بيعة الإمارة
استطاعت السنوسية بفضل ما كان لها من تقاليد راسخة في الحكم أن تُشيد أركان الحكومة الموطدة المستقرة في القطر البرقاوي، وكان من الميسور على أميرها الكبير محمد إدريس السنوسي أن يجمع كلمة العرب والمجاهدين تحت لواء زعامةٍ واحدة، وأدرك الطليان من أول الأمر أنهم أمام قوةٍ منظمة وزعامة سياسية ودينية كبيرة لا مناصَ من الاعتراف بحقوقها إذا هم شاءوا ضمان الهدوء في برقة في وقتٍ ما كانوا يستطيعون فيه المُضيَّ في نضالٍ لا يعرفون عواقبه، وبخاصةٍ عندما كانت الحرب الأوروبية ما يزال يستعر أوارها، ويلقى الطليان منها أهوالًا شديدةً. فكان أن استطاع المجاهدون في برقة، بفضل زعامتهم الرشيدة، أن يحصلوا، في الاتفاقات والمعاهدات التي أُبرمت بين أميرهم السيد إدريس وبين خصومهم، على اعترافٍ صريح بالإمارة السنوسية، وكاد يعظم الأمل في أن عهدًا من الهدوء والسكينة قد بدأ يسود البلاد ويُمهد لحدوث نهضةٍ ثقافية واجتماعية كبيرة، فضلًا عن إنعاش حالة البلاد الاقتصادية وما يجلبه هذا الانتعاش من رخاءٍ ظاهر. وضربت برقة مثلًا حيًّا لما يمكن أن يبلُغه قطر يستمتع بوجود زعامةٍ حازمة لها من سداد الرأي وبُعد النظر ما يكفل تحقيق الأهداف الوطنية. وكان أشد الناس حاجة إلى الموعظة الحسنة أهل القُطر الشقيق طرابلس.
واختلفت الأحوال في طرابلس عنها في برقة اختلافًا كبيرًا؛ فبينما وجد البرقاويون زعامةً رشيدة أخذت على عاتقها من زمنٍ بعيد إصلاح شئونهم الدينية والدنيوية وإقامة الحكومة المُوطدة، وبخاصة في داخل البلاد تنشر الأمن وتؤمن الناس على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم، كان الطرابلسيون مُنقسِمين شيعًا وأحزابًا، لا تجمعهم رابطة ولا يعترفون بزعامةٍ واحدة مسئولة تجمع شتاتهم في صعيد واحد، وتؤلف بين غاياتهم في هدفٍ واحد مشترك لتحقيق مصلحة قومية أو وطنية عامة، حقيقةً استأثرت أسرة القره مانلي بالحكم في طرابلس مدة قرن من الزمان تقريبًا ١١٢٣–١٢٥٢ﻫ (١٧١١–١٨٣٦م)، ولكن عهد هذه الأسرة كان قد انقضى من سنوات طويلة، ولم يُفلح الولاة العثمانيون في إنهاء الاضطرابات الداخلية. وكان منشأ هذه الاضطرابات أن عدة أُسرات طرابلسية طفقت تستبد بالحكم في داخل البلاد، حتى إن طرابلس صارت تُشبه أوروبا شبهًا كبيرًا في زمن الإقطاع المشهور. ذلك أن زعيم كل جهةٍ من الجهات صار يُهيمن على شئون إقليمه، فيحصِّل الأموال والعشور، ويفصل في المنازعات، ويُجند الأهلين لخوض غمار الحروب التي صار يشنُّها من وقت لآخر على جيرانه طمعًا في الأسلاب والغنائم أو سعيًا وراء امتلاك أرض جديدة وإقصاء خصومه أو منافسيه من الحكم في «الدويلات» المجاورة، حتى عمت الفوضى، ولم تُجْدِ سلطة الوالي العثماني نفعًا في إزالة أسباب العداء بين هؤلاء الزعماء أو نشر ألوية السلام والطمأنينة في طرابلس. وعندما تعرض كيان البلاد للخطر عند نزول القوات الإيطالية في طرابلس، الغرب نجح العثمانيون في جمع الكلمة ولمِّ الشمل لدفع هذا الخطر المُفاجئ، وأبدى الطرابلسيون من ضروب الشجاعة والبسالة في الذَّود عن أوطانهم ما سبق بيانه عند الكلام عن الغزو الإيطالي في عام ١٩١١م. ولكنه بمجرد أن وضعت الحرب الإيطالية-الليبية أوزارها، وانسحب الطليان عقب معاهدة أوشي، استأنف الزعماء المحليون منازعاتهم الشخصية، واضطُر سليمان الباروني إلى مغادرة البلاد (١٩١٣م)، فأحرز الطليان عدة انتصارات ثبَّتَت أقدامهم بالمدن الساحلية وحول مدينة طرابلس ذاتها. وكان من أشهر الزعماء المحليين الذين استأثروا بالسطوة والسلطان في داخل طرابلس رمضان سويحلي أو شتيوي في مصراتة، وأحمد المريض في ترهونة، وعبد النبي بلخير في ورفلة، وعلي بن تنتوش في العزيزية، والحاج محمد الفقيني في فصاطو، وعائلة كعبار في غريان، وخليفة بن عسكر في القسم الغربي من الجبل وجزء من الساحل، والمهدي السني الزناتي ومشايخ أولاد بوسيف في الجهة الشرقية من الجبل مع شطر من الساحل، ويمتد نفوذهم إلى الفزان كذلك.
وحاولت السنوسية من أيام نشأتها الأولى أن تنشر التعاليم الدينية الصحيحة وتبذُر بذور الإصلاح الاجتماعي في القُطر الطرابلسي، علَّها تتمكن من نشر ألوية السلام في طرابلس وتقضي على الفوضى المُستبدة بها، ولكن خوف الزعماء المحليين كثيرًا ما كان يقِف حجَر عثرة في سبيل تحقيق غاياتها، ومع ذلك فقد وجدت السنوسية أتباعًا كثيرين لها من بين الطرابلسيين، ثم قوي نفوذها في منطقة سرت وأنشأت زاوية هامة في النوفيلية، ثم ما لبث نفوذها حتى امتدَّ إلى الفزان. وكان الخوف على سلطانهم من زيادة نفوذ السنوسية في هذه البقاع سببًا في إثارة عداء الزعماء الإقطاعيين بطرابلس ضدَّها، وبخاصة في مصراتة، ذلك أن زعيم مصراتة رمضان السويحلي كان صاحب أطماعٍ واسعة، ويريد أن يبسط نفوذه على سائر الزعماء الطرابلسيين، حتى يُنشئ لنفسه ملكًا عضودًا؛ ولذلك فقد ساءه أن يرى السنوسية توطد أركانها في منطقة سرت بنوعٍ خاصٍّ لقرب هذه من مقر سلطانه. غير أن السويحلي كان حذرًا متيقظًا، فلم يشأ أن يُجاهر بعدائه للسنوسية في أول الأمر، بل قبِل التعاون معهم ضد الطليان، وكان الذي دفع رمضان السويحلي إلى التكاتُف مع السنوسيين في ذلك الوقت أن الطليان عندما دانت لحكمهم السواحل أسَّسوا مركزًا مسلحًا بزاوية المحجوب بالجهة الغربية من مصراتة، وكان يصعب على السويحلي إخراجهم منها أو التحرُّر من سلطانهم في مصراتة ذاتها، بل إنه ما لبث حتى قبل أن ينوب عن الطليان في إدارة المحجوب؛ وعلى ذلك فقد وجد من الخير له أن ينحاز إلى جانب السنوسيين في المعارك التي سبق ذكرها. غير أن السويحلي سرعان ما وقع تحت نفوذ العثمانيين الذين أرادوا أن يستمر القتال ضد إيطاليا في برقة بعد أن قرَّر السيد إدريس الدخول في تلك المفاوضات التي أسفرت عن عقد اتفاق عكرمة المؤقَّت، فألحَّ رمضان على السيد صفي الدين في ضرورة إرسال حملة على الحدود التونسية، ورفض السيد صفي الدن أن يستعديَ دولة ثالثة (فرنسا) ضد المجاهدين، فاتخذ السويحلي من هذا الرفض ذريعة لإظهار عدائه السافر ضد السنوسية، وشُغِل رمضان والعثمانيون في طرابلس في الشهور التالية بمقاومة السنوسيين بدلًا من تركيز جهودهم في النضال ضد إيطاليا. ومن أواسط عام ١٩١٧م لم يكن لدى السنوسية وأميرها أي أملٍ في إمكان الحصول على مساعدات من الطرابلسيين والعثمانيين بطرابلس، بل إنه كان هناك من الأسباب ما جعل السيد إدريس والسيد أحمد الشريف يتبعان خطةً مدارها الحيطة والحذَر في علاقاتهم مع أعوان السويحلي وأنصار العثمانيين بالقطر الشقيق، وكان من أهم هذه الأسباب تلك الحوادث التي وقعت في الفزان والتي ذهب ضحيتها محمد علي الأشهب في سبتمبر ١٩١٧م.
وفضلًا عن ذلك فقد عمد الزعماء الطرابلسيون والعثمانيون، حتى يؤمِّنوا المواصلات بين الفزان ومراكزهم الشمالية، إلى تأليف جيش من أهل ورفلة، فاحتلوا في واحات الجفرة جنوبي النوفيلية وسرت كلًّا من سوكنة وودان بعد أن أخرجوا منهما أولاد سيف النصر أكبر مؤيدي السنوسية في هذه الجهات. وقد انسحب أولاد سيف النصر إلى زلة، ثم لم يقتصر الأمر على ذلك، بل إن المنقوش قائمقام سرت — وكان من أهل مصراتة — صار يُكثر من الإغارة على قبيلة المغاربة القاطنة في منطقة سرت، فعظُم العداء بين أهل هذه الجهات وأهل مصراتة والعثمانيين، واستطاعت السنوسية أن تجمع في النوفيلية قوةً كبيرة في منتصف نوفمبر ١٩١٧م، وانضم إليها أولاد سليمان سيف النصر في زلة، وانقضَّ الجميع على سوكنه فجأة، فاحتلوها وطردوا منها قوات ورفلة بعد أن كبدوها خسائر فادحة، وأسروا القائمقام التركي وشنقوه وبسطوا نفوذهم على الجفرة. ولمَّا كان نوري الذي حرك حوادث الفزان ثم حوادث الجفرة يخشى ضياع البقية الباقية من النفوذ العثماني في طرابلس نتيجة لانتصار السنوسيين في الجفرة وتهديد الفزان، ويخشى علاوةً على ذلك تحوُّل الجهاد ضد إيطاليا إلى مجرد مناوشات محلية تُثيرها أطماع الزعماء المحليين أمثال عبد النبي بلخير (ورفلة) ورمضان السويحلي (مصراتة) ضد السنوسية، فقد قرر الآن أن يسعى لمصالحة السيد أحمد الشريف، غير أن مساعيه سرعان ما أخفقت بسبب موقف العداء الذي أصرَّ رمضان شتيوي على أن يقِفَه دائمًا من السنوسية، حتى إن نوري باشا نفسه لم يلبث أن اضطُر إلى مغادرة طرابلس والعودة إلى تركيا في آخر الأمر.
وتفصيل ذلك أن نوري عندما قرَّر مصالحة السيد أحمد الشريف أرسل إليه، كهديةٍ له وللمجاهدين، قافلة مُحملة بالأرزاق، وبَينا كانت القافلة في طريقها إلى منطقة سرت هاجمها رمضان شتيوي برجاله بالقُرب من تاورغة، وقتل رجال القافلة، ثم حُملت الأرزاق المنهوبة إلى منزل رمضان بزاوية الحجون في مصراتة. وقد تقدَّم ذكر هذه الوقائع عند الكلام عن الحوادث التي سبقت خروج السيد أحمد الشريف من العقيلة إلى تركيا، وعندما بلغ نوري ما حدث غضب غضبًا شديدًا، ولكن رمضانًا أنكر فعلته وتظاهر بالغضب لاتهامه بهذه التهمة. وعلى ذلك أرسل نوري قافلة ثانية، ولكن قائمقام سرت المصراتي (المنقوش) ما لبث هو الآخر حتى استولى على الكثير مما كانت تحمِله من أرزاق، فلم يجد السيد أحمد الشريف مناصًا من أن يكتب إلى نوري يُخبره بما حدث، ثم يقول له إنه إذا كان الغرَض من انتقاله — أي انتقال السيد أحمد الشريف — إلى طرابلس بعد فشل الهجوم على الحدود المصرية أن يقود النضال ضد الطليان ويفض المشكلات الداخلية بوصفه نائبًا عن السلطان، فإن ذلك قد أصبح الآن مُتعذرًا لأن نوري فضَّل أن يستمر على علاقات المودة والصفاء مع رمضان السويحلي، وهو رجل أقل ما يُقال فيه أنه مُستبد وقاطع طريق.
وعلى ذلك فإن السيد أحمد يرى — على حد قوله — أن من الأفضل أن يترك طرابلس وشأنها، فينسحب إلى واحة الكفرة ويترك في يد ابن عمه السيد إدريس كل السلطة، فكان من أثر هذا التهديد بالانسحاب من البلدان أن بادر نوري بمجرد وصول كتاب السيد أحمد إليه بعقد اجتماع في مصراتة حضره رمضان شتيوي، وكان غرض نوري من هذا أن يحمل رمضان شتيوي على الاعتراف بمركز السيد أحمد الشريف بوصفه نائبًا عن السلطان العثماني في القُطر الطرابلسي. ولكن رمضان أصرَّ على عدم الاعتراف بشخصٍ ينتمي إلى السنوسية مندوبًا للسلطان، وفضلًا عن ذلك فإن السيد أحمد الشريف كان على حدِّ قول السويحلي غريبًا عن طرابلس ولا يمتُّ لها بصلة، فأثار هذا الجواب غضب نوري الذي ما لبث حتى هدَّد بمغادرة البلاد تاركًا وقوع مسئولية كل ما يحدُث بعد ذلك على عاتق رمضان وحدَه نتيجة لعدم امتثاله الأوامر. ولمَّا كان رمضان يخشى أن ينفذ نوري وعيدَه ويترك البلاد في ذلك الوقت العصيب، فينقطع بذهاب نوري مجيء المؤن والأسلحة والذخائر والمال من الآستانة، وتضعف روح أهل البلاد المعنوية، بل وربما حدثت هؤلاء أنفسهم بالانفضاض من حول زعيمهم، فقد أحكم الرقابة على نوري بعد ذلك حتى يمنعه من السفر.
ولكن نوري سرعان ما وجد وسيلةً مكَّنته من الإفلات من هذه الرقابة، فغادر البلاد في أوائل يناير ١٩١٨م، وحملته غواصة ألمانية أولًا إلى السلطان على أمَل مقابلة السيد أحمد الشريف بها، ولكنه لم يجِده، بل وجد صالح الأطيوشي (باشا) شيخ المغاربة الرعيصات، فأخبره الأطيوشي بأن السيد أحمد الشريف قد ذهب إلى الكفرة، فاستأنف نوري السفر إلى بولا ومنها إلى إستانبول. وعندما كشف السويحلي إفلات نوري أُسقط في يدِه، ثم بادر بالعمل على تهدئة النفوس، فأذاع أن نوري إنما ذهب للآستانة حتى يُنظم مجيء الغواصات إلى طرابلس، وأنه سوف يعود قريبًا مُحملًا بالأسلحة والذخائر والمهمات المختلفة.
وساءت الأحوال بعد خروج نوري من طرابلس، إذ انتهى بذهابه كل أملٍ في إمكان إقناع السويحلي وطغمته، أو غيره من الزعماء المحليين أمثال عبد النبي بلخير صاحب ورفلة، بضرورة إزالة أسباب العداء بينهم وبين السنوسية حتى يستطيعوا جميعًا القضاء على الخطر الطلياني. بل إن السويحلي وعبد النبي بلخير ما لبثا أن استأنفا النضال ضد السنوسية، وعلاوةً على ذلك فقد زادت الأمور تعقيدًا عندما اشتدَّ النزاع الداخلي بين مصراتة وترهونة خصوصًا، فقد جمع السويحلي وعبد النبي بلخير جموعهما وبدأت المناوشات بين مصراتة وورفلة من جانب وبين السنوسيين من جانب آخر، فانتصر السنوسيون عليهم (في ٩ يناير ١٩١٨م) بالقُرب من سواني وشة، واستولى أنصار السنوسيين على مواشي ورفلة قريبًا من وادي صفجين، ثم انهزمت جيوش ورفلة كذلك يوم ٢٤ يناير على يد سيف النصر صاحب السيطرة والسلطان في واحات الجفرة، والتزم عبد النبي بلخير من ذلك الحين خطَّة الدفاع عن ورفلة ذاتها، ووجد رمضان شتيوي أنه بات من المُتعذِّر الاعتماد على ورفلة في حركاته العدوانية ضد السنوسية فعوَّل على الاستقلال بالعمل. وفي أوائل مارس خرج المنقوش قائمقام سرت إلى وادي أجر، فدفع أمامه المغاربة، وكاد يتمُّ له النصر لولا أن هؤلاء سرعان ما جاءتهم النجدات من مركز السنوسية العتيد في النوفيلية، فأوقعوا بقوات مصراتة هزيمة ساحقة، وأمام هذه الهزيمة لم يجد رمضان السويحلي بدًا من أن يسعى لمصالحة السيد أحمد الشريف حتى يزيل بعض آثارها.
وكان السيد أحمد الشريف يقيم وقتذاك بمرسى جودية، ولكن فرصة الصلح كانت قد فاتت في الحقيقة، ذلك أن قوات مصراتة ما لبثت حتى اضطرَّت إلى التقهقر، وضرب السنوسيون عليها نطاق الحصار في سرت، فانعزل المنقوش وقوِيَت شوكة السنوسية وقوي سلطان سيف النصر حول سِرت، وترتَّب على هذا الانتصار ظهور مشاكل جديدة سرعان ما جذبت إليها نشاط السويحلي واستغرقت كل جهوده، ولم تكن هذه المشاكل الجديدة إلا جزءًا من تلك المنازعات التي كثيرًا ما كانت تنشأ بين الزعماء الإقطاعيين في طرابلس حول امتلاك الأراضي وتوسيع دائرة نفوذهم. وبيان ذلك أنه على الرغم من اتحاد كلمة هؤلاء الزعماء في نضالهم ضد السنوسية خوفًا على امتيازاتهم المحلية من الضياع، فإن العداء كان مُستحكمًا بينهم، وخصوصًا بين رمضان السويحلي صاحب مصراتة وأحمد المريض صاحب ترهونة.
وكان سبب النزاع بين مصراتة وترهونة أن كلًّا منهما أراد الاستيلاء على مسلاتة، وكانت هذه تقع في منتصف المسافة تقريبًا بين مصراتة وترهونة، ويسيطر عليها في هذه الآونة رمضان سويحلي. وكان لصاحب ترهونة أحمد المريض أطماع لا تقل في غلوِّها عن أطماع السويحلي نفسه، فهو يريد أن يدعم سلطانه في ترهونة ذاتها فيُصبح أقوى زعمائها إطلاقًا، ويدَّعي إلى جانب ذلك حقوقًا على مسلاتة. وفطن العثمانيون إلى أنه باستطاعتهم أن يستميلوا المريض إلى مواصلة النضال ضد الطليان إذا هم ساعدوا على تأييد سلطانه على نحو ما كانوا يفعلون مع السويحلي نفسه، فعيَّنوه متصرفًا في منطقته بدلًا من الحاكم التركي، فأضحى لذلك أعظم الزعماء خطرًا في ترهونة. وعلاوةً على ذلك فقد أدرك الطليان من جانبهم أنهم إذا استطاعوا استمالة المريض إليهم دفعوا عن مراكزهم الساحلية في الخمس وغيرها أخطارًا كبيرة، فلم يتوانَوا هم الآخرون في جذبِه إليهم، على نحو ما فعلوا كذلك مع السويحلي.
وهناك ما يثبت أن المكتب السياسي العسكري الإيطالي بطرابلس كان يُمد المريض بالمال؛ بدعوى الاستمرار في صرف ما كان يتقاضاه من مُرتبات قديمة من أيام انتهاء الحرب الليبية-الإيطالية. واعتقد الطليان أن أحمد المريض كان في الباطن من مؤيديهم، وأنه لم يلجأ إلى مُصانعة الأتراك إلا على سبيل الحيطة والحذَر منهم، وبخاصة عندما كان هؤلاء منذ نزول نوري بمصراتة يُقبلون على تأييد السويحلي. وكان السويحلي عندما تبيَّن له عجز ورفلة عن مساعدته، بعد الهزائم التي أنزلها به السنوسيون وأنصارهم في سواني وشة ووادي صفجين، قد عمد إلى تجنيد العرب من أهالي مصراتة ومسلاتة، وأمعن في جمع العشور والأموال منهم لتأليف جيش كبير يستطيع الصمود في وجه السنوسية، فحرك السويحلي بعمله هذا أحقاد أحمد المريض، فانتهز هذا فرصة انهزام أهل مصراتة في وادي أجر وما دخل على صفوفهم من ارتباكٍ بسبب هذه الهزيمة وأعلن أن له حقوقًا على مسلاتة ومنع التجنيد وقبض العشور، وتحرَّجت الأمور بين ترهونة ومصراتة. وفضلًا عن ذلك فإن ترهونة ما كانت تعترف البتة بسيطرة السويحلي وما كانت تحتمِل هذه السيطرة، بل إن المريض كان يرى من سوء الرأي والتدبير أن يتَّفق مع السويحلي على شيء؛ لأن من شأن هذا الاتفاق أن يستعديَ عليه السنوسية، وكان للسنوسية أنصار عديدون في ترهونة، ولم يمنع من وقوع الصدام غير وصول الأمير عثمان فؤاد إلى طرابلس في شهر مايو ١٩١٨م، إذ إن مجيء الأمير ما لبث أن أحدث تغييرًا كبيرًا في الموقف، فقد بدأت الحوادث تسير حثيثًا من ذلك الوقت نحو غايةٍ مزدوجة، هي أولًا إنشاء حكومة موطَّدة الدعائم تستطيع مواصلة النضال بنجاح ضدَّ إيطاليا حتى تنتزع منها نوعًا من الحُكم الذاتي للبلاد يستمتع الطرابلسيون في ظلِّه بالأمن على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم، ويسيرون بفضله قدمًا في طريق الإصلاح الاجتماعي والانتعاش الاقتصادي، ثم تسوية العلاقات بين الطرابلسيين والبرقاويين على أساسٍ من الودِّ والصداقة كيما تتوحَّد الجهود في النضال من أجل إنقاذ حريات الوطن وحقوق الطرابلسيين والبرقاويين من براثن المُستعمِر الإيطالي. وكان المسئول الأول عن رسم خطوط هذا البرنامج المزدوج المجاهد المصري عبد الرحمن عزام (باشا). غير أنه لإدراك حقيقة هذه التطوُّرات الهامة الأخيرة لا مندوحة عن ذكر طرفٍ من التدابير التي اتخذها العثمانيون من أجل إنشاء نوع من الحكم في طرابلس يكفُل استئناف الجهاد عندما قرَّروا مواصلة الكفاح ضد الطليان في طرابلس وقت اشتعال الحرب العالمية الأولى.
فقد سبق ذكر الظروف التي غادر فيها سليمان الباروني طرابلس في أواخر عام ١٩١٣م، ولكنه بمجرد أن قرَّر العثمانيون القتال ضد الإنجليز في برقة وضد الطليان في طرابلس، أرسل أنور باشا الشيخ سليمان الباروني لاستئناف الجهاد في طرابلس الغرب، فوصل الباروني إلى السلوم في غضون عام ١٩١٥م، وحضر تلك الاجتماعات التي عقدها نوري أخو أنور وجعفر العسكري مع السيد أحمد الشريف. وانتهز الباروني فرصة وجوده بالسلوم فأخذ يدرُس الموقف عن كثَب، وعمل على إنشاء الصِّلات الوثيقة مع الزعماء والمجاهدين في طرابلس مرة أخرى، ثم عاد إلى الآستانة وأوفد أخاه إلى طرابلس حتى يستوثق من رغبة الطرابلسيين في متابعة النضال ضد إيطاليا. فحضر الشيخ يحيى إلى طرابلس، وعندما اتَّضح له أن الزعماء ما زالوا مُصمِّمين على القتال بعث الشيخ إلى أخيه، فجاء سليمان الباروني ونزل في مصراتة، وكان الباروني يحمل من السلطان فرمانًا بتعيينه واليًا على طرابلس وقائدًا عامًّا لقوَّاتها المجاهدة، وبدأ يعمل منذ قدومِه لإنشاء حكومةٍ عربية منضوية تحت لواء الآستانة، وتدين لدولة الخلافة بالتبعية، ثم ما كاد يستقرُّ به المقام بالبلاد حتى أصدر منشورًا في ١٧ أكتوبر ١٩١٦م أعلن فيه «إلحاق طرابلس الغرب بالولايات العثمانية»، وفضلًا عن ذلك فقد أنبأ الباروني أهل البلاد في هذا المنشور بأنه سوف يتبادل الرأي مع «البطل الغيور رمضان بك (السويحلي) ومَن معه من الأبطال عن المكان واليوم الذي يصير فيه الاجتماع العمومي.» تمهيدًا لاتخاذ ما يلزم من إجراءات وترتيبات مدنية وعسكرية من أجل إنشاء حكومة منظمة تستطيع الاضطلاع بعبء مواصلة الكفاح ضد إيطاليا. ولمَّا كان ضروريًّا إزالة أسباب الخلاف بين رمضان السويحلي وأتباعه من جانب وبين السنوسيين وأحلافهم من جانب آخر حتى تستطيع تلك الحكومة التي يعتزم إنشاءها أن تؤلِّف بين قلوب المجاهدين وتضمَن تعاونهم في النضال ضد إيطاليا، فقد أرسل الباروني إلى سموِّ السيد محمد إدريس كتابًا في ٢٥ أكتوبر ١٩١٦م يرجوه فيه أن يكفَّ السنوسيون عن القتال، ويذكر أنه علم لدى وصوله إلى مصراتة «أن قوة قدمت من جهة برقة تحت قيادة القائمقام موسى بك واحتلَّت قصر سرت بعد أن بارحتها قوة الزاندرمة (الدرك) التي هنالك من طرف رمضان بك السويحلي باسم الدور العثمانية.» ثم اختتم كتابه هذا برجاء السيد إدريس أن يعمل «لتسوية هذه المسألة»، وكان السيد إدريس صادق الرغبة في إنهاء هذه الخلافات حقنًا لدماء المُسلمين، فبادر سيادته بالكتابة إلى الباروني في ٤ نوفمبر يذكُر أن السبب الذي دعاه إلى احتلال قصر سرت هو ما حدث قُبيل مجيء الباروني من اشتعال الفتن بين السويحلي وأهل ترهونة «فأجبرنا الحال أن نُطفئها بأي سببٍ كان، كما قال الله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ، ثم قال السيد في كتابه: «نحن لا غرَض لنا إلا الاتحاد الإسلامي وتخليص رقاب المُسلمين فقط.» وأصدر الأوامر إلى جُنده بالوقوف بالقصر، وطلب إلى الباروني أن يُعاونه في إخماد الفتن والقلاقل، وكان مِن أثر رغبة السيد في جمع الكلمة وتوحيد الصفوف أن انتشر السلام على الحدود البرقاوية الطرابلسية فترةً مِن الزمن كانت كافيةً لأن يتمكَّن الباروني في أثنائها من التوسُّط في الصلح بين السويحلي والمريض، ثم استئناف الجهاد ضد إيطاليا، ودارت بينه وبين الطليان معارك حامية وقع أكثرها حول مدينة طرابلس وزنزور وزوارة والعجيلات.
غير أن السويحلي ما لبث أن عاد إلى سابق عهده، فأظهر العداء للسنوسيين، وشجَّعه على ذلك نزول نوري بمصراتة بعد انسحابه من برقة، فالْتحم السويحلي مع السنوسيين وأنصارهم في نفس المعارك التي سبق ذكرها، واضطرَّ نوري إلى مغادرة طرابلس، وظهرت الحاجة الشديدة إلى إنشاء حكومة موطَّدة جديدة في طرابلس. وكان في هذه الظروف أن حضر الأمير عثمان فؤاد إلى الآستانة.
وكان الأمير عثمان فؤاد من أقرباء السلطان مراد الخامس الذي تولَّى العرش في عام ١٨٧٦م لمدة ثلاثة شهور فقط، وأبوه صلاح الدين أعظم أعضاء البيت المالك شهرة، ويلي ولي العهد مباشرةً في وراثة العرش، وكانت هذه الصِّلة القريبة هي سبب وقوع اختيار أنور باشا وجماعته على الأمير عثمان فؤاد، وهو ما يزال في ذلك الوقت شابًّا لا يزيد عمره على ثلاثةٍ وعشرين عامًا، وتضاربت الأقوال في بيان الطريقة التي بها اختيار الأمير العثماني، فذكر كثيرون أن ألمانيا هي التي أرادت إرساله حتى يُشعل جذوة الحرب من جديدٍ في ليبيا، وكانت تريد أن يُرافقه أمير وقائد ألمانيان، ولكن أنور باشا عارض في ذلك معارضةً شديدة، ومع ذلك فقد اتَّفقت أقوال الثقات على أنَّ الغرَض من إرساله كان، بلا جدال، تنظيم جهود الطرابلسيين في النضال ضد إيطاليا وإزالة الخلافات القائمة في صفوف المجاهدين، فأشيع وقتذاك أن أوامر مُعينة قد سبقت قدوم الأمير العثماني بعث بها الباب العالي إلى رمضان شتيوي صاحب مصراتة، تحضُّه على وجوب الاتفاق مع السيد أحمد الشريف والامتثال لكل ما يُصدره الأمير عثمان فؤاد من أوامر، وإنذاره بقطع الإمدادات عنه إذا هو خالف الأمير العثماني. ووصل الأمير في إحدى الغوَّاصات، وجاء معه عدد من الضباط الأتراك كان من بينهم إسحاق باشا، هذا فضلًا عن بعض الخبراء الألمان الذين أنشئوا، بمجرد وصولهم إلى مصراتة، محطة للاسلكي يتلقَّون عن طريقها الأنباء عن تطوُّر القتال في ميادين الحرب المختلفة بأوروبا.
وعندما وصل الأمير عثمان فؤاد أخذ يُنفذ برنامجًا واسعًا دلَّت الحوادث على أنه كان في جوهره وتفاصيله من ثمار تفكير رجلٍ آخر عركته التجارب ورسخ إيمانه في القُدرة على تحقيق أهداف البلاد الوطنية؛ ذلك أن الأمير عثمان فؤاد علاوة على صغر سنِّه كان لا يعيش في حياته الخاصة عيش العرَب المجاهدين ولم يستمتع بشهرة عظيمة، فكان الأهلون بسبب قلَّة خبرته بتصريف الشئون وعدم حِنكته لا يطمئنُّون إليه ولا يركنون إلى تدبيراته. ولكن على الرغم من ذلك كانت الفترة القصيرة التي تسلم فيها الأمير عثمان فؤاد زمام الأمور من مايو إلى نوفمبر ١٩١٨م فترة نشاط عظيم، بذرت في أثنائها تلك البذور التي مهَّدت لظهور أول حكومة مُنظمة في القطر الطرابلسي منذ أن بدأ النضال ضد إيطاليا، وأعني بذلك حكومة الجمهورية الطرابلسية. وأما كيف تسنَّى حدوث ذلك كله، فالأمر بسيط هيِّن إذا تذكَّرنا أنه حضر من تركيا مع الأمير عثمان «عبد الرحمن عزام».
وقد سبقت الإشارة في الفصول الماضية إلى جهود «العزام» — وهو الاسم الذي عرفه به وقتذاك معاصروه العرب — ولكن وصف الظروف التي أتت بالعزام إلى برقة وطرابلس ضروري لإدراك حقيقة الجهود التي بذلها هذا المجاهد الشابُّ وسط خِضمٍّ من الحوادث بصورةٍ سرعان ما أثارت الإعجاب بنشاطه وصِدق إيمانه من كل جانب، فوثق به زعماء طرابلس وثوقَهم بأنفسهم، وائتمنه المجاهدون الطرابلسيون على مصالحهم الوطنية، واستمعوا لنُصحه وإرشاده، وساروا في كل طريقٍ كان يرى من مصلحة الوطن العُليا أن يُوجِّههم إلى سلوكه، بل إن وثوق المجاهدين به واستماعهم لنُصحه وإرشاده بلغ درجةً من الخطورة انتزعت من الطليان انتزاعًا الاعتراف الصريح بأن المجاهدين ما كانوا ليصلوا إلى ما وصلوا إليه من إنشاء الحكومة المُنظمة ورفع أعلام الجمهورية والمُطالبة بالحريات الشخصية والقانونية، ثم إرغام إيطاليا في آخر الأمر على إصدار القانون الأساسي، لو أن «العزام» لم يكن العقل المُدبر واليد المُحركة في ذلك كله.
وكان العزام من الطلبة المصريين الذين عقدوا العزم على مكافحة الاستعمار والمُستعمرين من اللحظة الأولى، قصد إنجلترا لإتمام دراسته، ولكنه حدث أن انعقد مؤتمر وطني في جنيف بسويسرا في يونيو ١٩١٤م، فحضر عبد الرحمن عزام هذا المؤتمر مندوبًا عن الطلبة في لندن. وعندما بدأت الحرب العالمية الأولى في أغسطس من العام نفسه، أوفده المؤتمر إلى مصر ليجمع المال اللازم لمعاونة المؤتمر على العمل في سبيل استقلال مصر، وجاء عبد الرحمن عزام إلى مصر ولكنه لم يستطع الخروج منها، وأنذره الإنجليز بعدم مغادرة البلاد، ووضعوه تحت مراقبةٍ صارمة، فالتحق بالقصر العيني يعمل في مستشفاه، ثم حدث هجوم الأتراك المُترقَّب على قناة السويس، فأرسل الإنجليز الأتراك من الميدان إلى مستشفى القصر العيني، وكان عزام ممَّن سهروا على تمريضهم، فاستطاع أن يقِف من هؤلاء الجرحى على آخِر الأنباء العسكرية، وصار يتحيَّن الفرَص للإفلات من رقابة الإنجليز، حتى إذا أتى شهر ديسمبر من عام ١٩١٥م اختفى العزام فجأة من القاهرة وذهب إلى الإسكندرية، ثم ساعدَه اثنان من العرب على اجتياز الحدود الغربية إلى برقة، فوصل إلى معسكر نوري باشا بعد معركة بئر تونس، وأحضر معه إلى نوري رسائل من الضباط الأتراك وعددًا من المقصَّات لقطع الأسلاك الشائكة، ورحَّب به القائد العثماني وأكرم وفادته، ثم بدأ العزام يتدرَّب على فنون الحرب والقتال. وفي فبراير ١٩١٦م حضر معركة العقاقير مع نوري وجعفر العسكري، وهي المعركة التي أسر فيها الإنجليز جعفر العسكري، وكاد يقع نوري والعزام في أسرهم. وعندما أخفقت حملات السيد أحمد الشريف ونوري باشا على الحدود الغربية، وتأزَّمت الأمور في برقة بسبب انتشار المجاعة والطاعون، وألحَّ أهل البلاد في ضرورة إنهاء النضال على نحوِ ما سبق تفصيله، ذهب نوري باشا ومعه عبد الرحمن عزام إلى طرابلس في أواخر عام ١٩١٦م لمواصلة الجهاد في القُطر الشقيق باسم الحكومة العثمانية، ونزل نوري باشا وعبد الرحمن عزام بمصراتة، وكان رئيس حكومتها رمضان السويحلي، فأكرم وفادة العزام، وتفتحت أمام العزام آفاق واسعة، وسيطرت روحه على نشاط المجاهدين، فكان نوري باشا لا يُبرم أمرًا دون استشارته والرجوع إلى رأيه، والتفَّ حول العزام المجاهدون العرب، ووثق به رمضان السويحلي، ولم يكن هذا المُغامر يثِق بأحد إلا في النادر القليل. ولا جدال في أن توطُّد العلاقات بين العزام والسويحلي في ذلك الوقت كان لخير القضية الليبية؛ ذلك بأن العزام استطاع أن يكبح كثيرًا من جموح السويحلي ويحدَّ من غلوائه ويُرغمه على أن يُخفف شيئًا من حدة عدائه للسنوسية ويُقنعه بضرورة إزالة أسباب الخلاف المُستحكم بينه وبين سائر الزعماء الطرابلسيين. أضِف إلى ذلك أن رمضان السويحلي كان يبدو وقتذاك رجلًا قويَّ الشكيمة يمكن الاعتماد عليه في قيادة الجهاد في طرابلس ضد الأعداء الطليان، بيد أن العزام لم يطُل به المقام حينذاك بطرابلس؛ لأنه ما لبِث حتى غادرها مع نوري باشا في غوَّاصة ألمانية نقلتهما إلى بولا، فذهب العزام مع نوري إلى الآستانة في أغسطس ١٩٢٧م، ثم أوفدته الحكومة العثمانية إلى برلين وفينَّا لعمل الترتيبات اللازمة لإرسال عتاد الحرب إلى طرابلس. ووقع اختيار الحكومة عليه بعد ذلك حتى يرافق الأمير عثمان فؤاد عند مجيء الأمير إلى طرابلس في مارس من العام التالي، وذلك بوصفه مستشارًا للقيادة العامة في أفريقية الشمالية. وكما كسب العزام من قبل ثقة نوري باشا، فإن الأمير العثماني سرعان ما وضع فيه كل ثقته، ثم انضم الضابط التركي عبد الرحمن نافذ بك إلى العزام وعثمان فؤاد، وكان نافذ قد حضر مع الأمير رئيسًا لأركان حربه، فصار ثلاثتهم يُهيمنون على شئون الجهاد في العهد الجديد، وفي هذه الحكومة الثلاثية كان العزام عقلها المُدبر وصاحب الرأي المسموع في مداولاتها، وظهر أثر توجيهات العزام في كل ما وقع من حوادث منذ مجيء عثمان فؤاد إلى طرابلس حتى وقت أن غادرها.
وكان وصول عثمان فؤاد إلى طرابلس (في مايو ١٩١٨م) في وقتٍ استحكم فيه الخلاف بين السويحلي والسيد أحمد الشريف من جهة، وبين السويحلي وأحمد بك المريض من جهة أخرى؛ وعلى ذلك فقد قابل الأمير عثمان فؤاد السيد أحمد الشريف في مرسى العقيلة، ثم دعا الزعماء لمقابلته بمجرد نزوله في مصراتة، فحضر سليمان الباروني وغيره من الزعماء، ولكن المريض امتنع عن المجيء إلى مصراتة، كما أن أحدًا من زعماء ترهونة لم يحضر هذا الاجتماع، فتحدَّث عثمان فؤاد إلى الحاضرين في ضرورة الوثوق بتركيا وهي الدولة التي عقدت العزم — على حدِّ قوله — على تحرير القطر الطرابلسي من نير الطليان، ثم أخذ يحثُّهم على الاتحاد. وكان واضحًا من مبدأ الأمر أنه لا مناص من العمل لتوحيد الجهود وجمع الكلمة وإزالة أسباب الخلاف بين الزعماء إذا أراد المجاهدون أن يصلوا بالجهاد إلى غايته، فانحصرت من ذلك الحين جهود عثمان فؤاد وعبد الرحمن عزام مستشار القيادة العامة في حمل الزعماء على تناسي خلافاتهم وبذل الهمَّة في النضال ضد الطليان المُستعمرين، وأخذ عثمان فؤاد يبذل قصارى جهده حتى يجمع بين السيد أحمد الشريف ورمضان السويحلي، ولكنه لقِيَ في مسعاه معارضةً شديدة من جانب السويحلي الذي أصرَّ دائمًا، لحكمةٍ قد لا يعرفها سواه، على أن يحضر السيد أحمد الشريف بنفسه إلى مصراتة معقل السويحلي المنيع، ولا يصحبه عند حضوره إلا نفر قليل لحراسته، ومع ذلك فقد حرص عثمان فؤاد دائمًا على استمالة السيد أحمد الشريف، وأكثر من إرسال الهدايا إليه، وحاول في الوقت نفسه أن يستميل المجاهدين السنوسيين، فأكد لهم أنه لن يتوانى في العمل مع السيد أحمد الشريف لطرد الأجانب جميعًا من أفريقية الشمالية. ولكن هذه الجهود لم تثمر ثمرتها المطلوبة بسبب عداء رمضان شتيوي الظاهر للسنوسية، وفضلًا عن ذلك فإن الأمير عثمان فؤاد لم يكن موفقًا في جهوده التي بذلها من جانب آخر لإنهاء الخلاف القائم في المنطقة الغربية، ثم لاستمالة سليمان الباروني وأهل ترهونة إلى تأييد أهدافه؛ وسبب ذلك أن الباروني وأهل ترهونة كانوا جميعًا يضجُّون بالشكوى من الحاكم العثماني إسحاق باشا الذي جاء مع عثمان فؤاد إلى طرابلس، وكان الطرابلسيون يعرفون «إسحاق بك» أيام الحرب الليبية-الإيطالية ضابطًا شجاعًا صاحب سُمعة طيبة، ولكن إسحاق بك ظلَّ يجهل اللغة العربية، وعلاوةً على ذلك فقد جاء في هذه المرة مُصممًا على الاستئثار بكل سلطة مدنية وعسكرية في المنطقة الغربية، وتطايرت الإشاعات بأنه كان يحمل أوامر سرِّية تنصُّ على أن يُنصَّب أمير من البيت العثماني على طرابلس يُعطي كل السلطات المدنية والعسكرية لرجلٍ يدعى يوسف بك.
وقد استبد إسحاق باشا بالحكم، حتى إن عدد الذين شنقَهم من الأهلين في مدة لا تزيد على بضعة أسابيع بلغ أربعين، وكان مما جعل العرب ينفرون منه زيادةً على ما تقدَّم أنه اصطنع الغلظة في معاملته الأهالي، وأظهر غطرسة وكبرياء، فكان من أثر ذلك كلِّه أن انتهز سليمان الباروني هذه الفرصة وأخذ يعمل لاسترجاع السلطة التي سلبَها منه إسحاق باشا، فأكثر من الإقامة بالعزيزية بدلًا من الانزواء بالزاوية، وأنشأ الصِّلات الوثيقة مع الزعماء في ترهونة وغيرها، وعندما طلَب إليه الأمير عثمان فؤاد أن ينشر الدعوة لتأييد العثمانيين ويجمع كلمة المجاهدين في النضال ضد إيطاليا قابل الباروني في الزاوية أحمد المريض وكثيرين من زعماء ترهونة وغيرهم من زعماء المنطقة الغربية، وأكد لهم أن النصر حليف الدول الوسطى، وأنه لن تنقضي ثلاثة شهور حتى يكون المنتصرون قد احتلوا طرابلس وزوارة. غير أن خطة الباروني هذه لم تأت بنتيجة؛ لأن الباروني نفسه وأولئك الزعماء الذين استمعوا إليه في ترهونة وغيرها كانوا جميعًا في شدة التذمُّر من السلطة العثمانية التي يُمثلها إسحاق باشا. وإلى جانب هذا الفشل لم يكن الأمير عثمان فؤاد موفقًا كذلك في تسوية العلاقات بين أحمد المريض ورمضان السويحلي.
ومع ذلك فإن عثمان فؤاد — والأحرى أن نقول عبد الرحمن عزام — ما كان ليرضى بنتيجة هذه المساعي المبدئية، فعقد الأمير في آخر يوليو ١٩١٨م اجتماعًا في بويرات الحسون، حضره زعماء ترهونة وسليمان الباروني وإسحاق باشا والشيخ محمد سوف وزعماء آخرون من المنطقة الغربية، وفي هذا الاجتماع طفق عثمان فؤاد يُبين للمُجتمعين مزايا توحيد الجهود حتى تنمو قوة المجاهدين الحربية، وصار يحثُّهم على الإخلاص للحكومة العثمانية واحتمال التضحية بصبرٍ لا ينفد، ثم أظهر لهم استياءه من أن بعض الأهلين وزعماءهم ما زال بينهم وبين الطليان علاقاتٌ تجارية، ووعد بوصول الإمدادات قريبًا إلى طرابلس تحملها الغوَّاصات من تركيا، وأخذ المُجتمعون بعد ذلك يدرسون مع الأمير العثماني الطرق التي تكفُل زيادة عدد الجنود اللازِمين لتقوية الجيش في الساحل الغربي. وقبل المريض أن تتولَّى ترهونة بجيوشها مهمة الدفاع عن هذا الجزء. ولمَّا كان الأمير يريد إزالة أسباب الخلاف بين ترهونة ومصراتة، فقد اهتم بتعيين المناطق التي تستأثر كلٌّ منهما بالنفوذ المُطلق بها، فتقرَّر أن يكون لمصراتة القسم الشرقي من الحفارة ولترهونة القسم الغربي من وادي ترجت، فيُقيم مدير المنطقة الغربية في قصر خيار بينما يُقيم مدير المنطقة الشرقية في قصر قربوللي. ولكن هذه المساعي لم تُسفر كذلك عن نتيجة حاسمة؛ لأن ورفلة كانت غير راضية عن تجنيد أبنائها. وفضلًا عن ذلك فقد تطايرت الإشاعات بأن السويحلي لا يزال مصرًّا على الخلاص من غريمه القديم أحمد المريض ويتَّهمه بأنه كان على صِلةٍ بالطليان، وعلى ذلك فقد اضطرَّ عثمان فؤاد إلى عقد اجتماع آخر في غريان في أغسطس ١٩١٨م، واستأنف المجتمعون البحث في وسائل إزالة الخلاف القائمة، ووعد عثمان فؤاد بإبعاد إسحاق باشا وعزله، وكان غرض الأمير أن يُنشئ جيشًا نظاميًّا جديدًا يحلُّ محل قوات المجاهدين غير النظامية، وأن يؤسس مركزًا كبيرًا لتموين هذا الجيش الجديد، وعُني المجتمعون بمسألة الضرائب وطرق توزيعها وجبايتها، ثم نظروا في أمر الاتفاق مع خليفة بن عسكر من زعماء القسم الغربي من الجبل حتى يزحف على ذهبيات أو يستولي على محصولات الأهالي الخاضعين للطليان في هذه المنطقة. وكذلك اتخذ المجتمعون قرارات من أجل تجنيد الصالحين للخدمة العسكرية في جميع المناطق والمضي في الدفاع من واحات الساحل الغربي، ثم تأسيس جيوش جديدة نظامية. وفي سبتمبر ١٩١٨م حدث اجتماع ثالث في زنزور لتبادُل الرأي بين الزعماء والأمير العثماني، ثم تكرَّر عقد الاجتماعات التي عوَّدت الزعماء أن يحضروا جميعًا في صعيدٍ واحد يُقلبون وجوه الرأي فيما يعرض لهم من أمور ويتخذون قرارات مشتركة، وتغلبت عليهم العناية بتقديم مصلحة البلاد على مصالحهم الخاصة رويدًا رويدًا، فكانت هذه الاجتماعات — التي أدار دفَّتها عبد الرحمن عزام بمهارة فائقة — الأصل الذي تفرَّع عنه نظام الجمهورية أو «اتحاد الحرية».
ويتفق ظهور فكرة الجمهورية مع وصول ضابط تركي جديد أصله من بنغازي لتسلُّم القيادة العليا في أفريقية الشمالية من الأمير عثمان فؤاد، هو عبد القادر باشا الغناي. وكان للسياسة التي عوَّلت إيطاليا على اتباعها في طرابلس في هذه الظروف أكبر الأثر في تمكين أصحاب فكرة الجمهورية من إنشائها من جهة، ثم في نجاح مساعي هؤلاء من جهة أخرى في الحصول على «القانون الأساسي» من إيطاليا؛ فإنه لم يكد ينتهي اجتماع الزعماء الأخير حتى جاءت الأمير عثمان فؤاد الأخبار من تركيا بأن الحلفاء المُنتصرين في الحرب العامة قد ضيَّقوا الخناق على تركيا، وأن سقوط الآستانة ذاتها بات مُتوقعًا بين وقتٍ وآخر، ومن المتوقع لذلك استسلام الدولة العثمانية في القريب العاجل. وعلى ذلك فقد أخذ عثمان فؤاد يتهيَّأ لمغادرة البلاد، ثم طُلب إليه أن يعود إلى الآستانة بكل سرعة، وكان من المُنتظَر في هذه الظروف إذن أن يدور البحث في مصراتة مقر الأمير، في مصير الجهاد بعد عودته ونوع الحكومة التي يجب إنشاؤها. واستطاع عبد الرحمن عزام — وكان العزام صاحب الرأي دائمًا كلما ادلهمَّت الأمور — أن يدعو لإنشاء جمهورية في طرابلس تأخذ على عاتقها توحيد الصفوف ومواصلة الجهاد. وقبل عثمان فؤاد ورمضان السويحلي إنشاء الجمهورية، واستدعى الأمير الشيخ سليمان الباروني إلى مصراتة، وكان الباروني وقتذاك في غريان، فجاء مسرعًا وتحدَّث إليه الأمير في ضرورة عودته إلى تركيا وفي نظام الحكومة المُستقبلة، ثم بادر الباروني بالاتصال برمضان السويحلي. وكان في أثناء هذه المداولات أن قرَّ الرأي نهائيًّا على تأسيس الجمهورية. ومع أن الأمير كان قد قرَّر السفر فورًا إلى تركيا، فإنه لم يستطع مغادرة البلاد خوفًا من وقوع الغواصة الألمانية المعدة لنقله في أيدي أساطيل الحلفاء في البحر الأبيض، فمكث الأمير في مصراتة. وفي يوم ١١ نوفمبر ١٩١٨م وصل عبد القادر باشا الغناي حتى يتسلَّم منه القيادة العامة، فاستؤنِفت المشاورات بكل همَّة.
على أنه مما يجدُر ذكره أن آراء الزعماء كانت مختلفة بصدد اختيار نوع الحكم النهائي في طرابلس. وكان في أثناء تشاورهم أن اتَّجه فريق منهم إلى تأييد الزعامة السنوسية. ويبدو أن هؤلاء كتبوا فعلًا في ذلك الحين إلى السيد محمد إدريس زعيم السنوسية وأمير برقة يعرضون عليه الحكم في كل ليبيا. وكان مما عزَّز موقف هذا الفريق أن الغناي رفض قبول فكرة الجمهورية لاعتقاده بأن هذا النوع من الحكم مُتعذر في بلدٍ لم يبلغ أهله من التقدُّم درجة يستطيعون عندها أن يفهموا ما كانت تنطوي عليه الجمهورية من معانٍ دقيقة. وعلاوةً على ذلك فقد وُجد من بين الزعماء فريق آخر أراد الاتفاق مع إيطاليا على أساس إجابة رغائب البلاد الوطنية، وكان من رأي الغناي أن إيطاليا لن تقبل الجمهورية، وأن إنشاءها سوف يقف حجر عثرةٍ في سبيل التفاهُم مع الطليان. وقد عاضد الغناي في آرائه هذه كثيرون، منهم أحد المريض وغيره من زعماء ترهونة، فضلًا عن الشيخ محمد سوف وابن تنتوش وعدد كبير من الضباط العرب المجاهدين. غير أن كفَّة أنصار الجمهورية كانت الراجحة في النهاية عندما أصرَّ رمضان شتيوي وعبد النبي بلخير وسليمان الباروني ومختار كعبار وغير هؤلاء على عدم الاتفاق مع إيطاليا إذا عارضت إنشاء الجمهورية، وفضَّلوا متابعة النضال حتى إذا قُدِّر لهم أن يُغلَبوا على أمرهم هاجروا إلى تركيا أو إلى أي بلدٍ آخر. وكان رمضان السويحلي يميل كذلك إلى الاستعانة بإنجلترا. ولمَّا كان أكثر الزعماء لا يزالون على خلافهم القديم مع السنوسية فقد ظفرت فكرة الجمهورية بتأييد الأكثرية في آخر الأمر. ولا جدال في أن الجمهورية في الظروف العصيبة التي كانت تمر بها البلاد وقتذاك كانت أفضل الحلول العملية ما دام مُتعذرًا جمع كلمة القُطر الليبي كله تحت زعامة السنوسية الموحدة، ذلك بأن نظام الجمهورية الذي ابتكره عبد الرحمن عزام كان يكفل لكل زعيم من كبار الزعماء الطرابلسيين مكانًا بارزًا في شئون الحكم وعلى قدم المساواة مع سائر إخوانه أعضاء هذه الجمهورية. وكان العزام يرجو من هذا النظام أن تختفي الخلافات الشخصية التي فرَّقت بين الزعماء مدةً طويلة بين طياته، فيستطيع الطرابلسيون أن يؤلِّفوا جبهةً مُتحدة تستمتع بمكانةٍ كبيرة في البلاد وتتمكَّن من المفاوضة مع الطليان أو مواصلة النضال من أجل استنقاذ حقوق البلاد من أيدي المُستعمرين. وكان مما اهتم به الزعماء عند البحث في تشكيل الجمهورية معرفة موقف الطليان من أهدافهم الوطنية وإدراك حقيقة نواياهم.
ومع أنه لم يدُر في هذا الاجتماع حديث ما عن مبادئ ويلسن وتقرير المصير، فقد استطاع الزعماء أن يُدركوا أن إيطاليا ما كانت تريد أن تبذل مجهودًا حربيًّا كبيرًا في طرابلس، وبات مما يُهمها الآن أن تتفق مع المجاهدين كي تسوِّي مشكلاتها معهم سلميًّا، وقد شجع إدراك هذه الحقيقة الزعماء على المضي في إنشاء الحكومة الجمهورية، فانعقد في البويرات في يوم ١٥ نوفمبر اجتماع كبير حضره رمضان السويحلي وعبد النبي بلخير وأحمد المريض — وجاء مع المريض أربعة آخرون من زعماء ترهونة — ثم الشيخ محمد سوف وسليمان الباروني وإسحاق باشا وعبد القادر باشا الغناي. وفي اليوم التالي استأنف هؤلاء بحوثهم في اجتماع آخر عقدوه في القصبات، وأُعلنت في ذلك اليوم (١٦ نوفمبر) نتيجة انتخابات مجلس شورى الحكومة ومجلس جمهوريتها، وأسفرت اجتماعات الزعماء في مسلاتة عن إنشاء الجمهورية بصورتها النهائية واختيار سليمان الباروني وأحمد المريض ورمضان السويحلي وعبد النبي بلخير أعضاء لمجلس الجمهورية، ثم اختيار أعضاء مجلس شورى الجمهورية من الشيخ سوف بك رئيسًا أول والشيخ يحيى بك الباروني (شقيق سليمان الباروني) رئيسًا ثانيًا، ومن اثنين وعشرين عضوًا آخرين يُمثلون الجبل وترهونة والجفارة ومسلاتة والساحل وزليطن ومصراتة وسرت وورفلة وفزان — مرزوق — والشاطئ وجبل غدامس وغريان والعزيزية والزاوية ونواحي أربعة وحرمان وعجيلات، ثم اختير مختار كعبار رئيسًا لمالية الجمهورية. وفي يوم ١٨ نوفمبر ١٩٤٨م أصدر مجلس الجمهورية بلاغًا أذاعه في أنحاء البلاد يعلن تأسيس الجمهورية، جاء فيه ما نصُّه: «قررت الأمة الطرابلسية تتويج استقلالها بإعلان حكومتها الجمهورية باتفاق آراء علمائها الأجلَّاء وأشرافها وأعيانها ورؤساء المجاهدين المُحترمين الذين اجتمعوا من كل أنحاء البلاد، ثم قرر المجلس إرسال بلاغ في اليوم نفسه إلى الحكومة الإيطالية والإنجليزية والفرنسية وإلى الرئيس ويلسن.
وكان مستشار الجمهورية الطرابلسية عبد الرحمن عزام. وللمرة الأولى بدأ الطليان يُدركون أهمية الجهود التي كان يبذلها العزام من أجل تأسيس حكومة موطدة في طرابلس تستطيع مواصلة الجهاد واستخلاص حقوق الوطنيين، وكان الطليان قبل ذلك يعزون كل حركةٍ يقوم بها المجاهدون إلى تدبير الضباط العثمانيين في معسكرهم. والواقع أن عبد الرحمن عزام ظلَّ على عهده يوجِّه خطوات الحكومة الجديدة ويبتكِر من أساليب المناورة السياسية ما حمل الإيطاليين على الاعتراف بحقوق الوطنيين في النهاية؛ فقد توالت اجتماعات الحكومة الرباعية والجمهورية — ديسمبر ١٩١٨م — في العزيزية والقصبة للبحث فيما ينبغي اتخاذه من تدابير سياسية وإدارية، وطرق توزيع المال الذي خلَّفه العثمانيون في مصراتة، وكذلك الأسلحة التركية. وكانت مهمة العزام الرئيسية في هذه الاجتماعات الوصول إلى تسوية عادلة بصدد هذه الأمور جميعها، ثم حض الزعماء على الاتحاد أمام الطليان حتى لا تذهب ريحُهم. وكان من أثر الخطة الحكيمة التي أشار العزام باتباعها أن قبِل رمضان السويحلي نسيان الماضي، وكان اقتناع السويحلي — وهو رجل عنيد — بنبذ الخلافات والأحقاد الشخصية نصرًا عظيمًا لسياسة العزام الجديدة، فبعث السويحلي بهدية كبيرة من الذخائر إلى أحمد المريض صاحب ترهونة، وفضلًا عن ذلك فقد أرسل رسولًا إلى أمير السنوسية السيد محمد إدريس يعرض عليه نبذَ المنازعات السابقة والصفح عن الماضي، وقد عزا السويحلي هذه المنازعات إلى تدابير الأتراك ومكائدهم، وصار يرجو من عبد الجليل سيف النصر أن يكون وسيط الصُّلح بينَه وبين السيد محمد إدريس. وحار الطليان في تفسير أسباب هذا النشاط الجديد، فقال قائل منهم إن السويحلي كان يرجو تسوية مشكلة الفزان مع السنوسية بعد أن خرج الأتراك من الميدان، وصار من المتعذِّر عليه الاعتماد على مساعدتهم له، ومِن قائل إن السويحلي كان يعمل لتجنُّب الاصطدام مع السنوسيين وحلفائهم إلى مؤازرته، فيكسب بذلك سُمعة طيبة عند مواطنيه ويُقبل هؤلاء على معاضدة حكومته؛ لأن السنوسية، على الرغم من تلك الحواجز التي أقامها الزعماء الطرابلسيون حتى يحُولوا دون انتشار نفوذها السياسي في بلادهم، كان لها أتباع كثيرون في أكثر نواحي طرابلس والفزان، وكان أميرها السيد محمد إدريس قد أصاب نجاحًا ملحوظًا بفضل ما أظهره من حنكةٍ سياسية في تسوية علاقاته مع إيطاليا بالطرق السلمية، وبدأ يدعم أركان إمارته في أجدابية.
ومهما يكن من حقيقة الدوافع التي أملت على السويحلي هذه الخطة، فكلها كانت في غاياتها القريبة والبعيدة دوافع طيبة دلَّت على سداد الرأي بدرجةٍ جعلت الطليان يشعرون أن العزام وحدَه هو المسئول عن هذه السياسة الجديدة. ثم تجددت مخاوفهم من أن يكون الغرض من نسيان المنازعات القديمة وائتلاف القلوب إنما هو إنشاء دولة كبيرة في أفريقية الشمالية كانوا يرجِّحون أن ينعقد لواء زعامتها للسنوسية وأميرها السيد محمد إدريس، وأن المساعي التي يبذلها العزام لتكوين جبهة متحدة بزعامة السويحلي في طرابلس ما هي إلا خطوة تُمهد لإنشاء هذه الدولة الأفريقية. وكان مما زاد من قلق الطليان بطرابلس — أو المستعمرة على حد قولهم — أن بدأت الحكومة الجمهورية أعمالها بمناورة سياسية بارعة أدار العزام دفَّتها بمهارة عظيمة من أجل إجبار إيطاليا على الاعتراف بحقوق العرب كاملة. ويمكن إدراك مبلغ ما وصلت إليه أساليب هذه المناورة السياسية من تدبير مُحكم، إذا شئنا أن نتتبَّع تلك الخطوات التي سبقت إصدار القانون الأساسي بطرابلس، وهو القانون الذي وضع أُسس نظام الحكم الذاتي الجديد وكفل للعرب — «كمواطنين» كبقية رعايا إيطاليا وعلى قدم المساواة معهم — كافة ما كان يتمتَّع به الطليان أنفسهم من حقوق قانونية في المملكة الإيطالية، وذلك بعد جهادٍ لم يزد على ثمانية أعوام فقط.
فقد بدأ زعماء الجمهورية هذه المناورة السياسية بأن أخذوا يُعلنون استعدادهم لمفاوضة الحكومة الإيطالية على شريطة أن تعترف هذه الحكومة بخطأ أعمالها السابقة، وأنها أساءت التصرف مع أهل البلاد، وعملت على استعبادهم. ولما كانت إيطاليا في ذلك الحين — وكما سيأتي بيانه — ترغب في الوصول إلى اتفاقٍ سلمي مع الطرابلسيين، فقد رحَّبت الحكومة المحلية بعروض المفاوضة التي أسمتها «اتجاهًا جديدًا»، وكان أكثر المُرحِّبين بهذا الاتجاه الجديد أعضاء المكتب السياسي الإيطالي في طرابلس. فلما ثبت لدى الجمهورية استعداد الحكومة المحلية للمفاوضة، تقدَّم الزعماء، في مؤتمر عقدوه في العزيزية، بطلبٍ جديد لم يكن يتوقَّعه الطليان البتة، هو أن ينال الطرابلسيون «الجنسية الإيطالية»، وأن يستمتعوا بكلِّ ما تُعطيه هذه الجنسية من حقوق. وكان هذا المطلب في نظر الحكومة الإيطالية مطلبًا خطيرًا، فقال وزير مُستعمراتها وقتذاك «كولوزيمو» إن الغرض من التقدُّم به لم يكن سوى كسب الوقت، وذلك حتى يُتم المجاهدون استعدادهم لاستئناف النضال ضد إيطاليا، فانقطعت المفاوضات فترةً من الزمن، وعمد الطليان إلى استخدام القوة، وكان من رأي الوالي الإيطالي في طرابلس «غاريوني» في أوائل فبراير ١٩١٩م أنه إذا قررت إيطاليا اللجوء إلى العمليات العسكرية، فإنه لضمان نجاح هذه العمليات يجِب أن يكون هدفها احتلال العزيزية ووضع تنظيمٍ سياسي وعسكري وثيق لمنطقة الجفرة الغربية، واحتلال سرت ثم مصراتة كذلك حتى يتسنَّى للحكومة المحلية تهدئة طرابلس الشرقية. وعلاوةً على ذلك فإنه من الواجب على الحكومة المحلية أن تنشئ علاقاتٍ وثيقة مع عبد الجليل سيف النصر من أجل تنظيم واحات الجفرة والفزان. غير أن هذا البرنامج السياسي والعسكري كان برنامجًا واسعًا لم تستطِع الحكومة المركزية في رومة إرسال القوات والنجدات اللازمة لتنفيذه، فاقتصرت أعمال الحكومة المحلية على بعض مناوشاتٍ قليلة الشأن كانت سببًا في إثارة حملة عنيفة ضد الحكومة من جانب الصحافة الاشتراكية في إيطاليا، واضطرت الحكومة المحلية إلى بذل جهودٍ أشد وأقوى. ومع ذلك فإن كل ما أسفرت عنه هذه الجهود كان اشتباكها مع المجاهدين في معركة غير حاسمة في ٨ فبراير ١٩١٨م، ثم وقفت العمليات العسكرية بعد ذلك، ولم يجد غاريوني الوالي الإيطالي مناصًا من استئناف المفاوضة مع زعماء الجمهورية.
وكانت المطالب التي تقدَّم بها غاريوني إلى حكومة رومة، على اعتبار أنها أقل ما كان يقبله الوطنيون أساسًا للاتفاق مع الحكومة، تتلخَّص في الأمور الآتية: (أولًا) المساواة التامة أمام القانون بين العرب والطليان في طرابلس، على أن يحتفظ العرب، في كلِّ ما يتصل بأحوالهم الشخصية وقواعد الإرث، بما تكفلُه لهم الشريعة الإسلامية من حقوق، (ثانيًا) احترام الحرية الشخصية في حدود القانون، (ثالثًا) احترام حقوق الملكية والإقامة في حدود القانون كذلك، (رابعًا) تمتُّع العرب بحق الدخول في كل ما يُعقد من مسابقات لأجل الانخراط في سلك الوظائف المدنية والعسكرية في البلاد على قدم المساواة مع الطليان، فضلًا عن استمتاعهم بحق مُمارسة الأعمال الحرة، (خامسًا) حصول مجلس الحكومة المركزي والمجالس المحلية لما تصدر هذه المجالس من قرارات نالت أكثرية أصوات أعضائها، (سادسًا) سريان قرارات المجالس البلدية ما دامت هذه تنال أكثرية أصوات الأعضاء الذين يؤلِّفون المجالس البلدية، (سابعًا) تمتُّع الأفراد الذين تتوفر فيهم شروط الانتخاب بممارسة حقوق الانتخاب، (ثامنًا) التوسع في اشتراك الوطنيين في إدارة شئون القضاء، على أن يكون اشتراكهم فعليًّا في هذه الإدارة.
وفي مارس ١٩١٩م حدث أول اجتماعٍ لبدء المفاوضات في مكانٍ يقع إلى الجنوب من زنزور، فحضر الجنرال تارديتي رئيس المكتب السياسي لحكومة طرابلس، ولكن كبار الزعماء ما لبثوا حتى تخلَّفوا عن الحضور، واضطُر تارديتي إلى تأجيل الاجتماع، وبدأت من ثم مناورة سياسية من جانب الزعماء الوطنيين ومستشارهم العزام الكبير الذي كان ملمًّا الإلمام كلَّه بحروجة مركز المُفاوض الإيطالي واضطراره إلى المفاوضة مع الجمهورية لأسبابٍ سوف يأتي ذكرها، وكان غرض العزام إضعاف روح الطليان المعنوية وشن حرب أعصاب خفية قد تُيسر على المفاوضين العرب انتزاع ما يُريدونه من حقوق في مُقدمتها الجنسية الإيطالية وإنشاء الحكم الذاتي في طرابلس. وعلى ذلك فقد تكررت الاجتماعات بعد ذلك وحضرها تارديتي وغيره من كبار الطليان، وتخلَّف دائمًا عن حضورها كبار الزعماء الطرابلسيين، واستبد القلق بالطليان، حتى إنهم صاروا يخشون من أن يكون غرض الجمهورية كسب الوقت فحسْب إلى أن يتم استعدادهم فيستأنفون القتال المرير ضد المُستعمرين الطليان في بلادهم. وعلى ذلك فقد وجدت الحكومة المحلية في آخر الأمر أنه لا مناص من أن ترسِل إنذارًا إلى الهادي كعبار تُهدد بزحف قواتها على الجمهورية إذا عجز الزعماء عن الوصول إلى نتيجةٍ حاسمة حتى آخر شهر مارس. غير أن هذا الإنذار لم يفتَّ في عضد المجاهدين، فانقضى يوم ٣١ مارس دون أن يصِل هؤلاء إلى النتيجة الحاسمة المنشودة، ولم تستطع الحكومة المحلية أن تُحرك ساكنًا، بل إنه عندما استؤنف الاجتماع في يوم ٣ أبريل لم يحضر سوى الهادي كعبار وعلي بن تنتوش وسويح الشتيوي ومحمد القاضي، واضطر المفاوض الإيطالي إلى قبول اعتذار الهادي كعبار الذي أبدى أسفه لعدم استطاعة كبار الزعماء الحضور.
وعندما طلب الطليان من الحاضرين بيانًا عن مطالبهم الأخيرة، اكتفى الهادي كعبار بأن أحالهم إلى المذكرة التي قدَّمها المجاهدون قبل ذلك في اجتماع الخمس في ١٥ نوفمبر من العام السابق، وهذه لم تكن تتضمن سوى تهديد المجاهدين باستئناف النضال ضد إيطاليا إذا هي رفضت الاعتراف بالجمهورية الطرابلسية، ورفضت التعهد بتنفيذ بضعة شروطٍ أخرى متعلِّقة بإعلان الهدنة وتنظيم المُعاملات بين الجمهورية والحكومة المحلية، وعدم تسليم الأسرى من العثمانيين والألمان والنمساويين الذين اعتبرتهم الجمهورية ضيوفًا عليها إلا إذا ارتأت هي ذلك.
ووجه الأهمية في إثارة موضوع تلك المذكرة في هذا الاجتماع أن الحكومة الإيطالية ظلَّت ممتنعة عن الرد عليها من وقت تقديمها، وما كان الوطنيون في حاجة ماسة إلى رد الحكومة الإيطالية على مذكرتهم القديمة؛ لأن قبول الطليان الدخول في مفاوضات مع أعضاء حكومة الجمهورية كان اعترافًا صريحًا من جانبهم بوجود هذه الجمهورية، وما كانت تُباشره هذه الجمهورية من سلطات وتتمتع به من اختصاصات أوسعها وأهمُّها ولا شك المفاوضة باسم البلاد مع العدو لتقرير مصير القطر الطرابلسي بأجمعه. وعلى ذلك فقد كان الغرض من هذه المناورة أن يُستدرَج الطليان إلى قبول مبدأ الحكم الذاتي رسميًّا كأساس للمفاوضات التالية المُثمرة، وأدرك المفاوضون العرب ما يريدون عندما ألحَّ المفاوض الإيطالي على الهادي كعبار أن يوضح رأيه الشخصي حتى يتسنَّى للحكومة الإيطالية أن تعرف ما إذا كان ممكنًا الاستمرار في المفاوضة أو أنه من الخير إنهاء المفاوضة وقطعها. وعندئذٍ ذكر الهادي كعبار أن الأهلين إنما يريدون العيش في ظل الجمهورية المستقلة، وأما إذا تعذَّر ذلك فمن المحتمل أنهم يرضون بالحكم الذاتي في إطارٍ قانوني يحفظ حقوقهم القومية، وإذا كان الغرض تهدئة البلاد فقد يتسنى اتخاذ منح الجنسية «الإيطالية» للطرابلسيين أساسًا للمفاوضة على شريطة أن يتبع منح الجنسية كل ما يترتَّب على ذلك قانونًا، فتصبح طرابلس ولاية كسائر ولايات المملكة الإيطالية، لها ما لهذه الولايات من حقوق وعليها ما عليها من التزامات وواجبات من غير تفرقةٍ في المعاملة، وعلى قدم المساواة المطلقة مع الولايات الإيطالية. على أن الهادي كعبار، وقد عاد الآن مرة أخرى يعالج نفس الموضوع الذي سبب قطع المفاوضات السابقة، ظلَّ يرى مع ذلك كله أن تقرير الحكم الذاتي لطرابلس إنما هو أمر أكثر اتفاقًا مما عداه من أمور، وتلك المبادئ السامية التي أذاعها قادة الأمم المُنتصرة على العالم قاطبة. وفضلًا عن ذلك فإن تقرير الحكم الذاتي يتفق ونصوص وروح معاهدة أوشي «لوزان» السابقة.
تلك كانت المناورة السياسية البارعة التي أدار العزام دفَّتها، ولم تكن تلك اللغة التي صاغ بها الهادي كعبار وزملاؤه وزعماء الجمهورية الطرابلسية مطالبهم إلا من صُنعه. ولما لم يجد الطليان مناصًا من قبول المفاوضة على أساس هذه القواعد الجديدة، وبدأ البحث الجدِّي بين الفريقين لوضع صيغ الاتفاق النهائي، وجد العزام أن الوقت قد حان حتى يحضُر بنفسه اجتماعات المفاوضة. وعلى ذلك فإنه بمجرد أن بدأت مباحثات «شلية الزيتوني» في ٨ أبريل ١٩١٩م كان العزام الروح المسيطرة على المفاوضات برمَّتها، وبذل جهودًا جبارةً حتى يصل بالمفاوضات إلى برِّ السلامة.
وقدم الزعماء الطرابلسيون مطالبهم بعنوان «مواد دستورية يعرضها مجلس الجمهورية الطرابلسية لتأسيس إمارة حرة بطرابلس الغرب تحت إشراف الحكومة الإيطالية، على أن تكون الشريعة الغراء قانونها الأساسي»، وكان عدد المواد المقدَّمة ستًّا، تنصُّ على ضرورة أن يُنصَّب أمير مسلم على الإمارة المزمعة يُنتخب لمدة ثلاثة أعوام، وأن يُؤسَّس برلمان ثلاثة أرباع أعضائه من المسلمين والربع الباقي من الطليان والإسرائيليين، وأن تُجعل الخدمة العسكرية إجبارية، ويؤلَّف جيش وطني من خمسة آلاف جندي، وأن تُسكَّ عملة عربية، ويُصنع علَم وطني للإمارة. هذا إلى جانب جعل التعليم الابتدائي إجباريًّا وتأسيس محاكم مُختلطة مُهمتها أن تفصل فيما يحدث من قضايا بين العرب والطليان. وفي نصٍّ لاحِق جاء ما معناه أن إمارة طرابلس تعترف للحكومة الإيطالية بأنها تحت إشرافها، وتقبل أن يُشرف على سياستها وشئون الحكم بها مُمثل من قِبل الحكومة الإيطالية.
وفضلًا عن ذلك فإنها تقبل أن ينشئ الطليان مراكز عسكرية في البلاد، ويقوم رجال السلك الدبلوماسي الإيطالي بتمثيل المصالح الطرابلسية في الخارج، ولا مانع من أن تسكَّ الحكومة عملة إيطالية على شريطة ألا تحمل رسم الصليب. ثم رضِيَت بأن يرأس إيطاليون مجلس الخارجية، وأن يُعين إيطاليون كذلك للإشراف على إدارات المالية والجمارك والمعارف والعدل، ووعدت بالمحافظة على مصالح الطليان الاقتصادية، وعلاوةً على ذلك تمسَّك الطرابلسيون بأن يلقى مواطنوهم نفس ما يلقاه الطليان أنفسهم من معاملةٍ في أنحاء المملكة الإيطالية على قدم المساواة ومن غير تفرقة، ثم اختتم هذا النص اللاحق بشرط احتياطي فحواه أن لحكومة أو إمارة طرابلس الحق في أن تأخذ بكل ما يُصدره مؤتمر الصلح العام من قراراتٍ قد لا تتضمَّنها نصوص هذه المواد الأصلية واللاحقة ما دامت تجد في التمسُّك بهذه القرارات فائدة تعود عليها.
ودارت مناقشات كثيرة بين الفريقَين المتفاوضَين، ورفض المندوبون الطليان مبدأي الاستقلال والحُكم الذاتي، ثم هددوا بقطع المفاوضة عندما أخذ الزعماء الطرابلسيون يتحدثون عن تلك المبادئ التي تمخَّضت عنها الثورة الفرنسية الكبرى لتقرير حقوق الإنسان وإطلاق الحرية للشعوب حتى تعيش مُحررة من كل قيد، فيختار الإنسان نوع الحُكم الذي يحقق مصلحته ويُلائمه. وعندئذٍ طلب الزعماء تأجيل الاجتماع، وظهر أثر العزام بعد ذلك عندما شرع الزعماء الطرابلسيون يوضحون مطالبهم ويقدِّمون للمفاوض الإيطالي المذكرات التي تشرح وجهة نظرهم، فقد حدث عند استئناف المفاوضة في يوم ١٠ أبريل أن تمسك الزعماء بتنصيب أميرٍ مُسلم يجمع في شخصه مظاهر السلطة الدينية في الإمارة المُزمعة، ولكن الطليان أصرُّوا على رفضهم وطلب الزعماء أن يرجع المفاوض الإيطالي إلى الحكومة المركزية في رومة نظرًا لخطورة هذه المسألة، ثم انبرى الهادي كعبار يُعدُّ المذكرات التي تعرض حجج المفاوضين العرب، وقدم مذكرةً تحت عنوان «مذكرة الحكومة الطرابلسية لبيان الأسس الضرورية التي يجب أن يقوم عليها الاتفاق لتجنُّب الحرب والوصول إلى حل جميع الصعوبات، وذلك حتى يبدأ عهد من السلام والصداقة مع الحكومة الإيطالية»، وقد تضمَّنت هذه المذكرة مطالبة الأمة الطرابلسية بالحُكم الذاتي كحقٍّ من حقوقها الطبيعية، ثم استعداد حكومة الجمهورية لأن تقبل «صلحًا يحفظ لدولة إيطاليا شرفها بين الدول، ولكن على شريطة ألا يكون في هذا الصلح أي مساسٍ باستقلال طرابلس»، وأما إذا كانت إيطاليا ما تزال منساقةً إلى استعمار طرابلس بسبب ما تراه من احتلال الإنجليز للقُطر المصري، فواجب إيطاليا أن تذكر أن زمان الاستعمار قد ولَّى وانقضى، وأن ما كان يحدث في السنوات الماضية أصبح حدوثه مُستحيلًا في هذه السنوات العشرين من القرن الحالي، ولا يُمكن بحالٍ أن تسود في هذا العصر تلك المبادئ القديمة التي تأثر بها رجال السياسة في القرن التاسع عشر، ناهيك بما يحدُث في العالم أجمع من تطوُّر ظاهر نحو المبادئ الحرة والمُثل العليا الديمقراطية.
وقد دُهشت الحكومة الإيطالية عندما أبلغت هذه المذكرة، وعدَّت، عن حقٍّ، هذه الأقوال «اتجاهاتٍ جديدة»، ثم عزت هذا التوجيه الجديد إلى العزام وحدَه، وكان في نيَّتها أن ترسل إلى الزعماء العرب إنذارًا يحمل اعتراضها على تعيين أمير أو إنشاء إمارة، وتُهدد فيه الزعماء بالحرب إذا تعذَّر عليهم الوصول إلى اتفاقٍ نهائي معها في مدة وجيزة. غير أن الحكومة الإيطالية كانت ما تزال مشغولة وقتذاك بمفاوضات الصلح العام في أوروبا، وكان رئيس وزارتها في باريس، ولا قِبل لها بامتشاق الحسام من جديد ضدَّ المجاهدين العرب في وقتٍ كانت فيه قوَّاتها في ليبيا قليلة، فضلًا عن أنها كانت تطمع وقتذاك في الحصول من الدول على حق الانتداب على بلاد الأناضول في آسيا الصغرى. وعلى ذلك فقد أرسلت تعليماتها إلى الوالي «غاريوني» بأنها تقبل فكرة منح الجنسية الإيطالية التي وافق عليها غاريوني نفسه، وإنما على شريطة أن يستقرَّ السلام ويستتبَّ الهدوء في البلاد وتسودها السكينة في نظير ذلك. وبمجرد أن وافقت رومة على منح الجنسية الإيطالية للطرابلسيين وجَّه غاريوني الدعوة إلى أعيان طرابلس والواحات الخاضعة للطليان حتى يحضروا جميعًا إلى قصر الحكومة بمدينة طرابلس في يوم ١٤ أبريل، وعندما اكتمل عقدهم أنبأهم غاريوني بأن حكومته قد منحت الجنسية الإيطالية للطرابلسيين وأقرَّت مبدأ المساواة التامَّة المُطلقة أمام القانون بين الطرابلسيين والطليان. ثم أبلغ غاريوني قرار الحكومة بصورةٍ أدق إلى زعماء الطرابلسيين وأعيانهم. وكان «بلاغ» الحكومة يحمل تاريخ ٤ مارس ١٩١٩م ويشتمل على أحد عشر مبدأً: (أولًا) اعتراف الحكومة الإيطالية بالجنسية الإيطالية للعرب في طرابلس ولكلِّ مَن ولدوا بها، كما أن في استطاعة هؤلاء أن يحصلوا على الجنسية في إيطاليا ذاتها بشروطٍ وفق إجراءات رسمية معينة، (ثانيًا) تقرر مبدأ المساواة المطلقة أمام القانون بين الطليان والطرابلسيين، على أن يُترك للطرابلسيين قوانينهم الخاصة بالأحوال الشخصية ونظام الإرث، (ثالثًا) ضمان الحرية الشخصية وعدم الاعتداء على المساكن واحترام حقوق الملكية وتقرير حرية التعليم والاجتماع والصحافة والانتقال والإقامة وتقديم العرائض «للبرلمان» الوطني، وكل ذلك في حدود القانون العام، (رابعًا) احترام الشعائر الدينية والتقاليد والعادات، (خامسًا) الاعتراف بحق «المواطنين» الجدد من عرب وإسرائيليين في أن يتقدَّموا إلى المسابقات التي تعقدها الحكومة لملء الوظائف المدنية والعسكرية المحلية على شرط أن يكون لديهم المؤهلات والشهادات اللازمة.
وفضلًا عن ذلك اعترفت إيطاليا بحق هؤلاء «المواطنين» الجدد في مزاولة المِهن الحرة كالطب والهندسة والمحاماة وما إلى ذلك في إيطاليا ذاتها ما داموا حاصلين على الشهادات والإجازات اللازمة، (سادسًا) جعل الخدمة العسكرية اختيارية، (سابعًا) تعميم الضرائب للإنفاق على مرافق البلاد ذاتها وإدارة شئونها، وعلاوةً على ذلك فإن موافقة المؤسسات (أو المجالس) الوطنية المُنتخبة ضرورية قبل البتِّ في نوع الضريبة التي يراد جبايتها وفي طرق توزيعها، (ثامنًا) اشتراك جميع المواطنين في أعمال الإدارة العامة عن طريق مجالس البلديات، وبفضل تقرير حق الانتخاب وفق شروطٍ سوف يعلن عنها، (تاسعًا) إصلاح إدارات القضاء طبقًا للعادات المحلية السائدة وقواعد الشريعة الغراء، وعلى أن يشترك في هذه الإدارة العرب والطليان على السواء، فيشغل الفريقان وظائف قضائية هامة، (عاشرًا) قيام الحكومة بأعباء التعليم المدني وفتح أبواب هذا النوع من التعليم لجميع الوطنيين، وإصلاح معاهد العلم الموجودة فعلًا حتى يتمكن أهل البلاد من ارتياد المدارس الثانوية وكذلك المدارس العالية عند إنشائها، ثم جعل التعليم الابتدائي إجباريًّا، (حادي عشر) تعيين لجنة مؤلفة من أعضاء، نصفهم عرب والنصف الآخر من الطليان والإسرائيليين، مُهمتها وضع الأنظمة اللازمة لتنفيذ هذه الشئون طبقًا للمبادئ الأساسية المذكورة في هذه البنود، ولهذه اللجنة كذلك أن تقترح تغيير القوانين المعمول بها، وقد تعهَّدت الحكومة بتشكيل هذه اللجنة فورًا.
وهكذا تكون الحكومة الإيطالية قد قبلت مطالب الزعماء العرب الأساسية، وتكون قد تكللت «مناورة» العزام السياسية بالنجاح. وعند اجتماع الزعماء في فندق بن غشير في ١٦ أبريل ١٩١٩م قبل هؤلاء مبدئيًّا مقترحات الحكومة، وأخذوا يناقشون تفصيلات الحكم والإدارة كتعيين المتصرِّفين والقائمقامين، وكان من رأيهم أن يعهد بأمر تعيين هؤلاء الإداريين إلى لجنةٍ مؤلفة من ثمانية من العرب يُعينهم «المجلس العام» برئاسة الوالي، وكان أكثر الزعماء ظهورًا في هذه المرحلة الأخيرة من مراحل المفاوضات خصوصًا رمضان السويحلي، وقد استطاع رمضان أن ينال احترام الطليان الذين سرعان ما تناسوا خديعته لهم في معركة قصر بوهادي القديمة، وحدث ذلك كله بفضل مؤازرة العزام ونُصحه لهم، ثم إرشاده إلى الطريق الذي كان من واجبه أن يسلكه. وفي صبيحة يوم ٢١ أبريل ١٩١٩م انعقد آخر اجتماع للمفاوِضين العرب والطليان في شلية الزيتوني، فحضر جميع الزعماء عدا عبد النبي بلخير الذي اعتذر لمرضِه ولو أنه أرسل موافقته مقدمًا على كل ما يُقرره زملاؤه. وفي هذا الاجتماع أبدى سليمان الباروني سروره من نتيجة المفاوضات، ولكنه طالب في الوقت نفسه بإيضاحاتٍ مُعينة لا غِنى عنها لإقناع أهل الجبلة بمزايا هذا الصلح، وألحَّ بقية الزعماء في ضرورة الاطلاع على القانون الأساسي مترجمًا إلى العربية، وفضلًا عن ذلك فإن العرب ما لبثوا حتى قدموا مطالب أخرى بينما رفضوا المناقشة في المطالب التي قدَّمها الطليان كاحتلال المناطق وإطلاق سراح الأسرى قبل أن يُصدق الملك على القانون الأساسي. وفيما عدا ذلك وافق العرب على قواعد الصلح الذي صار يُعرف من ذلك الحين باسم صلح بنيادم. وفي اليوم التالي جاء وفد منهم كان من أعضائه خليفة بن عسكر إلى مدينة طرابلس إظهارًا لرضاء الزعماء عن هذا الصلح وقبولهم له، وبعد أربعة أيام سلَّم العرب بعض الأسرى إظهارًا لثقتهم في الحكومة المحلية، ثم طلبوا تعويض العرب عن الخسائر التي تكبدوها أيام القتال، وجعل اللغة العربية لغة البلاد الرسمية إلى جانب اللغة الإيطالية، وسحب العملة التركية ومنعها من التداول، وإرجاع المهاجرين الذين لجئوا إلى تونس وبعض مطالب أخرى، فدارت مفاوضات جديدة حول هذه المطالب وأبدى العزام مرةً أخرى مهارة عظيمة في أثنائها، فاستطاع العرب أن يفوزوا بأكثر مطالبهم، وحصر العزام جهوده الآن في كسب ثقة الطليان من ناحية العرب واطمئنانهم إلى أن هؤلاء سوف يُبادرون بتنفيذ جميع وعودهم من اللحظة التي يصدر فيها القانون الأساسي. وكان غرض العزام أن يُعجِّل الطليان بإصدار هذا القانون حتى يطمئن العرب إلى نتيجة جهودهم، وطفق العزام يؤكد أن الطرابلسيين باتوا الآن ضد الثورة «لأن الثورة — على حد قوله — إذا حدثت في هذه الظروف فإنها تكون بمثابة الثورة ضد الحرية بل وضد أنفسنا.» وفي يوم ٣٠ مايو ١٩١٩م دخل الزعماء المجاهدون مدينة طرابلس وسط مظاهر الفرح والابتهاج، وكان في طليعتهم العزام إلى جانب سائر كبار الزعماء كأحمد المريض وسليمان الباروني وعلي الشنطة وغيرهم. وفي آخر مايو صدَّق الملك فكتور عمانويل الثالث على القانون الأساسي، وأُذيع النبأ في منشور صدر في أول يونيو، وخطب الوالي غاريوني في اليوم نفسه فقال: إن هذا اليوم المجيد (أول يونيو) الذي أُعلن فيه القانون الأساسي في طرابلس هو ذاته يوم الاحتفال ببدء حركة «الإحياء والبعث» الوطنية وعيد الدستور في إيطاليا.
ولا جدال في أن غاريوني كان خالص النية فيما قاله ويعتزم المضي في تنفيذ القانون الأساسي بكل أمانة، وكان لا يقلُّ عنه في ذلك الجنرال تارديتي المفاوض الإيطالي الآخر ورئيس المكتب السياسي لحكومة طرابلس، واستمتع الرجلان «غاريوني وتارديتي» بسُمعة طيبة عند العرب، وأبدى هؤلاء من جانبهم كل استعدادٍ للتعاون مع الحكومة المحلية ما دامت مُعتزمة تنفيذ القانون الأساسي، ولا تتلكأ في اتخاذ الإجراءات اللازمة لذلك، وعلى ذلك فإن نجاح نوع الحُكم الجديد كان يتوقَّف في واقع الأمر على مدى إخلاص الحكومة المركزية في رومة ذاتها ورغبتها في منح الطرابلسيين تلك الحقوق وإعطائهم الضمانات التي نصَّ عليها القانون الأساسي، ولكن موقف الحكومة الإيطالية المركزية في رومة سرعان ما أصبح الصخرة التي تحطَّمَ عليها كل أملٍ في استمرار الهدوء والسلام في طرابلس، وكان لذلك عدة أسباب ترتد في أصولها إلى ذلك السبيل الذي أُرغمت الحكومة الإيطالية إرغامًا على أن تسلكه في القطر الليبي بأجمعه من وقت ابتداء الحرب العالمية الأولى إلى نهايتها، فقد غلَّت مشغولية الحرب الأوروبية يد إيطاليا واضطرَّتها في برقة إلى الدخول في مفاوضات الزويتينة وعقد اتفاق عكرمة المؤقت، وقد تقدَّم في الفصل السابق كيف أن الطليان كانوا يُبطنون غير ما يُظهرون عندما أبرموا اتفاق عكرمة، ثم معاهدة الرجمة بعد ذلك، وكيف أن زعامة السيد إدريس وقيادة السنوسية العتيدة كانت في ذلك القطر الشقيق خير أداةٍ لمناوأة أهداف الطليان وهدم آمالهم، وكان كل ما جناه الطليان من اتفاقاتهم مع السنوسية أن حصلوا على تلك الفسحة من الوقت التي كانت السنوسية بحاجةٍ ملحَّة إليها كذلك للأسباب التي سبق ذكرها في موضعها والتي مكَّنت الطليان من أن يوجِّهوا كل عنايتهم إلى طرابلس. بيد أن الطليان لم يستطيعوا مع ذلك كله أن يُغيروا من الأوضاع القائمة في طرابلس شيئًا لصالحهم بسبب ما أنشأه المجاهدون العرب من منظماتٍ ومؤسسات وطنية. وكان من الواضح أن الطليان لن يستطيعوا بسط سلطانهم على طرابلس إلا إذا جلبوا الإمدادات العسكرية العظيمة من إيطاليا، ولم يكن جلب هذه النجدات أمرًا هينًا ميسورًا بسبب حاجة إيطاليا إلى الجنود والعتاد والمال للذَّود عن حياضها في أوروبا.
وعلى ذلك فقد التزم الوالي الإيطالي أميليو خطة عدم التوسع في احتلال مناطق جديدة في طرابلس، وقصر جهوده على اتخاذ تدابير دفاعية فحسب، لرد هجوم المجاهدين العرب عن المراكز الإيطالية، وعقد آمالًا كبارًا على إمكان التغلب على مقاومة الطرابلسيين إذا هم تفرَّقوا شيعًا وأحزابًا وضعفت كلمتهم. وفضلًا عن ذلك فإنه كان يُعلل النفس بإمكان الاستفادة من ازدياد نفوذ السنوسية في منطقة سرت والجفرة والفزان في وقف نفوذ العثمانيين وأنصارهم في طرابلس، ولكنه سرعان ما اتضح له خطر الاعتماد على السنوسية في ذلك، عندما ذهب بنفسه إلى بنغازي في أبريل ١٩١٨م حتى يقف هناك على حقيقة أهداف السنوسيين ومبلغ قوتهم؛ ذلك بأن السنوسية بزعامة أميرها لم تكن لترضى البتة بأن تصبح مخلب القط الذي ينتزع الكستناء هدية سهلةً للطليان المُستعمرين، وهي تلك الإمارة الإسلامية التي كانت تهدف إلى إنشاء دولة موطدة الدعائم في القطر الليبي تجمع كلمة المسلمين وترد عنهم غائلة الاستعمار الأجنبي، فتبين لأميليو مدى ما هنالك من خطرٍ مُحقق إذا هو أقدم على فتح الحدود الطرابلسية أمام قوات السنوسية وأنصارها، ففضل الالتجاء إلى وسيلةٍ أخرى قد تكفل تأييد نفوذ السنوسية في المناطق التي كانت تخضع فعلًا لنفوذها في سرت والجفرة والفزان دون إتاحة الفرصة لحدوث أي توسع جديد في المنطقة الطرابلسية لحسابها. وعلى ذلك فقد عول أميليو على إمداد عبد الجليل سيف النصر بالأسلحة والذخائر حتى يقوى على الصمود أمام العثمانيين وأحلافهم. وكان سيف النصر قد اضطر لقلَّة ما لدَيه من أسلحة وعتاد إلى الانسحاب إلى هون في الفزان مع ثلاثمائة وخمسين جنديًّا سنوسيًّا (في أغسطس ١٩١٨م). وحدث في هذه الأثناء أن استُدعي أميليو من طرابلس، فخلفه الجنرال غاريوني. ورأى الوالي الجديد أن يستمر على سياسة سلَفه، فأمد سيف النصر بالأسلحة، ولكنه ما لبث حتى كفَّ عن إمداده بالعتاد عندما اتضح أن عبد الجليل كان سنوسيًّا لحمًا ودمًا، وأنه ما قبل هذه الإمدادات إلا لغرَض الاستعداد لمناجزة مصراتة والعثمانيين أعداء السنوسية بمجرد أن يأمُره السيد محمد إدريس بذلك، فجاء في كتابه إلى السلطات الإيطالية قوله المشهور: «إننا اليوم بفضل الله مُتحدون تحت لواء السنوسية، وسوف نعمل كل ما يأمرنا به السيد إدريس؛ لأن عدوه عدونا وصديقه صديقنا.» فوجد غاريوني من الحكمة وصواب الرأي — على زعمه — أن يترك خطة الاعتماد على قوة السنوسية كعاملٍ لا غِنى عنه في معالجة ما يحدث من مشاكل مستعصية في طرابلس.
وزاد من حرج موقف الطليان في طرابلس ذلك النشاط الذي أبداه الأمير عثمان فؤاد ومستشار القيادة العامة عبد الرحمن عزام، واتخذ الباب العالي من هذا النشاط ذريعةً لدعم حقوقه في السيادة على القطر الطرابلسي تمهيدًا لعرض المسألة برمَّتها على مؤتمر الصلح عند انتهاء الحرب الأوروبية. ثم عظمت متاعب الطليان السياسية عندما أحرز المجاهدون العرب انتصارًا باهرًا على الطليان في أبريل ١٩١٨م، وحُوصر الطليان في مراكزهم على الساحل. وأثارت أنباء انتصارات العرب اهتمام الدول، وخشى وزير المُستعمرات مارتيني ثم كولوزيمو من بعده أن تتَّخذ المسألة الطرابلسية وجهًا دوليًّا خطيرًا ما دام الطليان عاجزين عن احتلال داخل البلاد وبخاصة عندما كان أمل الطليان ضعيفًا في اجتياز الحرب الأوروبية ذاتها بسلامٍ في ذلك الحين (مايو ١٩١٨م). ومع ذلك فإن الوالي أميليو ما كان يستطيع فِعل شيء في الحقيقة لحاجته الشديدة للجُند والمعدات والأسلحة. وعندما أصرَّ أميليو على عدم القيام بعمليات عسكرية واسعة قبل أن تصِله هذه الإمدادات، استدعاه وزير المُستعمرات إلى إيطاليا، فغادر البلاد في ٩ أغسطس ١٩١٨م، وخلفَه غاريوني.
وبدأ غاريوني أعماله بأن أصدر منشورًا إلى أهل برقة وطرابلس، يدعوهم فيه إلى الوثوق بنيَّات الحكومة وامتثال أوامرها، غير أنه سرعان ما صار ينقم على الأمير عثمان فؤاد نشاطه، فضربت الطائرات من الجو الزعماء المُجتمعين في زنزور في شهر سبتمبر، ثم حدث في الشهر التالي أن طلبت تركيا الهدنة فأوقف القتال بينها وبين الحلفاء ظهر يوم ٣١ أكتوبر، واضطر غاريوني إلى بحث الموقف من جديد في برقة وطرابلس على السواء، فكان من أثر السياسة التي رسم خطوطها في برقة بدء المفاوضات التي انتهت بعد عامين، وبعد ذهاب غاريوني نفسه بعقد اتفاق الرجمة. وأما في طرابلس فقد كان من رأي غاريوني أن المساعي السياسية وحدها لا تكفي، وأنه لا مندوحة عن تعزيزها بعملياتٍ عسكرية ناجحة، ولكن الحكومة المركزية في رومة اعتقدت وقتذاك أن هزيمة دول الوسط في الحرب الأوروبية العامة لا بدَّ أن يكون لها وقع سيئ في نفوس المجاهدين العرب وتحد من نشاطهم، ثم عقدت آمالًا عظيمةً على مهارة الجنرال تارديتي الذي أرسلته حديثًا رئيسًا لمكتبها السياسي بطرابلس في إمكان استمالة المجاهدين العرب إلى إنهاء خلافاتهم مع إيطاليا، واتفقت كلمة الرجلَين غاريوني وتارديتي على أنه من الخير لإيطاليا أن تُجيب مطالب الزعماء والقادة في كلٍّ من برقة وطرابلس بصورة لا تُلحق الأذى بتلك السيادة التي تمسَّكت بها إيطاليا على القطر الليبي بأجمعه.
وكان غاريوني يُفضل إدماج برقة وطرابلس التي كانت لا تزال بأيدي العرب، وعلى الخصوص مصراتة وبوشيفة، ثم احتلال سرت كذلك. غير أنه كان من المتعذِّر تحقيق هذا البرنامج دون أن يكون لديه قوات كافية، أضف إلى ذلك أن نشاط المجاهدين عقب وصول عبد القادر الغناي مباشرةً وتسليط نيران مدافعهم على قلعة سيدي بلال في طرابلس، سرعان ما أقنع غاريوني بضرورة السعي من أجل الاتفاق مع العرب، وأيَّد رئيس المكتب السياسي — الجنرال تارديتي — الوالي غاريوني في هذا المَسعى، فبدأت من ثم تلك المفاوضات التي انتهت بصلح شلية الزيتوني أو سواني بنيادم في أبريل ١٩١٩م، وإصدار القانون الأساسي رسميًّا في أول يونيو من العام نفسه. وكانت حجة غاريوني وتارديتي في إنجاز الاتفاق مع المجاهدين العرب في طرابلس أن حكومة رومه رفضت أن تستمع لما أبداه غاريوني سابقًا من آراء كانت ترمي إلى إنشاء دولة سنوسية تضم القطرَين معًا برقة وطرابلس تحت إشراف إيطاليا؛ لأن المسألة الطرابلسية على حد قوله إنما هي في أكثر تفاصيلها مسألة سنوسية ولا يمكن البت في شأنها من غير الاتفاق مبدئيًّا مع السنوسية ذات النفوذ القوي في مناطق سرت والجفرة والفزان والقبلة، ثم في قلوب أهل طرابلس كذلك.
غير أن صلح بنيادم لم يلقَ ما كان يستحقه من رعاية تامة وتأييد كامل من جانب إيطاليا، فقد رحَّب الطليان المحليون في مبدأ الأمر بالمفاوضات التي كان هذا الصلح إحدى ثمارها، ووجدت الحكومة المحلية في صلح بنيادم وسيلة تساعد على استقرار الهدوء فيما كانوا يسمُّونه دائمًا «المستعمرة»، واغتبطت رومة لأول وهلة بهذه النتيجة لأنه أصبح في قدرتها أن تُسرِّح جيوشها وأن توفر تلك الأموال الطائلة التي كانت تنفقها عليها، وفضلًا عن ذلك فإن حسم الخلاف في طرابلس بالطرق السلمية من شأنه إرضاء العناصر الديمقراطية المُتطرفة التي كانت تسيطر وقتذاك على الحكومة في رومة، ولكن سرعان ما بدأ يتغير الرأي العام الإيطالي في طرابلس وفي إيطاليا لأسبابٍ عدة منها أن الطليان كما شاهدنا لم يقبلوا التدخل في تلك المفاوضات التي أتت بهذا الصلح إلا مرغَمين، وكان يسوءهم أن «يتظاهر» العرب — على حد قولهم — في داخل البلاد بأنهم استطاعوا إرغام الحكومة الإيطالية على التسليم السياسي. وعلاوةً على ذلك فإن هذا الصلح قد ترك للعرب سلاحهم، واعترف بسلطان الزعماء الذين ظلوا ثائرين على حكومة المستعمرة ردحًا طويلًا من الزمن، ولم يقبلوا صلح بنيادم إلا لسببٍ واحد هو أنهم استطاعوا الاحتفاظ بأسلحتهم ومراكزهم، وظلُّوا مُستمتعين بجميع سلطاتهم السابقة، بل وأصبحت تتألَّف منهم أكثرية مجلس الحكومة. أضف إلى هذا كله أن تلك المساعي التي كان يبذلها رمضان شتيوي زعيم مصراتة القوي حتى يستأثر بالزعامة المُطلقة على سائر الزعماء الطرابلسيين كادت الآن أن تتحقق بفضل أساليب العزام السياسية ودهائه، حتى إن خطر السويحلي ما لبث حتى ظهر واضحًا عندما أخذ الزعماء العرب يتشاورون في اجتماعٍ عقدوه بترهونة في أمر اختيار أولئك الأعضاء الثمانية الذين كان يجب أن يتألَّف منهم مجلس الحكومة إلى جانب العضوَين الإيطاليين عملًا بنص المادة (أو الفصل) الثالثة والعشرين من القانون الأساسي؛ فقد أصر السويحلي على أن يُعيَّن اثنان في هذا المجلس عن مصراتة وحدَها، كما أصرَّ على عدم تعيين أحد عن الخمس وزليطن ومسلاتة وورفلة؛ لأنه اعتبرها جميعًا مناطق تابعة له، وعلى ذلك فقد بدأت رومة تتململ من عقد هذا الصلح ولمَّا يجف مداده بعد.
ومع ذلك فقد ظل غاريوني وتارديتي يتمسكان بضرورة التفاهُم مع العرب، بل إن غاريوني ما كان يخشى شيئًا من ازدياد سطوة السويحلي، فقد اعتبر نموَّ قوته من مصلحة الطليان إذ يستطيع هؤلاء بفضلها أن يُضعفوا سلطان السنوسية في طرابلس، كما أنه حتى رغبة منه في إضعاف نفوذ السنوسية، سرعان ما أرسل حملةً احتلت سرت في أواخر شهر يونيو ١٩١٩م. ولم يحفل بما أحدثه ذلك من وقعٍ سيئ في نفوس السنوسيين في أجدابية والنوفيلية، ولكن هذا النشاط «العسكري» الأخير سرعان ما أثار ثائرة الرأي العام في إيطاليا، فأخذت صحفها تطلُب «تغيير الحكومة العسكرية» في طرابلس، وانتهى الأمر باستدعاء غاريوني إلى رومة فغادر البلاد في أغسطس، وفي آخر سبتمبر نُقل تارديتي كذلك من طرابلس، فاستاء العرب من نقلهما وضعفت ثقتهم في نيَّات الحكومة. ثم كان من أهم أسباب ضياع هذه الثقة في النهاية أن الطليان لم يُنفذوا شيئًا من الوعود التي تضمَّنها القانون الأساسي، ولم يفعلوا شيئًا لإجراء الانتخابات النيابية أو إنشاء الحكومة التي تم الاتفاق على تأسيسها، وكان من المنتظر لهذه الأسباب أن يجدد العرب «حملتهم» السياسية.
وكان العرب قد بدءوا يستأنفون نشاطهم السياسي رويدًا رويدًا منذ أن غادر غاريوني البلاد وجاء الوالي الجديد «منتزنجر»، فأكثر أعضاء «مجلس الحكومة» العرب الثمانية من الاجتماع بعضهم ببعض، وكان هؤلاء قد نصَّ القانون الأساسي على أن يقوم (مجلس النواب المحلي) بانتخابهم عند اجتماعه بعد إجراء الانتخابات، ثم لم تحدُث الانتخابات ولم ينعقد المجلس، فشكل الزعماء الطرابلسيون «مجلس الحكومة»، وأظهروا في مبدأ الأمر استعدادهم للتعاون مع الحكومة المحلية، وكان العزَّام كما عهدناه دائمًا الروح المُسيطرة على مداولات هؤلاء الزعماء الثمانية، وأنشأ الزعماء المؤيدون لسيطرة رمضان السويحلي وسياسة العزام منظمةً جديدة سمَّوها «حزب الإصلاح الوطني»، فكان من أعضاء هذا الحزب كلٌّ من عبد الرحمن عزام وخالد بك القرقني وعثمان الغرياني مدير جريدة «اللواء الطرابلسي»، وكان هؤلاء الثلاثة هم قادة الفكر، بينما أضحى رمضان شتيوي (أو السويحلي) — وكان من أعضاء الحزب أيضًا — الأداة المنفذة أو اليد العاملة، وأعطيت الرئاسة لصاحب ترهونة أحمد المريض بك. وفي ٣٠ سبتمبر ١٩١٩م نشر حزب الإصلاح الوطني برنامجه، فذكر الحزب أن كلًّا من رمضان السويحلي (رئيس شرف) وأحمد المريض (رئيس عمل) قد كلَّفا العزام أن يطلب إلى أبناء الوطن أن يتقدموا بكل ما لديهم من نصحٍ وإرشاد وضروب النقد المُختلفة إذا شاءوا حتى يتضافروا مع مواطنيهم أعضاء الحزب على العمل من أجل إسعاد الوطن ورُقيه ونشر أسباب الرخاء في ربوعه، ثم تضمن «منشور» الحزب بعد هذه المقدمة المبادئ التي تعاهد أعضاؤه على تأييدها، وأولها المحافظة التامة على حقوق العرب كاملة غير منتقصة، وكما نصَّ عليها القانون الأساسي، وثانيًا تقديم كل مساعدة ممكنة حتى يتيسر تنفيذ هذا القانون بكل سرعة، وذلك حتى يؤتي القانون ثمرته المنشودة في أقرب مدة، فتُتاح الفرصة للطرابلسيين حتى يتدربوا على الاضطلاع بأعباء الحكومة الذاتية، فيحكمون أنفسهم بأنفسهم، مُستمتعين بأعظم قسطٍ من الحرية، وثالثًا متابعة السعي الجدِّي من أجل التفاهم المُنتِج بين العرب والطليان على أساس المساواة التامة بين الفريقين من جهة، وتضامن المصالح من جهة أخرى، ثم نبذ كل أسباب النفور والخلاف بين الطليان والعرب وبذر بذور المودة والإخلاص بينهم، ورابعًا العمل على نشر التعليم بكل وسيلةٍ حتى تستمتع البلاد بثمار الثقافة والمدنية الغربية مع المحافظة على التقاليد الإسلامية، وخامسًا إنعاش الحياة الاقتصادية ومحو أسباب الفقر ومساعدة المعوزين وتوفير أسباب السعادة والرفاهية للشعب على أساس توزيع الثروة توزيعًا عادلًا بين أفراده والمحافظة على حقوق الضعفاء في ظل أخوة شاملة.
ولقي هذا البرنامج الوطني والاشتراكي كل تأييد من جانب العرب، ورحَّب به كذلك الطليان المحليون، واعتقدوا أن تنفيذ الإصلاحات الداخلية الواسعة التي تضمَّنها هذا البرنامج سوف يصرف العرب ولو قليلًا عن متابعة نشاطهم السياسي. ولكن تفاؤل الطليان كان لا مُسوِّغ له؛ إذ ظهرت جريدة اللواء الطرابلسي ذات يوم، وبها مقال ينعى فيه صاحبه على الإيطاليين أنهم لا يقدرون على التخلص من تلك الأوهام الراسخة في أذهانهم والتي تجعلهم لا يعتقدون بوجود مساواة ما بين العرب والطليان، وهي أوهام من شأنها أن تزيد الطرابلسيين تمسكًا بمطالبهم المشروعة وتزيد من قوة المعارضة لكل ما كانوا يعتبرونه اغتصابًا وسلبًا من جانب إيطاليا. ثم تساءلت الجريدة: إلى متى لا تسعى الإدارة المحلية في إصلاح شئونها وفقًا للمبادئ التي قرَّرها القانون الأساسي؟ فأثار مقال الجريدة مناقشة حادة بين حزب الإصلاح وبين الحكومة المحلية والطليان عمومًا بطرابلس، ووصف الطليان المحليون إدارة منتزنجر بالضعف والتردُّد، ثم عادت الجريدة فكرَّرت تحذيرها للسلطات الحكومية من مغبَّة تأجيل تنفيذ القانون الأساسي وعدم إنهاء الإدارة العسكرية وإنشاء الحكومة الوطنية التي ينتظِرها الشعب بفارغ الصبر وإجراء الانتخابات حتى يجتمع البرلمان الذي يضمُّ مُمثلي الشعب بكل سرعة.
ولكنه بدلًا من أن تجيب الحكومة المحلية هذه المطالب وتعمل على تهدئة البلاد، شرع الوالي وأعوانه يبذرون بذور الشقاق بين الزعماء، ويُدبرون حملة عدائية ضد رمضان السويحلي، ويحركون كوامن الحقد ضده في ترهونة وورفلة، وبذل العزام جهودًا صادقةً حتى يتدارك الموقف وانحاز إلى تأييده خالد القرقني، واستطاع المناوئون للسويحلي، بتحريض الطليان، أن يؤلفوا جبهةً اتَّحدت كلمتها على مقاومة السويحلي والقضاء على نفوذه، كان من أعضائها أحمد المريض وكعبار والحاج محمد الفكيني وعبد النبي بلخير وسويح شتيوي وغيرهم. وقصد العزام والقرقني إلى ترهونة لإقناع المريض بنبذ الخلاف وإجابة دعوةٍ كان رمضان قد وجَّهها للزعماء حتى يجتمعوا في مؤتمر لتدارُك الموقف، ولكن المريض أصرَّ على عدائه، واضطر رمضان إلى مغادرة زنزور إلى مصراتة إمعانًا في الحيطة والحذَر وحتى يراقِب عمال الحكومة المحلية الذين كانوا يكيدون له، ويُحرضون أنصارهم على القبض عليه، وتسليم جميع الأسلحة والمهمَّات الحربية التي كانت بغريان إلى السلطات المحلية. وكان في وسط هذه المصاعب الكثيرة أن اتجه تفكير زعماء حزب الإصلاح الوطني، الذين ظلُّوا على ولائهم للقضية الطرابلسية، نحو غاية عُليا مُعينة هي وضع القطر الليبي بأجمعه (برقة وطرابلس) تحت إمارة السيد محمد إدريس السنوسي، فقام السويحلي بمحاولاتٍ عدة من أجل الاتفاق مع السنوسية، ثم دعا زعماء حزب الإصلاح — العزام والقرقني على وجه الخصوص — إلى عقد مؤتمرٍ بسيدي معمور في منطقة ترهونة للعمل على تهدئة الوطن. ولما كان الطليان يخشون أن أقل ما يؤدي إليه هذا الاجتماع سوف يكون إحياء الجمهورية الطرابلسية السابقة، فقد بذل منتزنجر كل جهوده حتى يُعطل انعقاد المؤتمر ونجحت دسائسه. غير أن الزعماء الذين وجدوا الطليان — على حدِّ قول بشير السعداوي — «يبثون بذور الفساد من وراء الحجب ويوزِّعون على بعض سخفاء العقول المبالغ الطائلة من الأموال والسلاح والذخائر الحربية لإيقاد نار الفتن بين الأهلين والتفريق بين الوطن وبنِيه والأخ وأخيه، وكادوا يصِلون إلى رغائبهم ويُوقعون البعض في تلك الحبائل التي نسجتها أيديهم، لولا أن عقلاء البلاد أدركوا الدسائس.» ما لبثوا حتى قرَّروا عقد مؤتمر كبير يبحث في أجدى الوسائل لجمع الكلمة ووضع حدٍّ لمراوغات الطليان، وإنشاء الحكومة الوطنية. واختار الزعماء قصر غريان مكانًا لاجتماعاتهم، وأرسلوا الدعوة إلى سائر الرؤساء والشيوخ لحضور المؤتمر.
وحدثت صعوبات كادت تؤخِّر انعقاد المؤتمر بسبب ما وقع من خلافٍ جديد بين مصراتة وترهونة على امتلاك مسلاتة، وكان الذي دعا إلى تجدُّد النزاع أن رمضان السويحلي كان قد اشتبك في معركة دامية مع عبد النبي بلخير صاحب ورفلة، ذهب رمضان ضحيتها في شهر ذي الحجة من عام ١٣٣٨ﻫ (سبتمبر ١٩٢٠م)، فانتهز أحمد المريض فرصة وفاة السويحلي وأخذ يُراسل بعض الرؤساء التابِعين لمصراتة في مسلاتة الساحل وجفارة. وحدث في هذه الأثناء أن عاد من الشام إلى طرابلس المجاهد القديم بشير سعداوي مع أخيه نوري، وساءه أن يعود الزعماء إلى خلافاتهم السابقة، وأن ينصرفوا إلى التنازُع بينهم على امتلاك الأراضي وتحديد مناطق النفوذ بدلًا من جمع الكلمة وتأليف القلوب لصَون مصالح الوطن. وطلب أهل مصراتة — وكان أحمد السويحلي أخو رمضان السويحلي قد تولَّى الزعامة بها بدلًا من أخيه — إلى بشير سعداوي الوساطة في إنهاء الخلاف القائم، فتحدث بشير سعداوي في هذا الشأن مع أهل مسلاتة ثم قابل أحمد السويحلي وغيره من رجال مصراتة في زليطن، ثم قصد مصراتة فأقام بها فترةً من الزمن يبذل الجهود لإنهاء الخلافات، ولكنه سرعان ما حدثت مشكلة جديدة عندما بدأ عبد الجليل سيف النصر يشنُّ الهجوم على سرت ويُعد جيوشه لمهاجمة القصر. وكان سبب هذا الهجوم أن علي المنقوش قائمقام سرت كان قد عمد إلى جمع الضرائب وأموال الزكاة من أهل سرت، وعارض عبد الجليل سيف النصر في ذلك بدعوى أن هذه الجهات إنما هي ملك لأجداده من قديم الزمن، ويجد لذلك غضاضةً كبيرة في دفع العشور والضرائب كأي فردٍ عادي إلى علي المنقوش. وبعد جهود عظيمة استطاع السعداوي تسوية هذه المسألة وإرضاء سيف النصر، وامتنع بفضل جهوده الموفقة اشتباك الزعماء في عراكٍ ما كان يعلم غير المَولى عز وجل نتائجه. ثم تهيأ السعداوي للذهاب إلى العزيزية، وهي المكان الذي اختاره الزعماء لعقد اجتماعهم حتى يختاروا هيئة منهم تسعى في سبيل التمهيد لانعقاد المؤتمر المُنتظر في غريان، ولكنه ما كاد يصل إلى الساحل حتى علم بحدوث منازعات جديدة بين عبد القادر بلمنتصر ومدير شجران إبراهيم بن عباد، ثم بين مصراتة من جانب ومسلاتة وترهونة من جانب آخر، وقضى وقتًا طويلًا يبذل قصارى جهده لمنع إراقة الدماء. وفي هذه الأثناء انعقد مؤتمر غريان.
وانعقد المؤتمر في شهر ربيع الأول ١٣٤٠ﻫ (نوفمبر سنة ١٩٢١م) في قصر غريان، وحضره الزعماء. ومع أن وفدًا كان قد قام خصوصًا إلى مقر سليمان الباروني يدعوه إلى الاشتراك في هذا المؤتمر لتبادل الرأي «فيما يُنقذ البلاد من الفتن والفوضى»، فقد امتنع الباروني عن تلبية الدعوة مُحتجًّا بأنه، بوصفه عضوًا في مجلس الشيوخ العثماني، لا يمكنه حضور المؤتمر. وكان الباروني في الواقع يُفضل الاحتفاظ بنفوذه «الإقطاعي» في منطقته في الجبل وككلة مُستندًا إلى تأييد قبيلته الأصابعة وهم من الإباضية، وتأييد خليفة بن عسكر في القسم الغربي من الجبل، وهو إباضي كذلك. وكان لموقف العداء الذي وقفه الباروني من الزعماء المجتمِعين في غريان ومعارضته لقرارات المؤتمر أثر كبير في إضعاف المجاهدين العرب وإراقة دماء الوطنيين مدةً بعد ذلك. أما المجتمعون في غريان، وكان العزام كالعهد به دائمًا الروح المسيطرة على أعمال المؤتمر، فقد وصلوا إلى قراراتٍ كانت الأساس الذي انبنى عليه في آخر الأمر الْتجاء الطرابلسيين إلى الزعامة السنوسية، بغية توحيد الصفوف في الجهاد ضدَّ الطليان، والمحافظة على مصالح الوطن الليبي بأجمعه؛ فقد اتخذ المؤتمِرون قرارًا بالعودة إلى خطة الجهاد حتى يعوِّضوا ما فات من أغراض لم يستطيعوا تحقيقها بالطرق الدبلوماسية، التي لم تفلح البتَّة في إقناع الحكومة الإيطالية بضرورة تنفيذ الوعود التي قطعتها على نفسها منذ إصدار القانون الأساسي لقُطر طرابلس. وكان من رأي الزعماء المُجتمِعين في غريان أن يبذلوا جهدًا أخيرًا لحمل الطليان على احترام وعودهم والإقلاع عن سياسة التحرُّش بالوطنيين وإثارة الخلافات والقلاقل الداخلية. وفضلًا عن ذلك فقد قرَّروا إنشاء حكومة وطنية تتكفَّل بتنظيم الجهاد وتضطلع بمهمة تنفيذ قرارات المؤتمر، فشكلوا وفدًا للسفر إلى رومة حتى يتفاوض مع الحكومة الإيطالية بشأن القرارات التي وصل إليها المؤتمر. وكان أهم هذه القرارات، على نحو ما كتبه الزعماء المجتمعون، «أن الحالة التي آلت إليها البلاد لا يمكن تحسينها إلا بإقامة حكومة قادرة ومؤسسة على ما يُحقق الشرع الإسلامي من الأصول، بزعامة رجل مُسلم منتخَب من الأمة، لا يُعزَل إلا بحجَّةٍ شرعية وإقرار مجلس النواب، وتكون له السلطة الدينية والمدنية والعسكرية بأكملها بموجب دستور تُقرُّه الأمة بواسطة نوابها، وأن يشمل حُكمه جميع البلاد بحدودها المعروفة.» وكان من الواضح أن الزعماء في مؤتمر غريان ما كانوا يقصدون بهذا القرار غير التمهيد لاختيار السيد محمد إدريس السنوسي الأمير الذي أثبتت الحوادث أنه وحدَه ذلك «الرجل المُسلم المنتخب» الذي يمكنه إنقاذ القُطر الطرابلسي من الفوضى المُنتشرة به، وتوحيد كلمة المجاهدين العرب في النضال ضد إيطاليا، إذا عجزت الطرق الدبلوماسية عن حسم كل خلاف مع هذه الدولة بصورةٍ ترعى مصالح الوطن. وعلى ذلك فقد كانت خطوة المؤتمر التالية أن يُشكَّل وفدان، أحدهما يذهب إلى رومة والآخر يُعهَد إليه بالمفاوضة مع السنوسية. ثم شرعوا يُنشئون حكومة وطنية لإدارة شئون البلاد الداخلية. وقد تمَّ تأسيس هذه الحكومة باسم «هيئة الإصلاح المركزية»، وتولى رئاستها أحمد بك المريض، وكان أعضاؤها بشير سعداوي ومحمد بن عمر وحسين بن جابر ومحمد فرحات وعبد الرحمن صادق بن الحاج ومحمد مختار كعبار ومحمد فكيني والصويعي الخيتوني، وكان مستشار هذه الحكومة نفس مُستشار الجمهورية القديم ومستشار الطرابلسيين الدائم عبد الرحمن عزام. وأما الوفد الذي ذهب إلى رومة فكان يتألف من خالد بك القرقني وعبد السلام بك البوصيري ومحمد فرحات «الزاوي» وصادق بن الحاج. وقد طالب هذا الوفد الطليان بتنفيذ القانون الأساسي، وتحدث في مسألة انتخاب الأمير المسلم، ولكن الحكومة الإيطالية رفضت إجابة أي شيءٍ من مطالب الطرابلسيين، وأصرَّت على ضرورة إطلاق سراح بقية الأسرى قبل أن تبدأ أية مفاوضات معهم، وغادر الوفد رومة. وكان في أثناء وجود هذا الوفد برومة أن حضر السيد إدريس نفسه لزيارة العاصمة الإيطالية في نوفمبر ١٩٢٠م، عقب اتفاق الرجمة مباشرة، واستقبلته الحكومة استقبالًا رسميًّا، واستمرَّت الزيارة أربعين يومًا بتمامها، لقى السيد في أثنائها كل حفاوة وتكريم من ملك إيطاليا ومن الحكومة الإيطالية، وزار المدن الهامة، وكانت عودته إلى بنغازي في أول فبراير ١٩٢١م. وأما الوفد الطرابلسي، فإنه بمجرد عودته إلى بلاده، بادر بإطلاع الزعماء الطرابلسيين على نتيجة مسعاه في العاصمة الإيطالية، فكان هذا الفشل من أهم الأسباب التي زادت في إحكام تلك الروابط الجديدة التي كان الزعماء يجدُّون لإنشائها مع السنوسية.
وكان الوفد الذي انتدبته هيئة الإصلاح المركزية للمفاوضة مع السنوسية يتألف من عبد الرحمن عزام وأحمد السويحلي وعمر بودبوس ونوري السعداوي والشتيوي بن سالم والصويعي الخيتوني والحاج صالح بن سلطان. وقد مهد لإرسال هذا الوفد أن أمير السنوسية نفسه كانت تُحركه، من مدة بعيدة، الرغبة الصادقة في جمع كلمة الليبيين وتأليف النفوس النافرة حتى يُصبح في مقدور البلاد مواجهة العدو في جبهةٍ مُتحدة يمتدُّ نفوذها من حدود برقة الشرقية إلى حدود طرابلس الغربية، فانتهز السيد إدريس فرصة ورود كتاب إليه من أحمد المريض مليء بعبارات المُجاملة السامية، وبادر بإرسال الردِّ على هذه الرسالة، وحمل إبراهيم الفيل ردَّ الأمير إلى أحمد المريض، ثم حضر إلى مصراتة من قبل الأمير يدعو إلى الاتفاق ويُرحِّب به الشيخ محمد بن حسن بن عبد الملك، وهو مصراتي، فكان لهذه الخطوات المباركة التي خطاها الأمير أعظم الأثر في تقوية إيمان زعماء هيئة الإصلاح المركزية في إمكان الاتفاق، وتألف الوفد وسافر إلى سرت للاجتماع بالمفاوضين السنوسيين، وكان هؤلاء صالح الأطيوش وخالد القبصة والشيخ نصر الأعمى والشيخ صالح السنوسي بن عبد الهادي البراني.
وفي شهري ديسمبر من عام ١٩٢١م ويناير من العام التالي بدأت مفاوضات سرت بين مندوبي هيئة الإصلاح الطرابلسية وبين مندوبي السنوسية. وكان الأمير يرغب رغبةً ظاهرةً في الاتفاق، ويسعى العزام من جانبه حتى تتكلَّل هذه المفاوضات بالنجاح. وقلقت الحكومة المحلية الإيطالية من نشاط زعماء السنوسيين والطرابلسيين؛ ومع أنه كان قد أشيع وقتذاك أن الغرَض المباشر (والظاهر) من هذا الاجتماع في سِرت تسوية الخلافات القائمة بين قبيلة المغاربة ورئيسها صالح الأطيوش وبين بعض القبائل الأخرى من العرب، فإن الطليان كانوا يرَون — على حدِّ قول مؤرخيهم — أن الغرض الحقيقي من اجتماع سِرت إنما كان تقوية روح العداء المُنتشرة ضد إيطاليا في برقة وطرابلس معًا، وتمهيد الطريق لإعطاء السنوسية وأميرها الزعامة على الأقطار الليبية بأجمعها، وأزعج الطليان ذلك النشاط الكبير الذي أبداه كلٌّ من صالح الأطيوش (عن السنوسية) وعبد الرحمن عزام (عن الطرابلسيين) من أجل الوصول إلى الاتفاق، وتوحيد جهود القُطرَين برقة وطرابلس في النضال ضد إيطاليا.
والواقع أن المتفاوِضين في قصر سرت ما لبثوا حتى وصلوا إلى قراراتٍ على جانب عظيم من الخطورة، تُعتبَر بحقٍّ الأساس الذي قام عليه عقد البيعة للسيد محمد إدريس لتولِّي الإمارة على القطر الليبي بأجمعه. وكان للعزام أثر بالغ في تهيئة الأسباب التي أفضت إلى مبايعة السيد بالإمارة، عندما وقف خطيبًا في الوفود المُجتمعة بقصر سرت وقال: «على عاتقي وأمام الله أن هذا (أي عقد البيعة للسيد) في مصلحة أهل طرابلس ومصلحة الجهاد.» وقد حمل الزعماء عبد الرحمن عزام هذه المسئولية «أمام الله»، وشرعوا يُعِدون «ميثاق سرت» المعروف.
وأثبت صاحب «تاريخ اليقظة القومية عند العرب» نص هذا الميثاق الذي وقَّعه الجانبان في اليوم الثاني والعشرين من شهر جمادى الأولى من عام ١٣٤٠ﻫ (٢٢ يناير ١٩٢٢م). وأهم ما يُلاحَظ في هذا الميثاق أن المُفاوِضين الطرابلسيين أيَّدوا القرار الذي اتخذوه من قبلُ في مؤتمر غريان، والذي جاء فيه أن مصلحة الوطن تقتضي إنشاء حكومة قادرة «بزعامة رجلٍ مُسلم منتخَب من الأمة» في استطاعته أن يُنقذ البلاد من الحالة التي آلت إليها ويعمل على تحقيق أهدافها الوطنية؛ فنص اتفاق سرت في المادة الخامسة على أن الطرفَين يرَيان «أن مصلحة الوطن وضرورة الدفاع ضد العدو المُشترك تقضي بتوحيد الزعامة في البلاد؛ ولذلك يجعلان غايتهما انتخاب أميرٍ مُسلم تكون له السلطة الدينية والمدنية داخل دستور ترضاه الأمة.» ودلَّ هذا القرار على أصالة رأي وحكمة بعيدة؛ لأن الأمير الذي ما كانت برقة ترضى بغيره بديلًا، ويتمتع بنفوذٍ ملحوظ في طرابلس ذاتها، وظلَّ نفوذه يقوى رويدًا رويدًا ولكن بصورة ثابتة موطَّدة، كان وحده مَعقِد آمال الزعماء الليبيين في هذه الفترة العصيبة من تاريخ البلاد. وفضلًا عن ذلك فقد كفل قرار سرت إنشاء إمارةٍ دستورية وتحقيق تلك المبادئ الديمقراطية التي تمسَّك بها الزعماء المجاهدون — والعزام في طليعتهم — من أيام الجمهورية، ثم تعهد الفريقان المتفاوضان في المادة السادسة بأن يتَّخذا الوسائل اللازمة (لإنشاء الإمارة الليبية)، واتفقا، على نحو ما جاء في المادة السابعة، على أنه بمجرد الفراغ من انتخاب الأمير وتوليته بإرادة الأمة، على «انتخاب مجلس تأسيسي من الفريقَين لوضع القانون الأساسي والنظم اللازمة لإدارة البلاد، وقبل ذلك، وتمهيدًا لهذه الأعمال، يجب على الفريقَين أن يُرسِل كل منهما مندوبًا للبلدَين لأجل أن يشتركا في سياسة البلاد والتدابير المُقتضية للدفاع عن الوطن.»
وتنفيذًا لهذه القرارات إذن، ذهب بشير سعداوي لتمثيل طرابلس لدى حكومة برقة، وأوفد الأمير السيد إدريس مندوبًا يُمثل سموَّه لدى الطرابلسيين في شخص السيد عبد العزيز العيساوي في منطقة مصراتة. وجمع الأمير في أجدابية في شهر رمضان ١٣٤٠ﻫ (أبريل ١٩٢٢م) مشايخ وزعماء ورؤساء قبائل المغاربة والعواقير وقبائل الجبل للمداولة فيما يجب اتخاذه من وسائل للدفاع عن مصالح البلاد، واجتمع هؤلاء بالمندوب الطرابلسي بشير سعداوي، ودارت بحوث طويلة في طريقة الوصول إلى تنفيذ اتفاق سرت. وكان مما اهتم به الطرابلسيون استثارة السيد إدريس وحمله على التدخُّل مع إيطاليا لحسم الخلاف القائم بينها وبين الطرابلسيين، وخشى الطليان — وكثيرًا ما كان يأخذهم الخوف كل مأخَذٍ في المدة الأخيرة — أن تُسفر هذه المباحثات عن إنشاء تلك الإمارة الليبية التي كانوا يبذلون قصارى جهدهم لمنع تأسيسها. وكان في أثناء هذه المباحثات أن قرَّ رأي الزعماء البرقاويين على أن يُبايع الزعماء الطرابلسيون الأمير من غير إمهال. ولما كان الطرابلسيون ينتوون هذه المبايعة من مدةٍ سابقة، فقد وافق بشير سعداوي على ذلك، ولكنه اشترط مقابلة الأمير قبل البتِّ في هذا الموضوع نهائيًّا. وفي أثناء المقابلة أكد بشير للأمير أن «البيعة» هدف الطرابلسيين، وطلب من الأمير أن يسمح له بالعودة إلى القُطر الطرابلسي حتى يُمهِّد لهذه البيعة ويأتي بها بنفسه، أو يأذن له بالكتابة في هذا الشأن إلى إخوانه.
وحدث والمفاوضات ما تزال دائرة أن حضر أمندولا وزير المستعمرات الإيطالية إلى برقة، فأناب الأمير السيد صفي الدين في مقابلته ببنغازي، وطلب أمندولا مقابلة الأمير، ووافقه السيد إدريس على الاجتماع به حتى يستطيع أن يتحدَّث إليه بصدد القتال الدائر وقتذاك بين الطليان وأهل مصراتة. وكان الطليان قد انتهزوا فرصة اجتماع أهل مصراتة مع أعيان برقة البيضاء من المغاربة لتسوية خلافاتهم، فأنزلوا قواتهم في قصر حمد، واضطر المغاربة للعودة إلى برقة البيضاء، ورجع المصراتيون إلى مصراتة، ولكن الفريقَين قبل انفضاض الاجتماع كانا قد نجحا في إزالة أسباب سوء التفاهم بينهما، وتعاهدوا على نسيان الماضي، ووسَّطت مصراتة سموَّ الأمير حتى يمنع اعتداءات الطليان عليهم. وعلى ذلك فقد رحب السيد إدريس بهذه الفرصة المواتية لمقابلة أمندولا، وتم الاتفاق على أن يكون الاجتماع بغوط الساس. ولكن أمندولا ما لبث حتى اشترط قبل الدخول في مباحثات مع الأمير أن يُغادر بشير سعداوي أجدابية. ولمَّا كان الأمير يعقد آمالًا كبيرةً على إمكان التوسط لدى الحكومة الإيطالية في مصلحة مصراتة، فقد أوفد السيد صفي الدين إلى الوفد الطرابلسي يُخبره بما قرَّ عليه الرأي، وخرج بشير سعداوي وزملاؤه إلى الطبيل، وعندئذٍ حضر أمندولا إلى غوط الساس بالقُرب من المرج، وكان يرافقه السيد صفي الدين، وفي ٢٢ يونيو ١٩٢٢م اجتمع به الأمير، وحضر هذا الاجتماع كذلك السيد صفي الدين، وطلب الأمير حسم الخلاف ووقف القتال بين الطليان ومصراتة، واستطاع أن يُقنع أمندولا بضرورة تهدئة الأحوال في طرابلس، وأوفد إلى الطبيل لمقابلة الطرابلسيين كلًّا من صالح الأطيوش والفضيل المهشهش وأحد أبناء الكزة، وسلَّم هؤلاء إلى بشير سعداوي كتابًا من السيد إدريس أخبره فيه بمقابلته مع وزير المستعمرات في غوط الساس، وبحث القضية الطرابلسية معه، وبأن المباحثات قد أسفرت عن إظهار إيطاليا استعدادها للصلح معها. وفضلًا عن ذلك فقد جاء الجماعة بكتابٍ آخَر من الأمير موجهًا إلى رئيس هيئة الإصلاح المركزية بهذا المعنى. غير أن الأطيوش وزملاءه ما لبثوا أن أسرُّوا إلى الطرابلسيين مشافهةً أنهم (أي الطرابلسيين) إذا رغبوا في النجاح والعمل المُثمر على أساس اتحاد البلاد، فإن السبيل إلى ذلك هو المبايعة بالإمارة للسيد حتى تتَّفق كلمة الليبيين قاطبةً في النضال ضد إيطاليا والوصول بذلك إلى تحقيق الأهداف الوطنية، فبادر بشير سعداوي بالكتابة إلى سمو الأمير أن يعتزم العودة فورًا إلى طرابلس لإتمام البيعة، ووعد بالعودة سريعًا إلى أجدابية يحمل البيعة معه.
وبالفعل غادر بشير سعداوي برقة إلى طرابلس، وبمجرد وصوله إلى مصراتة اجتمع بالزعماء الطرابلسيين، ونادى بالبيعة لسموِّ الأمير السيد إدريس، مُستندًا في ذلك إلى أنه لا سبيل إلى الخلاص البتة إلا بالاتفاق والتعاون مع برقة وانحياز برقة إلى جانب طرابلس في القتال ضد العدو الإيطالي. وكتب بشير سعداوي نص البيعة بنفسه، ثم ذهب بها من مصراتة إلى مسلاتة ثم إلى غريان، وهناك كانت هيئة الإصلاح المركزية مجتمعةً برئاسة أحمد المريض، فقرأ عليهم البيعة، ووافق هؤلاء عليها بالإجماع ودون مناقشة. ولم يكن في قبول الزعماء الطرابلسيين لبيعة السيد إدريس ما يدعو إلى العجَب، فقد مهَّد هؤلاء الزعماء أنفسهم لاتحاد القطر الليبي تحت لواء زعامةٍ واحدة منذ أن بدءوا اجتماعاتهم في غريان، ثم انعقد العزم على قبول إمارة السيد إدريس في اجتماع سرت، وفضلًا عن ذلك فقد دلَّت الحوادث الأخيرة منذ نزول الطليان في قصر حمد على أن الاتحاد مع القطر البرقاوي هو الوسيلة الوحيدة لتخليص الوطن من شرور المُستعمرين. وكان من أثر وساطة السيد إدريس في إنهاء الخلاف ووقف القتال بين الطليان والطرابلسيين، خصوصًا في منطقة مصراتة، أن بدأت المفاوضات بين الحكومة الإيطالية المحلية وبين هيئة الإصلاح المركزية برئاسة المريض في بئر عبازة، ووجد الطرابلسيون أن المناداة بالبيعة للسيد الأمير ووضع تلك القرارات التي اتخذوها من أيام مؤتمر غريان موضع التنفيذ، أجدى الطرُق وأقواها لمُجابهة الطليان بالأمر الواقع.
وعلى ذلك فقد أوفدت هيئة الإصلاح المركزية الشيخ محمد بن حسن والشيخ محمود المسلاتي والشيخ الطاهر الزاوي إلى أجدابية، يرجون من الأمير السيد إدريس القدوم إلى مصراتة لمبايعته بالإمارة. ولمَّا كان الأمير يشكو المرض وعدم القُدرة على السفر، فقد اعتذر عن الذهاب إلى مصراتة ووعد بالزيارة عند حلول الخريف، وانتقل السيد إدريس إلى جردس العبيد، بينما ظل الوفد الطرابلسي في أجدابية. وما إن علم الطليان بمجيء الطرابلسيين إلى أجدابية حتى ثارت ثائرتهم، فاستدعى نائب الوالي ليجي بنتور السيد صفي الدين ومنصور الكخيا لمقابلته، وأنذرهما أنه إذا لم يُغادر الوفد أجدابية فورًا فإن الحكومة لن تتوانى عن مهاجمة أجدابية ذاتها في التوِّ والساعة. وحاول السيد صفي الدين وعمر منصور الكخيا إقناع الحكومة المحلية بالعدول عن عزمِها ولكن دون جدوى، وعلى ذلك فقد قصد السيد صفي الدين إلى أجدابية للتفاهُم مع السيد محمد الرضا أخي الأمير ونائبه بأجدابية، بينما توجَّه عمر منصور الكخيا إلى جردس العبيد ليعرض الأمر على السيد إدريس ويُبلغه إنذار الحكومة الإيطالية. ولما أدرك الأمير خطورة الموقف بدأ يبذل قصارى جهده لإقناع الحكومة الإيطالية بأن الطرابلسيين ما قصدوا بما فعلوه سوى حقن الدماء وفض خلافاتهم مع إخوانهم أهل برقة، وأن واجب الحكومة الإيطالية يُحتِّم عليها أن تُوقِف اعتداءاها على الطرابلسيين، فضلًا عن أنه كان للأمير على حسب اتفاق الرجمة الحق في أن يعرض ما يراه في مصلحة البلاد على الحكومة الإيطالية، كما أن معاهدة الرجمة قد ألزمت الطليان كذلك بأن يضعوا موضع الاعتبار كلَّ ما يُبديه الأمير من آراء في ذلك.
وعند عودة الوفد الطرابلسي إلى مصراتة في أواخر شهر ذي القعدة من عام ١٣٤٠ﻫ (يوليو ١٩٢٢م) اتفقت كلمة الزعماء الطرابلسيين على إرسال كتاب البيعة إلى الأمير، وتقرَّر أن يذهب بهذه البيعة السيد بشير سعداوي بوصفه مندوبًا من هيئة الإصلاح المركزية، وعبد الرحمن عزام بوصفه مستشارًا لهيئة الإصلاح، ثم محمد الصادق بك بلحاج (ابن الحاج) ونوري السعداوي والشيخ محمد عبد الملك. ووقَّع على كتاب البيعة أحمد المريض رئيس هيئة الإصلاح المركزية وعبد الرحمن عزام مستشارها، ثم أعضاء الهيئة محمد بن عمر وبشير السعداوي وحسين بك جابر ومحمد فرحات وعبد الرحمن زبيدة ومحمد النايب وسالم البحباح وعثمان القيزاني وعمر بودبوس ومحمد صادق بن الحاج ومحمد مختار كعبار ومحمد فكيني والصويعي الخيتوني، كما وقَّع على البيعة من الأعيان محمد الديب ومحمد سوف وعمر ضياء وعلي أبو حبيل وأحمد الشتيوي ومحمد سعدون قائد الجيش الوطني وفرحات القاضي ومحمد القرقني وأحمد السني والبغدادي بن معيوف ومحمد الصغير المريض. وذكر الطرابلسيون في كتاب البيعة المرسَل إلى «سمو مولانا الأمير الجليل السيد محمد إدريس حفظه الله ورعاه» أنه لا يخفى على سموه أن الخلاف ما يزال قائمًا بينهم وبين الحكومة الإيطالية؛ «ذلك لأن الحكومة الإيطالية وجَّهت عزمها إلى العبث بجميع حقوقنا شرعِيِّها وسياسِيِّها وإدارِيِّها، وجعلت من قوتها مبررًا للتصرف في مصيرنا وحقوقنا الطبيعية، ونحن خير أمة أخرجت للناس، لا نتحمل ضيمًا ولا نرضى أن تضمحل شريعتنا ولا أن يتطرق الخلل إلى ديننا القويم كائنًا ما كان، الأمر الذي حملنا على ركوب الأخطار واقتحام الحروب المتوالية، معتمدين على قوة الحق، إلى أن نظفر بتحقيق أُمنيتنا القومية، ألا وهي تأسيس حكومة دستورية يرأسها أمير مُسلم جامع للسلطات الثلاث الدينية والسياسية والعسكرية، مع مجلس نيابي تنتخب الأمة أعضاءه، وبهذا يسلم وطننا ويتم أمر ديننا وتصلح أحكام قُضاتنا ونحفظ شرعنا وعنعنة تاريخنا الباهر، وهذا لا ينافي ما تدعيه إيطاليا وما دأبت عليه في خُطَب رجالها من أنها لم تحتل ديارنا بنيَّة الاستعمار، وإنما ساقتها دواعي السياسة الدولية في البحر المتوسط. ولو كانت صادقة في دعواها هذه لما عرَّضت بلادنا للخراب بتوالي الهجمات واستعمال دهائها وقدرتها للتفريق والفوضى، وقد حاولت فصل الأمة بعضها عن بعض بطرق مختلفة، وأبى الله إلا أن يجمع كلمة القُطرَين الشقيقَين بأن يلتفَّا حول أمير واحد يرضيانه. وحيث كان سموكم من أشرف عائلة وأكرم بيت، مع ما تجمَّع في ذاتكم الشريفة من المزايا العالية والأوصاف الجليلة، فإن «هيئة الإصلاح المركزية» الحائزة للوكالة المُطلقة من «مؤتمر غريان» الذي يُمثل الأمة الطرابلسية بانتخاب واقع منها، قد وجدت في سموكم أميرًا حازمًا قادرًا على جمع الأمة، حائزًا للثقة العامة، محبوبًا. فهي لذلك تُبايع سموكم أميرًا للقُطرَين طرابلس وبرقة على أن تقودهما إلى ما يُحقق أمانيهما الشريفة الإسلامية المنوَّه عنها، على أن مُبايعتكم كانت مُضمرة في كل نفس منذ وقع الاتحاد بين مندوبي القطرين في «سرت»، وكان السبب في تأخير تحقيقها طوارئ الحرب التي طوَّحت بكل واحدٍ من أعضاء الهيئة ورجال القُطر في منطقة شاسعة من المناطق الحربية. وبهذه المبايعة إن شاء الله أصبح سموكم الأمير المحبوب للقُطرين المباركَين، ومتى سنحت الفرصة عند تشريفكم إيَّانا حسب رغبة الأمة تُقام لكم مظاهر هذه البيعة في موكب لائق بسموِّكم، والله سبحانه وتعالى يُمدكم بروحٍ من عنده ويجعل البركة في البيت السنوسي المؤسَّس على التقوى والصلاح.»
ووصل إلى أجدابية الوفد الذي حمل كتاب البيعة لسمو الأمير في ربيع الأول ١٣٤١ﻫ (أكتوبر ١٩٢٢م)، وكان الطرابلسيون يعرفون من غير شكٍّ أن مجيء الوفد إلى أجدابية يحمل كتاب البيعة إلى سمو الأمير من شأنه إثارة غضب إيطاليا، تلك الدولة التي ما فتئت تلحُّ على السيد إدريس منذ مجيء الوفد السابق إلى برقة حتى تصرِفه عن قبول الدعوة إلى الاتحاد والتعاون مع الطرابلسيين. وكان من المتوقَّع أن يأخذ الغضب من الحكومة الإيطالية كل مأخَذٍ إذا قَبِل السيد إدريس بيعة الإمارة من أبناء القُطر الشقيق طرابلس، وأنها لا بد مُقدِمةٌ ساعتئذٍ على إشارة الحرب ضد السيد بكل الطرُق. ولا جدال في أن السيد إدريس كذلك كان يعلَم تمام العلم أن قبول البيعة سوف يترتَّب عليه نتائج خطيرة، ولكنه كما قال الطليان أنفسهم ما كان يستطيع أن «يرفض تلك اليد التي مُدَّت لمصافحته».
وعلى ذلك فقد بادر الأمير بمصافحة تلك اليد الممدودة إليه، وقَبِل البيعة دون تردُّد، وأجاب على كتاب البيعة في ٢٢ ربيع أول ١٣٤١ﻫ (٢٢ نوفمبر ١٩٢٢م)، فقال أعزه الله: «وبعد، فقد تناولت بيدِ الشكر عريضتكم التي أظهرتم فيها رغبتكم الخالصة في تحقيق غايتكم التي أجمعتم عليها في مؤتمر غريان، وجاهدتم لها جهادًا صادقًا بالأنفس والثمرات في شخصي، فأخذتها داعيًا الله أن يُحقق آمال هذه الأمة ويُكلل مساعيها كلها بالنجاح. ولما كان اتحاد الوطن وسلامته هما الغاية التي طالما سعيتُ إليها، وجدتُ من واجبي أن أتلقى طلبكم بالقبول، وأن أتحمَّل المسئولية العُظمى التي رأت الأمة تكليفي بها، فعليَّ إذن أن أعمل بجدٍّ معكم، ولكن لا تنسوا أنني بغير إقدامكم وجدِّكم لا قدرة لي على شيء. إني أعلم أن الحياة الخالدة هي للأمم لا للأفراد، وكذلك الأعمال العظيمة الباقية هي التي تنصرِف إلى صالح الجميع؛ فلذلك أدعوه سبحانه وتعالى أن يَهدِيَنا إلى كل عملٍ ثمرته للأمة؛ إذ من حق كل شعبٍ أن يُسيطر على شئونه، والناس منذ نشئوا أحرار، وقد أظهر شعبنا في كل أدواره مقدار محبَّته للحرية، فدفع مهورًا غاليةً، فلا يصحُّ لأحد أن يطمع في استعباده والاستبداد بشئونه. لقد اشترطتُم على الشورى وهي أساس دِيننا وسأعمل على قاعدتها. هذا وقد رأيتُ أن أُقرَّ الأمور على ما هي عليه حتى تجتمع جمعية وطنية لوضع نظام البلاد؛ فلذلك أكِلُ إلى الهيئة المركزية، لِما أبدت من الحميَّة والعدل والدراية، أن تستمرَّ على إدارة شئون القطر الطرابلسي، ولي الثقة العظيمة في حكمة رئيسها البطل الحازم أحمد بك المريض ورفقائه والرؤساء الكرام الذين أيَّدوا مساعي الهيئة المالية أن يتحملوا مشاقَّ المسئولية بصبرٍ لتثبيت دعائم البناء الوطني الذي شيَّدوه، وأسأله تعالى أن يمدَّ الجميع بعنايته ويُثبِّت الأقدام ويقهر الأعداء ويمنَّ بالنصر الموعود، إنه على ما يشاء قدير.»
كان قبول البيعة في نوفمبر ١٩٢٢م، وكان من المتوقع أن تزداد العلاقات توترًا بسبب هذا القبول بين الأمير والطليان، وبدأ هؤلاء بالفعل يُظهرون عداءهم للسنوسية وأميرها منذ أن شعروا بأن الأمير لن يتردَّد بحالٍ عن توحيد كلمة القطرَين الشقيقَين، وكان الطليان يتوجَّسون خيفةً من إنشاء إمارة ليبية كبيرة من أيام اجتماع سرت، ثم تحقَّقت مخاوفهم الآن عند قبول البيعة. فإذا تذكَّرنا أن الحكومة الإيطالية لم تُقدِم على إبرام معاهدة الرجمة إلا مرغمةً على ذلك إرغامًا بحُكم الظروف السياسية في داخل بلادها وفي برقة ذاتها على نحو ما سبق بيانه، اتضح لنا مقدار ذلك الحقد القديم الذي أثار كوامِنه الآن انعقاد لواء الإمارة على القُطر الليبي بأجمعه للسيد محمد إدريس السنوسي. وكان العملاء الطليان منذ عام ١٩٢٠م، وعلى الرغم من قبول دولتهم الإنفاق مع السيد إدريس قد حاولوا التخلُّص مِن الأمير بشتَّى الطرق، ثم لم يُحجموا عن سلوك أشد هذه الطرق نذالةً وجبنًا عندما استطاع وكلاؤهم أن يدسُّوا السمَّ للسيد، فقد مرض السيد في عام ١٩٢٠م، ومع أنه طلب المعالجة في القطر المصري واستأذن الحكومة في الدخول إلى مصر بقصد المداواة، ورحَّبت الحكومة المصرية بمجيء سموِّه، فقد حال الطليان دون سفره، ثم أصرُّوا على أن يُعالجوه هم بأنفسهم، ولكنهم بدلًا من أن يُعالجوا سموَّه ممَّا كان يشكو منه اقتصر عمل أطبائهم على وصف بعض العقاقير «المقوية»، وبلغ عبد الرحمن عزام، وهو ما يزال وقتذاك بمصراتة، من أحد ضباط الطليان الذين اعتنقوا المذهب الاشتراكي أنَّ الحكومة الإيطالية تنوي الخلاص من الأمير بدسِّ السمِّ له فيما يتناوله من عقاقير وأدوية على أيديهم، فبادر العزام، حرصًا منه على حياة الأمير، بإرسال أحد المجاهدين من الضباط ويدعى عبد المولى الحاسي حتى يُبلغ السيد إدريس «أن الجماعة قد قرَّروا أن يسقوه السمَّ.» غير أن الرسول عندما جاء يُبلغ رسالته وجد السيد يُعاني آلام المرض المبرِّحة، فلم يشأ أن يزيد من إزعاج السيد بتبليغه هذه الرسالة. وعلى هذه الصورة الواضحة نفَّذ الطليان مكيدتهم، ولكن الله سبحانه وتعالى لم يشأ أن يحرم الأمة الليبية العربية المجاهدة زعامة السنوسية، فسلَّم الأمير، ولكنه ظلَّ من ذلك الحين يشكو المرض. وعندما جاءت الوفود من طرابلس تعرِض على سموه بيعة الإمارة كانت العلة قد اشتدت بالسيد حتى اقتضاه الأمر أن يلزم فراشه، وصار لا مَحيد عن السفر إلى مصر حتى يبلَّ من مرضه. وكان مما زاد الموقف خطورةً على خطورته حتى بات يُخشى على حياة الأمير، أن العلاقات كانت قد تحرَّجت بينَه وبين الحكومة الإيطالية منذ حدوث الانقلاب الفاشيستي المعروف بإيطاليا في أكتوبر ١٩٢٢م، وتكرَّر وقوع المُصادمات بين الطليان وبين الوطنيين في برقة، فطلب الأمير ثانيةً أن يخرج إلى القطر المصري للمداواة، وأصرَّ الطليان بدورهم على رفضهم، وعندما اشتدَّت وطأة المرض على الأمير لم يلبث الطليان أن عرضوا على سموِّه إحضار بارجة تنقله إلى إيطاليا «للمداواة» بها، ولم يغب عن الأمير غرَض الطليان الحقيقي من هذه «الأريحية» المُريبة، وبخاصة عندما أخذ هؤلاء يبذلون ما في وسعهم من جهدٍ وحيلة لدى الحكومتَين الإنجليزية والمصرية حتى لا تأذنا لسموِّه بالدخول إلى مصر. ثم أقاموا قوة للمُراقبة الدقيقة على طول الساحل لمنع سموِّه من مغادرة برقة. وكان في هذه الظروف أن بلغ الأمير أن السيد مرغني الإدريسي قد وصل إلى السلوم في انتظار سموِّه لاستقباله ومرافقته إلى القاهرة، فصحَّ عزم الأمير على مغادرة برقة. وفي ٢١ ديسمبر ١٩٢٢م خرج السيد محمد إدريس من أجدابية، وخرج محمد عبد الرحمن عزام ونوري السعداوي ومحمد الصادق بلحاج في طريقهم إلى مصر، وأشاع كبار السنوسية أن السيد إنما يبغي الذهاب إلى الكفرة، وذلك حتى لا يمنعه الطليان وصحبه من مغادرة أجدابية واجتياز الحدود إلى مصر، فوصل سموُّه مع مَن رافقوه إلى جالو في أول يناير ١٩٢٣م، ثم بلغ الجغبوب بعد اثني عشر يومًا. وفي ١٨ يناير وصل إلى سيوة، ومنها قصد مع صحبه إلى مرسى مطروح، ثم إلى مريوط، فبلغَها في ٢٩ يناير. وهناك وجد قطارًا أعدَّته الحكومة المصرية لنقل سموِّه، فبلغ القاهرة في ٢٧ يناير ١٩٢٣م، واستُقبل استقبالًا فخمًا رائعًا، فأرسل المغفور له جلالة الملك فؤاد الأول مندوبًا خاصًّا لاستقباله، كما خفَّ لاستقبال الأمير والترحيب بمقدِمه عظماء القوم وأهل الفضل من المصريين ورؤساء العرب ووجهائهم وكبار أدباء الأقطار الشقيقة الشام وفلسطين والعراق، ونزل الأمير بالقاهرة.
وكان مجيء السيد إدريس إلى مصر منذرًا ببداية الكفاح المرير في برقة، ذلك بأن الأمير على الرغم من مرضه الشديد كان قد اتَّخذ من الإجراءات ما يكفل استئناف جهاد العرب ضد حكومة الطليان الغاشمة.