الفصل الثالث

قيود المكان وضغوط الزمان

لكي نتفهم رحيل ابن عربي من الأندلس والمغرب العربي كله بلا عودة، لا بد من النظر نظرًا عميقًا في السياق التاريخي السياسي للقرنين السادس والسابع للهجرة/الحادي عشر والثاني عشر للميلاد من جهة، وللسياق الأندلسي بصفة خاصة من جهة أخرى. وبديهي أننا ننطلق منهجيًّا في دراستنا هذه من حقيقة أن خطاب «ابن عربي» — شأنه شأن كل خطاب إنساني — لا يقف خارج التاريخ ولا الجغرافيا؛ أعني خارج الزمان والمكان. صحيح أن هناك من الباحثين من يميل إلى افتراض أن خطاب الشيخ الأكبر لا ينتمي إلى عصره ولا إلى عقيدته، ويصل الحماس بهنري كوربان إلى أن يقول: «إن ابن عربي واحد من هؤلاء الأفراد القلائل ذوي النزعة الروحية الذين لا ينتمون إلى عصرهم ولا إلى عقائد عصرهم، بل هم معايير لعصرهم وعقائده.» ويرى أن «الوسيلة الوحيدة لفهم ابن عربي هي أن يصبح الباحث واحدًا من مريديه ولو لفترة من الزمن، وأن يأخذ عنه ويتلقى على يديه بنفس الطريقة التي أخذ بها هو نفسه عن مشايخ التصوف في عصره.»١ ويعود مرة أخرى ليؤكد أن دارس ابن عربي لا يصل في الحقيقة إلى معرفة «موضوعية»٢ بفكر ابن عربي، بل إن أي معرفة بابن عربي يصل إليها الباحث ليست إلا الصورة التي يتجلى بها ابن عربي على قدر الباحث نفسه وطبقًا لإمكانياته الروحية.
وإذا كنا نتفق مع هنري كوربان في النقطتين الأخيرتين فإننا نختلف معه اختلافًا جذريًّا في أطروحته الأساسية حول عدم انتماء خطاب ابن عربي إلى عصره أو إلى عقيدته. وإذا كان هذا النهج الذي يطرحه هنري كوربان يتسق مع إطاره الفلسفي الفينومينولوجي Phenomenology بنفس القدر الذي يتشابه به مع منظور ابن عربي للحقيقة التي تتجلى لكل عارف بقدر معرفته وعلى صورته، فإنني أنطلق من أرض مغايرة، وأرى أن من الضروري لدارس ابن عربي، كما هو من الضروري في دراسة أي موضوع أو شخص، أن يغوص الباحث في موضوعه مستوعبًا. وفي حالة دراسة ابن عربي من الحيوي أن يحسن الباحث الإنصاتَ للغة ابن عربي وتأملَ مستوياتها بهدف الدخول إلى عالمه والتعرف على تضاريس تجرِبته الروحية. لكن الباحث مطالب في النهاية أن يخرج من عباءة الشيخ، وأن يتخذ مسافة تباعده عن «الغرق» في محيط فكره؛ وذلك لكي يتمكن من التحليل والتفسير والتقويم. هذا فارق هام بين «المريد» و«الباحث» نريد أن نؤكده. وفي النهاية لا يستطيع الباحث — أي باحث — أن يزعم قدرته على إنجاز تحليل موضوعي بالمعنى الوضعي؛ فللباحث أفقه المعرفي والقيمي الذي يدخل به في علاقة جدلية مع موضوعه. من خلال هذه العلاقة الجدلية تتجادل الذات — ذات الباحث — مع موضوعها في علاقة خلاقة، تبتعد عن إصدار أحكام مجانية بالإدانة أو بالمبالغة في التقريظ والمدح. هكذا تُعلِّمنا فلسفةُ التأويل المعاصرة hermeneutics.

إن التجارِب الروحية العظمى في التاريخ — وتجرِبة «ابن عربي» واحدة من هذه التجارِب المتميزة بلا شك — تجارِب ذات طابع كوني لا شك في ذلك. ولكن ليس معنى ذلك أنها منقطعة الصلة بسياقاتها التاريخية والثقافية دينيًّا ولُغويًّا. إن البعد الكوني للتجرِبة الروحية يتأسس على قواعد تاريخية (مكانية زمانية) لا يصح إهمالها أو التقليل من شأنها من جانب الباحث، وإلا كانت النتيجة اعتبار التجارِب الروحية في كل الأديان وكل الثقافات، بمختلف تعبيراتها اللغوية والرمزية، بمثابة تجرِبة واحدة، أو بمثابة نُسَخ مكررة لتجرِبة «أصلية» نموذجية، وهذا مفهوم يتعارض جذريًّا مع طبيعة التجرِبة الروحية وخصائصها. إن من أهم خصائص التجرِبة الروحية أنها تجرِبة ذاتية رغم عناصر المشاركة التي لا يمكن أيضًا إهمالها والتقليل من شأنها.

نحن إزاء تجارِب تمتلك من الخصوصية والذاتية بقدر ما تمتلك من عناصر مشتركة تجمع بين «أفلاطون» مثلًا و«ابن عربي» دون أن توحد بينهما. وإذا كانت للتجرِبة الروحية خصوصيتها الثقافية والدينية — واللغوية والرمزية — فإن التجارِب أيضًا تتعدد داخل كل ثقافة وفي إطار كل دين. كتابات الشيخ الأكبر تشهد بهذا التمايز والاختلاف في التجارِب الروحية داخل سياق الثقافة الإسلامية، بنفس القدر الذي تؤكد به عناصر المشاركة والتشابه. والقارئ لرؤى ابن عربي وحكاياته لتجارِبه الروحية، يرى كيف يطرح التشابهات والاختلافات بين تجرِبته وتجارِب الآخرين من صوفية الإسلام، الذين سبقوه منهم والذين عاصروه على السواء. إن الطرق إلى الحقيقة تتعدد بتعدد السالكين، هكذا يعلمنا الصوفية عامة، وهكذا يؤكد «ابن عربي» بصفة خاصة. إن الحقيقة في ذاتها واحدة لا تتعدد، ولكنها تتشكل وتتلون مثل الماء الذي يأخذ شكل الإناء الذي هو فيه ويتلون بلونه، هذا رغم أن الماء في حقيقته لا شكل له ولا لون. ابن عربي يُكثر من تَكرار هذا النموذج — الماء والإناء — نقلًا عن أسلافه من العارفين.

لا نريد أن نطيل في هذه النقطة؛ إذ يكفي أن نستشهد ببيتين شعريين لشاعر الخمرة «أبي نواس» اتخذ منهما كثير من الصوفية، ومنهم ابن عربي، شاهدًا دالًّا على مبدأ عرفاني، هو استحالة التمييز بين «الظاهر» و«الباطن» في بنية الحقيقة من جهة، أو بين «الذات» و«الموضوع» من جهة أخرى. يقول «أبو نواس» في الخمر والكأس:

رق الزجاج وراقت الخمر
فتشاكلا فتشابه الأمر
فكأنما خمر ولا قدح
وكأنما قدح ولا خمر

صفاء الخمر يمثل الحقيقة في صفائها حيث لا شكل ولا لون، ورقة زجاج «الكأس» يمثل قلب العارف الذي حلت فيه الحقيقة في صفائها: «ما في الجبة إلا الله» كما قال «الحلاج»، أو «سبحاني ما أعظم شاني» كما قال «أبو يزيد البِسطامي». تتعدد الطرق إذن بتعدد السالكين، وهذا تأكيد لخصوصية التجرِبة. وليست مهمة الباحث أن يقتصر تحليله على رصد العناصر المشتركة العامة في التجرِبة الروحية، بل عليه أن يغوص في خصائص التجرِبة الخاصة بابن عربي، الذي ينتمي دينيًّا إلى أفق «الإسلام»، وثقافيًّا إلى «الحضارة العربية»، وتاريخيًّا للقرنين السادس والسابع الهجريين (الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين).

عرَفنا في الفصل السابق أنه عاش شطرًا من حياته في الأندلس، عابرًا البحر إلى المغرب ثم عائدًا إلى الأندلس عدة مرات، ثم غادر الأندلس أخيرًا إلى المشرق العربي حوالي سنة ٥٩٨ﻫ/١٢٠٢م دون أن يعود إليها مرة أخرى. يرى بعض الباحثين أن مغادرة ابن عربي للأندلس وللمغرب العربي بصفة عامة سببها الحرب الضروس التي كانت تدور بين الملوك الكاثوليك من جهة، في محاولتهم لاسترداد الأندلس، وبين الأمراء والحكام المسلمين من جهة أخرى. ولم تكن هذه الحروب، من جهة أخرى، تخلو من صراعات بين الحكام المسلمين أنفسهم. ابن عربي يسجل في الفتوحات مشاهدته لعبور جيش «الموحدين» من فاس إلى الأندلس وانتصاره في معركة «الأراك» Alarcos سنة ٥٩١ﻫ/١١٩٥م، (الفتوحات ٤: ٢٤٢). لكن هذا الانتصار الذي حققه الموحدون، والذي كان ابن عربي شاهدًا عليه، تلته هزيمةٌ منكَرة حاقت بالموحدين في معركة «العُقاب» Las Navas de Tolos سنة ٦٠٩ﻫ/١٢١٢م بعد رحيل ابن عربي نهائيًّا عن الأندلس بحوالي ١٧ سنة.

لم يكن الأمر في مشرق العالم الإسلامي يختلف كثيرًا في الحقيقة عن الوضع في مغربه. كانت الحروب الصليبية في أوجها بين المسلمين والصليبيين الذين استطاعوا الاستيلاء على «بيت المقدس» قبل أن يحرره من أيديهم الناصر صلاح الدين الأيوبي سنة ٥٨٣ﻫ/١١٨٧م، كما حرص ابن عربي على تسجيل ذلك أيضًا في الفتوحات (٤: ٢٤٢). لكن بداية الحملة الصليبية الرابعة بدأت حول القسطنطينية حوالي سنة ٦٠٠ﻫ/١٢٠٤م، وتوالت الحملات فاستولى الصليبيون على «دمياط» في مصر في حملتهم الخامسة سنة ٦١٥ﻫ/١٢١٩م، وفي سنة ٦٢٤ﻫ/١٢٢٩م استعاد الفرنجة «القدس» بطريق الخيانة، حيث سلمها السلطان «كامل» لفردريك الثاني. كان هذا حال المشرق الإسلامي، حيث كان ابن عربي دائم التجول والتَّرحال بين مكة وبيت المقدس — بعد تحريره على يد صلاح الدين — وبغداد ومَلَطية وتركيا ومصر، وسوريا أخيرًا حيث قضى السنوات الأخيرة من حياته.

هذا هو السياق الزماني والمكاني الذي لا يمكن تجاهله أو إغفال شأنه ونحن بصدد تقديم تجرِبة ابن عربي الروحية. ونحن نهتم بهذا السياق لا من خلال المراجع التاريخية، بل نهتم بما سجله ابن عربي نفسه في كتاباته عن هذا السياق، بأسلوب مباشر أحيانًا وبأسلوب غير مباشر في أغلب الأحوال. يتجلى الأسلوب المباشر في ذكر بعض الوقائع التاريخية بطريقة دقيقة، مثال ذِكره لمشاهدته لعبور «جيش الموحدين» للأندلس من فاس. صحيح أن السياق الذي يرد فيه ذكر الواقعة هو سياق الحديث عن قيمة الحروف العددية فيما يُعرَف باسم «حساب الجُمَّل»، خاصة في الحروف المقطعة المنفصلة التي تأتي في مفتتح بعض سور القرآن الكريم، لكنَّ حِرص ابن عربي على ذكر تاريخ واقعةٍ شاهدها بنفسه يُعَد أسلوبًا مباشرًا. أما الأسلوب غير المباشر فيبدو في سياق مناقشة ابن عربي مثلًا للعلاقة بين «الإيمان» و«النصر» الذي وعد الله سبحانه به المؤمنين. هذا بالإضافة إلى سياقات عديدة يحرص فيها ابن عربي على ذكر علاقته ببعض حكام عصره، وهي سياقات بدورها مباشرة أحيانًا وغير مباشرة في أحيان كثيرة. من المؤكد أن تحليل بعض تلك النصوص التي تحيل إلى السياق الزماني والمكاني لعصر ابن عربي ولحياته يساعدنا على كشف جوانب في تجرِبته الروحية لا تنكشف بمجرد تحليل ما يطرحه من أفكار وما يصوغه من تصورات ومعتقدات.

(١) ألق الروح وعتمة التاريخ

لعل علاقة ابن عربي ببعض حكام عصره ومكاتباته لهم تلقي ضوءًا كافيًا على مدى انغماس الشيخ في مشكلات زمانه. فقد زار «قونية» مثلًا مع صديقه «مجد الدين إسحاق» — الذي كان قد التقى به وتعرف عليه في مكة، وهو والد «صدر الدين القونوي»، الذي أصبح فيما بعد أفضل تلاميذ ابن عربي وأهم شراحه — بدعوة من حاكمها السَّلْجُوقي «غِياث الدين كَيْخُسْرُو الأول» (٦٠١ﻫ/١٢٠٥م–٦٠٨ﻫ/١٢١١م) وقد احتفى كَيْخُسْرُو بضيفيه احتفاءً عظيمًا، ويُروَى أنه أهدى ابن عربي دارًا تساوي ١٠٠ ألف درهم، ولكن ابن عربي وهبها لسائلٍ مر به وطلب منه صدقة، فقال له ابن عربي — فيما يحكيه هو بنفسه: «ما لي غير هذه الدار فخذها لك» (الفتوحات ٢: ١٦٤). هذا نموذج لعلاقة ابن عربي بحكام عصره الذين كان يحظى باحترامهم وحبهم، من أمثال: «الملك العادل الأول سيف الدين أبو بكر محمد بن أيوب» (ت. ٦١٥ﻫ/١٢١٨م) شقيق صلاح الدين الأيوبي، وابنه الملك الأشرف بدمَشق (ت. ٦٣٥ﻫ/١٢٣٨م) والملك الظاهر غازي (ت. ٦١٣ﻫ/١٢١٦م) ثاني أبناء صلاح الدين وحاكم حلب. يقول ابن عربي عن علاقته بهذا الأخير:

«كانت لي كلمة مسموعة عند بعض الملوك، وهو الملك الظاهر صاحب مدينة حلب رحمه الله الغازي ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب؛ فرفعت إليه من حوائج الناس في مجلس واحد مائة وثماني عشرة حاجة فقضاها كلها. وكان منها أني كلمته في رجل أظهر سره وقدح في مُلكه، وكان من جملة بطانته، وعزم (الملك) على قتله وأوصى به نائبَه في القلعة … أن يخفي أمره حتى لا يصل إليَّ حديثُه، فوصلني حديثه، فلما كلمته في شأنه أطرَق وقال: حتى أُعرِّف المولى ذنب هذا المذكور، وأنه من الذنوب التي لا تتجاوز الملوكُ عن مثله. فقلت: يا هذا تخيَّلت أن لك همة الملوك، وأنك سلطان. والله ما أعلم في العالم ذنبًا يقاوم عفوي وأنا واحد من رعيتك، وكيف يقاوم ذنبُ رجلٍ عفوَك في غير حدٍّ من حدود الله؟ إنك لدنيُّ الهمة. فخجل وسرَّحه وعفا عنه. وقال لي: جزاك الله خيرًا من جليس، مثلك مَن يجالس الملوك. وبعد هذا المجلس ما رفعت إليه حاجة إلا سارع في قضائها من فوره من غير توقف، كانت ما كانت.» (الفتوحات ٤: ٥٩٥-٥٩٦)

قضاء حاجات الناس عند الملوك والأمراء والخلفاء كانت دائمًا واحدة من المهام التي أحس العلماء والعارفون بأنها مسئوليتهم، فقد كانوا يمثلون صوت العامة من المظلومين وذوي الحاجات في قصور الحكام ودواوين الأمراء. بعض العلماء بالطبع كانت مصالحهم الخاصة مع السلاطين والحكام أهم عندهم من توفير العدل للمحتاجين؛ فانخرطوا في تملق الحكام وتبرير كل أفعالهم لهم. ابن عربي نموذج للعارف من الصنف الأول. وفي القصة التي يحكيها أعلاه فقد تدخل لإنقاذ رجل من بطانة الملك، كان قد عزم على قتله وأخفى أمره لأنه نقده علنًا. حين علم شيخنا بالأمر كان تدخله لإنقاذ الرجل مبنيًّا على أساس أنه لم يخالف حدًّا من حدود الله الشرعية يستوجب القتل. واللغة التي يستخدمها ابن عربي في مخاطبة الملك ليست لغة المستعطف الذليل، بل هي لغة الناصح القوي المستند إلى سلطته المعرفية. وفي هذا يُبرز ابن عربي سلطة المعرفة.

ورسالته إلى كَيْكاوُس — صاحب بلاد الروم وبلاد يونان حسب تعريف الشيخ — ردًّا على رسالة كان قد تلقاها هذا الحاكم من «أنطاكية» — حيث كان ابن عربي في «مَلَطْية» — سنة ٦٠٩ﻫ/١٢٤٩م (الفتوحات ٤: ٥٨٩) تتضمن نفس الملمح؛ الشدة في مخاطبة الملوك لحضهم على إقامة العدل. لكنها — من ناحية أخرى — تعكس إلى أي حد كان ضغط الواقع على روحانية الشيخ. إن ابن عربي المتسامح صاحب دعوة «دين الحب» الذي يسع كل العقائد من الوثنية إلى التوحيد، فضلًا عن اليهودية والمسيحية، يبدو في رسالته إلى «كَيْكاوُس» متعصبًا أشد التعصب (الفتوحات ٤: ٦٠٤-٦٠٥)، ولكن علينا أن ندرك أن ضعف الإسلام — متمثلًا في هزائم المسلمين غربًا وشرقًا — كان همًّا من هموم الشيخ. ولعل هذا الهم يمثل أهم باعث للبحث عن سبيل معرفي جديد لإعادة اكتشاف «المعنى» الديني عامة ومعنى «الإسلام» بصفة خاصة. لكن كما قلنا فإن عملية البحث عن المعنى تظل بحثًا محكومًا بالأفق الضاغط لهموم الواقع، مهما بدا الأمر متولدًا عن تجرِبة روحية كونية.

ماذا يقول ابن عربي لكَيْكاوُس في رسالته؟ تنقسم الرسالة قسمين: في الأول منهما يمارس الشيخ دوره النقدي الناصح للحاكم بوصفه خليفة استخلفه الله على عباده. من أفق هذه المرتبة — مرتبة الخلافة — ينصح الشيخُ الحاكمَ — أي حاكم — أن يكون سلوكه متسقًا مع وضع المرتبة التي أحلَّه الله فيها — مرتبة الخلافة — بإقامة العدل، والتقرب إلى الله بالرحمة بعباده الذين استخلفه الله عليهم. في لهجة أبوية ناصحة يخاطب الشيخ «كَيْكاوُس» في القسم الأول من رسالته قائلًا:

«وصل الاهتمام السلطاني الغالب بأمر الله العِزِّي — أدام الله عدل سلطانه — إلى والده الداعي له محمد بن العربي، فتعيَّن عليه الجواب بالوصية الدينية، والنصيحة السياسية الإلهية، على قدر ما يعطيه الوقت ويحتمله الكتاب، إلى أن يقدر الله الاجتماع ويرتفع الحجاب. فقد صح عن رسول الله أنه قال: الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. وأنت بلا شك من أئمة المسلمين، وقد قلدك الله هذا الأمر وأقامك نائبًا في بلاده، ومتحكمًا بما تُوفَّق إليه في عباده. ووضع لك ميزانًا مستقيمًا تقيمه فيهم، وأوضح لك مَحجةً بيضاء تمشي عليها وتدعوهم إليها. على هذا الشرط ولاؤك وعليه بايعناك. فإن عدلت فلك ولهم، وإن جُرْت فلهم وعليك. فاحذر أن أراك غدًا بين أئمة المسلمين من أخسر الناس أعمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ولا يكون شكرك لما أنعم الله به عليك من استواء ملكك بكفران النعم وإظهار المعاصي، وتسليط النواب السوء بقوة سلطانك على الرعية الضعيفة — فإن الله أقوى منك — فيتحكمون فيهم بالجهالة والأغراض، وأنت المسئول عن ذلك. فيا هذا قد أحسن الله إليك، وخَلَع خِلَع النيابة عليك؛ فأنت نائب الله في خلقه، وظله الممدود في أرضه، فأَنصِف المظلوم من الظالم، ولا يغُرَّنَّك أن الله وسَّع عليك سلطانك وسوَّى لك البلاد ومهدها مع إقامتك على المخالفة والجور والتعدي على الحقوق؛ فإن ذلك الاتساع مع بقائك على مثل هذه الصفات إمهالٌ من الحق لا إهمال. وما بينك وبين أن تقف بأعمالك إلا بلوغ الأجل المسمى، وتصل إلى الدار التي سافر إليها آباؤك وأجدادك، ولا تكن من النادمين، فإن الندم في ذلك الوقت غير نافع.» (الفتوحات ٤: ٦٠٤)

ورغم اللهجة الأبوية الناصحة يمكن أن يلاحظ القارئ شعورًا بعدم الثقة من جانب ابن عربي في كفاءة الحاكم من حيث تحقيق العدل بين الرعية. بل إن إشارة ابن عربي لنواب السوء الذين يعَيِّنهم الحكام فيظلمون الرعية إشارة كاشفة. وابن عربي في بعض أبيات من الشعر يَنعَى على هذا الحاكم — وعلى أمثاله من الحكام — الانشغال بأمر امتلاء بيت المال فيقول:

كتبت كتابي والدموع تسيل
وما لي إلى ما أرتضيه سبيل
أريد أرى دين النبي محمد
يُقام ودينَ المبطِلين يزول
فلم أر إلا الزورَ يعلو وأهلُه
يعِزُّون والدين القويم ذليل
فيا عز دين الله سمعًا لناصح
شفيقٍ ونُصَّاح الملوك قليل
وحاذر بتأليه الإله بطانةً
تشير بأمرٍ ما عليه دليل
لينمي بيت المال والبيت ساقط
فجد وتوكل فالإله كفيل

ومن الواضح أن الشيخ يشغله أمر المسلمين الذين يعانون ظلم حكامهم ومعاونيهم، ويعانون معاناةً أشد من هزائمهم المتوالية رغم ما يُفرَض عليهم من ضرائب باسم تلك الحروب. ويمكن أن نتفهم أسلوب ابن عربي في رسالته لكَيْكاوُس، التي تتراوح لهجة الخطاب فيها بين الأسلوب الأبوي الناصح برِقَّة، وبين الأسلوب العنيف أحيانًا، حين نعلم أن كَيْكاوُس كان أحد الحكام الذين حققوا بعض الانتصارات، خاصة انتصاره في استرداد «أنطاكية» من يد «الروم» ولو لبعض الوقت. كان هذا هو الجزء الأول من الرسالة، الخاص بنصيحة الحاكم وحضِّه على تحقيق العدل في حكمه.

ولكن حين يتصل الأمر بالصراع العسكري بين المسلمين وغير المسلمين نجد أسلوب «ابن عربي» في الرسالة نفسها يتخذ مسارًا آخر. لا يحتمل ابن عربي رؤية «الزور وأهله يعِزون» في حين أن «الدين القويم ذليل»، وهو يحلم بأن يرى «دين النبي محمد يُقام، ودين المبطلين يزول». في ظل تلك الظروف الحرجة يمكن أن نتفهم كيف يتحول «التسامح» إلى «تعصب»، وتسقط «الروحانية» في طين «الواقع». إنها الحرب، وما فيها من قتل للحياة والأحياء، للنضارة والحرية والعقل، فكيف يدافع عن الحياة أنصارُها وسط جثث القتلى ورائحة الدم في كل مكان؟ لذلك نرى شيخنا الأكبر يحرض كَيْكاوُس على عدم الانتقام من المواطنين، الذين ربما لا علاقة لهم بالحروب، وليس لهم فيها ناقة ولا جمل. لكن من يحمي الأبرياء حين تهب ريح التعصب، فتعصف بكل ما هو جميل. ليس شيخنا في النهاية إلا ابن عصره، حاول أن يحلِّق فوق عصره باستعادة ألْق الروح في صفائها المطْلَق فنجح على مستوى «التجرِبة الذاتية»، لكن «التجرِبة الذاتية» لم تنجح في اختراق «الواقع». إن ابن عربي — مثله مثلنا جميعًا — «ابن الوقت»، لا بالمعنى الصوفي الذي يجعل من مفهوم «الوقت» حالة من حالات النفس ومستوًى من مستويات التجرِبة. إنه — مثلنا جميعًا — ابن وقته الذي لم يصنعه، بل وُلِد فيه. يواصل ابن عربي رسالته منتقلًا إلى قسمها الثاني:

«يا هذا ومن أشد ما يمر على الإسلام والمسلمين — وقليل ما هم — رفع النواقيس، والتظاهر بالكفر، وإعلاء كلمة الشرك ببلادك، ورفع الشروط التي اشترطها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أهل الذمة من أنهم:

– لا يُحْدِثون في مدينتهم ولا حولها كنيسة ولا ديرًا ولا قَلِيَّة ولا صومعة راهب، ولا يجددون ما خَرِبَ منها.

– ولا يمنعون كنائسهم أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم.

– ولا يَأوون جاسوسًا، ولا يكتمون غشًّا للمسلمين.

– ولا يعلمون أولادهم القرآن.

– ولا يُظهرون شركًا، ولا يمنعون ذوي قُرُباتهم من الإسلام إذا أرادوه (هل هذا ممكن وهم محرم عليهم تعلُّم القرآن؟!)

– وأن يوقروا المسلمين، وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس.

– ولا يتشبهون بالمسلمين في شيء من لباسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر، ولا يتَسَمَّون بأسماء المسلمين، ولا يتكنَّون بكُناهم.

– ولا يركبون سَرجًا، ولا يتقلدون سيفًا، وألا يتخذوا شيئًا من سلاح.

– ولا ينقشون خواتيمهم بالعربية.

– ولا يبيعون الخمور.

– وأن يجُزُّوا مقادم رُءوسهم، وأن يلزموا زيهم حيث ما كانوا، وأن يشُدُّوا الزنانير على أوساطهم.

– وألا يُظهروا صليبًا، ولا شيئًا من كتبهم في طريق المسلمين.

– ولا يجاورون المسلمين بموتاهم، ولا يضربون بالناقوس إلا ضربًا خفيفًا، ولا يرفعون أصواتهم في كنائسهم بالقراءة في شيء في حضرة المسلمين، ولا يخرجون سعَّايين، ولا يرفعون مع أمواتهم أصواتهم، ولا يُظهرون النيران معهم، ولا يشترون من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين.

فإن خالفوا شيئًا مما شُورطوا عليه فلا ذمة لهم، وقد حل للمسلمين منهم ما يَحِل من أهل المعاندة والشقاء. فهذا كتاب العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد ثبت عن رسول الله أنه قال: لا تُبْنى كنيسة في الإسلام، ولا يُجَدَّد ما خرِب منها. فتدبَّرْ كتابي تَرشُدْ إن شاء الله ما لزمتَ العمل به والسلام» (الفتوحات ٤: ٦٠٤-٦٠٥).

على قدر ما يبدو من قسوة في استدعاء ابن عربي لما أسماه «شروط عمر» بالنسبة لأهل الذمة — النصارى واليهود والصابئة والمجوس — فإن القارئ مطالب بأن يستعيد السياق: لا فقط سياق الصراع العسكري الذي رفع شعار «الصليب» في المشرق، ورفع شعار «الاسترداد الكاثوليكي» في إسبانيا، بل عليه أن يقارن بين هذا الموقف وموقف «محاكم التفتيش»، والتي كانت قد بدأت نشاطها المحموم في مطاردة المسلمين واليهود معًا في إسبانيا سنة ١٢٣٣م، أي قبل خمسة عشر عامًا من كتابة هذه الرسالة. ومن المؤكد أن المقارنة ستكون في صالح موقف «الإسلام»، حيث لا نجد في نصوص الإسلام التأسيسية إرغامًا على اعتناق «الإسلام»، أو تخييرًا بين «القتل» وبين الإسلام. فالمبدأ أنه «لا إكراه في الدين» و«من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، أي أن الإنسان حر في اختيار دينه. ومهما كانت قسوة ما يسميه ابن عربي «الشروط العمرية» من منظور عصر «الحرية الفردية» واحترام «حقوق الإنسان»، فإننا لا نجد فيها دعوة لتعذيب غير المسلمين لاستخراج اعترافات منهم بجرائم زائفة، كما نجد في محاكم التفتيش.٣

وعلى القارئ أيضًا أن يتذكر دائمًا أن ابن عربي كاتب الرسالة المشار إليها سالفًا هو نفسه الذي يتسع قلبه لكل العقائد في «ترجمان الأشواق»، فهل يمثل هذان الموقفان — المتناقضان —خللًا في بنية فكر ابن عربي، أم أن الخلل كامن فيمن يريد أن يقرأ كتابات الشيخ بعين واحدة: عين التجرِبة الروحية الكبرى خارج الزمان والمكان؟ من هنا حرصنا على أن ننظر للشيخ وحياته وتجارِبه الروحية من جانبين: جانب التاريخ، بكل ما يتضمنه الوجود التاريخي من ارتباطات وانحيازات، بل ومعوقات، وجانب انطلاق الروح في محاولتها للتحرر من أسر اللحظة التاريخية ومن قيود الزمان والمكان. في محاولة النظر لتجرِبة ابن عربي من خلال جدلية العلاقة بين الروحي الكوني والتاريخي الثقافي، لا نفعل أكثر من تطبيق منظور ابن عربي للوجود وللمعرفة وللإنسان.

إن لكل «موجود» — يقول الشيخ — خيطًا يربطه بالحق — الله عز وجل — وخيطًا يربطه بعلته المباشرة. الخيط الذي يربط الموجود بالحق هو الخيط الناظم للوجود بأسره من أعلاه إلى أدناه؛ فهو خيط الحقيقة السارية في الوجود. والخيط الذي يربط كل موجود من الموجودات بعلته وسببه هو الخيط النسبي الخاص بهذا الموجود وحده. ووحدة الوجود بالمعنى المشار إليه هنا وجه آخر لوحدة «الكلمة» التي يمثلها فلك النبوة من أوله إلى نهايته. وللكلمة كما للموجودات جانبان: جانب الإطلاق والشمول، وجانب التعيُّن في التاريخ والحدوث. إن كل الأنبياء في نظر الشيخ — ومنهم «محمد» عليه السلام — يمثلون هذين الجانبين: الجانب الكوني الروحاني بوصفهم تجليات للكلمة الإلهية، والجانب التاريخي الزماني بوصفهم رسلًا مبلغين كلمة الله بلغتهم ومشرعين لأقوامهم. في شخصية «آدم» مثلًا هناك «الإنسان الكامل» صورة الله وصورة الكون معًا، وهناك شخصية «آدم» التاريخي أبي البشر وأول الجنس، ذي الجسد الطبيعي المكون من العناصر الأربعة الطبيعية. وفي شخصية «محمد» هناك «الحقيقة المحمدية» السارية في الوجود بأسره، والتي تتجلى وجوديًّا ومعرفيًّا في الأنبياء بدءًا من آدم وتنتهي بظهور محمد «التاريخي» الذي وُلِدَ بمكة عام ٥٧٠م.

لتجرِبة ابن عربي بالمثل جانبان: جانب التجرِبة الروحية الكونية، وجانب التجرِبة التاريخية. ومن المنطقي أن نحلل خطابه المعبر عن تجرِبته الروحية من نفس المنظور الذي صاغه هو نفسه للحقيقة؛ فنرى في تجرِبته بُعدَها الروحي الكوني، ولكن في علاقته الجدلية مع تجرِبته ككائن تاريخي ثقافي، بل ككائن اجتماعي سياسي؟ أليس ذلك أقرب إلى طبيعة الأمور وأصوب من تجاهل الكائن التاريخي لحساب التجرِبة الروحية، التي مهما تعالت وسمت لا تستطيع كليةً أن تغادر أرضها التي ترويها وتمنحها الاستمرار.

(٢) دار الإسلام ودار الكفر

لن نفرض على تجرِبة الشيخ رؤيتنا نحن للواقع التاريخي الذي أنتج خطابه في سياقه بقدر ما نريد أن نقرأ الواقع في عيون الشيخ كما صاغه خطابه. ولقد أشرنا من قبل إلى حرص الشيخ على أن يذكر مشاهدته لعبور جيش الموحدين إلى الأندلس وهو بفاس سنة ٥٩١ﻫ/١١٩٥م «لقتال العدو حين استفحل أمره على الإسلام». وهي عبارة دالة على حالة القلق تؤكدها العبارة التي تليها والتي تكشف العلاقة بين رحيل الشيخ عن الأندلس — أو عودته إليها — وبين هذا الصراع الذي كان دائرًا بين المسلمين والملوك الكاثوليك. يقول الشيخ «ثم جزت إلى الأندلس إلى أن نصر الله جيش المسلمين وفتح به قلعة رَباح والأَركو وكركوى، وما انضاف إلى هذه القلاع من الولايات» (الفتوحات ٤: ٢٤٢). وهل لهذا الحرص على ذكر أسماء القلاع المحررة أو المفتوحة من الذاكرة بعد سنوات وسنوات، بالإضافة إلى الحرص على ذكر أنه عاد إلى الأندلس بعد مشاهدة عبور الجيش، سوى دلالة الانشغال العميق والاهتمام البالغ؟

في نفس السياق، وربما وفق قانون التداعي، يذكر الشيخ فتح بيت المقدس سنة ٥٨٣ﻫ/١١٨٧م على يد الناصر صلاح الدين الأيوبي، رابطًا بينه، عن طريق التأويل العددي للحروف (ما يُعرَف بحساب الجُمَّل)، وبين فتح مكة. لكن المثير للدهشة أن الآية القرآنية التي على أساس التأويل العددي لحروفها تم حساب سنة فتح مكة هي الآية الأولى من سورة الروم، والتي تشير إلى الصراع الذي كان دائرًا بين «الروم» و«الفرس» في القرن السابع الميلادي. وسنعود في الفقرة التالية لدلالة هذا الربط بين «استرداد القدس» وبين «فتح مكة»، لنرى أن اهتمام شيخنا بالتاريخ يمثل جزءًا حيويًّا من انشغاله بقضايا الواقع. لسنا بحاجة إلى ذكر أن الصراع بين «الروم» والمسلمين حول الأراضي المقدسة آنذاك — فيما عُرِف باسم الحروب الصليبية — كان في العمق صراعًا سياسيًّا استُخدم «الدين» فيه سلاحًا أيديولوجيًّا. وهو صراع لا يجب النظر إليه منعزلًا عن الصراع في الأندلس.

من شأن هذه الصراعات التي ترفع لافتات «الدين» أن ترفع حرارة التعصب ضد التسامح، وأن تستثير نعرات الانعزال والتقوقع الديني والثقافي ضد الانفتاح الثقافي والديني. في هذا السياق تبرز مفاهيم التمييز بين «دار الإسلام» و«دار الحرب» أو «دار الكفر»، ويصبح السؤال: هل يجوز للمسلم الإقامة في «دار الكفر» أم يجب عليه الهجرة؟ ويصبح السؤال أكثر تعقيدًا إذا كانت الدار في الأصل «دار إسلام» وقعت تحت حكم «الكفار». في الباب الأخير من كتاب «الفتوحات المكية» (الوصايا) يوصي ابنُ عربي المسلمَ «ألا يقيم بين أظهر الكفار؛ لأن في ذلك إهانة لدين الإسلام، وإعلاء لكلمة الكفر على كلمة الله». وهذا يجعلنا نستعيد جوهر رسالته إلى «كَيْكاوُس» التي حلَّلناها في الفقرة السابقة. من هنا نتفهم تحريم ابن عربي ليس فقط لإقامة المسلم بين أظهُر الكفار، بل زيارة المسلم «بيت المقدس» وهي في أيدي الكفار. من الضروري هنا بيان أن الفصل الأخير من الفتوحات — كما هو واضح من النص التالي — كُتِب قبل تحرير القدس سنة ٥٨٣ﻫ؛ أي قبل رحيل ابن عربي إلى المشرق. يقول: «ولهذا حجرنا في هذا الزمان على الناس زيارة بيت المقدس والإقامة فيه لكونه بيد الكفار، فالولاية لهم والتحكم في المسلمين، والمسلمون معهم على أسوأ حال. نعوذ بالله من تحكُّم الأهواء. فالزائرون اليوم بيتَ المقدس والمقيمون فيه من المسلمين هم الذين قال الله فيهم: ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (الكهف: ١٠٤)» (الفتوحات ٤: ٥٠٩).

هل نَصِف ابن عربي بالتطرف؛ لأنه يُحرِّم على المسلم الإقامة في بيت المقدس حتى لو كانت مسقط رأسه؟ هل يتحتم على كل المسلمين الرحيل من ديارهم إذا وقعت بالاحتلال العسكري في يد عدوهم؟ قد نتفهم تحريم «الزيارة» للمقيم خارجها، وبيت المقدس كانت دائمًا مزارًا للمسلمين عامة وللعلماء والمتصوفة بصفة خاصة. أما تحريم الإقامة فيها لمن هو من أهلها فهو يعطي انطباعًا بأن ابن عربي يتخذ موقفًا متشددًا فيه الكثير من التطرف. إن هذا الحرص على التمييز بين الكفار والمسلمين من جهة، وهذا الحرص — من جهة أخرى — على تأكيد عدم جواز الإقامة في دار الكفر، لا معنى له في سياق الرؤية الصوفية المتسامحة ولا تفسير إلا بإدراك ضغط الواقع الذي يحاول بعض الباحثين التقليل من أثره في تشكيل ملامح التجرِبة الروحية.

لكن علينا في الوقت نفسه أن نعيد تأكيد حقيقة أن الفتوى — إذا صح أن نعتبرها فتوى — أصدرها الشيخ سنة ٥٨٣ﻫ قبل رحيله من الأندلس وقبل أن تتعمق تجرِبته الروحية وتكتمل. لكننا سنواجَه مرة أخرى بحقيقةٍ مغايرة: أنه كتب رسالته إلى «كَيْكاوُس» سنة ٦٠٩ﻫ/١٢٤٩م وكانت تجرِبته قد اكتملت. ألا يؤكد هذا كله الحقيقة التي نحاول إبرازها، حقيقة أن الروح في محاولتها السمو والارتفاع تظل في حالة صراع مع واقعها الأرضي، فإذا كانت تنجح أحيانًا في التحليق عاليًا فوق غيومه وأمطاره فإن هذا الواقع يصيبها في أحيانٍ أخرى بفتور لا يمكن إنكاره أو تجاهله؟

(٣) معنى «الكفر»

إذا كنا ركَّزنا على التاريخي في فكر ابن عربي، وضغوط الواقع عليه، فإن هذا لا يعني أنه لم يكن ذلك الروحاني المتسامح، ويمكن تلمُّس تحليقه الروحي في نفس السياق؛ وذلك في تحديده لمعاني «الكفر» و«الإيمان». فالكفر بمعنى عدم الاعتراف بوجود إله للعالم لا وجود له في الحقيقة عند شيخنا؛ إذ العالم كله من أعلاه إلى أدناه بمستوياته ومراتبه المختلفة، من أرواح وعقول وأجسام فلكية وعناصر طبيعية، ليس سوى مظاهر وتجليات لحقيقة واحدة سارية في أجزائه بنسب مختلفة: تلك هي الحقيقة الإلهية. الكفر بمعنى إنكار وجود الباري ليس إلا صفة عارضة ظهرت مع ظهور الشرائع السماوية على أيدي الرسل والأنبياء، فصدقهم البعض وكذبهم البعض الآخر، فأُطلق على المصدقين اسمُ «المؤمنين» وأُطلق على «المكذبين» اسمُ الكفار. لولا نزول الشرائع وانقسام الناس بين مصدق ومكذب ما كان للكفر أن يظهر في العالم.

لكن ظهور الكفر في العالم لا ينفي حقيقة أن العالم كله مؤمن في الباطن. فمنذ اللحظة التي أخذ الله فيها العهد على البشر وهم في حالة «الذر»، أي وهم في لحظة كونهم بذورًا في ظهر أبي البشر «آدم» أعلنت الذراري إيمانها بربها حسب ما ورد في القرآن الكريم: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (الأعراف ٧: ١٧٢). في هذه اللحظة الغائرة في الأزل أقرَّ البشر جميعًا بالربوبية لله، وكلهم ما يزالون على هذا الإقرار الأصلي منذ الأزل. وابن عربي في شرحه للآية يميز تمييزًا دالًّا في صيغة السؤال؛ فالله — وفقًا لفهم الشيخ — لم يسأل البشر في تلك اللحظة عن وحدانيته، أي عن انفراده سبحانه بالربوبية، فلم يقل: ألست بواحد؟ والسبب في أن صيغة السؤال اتخذت شكل «ألست بربكم» بدلًا من «ألست بواحد» — يشرح ابن عربي — أن الله سبحانه علم «أنه إذا أوجدهم أشرك بعضهم ووحَّد بعضهم واجتمعوا في الإقرار بالربوبية» (الفتوحات ٢: ٢٧٥). إذا كان كل البشر قد أقروا بالربوبية فإن الفارق بين الموحد والمشرك يكمن في أن المشرك أضاف لله شريكًا في ربوبيته بينما الموحد آمن بإله واحد لا شريك له. المقصود بالمشركين في مفهوم ابن عربي عبدة الأوثان والكواكب بصفة خاصة، هذا بالإضافة إلى من يعتقدون ألوهية المسيح ويعبدونه. المشركون هم باختصارٍ كل من سوى الموحدين، وهم الذين يؤمنون بإله واحد لا شريك له ولا ولد، وأيًّا كان ما يعبد المشركون أو أيًّا كان من يعبدون من حجارة أو كواكب أو أشخاص، فهم في النهاية يؤمنون «أن هذا الحجر أو هذا الكوكب أو ما كان من المخلوقات أنه إله» (السابق، ص٢٧٤). فهم الحقيقة — هؤلاء المشركون — يعبدون الله المتجلي في الحجر أو الكوكب أو الشخص، فيكون خطؤهم في هذه الحالة خطأ في نسبة الألوهية نسبة مطلقة إلى من نسبوها إليه. والخطأ في النسبة لا يمنع صحة الإيمان وصحة العبادة في الباطن، أليس الله سبحانه هو القائل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فكيف تكون عبادة لغيره؟

كل مخلوق في الحقيقة لا يعبد إلا الله، علم ذلك من علمه وجهله من جهله. هذا يصح على القائلين بالتثليث من النصارى، كما يصح على الثَّنَوية وعبَدة الحجارة والكواكب والأشجار وعبَدة الأسلاف. وماذا عن الملاحدة الذين يزعمون مطلق الكفر ويرفضون الانتماء إلى أي دين؟ وَفقًا لشيخنا الأكبر إن الإنسان — أي إنسان — لا بد أن يكون مؤمنًا بشيءٍ ما، بقيمةٍ ما، أو بمذهبٍ فكريٍّ ما، وهذا يدخل فيه «الإلحاد» بوصفه موقفًا فكريًّا. هذا الإيمان بموضوع أو فكرة أو مذهب أو مبدأ ليس في باطنه العميق إلا إيمانًا بمَجلًى من مجالي الحقيقة الإلهية المطلقة. وهكذا يكون العالم كله — طبقًا لشيخنا — مؤمنًا. إن الله ما خلق الجن والإنس إلا لعبادته، هكذا قُدِّر الأمر منذُ الأزل، وهكذا هو الأمر. أليس الله هو القائل أيضًا: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ؟ أليس التسبيح عبادة بما هو في جوهره تمجيد للخالق؟ ألا يؤكد ذلك كله ما يقوله الشيخ من أن عبادة الله سارية في الموجودات كلها «فإن كل جزء من العالم مسبح لله تعالى من كافر وغير كافر؛ فإن أعضاء الكافر كلها مسبحة لله. ولهذا يشهد عليه يوم القيامة جلده وسمعه وبصره ويده ورجله (هنا يشير ابن عربي إلى آيات قرآنية عديدة: «٢٤: ٢٤»، «٣٦: ٦٥»، «٤١: ٢١» على سبيل المثال). غير أن العالم لا يفقهون هذا التسبيح وسريان هذه العبادة في الموجودات» (السابق، ص٢٧٥).

الكفر والإيمان إذن مصطلحات ومفاهيم عارضة، والتقسيم إلى كفار ومؤمنين منشؤه نزول الشرائع التي قسمت الناس وَفقًا لتصديقهم —أو لتكذيبهم — لرسل الله. أما الحقيقة الوجودية فإن الكون كله مطيع لله بالفطرة، والمخلوقات كلها مسبحة وعابدة بالطبيعة، والبشر كلهم مؤمنون بالعهد الأصلي في لحظة «الذر» الأولية والأزلية. وفي التقسيم الوضعي، فالناس كلهم مؤمنون إما بالظاهر والباطن معًا — وهؤلاء هم الموحدون — أو مؤمنون بالظاهر دون الباطن — وهؤلاء هم المنافقون — أو مؤمنون بالباطن دون الظاهر، وهم من يُطلَق عليهم اسم «الكافرون».

(٤) نصر الله للمؤمنين

هذا التصور للإيمان والكفر يجعل من السهل على ابن عربي أن يتقبل الواقع الذي فيه ينهزم المؤمنون وينتصر الكافرون، كما يمكِّنه بالمثل أن يقدم تفسيرًا دينيًّا مقنعًا لهذا الواقع الذي يبدو — ظاهريًّا — مخالفًا للسنن الإلهية في وعد الله بنصرة «المؤمنين» وإلحاق الهزيمة بالكافرين. أليس الله هو القائل: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ فما بال المؤمنين يعانون الهزائم المتوالية وينعم الكفار بانتصارات متتالية عليهم؟ التمييز بين «المؤمن» و«الموحد» وإطلاق صفة «الإيمان» لتشمل كل البشر — شاءوا أم أبَوا، وعَوا ذلك أو لم يَعُوا — يمكِّن ابن عربي من مدِّ مفهوم تولي الله سبحانه للمؤمنين لكي يشمل كل البشر. وإذا كان البشر كلهم مؤمنين، فكلهم «أولياء الله» من جهة، وكلهم منصورون من الله من جهة أخرى. أليس الله القائل: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ وهو أيضًا القائل: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا؟

إذا كان الأمر كذلك لا بد أن يكون معيار النصر والهزيمة معيارًا لا يتعلق بموضوع الإيمان بقدر ما يتعلق بمستوى الصدق في هذا الإيمان. يتحقق الانتصار إذن — أو بالأحرى يتحقق وعد الله بنصر المؤمنين — وَفقًا لمستوى قوة الصدق في الإيمان. أما إذا كان مستوى صدق الإيمان ضعيفًا تحل الهزيمة، أيًّا كان موضوع الإيمان. من المنطقي في هذا التصنيف أنه إذا تعادلت درجتا الصدق عند الفريقين المتحاربين يكون فريق «المؤمنين/الموحدين» أحق بنصر الله من فريق «المؤمنين/النصارى أو المشركين». لكن التوحيد وحده — دون صدق — لا يحقق النصر. ألم يُهزم المسلمون الأوائل في بعض الوقائع ضد المشركين من أهل مكة بسبب الغرور والإعجاب بالكثرة؟ (القرآن ٩: ٢٥).

يريد الشيخ أن يقول إن صدق الإيمان في قلب المؤمن والإصرار النابع من هذا الصدق، أكثر جدوى في تحقيق النصر من محتوى الإيمان، أي من صدقه المعرفي. إن النصر يحققه البشر بصدقهم، وتولي الله للبشر ونصره لهم يتعلق بدرجة صدقهم؛ لأن كل صور «الإيمان» تجد لها انتماءً في التجليات الإلهية. إن هزيمة المسلمين في حروبهم ضد «الروم» في المشرق وضد الملوك الكاثوليك في إسبانيا تجد تفسيرها في ضعف الهمم النابع من ضعف الإيمان. لو عدنا لرسالة الشيخ إلى «كَيْكاوُس» لوجدنا إلماحًا إلى هذا البعد في نقده لحكام المسلمين بسبب انشغالهم بجمع المال وعدم محاسبتهم لنوابهم الذين يعيثون في الأرض فسادًا ويظلمون الناس.

يكاد ابن عربي أن يقول تفسيرًا لهزائم المسلمين في الحاضر وفي الماضي على السواء: إن الله سبحانه وتعالى لا يتعصب، فالعالم كله مؤمن به، والعالم كله تحت جناح رحمته الشاملة وعدله المطلق. هكذا يَمُد الشيخ مفهوم «الولاية الإلهية» ليشمل الجميع، والمقصود هنا الولاية العامة لا الخاصة بالأولياء من الأقطاب والأبدال والأوتاد … إلخ. «الولاية نعت إلهي … ولما كان هذا النعت للإله كان عامَّ التعلق، وهكذا كل نعت إلهي لا بد أن يكون عامَّ التعلق، وإن لم يكن كذلك فليس بنعت إلهي … ولما كان نعتًا إلهيًّا سرى في كل ما يُنسَب إليه إلهية (أي ما يُنسَب إليه وصف إلهي) مما ليس به. ولكن لما تقرر في نفس المشرك أن هذا الحجر أو هذا الكوكب أو ما كان من المخلوقات أنه إله — وهو مقام محترم لذاته — تعين على المشرك احترام ذلك المنسوب إليه (الألوهية)؛ لكون المشرك يعتقد أن تلك النسبة إليه صحيحة ولها وجه عام. ولما علم الله سبحانه أن المشرك ما احترم ذلك المخلوق إلا لكونه إلهًا — في زعمه — نظر الحق إليه … فإذا وَفَى بما يجب عليه لتلك النسبة من الحق والحُرمة وكان أشد احترامًا لها من الموحِّد، وتراءى الجمعان (التقى الجيشان) كانت الغلبة للمشرك على الموحِّد، إذ كان معه النصر الإلهي لقيامه بما يجب عليه من الاحترام لله وإن أخطأ في النسبة. وقامت الغفلة والتفريط في حق الموحِّد فخُذِل ولم تتعلق به الولاية. فأي شخص صدَق في احترام الألوهية واستحضرها — وإن أخطأ في النسبة ولكن هي مشهوده — كان النصر الإلهي معه (وذلك) غيرةً على المقام الإلهي؛ فإنه العزيز الذي لا يُغلب. فما جعل نصره واجبًا عليه للموحِّد، وإنما جعله للمؤمن بما ينبغي للألوهية من الحرمة. إن الموحِّد إذا أخلص في إيمانه ثبت نصره على قِرْنه بلا شك. فإذا طرأ عليه خلل ولم يكن مُصْمت الإيمان خذله الحق، وما وجد في نفسه قوة يقف بها لعدوه من أجل ذلك الخلل فانهزم» (الفتوحات ٢: ٢٧٤-٢٧٥).

عزيز على ابن عربي أن يسمي هزائم المسلمين باسمها الصحيح، فيكتفي أن يسميها «خذلانًا»، وذلك رغم تحليله المسهَب لمفهوم «الولاية» و«الإيمان» وتعلقهما بالألوهية السارية في الكون كله. إن الإطار النظري العرفاني المحكم البناء يظل غير قادر على إقناع الشيخ باحتمالات الواقع، إن شيئًا ما هنا عصي على الهضم، الهزيمة التي يكاد الشيخ يراها ماثلة في كل شيء. يصر الشيخ على أن يضمِّن خطابه رسالة لمعاصريه: إن للخذلان الذي تعانونه أسبابًا، إنه خذلان لكم وليس نصرًا لأعدائكم. من هنا رسائله الموجهة إلى الحكام لعلهم يتعظون من غفلتهم التي تسبب لهم الخذلان، وتتسبب في إذلال «الدين القويم». إن خطاب ابن عربي موزعٌ بين صفاء فكره وتعالي تجرِبته الروحية وبين تجرِبة زمانه وانتمائه الثقافي والحضاري والديني. ومن منا لا يعجز في كثير من الأحيان عن حل تلك التعارضات بين سمو خبرة الروح وزمانية الوجود الإنساني. لقد كان ابن عربي يحلم — وهذا حقه — بأن يرى «دين النبي محمد يُقام، ودين المبطلين يزول.»

(٥) التاريخ من أفق الحاضر

والآن نطرح تساؤلنا المؤجل: ما الذي يربط بين فتح مكة في القرن السابع الميلادي واستعادة القدس من الروم بفضل صلاح الدين الأيوبي في القرن الثاني عشر؟ ما الذي يربط الحاضر بالماضي في نسيجٍ واحد في وعي الشيخ أو في لاوعيه؟ كثيرًا ما يعود ابن عربي لينبش — بطريقة رمزية شاعرية — في بعض أحداث الماضي السياسي الإسلامي مستثيرًا دلالات بعينها جديرة بالتأمل. وتساؤلنا هنا: هل ثمة علاقةٌ ما تربط بين هذه الدلالات وبين وقائع بعينها في التاريخ العيني الذي كان الشيخ شاهدًا عليه؟ ربما لا نستطيع أن نقدم إجابة عن مثل هذا السؤال، لكنا نرى أن من واجبنا إثارته عند الحديث عن القيود والضغوط الزمانية والمكانية. فالواقع الذي نعيشه جميعًا يتضمن التاريخ جزءًا جوهريًّا من مكوناته، لكنه التاريخ منظورًا إليه بعيون الحاضر، الذي ليس بدوره سوى استمراريةٍ ما للماضي وانقطاعٍ عنه في الوقت نفسه.

نحلل هنا نصًّا نرى أنه نص هام؛ لأنه يكشف لنا عن انخراط الشيخ انخراطًا غير مباشر كما قلنا في إعادة رسم خارطة الماضي. كيف؟ لنتأمل القصة التي يحكيها الشيخ ونحلل عناصرها لعلنا نصل إلى دلالتها ومغزاها. القصة أن رجلًا من دمَشق اسمه «يحيى بن الأخفش»، وهو في الأصل من أهل مرَّاكش، يصفه ابن عربي بأنه من أهل «العشق والأدب والدين»، كتب هذا الرجل رسالة للشيخ، الذي كان يعيش في دمَشق آنذاك أيضًا، يخبره فيها برؤيا شاهد فيها رسول الله يقف بمقصورة الخطابة في جامع دمَشق. في الرسالة التي يقص علينا ابن عربي تفاصيلها في كتاب الفتوحات المكية (١: ٢٩٧-٢٩٨) يحدد «يحيى بن الأخفش» هذا موقع «مقصورة الخطابة» بأنها تقع إلى جانب «خزانة المصحف» المنسوب إلى «عثمان بن عفان» رضي الله عنه.

في المشهد يقف رسول الله في مقصورة الخطابة والناس — وبينهم «يحيى بن الأخفش» كاتب الرسالة وصاحب الرؤيا — يُهرَعون إليه ويدخلون عليه لمبايعته. يظل صاحب الرؤيا وكاتب الرسالة «واقفًا حتى خفَّ الناس»، ويحكي في رسالته: «فدخلت عليه وأخذت يده» وهنا يبدأ النبي حديثًا مع «يحيى» هذا، يكون «ابن عربي» محوره وبؤرته.

يسأل الرسول يحيى: هل تعرف محمدًا؟

يجيب يحيى متسائلًا: يا رسول الله، من محمد؟

الرسول: ابن عربي.

يحيى: نعم أعرفه.

الرسول: قل له: يقول لك رسول الله : «انهض إلى ما أُمِرتَ به.» واصحبه فإنك منتفع بصحبته. وقل له: يقول لك رسول الله : «امتدح الأنصار، ولتعين منهم سعد بن عبادة ولا بد.»

ويواصل «يحيى بن الأخفش» في رسالته لابن عربي حكايةَ ما شاهده في الرؤيا قائلًا: إن الرسول استدعى الشاعر «حسان بن ثابت» وقال له: يا حسان حفِّظه — يقصد يحيى بن الأخفش — بيتًا (من الشعر) يوصله لمحمد بن عربي يبني عليه وينسج على منواله في العروض والروي. فيلتفت «حسان بن ثابت» إلى «يحيى بن الأخفش» ممتثلًا لأمر رسول الله ويقول: «خذ إليك»، ويُنشده البيت الشعري:

شُغِف السهاد بمقلتي ومزاري
فعلى الدموع معوِّلي ومُشاري

وما زال «حسان» يردد البيت حتى حفظه «يحيى».

يواصل «يحيى بن الأخفش» في رسالته فيقول إن الرسول قال له: اكتبه (أي المديح الذي ينظمه ابن عربي في الأنصار) بخط بيِّن، واحمله ليلة الخميس إلى تربة كذا يسمونها «قبر الست» فستجد عندها شخصًا اسمه «حامد»، فادفع إليه المديح.

هنا تنتهي الرسالة التي أرسلها «يحيى بن الأخفش» للشيخ محيي الدين يروي فيها رؤياه التي رأى فيها النبي في جامع دمَشق والحديث الذي دار بينه وبين الرسول حول ابن عربي وضرورة أن يكتب قصيدة في مدح الأنصار، لا بد أن يذكر فيها اسم «سعد بن عبادة» تحديدًا، هذا بالإضافة إلى طلب النبي من «حسان بن ثابت» شاعره أن يَنظم بيتًا يكون بمثابة نَموذج ينسج ابن عربي على منواله قصيدته. وتنتهي الرسالة بأن يأمر النبي «يحيى» أن يأخذ قصيدة ابن عربي بعد أن يكتبها بخط بيِّن ويحملها إلى مكان يُسمى «قبر الست» حيث يجد شخصًا اسمه «حامد» يدفع القصيدة إليه.

يواصل ابن عربي سرد الحكاية قائلًا: «فلما أخبرني الرائي وفَّقه الله عملت له القصيدة من وقتي من غير فكر ولا روية ولا تثبُّط، ودفعت القصيدة إليه». وتنتهي القصة برسالة أخرى يتلقاها ابن عربي من «يحيى بن الأخفش» ينبئه فيها بما وقع بعد أن تسلم منه القصيدة: «لما جئت قبر الست ووصلت إليه بعد العشاء الآخرة رأيت رجلًا عند القبر فقال لي ابتداء: أنت يحيى الذي جاء من عند فلان («وسماني» هكذا يتدخل ابن عربي في السرد شارحًا) فقال له يحيى: نعم، فعاد الشخص وسأل يحيى: فأين هي القصيدة التي مدح بها الأنصار عن أمر رسول الله . قال يحيى: هي عندي، فناولته إياها فقَرِبَ من الشمعة ليقرأ القصيدة فلم أره يَخبُر ذلك الخط، فقلت له: أتأمرني أن أُنشدك إياها؟ فقال: نعم فأنشدته إياها.»

ما يهمنا في هذه القصة المليئة بالرموز الغامضة والدلالات الثرية، التي يصعب الإحاطة بها هنا، هو الدلالة السياسية لطلب النبي من ابن عربي — عن طريق وسيط هو «يحيى بن الأخفش» الذي لا يذكر ابن عربي عنه شيئًا سوى تلك الجملة القصيرة أنه كان من أهل مرَّاكش، يعيش في دمَشق، وهو من أهل «العشق والأدب والدين» — أن يكتب قصيدة في مدح الأنصار. ما دلالة هذا التكليف؟ وما علاقته بكون ابن عربي ينتمي عِرقيًّا إلى قبيلة طيء اليمنية؛ الأصل العِرقي لقبائل الأنصار في يثرب؟ ولماذا بالتحديد يتضمن الطلب النص على ذكر اسم «سعد بن عبادة» في القصيدة؟ هذا فضلًا عن كتابة القصيدة بخط بيِّن لشخص اسمه حامد، لا يجيد قراءة الخط الذي كُتبت به القصيدة، الأمر الذي يعني أنه ليس من أهل الإقليم، وربما ليس من أهل العصر، فيحتاج ليقرأها له «يحيى». وتساؤلات أخرى كثيرة تتعلق بطبيعة المكان الذي تُحمل القصيدة إليه، المقابر و«قبر الست» تحديدًا.

في كل هذا السرد لم يفعل ابن عربي سوى كتابة القصيدة على صورة البيت الذي نظمه «حسان بن ثابت» شاعر النبي، وهو أيضًا من الأنصار. ربما نكتفي هنا بالتعليق على الجزئية الخاصة بدلالة النص على ذكر اسم «سعد بن عبادة» في القصيدة. فسعد بن عبادة من الشخصيات التاريخية الهامة التي قدمت دعمًا أدبيًّا وماليًّا وعسكريًّا لا يُستهان به في سبيل الدعوة الإسلامية، خاصة بعد هجرة المسلمين الأوائل إلى يثرب، ولم يتوقف دعمه أو دعم قبيلته بعد فتح مكة، بل إن هذا الدعم أتاح له مكانة متميزة في المدينة نفسها، خاصة بعد ضعف أسهم «عبد الله بن أبي» زعيم الخزرج بسبب «نفاقه» المعروف.٤

لكن سمعة «سعد بن عبادة» أصابها تشويه متعمد في المصادر المتأخرة نتيجة لموقفه في النقاش الذي دار في «سقيفة» قومه «بني ساعدة» عشية وفاة النبي، حيث اجتمع «الأنصار» لمناقشة مسألة «الخلافة» وكان «سعد» أهم مرشحي الأنصار، لولا تدخل «أبي بكر» و«عمر» فتم انتخاب «أبي بكر» وأذعن الأنصار. واختفى «سعد» من الحياة العامة، ومات في سوريا بعد سنتين. هل نلمس في النص السابق محاولة لإعادة الاعتبار لشخصية «سعد بن عبادة» بالنص على ضرورة ذكر اسمه في قصيدة مدح الأنصار التي أمر الرسول نفسه ابن عربي بكتابتها؟

ولكن لماذا الوسائط؟ نفهم أهمية أن تكون القصيدة المقترحة على غرار بيت من الشعر ينظمه شاعر الأنصار الذي تخصص في مدح النبي؛ لأن ذلك شأنه أن يعطي للمديح طابعًا مستمدًّا من حقيقة أن شعر «حسان» مؤيد بروح القدس، وهو «جبريل» ناقل الوحي إلى محمد. ولعل السؤال الأهم هو: لماذا الانشغال بالماضي وما علاقته بالحاضر. أسئلة كثيرة نعجز عن الإجابة عليها. ويكفي أن يكون ما نريد تأكيده قد صار واضحًا رغم حرصنا على نفي أي ادعاء بأننا نريد سجن خطاب ابن عربي في إطار زمانه ومكانه بالمعنى البيئي أو الزماني الضيق. كل ما نريد تأكيده أن عظمة المفكر — أي مفكر — تكمن في هذا التوتر الخلاق بين مخاطبة زمانه، وبين التشوق لمخاطبة المستقبل، لكن هل يمكن مخاطبة المستقبل إلا باللغة التي يمكن للحاضر استيعابها وهضمها.

إن إعادة الاعتبار لشخصية «سعد بن عبادة» الأنصاري، بالحرص على ذكر اسمه في قصيدة يُمدح فيها الأنصار، محاولة رمزية من ابن عربي لتقديم قراءة للتاريخ. وهذه المحاولة تتعلق بمسألة الخلافات المبكرة حول مشكل من يخلف الرسول. لم يكن خلاف «سقيفة بني ساعدة»، الذي كان بطله «سعد بن عبادة»، والذي انتهى باختيار «أبي بكر» خليفة، هو الخلاف الوحيد. ففي المصادر التاريخية — شيعية وسنية على السواء — أن «علي بن أبي طالب» — ابن عم الرسول وزوج ابنته «فاطمة» — لم يحضر هذا الاجتماع؛ لأنه كان مشغولًا بإجراءات دفن الجثمان الشريف. وتنص هذه المصادر على أنه لم يكن راضيًا عن النتيجة التي أسفر عنها اجتماع السقيفة. كان يرى نفسه أحق بخلافة الرسول في تولي أمور المسلمين لأسباب عديدة، ولهذا تأخر في مبايعة «أبي بكر» فترة يختلف المؤرخون في تحديدها.

لقد ظل أمر الخلافة موضوعًا خلافيًّا بين المسلمين، خاصة في سياق الحرب الأهلية التي نشبت عقب تولي «علي بن أبي طالب» الخلافة بعد مقتل الخليفة الثالث «عثمان بن عفان». في سياق تلك الحرب الأهلية — التي أطلق عليها اسم حروب «الفتنة» — تباينت الآراء والاتجاهات وتشعبت الأفكار، وكان هذا كله تمهيدًا لميلاد «علم الكلام» على أرض الاختلافات السياسية؛ وبالتالي صارت قضية «الخلافة» أو «الإمامة» من قضاياه الأساسية. المعسكران الأساسيان هما الشيعة والسنة، ويتلخص الخلاف بينهما في تحديد معيار اختيار الخليفة، ففي حين يقوم منطق الشيعة على ضرورة أن يكون «الخليفة» من أهل بيت النبوة، يكتفي «السنة» بأن يكون الخليفة من قبيلة «قريش». لكن السؤال الذي كان محور نقاش في أتون الصراع الذي استمر بين «السنة» و«الشيعة» كان يتمحور حول مدى مشروعية خلافة كل من «أبي بكر» و«عمر». من منظور السنة لا إشكال في مشروعية الخلافة، إذ مدار الاختيار هو «إجماع أهل الحل والعقد»، وهو متحقق في الحالتين. أما الشيعة الأوائل فقد كان رأيهم أن كلا من «أبي بكر» و«عمر» يُعَدان مغتصبَين لحق «علي بن أبي طالب».

وككل خلاف يستعر في أتون الصراع العسكري ثم تهدأ حدته تدريجيًّا، عدَّل الشيعة من موقفهم من الخليفتين الأول والثاني، رغم إصرارهم على أن «عليًّا» كان هو الأكثر استحقاقًا لها. طور الشيعة نظرية فحواها أنه من الجائز أن يتولى «الإمامة» أو «الخلافة» من هو أقل استحقاقًا وفضلًا مع وجود الأكثر استحقاقًا والأفضل. تلك هي نظرية «جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل». ابن عربي ليس شيعيًّا بالمعنى الاصطلاحي المذهبي للتشيع، لكن العلاقة بين التصوف والتشيع فكريًّا وتاريخيًّا أمر تعرض له بالشرح والتفسير باحثون كثيرون، لعل «هنري كوربان» — الذي استشهدنا به أكثر من مرة في هذا الفصل — من أشهرهم.

ابن عربي يصوغ قضية تأخر الأفضل وتقدم الأقل فضلًا في تولِّي الخلافة من خلال مفهوم عرفاني فحواه أن الأولية والآخِرية مفاهيم نسبية؛ لأن «الزمان» نفسه مفهوم نسبي مرتبط بعالمنا هذا، عالم الاستحالة والتكوين وَفقًا لحركة الأفلاك وتأثيراتها. فإذا كان «الأفضل» من الخلفاء — وهو علي بن أبي طالب — قد تأخر زمان توليه الخلافة، فذلك حكم «الزمان» ليس إلا. أي إن هذا التأخر في «الزمان» لا يقلل شأن أفضليته ولا ينفيها. صحيح أن الخلفاء الأربعة كلهم مؤهلون للتقدم والخلافة، لكن ترتيب توليهم لا يعكس أفضلية بقدر ما هو حكم الزمان والآجال: «فلما كان في علم الله أن أبا بكر يموت قبل عمر، وعمر يموت قبل عثمان، وعثمان يموت قبل علي — رضي الله عنهم جميعًا — … جعل الله خلافة الجماعة كما وقع؛ فتقدَّم من علم أن أجله يسبق أجل غيره من هؤلاء الأربعة. فما قدَّم منهم من قدم لكونه أكثر أهلية من المتأخر عنهم في نظرنا فإنه ما بقي إلا حكم الآجال والعناية» (الفتوحات ٤: ٣٢٨).

(٦) السلطان والقرآن، جدلية السيف والعرفان

كان هذا زمان الخير، زمان الصحابة من المهاجرين والأنصار، وزمان الخلفاء الراشدين، زمان القرون الأولى التي هي خير القرون. إذا كان الشيخ قد انخرط بطريقة رمزية في النقاش القديم فانخراطه في شأن زمانه لا يجوز أن يكون أمرًا في حاجة لإثبات. يقول الشيخ في «عنقاء مُغرِب» ما نصه: «وذلك زمان الفتن، وحلول البلايا والمحن» (ص٢٢). ليس من المستغرب إذن أن يحدد زمان ظهور المهدي المنتظر بأنه القرن السابع الهجري «القرن الرابع اللاحق بالقرون الثلاثة الماضية: قرن الرسول — وهو قرن الصحابة — ثم الذي يليه ثم الذي يلي الثاني» (وهي خير القرون حسب رواية تُنسب في كتب الحديث للرسول) (الفتوحات ٣: ٣٦٥). وبين القرون الثلاثة الأولى والقرن السابع — يقول ابن عربي — «حدثت أمور، وانتشرت أهواء، وسُفِكَت دماء، وغارت الذئاب في البلاد، وكثر الفساد إلى أن طمَّ الجور وطما سيله، وأدبر نهار العدل بالظلم حين أقبل ليله» (السابق). ومن الطبيعي والأمر كذلك أن يكون خروج الخليفة المهدي في هذا القرن السابع — عصر ابن عربي — ليحقق الأهداف الثلاثة التي رأينا أنها كانت شاغل ابن عربي، والتي يمكن تلخيصها على النحو التالي:

  • (١)

    تحقيق العدل في الأرض بعد أن امتلأت بالظلم والجور.

  • (٢)

    أن يقيم دين الله في الأرض بعد أن ارتفعت أديان الزور في كل مكان.

  • (٣)

    أن يرفع الخلاف بين المسلمين في المذاهب ويقر دين الصحيح كما كان عليه أيام الرسول، وأن يحقق الانتصار الذي عجز المسلمون عن تحقيقه في صراعهم ضد أعدائهم.

هكذا يكون خروج المهدي المنتظر «وقد امتلأت الأرض جورًا وظلمًا فيملؤها قسطًا وعدلًا … يخرج على فترة من الدين، يزع الله به ما لا يزع بالقرآن … يمشي النصر بين يديه … يقفو أثر رسول الله … لا يخطئ، له ملَك يسدده من حيث لا يراه. يحمل الكَلَّ ويُقوِّي الضعيف ويُعِين على نوائب الحق (وهي صفات نبوية وردت في حديث «خديجة» زوجة محمد له حين فاجأه الوحي فاضطرب، وكانت تحاول طمأنته)، يفعل ما يقول ويقول ما يفعل، ويعلم ما يشهد … يُبيد الظلم وأهله، يُقيم الدين وينفخ بالروح في الإسلام، يَعِزُّ الإسلامُ به بعد ذُلِّه، ويحيا بعد موته. يضع الجزية، ويدعو إلى الله بالسيف ما كان: فمن أبى قتله فلا يبقى إلا الدين الخالص» (السابق، ص٣٦٤).

رغم أن مفهوم «المهدي المنتظر»، الذي يظهر فيملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعد أن امتلأت جورًا وظلمًا، ليس من إبداع ابن عربي، فالجدير بالالتفات أن ابن عربي يحدد زمن مجيئه بالقرن السابع معتمدًا في ذلك على تصوير عصره بأنه العصر الذي «ذل» فيه الإسلام بعد «عز» و«خسر» بعد «انتصار». لا يمكن لدارس ابن عربي أن يتجاهل هذا البعد الواضح في الكيفية التي يوظف بها الشيخ مفاهيم مستقرة في التراث السابق عليه ليخاطب مشكلات عصره.

لكن من هو المهدي المنتظر؟ ولماذا يحتاج الزمان إليه رغم وجود «خاتم الولاية المحمدية الخاصة»، الذي هو ابن عربي نفسه؟ تلك أسئلة لم تشغل الباحثين فيما أعلم؛ لتركيزهم على المفاهيم الروحية والصوفية والفلسفية في خطاب ابن عربي وإهمال — أو التقليل من شأن — الإشارات المتناثرة هنا وهناك في ثنايا هذا الخطاب، والتي تحيل إلى هموم العصر والزمان. في زمان ابن عربي يظهر هو «خاتم الولاية المحمدية الخاصة»، حامل لواء الحق بالمعنى المعرفي، أو العرفاني. وفي العصر نفسه يظهر «المهدي المنتظر»، فيحقق العدل وينصر الدين بالسيف، ويفتح القسطنطينية. ولكن تنقلب الموازين مرة أخرى فيظهر «الدجال» الذي سيقتل «المهدي»، وينشر الفساد في الأرض. وأخيرًا ينزل من السماء «عيسى ابن مريَمَ»، فيقتل «الدجال» ويعيد العدل في الأرض ويحكم وَفقًا لشريعة محمد لا وَفقًا لشريعته هو؛ إذ إن نزوله — هكذا في آخر الزمان — إنما من حقيقة كونه «خاتم الولاية العامة». إن الوصف الذي يقدمه ابن عربي لنهاية العالم في زمانه يدفعنا للتساؤل لماذا هذا التحديد؟

فمن هو «المهدي المنتظر»؟ إنه خليفة «من عترة رسول الله من ولد فاطمة، جده الحسن بن علي، يواطئ اسمه اسم رسول الله في الخَلْق — بفتح الخاء — وينزل عنه في الخُلُق … وهو أجلى الجبهة، أقنى الأنف. أسعد الناس به أهل الكوفة، يَقسم المال بالسوية ويَعدل في الرعية ويَفصل في القضية … يُظهر من الدين ما هو عليه الدين في نفسه ما لو كان رسول الله لَحَكَم به. يرفع المذاهب من الأرض فلا يبقى إلا الدين الخالص … يفرح به عامة المسلمين أكثر من خاصتهم، يبايعه العارفون بالله من أهل الحقائق عن شهود وكشف وتعريف إلهي. له رجال إلهيون يقيمون دعوته وينصرونه هم الوزراء يحملون أثقال المملكة ويعينونه على ما قلده الله … (وهم) طائفة خبأهم الله له في مكنون غيبه أطلعهم كشفًا وشهودًا على الحقائق وما الأمر عليه في عباده … وهم من الأعاجم ما فيهم عربي، ولكن لا يتكلمون إلا بالعربية. لهم حافظ ليس من جنسهم ما عصى الله قط، وهو أخص الوزراء وأفضل الأمناء» (الفتوحات ٣: ٣٦٤-٣٦٥).

من الواضح أن «المهدي» — وَفقًا لوصف ابن عربي — شخصية من أهل بيت النبي، يكاد ابن عربي يحدد الملامح ويشير إلى الاسم. لكن مما هو جدير بالالتفات أن الدين الذي سيظهره المهدي هو الدين «في نفسه» كما أظهره الرسول، دين لا خلاف فيه ولا مذاهب، وهو دين أقرب إلى الدين الذي يبشر به ابن عربي نفسه، يقوي هذا الاستنتاج أن الله يُقيِّض للمهدي وزراء «إلهيين»، أي صنف من الرجال العارفين بالله، وهم «أهل الحقائق» الذين سيبايعونه عن «شهود وكشف وتعريف إلهي». العامة يفرحون به أكثر من الخاصة، وهي إشارة واضحة من ابن عربي لحاجة العامة لمن يحقق لهم العدل. لكن أكثر الناس فرحًا به وسعادة هم أهل الكوفة، والإشارة أيضًا واضحة للشيعة، واختصاص أهل الكوفة بالذكر إشارة واضحة لأحداث تاريخية دامية عانى منها الشيعة، ومن المعروف أن مقتل الحسين في «كربلاء» أبرز تلك الأحداث الدامية، وهو حدث تتجدد ذكراه كل عام في وعي الشيعة حتى الآن.

يبدو أن الأوصاف التي يحرص ابن عربي على إيرادها للمهدي تكاد تنطق بأنه يقصد الإمام الثاني عشر «محمد بن الحسن العسكري»، أو «محمد القائم» في معتقدات الشيعة الإثناعشرية. وهو الذي دخل الغيبة الصغرى عقب ميلاده مباشرة (٢٥٥ﻫ/٨٦٩م) حسب بعض المصادر، أو عقب وفاة أبيه الحسن بن علي العسكري (٢٦٠ﻫ/٨٧٤م) الإمام الحادي عشر. أما دخوله الغيبة الكبرى فتتفق المصادر على أنه كان في سنة ٣٢٩ﻫ/٩٤١م بعد وفاة آخر سفرائه الخمسة، وهو «علي بن محمد السامرِّي».٥
لكن مما هو جدير بالملاحظة أن «المهدي» ينتسب للرسول بنسب «الدم» ويشبهه في «الشكل» الخارجي دون أوصافه «الخُلُقية»، فما معنى هذا؟ هل معناه أن «خاتم الولاية المحمدية»، الذي هو ابن عربي نفسه، هو وحده الحامل للصفات الخُلُقية إلى جانب حمله لنفس الاسم، بالإضافة إلى انتمائه العربي. أم أن أخص وزراء المهدي الذي «ما عصى الله قط»، والوحيد الذي ينتمي دون الوزراء جميعًا للجنس العربي، أن يكون «ابن عربي» نفسه.٦ ولعل تركيز أعداء المهدي من بين المسلمين في العلماء من أهل الاجتهاد — يقصد ابن عربي «المتكلمين» — وفي «الفقهاء»، ما يعكس مناخ الصراع بين الفقهاء والمتصوفة من جهة، وهو مناخ لا يمل ابن عربي من تكرار الحديث عنه تلميحًا وتصريحًا. أما عن الفريق الأول فيقول ابن عربي عن أعداء المهدي: «أعداؤه مقلدة العلماء أهلِ الاجتهاد؛ لما يرونه من الحكم بخلاف ما ذهبت إليه أئمتهم؛ فيدخلون كرهًا تحت حكمه خوفًا من سيفه وصولته ورغبة فيما لديه» (الفتوحات ٣: ٣٦٤-٣٦٥). أما الفقهاء فهم العدو المبين للمهدي: «فإنه لا يُبقي لهم رياسة ولا تمييزًا عن العامة، بل لا يَبقَى لهم علم بحكم إلا قليل. ويرتفع الخلاف من العالم في الأحكام بوجود هذا الإمام. ولولا أن السيف بيد المهدي لأفتى الفقهاء بقتله، ولكن الله يظهره بالسيف والكرم، فيطمعون ويخافون، فيقبلون حكمه من غير إيمان، بل يُضمرون خلافه كما يفعل الحنفيون والشافعيون فيما اختلفوا فيه. فلقد أُخبرنا أنهم يقتتلون في بلاد العجم أصحاب المذهبين، ويموت بينهم خلق كثير، ويُفطرون في شهر رمضان ليتقوَّوا على القتال. فمثل هؤلاء لولا قهر الإمام المهدي بالسيف ما سمعوا له ولا أطاعوه بظواهرهم كما أنهم لا يطيعونه بقلوبهم، بل يعتقدون فيه أنه إذا حكم فيهم بغير مذهبهم أنه على ضلالة في ذلك الحكم، لأنهم يعتقدون أن زمان الاجتهاد قد انقطع، وما بقي مجتهد في العالم، وأن الله لا يوجد بعد أئمتهم أحدًا له درجة الاجتهاد. وأما من يدعي التعريف الإلهي بالأحكام الشرعية فهو عندهم مجنون فاسد الخيال لا يلتفتون إليه. فإذا كان ذا مال وسلطان انقادوا إليه في الظاهر رغبة في ماله وخوفًا من سلطانه، وهم ببواطنهم كافرون به» (الفتوحات ٣: ٣٧٤).

هذا الدور الذي يعتبره ابن عربي من بعض مهام «المهدي» يعكس حلم ابن عربي بحاكم عادل قادر على حسم الخلافات بالسيف أو بالمال، أي بالعصا والجزرة معًا، ومزود في الوقت نفسه بوزراء عارفين من أهل الله. إلى أي حد يفسر لنا هذا الحلم الطوباوي احتقان الوضع في رؤية ابن عربي للواقع الفكري وما يزخر به من خلافات. ولعل ابن عربي يرى أن هذه الخلافات والصراعات — التي تصل إلى حد التحارب كما يحكي عن الشافعية والحنبلية — هي المسئولة عن حالة الخذلان التي تسبب الهزائم المتوالية للمسلمين في حروبهم ضد أعدائهم.

وهذا ينقلنا إلى واحدة من مهام المهدي المنتظر، تلك هي قمع الكفر وأهله بفتح «القسطنطينية» أو «مدينة الروم». وكما حللنا في الفقرة السابقة فإن النصر على الأعداء لا يتحقق إلا بصدق الإيمان بصرف النظر عن محتوى الإيمان ومضمونه. هذا الصدق متحقق في وزراء المهدي؛ فهم من رجال الله أهل الكشف والشهود. وهذا الصدق «هو الذي يقررونه في نفوس أصحاب المهدي … وإذا علم الإمام المهدي هذا (يعني أهمية صدق الإيمان في تحقيق النصر) عمل به، فيكون أصدق أهل زمانه.» وبسبب هذا الصدق ينجح جيش المهدي في فتح القسطنطينية بلا حرب، بل يفتحونها بالتكبير، بصيحة «الله أكبر»: «ألا تراهم بالتكبير يفتحون مدينة الروم؛ فيكبرون التكبيرة الأولى فيسقط ثلث سورها، ويكبرون الثانية فيسقط الثلث الثاني من السور، ويكبرون الثالثة فيسقط الثلث الثالث؛ فيفتحونها من غير سيف» (الفتوحات ٣: ٣٦٦-٣٦٧).

لكن هذا النصر المبين، وما يسبقه من تحقيق العدل، وإزالة الخلاف، تمثل بعض علامات نهاية العالم، فما يلبث «الدجال» أن يظهر ليملأ الأرض فسادًا بعد أن مُلئت عدلًا، ويزيف دين الله بعد أن صلح حاله. والدجال «رجل كهل أعور العين اليمني، كأن عينه عِنبة طافية، مكتوب بين عينيه كاف فاء راء، فلا أدري هل المراد بهذا الهجاء «كَفَرَ» من الأفعال، أو أراد به «كافر» من الأسماء إلا أنه حذف الألف كما حذفتها العرب في خط المصحف في مواضع مثل ألف «الرحمن» بين الميم والنون.» هذه كلها علامات كافية لكي يكون الدجال تشخيصًا حيًّا للكفر وانتصاره على الإيمان. ويحدد ابن عربي خروج الدجال بأنه بعد فتح القسطنطينية بثمانية عشر يومًا «ويكون خروجه من خراسان من أرض المشرق — موضع الفتن — تتبعه الأتراك واليهود، يخرج إليه من أصبهان وحدها سبعون ألف طيلسان في أتباعه كلهم من اليهود» (السابق نفسه).٧

يخوض الدجال معارك ضد المهدي وجيشه يفعل فيها أعاجيب تشبه المعجزات، الأمر الذي يجذب الناس إليه. وفي وسط هذا المَرَج ينزل عيسى ابن مريَمَ «بالمنارة البيضاء شرقي دمَشق … والناس في صلاة العصر، فيتنحى له الإمام من مقامه؛ فيتقدم فيصلي بالناس، يؤم الناس بسنة رسول الله . يكسر الصليب ويقتل الخنزير. ويقبض الله المهدي إليه طاهرًا مطهرًا» (الفتوحات ٣: ٣٦٥). عيسى يقتل الدجال، ويخوض حروبًا ضد «يأجوج ومأجوج»، حتى تستقر الأمور، ويقام ميزان العدل، وتثمر الأرض من خيرها الكثير، فيجد كل إنسان أكثر مما يريد. إنه زمان «البركة» وإقامة دين الله — الإسلام — على الصراط المستقيم. لكنه موعد قيام الساعة ونهاية العالم. كأن ابن عربي لا يرى صلاحًا للعالم إلا في نهايته، وهل في ذلك من غرابة؟ أليس «الموت» هو اليقظة من حالة «النوم» التي هي العالم؟ «الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا» هكذا يُروَى عن النبي أنه قال، وهكذا يفسر ابن عربي الوجود بأنه «خيال» وأن البشر يظنون أنفسهم يقظى، والحقيقة أنهم نائمون.

هل كان هذا التبشير بنهاية العالم تطورًا في رؤية ابن عربي للواقع، الذي رحل من مغربه إلى مشرقه بحثًا عن خلاص، فلما وجد الأمر في المشرق لا يقل سوءًا عن الحال في المغرب الذي خلَّفه وراءه، أدرك أن لا خلاص إلا باليقظة الكبرى؟ ربما، خاصة وأن كتابه عن «عنقاء مغرب في ختم الولاية وشمس المغرب» لا يتضمن تلك التفاصيل التي وجدناها في الفتوحات، الذي لم ينته ابن عربي من كتابته إلا قبل سنوات قليلة من رحيله عن العالم. نحن بذلك لا ننكر أن مفهوم «نهاية العالم» جزء تكويني في كل رؤية دينية، لكن تأكيد ابن عربي لها وتحديده لزمنها يمثل بُعدًا يحتاج للتفسير.

١  Henry Corbin, Creative Imagination in the Sufism of Ibn Arabi, trans. By Ralph Manhein, Princeton University Press, 1969, p. 5.
٢  السابق، ص٧٥-٧٦.
٣  ومن المؤكد أن احترام «الإسلام» للأديان السابقة عليه أمر لا خلاف عليه، فالإسلام في النهاية ينسب نفسه إلى سلسلة الأديان «الإبراهيمية»، و«إسماعيل» جد العرب وجد «محمد» هو ابن «إبراهيم». هذا اعتراف بالأنبياء والرسل جميعًا، وبالأديان التي أتَوا بها من نفس المصدر الذي أتى منه الإسلام، وهو موقف لا مثيل له في اليهودية التي تَعتبر كلًّا من المسيحية والإسلام هرطقةً وإلحادًا، ولا في المسيحية التي ظلت تنظر لنبي الإسلام بوصفه «المسيح الزائف». بل إن الفاتيكان الذي اعترف بالإسلام دينًا في وثيقته الثانية في الستينيات، لم تصدر عنه أي وثيقة رسمية حتى الآن، فيما أعلم، تُقرر أن «محمدًا» عليه السلام نبي من الأنبياء. ولسنا هنا بصدد اتخاذ موقف دفاعي أو اعتذاري عن الإسلام أو عن الشيخ، بقدر ما نهدف إلى وضع ابن عربي في سياق عصره بلا زيادة ولا نقصان.
٤  انظر مقالة مونتجمري وات عنه في دائرة المعارف الإسلامية، ط٢، دار بريل، ليدن، المجلد ٨، ص٦٩٨.
٥  انظر مقالة «محمد القائم»، دائرة المعارف الإسلامية، المجلد السابع، ص٤٤٣ وما بعدها. وهنا أشكر الصديق «حسن ياغي» مدير المركز الثقافي العربي في بيروت على لفت نظري إلى هذا الموضوع.
٦  لفهم تطور مفهوم «المهدي» في تاريخ الثقافة الإسلامية يمكن مراجعة مقال W. Madelung في دائرة المعارف الإسلامية، المجلد الخامس، ص١٢٣٠–١٢٣٨.
٧  انظر عن الدجال مقالة A. Abel في دائرة المعارف الإسلامية، المجلد الثاني، ص٧٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤