لإقامة البرهان على أن الحكومة الإيطالية هي التي لم تنفذ الوعود التي قطعتها على نفسها بخصوص إنشاء الحكم أو الاستقلال الذاتي، وأنه — أي الأمير — قد وجد نفسه مُضطرًّا بسبب ذلك إلى إبقاء بعض الأدوار ضمانًا لا غِنى عنه لتنفيذ تعهُّدات الحكومة الإيطالية والتزاماتها تنفيذًا كاملًا طبقًا لما جاء في وثيقتي القانون الأساسي واتفاق الرجمة. وفي الواقع لم يَعتبر الطليان الأمير خالص النية تمامًا في اتفاق بومريم لهذه الأسباب كلها، وكانوا يُفضلون كما يذكُر مؤرخوهم قطع علاقاتهم معه والدخول في حرب سافرة ضده، ولكن سوء الحالة في إيطاليا وعدم استعداد الطليان العسكري كان له القول الفصل في إرغامهم على قبول اتفاق بومريم. وكان من الواضح أن العلاقات بين الأمير والحكومة الإيطالية بعد هذا الاتفاق لا تقوم على أساسٍ ثابت، بل كانت عرضةً للانفصام في أي وقتٍ وعند سنوح أول بادرة. وكان للتطوُّر الذي حدث في القطر المجاور الشقيق «طرابلس» — وهو التطور الذي أسفر عن تقديم بيعة الطرابلسيين العامة للسيد محمد إدريس — أكبر الأثر في هذه العلاقات الإيطالية-السنوسية، وجعل الطليان ينكثون عهودهم ويعملون على تقويض دعائم الحكومة الوطنية التي استطاع السيد بفضل حنكته ومهارته السياسية أن ينتزع الاعتراف بها انتزاعًا من بين أيديهم بعد جهادٍ شاقٍّ مرير، استمر بعد عودته من الأقطار الحجازية إلى السلوم في غضون عام ١٩١٥م إلى وقت الاتفاق في بومريم في آخر سبتمبر ١٩٢١م.