الفصل الثاني

جدلية الوضوح والغموض

التجرِبة الصوفية بين «الكشف والستر»
تمثل التجرِبة الصوفية في جوهرها محاولة لتجاوز حدود التجرِبة الدينية العادية، تلك التي تقنع بالعادي والمألوف من مظاهر التصديق والإيمان، وتقتصر على مجرد الوفاء بالتكاليف الشرعية والامتناع عن المحرمات الدينية، أو ما يُسمَّى الوفاء بمتطلبات الشريعة والوقوف عند حدودها ورسومها. يطمح الصوفي إلى تجاوز حدود «الإيمان» للدخول في تخوم «الإحسان»، الذي شرحه «جبريل» للنبي ، حين ظهر له في صورة أعرابي؛ وأجاب على أسئلته له في حضور بعض الصحابة. سأله النبي عن «الإيمان» فأجاب: أن تؤمن بالله وملائكته ورسله، وأن تؤمن باليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. وحين سأله النبي عن «الإحسان» أجاب جبريل — المتمثل في صورة إنسانية بشرية هي صورة أعرابي: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.»١

يسعى الصوفي إلى التواصل تواصلًا مباشرًا مع «الحق» سبحانه، ويطمح إلى عبادة «المعاينة» التي أشار إليها جبريل. من هنا نفهم أقوال شهيدة العشق الإلهي «رابعة العدوية» (ت. ١٨٥ﻫ/٨٠١م) التي ترى في العبادة التي مبناها «الخوف» من العقاب و«الطمع» في الثواب سلوكًا يماثل سلوك عبد السوء، الذي إذا خاف أطاع وإذا أمِنَ عصى. أما عبادتها هي فمبناها على «الحب»، الذي غايته الوصول إلى رضا المحبوب حتى يكشف للمحب الحُجُب التي تحول دونه ودون رؤية وجه المحبوب. فإذا انكشفت الحجب تحققت الرؤية:

أحبك حبين: حب الهوى
وحبًّا لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى
فشغلي بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له
فكشفك لي الحُجُب حتى أراكا٢

ويمكن لنا بالمثل أن نفهم ما ورد على لسان «الحسين بن منصور الحلاج» (٣٠٩ﻫ/٩٢٠م) من شطحات، أساء فهمها وتأويلها فقهاء السلطة فأهدروا دمه، وهي أقوال مبناها العشق الذي تفنى فيه «إنِّيَّة» العاشق في ذات المحبوب، فلا تبقى إلا ذات واحدة:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن رُوحان حَلَلْنا بدنا
فإذا أبصرتَني أبصرتَه
وإذا أبصرتَه أبصرتَنا٣

وتجرِبة «حي بن يقظان» التي قصها «أبو بكر بن طفيل» — وسنتناولها في الفصل التالي —تقدم شاهدًا فلسفيًّا على ما يمكن أن ينشأ من تعارض بين التجرِبة الدينية الصوفية ومثيلتها العادية.

وقد أدى التعارض بين التجرِبة الصوفية والتجرِبة الدينية العادية إلى مآسٍ دامية تمثلت فيما حدث من صَلب ﻟ «الحلاج»، ومن قتل ﻟ «السُّهْرَوَرْدي، شهاب الدين يحيى بن حبش» (٥٨٧ﻫ/١١٩١م) على سبيل المثال. ولم يتوقف هجوم الفقهاء على المتصوفة، إلى حد وصمهم بالردة والكفر، حتى عصرنا هذا. إذ يذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى إخراج الفكر الصوفي بصفة عامة — وفكر «محيي الدين بن عربي» بصفة خاصة — من حظيرة الإسلام. وقد بلغ الحماس ضد التصوف بمحقق كتاب برهان الدين البقاعي «تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي» إلى أن يضع له عنوانًا من عنده يعلو على العنوان الأصلي للكتاب، هو «مصرع التصوف».٤ وقد ذهب باحث معاصر آخر إلى اتهام «ابن عربي» بالقصد إلى التخريب العقائدي بنشر أفكار الباطنية — كالحلول ووحدة الوجود — في أقطار الدولة الإسلامية.٥

بسبب هذا التعارض في الفهم والتأويل بين التجرِبتين الدينيتين من جهة، وبسبب «العنف» المادي واللغوي الذي مارسته التجرِبة الدينية العادية — والفقهية بصفة خاصة — من جهة أخرى، كان على المتصوفة أن يُنْتِجوا لغتهم الخاصة بهم، والتي يمكن أن تحميهم من بعض هذا العنف. من هنا منشأ اهتمام المتصوفة باللغة؛ فاستعاضوا عن اللغة العادية بلغة الرمز والإشارة؛ سواء في تفسيرهم للقرآن الكريم أو في تعبيراتهم عن مواجدهم وتجارِبهم الصوفية ومكاشفاتهم الروحية في أحوالهم ومقاماتهم.

(١) مؤلفات الشيخ، نظرة عامة

إن نظرة على لغة بعض مؤلفات الشيخ ونسق تأليفها يمكن أن تكشف لنا كثيرًا من خصائص هذه اللغة. كان الشيخ قد بدأ بالفعل نشاطًا تأليفيًّا مكثفًا قبل رحيله النهائي للمشرق سنة ٥٩٨-٥٩٩ هجرية. ولا يسعنا أن نتعرض هنا لمؤلفات الشيخ التي تستعصي على الإحاطة؛ إذ كتب الشيخ بنفسه عام ٦٣٢ﻫ أنه قد ألف نحوًا من مائتين وتسعة وثمانين رسالة، بينما يذهب «عبد الرحمن جامي» صاحب «نفحات الأنس» أن له خمسمائة رسالة وكتاب. ويذكر «الشعراني» في «اليواقيت والجواهر» أن لابن عربي حوالي أربعمائة كتاب، في حين يذكر «بروكلمان» في «تاريخ الأدب العربي» أن لابن عربي مائتين وخمسين رسالة وكتابًا مخطوطًا ومطبوعًا. وبالإضافة إلى ذلك يذكر صاحب «فوات الوفَيَات» أن تفسير ابن عربي للقرآن المعروف باسم «التفسير الكبير» يقع في خمسة وتسعين مجلدًا.٦ يكفينا هنا في مجال تحليل طبيعة اللغة الصوفية أن نتعرض لبعض المؤلفات التي تطرح بشكل لافت مشكل اللغة، لا على مستوى التعبير فحسب، بل على مستوى البناء والنسق التأليفي كذلك.
بدأ ابن عربي تأليفه بكتابة الرسائل القصيرة نسبيًّا، ثم بدأ في تصنيف الكتب الأطول بعد رحيله إلى المشرق؛ فبدأ تصنيف موسوعته «الفتوحات المكية» في مكة كما سنرى، ثم كان كتاب «فصوص الحِكَم» من آخر ما سطره من كُتبٍ قبل وفاته في دمَشق. والشيخ حريص على أن يسجل تسجيلًا دقيقًا تاريخ تأليف كتبه في معظم السياقات التي يحيل إليها في كتب أخرى. نعلم مثلًا أنه في سنة ٥٨٨ﻫ/١١٩٤م صنف كتاب «مشاهد الأسرار القدسية»، وذلك بعد العودة إلى إشْبِيلِيَة من أول رحلة قام بها إلى تونِس، أما كتاب «روح القدس في محاسبة النفس»٧ فقد صنفه سنة ٥٩٠ﻫ/١١٩٨م في تونِس. وفي فاس كتب كتاب «الإسرا إلى المقام الأَسرَى» سنة ٥٩١ﻫ/١١٩٩م.٨ وكتاب «مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم»، الذي يتعامل فيه مع «قواعد أهل الطريق»، صنفه في المَرِيَّة سنة ٥٩٥ﻫ.٩ وكان قد ذهب إليها بعد حضور جنازة ابن رشد في قرطبة.

يذكر ابن عربي هذا الكتاب الأخير في سياق الحديث عن طهارة الأعضاء الثمانية المكلفة من الإنسان، وهي العين والأُذن واللسان واليد والبطن والفرْج والرِّجْل والقلب، من حيث الظاهر والباطن معًا، وذلك في كتاب «الفتوحات المكية». يقول: «وقد بينَّاها بكمالها وما لها من الكرامات والأنوار والمنازل والأسرار في كتابنا المسمى مواقع النجوم. وما سُبقتُ، في علمي، في هذا الطريق إلى ترتيبه أصلًا. وقيدته في أحد عشر يومًا من شهر رمضان بمدينة المَرِيَّة سنة خمس وتسعين وخمسمائة. وهو يغني عن الأستاذ، بل الأستاذ محتاج إليه، فإن الأستاذ فيهم العالي والأعلى، وهذا الكتاب على أعلى مقام يكون الأستاذ عليه، ليس وراءه مقام في هذه الشريعة التي تعبدنا بها. فمن حصل لديه فليعتمد بتوفيق الله عليه؛ فإنه عظيم المنفعة. وما حملني على أني أعرِّف بمنزلته إلا أني رأيت الحق في النوم مرتين وهو يقول لي: «انصح عبادي»، وهذا من أكبر نصيحة نصحتك بها، والله الموفق وبيده الهداية.»

وهنا نلمس أول ملمح من ملامح مؤلفات الشيخ: إنها ليست كتبًا من تأليفه، بل هي رسائل طُلب منه أن يبلِّغها للناس. هكذا ليس كتاب «مواقع النجوم» إلا ثمرة من ثمار اللقاء مع «الحق» سبحانه في رؤيا تسلم فيها الكتاب ليبلِّغه للناس ناصحًا. أهمية الكتاب تكمن هنا في مصدر إلهامه، من هنا علو قدر ما يتضمنه من نصائح وإرشادات فوق قدر أي أستاذ أو معلم.

وفي العام نفسه صنَّف ابن عربي كتاب «التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية»،١٠ وهو يذكره في كتاب «عنقاء مُغرِب» على الوجه التالي: «كنا قد ألفنا كتابًا روحانيًّا، وإنشاءً ربانيًّا، سميناه بالتدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية. تكلمنا فيه على أن الإنسان عالم صغير مسلوخ من العالم الكبير، فكل ما ظهر في الكون الأكبر فهو في العين الأصغر. ولم أتكلم في تلك الأوراق على مضاهاة الإنسان بالعالم إلى الإطلاق، ولكن على ما يقابله به من جهة الخلائق والتدبير، وبينت منه ما هو الكاتب والوزير والقاضي العادل والأمناء والعاملون على الصدقات والسفر، والسبب الذي جعل الحرب بين العقل والهوى، ورتبت فيه مقابلة الأعداء، ومتى يكون اللقاء، ونصرته نصرًا مؤزَّرًا، وكونته أميرًا مدبِّرًا، وأنشأت المُلك وأقمت ببعض عالمه الحياة وببعضهم الهُلْك. وكمُل الغرض، وآمنَ مَن في قلبه مرض.»١١
إذا كان كتاب التدبيرات قد ركز على مضاهاة الإنسان بالكون فقط — المقارنة بينهما باعتبار الإنسان كونًا صغيرًا، والكون إنسانًا كبيرًا — فإن كتاب «عنقاء مُغرِب في ختم الأولياء وشمس المغرب»، الذي كتبه المؤلف عام ٥٩٥ﻫ، وفي شهر ربيع الأول على وجه التحديد (شهر ميلاد النبي محمد عليه السلام) حسب كلام الشيخ نفسه،١٢ مُخَصَّص للموازاة الأهم بين «الإنسان» والملأ الأعلى. الفارق بين الكتابين يكمن في أن كتاب «عنقاء مُغرِب» مخصصٌ كُليةً لشرح الجانب الآخر الروحاني من المملكة الإنسانية، وهو الجانب المضمر في كتاب «التدبيرات الإلهية». يقول الشيخ: «وكنت نويت أن أجعل فيه (يعني كتاب «التدبيرات الإلهية») ما أوضحه تارة وأخفيه، أين يكون من هذه النسخة الإنسانية والنشأة الروحانية مقام الإمام المهدي المنسوب إلى بيت النبي الماء والطين، وأين يكون منها ختم الأولياء وطابع الأصفياء، إذ الحاجة إلى معرفة هذين المقامين في الإنسان آكد من كل مضاهاة أكوان الحدثان … فجعلت هذا الكتاب (يعني كتاب عنقاء مُغرِب) لمعرفة هذين المقامين.»١٣
وهذا الكتاب الأخير — شأنه شأن كل الكتب التي أنتجها الشيخ — ليس من تأليفه هو، بل هو مما أُوحي إليه في مشاهده ورؤاه الصوفية. يقول: «ولما دخل شهر ميلاد النبي محمد عليه السلام (شهر ربيع الأول من سنة ٥٩٥ﻫ) بعث إليَّ سبحانه رسول الإلهام — وهو الوحي الذي أبقاه علينا والخطاب الذي جعل منه إلينا — يأمرني فيها بوضع هذا الكتاب المكنون والسر المصون المخزون.» الغريب في أمر هذا الكتاب هو اعتراض ابن عربي على العنوان المقترح للكتاب من جانب الرسول المُلهِم وهو — أي عنوان الكتاب — «الكشف والكتم في معرفة الخليفة والختم». يقول ابن عربي إنه راجع الملَك في هذا العنوان، فعاد «الملَك» يقترح عنوانًا آخر هو «سدرة المنتهى وسر الأنبياء في معرفة الخليفة الختم وختم الأولياء»، لكن ابن عربي مرة أخرى لا يستريح لهذا العنوان: «فلما كان يوم الجمعة، والخطيب على أعواده يدعو قلوب أولياء الله وعباده، إذ وجدت بردَ كفِّ الجَذْب من حضرة القُرْب فتلقيت في الغفلة الكلمات، وتوفرت دواعي القلب لما يَرِد عليه النَّسَمات، فإذا الخطاب الأنفَس من المقام الأقدس: هل تَقنع أيها الخطيب المُعرِب والمنتقِد المعجِب بعنقا مُغرِب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب؟»١٤
وفي شرح المقصود ﺑ «شمس المغرب» في العنوان يقول الشيخ: «فشمس المغرب ما طلع في عالم غيبك من أقوال العلوم، وتجلَّى إلى قلبك من أسرار الخصوص والعموم.» الفارق إذن بين هذا الكتاب وكتاب «التدبيرات الإلهية» أنه بينما يركز التدبيرات على مقارنة بنية الإنسان ببنية العالم، يركز «عنقاء مُغرِب» أساسًا على العالم الباطني للإنسان؛ أي يركز على النسخة الصغرى micro-Cosmo فقط دون النسخة الكبرى macro-Cosmo.١٥ وهكذا، فإلى جانب الغموض الذي يلف لغة الكتاب ويحيط به إحاطة تامة، بدءًا من العنوان، فإن لَمَعات من الوضوح هنا وهناك تكشف قيام بنية الكتاب على جدلية الوضوح والغموض: «فأنا الآن أُبْدي وأُعَرِّض تارة، وإياك أعني واسمعي يا جارة. وكيف أبوح بِسرٍّ، وأُبدي مكنون أمرٍ، وأنا الموصي به غيري، في غير موضع من نظمي ونثري! نبِّه على السر ولا تُفشه؛ فالبوح بالسر له مقت على الذي يُبديه.»١٦
من الواضح أن العام ٥٩٥ﻫ كان عام الإنتاج الوفير من المؤلفات، أو بالأحرى من الإلهامات الربانية، وذلك قبل انهمار سيول المعرفة على قلب الشيخ في مكة منذ عام ٥٩٨ﻫ. لكننا نعلم أنه قبل ذلك بدأ كتابة كتاب «إنشاء الدوائر» في تونِس سنة ٥٩٨ﻫ. في مكة نظم الشيخ ديوان شعره المعروف باسم «ترجمان الأشواق» عام ٥٩٨ﻫ، وهو الديوان الذي اضطُر لتصنيف شرح له باسم «ذخائر الأعلاق شرح ترجمان الأشواق» سنة ٦١٠ﻫ/١٢١٤م بسبب اعتراض بعض فقهاء حلب عليه في ذلك.١٧
وفي سنة ٥٩٩ﻫ يكتب رسالة «روح القدس في محاسبة النفس» من مكة لصديقه في تونِس «عبد العزيز المهدوي». وهي مكتوبة في قالب نثري مُوَقَّع، هو بالشعر أشبه، وفيه يناجي صديقه ويبثه بعض الهموم، فينتقد فيه سلوك بعض الصوفية الذين التقى بهم ممن تشغلهم هموم الدنيا أكثر من انشغالهم بعمق تجارِبهم، كما يحدث صديقه عن مشايخه في إسبانيا، وكأنه بهذا الحديث يستعيد بالتذكر بعض ذكريات يخشى عليها من الفوات والانمحاء.

(٢) جدلية الغموض والوضوح، الفصوص والفتوحات

إن أي مقارنة بين رسائل الشيخ وكتبه القصيرة — ومنها «فصوص الحِكَم» — وبين كتاب «الفتوحات المكية» من حيث الأسلوب، تكشف عن تفاوت ملحوظ، فبينما تُميَّز لغة «الفتوحات» بالسهولة والإطناب تتميز لغة «فصوص الحِكَم» بالتركيز والتكثيف الذي يقربها من حد «الغموض». يقرر ذلك أبو العلا عفيفي حين يشرح تجرِبته حين بدأ بحثه بقراءة كتاب «الفصوص» وكيف استعصى عليه فهم محتواه استعصاءً تامًّا رغم الشروح التي استعان بها. لكن هذا الغموض زال حينما ترك «الفصوص» جانبًا وقرأ كتب ابن عربي الأخرى ومنها «الفتوحات». فلما عاد لقراءة «الفصوص» انفتح ما كان مستغلِقًا عليه من لغته. والسبب الذي جعل «عفيفي» يبدأ قراءته بكتاب «الفصوص» أنه كان الكتاب الذي اعتمدت عليه الدراسات الاستشراقية المبكرة عن ابن عربي. فهو الذي اعتمد عليه الأستاذ نيكلسون في دراسته عن التصوف الإسلامي Studies in Islamic Mysticism «وهَمَّ بترجمته إلى الإنجليزية، ولكنه عدل عن فكرته قائلًا: هذا كتاب يتعذر فهمه في لغته مع كثرة الشروح عليه، فكيف به إذا تُرجم إلى لغة أخرى؟» ويعتقد أبو العلا عفيفي «أن هذا السبب عينه هو علة إحجام جمهرة من فضلاء المستشرقين — غير نيكلسون — عن دراسة الفصوص والانتفاع به فيما كتبوه من بحوث قيمة عن ابن عربي، وهي غير قليلة. فالأستاذ لويس ماسينيون الذي جرؤ على معالجة كتاب الطواسين للحلاج وحل رموزه، لا يكاد يذكر الفصوص أو يشير إليه في دراساته الواسعة القيمة في التصوف. وآسين بلاثيوس، وهو من أكثر المستشرقين دراسة لابن عربي، يقتصر على الفتوحات وغيره في كل ما يقول عنه؛ أما الفصوص فلا يدخل له في حساب. ونيبرج، الذي كتب مقدمته البارعة في صدر نشرته لكتب ابن عربي الصغيرة، لا يكاد يذكره. وفون كريمر الذي خطط معالم التصوف تخطيطًا مفيدًا وختم كتابه بفصلٍ خاص عن ابن عربي، اعتمد فيما كتبه على الفتوحات وكُتُب الشَّعْراني، وأغفل الفصوص.»١٨
وعن تجرِبته هو يقول عفيفي: «قبلت دعوة الأستاذ نيكلسون (لدراسة فكر ابن عربي موضوعًا للدكتوراه بجامعة كمبردج سنة ١٩٢٧م) وأقبلت على قراءة كتب ابن عربي مبتدئًا بالفصوص، فقرأته مع شرح القاشاني عليه عدة مرات، ولكن الله لم يفتح عليَّ بشيء! فالكتاب عربي مبين، وكل لفظ فيه إذا أخذته بمفرده مفهوم المعنى، ولكن المعنى الإجمالي لكل جملة، ولكثير من الجمل، ألغاز وأحاجٍ لا تزداد مع الشرح إلا تعقيدًا وإمعانًا في الغموض. وذهبت إلى الأستاذ أشكو حالي، وأذكِّره بأن هذه أول مرة استعصى عليَّ فهم كتاب باللغة العربية إلى هذا الحد، فنصحني بترك الفصوص والإقبال على كتب ابن عربي الأخرى، فقرأت منها نيِّفًا وعشرين كتابًا ما بين مطبوع ومخطوط، منها الفتوحات المكية. وهنا بدأت تنكشف لي معاني الشيخ ومراميه بعد ما أصبحتُ على إلفٍ باصطلاحاته وأساليبه. فلما عدت إلى الفصوص وجدته مع صغر حجمه خلاصةً مركزة لأمهات تلك المعاني، ووضح لأول مرة ما كان منه مستغلِقًا، وأصبح يسيرًا علي فهم ما أَلْفيْتُه بالأمس عسيرًا.»١٩

والحقيقة أن كتاب «الفتوحات» يتضمن — فيما يتضمن من معرفة موسوعية تكاد تشمل كل فروع الثقافة الإسلامية — توضيحًا لكثير من جوانب الغموض التي نلمسها في كتب ابن عربي المبكرة. لعلنا نشير هنا إلى أن الغموض الذي أشرنا إليه بخصوص كتاب «عنقاء مُغرِب» يجد شرحًا له في الباب ٣٦٦ من الفتوحات، وعلى هذا الباب اعتمدنا في تحليلنا في الفصل الثالث لمفهوم «المهدي المنتظر». لكن الجدير بالالتفات أن يكتب ابن عربي «الفصوص» في لغة غامضة بعد أن شرح فلسفته كاملة في «الفتوحات»، فهل لهذا علاقة بما نسميه هنا «جدلية الغموض والوضوح»؟ لنبدأ بتأمل بنية الكتابين:

يُعَد كتاب «الفتوحات المكية في معرفة الأسرار المالكية والمُلكية» من أنضج كتابات الشيخ وأكثرها استيعابًا لفلسفته بعد أن نضجت واستقرت مقولاتها في نسق موحد. وقد بدأ بتدوينه في أوائل إقامته بمكة سنة ٥٩٨ﻫ، وأتم النسخة الأولى منه بدمَشق في سنة ٦٢٩ﻫ. أما النسخة الثانية، والتي تشتمل على إضافات عديدة، فقد أتمها قبل سنتين من وفاته (سنة ٦٣٦ﻫ)، والمخطوطة الكاملة بخط ابن عربي نفسه توجد في متحف الأوقاف الإسلامية في إسطنبول في ٣٧ مجلدًا (الأرقام من: ١٨٤٥–١٨٨١)، وهي النسخة التي طُبعت عدة طبعات، ثم بدأ «عثمان يحيى» محاولة نشر طبعة منقحة مصححة في ٣٧ مجلدًا، لم يصدر منها منذ سنة ١٩٧٢م سوى ١٤ مجلدًا، ورحل إلى جوار ربه — رحمه الله — قبل أن يتمها.

يتكون كتاب «الفتوحات المكية»، بالإضافة إلى «الافتتاحية» و«الخطبة»، من ستة فصول يحتوي كل منها عددًا من الأبواب:

الفصل الأول «في المعارف» ويضم الأبواب من ١ إلى ٧٣.
أما الفصل الثاني فهو بعنوان «في المقابِلات» ويضم الأبواب من ٧٤ إلى ١٨٨.
الفصل الثالث عنوانه «الأحوال» وأبوابه من ١٨٩ إلى ٢٦٩.
والرابع «في المنازل» يضم الأبواب من ٢٧٠ إلى ٣٨٣.
والفصل الخامس عنوانه «في المنازلات» ويحتوي الأبواب من ٣٨٤ إلى ٤٦١.
وينتهي الكتاب بالفصل السادس «في المقامات» ويضم الأبواب من ٤٦٢ إلى ٥٦٠.

وينتهي الكتاب بقول المؤلف: «انتهى بحمد الله بانتهاء الكتاب على أمكن ما يكون من الإيجاز والاختصار على يدَي مُنشئه. وهو النسخة الثانية من الكتاب بخط يدي، وكان الفراغ من هذا الباب الذي هو خاتمة الكتاب بكرة يوم الأربعاء ٢٤ من ربيع الأول سنة ٣٦٣ﻫ. وكتب منشئه بخطه محمد بن علي بن محمد بن العربي الطائي الحاتمي وفقه الله: هذه النسخة ٣٧ مجلدًا، وفيها زيادات على النسخة الأولى التي وقفتها على ولدي محمد الكبير، الذي أمه فاطمة بنت يونس بن يوسف أمير الحرمين وفقه الله، وعلى عقبه وعلى المسلمين شرقًا وغربًا وبرًّا وبحرًا.»

أما كتاب «فصوص الحِكَم»، الذي كتبه في دمَشق عام ٦٢٧ﻫ، فينفرد من بين كتب الشيخ بأنه أكمل صورة؛ لأنه — فيما يقول «أبو العلا عفيفي» — جمع فيه بين «قضايا العقل» وأحوال «الذوق والكشف» واستغلهما إلى أبعد مدى في تأييد مذهبه في «وحدة الوجود».٢٠ ولأن الكتاب يمثل خلاصة مركزة لأمهات معاني وأفكار الشيخ فقد اشتدت الحاجة إلى شرح غوامضه وفك طلاسمه بالعودة إلى كتبه الأخرى. والكتاب يتكون من ٢٧ فصلًا، كل فصل منهم مخصص لكلمة نبوية — باسم الفص — تتناول الدلالات الرمزية الصوفية للأنبياء من حيث اندراجهم في مفهوم «الكلمة الإلهية الجامعة»، ومن حيث تعبير كل منهم عن وجه أو أكثر من أوجه تلك الكلمة.

ورغم الأسباب الكثيرة التي يذكرها أبو العلا عفيفي لصعوبة أسلوب ابن عربي في كتاباته، فإنه لم يطرح تساؤلًا ما عن سبب هذا التفاوت في الأسلوب بين «الغموض» و«الوضوح». فيما سبق لنا الاستشهاد به — خاصة من كتاب «عنقاء مُغرِب» — يفصح لنا ابن عربي أن أسلوبه يعتمد اعتمادًا واضحًا على توظيف جدلية «الغموض» و«الوضوح»، أو «الإظهار والكتمان» و«التعريض والتصريح» معًا.

لكن لماذا الصعوبة في الصياغة، والغموض والتعريض؟ هل هو الضن بالمعرفة أن تصل إلى عقل من لا يقدرها حق قدرها؛ فيتخذها ذريعة للتشويش على إيمان صاحبها عند «العامة»؟ ومَن هؤلاء الذين يخشى منهم المتصوفة عمومًا و«ابن عربي» على وجه الخصوص؟ هل هم «الفقهاء» كما يقرر كثير من الباحثين؟ هل هو الخوف على العامة من «المعرفة»؟ ولماذا الكتابة إذن إذا كان القصد «الإخفاء» لا «الكشف والبيان»؟ لا جدال في أن منشأ الصعوبة والغموض يجد تفسيره الأساسي في طبيعة التجرِبة الصوفية. أما «تعمد» الغموض فيمكن أن نتلمس تفسيره في العنف المادي الذي عانى منه المتصوفة الأوائل، هذا فضلًا عن العنف المعنوي الذي ظل «الفقهاء» يمارسونه ضد الصوفية حتى عصر ابن عربي وبعده.

(٣) مشكل التجرِبة أم مشكل اللغة، الخطاب الإلهي

لأن التجرِبة الصوفية في جوهرها تجرِبة انفتاح الأنا على المعنى الباطني للوجود كله، وهذا الانفتاح مرهون بالقدرة على التواصل بين الأنا والكون الذي هي جزء منه، فمن الطبيعي أن تمثل التجرِبة الصوفية تجرِبة موازية لتجرِبة «الوحي» النبوي. الفارق بين تجرِبة «النبي» وتجرِبة «الصوفي» أن التجرِبة الأولى تتضمن الإتيان بتشريع جديد، بينما يكون فهم الوحي النبوي بالاتصال بنفس المصدر هو مهمة «العارف» في التجرِبة الصوفية. هذا التشابه والتوازي بين التجرِبتين يؤسس تشابهًا لُغويًّا. فكلام الله الموحى به إلى الرسل والأنبياء يكشف ويصرح من ناحية، ويخفي ويومئ من ناحية أخرى. إنه يكشف ويصرح بما هو خطاب للناس كافة؛ وذلك بحكم تفاوت مستويات عقول الناس وأفهامهم. لكنه يومئ ويعرِّض بما هو خطاب قابل دائمًا لانفتاح المعنى في الزمان والمكان.

هذا التشابه بين التجرِبتين الصوفية والنبوية أفضى إلى تشابه الخطاب الصوفي، من حيث بنية لغته التعبيرية، بالخطاب القرآني. ويمثل التفسير الصوفي للقرآن الكريم مجال التقاء التجرِبتين: فمهمة التفسير «كشف المعنى» الخفي، الذي تمت صياغته في اللغة الإنسانية بكل ما تعانيه من قصور في التعبير عن المطلق والمتعالي. وإذا كان «الوحي» يجسد التقاء المطلق بالنسبي فقد كان ذلك الالتقاء ممكنًا خلال وسيط اللغة. في اللغة تنزل الإلهي للإنساني، من هنا كان الوحي «تنزيلًا»، وكان على اللغة الإنسانية أن تحتمل ازدواج بنيتها الدلالية. يسعى الصوفي في مجال تفسير القرآن إلى شرح الغامض و«إظهار» الباطن، في حين يبدو في تعبيره عن تجرِبته الصوفية ساعيًا إلى «الستر» و«الإخفاء» و«الغموض».

من أجل هذا يميز المتصوفة بين مصطلحي «الإشارة» و«العبارة»، حيث الإشارة مجرد إيحاء بالمعنى دون تعيين وتحديد، ومن شأن هذا الإيحاء أن يجعل «المعنى» أفقًا منفتحًا دائمًا. أما العبارة فهي تحديد للمعنى يجعله مغلقًا ونهائيًّا، الأمر الذي يتعارض مع حقيقة الكلام الإلهي الذي تتعدد مستويات الدلالة فيه تعددًا لا نهائيًّا. هذا التمييز بين مصطلحي «الإشارة» و«العبارة»، يتأسس على التمييز الذي يؤكده المتصوفة بين «المعنى الظاهر» للخطاب الإلهي وبين دلالته «الباطنة»؛ إذ «الظاهر» هو ما يدل عليه الخطاب بدلالة اللغة الوضعية في بعدها الإنساني، في حين أن «الباطن» هو المستوى الأعمق، مستوى اللغة الإلهية، «المشار إليه» بطريقة لا تنكشف إلا لصاحب التجرِبة الصوفية. وإذا كان فهم الفقهاء — أهل الظاهر — للخطاب القرآني لا يتجاوز حدود الدلالة الوضعية للغة في بعدها الإنساني، فالعارفون وحدهم هم القادرون على النفاذ إلى ما يشير إليه الخطاب الإلهي من معانٍ ودلالات إلهية عميقة (باطنة).

هكذا يطور المتصوفة مفهوم الكلام الإلهي عند «الأشاعرة»،٢١ الذين ميزوا في بنية الخطاب الإلهي بين «الكلام الأزلي القديم» — أو «الكلام النفسي» — الذي هو صفة الذات الإلهية، وبين «التلاوة» الإنسانية التي تتصف بالحدوث. يطور المتصوفة المفهوم المذكور؛ فيميزون بين البعد الإلهي للغة الخطاب الإلهي وبين بعدها الإنساني.٢٢ تتجلى اللغة الإلهية — عند المتصوفة — في الوجود كله؛ فهي ليست محصورة في إطار الخطاب القرآني. إنها تتجلى في الوجود كله؛ لأن الوجود كلمات الله المسطورة في «الآفاق»، والقرآن كلمات الله المسطورة في المصحف. وكما أن كلمات الله الوجودية لا يمكن حصرها ولا تنفد،٢٣ فكلمات القرآن المعدودة المحصاة في ذاتها تشير إلى معانٍ ودلالات وجودية لا تنفد. وهكذا تكون تأويلات المتصوفة للقرآن نابعةً من فهمهم ﻟ «الإشارات» المدلول عليها في العبارات، وذلك لقدرتهم على النفاذ من «ظاهر» اللغة الوضعية إلى «باطن» اللغة الإلهية في بنية الخطاب. أما الفقهاء فيعجزون عن ذلك، عكوفهم على مستوى التجرِبة الدينية العادية، واستغراقهم في مستوى الدلالة الوضعية للغة الإنسانية، «ظاهر» الخطاب الإلهي.
ومن المهم هنا تأكيد أن المتصوفة لا يتصورون انفصالًا تامًّا أو تعارضًا بين «الظاهر والباطن» — أو بين «العبارة والإشارة» — في بنية الخطاب، بل التعارض وهم من أوهام أهل الظاهر والفقهاء. والحقيقة عند المتصوفة أن اللغة الإنسانية في بعدها الدلالي العُرْفي ليست إلا صدًى للغة الإلهية، أو «مظهرًا» ومجلًى من مجاليها. لقد كان من الضروري أن تتنزل لغة الوحي في «ظاهر» اللغة الإلهية؛ أي تتنزل بلغة البشر؛ لأن الوحي نزل هدايةً للناس كافة. هذا ما أقره «حي بن يقظان» بعد تجرِبته مع أهل جزيرة صديقه «أسال»، كما سنرى في الفصل الرابع، وهو نفس ما يقرره «محيي الدين بن عربي» في كتاب الفتوحات (٢: ٨٦، ٢١٩-٢٢٠، ٣: ٥٣٠).٢٤ لكن هذه اللغة الإنسانية في بعدها الوضعي العُرفي تمثل مستوى المعنى الظاهر، وتشير في الوقت نفسه إلى الدلالة الإلهية الباطنة، وهذا ما يفسر لنا إصرار المتصوفة على تأكيد أهمية البعد «الظاهر» — بل جوهريته — للنفاذ إلى المستوى «الباطن». إن «الظاهر» هو «الرمز» الذي بدونه يستحيل النفاذ إلى المرموز؛ وعلى ذلك فهجوم الفقهاء على تأويلات المتصوفة ناتج عن جهل بنهجهم؛ إذ يتخيلون: «أنهم يرمون بالظواهر فينسبونهم إلى الباطنية، وحاشاهم من ذلك، بل هم القائلون بالطرفين» (الفتوحات ١: ٦٤٥). ومعنى ذلك أن استخدام مصطلح «الإشارة» في التفسير الصوفي للقرآن — كما في «لطائف الإشارات» للقشيري (أبو القاسم بن عبد الكريم بن هوازن، ت. ٤٦٥ﻫ/١٠٧٢م) — لا يقوم على افتراض تناقض بين «الظاهر» و«الباطن» كما يتوهم الفقهاء، بل يعني استخدام مصطلحٍ دالٍّ على البنية الرمزية للقرآن، كما أنه مصطلح يسعى إلى تحاشي هجوم الفقهاء على المتصوفة إن استخدموا مصطلح «تفسير».
أما البعد الثاني، الخاص بمشكلة «التعبير» عن التجرِبة الصوفية، فقد أفضى إلى تأكيد أهمية «الغموض» لستر المعرفة عمن ليس أهلًا لها. من هذه الزاوية يمكن النظر لهذا البعد بوصفه «محاكاة» للغة الوحي. إن الدلالة المزدوجة لبنية القرآن — دلالته على الوجود من حيث لغته الإلهية، وعلى الشريعة الظاهرة من حيث مواضعات اللغة الإنسانية وأعرافها — تكتسب وحدتها من خلال التجرِبة الصوفية، التي هي تجرِبة وجودية وعرفانية في الوقت نفسه. هي تجرِبة وجودية من حيث إن «معراج» الصوفي ليس إلا رحلة روحية يتخلص فيها تدريجيًّا من علائقه بعالم «الظواهر» نافذًا إلى «باطنها» الروحي. وإذ يرهف «السمع» لأرواح الموجودات في معراجه يكتسب معارف تتزايد بدرجة رقيه في المعراج، ومع التزايد الكمي في المعرفة يحدث تحول كيفي في قدرته على السماع، حتى يصل إلى فك شَفرة بعض أبعاد اللغة الإلهية (كلمات الله الكونية). في هذه الرحلة تنطبع في النفس — نفس الصوفي العارف — شَفرة اللغة الوجودية، فيتمكن من النفاذ إلى الآفاق، فيرى «الآيات» في الآفاق كما يراها في نفسه. هذا هو المعنى الذي يفهمه المتصوفة من الآية القرآنية الكريمة: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (سورة فصلت ٤١: ٥٣).٢٥

إذا كان منهج التفسير الإشاري نابعًا من تصور ثنائي لبنية الدلالة في الخطاب الإلهي، فإن استخدام الإشارات في تعبير المتصوفة — وابن عربي خاصة — عن تجارِبهم ينطلق من نفس التصور. والباعث في الحالتين واحد هو محاولة تحاشي التعرض للعنف المادي واللغوي اللذين كانا أخطر أسلحة الفقهاء — ومن ورائهم السلطة السياسية أحيانًا — في اضطهاد التصوف. في هذا البُعْد يتخذ المتصوفة من مصطلح «الإشارة» دلالة على نهجهم في «ستر» معارفهم عمن ليسوا أهلًا لها. ورغم ما يبدو من تعارض في توظيف المصطلح، مرة بمعنى «التفسير» والكشف وأخرى بمعنى «الستر» و«الإضمار» فالحقيقة أن هذا التعارض شكلي خالص. فاللغة الإلهية ذاتها اتخذت منحى الستر في الخطاب القرآني، وهذا المستور هو الذي يحتاج للكشف عنه بفك شَفرة «الإشارات». لكن التعبير عن هذا المستور الدلالي لو اتخذ منحى الوضوح التام لكان الصوفي يرتكب بذلك خطيئة عظمى؛ تلك هي خطيئة مخالفة الهدف من وراء الستر الإلهي. وبعبارة أخرى: إذا قام الصوفي بفك شَفرة الخطاب الإلهي يكون قد قضى على «الحكمة» التي اقتضت هذه البنية الدلالية المزدوجة، وهي مناسبة الخطاب الإلهي للمستويات المختلفة من عقول البشر، بوصفه خطابًا موجهًا للناس كافة.

ولما كان التعبير عن التجرِبة الصوفية هو في الحقيقة كشف لمعنى الوجود ومعنى «الخطاب» الإلهي معًا كان استخدام نهج «الستر» بتوظيف الإشارات استخدامًا منطقيًّا في الحالتين. وبعبارة أخرى يصبح استخدام منهج «الستر» في لغة الصوفي المعبرة عن تجرِبته الكشفية تقليدًا للنهج الإلهي في خطابه. ومن السهل أن يلاحظ القارئ لأي تفسير من تفاسير المتصوفة أن «الوضوح» ليس هدفًا ولا غاية، بل الهدف والغاية حَفْز المتلقي على الدخول في المغامرة. يقول أبو حامد الغزالي (ت. ٥٠٥ﻫ/١١١١م): المشهد هناك لمن يريد أن يراه. ويقول أيضًا:

فكان ما كان مما لست أذكره
فظُنَّ خيرًا ولا تسأل عن الخبر٢٦
إن الضن بالعلم على غير أهله لم يكن مسلك الصوفية وحدهم، فالفلاسفة أيضًا حرَّموا على العامة الاطلاع على كتب «البرهان» خشية أن تفسد عقائدهم. لكن لهذا الحرص على الستر عند المتصوفة بعدًا آخر يتمثل في عجز اللغة «العادية» عن الوفاء بحق التعبير عن مواجد الصوفية ومعارفهم. «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»، هكذا يقول «النِّفَّري» (محمد بن عبد الجبار بن الحسن، ت. ٣٦٦ﻫ/٩٧٧م)، وابن عربي يؤكد أن: «قوالب ألفاظ الكلمات لا تحمل عبارة معاني الحالات».٢٧ ومع تعدد الأسباب الموجبة لتبني منهج الستر والإشارة، والاقتصار على اللغة الرمزية، يبقى سبب «الحماية» ضد اضطهاد الفقهاء والسلطة السياسية هو العلة المركزية. يقول الشيخ الأكبر:

«ولا أشد من علماء الرسوم على أهل الله المختصين بخدمته، العارفين به من طريق الوهب الإلهي، الذين منحهم الله أسراره في خلقه، وفهَّمهم معاني كتابه وإشارات خطابه، فهم لهذه الطائفة مثل الفراعنة للرسل عليهم السلام. ولما كان الأمر في الوجود والواقع على ما سبق به العلم القديم. عَدَل أصحابنا إلى الإشارات، كما عدلت مريَمُ عليها السلام، من أجل أهل الإفك والإلحاد، إلى الإشارة. فكلامهم — رضي الله عنهم — في شرح كتابه العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إشارات، وإن كان ذلك حقيقةً وتفسيرًا لمعانيه النافعة. وردَّ (الله) ذلك كله إلى نفوسهم، مع تقريرهم إياه في العموم، وفيما نزل فيه كما يعلمه أهل اللسان، الذين نزل الكتاب بلسانهم؛ فعمَّ به سبحانه عندهم الوجهين، كما قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ يعني الآيات المنزلة في الآفاق وفي أنفسهم؛ فكل آية لها وجهان: وجه يرونه في أنفسهم، ووجه يرونه فيما خرج عنهم، فيسمُّون ما يرونه في أنفسهم «إشارة»؛ ليأنس الفقيه صاحب الرسوم إلى ذلك، ولا يقولون في ذلك إنه تفسير وقايةً لشرهم وتشنيعهم في ذلك بالكفر عليه؛ وذلك لجهلهم بمواقع خطاب الحق. واقتدوا في ذلك بسُنن الهدى؛ فإن الله كان قادرًا على تنصيص (التعبير عنه نصًّا؛ أي بلا حاجة إلى تفسير) ما تأوَّله أهل الله في كتابه، ومع ذلك فما فعل، بل أدرج في تلك الكلمات الإلهية، التي نزلت بلسان العامة، علوم معاني الاختصاص التي فهمها عباده حين فَتَحَ لهم فيها بعين الفهم الذي رزقهم.» (الفتوحات ١: ٢٧٩)

هكذا يصبح منهج الستر باستخدام اللغة الإشارية منهجًا اتباعيًّا للمنهج الإلهي، الذي استخدم لغة الستر والإشارة في خطابه. والباعث هنا كما هو الباعث في لغة الخطاب الإلهي هو التلاؤم مع مستويات العقول. ويبقى مع ذلك فارقان يجب التنبيه إليهما؛ الفارق الأول: أن لنهج الستر عند المتصوفة هدفًا وقائيًّا ضد علماء الرسوم وأهل الظاهر. الفارق الثاني: أن نهج الستر عندهم يرتد إلى مأزق «ضِيق اللغة»، وهو مأزق لا وجود له في الخطاب الإلهي، إذ لو شاء الله أن يعبِّر عن كل الحقائق بأسلوبٍ مفهومٍ لكل أحدٍ لَفَعَل، ولكنه شاء ألا يفعل. مأزق الصوفي أن معرفته أوسع من لغته من جهة، وأنه من جهة أخرى لا يريد أن يصطدم بالعالم، الذي ليس على استعدادٍ بعدُ لفهم الحقائق التي يعرفها هو. هذا المأزق الأخير، أو شبيه به، ينسبه المتصوفة إلى النبي وإلى الأفراد المعدودين من جيل الصحابة، الذين كتموا معارفهم عن العامة رحمة بهم:

«ولما كان الأمر عند الخلق بهذه النسبة، وحُجِبوا عن ما له عند الله من عظيم النصبة، أخفيناه عنهم رحمة بهم، وجرينا على مذهبهم. فما أظهرت النبوة للجمهور إلا قدر حمل عقولهم خوفًا من نفورهم عنه وذهولهم؛ فيقعوا في تكذيب الخبر الصادق فتحل بهم لذلك العوائق. ثم جرى على هذا المَهْيَع السلفُ الصالح من الصحابة، ونزلوا من مقام الهيبة إلى مقام المزاح والدعابة … وتستَّروا بالمعاملات في الظواهر، وتكتَّموا بما حصل لهم من العلم المصون في السرائر، وإن كانوا قد نبَّهوا — رضوان الله عليهم — على أمور ليست عند الجمهور، وخاطبوا بها من وراء الستور. قال أبو هريرة: «لو بَثَثْتُه لقُطِع مني هذا البلعوم» وقال ابن عباس: «لو فسَّرتُه لكنت فيكم الكافرَ المرجوم.» لمَّا رأوا أن حقائق الغيوب فوق مراتب بعض القلوب أخذوا الأمر من فوق، معرفةَ مشاهَدَةٍ وذوق، وِرثًا نبويًّا محفوظًا، ومقامًا علويًّا ملحوظًا.»٢٨

ويُنسَب مثل هذا النهج في الستر أيضًا إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وإلى كلٍّ من أئمة الشيعة «جعفر الصادق» و«علي زين العابدين».

وكما قال علي رضي الله عنه، حين علَّم النَّقَلَة: «إن هاهنا — وضرب على صدره بيده — لعلومًا جمَّة، لو وجَدَتْ لها حملة.» وكما قال ابنه الذكي الحَبْر السَّنِي:

يا رُبَّ جوهر علمٍ لو أبوح به
لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجالٌ مسلمون دمي
يرون أقبح ما يأتونه حَسَنا٢٩

(٤) البنية القرآنية ومؤلفات الشيخ

لعل من أهم الأبعاد الجديرة بالالتفات في أسلوب ابن عربي بُعْدًا كنت قد تنبهت إليه بعد عشر سنوات من إنجاز دراستي الأولى عنه في سنة ١٩٨١م. كنت بصدد المشاركة في ندوة في «إشْبِيلِيَة» بإسبانيا بعنوان «الأندلس ملتقى ثلاثة عوالم» سنة ١٩٩٢م، واخترت أن تكون مساهمتي في الندوة بحثًا عن دور الأندلس في تشكيل الصيغة الفكرية لفلسفة «ابن عربي» الصوفية. وفي أثناء إعدادي لهذا البحث تنبهت إلى سيطرة البنية «القرآنية» — كنَموذج ونمطٍ سَرْديٍّ متميز — على بنية كتاب «الفتوحات المكية». لا أقصد بهذا مجرد الحضور الطاغي للاستشهادات القرآنية المباشرة، أو غير المباشرة، وهي أكثر من أن تُحصَى. بل أعني ما هو أكثر من الحضور. أعني تَعَمُّد «ابن عربي» الانتقال من موضوع إلى موضوع آخر تقليدًا للبنية القرآنية التي يتحرر فيها السرد من وحدة الموضوع تحررًا تامًّا.

ومن المعروف أن الترتيب الآني للقرآن في المصحف لا يتماثل مع ترتيب نزول الوحي ﺑ «الآيات» و«السور» على النبي عليه السلام. ولا نزال لا ندري على وجه اليقين حتى الآن لماذا اتخذ الترتيب النهائي — الحالي — شكلًا مخالفًا لترتيب النزول، وإن كنا نعلم أن الترتيب الحالي للقرآن جعل الموضوعات مفرقة. فإذا احتاج باحث لدراسة موضوع بعينه في القرآن فإن عليه أن يجمع الآيات التي تتناول هذا الموضوع من مختلف سور القرآن، ثم يضمها إلى بعضها البعض، قبل أن يجري عليها التحليل والفحص. وقد كان من أهم آثار هذا الاختلاف بين «ترتيب النزول» و«ترتيب التلاوة» أن أصبح هناك نمطان من «التفسير»: نمط يتتبع السور والآيات حسب ترتيب المصحف، وهذا هو النمط السائد، والنمط الثاني من التفسير هو ما أصبح معروفًا باسم «التفسير الموضوعي» وهو الذي يجمع من الآيات ما يتصل بموضوع بعينه ويضمها إلى بعضها البعض كما سبق القول.

ولأن «ابن عربي» يصر على أن كتبه ومؤلفاته ليست من الكتابات والتآليف العادية، بل هي إلهامات ورؤًى تلقاها من الله وأُمر بإبلاغها للناس، فمن الطبيعي ألا تخضع في ترتيب فصولها وأبوابها لقواعد التأليف المعتادة. إنها في الحقيقة تتبع نهج الترتيب القرآني. بعبارة أخرى يصر «الشيخ الأكبر» على أن يقنع قارئه بأنه ليس مسئولًا عن هذا الترتيب للكتاب؛ لأنه ببساطة لم يؤلفه من فكره الخاص. إن اسم الكتاب «الفتوحات المكية» يشير فقط إلى «المكان» الذي تنزلت فيه على الشيخ ملائكة «الإلهام» بالأفكار التي ليس له فيها إلا فضل صياغتها، أي إعطائها الغطاء اللغوي. يقول عن كتاب «الفتوحات» في المقدمة:

«الأغلب فيما أودعته هذه الرسالة ما فتح الله به عليَّ عند طوافي بيته المكرم، أو قعودي مراقبًا له بحرمه المشرَّف المعظم، وجعلتها أبوابًا شريفة، وأودعتها معاني لطيفة.» ويذكر في المجلد الثاني أن كتابه لا يخضع في ترتيب فصوله وأبوابه لما ينبغي أن تكون عليه الكتب من ترتيب منطقي وانتظام فكري يبدأ بالمقدمات وينتهي بالنتائج، ويعلل ذلك بأمرين: الأمر الأول أن الترتيب والتبويب ليس من صنعه هو؛ فهو مجرد «مُتلقٍّ» لما يتجلى على قلبه من معارف. الأمر الثاني أن ترتيب كتابه يمكن أن يقارن بترتيب سور القرآن الكريم وآياته، وهو ترتيب له منطقه الخاص. وفي هذين الاعتبارين الأول والثاني يكاد الشيخ الأكبر أن يقول إن مؤلفاته تخضع في بنائها وأسلوبها السردي لنفس القوانين التي تنبني عليها الكتب المقدسة عامة والقرآن الكريم بصفة خاصة.

يقول الشيخ عن ترتيب كتاب الفتوحات في المجلد الثاني، وهو بصدد الحديث عن «علم الأصول» أو «أصول الأحكام»، أن حق هذا الموضوع أن يوضع في الباب السادس والستين من المجلد الأول «في معرفة سر الشريعة ظاهرًا وباطنًا وأي اسم إلهي أوجدها»، لأنه يتصل به، «لكن» — يستدرك الشيخ — «هكذا وقع فإنا ما قصدنا هذا الترتيب عن اختيار. ولو كان عن نظر فكري لم يكن هذا موضعه في ترتيب الحكمة، فأشبه آية قوله تعالى: «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى» بين آيات طلاق ونكاح وعدة ووفاة تتقدمها وتتأخر عليها. فيعطي الظاهر أن ذلك ليس موضعها، وقد جعل الله ذلك موضعها لعلمه بما ينبغي في الأشياء، فإن الحكيم من يعمل ما ينبغي لما ينبغي، وإن جهلنا نحن صورة ما ينبغي في ذلك. فالله رتب على يدنا هذا الترتيب فتركناه ولم ندخل فيه برأينا ولا بعقولنا، فالله يُملي على القلوب بالإلهام جميع ما يسطره العالم في الوجود؛ فإن العالم كتاب مسطور إلهي» (الفتوحات ٢: ١٨١).

إن ابن عربي ينظر إلى كتبه بوصفها تنزيلًا إلهيًّا لا يخضع ترتيبها لعقل الكاتب ولا لنظر المؤلف، بل يتبع نظام ترتيبها نسق الكلام الإلهي المنزل. والمثال الواضح لذلك هو مثال الآية التي تأمر المسلمين بالمحافظة على الصلوات وتخص بالذكر «الصلاة الوسطى»، والسياق الذي وردت فيه في القرآن هو سياق الزواج والطلاق وموقف الزوجة في حالة وفاة الزوج إلخ. إن الله الحكيم يعلم مواضع الكلم، وعلمنا لا يرقى إلى إدراك حكمة هذا الترتيب. ولأن مؤلفات ابن عربي ليست من وضعه فهي تخضع في ترتيبها لحكمة الواضع الذي أنزلها على قلبه. ليس هذا فحسب، فكل كلام مسطور في العالم ليس في الحقيقة إلا وضعًا إلهيًّا، وإن كان لا يعلم ذلك إلا العلماء. أليس الكون كله من أعلاه إلى أدناه هو كلام الله المسطور في الوجود، كما أن «القرآن» الكريم هو كلامه المسطور في المصحف.

الأمر نفسه ينطبق على كتابه «فصوص الحِكَم»، فالكتاب ليس من تأليفه، بل تلقاه من يدَي النبي محمد في رؤيا. يقول الشيخ في مفتتح «الفصوص»: «فإني رأيت رسول الله في مبشِّرة أُرِيتُها في العشر الأواخر من «محرَّم» سنة سبع وعشرين وستمائة بمحروسة دمَشق، وبيده كتاب فقال لي: «هذا كتاب فصوص الحِكَم» خذه واخرج به إلى الناس ينتفعون به، فقلت: السمع والطاعة لله ولرسوله وأولي الأمر منا كما أُمِرنا. فحَقَّقتُ الأمنية وأخلصت النية وجرَّدت القصد والهمة إلى إبراز هذا الكتاب كما حده لي رسول الله من غير زيادة ولا نقصان … فما أُلقي إلا ما يُلقَى إليَّ، ولا أُنزِّل في هذا المسطور إلا ما يُنَزَّل به عليَّ. ولست بنبي ولا رسول، ولكني وارث لآخرتي حارث.»٣٠ وفي نهاية الفصِّ الأول يعود الشيخ ليؤكد للقارئ أنه لم يتجاوز ما سرده في الكتاب الحدودَ التي حدَّها له الرسول عليه السلام في الرؤيا، وهو يعني بذلك أن ما يعرفه — أو ما عرَفه — كشفًا غير مسموح له التصريح به كله. ومعنى ذلك أن الكتاب مسطور في الحدود التي سمحت بها الحضرة النبوية الشريفة. في تمييز واضح بين ما يرويه عن «الرسول» — وهو الكتاب كله — وبين ما يقوله هو بلسانه الشخصي، يقول: «ولما أطلعني الله سبحانه وتعالى في سرِّي على ما أودع في هذا الإمام الوالد الأكبر — يعني آدمَ الإنسان الكامل المعبِّر عن «الحكمة الإلهية» موضوع الفص — جعلت في هذا الكتاب ما حدَّ لي لا ما وقفت عليه، فإن ذلك لا يسعه كتاب ولا العالم الموجود الآن. فمما شهدته ما نودعه في هذا الكتاب كما حدَّ له رسول الله ٣١

هذا التمييز بين «المعروف» بالكشف والإلهام وبين «المسموح» بالبوح به فقط تمييز هام في الفكر الصوفي منذ تعرَّض الصوفية للمحاكمات والقتل بسبب بوحهم بالأسرار الإلهية التي لا تطيقها ولا تتحملها لا عقول العامة فقط، بل لا تطيقها بالأساس المؤسسات الدينية الرسمية. من هنا ليس مستغربًا أن يفتتح ابن عربي فتوحاته — بعد «الخطبة» التي سنناقش مغزاها ودلالتها في فقرة مستقلة — بأن يورد أقوالًا مثل ما يُنسب إلى الصحابي «أبي هريرة» الذي قال: «حفظت عن رسول الله وعاءين من علم، أما أحدهما فقد بثثته فيكم، وأما الآخر فلو بثثته لقُطِع مني هذا الحلقوم.» وهذا القول يحرص ابن عربي على ذكر أسماء شيوخ الصوفية الذين تَداولُوه ورَوَوه بعضهم عن بعض، كما يؤكد وروده في «البخاري: كتاب العلم» عن الصحابي «أبي ذر الغفاري» (الفتوحات ١: ٣٤). وكذلك يورد ما يُروى عن «ابن عباس» حين سئل عن تفسير قول الله في القرآن: اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لو ذكرت تفسيره لرجمتموني، أو لقلتم إني كافر. وهو يستند إلى استشهاد «أبي حامد الغزالي» في كتاباته الصوفية بمثل تلك المرويات. وبالمثل يورد الشعر الذي سبق أن ذكرناه، والذي يُنسب إلى «الرِّضا» حفيد «علي بن أبي طالب»:

يا رُبَّ جوهر علم لو أبوح به
لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحلَّ رجال مسلمون دمي
يرون أقبح ما يأتونه حَسَنا

هذا بالإضافة إلى شاهد قرآني شديد الأهمية عند الصوفية: قصة «موسى» النبي مع «العبد الصالح» الذي أوتي علمًا من عند الله لم يؤتَه «موسى»، وهي القصة التي وردت في سورة «الكهف»، وسنحللها في الفصل التالي.

لكن علاقة الشيخ بالقرآن لا يمكن اختصارها في أسلوب ترتيب كتبه أو في لغة عرضها، فضلًا عن مستويات «التصريح» و«الإخفاء» التي تتماثل وتتوازى مع ثنائية «المحكم والمتشابه» في القرآن الكريم، بكل ما تمثله من دلالات «الوضوح والغموض» أو «الإثبات والنفي» إلخ. إن تجرِبة الشيخ الروحية في عمقها تجرِبة قرآنية؛ فأول رؤيا يمكن اعتبارها بداية «التحول» في حياته كانت — كما حلَّلنا في الفصل الأول — تَجسُّد «سورة يس» له، في إغماءة مرضية، في صورة رجل قوي البنية جميل الطلعة طيب الرائحة يدفع عنه مخلوقات قبيحة شائهة تريد إيذاءه، فلما أفاق من إغماءة المرض وجد أباه يرتل «سورة يس» (الفتوحات ٤: ٢٥٢). وهذه السورة يقول عنها في كتاب ألفه سنة ٥٩٥ﻫ إنها «قلب كتاب الله.»٣٢

وفي مقدمة كتاب الفتوحات لا نعجب إن كان الشيخ الأكبر يقول عن نفسه إنه هو «القرآن» وهو «السبع المثاني»:

أنا القرآن والسبع المثاني
وروح الروح لا روح الأواني
فؤادي عند معلومي مقيم
يناجيه وعندكمو لساني
فلا تنظر بطرفك نحو جسمي
وعَدِّ عن التنعُّم بالمغاني
وغُص في بحر ذات الذات تبصر
عجائب ما تبدت للعِيان
وأسرارًا تراءت مبهمات
مستَّرة بأرواح المعاني٣٣

(٥) الغموض المتعمَّد

يبدو في خطاب «ابن عربي» أحيانًا أن الصعوبة في التعبير منشؤها «غموض» الأفكار، فلا تتسع لها مواضعات اللغة المتداولة. ولكن يبدو أحيانًا أخرى أنه يتعمد «الغموض». وفي كتابه الموسوعي «الفتوحات المكية» يستهل خطابه بتأكيد هذه النقطة؛ إذ يبدأ الكتاب بتقرير عقيدة العامة من المسلمين، ثم يتلوها بعقيدة «خواص أهل الله»، ثم يحدثنا عن اضطراره لبعثرة عقيدة «خلاصة الخاصة» في ثنايا الكتاب، بحيث يصعب العثور عليها بشكل منتظم:

«فهذه عقيدة العوام من أهل الإسلام؛ أهل التقليد وأهل النظر، ملخصةً مختصرة … ثم أتلوها بعقيدة خواص أهل الله من أهل الطريق المحقِّقين؛ أهل الكشف والوجود … وأما التصريح بعقيدة الخلاصة فما أفردتُها على التعيين لما فيها من الغموض، لكن جئت بها مبدَّدةً في أبواب هذا الكتاب مستوفاةً مبيَّنةً، لكنها كما ذكرنا متفرقة. فمن رزقه الله الفهم فيها يعرف قدرها ويميزها من غيرها؛ فإنه العلم الحق والقول الصدق. وليس وراءها مرمًى، ويستوي فيها الأعمى والبصير، تُلحِق الأباعد بالأداني وتُلحِم الأسافل بالأعالي» (الفتوحات ١: ٣٨، ٤١). وهذا يجعلنا نتفق تمامًا مع «عفيفي» حين يقارن بين بنية خطاب «ابن عربي» وبين «فنان ألَّف لحنًا موسيقيًّا عظيمًا، ثم بدا له أن يخفيه عن الناس فمزَّقه وبعثر نغماته بين نغمات ألحان أخرى. فاللحن الموسيقي العظيم هنالك لمن أراد أن يتكبد مئونة استخلاصه وجمعه من جديد.»٣٤

صحيح أن «ابن عربي» يبعثر فلسفته عامدًا متعمدًا في ثنايا كتبه، حتى إن محاولة تقديم عرض متناسق لأفكار الشيخ تضطر الباحث إلى الدوران حول نفسه مع أطروحات «ابن عربي» عدة مرات قبل أن يستطيع حسم «نقطة البداية» لعرضه. وأيًّا كانت «نقطة البداية» التي يبدأ منها الباحث — أي باحث — عرضه لفكر الشيخ، فإن النقطة الأولى تحيله إلى نقطة تليها؛ فالتي تليها، ثم التي تليها، وهكذا حتى يجد الباحث نفسه في النهاية عائدًا لنقطة البداية بعد أن يُتم دورة كاملة في استعراض فكر الشيخ. يمكن القول إن الباحث يستطيع دائمًا أن يعثر بسهولة على نقطة بداية، وليس من السهل بأي شكل الوصول إلى نقطة «النهاية»، بل الأمر من أصعب الصعوبات. إن فكر «ابن عربي» صيرورة تبدأ ولا تنتهي؛ فمثله في بنائه الدائري اللانهائي مثل التجليات الإلهية التي لا أول لها ولا آخر، لا بداية لها ولا نهاية.

لكن إذا كان «الغموض» حالة محايثة للتجرِبة ذاتها فلماذا إصرار ابن عربي على «السرد» رغم الصعوبة التي لا يكف عن الشكوى منها؟ لا شك أن الإجابة يمكن أن نجدها فيما سبق أن حاولنا شرحه لجدلية الغموض والوضوح، بأبعادها المركبة، إن في بنية الوجود أو في بنية التجرِبة أو في بنية اللغة.

حين يقرر الشيخ في مفتتح الفتوحات من أن عقيدته هي بذاتها عقيدة أهل السنة من الأشاعرة، ويُشهِد القارئ على ذلك. ثم يقرر، من ناحية أخرى، أن هذه العقيدة هي عقيدة العوام، التي تختلف عن عقيدة الخاصة، والتي تختلف بدورها عن عقيدة «خاصة الخاصة» من أهل التحقيق. فكأن ابن عربي لا يحاول أن يميز بين عقائد ثلاثٍ متغايرة بقدر ما يحاول التمييز والفصل بين مستويات من الفهم والإدراك لنفس الأصول العقيدية. ولا يتركنا الشيخ، بعد هذه المقدمة، دون أن يتلوها بخطبة تشبه «فاتحة الكتاب»، القرآن الكريم، من حيث تضمنها بطريق التركيز والاختصار لمجمل ما هو مفصل في القرآن كله. وهي تستحق من هذه الزاوية تحليلًا خاصًّا؛ لأنها تمثل عصارة الكتاب في أسلوب سردي لرؤيا رآها الشيخ.

تتضمن الخطبة من حيث بنيتها السردية ومحتواها الفكري ثلاثة جوانب على الأقل على درجة عالية من الأهمية بالنسبة لخطاب الشيخ الأكبر ونسقه الفكري الروحي الفلسفي؛ الجانب الأول: أنها تقدم تلخيصًا وافيًا لأهم المحاور الكبرى في فلسفته، وهي بذلك أشبه بفاتحة الكتاب في القرآن الكريم (سورة الفاتحة، وهي السورة رقم واحد بحسب ترتيب المصحف)، التي تتضمن في نظر الصوفية إشارات واضحة للمضمون الكلي لموضوعات القرآن. إنها، بحسب ما ذهب إليه أبو حامد الغزالي (١٠٥٨–١١١١م)، تتضمن بطريق الإشارة «التوحيد، توحيد الذات الإلهية والصفات والأفعال الإلهية، ثم الثواب والعقاب، والقصص إلى جانب «الأحكام»، وهذه هي الموضوعات المفصَّلة في القرآن كله».٣٥ من هنا يطلق العلماء عليها اسم «السبع المثاني»؛ بسبب احتوائها على سبع آيات، وهي بذلك توازي القرآن كله. إذا كانت بنية القرآن تعتمد على «مقدمة» أو «فاتحة» تشير بطريقة ضمنية إلى مضمون القرآن كله؛ فابن عربي، محاولًا أن يقلد النسق القرآني في تأليفه، يُضمِّن خطبة كتابه ومقدمته مجمل أفكاره التي سيفصِّلها في فصول الكتاب وأبوابه.

الجانب الثاني: أن الخطبة من حيث بنيتها السردية «رؤيا»، وأهمية ذلك أن «الرؤى» تمثل في الخطاب الصوفي عامة، وفي خطاب الشيخ الأكبر بصفة خاصة، أداة هامة من أدوات التعبير ووسائله؛ لأنها أداة قادرة على «تشخيص» الرمزي، و«تجسيد» المجرد. إنها قادرة على أن تقول ما لا يمكن قوله بلغة السرد الواقعي العادي. وليس الأمر عند «ابن عربي» بصفة خاصة مجرد تفضيل أسلوب سردي على آخر، بل إن «الرؤيا» هي الأداة الوحيدة الممكنة للجمع بين الحقائق، بوصفها أداة «التخييل» الذي تقوم عليه بنية الوجود من أعلاه إلى أدناه. وإذا كانت «الحيرة» هي الصفة المعرفية التي تعكس «الحقيقة» — حقيقة العالم الذي يمكن أن ننظر إليه فنراه «خلقًا»، ويمكن أن نراه في الوقت نفسه «حقًّا»، أو بعبارة أخرى، نراه إلهًا وإنسانًا في الوقت نفسه، ومكلِّفًا (اسم فاعل) ومكلَّفًا (اسم مفعول) في آن واحد — فلغة «الرؤيا» والحلم هي اللغة الوحيدة الممكنة للتعبير. وكما أن «الوجود» في حقيقته «رؤيا» تحتاج للتأويل، فرؤى «ابن عربي» يمكن أن تمثل لقارئه مدخلًا لفهم عالمه ولتحليل خطابه.

يقدم «ابن عربي» في خطبة الكتاب مفهومه للوجود — وللحيرة المعرفية في إدراك حقيقته — على النحو التالي:

الرب حق والعبد حق
يا ليت شِعري من المكلَّف
إن قلت عبدٌ فذاك ميتٌ
أو قلت ربٌّ أنَّى يُكلَّف
(الفتوحات ١: ٢)

فليس إلا أشباح خالية على عروشها خاوية. وفي ترجيع الصدى سرُّ ما أشرنا إليه لمن اهتدى.

(الفتوحات ١: ٣)
الأمر الثالث الذي تمثله أهمية «الخطبة»: أنها تلخص الكتاب كله بلغتها الرمزية ذات البعدين: الكاشفة والمُلْغِزة في الوقت نفسه. إنها تلخيص للخطوط العامة والأعمدة الأساسية التي تجد شرحها وتفصيلها داخل الكتاب بأبوابه الخمسمائة والستين، وفصوله الستة، ومجلداته الأربعة المطبوعة. وهي، من حيث البعد الكاشف للغتها الرمزية، تمثل حافزًا ذهنيًّا للقارئ المهتم ليستعد للقيام برحلته — رحلة القراءة — بين ضفاف الكتاب. لكنها بالنسبة للقارئ غير المؤهل للسياحة الفكرية تمثل، من حيث البعد الآخر الملغز للغتها الرمزية، «عائقًا» مثبِّطًا وسدًّا مانعًا.٣٦

إنه أسلوب في التأليف — أو لِنَقُل: أسلوب في التدوين — لا بديل له عند «الصوفية» بصفة عامة، وعند «ابن عربي» على وجه الخصوص. فكتاب «الفتوحات» ليس تأليفًا، هكذا يؤكد الشيخ كما سبقت الإشارة، بل هو فتوحات وإلهامات ورؤًى قلبية. إنها تنزيلات إلهية، وتعبير عن اللقاء بين السماوي والأرضي، أو بين المقدس والدنيوي — أو لنقُل بلغة ابن عربي: بين «الحق» و«الخلق» — في حضرة «الخيال»، الذي تنتمي إليه «الخطبة» ببنيتها السردية الرمزية الكاشفة والملغزة في الوقت نفسه. ثم إن هذه الفتوحات القلبية والإلهامات الإلهية تنتمي مكانيًّا إلى الحرم المقدس في أم القرى «مكة»، حيث «الكعبة»، أول بيت وُضِع للناس على ظهر الأرض للعبادة، البيت الذي رفع «إبراهيم» و«إسماعيل» قواعده بعد أن أوشكت على الاندثار، وهو البيت الذي أُمِر «إبراهيم» أن يؤذن للناس بالحج ليَعمُروا حوله، وذلك استعدادًا لهبوط الوحي على «محمد»، وهو نفس الوحي الذي تنزَّل بالفتوحات على قلب «محمد بن العربي» في نفس المكان، وأثناء طوافه حول البيت.

في العالم السردي للخطبة إيحاء بكل تلك المعاني والدلالات. إنها تبدأ بتسبيح الله وتمجيده، ثم تُثَنِّي بالصلاة على النبي محمد مبرزةً الصفات والخصائص التالية في شخصيته:

والصلاة والسلام على «سرِّ العالم ونكتته» ٣٧
وهي عبارة تُلخِّص باختصار شديد التمييز الذي يحرص الشيخ على إبرازه بوصفه أحد المكونات الأساسية لفلسفته من الجانبين الوجودي والمعرفي (أُنطولوجيًّا وإبستمولوجيًّا Ontological and Epistemological) على السواء. فمن الوجهة الوجودية تُعَد «الحقيقة المحمدية» أو بالأحرى «الكلمة المحمدية» هي «سر» إيجاد العالم. في هذا التصور يعتمد ابن عربي على حديث منسوب إلى النبي «محمد» يقول فيه: «كنت نبيًّا وآدم بين الماء والطين» أي قبل أن يكتمل خلق «آدم» ويستوي كائنًا بشريًّا. ولا يفهم ابن عربي الحديث على وجهه الظاهر، باعتبار أن «نبوة» محمد كانت أمرًا مقررًا في الخطة الإلهية قبل اكتمال خلق آدم، بل إنه يفهم «النبوة» هنا فهمًا فلسفيًّا يقترب من مفهوم «الكلمة» Logos التي عنها وبها أوجد الله العالم. ولكن من الهامِّ هنا أن نقرر أن مفهوم «الكلمة» في فلسفة ابن عربي يتخذ تعبيرًا إسلاميًّا وقرآنيًّا واضحًا.

الكلمة المحمدية — أو الحقيقة المحمدية — ليست هي شخصية محمد التاريخية، أي ليست «محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف» الذي وُلِد بمكة حوالي سنة ٥٧٠ ميلادية، بل هي «سر العالم ونكتته»، وليس محمد التاريخي إلا أحد تعبيراتها أو تجلياتها التاريخية في العالم. هذه «الحقيقة/الكلمة» وُجدت قبل آدم، بل آدم المخلوق من الطين والماء هو أحد تجلياتها التاريخية كذلك. هذا من الوجهة الوجودية، أي أُنطولوجيًّا.

أما من الناحية المعرفية — إبستمولوجيًّا — فابن عربي يضيف، في سياق الصلاة على محمد، إلى قوله السابق أن محمدًا هو:

«مطلب العلو وبُغيته.»

تشير كلمة «العلو» هنا إلى مطلب الصوفي في الارتقاء المعرفي، وهو «الطريق» الذي مهده محمدٌ بتجرِبة «معراجه» إلى السماوات العلى، وهي التجرِبة التي يصفها ابن عربي في هذه الخطبة على النحو التالي واصفًا محمدًا بأنه:

«السيد الصادق. المُدْلَج إلى ربه الطارق. المخترَق به السبعُ الطرائق. ليريَه من أسرى به إليه ما أودع من الآيات والحقائق، فيما أبدع من الخلائق.»

ومن الممكن للقارئ أن يتساءل: إلى أي حدٍّ تُعتبر صياغة ابن عربي لمفهوم «الحقيقة المحمدية» — أو «الكلمة المحمدية» — نوعًا من الأسلمة لمفهوم «الكلمة» في اللاهوت المسيحي؟ وللسؤال مشروعيته من منظور تصورنا لمجمل مشروع ابن عربي بأنه في جوهره محاولة لصياغة مفهوم للدين جامعٍ لكل المعتقدات، سواء منها الكتابية أو غير الكتابية.

ليس من قبيل المبالغة أن يتصور الدارس أن الصياغة اللاهوتية المسيحية لمفهوم «الكلمة»، كما صاغها لأول مرة «يوحنا» في مفتتح «إنجيله»، وجدت صدًى لها في القرآن الكريم، الذي وصف «عيسى» بأنه «روح الله» و«كلمة» منه ألقاها إلى «مريَمَ». لكن القرآن الكريم لم يَخُص عيسى وحده بهذه الصفة — صفة الكلمة — فكلمات الله لا نهاية لها، ولا يمكن الإحاطة بها علمًا أو تدوينًا، حتى لو كانت كل البحور والمحيطات حبرًا، ولو كانت كل أشجار العالم أقلامًا. وكل شيء في هذا العالم، كبيرًا كان أو صغيرًا، أوجده الله بالكلمة «كن»؛ وبهذا المعنى يصبح الكون كله من أعلى مراتبه إلى أدناها «كلمات». من هذا الكنز القرآني يغترف ابن عربي فيجعل من «الكلمة المحمدية» الأصل والعلة والغاية، وبهذا يؤسس لاهوتًا إسلاميًّا لا يمثل بديلًا للاهوت الكلمة المسيحية بقدر ما يستوعبه داخل بنيته. والدليل على تلك الطبيعة الاستيعابية المكانةُ التي تحتلها الكلمة العيسوية، لا فقط بصفتها النبوية الرسولية، بل أيضًا بصفتها العرفانية: مفهوم «عيسى» خاتم الولاية العامة كما سيتضح من الخطبة كذلك.

بعد هذه السطور المثقلة بالرموز والمحملة بالإيحاءات والإحالات عن «الحقيقة المحمدية» ومكانتها وجوديًّا ومعرفيًّا، يواصل ابن عربي خطبته كاشفًا لنا عن مكانته من تلك الحقيقة. يحكي لنا ابن عربي أنه قد شاهد محمدًا خلال كتابته خطبة كتاب الفتوحات.

«في عالم حقائق المثال، في حضرة الجلال، مكاشفة قلبية في حضرة غيبية.»
وهذه «الحضرة» التي يشير إليها باسم «عالم الحقائق والمثال» هي «حضرة الخيال»، التي تُعَد مكونًا أساسيًّا في بناء نسقه الفكري الصوفي الفلسفي. إنها — كما سنشرح في الفصل الرابع — حضرة التقاء العوالم، حيث يتجسد المجرد ويتشخص الروحاني، بل هي الحضرة الجامعة للألوهية والإنسانية، والعالم المشترك بين الله والعالم. عالم فسيح فيه أوجد «الله» العالم، فهو «العالم»، ومن خلاله يدرك «الإنسان» المطلق والمجرد. إنها مثلها مثل «الحقيقة المحمدية» تجمع أيضًا بين جانبَي «الوجود» و«المعرفة»، وفي هذه «الحضرة» يمكن لابن عربي — ولغيره — أن يلتقي بمحمد فيتلقَّى منه، من حيث هو «كلمة». في هذه «الحضرة» شهد ابن عربي محمدًا محاطًا بالرسل والملائكة جميعًا في وسط «أمته». لكن ابن عربي يكتفي بوصف المشهد من «قرب» بعد أن أعطانا صورة «المشهد» عن بُعد. لكن بين اللقطتين في المشهد: لقطة البعد ولقطة القرب close up يوجد ابن عربي، ويمثل حضورُه أهميةً لافتةً على النحو التالي:

المشهد من بعيد:

وجميع الرسل بين يديه مصطفون، وأمته — التي هي خير أمة أُخرجت — عليه ملتفون، والملائكة — المولَّدة عن الأعمال — بين يديه صافون.

المشهد القريب:

والصِّدِّيق عن يمينه الأنفس.
والفاروق عن يساره الأقدس.
والختم بين يديه قد جثى، يخبره بحديث الأنثى.
وعليٌّ — — يترجم عن الختم بلسانه.
وذو النورين مشتمل برداء حيائه مقبل على شانِه.

والمشهدان معًا يحتلان على مستوى البنية السردية واللغوية جزءًا من جملة شرطية، هذا نصها:

ولما شهدته في ذلك العالم سيدا معصوم المقاصد، محفوظ المشاهد، منصورا مؤيدا (المشهد البعيد) … (المشهد القريب) فالتفت السيد الأعلى، والمورد العذب الأحلى، والنور الأكشف الأجلى، فرآني وراء الختم؛ لاشتراك بيني وبينه في الحكم.

ومعنى تداخل المشهدين — البعيد والقريب — أن ابن عربي في رؤياه القلبية يستوعب الوجود التاريخي للأمة المحمدية بمعناها الواسع الشامل، وذلك حين يرى «محمدًا» عليه السلام وأمامه الرسل والأنبياء جميعًا مصطفون (مفهوم الأمة الواسع) ومحاطًا بأمته (بالمفهوم التاريخي) في الوقت نفسه. أما المشهد القريب فيجسد بدوره أيضًا الالتقاء بين «الزماني» — وجود الخلفاء الأربعة محيطين بمحمد من الجهتين — «واللازماني»، الذي يتمثل في جثو عيسى بين يدَي محمد يحدثه. يضع ابن عربي نفسه داخل المشهد القريب الجامع للخلفاء الراشدين الأربعة يتوسطهم النبي محمد: يقف «أبو بكر الصديق»، الخليفة الأول، عن يمينه، ويقف «عمر بن الخطاب»، الخليفة الثاني عن يساره، بينما لا نعرف على الوجه التحديد موقع الخليفتين: الثالث «عثمان بن عفان» والرابع «علي بن أبي طالب». وجدير بالالتفات أن الخليفة الثالث «عثمان بن عفان» يبدو في المشهد مشغولًا بشأنه لا علاقة له بما يجري حوله، في حين أن الخليفة الرابع «علي بن أبي طالب» مشغول بترجمة ما يقوله «الختم» الواقف خلف محمد. الختم هو «عيسى ابن مريَمَ»، فهو وفقًا لتصور ابن عربي للولاية — أو «النبوة المكتسبة» — خاتم الولاية العامة. لكن ما هو «حديث الأنثى» الذي يفضي به الختم إلى محمد، وما الحاجة للترجمة؟ هل يتحدث «عيسى» في هذا المشهد بلغته الأم الآرامية أو العبرية؟ ولماذا يكون «عليٌّ» هو المترجم؟ لا جواب عن مثل هذه الأسئلة، ولعل الأمر هنا يتعلق بالأسرار التي لم يُسمح لابن عربي بالإفصاح عنها.

نعود إلى الجملة السردية المتضمِّنة للمشهدين، وهي الجملة الشرطية التي تبدأ بمشاهدة ابن عربي للنبي، الذي التفت بدوره فرأى ابن عربي يقف في المشهد القريب وراء «عيسى» أو «الختم». وهنا يشرح لنا ابن عربي أنه استحق هذا الموقع — خلف الختم — في هذا المشهد لوجود «حكم مشترك» يجمع بينهما. وقد سبق أن بينا أن ابن عربي يذكر في «الفتوحات» فقط، كما يذكر في «الفصوص» أنه هو لا غيره «خاتم الولاية المحمدية»، وهنا وجه الشبه والاشتراك في الحكم بينه وبين «عيسى» الذي يمثل «خاتم الولاية العامة». عند هذا الالتفات تبدأ المحاورة بين النبي وابن عربي، يقول النبي أولًا مخاطبا «الختم»، فيما يسرد لنا ابن عربي:

فقال له السيد: هذا عديلك، وابنك وخليلك.
انصب له منبر الطرفاء بين يديَّ.
ثم أشار إليَّ أن قم يا محمد فأثنِ على من أرسلني وعليَّ،
فإن فيك شعرةً مني، لا صبر لها عني،
هي السلطان في ذاتيتك،
فلا ترجع إليَّ إلا بكُلِّيتك.
ولا بد لها من الرجوع إلى اللقاء؛ فإنها ليست من عالم الشقاء.
فما كان مني بعد مبعثي شيء في شيء إلا سعِد،
وكان ممن شُكِر في الملأ الأعلى وحُمِد.

هذه شهادة النبي لابن عربي بالقرابة التي تربطهما، وهي ليست القرابة العصبية، وهي موجودة، فابن عربي ينتسب في نسبه البعيد إلى قبيلة «طيء» فهو من نسل «حاتم الطائي»، وليس مجرد التشابه في الاسم — وكلاهما «محمد» — بل هي قرابة «ذاتية»؛ ففي ابن عربي شعرة من محمد النبي، وهي أنه «ختم ولايته» على الأرض.

لننتقل الآن إلى مشهد «المنبر» الذي طلب النبي محمد من عيسى «الختم» أن ينصبه لمحمد «ابن عربي». في وصف هذا المنبر يؤكد ابن عربي أن ولايته وختمه للولاية المحمدية لا تعني أنه أكثر من «وارث» للعلم النبوي، وأن مكانته — ومكانة أي ولي مهما بلغت — لا ترقى أبدًا إلى مرقى «ختم النبوة» محمد. إن هذا «المنبر»، الذي نصبه «الختم» عيسى ليرقى فيه ابن عربي تنفيذًا لطلب «محمد»، هو «منبر المقام المحمدي»، الذي يؤهل من يرقى فيه لوراثة العلم النبوي. لكن الوراثة هنا ليست وراثة مباشرة؛ فالأنبياء جميعًا والرسل منذ «آدم» حتى «عيسى» آخر الرسل قبل «محمد» هم الورثة المباشرون للمقام المحمدي؛ أي لحقيقة محمد، أو للكلمة المحمدية. أما الأولياء فيرثون العلم النبوي المحمدي وراثة غير مباشرة، أي عن قلوب الأنبياء الآخرين. ومحمد بن عربي يريد أن يبرز ويؤكد — من خلال رمز المنبر الذي نصبه له الختم — أن وراثته للكلمة مستمدة من روح «عيسى»، خاتم الولاية العامة من جهة، وآخر الرسل قبل محمد من جهة أخرى. يعني أن نصب «المنبر» كان عن أمر محمد لعيسى؛ فعيسى هو الناصب للمنبر ومحمد هو الآمر له.

فنصب الختمُ المنبر، في ذلك المشهد الأخطر،
وعلى جبهة المنبر مكتوب بالنور الأزهر:
هذا هو المقام المحمدي الأطهر،
من رقي فيه فقد ورثه،
وأرسله الحق في العالم حافظًا لحرمة الشريعة وبعثه،
ووُهِبْتُ في ذلك الوقت مواهبَ الحِكَم،
حتى كأني أوتيت جوامع الكلم،
فشكرت الله عز وجل،
وصعدت أعلاه،
وحصلت في موضع وقوفه ومستواه.

تتأكد دلالة الميراث غير المباشر من خلال بيان ابن عربي لقارئه أنه لا يضع قدمه فوق أثر القدم النبوي في ارتقائه للمنبر، بل يجعل بين قدمه هو وبين درجات المنبر «حجابًا»، حتى لا يقع القدم على القدم:

وبُسِط لي على الدرجة التي أنا فيها كُم قميص أبيض فوقفت عليه،
حتى لا أباشر الموضع الذي باشره بقدميه،
تنزيهًا له وتشريفًا، وتنبيهًا لنا وتعريفًا،
أن المقام الذي شاهده من ربه،
لا يشاهده الورثة إلا من وراء ثوبه،
ولولا ذلك لكشفنا ما كشف، وعرَفنا ما عرَف.
ألا ترى من تقفو أثره؛ لتعرف خبره، لا تشاهد من طريق سلوكه ما شهد منه، ولا تعرف كيف تخبر بسلب الأوصاف عنه.
فإنه شاهد مثلًا ترابًا مستويًا لا صفة له فمشى عليه،
وأنت على أثره لا تشاهد إلا أثر قدميه،
وهنا سر خفي إن بحثت عليه وصلت إليه.
وهو من أجْل أنه إمام قد حصل له الأمام، لا يشاهد أثرًا ولا يعرفه؛ فقد كشف ما لا تكشفه.
وهذا المقام قد ظهر في إنكار موسى على الخضر. (الفتوحات ١: ٣)

الإشارة السريعة في السطر الأخير لإنكار «موسى» على «الخضر» تحيل إلى الدليل النصي من القرآن الذي يبني على أساسه المتصوفة عمومًا، وابن عربي على وجه الخصوص، التمييز بين علم «النبوة» وعلم «الولاية»، وقد تعرضنا لتحليل القصة القرآنية في الفصل الأول.

كانت تلك مقدمة «الخطبة» التي سُمح للشيخ أن يلقيها في حضرة النبي والصحابة والختم؛ فأفاض فيها في ذكر نشأة العالم ومنتهاه حتى وصل إلى ختامها بمخاطبة الجمع قائلًا:

فانظروا رحمكم الله — وأشرت إلى آدم — في الزمردة البيضاء قد أودعها الرحمن في أول الآباء.
وانظروا إلى النور المبين، وأشرت إلى الأب الثالث الذي سمانا المسلمين (إبراهيم).
وانظروا إلى اللجين الأخلص، وأشرت إلى من أبرأ الأكمه والأبرص، بإذن الله كما جاء به النص (عيسى).
وانظروا إلى جمال حمرة ياقوتة النفس، وأشرت إلى من بِيع بثمن بخس (يوسف).
وانظروا إلى حمرة الإبريز، وأشرت إلى الخليفة العزيز (داود).
وانظروا إلى نور الياقوتة الصفراء في الظلام، وأشرت إلى من فُضِّل بالكلام (موسى).

بهذا تستعيد الخطبة المشهد البعيد — حضور الرسل والأنبياء — فتجعله قريبًا، لكن ابن عربي يكتفي بالإشارة إلى ستة فقط منهم، على الترتيب التالي:

  • (١)

    آدم: أول الآباء والزمردة البيضاء.

  • (٢)

    إبراهيم: الأب الثالث والنور المبين.

  • (٣)

    عيسى: اللجين الأخلص.

  • (٤)

    يوسف: ياقوتة النفس الحمراء.

  • (٥)

    داود: الإبريز الأحمر.

  • (٦)

    موسى: الياقوتة الصفراء.

من المهم هنا ملاحظة أن وصف الأنبياء يجمع بين درجات من النور ومستويات من الجواهر تعكس كل منها درجة النور، فآدم «الزمردة البيضاء» وإبراهيم هو «النور المبين»، يتلوه عيسى «اللجين»، ثم يوسف «الياقوتة الحمراء» وداود «الإبريز الأحمر»، وأخيرًا موسى «الياقوتة الصفراء». هذه الأنوار كلها، على تفاوت مستوياتها، تستمد من مشكاة النور الإلهية، أو بالأحرى من «مشكاة الأنوار»، النظرية التي صاغها أبو حامد الغزالي في رسالته المشهورة بهذا الاسم. وابن عربي يتوسع في شرح درجات الأنبياء بوصفهم «فصوص الحِكَم» في كتابه المعنون بهذا الاسم. لكن ثمة ملاحظة أخرى لا يمكن تجاهلها تتعلق بتقديم «عيسى» في المشهد على كل أنبياء بني إسرائيل مثل يوسف وداود وموسى رغم أنه، من الوجهة التاريخية، آخر أنبيائهم. وربما يمكن تفسير هذا الترتيب بأنه يعتمد على مستويات «الولاية» لا على مراتب الرسالة، وطبقًا لهذا التصنيف يمكن أن يتقدم عيسى بوصفه خاتم الولاية العامة على كل الأولياء/الأنبياء باستثناء الآباء الثلاثة، الذين ذكر منهم ابن عربي هنا الأول والثالث فقط. أما الثاني فقد ذكره في فص الحكمة الشيئية في كتاب «الفصوص».

يواصل ابن عربي:

فمن سعى إلى هذه الأنوار، حتى وصل إلى ما يكشف طريقها من الأسرار، فقد عرَف المرتبة التي لها وُجِد، وصح له المقام الأعلى وله سُجِد، فهو الرب والمربوب، والمحب والمحبوب.
انظر إلى بدء الوجود وكن به
فَطِنًا تر الوجود القديم المحدثا
والشيء مثل الشيء إلا أنه
أبداه في عين العوالم محدثا
إن أقسم الرائي بأن وجوده
أزَلًا فبَرٌّ صادق لن يحنَثا
أو أقسم الرائي بأن وجوده
عن فقده أحرى وكان مثلِّثا

ثم أظهرتُ أسرارًا، وقصصتُ أخبارًا، لا يسع الوقت إيرادها، ولا يعرف أكثر الخلق إيجادها. فتركتها موقوفة على رأس منبعها، خوفًا من وضع الحكمة في غير موضعها.

ثم رُدِدت من ذلك المشهد النومي العلي إلى العالم السفلي، فجعلت ذلك الحمد المقدس خطبة الكتاب. (الفتوحات ١: ٦)

إذا كانت الخطبة تمثل الجملة الافتتاحية في اللحن، أو تمثل فاتحة الكتاب كما قلنا، فكيف يمكن الإلمام وصفيًّا بكنه اللحن الذي كانت تلك جملته الافتتاحية. ومن الصعب — إن لم يكن من المستحيل — ادعاء أن أي كتاب قادر على الكشف عن البناء الشاهق لفكر ابن عربي.

١  الحديث رواه كل من البخاري ومسلم في صحيحيهما: باب «الإيمان»، رقم ٣٧ في البخاري، وباب «الإيمان»، رقم ٥٧ في صحيح مسلم.
٢  انظر: أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، القاهرة د. ت.، المجلد الرابع، ص٢٦٧.
٣  انظر: «ديوان الحلاج» تحقيق: ماسينيون، باريس ١٩٥٥م.
٤  تحقيق: عبد الرحمن الوكيل، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، ١٣٧٢ﻫ/١٩٥٧م، المقدمة، ص١–١٦.
٥  انظر: عباس العزاوي: «محيي الدين بن عربي وغلاة الصوفية»، ضمن «الكتاب التذكاري لمحيي الدين بن عربي»، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، ١٣٨٩ﻫ/١٩٧٧م، ص١٣١ وما بعدها.
٦  انظر ص٥ من تصدير أبو العلا عفيفي لكتاب «فصوص الحِكَم». ويمكن لمن يريد معرفة المزيد عن مؤلفات الشيخ المطبوعة والتي ما تزال مخطوطة، هذا بالإضافة إلى معرفة ما كُتِب عن الشيخ وفكره وما تُرجِم من مؤلفاته إلى اللغات المختلفة أن يرجع إلى «دائرة المعارف الإسلامية الكبرى» الصادرة عن مركز دائرة المعارف الإسلامية الكبرى، طهران ١٤١٩ﻫ/١٩٩٨م، المجلد الثالث، مادة «ابن عربي» ص٤٩٦–٥٤١ من الطبعة العربية. كذلك يمكن الرجوع إلى مَجلة «جمعية محيي الدين بن عربي» Journal of Muhyiddin Ibn Arabi Society، العددين الثالث (١٩٨٤م) والرابع (١٩٨٥م) على وجه الخصوص.
٧  نشر أولًا بتحقيق المستعرب الإسباني آسين بلاثيوس، مدريد ١٩٣٩م، وبتحقيق «عِزَّة حُصْرِية»، دمَشق ١٣٨٦ﻫ/١٩٧٠م.
٨  دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، ١٣٦٧ﻫ/١٩٤٨م، ضمن «رسائل ابن عربي» جزءان؟
٩  نُشِر في القاهرة، ١٣٨٤ﻫ/١٩٦٥م.
١٠  حققه الأستاذ نيبرج مع كتابَي «عُقْلة المستوفِز» و«إنشاء الدوائر»، ليدن ١٣٣٩ هجرية.
١١  عنقاء مُغرِب في ختم الأولياء وشمس المغرب، القاهرة، ١٣٧٣ﻫ/١٩٥٤م، ص٥-٦.
١٢  السابق، ص١٥، ١٧.
١٣  السابق، ص٦.
١٤  السابق، ص١٧.
١٥  السابق، ص١٧-١٨.
١٦  السابق، ص١٩-٢٠.
١٧  تحقيق وتعليق محمد عبد الرحمن الكردي، ط القاهرة، ١٩٦٨م، ص٤-٥.
١٨  التصدير، ص٢٠-٢١. هذا الكلام كتبه أبو العلا عفيفي عام ١٩٤٦م، أما الآن فقد حظي كتاب «الفصوص» بترجمات جزئية وأخرى كاملة. انظر: Journal of the Muhyiddin Ibn Arabi Society, vol., iii, 1984, p. 59، ولكن على الباحث أن يذكر أن ترجمة «الفصوص» ما زال أمرًا صعبًا، وهو ما يفسر كثرة الترجمات بالإنجليزية مثلًا، الأمر الذي يعكس أن المترجمين والمهتمين بفكر ابن عربي عمومًا ما زالوا بعيدين عن الرضا عن ترجمة بعينها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لم يكن ممكنًا الانخراط في محاولات الترجمة إلا بعد أن كثرت الدراسات وتعددت المداخل والمناهج بعد الدراسات الأولى التي يشير إليها عفيفي، ومنها دون شك دراسته الرائدة The Mystical Philosophy of Muhyid-Din Ibnul Arabi, Cambridge University Press, 1939.
١٩  السابق، ص٢١.
٢٠  ص١١ من التصدير.
٢١  الأشاعرة هم أتباع «أبو الحسن الأشعري» (ت. ٣٢٤ﻫ/٩٥٦م)، كان معتزِليًّا ثم اختلف مع أساتذته في بعض القضايا. القضية التي نشير إليها هنا — قضية طبيعة الكلام الإلهي — من القضايا الخلافية التي أثيرت في فترة مبكرة من التاريخ الإسلامي — الربع الأخير من القرن الأول الهجري — وذلك بتأثير الجدل المسيحي الإسلامي حول طبيعة السيد المسيح، وبالتالي حول طبيعة الكلمة الإلهية: هل كانت موجودة منذ الأزل مع الله، فهي «قديمة»، أم أن صفة الأزل و«القِدم» تختص بالوجود الإلهي وحده، ومن ثم لا يمكن وصف «الكلمة» الإلهية بالقِدم والأزلية؟ كان موقف المعتزِلة واضحًا، وهو القول بأن الكلمة الإلهية — القرآن في هذا السياق الإسلامي — محدثة مخلوقة ولا يمكن أن تكون أزلية قديمة. وكان موقف جمهرة العلماء هو الامتناع عن الخوض في الموضوع أو الإدلاء برأي فيه، لكنهم في الوقت نفسه لم يتقبلوا القول الذي قاله المعتزِلة. سبَّب هذا الرأي شيئًا شبيهًا بمحاكم التفتيش حين قرر الخليفة العباسي «المأمون» فرض رأي المعتزِلة بقوة الدولة على العلماء، فيما عُرِف باسم «محنة خلق القرآن»، محنة استمرت بعد وفاته حوالي ١٨ عامًا (٢١٨ﻫ/٨٣٣م–٢٣٧ﻫ/٨٥٢م). كان موقف الأشاعرة من مشكلة طبيعة الكلام الإلهي — القرآن — التمييز بين الكلمة الإلهية المطلقة الموازية للعلم الإلهي، وبين ظهور الكلام الإلهي في اللغة مقروءًا على لسان البشر. وهذا هو التمييز الذي طوره المتصوفة. عن المحنة يمكن مراجعة «دائرة المعارف الإسلامية»، المجلد السابع، ص٢ وما بعدها.
٢٢  ناقشنا بالتفصيل الخلاف بين «المعتزِلة» و«الأشاعرة» حول قضية «اللغة» عمومًا، ولغة الخطاب الإلهي على وجه الخصوص، في الفصل الأول من دراستنا «الاتجاه العقلي في التفسير» بعنوان «المعرفة والدلالة اللغوية»، ص٤٣–٩٠.
٢٣  يعتمد المتصوفة عامة، وابن عربي بصفة خاصة، في صياغة هذا المفهوم للغة الإلهية الكونية — الوجود كلمات الله — على ما ورد في القرآن الكريم؛ قوله تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (سورة الكهف ١٨: ١٠٩)، وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (سورة لقمان ٣١: ٢٧)
٢٤  الإشارة في هذا الفصل بصفة خاصة، وفي الفصل الذي يليه — الفصل الخامس — لكتاب الفتوحات المكية، سيكون لطبعة دار صادر، بيروت، بدون تاريخ. واستخدام طبعات مختلفة لنفس الكتاب سببه كثرة الأسفار والانتقال، حيث لا تتوفر دائمًا نفس الطبعة من الكتاب.
٢٥  انظر الشرح التفصيلي الذي يقدمه ابن عربي لرحلة الصوفي الوجودية، ولمراتب المقامات والأحوال في بعديها العرفاني والوجودي، في الفتوحات ٢: ١٣٩–٣٧٥.
٢٦  انظر: مشكاة الأنوار، تحقيق: أبو العلا عفيفي، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، ١٩٦٦م.
٢٧  انظر للنِّفَّري: كتاب المواقف، تحقيق آرثر جفري، مطبعة دار الكتب المصرية، ١٩٣٤م، ص٥١. وانظر لابن عربي: تنزل الأملاك من عالم الأرواح إلى عالم الأفلاك، تحقيق طه عبد الباقي سرور، و«زكي عطية»، دار الفكر العربي، بيروت، ط١، ١٣٨٠ﻫ/١٩٦١م، ص١١٦.
٢٨  عنقاء مُغرِب في خَتم الأولياء وشمس المغرب، سبق ذكره، ص٢٠-٢١.
٢٩  تنزل الأملاك، سبق ذكره، ص٣٦. وانظر أيضًا: الفتوحات ١: ١٩٩-٢٠٠.
٣٠  فصوص الحِكَم، ص٤٧-٤٨.
٣١  السابق، ص٥٦.
٣٢  عنقاء مُغرِب: ص١٣.
٣٣  الفتوحات ١: ٩، وقد أشرنا في نهاية الفصل الأول إلى بعض نماذج من التجارِب القرآنية ودورها في وصول الشيخ إلى المستوى الذي وصل إليه من الولاية؛ ختم الولاية المحمدية. وهنا نضيف بعض النماذج الإضافية: ففي سنة ٥٨٦ﻫ/١٢٢٥م مثلًا يقول إنه قرأ الآية القرآنية: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (سورة التوبة ٩: ٢٤)، كان ذلك «يوم جمعة بعد الصلاة في المقابر بإشْبِيلِيَة سنة ٥٨٦ﻫ، فبقيت فيها سكران ما لي تلاوة في صلاة ولا يقظة ولا نوم إلا بها ثلاث سنين متوالية، أجد لها حلاوة ولذة لا يُقَدَّر قدرُها. وهي من الأذكار المفرِّقة بين الله وبين الخلق تفريق تمييز، فهو تفريقٌ في جمعٍ وفرقانٌ في قرآن؛ فيُجمَع بهذا الذكر الفرقان والقرآن. فكل من له عليك ولادة من أي نوع، وفي أي صورة كان من ظاهر وباطن، واسم إلهي وكياني، فهو أبوك. وكل من لك عليه ولادة من أي نوع كان، وفي أي صورة كان، من ظاهر وباطن، واسم إلهي وكياني، فهذا ابنك. فقد يكون ابنك في هذا الذكر عين أبيك، فيكون له عليك ولادة، ولك عليه ولادة، وهو المقام الذي أشار إليه الحلاج بقوله:
ولدت أمي أباها
إن ذا من عَجَباتي»
(الفتوحات ٤: ١٧١)
وعن المنزلة التي يمكن استنباطها بطريق الكشف والإلهام من «الذكر» المتضمَّن في الآية القرآنية: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ۘ وَالْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (الأنعام ٦: ٣٦) يقول: «اعلم — أيدنا الله وإياك برُوح منه — أن هذا الذكر لما وفقنا الله تعالى لاستعماله بإشْبِيلِيَة من بلاد الأندلس سنة ٥٨٦ﻫ، بقينا فيه ثلاثة أيام، فرأينا بركة في تلك الأيام. وكنا به ثلاثة: أنا وعبد الله النزهوني قاضي شرف، وكان عبدًا صالحًا ضابطًا فقيهًا، وشخصًا ثالثًا من أهل البلد، فجعل علة الإجابة السماع، لا من قال إنه سمع وهو لم يسمع، كما قال تعالى ينهانا أن نكون مثل هؤلاء فقال: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (الأنفال ٨: ٢١). فالسمع في هذا الذكر هو عين العقل لما أدركته الأذن بسمعها من الذي جاء به المترجم عن الله تعالى وهو الرسول الذي لا ينطق عن الهوى» (الفتوحات ٤: ١٧٨).
٣٤  فصوص الحكم، التصدير، ص١١.
٣٥  انظر: جواهر القرآن، القاهرة، بدون تاريخ، ص٣٩–٤٢.
٣٦  وقد سبق أن ذكرت أنني في بداية تعاملي مع ابن عربي من خلال كتاب «الفتوحات» — وكان ذلك عام ١٩٧٧م — توقفت طويلًا أمام «لغز» الخطبة، وظللت عامًا كاملًا لا أكاد أتخطى الصفحات الثلاثين الأولى من المجلد الأول. في كل مرة كنت أبدأ القراءة وأتوقف عند الصفحة الثالثة والثلاثين، ثم كنت حين أعاود القراءة في اليوم الثاني أعود دائمًا للخطبة مجدَّدًا، وأتوقف دائمًا عند الصفحة نفسها. كان سحر «الخطبة» يجذبني للعودة إليها محاولًا فك طلاسمها الرمزية، دون أن أدرك آنذاك أنها شَفرة لا يمكن حلها إلا بالسياحة الكاملة. هكذا كانت الخطبة بالنسبة لي حافزًا لإثارة الاهتمام كما كانت، لفترةٍ ما، عائقًا يثبِّط همتي عن مواصلة القراءة. إنها في النهاية أسلوب لاختبار استعدادات ومؤهلات القارئ، واكتشافٌ لإمكانياته.
٣٧  للتمييز بين كلام ابن عربي وتحليلنا قمنا بتشديد نص ابن عربي الذي اجتزأناه من الخطبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤