الفصل السادس

تأويل الشريعة: جدلية الظاهر والباطن

المقصود بمفهوم «الشريعة» في هذا الفصل، القوانين والأحكام المشتقة من المصادر الأساسية لتنظيم حياة الفرد المسلم والجماعة المسلمة سواء في مجال الشعائر والعبادات أو في مجال المعاملات والعلاقات الاجتماعية. وإذا كان مصطلح «الشريعة» يُستخدم أحيانًا ليدل على مجمل النظام الديني الإسلامي الجامع بين العقيدة والقوانين، فإننا هنا لا نستخدمه بهذا المعنى. والحديث عن «الشريعة» في السياق الإسلامي بهذا المعنى المحدد يحيل إلى القوانين والتشريعات الخاصة التي تميز «الإسلام» عن غيره من الأديان. فإذا كانت الأديان جميعًا تلتقي في محتوى «العقيدة»، وهي الإيمان بالله وباليوم الآخر، أي بالثواب والعقاب اللذَين بدونهما لا يتحقق العدل، فإنها تتمايز من حيث شرائعها وأحكامها. من هنا نلمس حرص القرآن الكريم على إبراز هذين الجانبين: وحدة العقيدة في الأديان من جهة، واختلاف الشرائع حسب خصوصية الزمان والمكان من جهة أخرى.

عن وحدة الدين يمكن الاستشهاد بالنصوص القرآنية التالية:

  • (١)
    شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (الشورى ٤٢: ١٣).
  • (٢)
    إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة ٢: ٦٢).
  • (٣)
    إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (المائدة ٥: ٦٩).

نلاحظ هنا أن القرآن يضع معيارًا للدين يتمثل في «الإيمان» بالله وباليوم الآخر من جهة، وفي «العمل الصالح» من جهة أخرى. وَفق هذا المعيار العام يكون الخلاص بالمعنى العام الدنيوي والأخروي على السواء: انعدام الخوف وغياب الحزن، أو بعبارة أخرى تَحقُّق الأمن وحضور البهجة والمسرة. وهذا المعيار يستوعب كل الأديان من يهودية ومسيحية بالإضافة إلى الصابئة. هذا الدين العام الشامل هو «الإسلام» بالمعنى اللغوي؛ أي التوجه الكامل لله مع «الإحسان» في الفعل والسلوك. وردًّا على تعصب أهل الأديان السابقة على الإسلام ضد المسلمين الأوائل وزعمهم أن الجنة لن يدخلها إلا اليهود والنصارى يقول القرآن: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة ٢: ١١٢).

تتسع دائرة الخلاص الديني وَفقًا لهذا المفهوم العام الشامل للإسلام لتشمل أصحاب الأديان جميعًا بلا تمييز أو تفرقة. لهذا يجب ألا نستغرب أن كل الأنبياء بلا استثناء يوصفون في القرآن بأنهم مسلمون (انظر على سبيل المثال لا الحصر السور والآيات: «٦: ١٦٣»، «٧: ١٤٣»، «١٠: ٧٢، ٨٤، ٩٠»، «٢٧: ٣١، ٣٨، ٤٢، ٩١»، «٣٩: ١٢»، «٤٦: ١٥»). ولكي يزيل الإسلام أي احتمال للتعصب يؤكد أن الفصل بين أصحاب العقائد، بما فيهم «المجوس» — عبدة النار — و«المشركون» — عبدة الأوثان — يجب أن يُترك لله سبحانه، حيث يكون الحكم له وحده يوم القيامة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (الحج ٢٢: ١٧).

في مقابل وحدة «الدين» تختلف الشرائع، فلكل جماعة دينية جعل الله «شرعةً ومنهاجًا»، وكانت المشيئة الإلهية قد اقتضت ألا يكون الناس أمة واحدة (المائدة ٥: ٤٨)، الأمر الذي يقتضي أن يعمل اليهود بشريعتهم ويعمل النصارى بشريعتهم ويعمل المسلمون بشريعتهم. على هدي هذه المبادئ القرآنية ينتج ابن عربي خطابه. وقد سبق أن حللنا في الفصل الثاني كيف يحلل ابن عربي «الشرك» ليرده إلى منطق «الإيمان»، وكيف يحلل مفهوم «الكفر» ليكشف عن بنيته الأعمق في الشعور الإنساني.

(١) اختلاف الشرائع ووحدة التجرِبة الروحية

ويهمنا هنا قبل الدخول إلى تأويله للشريعة أن نشير إلى أنه يَفصِل بين التجرِبة الروحية وبين الإيمان بالشرائع، أو العمل بها. ينطلق ابن عربي في هذا التمييز من فهمه لوحدة التجرِبة الدينية رغم اختلاف الوسائل والأدوات وأساليب الرياضة والمجاهدة الروحية. هذا بالإضافة إلى احترامه، الذي ما يفتأ يعبر عنه في كثير من السياقات، للرهبنة على أساس أن الرهبان النصارى ينتمون إلى صنف العارفين الذين هم على بينة من أمرهم، رغم اعتمادهم على شرائع منسوخة:

«قد ثبت عندنا أن النبي نهى عن قتل الرهبان الذين اعتزلوا الخلق وانفردوا بربهم، فقال: ذروهم وما انقطعوا إليه فأتى بلفظٍ مجملٍ، ولم يأمرنا بأن ندعوهم؛ لعلمه أنهم على بينة من ربهم. وقد أُمِر بالتبليغ، وأُمِرنا أن يبلغ الشاهدُ الغائب. فلولا ما علم رسول الله أن الله يتولى تعليمهم مثل تولي تعليم الخضر وغيره، ما كان كلامه هذا ولا أقره على شرع منسوخ عنده في هذه الملة» (الفتوحات ١: ٢٥١).

وعلاوة على ذلك يمكن أن تقوم المجاهدات الروحية على غير شريعة منزَّلة، وتظل رغم ذلك مجاهدات مشروعة قادرة على إنجاز درجات من العرفان ربما تكون أقل من تلك المجاهدات المبنية على إيمان بالشرائع المنزلة والعمل بما تشرعه. «ولما كان من لا يؤمن بالشرائع المنزَّلة يشاركنا في الرياضة والمجاهدة وتخليص النفس من حكم الطبيعة، ويظهر عليه الاتصال بالأرواح الطاهرة الزكية، ويظهر حكم ذلك الاتصال عليه مثل ما يظهر على المؤمنين العاملين منا هذه الأعمال بحكم الشرائع المنزلة، وقع التشبيه والاشتراك بيننا وبينهم في هذا القدر عند عامة الناس. ولما تعلقوا بالعلوم التي يعطيها كشف الرياضة وإمداد الأرواح العلوية انتقش في هذه النفوس الفاضلة جميع ما في العالم فنطقوا بالغيوب» (الفتوحات ١: ١٨٠).

لكن الاشتراك في بعض نتائج التجرِبة الروحية الناتجة عن الرياضات النفسية والجسدية، لا يعني عدم الفصل والتمييز بين التجارِب المبنية على أساس شرعي وبين تلك المؤسسة على معرفة عقلية. يكاد هذا التمييز يكشف عن محاولات المتصوفة المسلمين ردع سهام الهجوم التي تتهمهم إما باتباع تقاليد غريبة على الإسلام (الرهبنة المسيحية) أو بالسير على خطى فلاسفة «الإشراق» مثل «ابن سينا» و«السُّهْرَوَرْدي» على سبيل المثال.١ يحاول المتصوفة في دفاعهم عن «إسلامية» تجارِبهم أن يؤكدوا دائمًا التمييز بين تجارِبهم الروحية — المبنية على الكتاب (القرآن الكريم) والسنة النبوية — وبين تجارِب غيرهم من العارفين سواء كانوا رهبانًا مسيحيين أم فلاسفةً عقليين. من اللافت للنظر أن المتصوفة لا يُدينون أي تجرِبة روحية ولا يقللون من شأنها.

يستشهد ابن عربي بالجُنَيْد شارحًا مغزى ما يقول: «قال الجنيد: عِلمنا هذا وإن وقع فيه الاشتراك بيننا وبين العقلاء، فأصل رياضتنا ومجاهداتنا وجميع أعمالنا التي أعطتنا هذه العلومَ والآثارَ الظاهرة علينا إنما كان من عملنا بالكتاب والسنة؛ فهذا معنى قوله: «عِلمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة». ونتميز يوم القيامة عن أولئك بهذا القدر؛ فإنهم ليس لهم في الإلهيات ذوق؛ فإن فيضهم روحانيٌّ وفيضَنا روحاني إلهي، لكوننا سلكنا على طريقة إلهية تُسمى شريعة، فأوصلتنا إلى المشرع وهو الله تعالى؛ لأنه جعلها طريقًا إليه، فاعلم ذلك» (السابق نفسه). هذا التمييز بين الفيض «الروحاني» فقط، والمتاح لكل البشر بصرف النظر عن العمل بالشرائع أو الارتباط بعقيدة بعينها، وبين الفيض «الروحاني الإلهي» المختص بالعاملين بالشريعة المحمدية يبدو تمييزًا هامًّا للدفاع عن التجرِبة الصوفية من منظور إسلامي.

(٢) الشريعة، الظاهر والباطن

يؤسس ابن عربي باطن الشريعة على أساس أنه انعكاس لباطن الوجود، فكما أن للوجود ظاهرًا وباطنًا، وكما أن للإنسان كذلك ظاهرًا وباطنًا، فالخطاب الإلهي يتضمن بالضرورة هذين الجانبين: الظاهر والباطن. ومن المنطقي إذن أن يكون للشريعة ظاهر وباطن؛ فالشريعة تظل في النهاية بنية تعبيرية لغوية تاريخية متغيرة من حيث الظاهر، لكنها ثابتة من حيث الباطن. وليس من المعقول، فيما يرى الشيخ، أن يكون الله سبحانه في خطابه إلى البشر قصد مخاطبة ظاهرهم دون باطنهم. وإذا كان عامة الناس قد شغلهم أمر معرفة الأحكام الشرعية وأمر تطبيقها على ظواهرهم، فإن «أهل الله» — والشيخ يعني المتصوفة العارفين، وهم قليل — أدركوا أن للأحكام الشرعية نسبةً إلى باطنهم كما أن لها نسبةً إلى ظاهرهم. ولأنهم لا يُغلِّبون الظاهر على الباطن ولا الباطن على الظاهر فقد بحثوا عن أحكام الشريعة الباطنة ليجمعوا بين الطرفين معًا: الظاهر والباطن.

من الواضح أن الشيخ الأكبر يميز هنا بين «أهل الظاهر» من العامة والفقهاء من جهة وبين «الباطنية» من جهة أخرى. أما «أهل الظاهر» فهم أولئك الذين يعتبرون أن مجرد أداء الشعائر وتنفيذ الأحكام الشرعية هو غاية المراد دون اعتبار للمغزى الروحي العميق الكائن وراءها. و«الباطنية» يمثلون الطرَف الآخر، وهم الذين يقفون عند المغزى الباطني والروحي العميق للشريعة منفصلًا عن ظاهرها. بين الطرفين يقف «عباد الله» الذين لا ينكرون الظواهر، ولكنهم لا يتوقفون عندها بقدر ما يتخذونها وسيلة للنفاذ إلى الباطن الروحي العميق.

هذا بالإضافة إلى أن «أهل الله» يتميزون عن الطرفين — أهل الظاهر والباطنية — بقدرتهم على الوصول إلى أحكام الشريعة من مصدرها الأصلي مباشرة دون وسائط «الرواة» و«الناقلين»، وهذا هو الفارق بين «طريق أهل الله» و«طريق الفقهاء والمحدِّثين» وهم في مصطلح ابن عربي «علماء الرسوم». يقول بصدد هذا التمييز: «أخذنا كثيرًا من أحكام محمد المقررة في شرعه عند علماء الرسوم، وما كان عندنا منها شيء، فأخذناها من هذا الطريق (الذوق) ووجدناها عند علماء الرسوم كما هي عندنا. ومن تلك الطريق نصحح الأحاديث النبوية، ونردها أيضًا إذا علمنا أنها واهية الطرق غير صحيحة. لهذا قرر الشارع حكم المجتهد وإن أخطأ. ولكن أهل الطريق لا يأخذون إلا بما حكم به رسول الله . وهذا الوصي من الأفراد وطريقه في مآخذ العلوم طريق الخضر صاحب موسى، فهو على شرعنا وإن اختلف الطريق الموصل إلى العلم الصحيح» (الفتوحات ١: ٢٥١).

ومعنى هذا أن «أهل الله» لا يتميزون فقط بجمعهم بين «الظاهر» «والباطن»، بل إنهم بالإضافة إلى ذلك — أو بالأحرى بسبب ذلك — قادرون على «تصحيح» الأحكام وتصويب طرق نقلها وتحملها، الأمر الذي يعطي للجمع بين «الظاهر» و«الباطن» بعدًا تركيبيًّا؛ فالباطن يصحح الظاهر، والظاهر الصحيح بدوره يجعل النفاذ إلى الباطن أقل صعوبة. لكن «أهل الله» لا يتخذون من قدرتهم تلك على تصويب الأحكام مبررًا للحكم على أهل الظاهر بالخطأ، ولا يصلون أبدًا إلى مستوى محاكمة من يختلف معهم وإدانته. وهم في ذلك يستندون إلى مبدأ «لكل مجتهد نصيب»، الذي يمثل عندهم قاعدة معرفية أصيلة في الشريعة ذاتها. ولعل هذا «التسامح» المؤسَّس على قاعدة شرعية هو ما يميز «أهل الله» عن غيرهم من علماء الرسوم الذين يسارعون بتكفير من يخالفهم، خاصة من علماء الصوفية.

إن هذا الخلاف بين «أهل الله» وبين الفقهاء من علماء الرسوم قد يصل أحيانًا إلى حد «الصراع»؛ ذلك أن علماء الرسوم ما أسرع ما يحاكمون «أهل الله» فيحكمون عليهم بالكفر والمروق عن الدين والعقيدة. وكثيرًا ما يتعرض ابن عربي لهذا الاختلاف والصراع شاكيًا متألمًا، ولكنه في عمق خطابه يسعى إلى إبراز الفروق المعرفية بين «الطرفين»، فأهل الله تغمرهم الحيرة المعرفية والعجز عن ادعاء «اليقين»؛ إذ الحقيقة نفسها تتلون وتتشكل كما يتخذ «الماء» شكل الإناء الذي يوجد فيه ويتلون بلونه، رغم حقيقة أن «الماء» لا شكل له ولا لون. لكن الفقهاء من جانب آخر يزعمون امتلاكهم للحقيقة، ويتصورون أنفسهم حراسها والمدافعين عنها؛ ذلك أنهم لا يدركون ما يدركه «أهل الله» من سريان «التجليات الإلهية» في كل شيء ولا يدركون شيئًا من تغيرها وتبدلها في كل آن. إنهم لا يدركون «سر الخلق الجديد»، الذي يدركه «أهل الله» في بواطنهم. المشكل إذن يكمن في أن الوقوف عند الظاهر — موقف الفقهاء وعلماء الرسوم — يفضي إلى التعصب، بل يفضي إلى «الإرهاب» المعنوي والمادي. التاريخ الذي شهد محاكمات «الحلاج» و«السُّهْرَوَرْدي» يشهد على صحة ذلك. يقول الشيخ مميزًا بين «أهل الله» و«أهل الفكر» من جهة، وبينهم وبين خصومهم من علماء الرسوم معرفيًّا من جهة أخرى، كاشفًا عن خطورة التعصب المبني على ادعاء امتلاك الحقيقة: «أصحاب الأفكار ما برحوا بأفكارهم في الأكوان فلهم أن يحاروا ويعجزوا، وهؤلاء [أصحاب الحَيرة من أهل الله] ارتفعوا عن الأكوان وما بقي لهم شهود إلا فيه [في الله]؛ فهو مشهودهم. والأمر بهذه المثابة، فكانت حيرتهم باختلاف التجليات أشد من حيرة النُّظَّار [أهل النظر من الفلاسفة والمتكلمين على السواء] في معارضات الدلالات [يعني عند تعارض الأدلة]. فقوله ، أو قول من يقول من هذا المقام، «زدني فيك تحيرًا» طلبٌ لتوالي التجليات عليه. فهذا هو الفرق بين حَيرة أهل الله وحَيرة أهل النظر، فصاحب العقل يُنشد:

وفي كل شيء له آية
تدل على أنه الواحد

وصاحب التجلي يُنشد:

وفي كل شيء له آية
تدل على أنه عينه

فبينهما ما بين كلمتيهما. فما في الوجود إلا الله، ولا يعرف اللهَ إلا اللهُ. ومن هذه الحقيقة قال من قال: «أنا الله»، كأبي يزيد، و«سبحاني» كغيره من رجال الله المتقدمين، وهي من بعض تخريجات أقوالهم رضي الله عنهم. فمن وصل إلى الحَيرة من المقرَّبين فقد وصل. غير أن أصحابنا اليوم يجدون غاية الألم حيث لا يقدرون أن يرسلوا [من العبارات والأوصاف] ما ينبغي أن يُرسَل عليه سبحانه [منها] كما أرسلت الأنبياء عليهم السلام، فما أعظم تلك التجليات. وإنما منعهم أن يطلقوا عليه ما أطلقت الكتب المنزلة والرسل عليهم السلام عدم الإنصاف من السامعين من الفقهاء وأولي الأمر؛ لما يسارعون إليه من تكفير من يأتي بمثل ما جاءت به الأنبياء عليهم السلام في جنب الله، ويتركون قوله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لما قال له ربه عز وجل عند ذكره الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ فأغلق الفقهاء هذا الباب من أجل المدَّعين الكاذبين في دعواهم، ونِعم ما فعلوا، وما على الصادقين من هذا ضرر؛ لأن الكلام والعبارة عن مثل هذا ما هو ضربة لازب، وفيما ورد عن رسول الله في ذلك [من عبارات وأوصاف] كفاية لهم فيوردونها ويستريحون إليها من: تَعجُّب — وضحك — وتبشُّش — ونزول — ومعية — ومحبة — وشوق، وما أشبه ذلك مما لو انفرد بالعبارة عنه كُفِّر وربما قُتِل. وأكثر علماء الرسوم عَدِموا عِلم ذلك ذوقًا وشربًا؛ فأنكروا مثل هذا من العارفين حسدًا من عند أنفسهم، إذ لو استحال إطلاق مثل هذا على الله تعالى ما أطلقه على نفسه ولا أطلقته رسله عليه … وأكثر العامة تابعوا الفقهاء في هذا الإنكار تقليدًا لهم، لا بل بحمد الله أقلُّ العامة. وأما الملوك فالغالب عليهم عدم الوصول إلى مشاهدة هذه الحقائق لشغلهم بما دُفعوا إليه، فساعدوا علماء الرسوم فيما ذهبوا إليه إلا القليل منهم فإنهم اتهموا علماء الرسوم في ذلك؛ لِمَا رأوا من انكبابهم على حطام الدنيا وهم في غنى عنه، وحبِّ الجاه والرياسة وتمشية أغراض الملوك فيما لا يجوز. وبقي العلماء بالله تحت ذل العجز والحصر معهم كرسولٍ كذَّبه قومه وما آمن به واحدٌ منهم» (الفتوحات ١: ٣٠٣-٣٠٤).

إن الخطاب الإلهي للبشر، بما يتضمنه من شرائع وأحكام، لا يخاطب الظاهر دون الباطن من الإنسان. ولا يمكن تصور أن المطلوب مجرد الأداء الشكلي للشعائر والأحكام دون أن ينعكس هذا الأداء على «الباطن» الروحي، فتكتمل الدائرة التي تصل الظاهر والباطن، وتصل الإنسان بالوجود، وتعيد الإنسان إلى أصل وجوده الروحي العميق؛ أي إلى أصله الإلهي. يقول الشيخ: «إن الله خاطب الإنسان بجملته وما خص ظاهره من باطنه، ولا باطنه من ظاهره. فتوفرت دواعي الناس أكثرهم إلى معرفة أحكام الشرع في ظواهرهم وغفلوا عن الأحكام المشروعة في بواطنهم، إلا القليل وهم أهل طريق الله، فإنهم بحثوا في ذلك ظاهرًا وباطنًا. فما من حكم قرروه شرعًا في ظواهرهم إلا ورأَوا أن ذلك الحكم له نسبة إلى بواطنهم. أخذوا على ذلك جميع أحكام الشرائع فعبدوا الله بما شرع لهم ظاهرًا وباطنًا ففازوا حين خسر الأكثرون. ونبغت طائفة ثالثة ضلت وأضلت فأخذت الأحكام الشرعية وصرفتها في بواطنهم، وما تركت من حكم الشريعة في الظاهر شيئًا، تسمى «الباطنية» وهم في ذلك على مذاهب مختلفة. وقد ذكر الإمام أبو حامد في كتاب المستظهِر له في الرد عليهم شيئًا من مذاهبهم وبيَّن خطأهم فيه. والسعادة كل السعادة مع الطائفة التي جمعت بين الظاهر والباطن وهم العلماء بالله وبأحكامه» (الفتوحات ١: ٣٧٢-٣٧٣).

ولعل في نقد الشيخ للباطنية — الطرف الآخر لأهل الظاهر من الفقهاء وعلماء الرسوم — وإحالته إلى كتاب «أبي حامد الغزالي» المعروف لنا باسم «الرد على الباطنية» حسب الطبعة التي حققها «عبد الرحمن بدوي» — ما ينهض دليلًا حاسمًا للرد على الباحثين الذين يزعمون أن الشيخ يعلن تمسكه بالظاهر على سبيل «التَّقِيَّة» لا غير. إن «الظاهر» و«الباطن» ليسا مجرد وجهين لعملة واحدة، بل هما حقيقتان مستمدتان من حقائق الألوهية ومن الأسماء الإلهية الواردة في القرآن: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وهذا الدليل القرآني حاضر دائمًا في خطاب ابن عربي، يكاد يتكرر في كل صفحة من صفحات الفتوحات. وعلى ذلك فالحرص على الكشف عن المعاني والدلالات «الباطنة» للشرائع والأحكام لا يمكن اعتباره إهدارًا للظواهر، فلا باطن بلا ظاهر، ولا ظاهر إلا ووراءه باطن روحي عميق. إن التصور الدائري للوجود عند ابن عربي يجعل الظاهر والباطن تجليات لحقيقة واحدة. هذه الحقيقة يمكن أن تتمثل هندسيًّا في العلاقة بين محيط الدائرة ومركزها، فكل نقطة يمكن تخيلها من نقاط المحيط تواجه نقطة المركز بذاتها. وهكذا دائرة الوجود؛ فكل موجود روحي أو حسي ينظر إلى مُوجِده مباشرة؛ أي يدرك أصله ومنشأه. بعبارة أخرى: كل ظاهر في الوجود يدرك باطنه.

(٣) الشريعة، ميزان اعتدال الكون

يمثل مفهوم «الشريعة» «الميزان» الذي على أساسه يعتدل نظام الكون، وبدون وجود هذا الميزان يُخشَى على نظام الكون أن يعتوره الاختلال. إن الأسماء الإلهية التي توجهت على إظهار أعيان الممكنات من حالة العدم تتضمن في طبيعتها وفي دلالتها عناصر الاختلاف، التي انعكست بدورها — عناصر الاختلاف — في بنية الوجود الظاهر. وهذا الاختلاف من شأنه أن يفضي للنزاع، الأمر الذي يهدد نظام الكون بالاختلال. هذا هو الذي يؤسس الحاجة إلى «تشريع» ينظم العلاقات ويضبط الأمور. يواصل ابن عربي في تصويره السردي، الذي سبق أن حللنا بعضه في الفصل السابق، قائلًا إن أعيان الممكنات توجهت مرة أخرى بالرجاء للأسماء الإلهية معبرة عن خوفها من أن يكون لهذا الاختلاف تأثير سلبي على ظهورهم؛ بمعنى أنهم قد يجدون أنفسهم مرة أخرى في حالة «الوجود العدمي» الذي أخرجتهم الأسماء الإلهية منه. ومن الطبيعي أن تُحِس الأسماء الإلهية نفس الخطر وتستشعره على وجودها؛ فعودة الممكنات إلى حالتها السابقة من «الوجود العدمي» يعني ذَهاب سلطان الأسماء الإلهية، أي تهديد حالة ظهورها هي الأخرى والعودة بها إلى حالة «البطون» في الذات الإلهية، التي هي في «عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء». هكذا نطقت الممكنات مخاطِبةً الأسماء الإلهية معبرةً عن مخاوفها:

«أنتم أيها الأسماء لو كان حكمكم على ميزانٍ معلومٍ وحَدٍّ مرسومٍ بإمامٍ ترجعون إليه، يحفظ علينا وجودنا، ونحفظ عليكم تأثيراتكم فينا، لكان أصلح لنا ولكم. فلجأت «الأعيان» [أعيان الأسماء الإلهية] إلى الاسم «الله»، الذي حوَّلهم إلى الاسم [الإلهي] «المدبِّر»، فقام بأمر الحق بمخاطبة الاسم [الإلهي] «الرب» قائلًا له: افعل ما تقتضيه المصلحة في بقاء أعيان هذه الممكنات. وهكذا قام الاسم [الإلهي] «الرب» بوصفه الاسم «الإمام» باتخاذ الاسم [الإلهي] «المدبِّر» وزيرًا أول، والاسم [الإلهي] «المفصِّل» وزيرًا ثانيًا يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ فحَدَّ الاسم [الإلهي] «الرب» لهم ووضع لهم المراسم لإصلاح المملكة [وليبلوهم أيهم أحسن عملًا] وجعل الله ذلك على قسمين: السياسة الحِكَمِية (النواميس) وهي عن إلهام من الله ولكن واضعيها لا يشعرون، والسياسة الشرعية.» (الفتوحات ١: ٣٦٠-٣٦١)

هذا هو الميزان الكوني الشامل «التشريع»، لكنه ككل مرتبة في نسق ابن عربي الفكري «ميزان» له جانبان: الثابت والمتغير، أو «الباطن» و«الظاهر»، فهناك الثابت الذي اتفقت عليه كل الشرائع المنزلة من عند الله، وهناك متغيرات الزمان والمكان، كما تعبر عنها الشرائع في تتاليها الزماني الخطي. يقول الشيخ: «تتابعت الرسل على اختلاف الأزمان واختلاف الأحوال، وكل واحد منهم يصدق صاحبه. وما اختلفوا قط في الأصول التي استندوا إليها وعبروا عنها، وإن اختلفت الأحكام. فتنزلت الشرائع ونزلت الأحكام، وكان الحكم بحسب الزمان والحال. قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا فاتفقت أصولهم من غير خلاف في شيء من ذلك. وفرقوا بين هذه السياسات النبوية المشروعة من عند الله وبين ما وضعت الحكماء من السياسات الحِكَمية التي اقتضاها نظرهم، وعلموا أن هذا الأمر أتم وأنه من عند الله بلا شك» (الفتوحات ١: ٣٦٢).

اختلاف الشرائع هو إذن مجرد اختلاف في التفاصيل والأحكام دون الأصول، بل يذهب ابن عربي إلى القول بأن الشرائع الوضعية — السياسات والقوانين — هي في حقيقتها إلهام من الله. وكيف يوجد في الوجود ما لا يتعلق باسم إلهي، علم ذلك من علمه وجهله من جهله؟ إن الشرائع والسياسات والقوانين التي يظن المفكرون والفلاسفة أنها نتيجة نظرهم وفكرهم هي في باطنها وحقيقتها إلهام إلهي. هل نفترض أن اختلاف الشرائع — الوضعية والنبوية — اختلاف في التفاصيل والأحكام دون الأصول؟ لا أعتقد أن ابن عربي يمكن أن يعترض على هذا الاستنتاج، خاصة إذا كنا لا ننازعه الزعم بأن الشرائع النبوية أكمل وأتم. لكن في جميع الأحوال لا بد من تفسير اختلاف الشرائع، سواء كانت نبوية أو وضعية، باختلاف بنية الوجود لاختلاف الأسماء الإلهية في دلالتها. أليس هذا الاختلاف ذاته هو الذي أسس الحاجة للتشريع المنظم؟

مرة أخرى يضعنا ابن عربي داخل دائرة الوجود، أو بالأحرى يجوب بنا على سطح محيطها، حيث لا يهم من أي نقطة تبدأ السياحة لأن النهاية ستعيدك إلى نقطة البدء، فيكون السبب علة ومعلولًا في الوقت نفسه، وتكون «النتيجة» مقدمة و«المقدمة» نتيجة كذلك، بلا تعارض. من الممكن أن يقال:

  • (١)
    إنما اختلفت الشرائع لاختلاف النسب الإلهية: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا … لو كانت النسبة واحدة من كل وجه، وهي الموجبة للتشريع الخاص، لكان التشريع واحدًا من كل وجه.
  • (٢)
    إنما اختلفت النسب الإلهية لاختلاف الأحوال كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ فظهرت هذه النسب لاختلاف أحوال الخلق (ويصح عكس القضية فيقال اختلفت أحوال الخلق لاختلاف النسب الإلهية، ولا فرق).
  • (٣)

    إنما اختلفت الأحوال لاختلاف الأزمان، واختلاف أحوال الخلق سببه اختلاف الأزمان عليها.

  • (٤)

    إنما اختلفت الأزمان لاختلاف الحركات، والمقصود بالحركات الحركات الفلكية؛ فإنه لاختلاف حركاتها حدث زمان الليل والنهار وتعينت الشهور والسنون.

  • (٥)
    إنما اختلفت الحركات لاختلاف التوجهات، التوجهات هي توجه الحق عليها (الأفلاك) بالإيجاد لقوله تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فلو كان التوجه واحدًا عليها لما اختلفت الحركات، وهي مختلفة. قال تعالى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ فلكل حركة توجه إلهي، أي تعلق خاص من كونه مريدًا.
  • (٦)

    إنما اختلفت التوجهات لاختلاف المقاصد، فلو كان قصد الحركة القمرية بذلك التوجه عين قصد الحركة الشمسية بذلك التوجه لم يتميز أثر عن أثر. والآثار لا شك مختلفة، فالتوجهات مختلفة لاختلاف المقاصد.

  • (٧)

    إنما اختلفت المقاصد لاختلاف التجليات، لو كانت التجليات في صورة واحدة من جميع الوجوه لم يصح أن يكون سوى قصد واحد. وقد ثبت اختلاف المقاصد … فإن الاتساع الإلهي يقضي ألا يتكرر شيء في الوجود. وهو الذي عوَّلت عليه الطائفة، والناس «في لبس من خلق جديد». يقول أبو طالب المكي في «قوت القلوب»: إن الله ما تجلى قط في صورة واحدة لشخصين، ولا في صورة واحدة مرتين.

  • (٨)

    إنما اختلفت التجليات لاختلاف الشرائع؛ فإن كل شريعة طريق موصلة إليه، وهي مختلفة، فلا بد أن تختلف التجليات كما تختلف العطايا (الفتوحات ١: ٢٩٥-٢٩٦) (انظر أيضًا: الفصوص، الفص الثاني عن العطايا الذاتية والعطايا الأسمائية).

(٤) الشريعة: الأصول والمنابع

لا ينفصل تأويل الشريعة عند ابن عربي عن نسقه الفلسفي العام، أعني عن تصوراته للوجود وللإنسان وللمعرفة. ولهذا يجب ألا يعجب القارئ أن يحيلنا «تأويل الشريعة» — مرة أخرى — إلى فلسفة ابن عربي الشاملة في الله والوجود والإنسان والمعرفة … إلخ. إن مفهوم «الشريعة»، كما سنرى، له ثلاثة أبعاد شأنه شأن كل مفردات فكر ابن عربي: البعد الأُنطولوجي (الوجودي)، والبعد الإبستمولوجي (المعرفي) والبعد الأنثروبولوجي (الإنساني). لكن كل بعد من هذه الأبعاد الثلاثة يتضمن في النسق الدائري لفكر ابن عربي البعدين الآخرين؛ ومرة أخرى يتحير الباحث بأي الأبعاد يبدأ عرضه وتحليله.

من حيث البعد الأُنطولوجي لنقرأ كيف ينظر الشيخ إلى «أصول الشريعة» أو منابعها — وهي الأصول الأربعة كما صاغها علماء الأصول بدءًا من الشافعي وتحددت في «القرآن» مصدرًا أول، و«السنة النبوية» مصدرًا ثانيًا، يليه «الإجماع» ثم الاجتهاد وَفقًا لقانون «القياس» — لنرى كيف يربط بينها وبين رباعية الوجود في بعده العام من جهة، وبين القواعد الرباعية الفرعية على مستوى الوجود الطبيعي من جهة أخرى. وقد سبق أن بينا في الفصل السابق كيف يصنف الشيخ مراتب الوجود بدءًا من مستوى البرزخ الأعلى — أو برزخ البرازخ — حتى عالم الكون والفساد، أو عالم ما تحت فلك القمر، على أساس رباعي. وكما يقيم ابن عربي الوجود على أساس نظرية النكاح والتوالد ينظر إلى «أصول الشريعة» الأربعة كذلك على أساس أنها تنبني على أصلين فاعلين وأصلين منفعلين. يقول:

«قال الجنيد: «عِلمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة»، وهما الأصلان الفاعلان، والإجماع والقياس إنما يَثبتان وتصح دلالتهما بالكتاب والسنة، فهما أصلان في الحكم منفعلان. فظهرت عن هذه الأربع الحقائق نشأةُ الأحكام المشروعة التي بالعمل بها تكون السعادة؛ فإن الموجودات ظهرت عن أربع حقائق إلهية وهي: الحياة والعلم والقدرة والإرادة؛ والأجسام ظهرت عن أربع حقائق: حرارة وبرودة ويبوسة ورطوبة [حيث الحرارة والبرودة فاعلان، واليبوسة والرطوبة منفعلان أيضًا]. والمولَّدات ظهرت عن أربعة أخلاط: صفراء وسوداء ودم وبلغم.» (الفتوحات ٢: ١٨٠)

(أ) الكتاب

في مناقشته للأصول الأربعة يضيف ابن عربي لإنجازات علماء الأصول بعدًا عرفانيًّا؛ فالكتاب — مثلًا — ليس مجرد كلام الله المنزل على محمد باللغة العربية منجَّمًا، بل هو بالإضافة إلى ذلك يتضمن سرَّ ما يمنحه الله للعبد بلا واسطة: ما يكتبه الله في نفس العبد وما يوحي به إليه في قلبه، وما يتلفظ به على لسانه. فإلى جانب التشريعات النصية — أي المنصوص عليها في القرآن — هناك التشريعات القلبية «كما قال تعالى: كتب في قلوبهم الإيمان؛ فهي كتابة الله، وهو قول الشارع : دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك. وقوله: استفْتِ قلبك وإن أفتاك المُفْتون» (الفتوحات ٢: ١٨٤). وكأن الشيخ يقول إن قلب المؤمن «كتاب» له قدرة على التشريع بحكم ما كتب الله فيه من «إيمان» من جهة، وبحكم توجيه النبي للمؤمن أن يستفتي قلبه، أي أناه الداخلية، قبل أن يستفتي المُفْتين، بل وبرغم فتوى المفتين، من جهة أخرى. هكذا يضيف ابن عربي لأصول الشريعة قلب المؤمن في موازاةٍ للكتاب، أليس «الإنسان» في النهاية صورة الله؟ وأليس المؤمن هو صورة «الكمال الإلهي»؟ «فهو (الله سبحانه وتعالى) المؤمن وقد كتب في قلب عبده الإيمان؛ فأوجب له حكمًا سُمِّيَ به مؤمنًا. وليس الاسم غير المسمَّى؛ فهو الظاهر في عين الممكن، والممكن له مُظهِر. وكل ظاهر في مُظهِر فقد انضم الظاهرُ إلى المُظهِر وانضم المُظهِر إلى الظاهر، ولهذا صح أن يكون مُظهِرًا للظاهر فيه، فهذا سر الأخذ بالكتاب (قلب المؤمن) دليلًا على ثبوت الحكم» (المرجع السابق).

وابن عربي لا يمل من تأكيد بُعد «التقوى» مشيرًا بطريقة ضمنية إلى «قلب المؤمن» ودوره التشريعي على النحو التالي: «قال تعالى: وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وقال: إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وقال: اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ مثل قوله في عبده خَضِر: آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا فجعل إعطاءَ اللهِ العلمَ عبدَه من رحمته. والتقوى عمل مشروع لنا فلا بد أن تكون التقوى نسبة حكمه إلى دليل من هذه الأدلة أو كلها في أي مسألة يلزمنا فيها تقوى الله» (الفتوحات ٢: ١٨٠). هذا عن الأصل الأول — الكتاب — فما هو سر الأصل الثاني من أصول الشريعة، السنة النبوية؟

(ب) السنة النبوية

السنة في تعريف الأصوليين هي أقوال النبي وأفعاله وتقريراته؛ أي إقراره لفعل من الأفعال وعدم اعتراضه على فاعله. لكن سر «السنة» في تحليل ابن عربي يعود بها إلى المعنى اللغوي الأصلي «الطريق» أو «الصراط». ولأن هناك طريقين؛ «لأن الأمر محصور بين رب وعبد فللرب طريق وللعبد طريق» (الفتوحات ٣: ١٦٥). والرب طريقه النزول في أوصاف الخلق، وطريق العبد الصعود للاتصاف بأوصاف الحق، فإن «السنة» هي طريق العبد للوصول للرب، في حين أن «الكتاب» هو طريق نزول الرب إلى العبد. ولما كان محمد هو سر «الكلمة» و«الحقيقة»، بالإضافة إلى «أنه لا ينطق عن الهوى وأن حكمه حكم الله وهو ناقل عن الله ومبلِّغ عنه بما أراه الله» فإن سنته هي الطريق إلى الله «والطريق لا يراد لنفسه وإنما يراد لغايته» (الفتوحات ٢: ١٨٤).

هكذا إذا كان «الكتاب» طريق الرب إلى العبد فإن «السنة» هي طريق العبد إلى الرب، فيلتقي الطريقان؛ لأنهما اثنان في الظاهر فقط، أما من حيث الحقيقة فهما طريق واحد: «والسنة صراط اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ لأنها — الأمور — على صراطه، وهو غاية صراطه فلا بد للسالك عليه من الوصول إليه، فالصراط الواسطة. وبواسطة استعداد المُظهِر بما هو عليه في نفسه حكم على الظاهر بما سُمِّي به؛ فهو أعطاه ذلك الاسم وذلك الحكم صحيح فهذا صراط مستقيم … فهذا سر استدلاله بالسنة» (المرجع السابق).

(ﺟ) الإجماع

أما «الإجماع» وهو الأصل الثالث من أصول الشريعة فله بالمثل جانبان: الإجماع بالمعنى الذي يناقشه الفقهاء وعلماء الأصول؛ أي المعنى العرفي الظاهر. والإجماع بالمعنى الصوفي، وهو طريق «الجمع» بين العبد والرب. وكما تتأسس حجية الإجماع ومشروعيته عند الأصوليين من الفقهاء على كل من «الكتاب» و«السنة» فإن طريق «الجمع» — أو «الإجماع» بالمعنى الصوفي — هو مجمع الطريقين السالفين: طريق الرب إلى العبد — الكتاب — وطريق العبد إلى الرب بالسنة. في المعنى الأول للإجماع يقرر الشيخ تفصيلًا أن مكانة الإجماع تأتي بعد الكتاب والسنة وتستند على أدلتهما في الوقت نفسه: «اعلم أن أحكام الشرع المتفق عليها ثلاثة: الكتاب والسنة المتواترة والإجماع. واختلف العلماء في القياس، فمِن قائلٍ بأنه دليل وأنه من أصول الأحكام، ومِن قائلٍ بمنعه، وبه [المنع] أقول٢ … القرآن أقوى دليل يُستنَد إليه، أو ما صح عن رسول الله ، الذي قام الدليل العقلي على صدقه في أنه مخبر عن الله جميع ما شرعه في عبيد الله. وقد يكون الخبر إما بإجماع من الصحابة وهو الإجماع، أو من بعضهم بنقل العدل عن العدل، وهو خبر الواحد، وبأي طريق وصل إلينا فنحن متعبَّدون بالعمل به بلا خلاف بين علماء الرسوم. ولهذا يقول أهل الأصول في الإجماع إنه لا بد أن يستند إلى نص وإن لم يُنطَق به» (المرجع السابق).

جدير بالملاحظة أن «ابن عربي» يحصر مفهوم «الإجماع» في جيل الصحابة فقط باعتبار أن إجماعهم على أمر من الأمور لا بد أن يكون مبنيًّا على نص قولي أو فعلي من سنة النبي، حتى لو لم يكن النص مرويًّا. وهو بهذا الحصر لا يقول بإجماع العلماء أو الفقهاء، وكيف يقول بحجية إجماعهم وهو لا يفتأ يطلق عليهم اسم «علماء الرسوم»، ولا يكف عن نقد منهجهم التكفيري، خاصة حين يتصل الأمر بمعارف الذوق والكشف. ومن جهة أخرى من الصعب أن يتقبل ابن عربي حجية إجماع الفقهاء، وهو صاحب نظرية قدرة العارف على الاتصال بمصدر التشريع اتصالًا مباشرًا، وقدرته من ثَم على تصحيح الروايات الضعيفة أو تضعيف الروايات التي حصل تلقِّيها على أنها صحيحة كما سنرى عما قليل. كان هذا النقاش عن الإجماع بمعناه الفقهي، أما سر الإجماع فهو: «ما أجمع عليه الرب والمربوب في أن الله خالق والعبد مخلوق. وهكذا كل إضافة فلا خلاف بين الله وبين عباده في مسائل الإضافة أينما وُجِدَت، وكذلك في المعلومات من حيث هي معلومات» (الفتوحات ٢: ١٨٤).

(د) القياس

ثمة خلاف حول حجية القياس كأداة للاجتهاد في تحديد حكم الشريعة في أمور لم ينزل فيها نص قرآني ولم يُروَ فيها سنة عن النبي أو إجماعٌ بين الصحابة؛ فقد رفضت «الظاهرية» — وتابعهم ابن عربي في هذا الرفض — أن يكون «القياس» أصلًا من أصول الشريعة. يقول: «القياس ممن ليس بنبيٍّ حكمٌ على الله في دين الله بما لا يُعلم؛ فإنه [القياس] طرد علة، وما يدريك لعل الله لا يريد طرد تلك العلة، ولو أرادها لأبان عنها على لسان رسول الله وأمر بطردها. هذا إذا كانت العلة مما نص الشرع عليها في قضية، فما ظنك بالعلة يستخرجها الفقيه بفقهه ونظره من غير أن يذكرها الشرع بنص معين فيها، ثم بعد استنباطه إياها يطردها، فهذا تحكم بشرع الله لم يأذن به الله» (الفتوحات ٣: ٣٧٥).

لكن الفارق بين فقهاء «الظاهرية» وبين ابن عربي أنهم يحرمون القياس تحريمًا تامًّا، بينما يكتفي ابن عربي بعدم الأخذ به، دون أن يخطِّئ الآخذين به. يقول: «وأما القياس فمختلَف في اتخاذه دليلًا وأصلًا؛ فإن له وجهًا في المعقول: ففي مواضع تظهر قوة الأخذ به على تركه، وفي مواضع لا يظهر ذلك. ومع هذا فما هو دليل مقطوع به؛ فأشبه خبر الآحاد، فإن الاتفاق على الأخذ به مع كونه لا يفيد العلم، وهو أصل من أصول إثبات الأحكام. فليكن القياس مثله إذا كان جليًّا لا يُرتاب فيه. وعندنا — وإن لم نقُل به في خفيٍّ — فإني أجيز الحكم به لمن أداه اجتهاده إلى إثباته، أخطأ في ذلك أو أصاب، فإن الشارع أثبت حكم المجتهد وإن أخطأ، وأنه مأجور. فلولا أن المجتهد استند إلى دليل في إثبات القياس من كتاب أو سنة أو إجماع، أو من كل أصل منها، لما حل له أن يحكم به. بل ربما يكون، في حكم النظر عند المنصف، القياس الجلي أقوى في الدلالة على الحكم من خبر الواحد الصحيح» (الفتوحات ٢: ١٨٠-١٨١).

هكذا لا يتبنى ابن عربي مفهومًا ساكنًا ثابتًا للقياس يحاكم على أساسه المجتهدين، بل يترك باب الاجتهاد مفتوحًا بالقياس، رغم أنه لا يقول به. وبعد أن يشرح أبعاد الخلاف بين المختلفين، ويميز بين القياس الواضح الجلي وبين القياس الخفي الغامض، يؤكد أن العبرة بحق كل مجتهد أنه مكافأ ومثاب، أخطأ في اجتهاده أم أصاب، وأن هذه القاعدة تترك المجال مفتوحًا للمختلفَين ألا يخطِّئ أحدهما الآخر، فضلًا عن أن يصفه بالكفر والمخالفة لدين الله. ويبلغ دفاع ابن عربي عن «القياس»، رغم أنه لا يقول به ولا يتبنى العمل به، حدَّ إثباته إثباتًا عقليًّا؛ أي من خلال النظر العقلي الذي بسقوطه تنهد الشريعة ذاتها. في هذا السياق يبدو ابن عربي الناقد لعقلانية الفلاسفة والمتكلمين معًا أشبه بأحد المعتزِلة، بل أشبه بابن رشد، لكن علينا ألا ننسى أن السياق هو الذي تطلَّب من الشيخ أن يوجع أولئك الرافضين رفضًا تامًّا للقياس والمخطِّئين لكل مجتهد يعتمد عليه. وعلينا أيضًا ألا ننسى أن دفاعه المجيد عن «القياس» يتعلق بالقياس الجلي الواضح دون الخفي الغامض. يقول الشيخ:

«والقياس الجلي يشاركنا فيه النظر الصحيح العقلي، وقد كنا أثبتنا ما أثبتنا بالنظر العقلي الذي أُمرنا به شرعًا في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ وفي القرآن من قِبَل هذا كثير؛ فقد اعتبر الشارع حكم النظر العقلي في إثبات وجود الله أولًا، وهو الركن الأعظم، ثم اعتبره في توحيده وألوهيته؛ فكلَّفَنا النظرَ في أنه «لا إله إلا هو» بعقولنا. ثم نظرنا بالدليل العقلي ما يجب لهذا الإله من الأحكام، ثم نظرنا بالنظر العقلي الذي أُمرنا به في تصديق ما جاء به الرسول من عنده إذ كان بشرًا مثلنا، فنظرنا بالعقول في آياته وما نصَبه دليلًا على صدقه فأثبتناه. وهذه كلها أصول لو انْهَدَّ ركنٌ منها بطَلَت الشرائع ومستند ثبوتها النظر العقلي، واعتبره الشارع وأمر به. والقياس نظر عقلي: أتَرى الحق يبيحه في هذه الأمهات والأركان العظيمة ويحجره علينا في مسألة فرعية ما وجدنا لها ذكرًا في كتاب ولا سنة ولا إجماع، ونحن نقطع أنه لا بد فيه من حكم إلهي مشروع، وقد انسدت الطرق، فلجأنا إلى أصل، وهو النظر العقلي، واتخذنا قواعد إثبات هذا الأصل كتابًا وسنة، فنظرنا في ذلك فأثبتنا القياس أصلًا من أصول أدلة الأحكام بهذا القدر من النظر العقلي، حيث كان له حكم في الأصول فقِسنا مسكوتًا عنه على منطوق به، لعلة معقولة، لا يبعد أن تكون مقصودة للشارع تجمع بينهما في مواضع الضرورة إذ لم نجد فيه نصًّا معينًا. فهذا مذهبنا في هذه المسألة. وكل من خطَّأ عندي مُثبت القياس أصلًا، أو خطَّأ مجتهدًا في فرعٍ كان أو أصل، فقد أساء الأدب على الشارع، حيث أثبت حكمه، والشارع لا يُثبت الباطل، فلا بد أن يكون حقًّا. ويكون نسبة الخطأ إلى ذلك نسبة خطأ دليل المخالف، الذي لم يصح عند هذا المجتهد أن يكون ذلك دليلًا. والمخطئ في الشرع واحد لا بعينه؛ فلا بد من الأخذ بقوله، ومن قوله إثبات القياس، فقد أمر الشارع بالأخذ به وإن كان خطأً في نفس الأمر؛ فقد تعبده به، فإن للشارع أن يتعبد بما شاء عبادَه. وهذه طريقة انفردنا بها في علمنا مع أنَّا لا نقول بالقياس بالنظر إلينا، ونقوله بالنظر إلى من أداه إليه اجتهاده لكون الشارع أثبته. فلو أنصف المخالف لسكت عن النزاع في هذه المسألة؛ فإنها أوضح من أن ينازَع فيها، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل» (الفتوحات ٢: ١٨١).

من الضروري أن نتوقف هنا قليلًا لنتأمل دلالة هذا الدفاع الحار عن «القياس»؛ إذ من الواضح أن ابن عربي حين يقصر القياس على «الأنبياء»، ويمنع غيرهم منه، يقصد أنبياء التشريع وأنبياء العرفان؛ المتصوفة أصحاب النبوة المكتسبة (انظر الفتوحات ٢:  ٣-٤، ٤١٧-٤١٨ على سبيل المثال). الدليل على ذلك أن اكتشاف «علة» الحكم الشرعي المنصوص عليه، وطرد هذه العلة بحكمها على واقعة لم يرد فيها نص، يستلزم اتصالًا مباشرًا بالمشرع لا مجرد الاعتماد على النظر العقلي المجرد. بهذا التفسير يمكن أن نفهم حرص ابن عربي على الدفاع عن أدوات أخرى للاجتهاد إلى جانب «القياس»، مثل «الاستحسان» و«المصالح المرسلة». بل يصل ابن عربي في دفاعه عن «الاستحسان» إلى محاولة نفي إنكار الإمام الشافعي للاستحسان الذي كان أستاذه «مالك بن أنس» يأخذ به. في رأي الشافعي أن «الاستحسان» رأي يعتمد على الذوق الشخصي، وهو بذلك نوع من التشريع بالتشهي يعني مشاركة المشرع، وهو أمر يرقى إلى مستوى «الشرك» والعياذ بالله.

في رأي ابن عربي أن قول الشافعي: «من استحسن فقد شرَّع» قد فهمه الناس فهمًا خاطئا على غير مراد الإمام. ما يهمنا هنا ليس ادعاء ابن عربي بأنه الوحيد الذي فهم قصد الشافعي بقدر ما يهمنا ما يكشف عنه هذا الدفاع عن «الاستحسان» من حقيقة موقف ابن عربي من «القياس» خاصة، ومن قضية «الاجتهاد» بصفة عامة. يقول:

«والسنن طرق الاقتداء، وأعلاها الاقتداء بالحق حتى أكون في إطلاق أسمائه [أسماء الحق] عليَّ قريبًا من التحقق بها لا من التخلق. وأدناها [طرق الاقتداء] في حق الولي الاقتداء بالذين قال الله فيهم: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ. والعلماء ورثة الأنبياء، وما ورَّثوا إلا العلم. فالسنة النبوية عالية المقام، وهي الجمعية على الدين وإقامته، وألا يُتفرَّق فيه؛ فهي تعلو بمن يأتيها ويسلك فيها في الحضرات المحمدية إلى غايتها في المعارف والأحوال والتجلي. وأما السنن التي هي الشرائع المستحسنة بعد رسول الله وهو الاستحسان عند الفقهاء العلماء، الذي قال فيه الشافعي: «من استحسن فقد شرَّع»، فأخذها الفقهاء على جهة الذم، وهو — رضي الله عنه — أتى بحقيقة مشروعة لم تُفهَم عنه؛ فإنه كان من الأربعة الأوتاد، وكان قيامه بعلم الشرع حجبه عن أهل زمانه ومن بعده٣ … ولَمَّا صح عند الشافعي أن النبي قال: من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سن سنة سيئة … (الحديث)، فلا شك أن الشرع قد أباح له أن يسن سنة حسنة، وهي من جملة ما ورِث من الأنبياء، وهي حسنة أي استحسنها الحق فيه، وهو سنها، فمن استحسن أي سن سنة حسنة فقد شرَّع. ويا عجبًا من عدم فهم الناس كلام الشافعي في هذا وهم يثبتون حكم المجتهد وإن أخطأ في الأمر نفسه، كأبي يوسف فإنه أجاز لهارون الرشيد الخليفة طلاق المُكرَه، ولم يقل به أحد من الأئمة المجتهدين،٤ وقد أقره الشارع، وهو حكم شرعي مقبول لا يحل لأحد من الحكام رده، وقواعد الشرع وأصوله تحفظه. وكالمصالح المرسلة في مذهب مالك، وما قرر الشرع حكمَها مجملًا، وأبان أن واضعها ومتبعيه فيها مأجورون، ونهاية التابعين فيها إلى واضعها على قدره وعلى قدر ما سنَّ. نبهتك على هذا لأن تكون أوقاتك كلها معمورة بالشرائع النبوية والسنن الأصلية؛ فإن الكَيِّس ينبغي ألا يكون غاية عمله إلا نبوة أصلية لا فرعية» (الفتوحات ٢: ١٨٧).

وللقياس — بعد هذا النقاش الفقهي المستفيض والدفاع العقلاني المنير لكل أدوات الاجتهاد ومنافذه — سره عند من مثبته، سر يكشفه ابن عربي الذي لا يثبت القياس كما رأينا: «وأما القياس عند مثبته فهو ظهور ربٍّ بصفة عبد، وظهور عبدٍ بصفة رب، عن أمر رب. فإن لم يكن عن أمر رب فلا يُتخَذ دليلًا على حكم. أو [يكون الظهور] عن حميد خلق كريم؛ فإنه يُتخَذ دليلًا، وأما ظهور رب بصفة مربوب فلا يُشترط فيه الأمر الواجب، ولكن قد يكون عن دعاء وطلب، وصيغة الأمر والمعنى مختلف. وإن كان هذا مسموعًا ممتثلًا والآخر كذلك، ولكنْ بينهما فَرقان. فهذا حكم سر القياس في الاستدلال وهو قياس الشاهد على الغائب بحكمٍ معقولٍ جامعٍ بين الشاهد والغائب، ويُنسَب لكل واحد من المنسوبين إليه بحسب ما يليق بجلاله. وإنما قلنا: بجلاله؛ لأن الجليل من الأضداد يُطلَق على العظيم وعلى الحقير» (الفتوحات ٢: ١٨٤-١٨٥).

في هذا الكشف عن سر القياس يخوض ابن عربي في بحار صعبة، خاض فيها كثيرون قبله، لعل من أشهرهم «الحلاج» «والبِسطامي» و«النِّفَّري». وابن عربي يورد كثيرًا أقوالهم شارحًا وموضحًا أحيانًا، وناقدًا أحيانًا أخرى. وقبل أن نحاول ملامسة شاطئ بحر ابن عربي نبين حرص الشيخ الأكبر على أن القياس المعتد به عنده، والذي يكشف لنا عن سره، ليس هو القياس الذي يكون في «العالم المشهود» أصلًا يقاس عليه «عالم الغيب» وهو «قياس الغائب على الشاهد» عند المتكلمين. إن قياس ابن عربي يقوم على بنية عكسية يكون فيها «عالم الغيب» أصلًا يقاس عليه «عالم الشهادة» فهو «قياس الشاهد على الغائب». ولأن القياس الفقهي يعتمد على بنية شبيهة ببنية القياس عند المتكلمين، من حيث إنه يقيس أمرًا «مسكوتًا عنه» في الحكم على أمر «منطوق بحكمه»، فهو أيضًا ليس القياس المعتمد عند شيخنا. في الكشف عن سر هذا القياس، الذي هو ظهور الرب بصفة العبد، وظهور العبد بصفة الرب، فقد يبدو ما يرويه ابن عربي من قول «النِّفَّري» في مواقفه — موقف السواء — ملائمًا لبيان صعوبة المقارنة بين العبد والرب دون إدراك المفارقة، أو ما يسميه ابن عربي «الفرقان». يقول ابن عربي: «وهذا المنزل منزل شامخ صعب المرتقى، ولهذا سُمِّيَ «عقبة» وأضيف إلى «السويق»، لعدم ثبوت الأقدام فيها لأنها مَزَلة الأقدام، فلا يقطعها إلا رجل كامل من رسول ونبي وارثٍ كامل. وهذا هو المنزل الذي سماه النِّفَّري في مواقفه «موقف السواء» لظهور العبد فيه بصورة الحق. فإن لم يمن الله على هذا العبد بالعصمة والحفظ ويثبِّت قدمه في هذه العقبة بأن يُبقي عليه شهود عبوديته بما رأى عليه من صورة الحق ورأى الحق في صورة عبوديته، وانعكس عليه الأمر وهو مشهد صعب» (الفتوحات ٣: ١٦٥).

وحالة «الحلاج» الذي صرح بما لا يصح التصريح به شعرًا، وناله ما ناله بسبب تلك المنزلة الصعبة والمَرْقَى المستحيل، يجد من ابن عربي مدافعًا مُجيدًا، يقرأ في أقواله «الفرقان» و«التمييز» بين نفسه وبين محبوبه، وهي قراءة للحلاج ينفرد بها ابن عربي، وتناسب مقام تأويل الشريعة؛ لأنها تتحدث عن معنى «الحدود» التي أمر الله الناس ألا يتعدوها. يقول ابن عربي: «واعلم أن الحدود الموضوعة في العالم — أعني الحدود المشروعة التي أمرنا الحق ألا نتعداها، ثم شرع لنا حدودًا تقام علينا إذا تعديناها — كل ذلك لنعرف أن الأمر حُدَّ كله فينا وفيه دنيا وآخرة؛ لأن بالحدود يقع التمييز، وبالتمييز يكون العلم. فلولا الفرقان لما تميزت عين عن عين، ولا كان ثَم علم بشيء أصلًا. وقد تَميَّز لنا ربنا وعنَّا، كما تميزنا له به وعنه، فعرَفنا من نحن ومن هو؛ فإن علينا حالًا يقول ذلك الحال بلسانه:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

فيكفيه من قوة أثر الحدود أن فرَّق بين «أنا» وبين «من أهوى». ولو أنه يهوى نفسه فحاله كونه يهوى، وهو الفاعل، ما هو عين حاله يهوى، وهو المفعول؛ فبيَّنَت الحدود الأحوالَ كما بينت الأعيان. وهذا أعظم ما تصل إليه العبارة في أحدية العين. ولم يقدر على أن يوحِّد الحال ولا ذلك بممكن أصلًا. وفي باب العلم اللهُ أوصل ما يكون الأمر وأعظم في الأحدية يكون وجود العالم عين وجود الحق لا غيره. ومعلوم اختلاف صور العالم واختلاف الأسماء الإلهية، ولا معنى للاختلاف الواقع إلا العلم بأنه لولا الحدود لما كان التمييز، وإن كان الوجود عينًا واحدة، وهو الوجود الحق، فالموجودات والمعقولات مختلفة» (الفتوحات ٤: ١٦٠).

هل يمكن الحديث بعد ذلك كله عن «القياس» بالمعنى الصوفي العميق؟ نعم ولا، يمكن ولا يمكن! وهذا يدخلنا منطقة المسموح التصريح به والممنوع. يقول الشيخ مميزًا بين المجالين في قالبه السردي الأثير عن الأصل والفرع، وهما مجال القياس: «ذكرنا في كتاب المشاهد القدسية أنه [الحق] قال لي: أنت الأصل وأنا الفرع على وجوه منها علمه بنا منا [العلم الإلهي فرع] لا منه؛ فانظر فإن هنا سرًّا غامضًا جدًّا. وهو [العلم الإلهي] عند أكثر النُّظَّار منه لا منا [أصل لا فرع]، أوقعهم في ذلك حدوثنا. والكشف يعطي ما ذكرناه، وهو الحق الذي لا يسعنا جهله. ولما سألني عن هذه اللفظة مفتي الحجاز أبو عبد الله محمد بن أبي الصيف اليمني نزيل مكة، ذكرت له أن علمنا به فرعٌ من علمنا بنا إذ نحن عين الدليل، يقول رسول الله : من عرَف نفسه فقد عرَف ربه. كما أن وجودنا فرع عن وجوده، ووجوده أصل؛ فهو أصل في وجودنا فرع في علمنا به، وهو من مدلول هذه اللفظة. فسُرَّ بذلك رحمه الله في ذلك المجلس؛ لأنه (هذا الشرح) ما يحتمله ولا يقدر ينكره، وما ثم ذلك الإيمان القوي عنده، ولا العلم ولا النظر السليم. فكان يحار، فأبرزنا له من الوجوه ما يلائم مزاج عقله وهو صحيح؛ فإن ما ثَم وجه إلا وهو صحيح في الحق، وليس الفضل إلا العثور على ذلك» (الفتوحات ٤: ١٦١-١٦٢).

(٥) تأويل الفروع، العبادات

يحتل تأويل الشريعة من حيث المساحة في كتاب الفتوحات وحده حوالي الثُّمُن تقريبًا، فهو يقع في أكثر من ٤٥٠ صفحة من صفحات المجلد الأول البالغ عددها ٨٠٠ صفحة. وهو يحتل من حيث عدد الأبواب ستة أبواب من الفصل الأول (المعارف)، لكنها أبواب طويلة إذا قورنت بغيرها، ولهذا تحتل هذه المساحة الواسعة من صفحات الكتاب. هذا بالإضافة إلى تناول ابن عربي لموضوع تأويل الشريعة في كثير من الكتب الأخرى، بعض هذه الكتب أحال إليها في الفتوحات، مثل إحالته في تأويل «الطهارة» مثلًا إلى كتابَي: «التنزلات الموصلية» و«مواقع النجوم». أما كون تأويل الشريعة في كتاب الفتوحات مبنيًّا على ستة فصول فلأنه، أولًا، لا يتناول من الشريعة إلا جانب «العبادات» دون «المعاملات». والعبادات خمسة يختص كل منها بباب، يتقدم الأبواب الخمسة باب تمهيدي «في معرفة سر الشريعة ظاهرًا وباطنًا» وهو الباب السادس والستون. أما الأبواب الخمسة فتتناول أركان الإسلام الخمسة كما وردت في الأثر: «قام الإسلام على خمس»؛ فباب للشهادة، وباب للصلاة، وباب للصيام، وباب للزكاة، وباب للحج.

ومن الطبيعي أن يرى الشيخ أن كل ما كتبه عن الشريعة وتأويلها لم يكن فيه الكفاية، فهو حين يكشف للقارئ عن حدود المدى الذي سيتناوله بالتأويل من أحكام الشريعة في «الفتوحات»، يعبر عن عزمه على كتابةٍ أكثر تفصيلًا في الموضوع فيما يستقبل من أيامه: «وكان في نفسي إن أخَّر الله في عمري أن أضع كتابًا كبيرًا أذكر فيه مسائل الشرع كلها كما وردت في أماكنها الظاهرة وأقررها،٥ فإذا استوفينا المسألة المشروعة في ظاهر الحكم جعلنا إلى جانبها حكمها في باطن الإنسان؛ فيسري حكم الشرع في الظاهر والباطن، فإن أهل طريق الله وإن كان هذا غرضهم ومقصدهم لكن ما كل أحد يفتح الله له في الفهم حتى يعرف ميزان ذلك الحكم في باطنه. فقصدت في هذا الكتاب إلى الأمر العام من العبادات وهي الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والتلفظ بلا إله إلا الله محمد رسول الله؛ لكونها من قواعد الإسلام التي بُنِيَ عليها الإسلام» (الفتوحات ١: ٣٧٣).

والصورة التي يطرحها الشيخ للإسلام هي صورة «البيت»، البيت الذي مدخله «الإيمان»، وهذا المدخل مكون من ضفتين أو مصراعين: شهادة أن «لا إله إلا الله»، والضفة الأخرى شهادة أن «محمدًا رسول الله». أما أركان البيت الأربعة وأعمدته الأساسية فهي: الصلاة والزكاة والصوم والحج: «فالإيمان هو عين البيت ومجموعه، وباب البيت الذي يُدخَل منه إليه له مصراعان وهما التلفظ بالشهادتين، وأركان البيت أربعة: وهي الصلاة والزكاة والصيام والحج. فجردنا العناية في إقامة هذا البيت لنسكن فيه ويقينا من زمهرير نَفَس جهنم وحَرُورها … ويكفي في هذا الكتاب هذا القدر من العبادات. فأتتبع مسائل أمهات كل باب منها وأقررها بالحكم الكلي باسمها في الظاهر، ثم أنتقل إلى حكم تلك المسألة بعينه في الباطن إلى أن أفرغ منها والله يؤيد ويعين» (المرجع السابق).

إذا كان الإسلام — كما ورد في النص السابق — هو «بيت الإيمان»، فلا شك أن صورة «الكعبة» هي التمثيل الرمزي له؛ حيث تمثل «الشهادتان» الباب بضفتيه، ضفة التوحيد (لا إله إلا الله) وضفة الإسلام (محمد رسول الله)، كما تمثل الصلاة والزكاة والصيام والحج أركانه الأربعة. وفي نص آخر يقارن الشيخ بين أركان الإسلام وعباداته وبين نظام جيش الملك أو ترتيب حُجَّاب المملكة، ولا شك أن المقصود بالملك أو المملكة هنا «مملكة الله». في هذه المملكة تمثل الشهادتان «حاجبَي» الباب، وتمثل الصلاة الميْمَنة، في حين تمثل الزكاة الميْسَرة. تتواصل البنية الرمزية ليحتل «الصيام» المقدمة، ويكون مقام الحج الساقة، أو الخلف. ويمكن أن يحدث تبادل للمواقع، فتحتل الصلاة المقدمة، وتصبح الزكاة في الميمنة، في حين يحتل الحج الميسرة، ويكون للصيام مكان الساقة. هذا بالإضافة إلى أن «أهل الله» يمكن تصنيفهم أيضًا على أساس نفس التقسيم الخماسي: أهل لا إله إلا الله وأهل الصلاة وأهل الزكاة وأهل الحج وأهل الساقة (انظر الفتوحات ١: ٣٦٥).

ومعنى هذه التقسيمات والتصنيفات أن الظواهر يمكن بصفة عامة أن تندرج في تصنيفات شتى وَفقًا للزاوية والمنظور المعرفي. وكل التصنيفات ممكنة لأن الوجود ليس خطًّا أفقيًّا أو خطًّا رأسيًّا ولكنه دائرة منشؤها أن نقطتي البداية والنهاية هما في الحقيقة نقطة واحدة، منها خرج العالم من حالة «الوجود العدمي» إلى حالة «الوجود الظاهر»، ثم إليه تعالى يكون المصير.

(٥-١) لا إله إلا الله

هناك تمييز واضح عند ابن عربي بين «العلم» بالتوحيد و«الإيمان» بالتوحيد من جهة، وبين «التلفظ» به من جهة أخرى. «العلم» بالتوحيد لا يتوقف فيما يبدو على إرسال الرسل والأنبياء، بل هو تجرِبة روحية تخترق طبقات الوجود الظاهر وتتواصل — أو يتواصل صاحبها — مع باطن الوجود وروحه. ربما تكون تجرِبة «حي بن يقظان»، التي كتبها ثلاثة من الفلاسفة المسلمين، آخرهم «ابن طفيل» الأندلسي، وأستاذ ابن رشد، نموذجًا لهذا التصور. لقد «علم» حي بن يقظان من خلال تجرِبته الروحية الشخصية بوحدانية الواحد. من هنا، وفي هذا السياق، يمكن أن نفهم هذا التمييز بين «العلم» و«الإيمان» عند الشيخ. لكن الشيخ حريص على أن يؤسس هذا التمييز تأسيسًا قرآنيًّا، وهو من ثَم يعتمد على تأويل الآية القرآنية: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ:

«وقال رسول الله في الصحيح: من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة، ولم يقل هنا: يؤمن؛ فإن الإيمان موقوف على الخبر» (الفتوحات ١: ٣٦٣). ويقول أيضًا: «فإذا قال العالِم: لا إله إلا الله، لقول رسول الله : قل لا إله إلا الله، سُمِّيَ مؤمنًا. فمن مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة بلا شك ولا ريب، وهذا من السعداء. فأما من كان في الفترات فيبعثه الله أمة وحدَه كقُسِّ بن ساعدة.» (الفتوحات ١: ٣٦٤)

هذا التمييز بين العلم والإيمان يقابله طرف آخر هو «توحيد التلفظ»، أي النطق بالشهادة، وهو التوحيد الذي يعصم من العقاب الدنيوي، أي محاربة الرسول لغير المؤمن. لكن هذا «التوحيد» اللساني لا مرجعية له يوم تُبلى السرائر، أي يوم ينكشف المستور ويصبح ما كان باطنًا ظاهرًا على مستوى الوجود وعلى مستوى النفوس ولا فرق. إنه يوم الحساب حيث الفعالية إما لتوحيد «العلم» أو لتوحيد «الإيمان» ولا اعتبار لتوحيد «التلفظ». يواصل ابن عربي القول: «فإذا جاء الرسول وبين يديه العلماء بالله وغير العلماء بالله، وقال للجميع قولوا: «لا إله إلا الله» علمنا على القطع أنه في ذلك القول معلِّم لمن لا علم له بتوحيد الله من المشركين، وعلمنا أنه في ذلك القول أيضًا معلِّم للعلماء بالله وتوحيده أن التلفظ به واجب وأنه العاصم من سفك دمائهم. ولهذا قال رسول الله : «أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله.» ولم يقل: حتى يعلموا، فإن فيهم العلماء. فالحكم هنا للقول لا للعلم، والحكم يوم تُبلى السرائر للعلم لا للقول» (الفتوحات ١: ٣٦٥).

لكن ثمة آفاقًا أعمق في مناقشة الشيخ لقضية التوحيد ومستوياته يتعرض لها في سياقات أخرى، ويكفينا الآن الإشارة إلى تمييزه بين «التوحيد» و«الأحدية»، حيث التوحيد هو مستوى مرتبة الألوهة، أو جمعية الأسماء التي يعبر عنها الاسم «الله» كما سلفت الإشارة. والأحدية من جهة أخرى هي مرتبة «الذات» المطلقة المستغنية عن العالم، السابحة في بحر «العماء» فلا تتعلق بها معرفة ولا يلامسها إدراك، ولا تتمتع إلا بصفة الوجود المطلق الذي لا بشرط شيء. وهذا مستوًى أشبعناه في الفصول السابقة.

(٥-٢) الطهارة

الطهارة مدخل كل عبادة، وهي من الوجهة الشرعية طهارة من «النجَس»، وإذا كان الشرك بالله يمثل نوعًا من النجاسة — بحسب القرآن (إنما المشركون نجس) — فلا شك أن شهادة التوحيد (لا إله إلا الله) تمثل طهارة الاعتقاد. ومن الطبيعي أن نتوقع من ابن عربي أن يميز بين الطهارة الحسية — الاغتسال والوضوء — وبين الدلالة المعنوية للطهارة، التي هي: «صفة تنزيه، وهي معنوية وحسية، طهارة قلب وطهارة أعضاء معينة. فالمعنوية طهارة النفس من سفاسف الأخلاق ومذمومها، وطهارة العقل من دنس الأفكار والشُّبَه، وطهارة السر من النظر إلى الأغيار. وطهارة الأعضاء متعددة؛ إذ لكل عضو طهارة معنوية ذكرناها في كتاب التنزلات الموصلية، في أبواب الطهارة منه» (الفتوحات ١: ٣٦٨).

وفي الحديث عن أعضاء الإنسان يحصرها ابن عربي في ثمانية، ويرى أن كل عضو من أعضاء الإنسان كائن مكلف بعباداته الخاصة، ومن مجموع هذه العبادات يتشكل عمل الإنسان الفرد. إن ابن عربي من منظور قرآني واضح — حيث تشهد الأعضاء على الإنسان يوم القيامة بالصلاح أو بعدم الصلاح — ينظر للأعضاء بوصفها كائنات، كما الحروف التي هي أمم مثل كافة الأمم، يتعين عليها أداء ما عليها من التكاليف. لكن لأنها جميعًا — الأعضاء — تحت تصرف الإنسان، فهو الذي يوجهها إلى الطاعة أو يوجهها إلى العصيان، فإن المسئولية النهائية تقع على عاتق الإنسان، وتظل الأعضاء شاهدة تشهد له أو تشهد عليه. وابن عربي يحيل إلى كتابين له فصَّل فيهما مسائل الطهارة وتكليف الأعضاء. «وقد استوفينا الكلام على هذه الطهارة في التنزلات الموصلية فانظرها هنالك نثرًا ونظمًا. وقد رميت بك على الطريق. ولتصرف هذه الطهارة بكمالها في كل مكلَّف منك، فإن كل مكلَّف منك مأمور بجميع العبادات كلها من طهور وصلاة وزكاة وصيام وحج وغير ذلك من الأعمال المشروعة. وكل مكلَّف منك تصرفه في هذه العبادات بحسب ما تطلبه حقيقته، «لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا» وقد «أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى» أي بيَّن كيف يستكمله فيها. وهي ثمانية أصناف لا تزيد لكن تنقص في بعض الأشخاص، وهي: العين والأذن واللسان واليد والبطن والفرْج والرِّجل والقلب لا زائد في الإنسان عليها، لكن تنقص في بعض الأشخاص … ومن خطاب الشارع تعلم جميع ما يتعلق بكل عضوٍ من هؤلاء الأعضاء من التكاليف. وهم كالآلة للنفس المخاطبة المكلفة بتدبير هذا البدن، وأنت المسئول عنهم في إقامة العدل فيهم … وقد بيناها بكمالها وما لها من الكرامات والأنوار والمنازل والأسرار في كتابنا المسمى «مواقع النجوم». وما سُبِقْت في علمي في هذا الطريق إلى ترتيبه أصلًا. وقيدتُه في أحد عشر يومًا من شهر رمضان بمدينة المَرِيَّة سنة خمس وتسعين وخمسمائة. وهو يُغْني عن الأستاذ، بل الأستاذ محتاج إليه، فإن الأستاذ فيهم العالي والأعلى. وهذا الكتاب على أعلى مقام يكون الأستاذ عليه، ليس وراءه مقام في هذه الشريعة التي تُعُبِّدْنا بها. فمن حصل لديه فليعتمد بتوفيق الله عليه؛ فإنه عظيم المنفعة. وما حملني على أني أُعرِّف بمنزلته إلا أني رأيت الحق في النوم مرتين وهو يقول لي: «انصح عبادي»، وهذا من أكبر نصيحة نصحتك بها والله الموفق وبيده الهداية» (الفتوحات ١: ٣٧٢).

(٥-٣) الصلاة

إذا كانت الطهارة مدخل العبادة، فإن الصلاة هي مخ العبادة، سواء بمعناها اللغوي — الدعاء — أو بمعناها الاصطلاحي. والصلاة في الإسلام — كما في كل الأديان — هي حالة «تواصل» بين الإنسان وخالقه، تبدأ بالطهارة استعدادًا لهذا اللقاء ثم تُستفتح بالتكبير (الله أكبر) دخولًا إلى الحرم الإلهي، يليها قراءة أم الكتاب، وهي وإن كانت سورةً من سور القرآن — كلام الله — إلا أنها كلها تعبير إنساني يكون «الله» فيه هو المخاطب. وكما سنتابع مع ابن عربي فإن الاستجابة الإلهية لدعاء «أم الكتاب» تكون استجابة خفية. والأمر مشروح في حديث قدسي، يقول فيه النبي: إن الله يقول: قسمت الفاتحة بيني وبين عبدي، فإذا قرأ العبد: «الحمد لله رب العالمين» يقول الله: «حمدني عبدي»، وإذا قال العبد: «الرحمن الرحيم» يقول الله: «أثنى علي عبدي»، وإذا قال العبد: «مالك يوم الدين» يقول الله: «مجدني عبدي»، وإذا قال العبد: «إياك نعبد وإياك نستعين»، قال الله: «هذه بيني وبين عبدي»، فإذا قال العبد: «اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين» قال الله: «هذه لعبدي ولعبدي ما سأل». هذا التواصل يتعمق من خلال الركوع والسجود الذي يتكرر حسب ركعات الصلاة. فإذا حسبنا عدد الركعات في الصلوات الخمس المفروضة لوجدنا أن عملية التواصل تلك تحدث سبع عشرة مرة في اليوم، وتتزايد كلما زاد المؤمن من نوافله.

وابن عربي، بالإضافة إلى المعنى العرفي الاصطلاحي للصلاة — صلاة الإنسان، يعدد أنواعًا أخرى اعتمادًا على الاستخدام القرآني لكلمة «صلاة»، حين تضاف إلى الله وحين تضاف إلى الملائكة. فهي بمعنى «الرحمة»: وذلك حين تضاف الصلاة إلى الحق: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ أي يرحمكم بأن يخرجكم من الظلمات إلى النور (أي من ظلمات العدم إلى نور الوجود)، يقول: «من الضلالة إلى الهدى ومن الشقاء إلى السعادة». وهي تعني طلب «الرحمة والاستغفار والدعاء للمؤمنين، حين تضاف للملائكة: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ ويستغفرون للذين آمنوا يقولون: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِوَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ». والمعنى الثالث هو المعنى الكوني: التسبيح «حين تضاف إلى كل ما سوى الله من ملَكٍ وإنسانٍ وحيوانٍ ونباتٍ وجماد: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ».

وحين يتحدث الشيخ عن الصلوات المشروعة يعتبر الصلوات الخمس وحدةً قائمة بذاتها: «فالصلوات المشروعة ثمانٍ الصلوات الخمس والوتر [وهو صلاة الليل]، وصلاة الجمعة، والعيدين، والكسوف، والاستسقاء، والاستخارة، وصلاة الجنائز. كما أن الأعضاء المكلفة من الإنسان ثمانية؛ لأن الذات مع نِسَبها ثمانية: الذات والصفات السبع. وأما الأعضاء فالسمع والبصر واللسان واليد والبطن والفرْج والرِّجل والقلب» انتهى (الفتوحات ١: ٤٢٧).

رأينا أن صلاة الله التي بمعنى الرحمة، تعني عند ابن عربي الرحمة بنقل الممكنات من حالة العدم إلى حالة الوجود، إنها الرحمة الكونية، وبالمثل تتحدد الصلوات بأنها ثمانٍ توازيًا مع عدد الأعضاء المكلفة في الإنسان من جهة، وتوازيًا مع مجموع الذات الإلهية وصفاتها السبع.

ستر العورة

من شروط صحة الصلاة إلى جانب الطهارة ضرورة ستر العورة. ولعلنا نضيف هنا أن ظهور العورة للإنسان؛ أي ظهورها لوعيه وإدراكه ارتبط في السرد القرآني بمعصية آدم وحواء حين أكلا الشجرة التي حرم الله عليهما الأكل من ثمرها. فحين أكلا من الشجرة المحرمة بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ حسب التعبير القرآني. من هنا يستمد ستر العورة أهميته في الصلاة، التي يمكن أن توازي «كلمات الرب» التي تلقاها آدم فحررته من الخطيئة بأن «تاب» الله عليه. لكن تأويل ابن عربي للعورة تعني ستر السر الإلهي. يقول: «اتفق العلماء على أن ستر العورة فرض بلا خلاف، وعلى الإطلاق؛ أعني في الصلاة وفي غيرها. الاعتبار: يجب على كل عاقل ستر السر الإلهي الذي إذا كُشف أدى عند من ليس بعالم ولا عاقل إلى عدم احترام الجناب الإلهي الأعز الأحمى … والاعتبار [في ستر العورة في الصلاة] … ثبت أن المصلي يناجي ربه وأن الصلاة منقسمة قسمين بين الله وبين عبده» (الفتوحات ١: ٤٤٦).

أي ثمة اعتباران — أي تأويلان — لستر العورة: الستر العام (ستر السر الإلهي)، والستر الخاص في الصلاة (ستر المناجاة بين العبد والرب)، وفي المناجاة يلتقي الطرفان ولو بعين الخيال كما ورد في الحديث النبوي: «اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وعند الشيخ الأكبر فإن سر العارف يكمن في إدراكه كشفًا لله في قِبلته، كما قال الرسول أيضًا: «الله في قبلة المصلي». لكن لستر العورة عند المرأة بعدًا آخر. وإذا كان الفقهاء قد اختلفوا في تحديد عورة المرأة «فمِن قائلٍ إنها كلها عورة ما خلا الوجه والكفين. ومِن قائلٍ بذلك وزاد أن قدمها ليس بعورة. ومِن قائلٍ إن كلها عورة»، فابن عربي يرى أن العورة في المرأة السوءتان فقط مثلها مثل الرجل، لكنه يضيف: «وإن أُمرت المرأة بالستر فهو مذهبنا، ولكن لا من كونها عورة، وإنما ذلك حكم شرعي ورد بالستر ولا يلزم أن يُستر الشيء لأنه عورة». وحين يتجاوز الخلاف الفقهي إلى التأويل بالاعتبار يرى أن «المرأة هي النفس، والخواطر النفسية كلها عورة، فمن استثنى الوجه والكفين والقدمين فلأن الوجه محل العلم؛ لأن المسألة إذا لم تُعرف على وجهها فما علِمتَها. وإذا استتر عنك وجه الشيء فما علمتَه، وأنت مأمور بالعلم بالشيء فأنت مأمور بالكشف عن وجه ما أنت به مأمور، فلا يُستر الوجه فإنه ليس بعورة. وأما اليدان وهما الكفان فهما محل الجود والعطاء، وأنت مأمور بالسؤال فلا بد للسائل أن يمد يده بالسؤال، كما لا بد للمعطي أن يمد يده بما يعطي فلا يستر كفه … وأما القدمان فلا يجب سترهما، فإنهما ليستا بعورة لأنهما الحاملتان للبدن كله وناقلتاه من مكان إلى مكان، ومَن حكمُه التصريف والتصرف يتعذر احتجابه، فلا بد أن يظهر ويبرز ضرورةً، فبَعُدَ أن يكون عورةً تُستر» (الفتوحات ١: ٤٤٦-٤٤٧).

هكذا تتحدد معاني «الوجه» و«الكفين» و«القدمين» بأن الوجه لا يُستر؛ لأنه «محل العلم»، وكذلك اليدان؛ فهما محل الجود والعطاء، ولا تُستر القدمان أيضًا لأنهما الحاملان للجسد والمحركان له. وباختصار فإن عورة المرأة — بالحقيقة أو بالاعتبار — لا تشمل الوجه ولا الكفين ولا القدمين.

فماذا عن جواز أن تكون المرأة إمامًا في الصلاة؟ «من الناس من أجاز إمامة المرأة على الإطلاق بالرجال والنساء، وبه أقول. ومن الناس من منع إمامتها على الإطلاق. ومنهم من أجاز إمامتها بالنساء دون الرجال. الاعتبار: شهد رسول الله لبعض النساء بالكمال — كما شهد لبعض الرجال، وإن كانوا أكثر من النساء — وهو النبوة، والنبوة إمامة، فصحَّت إمامة المرأة. والأصل إجازة إمامتها، فمن ادعى منع ذلك من غير دليل فلا يُسمع له، ولا نص للمانع في ذلك. وحجته في منع ذلك يُدخل معه فيها ويشرك فتسقط الحجة فيبقى الأصل إجازة إمامتها. واعلم أن الإنسان عالَم في نفسه كبير، ولهذا يقول العبد: «إياك نعبد وإياك نستعين» بنون الجمع. وجعل جوارحه وقواه الظاهرة والباطنة منقادة لما يحكم فيها المقدَّمون عليها وهو: العقل والنفس والهوى. وكل واحد منهم قد يؤم الجماعة في وقتٍ ما، فالطاعة كلها المقرِّبة للعقل، والمباحات للنفس، والمخالَفات للهوى. وقد قيل للعقل إذا سئمَت النفس من اتباعك في الأمور المقرِّبة واقتدائها بك في وقت إمامتك وتقدمَت هي في المباحات وأمَّت بك فاتَّبِعها وصلِّ خلفها حافظًا لها لئلا يخدعها الهوى، فإن الهوى يتبعها في ذلك الحال عسى أن يوقعها في محظور. ففي مثل هذا الموطن تجوز إمامة النفس، وهي إمامة المرأة. فإمامة العقل بمنزلة إمامة الرجل المسلم البالغ العالم الولد الحلال، وإمامة الهوى بمنزلة إمامة المنافق والكافر والفاسق، وإمامة النفس بمنزلة إمامة المرأة» انتهى (الفتوحات ١: ٤٨١).

يبدو موقف ابن عربي من مسألة إمامة المرأة متقدمًا جدًّا إذا قورن بالآراء الفقهية الشائعة، فابن عربي يرى أنها يجوز أن تؤم الرجال والنساء على السواء. هذا موقفه المبدئي، وعلى أساسه يرى أن من يمنعون إمامتها مطلقًا، أو من يقصرون جواز إمامتها على النساء دون الرجال، لا يعتمدون على دليل شرعي في المنع. ولكنه على مستوى الاعتبار يقيم موازاة بين «الرجل والعقل» وبين «المرأة والنفس»، وهي موازاة قد تشي بأن المرأة أدنى من الرجل. ولا يمكن أن نتوقع من ابن عربي أن يخترق كل المحرمات الاجتماعية في عصره وتاريخه وثقافته، خاصة ونحن نعلم أن تحقيق المساواة الكاملة والندية المطلقة بين الرجل والمرأة ما زالت إحدى مشكلات الثقافة الإسلامية المعاصرة. هذا فضلًا عن أنها مشكلة بدرجات متفاوتة من الحدة والقوة في المجتمعات المعاصرة، المتقدمة والمتخلفة على السواء. ربما نتلمس الندية في نظرية ابن عربي عن «النكاح الوجودي» حيث يعتمد انبثاق مراتب الوجود كما سبق التحليل في الفصل الخامس على التقاء عنصرَي الذكورة والأنوثة. يمثل العقل الأول عنصر الذكورة، وتمثل النفس الكلية عنصر الأنوثة، وعن تناكحهما انبثق الجسم الكل، أو العرش. على هذا المستوى فقط تتأكد الندية والمساواة.

يستبين هذا التفاوت بين الندية الكونية وعدم التكافؤ الاجتماعي بين الرجل والمرأة حين يتحدث ابن عربي عن مواقيت الصلاة، حيث تتحدد درجة كمال المرأة في حقيقة كونها تابعًا للرجل وملحقًا به: «اعلم أن الله ربط إقامة الصلاة بأزمان وهي الأوقات المفروض فيها إقامة الصلوات المفروضات، فقال تعالى: فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا وربطها بأماكن وهي المساجد، قال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ ولم يذكر النساء، لأن الرجل يتضمن المرأة؛ فإن «حواء» من آدم. اكتفى بذكر الرجال دون النساء تشريفًا للرجال وتنبيهًا على لحوق النساء بالرجال. فسمَّى النساء هنا رجالًا، فإن درجة الكمال لم تُحجر عليهن بل يَكمُلن كما تَكمُل الرجال. وقد ثبت في الخبر كمال مريَمَ وآسيةَ امرأةِ فرعون» (الفتوحات ١: ٥٦٥).

(٥-٤) الزكاة: العدل الاجتماعي والعدل الكوني

منذ اللحظات الأولى لنزول القرآن وقضية الفقر من أهم القضايا التي ما فتئت تتكرر في سوره وآياته، إلى حد أن زجر اليتيم وحرمان الفقراء والمساكين يقترن دائمًا في السرد القرآني بالكفر، الذي يستحق عليه صاحبه عذاب جهنم (انظر على سبيل المثال لا الحصر السور والآيات: «٦٨: ٢٤»، «٤٧: ٤٢–٤٤»، «١٠٧: ١–٣»). بل إن القرآن يأمر محمدًا نفسه فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (الضحى ٩٣: ٩–١١). من هنا تجاوز القرآن مسألة حض المؤمن على الصدقة والإحسان للفقراء، وهو موقف النصوص المقدسة في كل الثقافات، وقام بفرض جزء من مال الأغنياء يُعطَى للفقراء بوصفه واجبًا عباديًّا كالصلاة. وكما أن الصلاة تقوم على طهارة الجسد والروح سعيًا للاتصال بالله، فإن «الزكاة» تطهير للنفس من الأنانية والشح والبخل؛ أي أنها شرط في اكتمال طهارة الروح. يقول الشيخ: «فأنزل الله الزكاة كما قلنا طهارة للأموال، وإنما اشتدت على الغافلين الجهلاء لكونهم اعتقدوا أن الذي عُيِّن لهؤلاء الأصناف (من المستحقين للزكاة) مِلكٌ لهم، وأن ذلك من أموالهم. وما علموا أن ذلك المعَيَّن ما هو لهم، وأنه في أموالهم «حق معلوم للسائل والمحروم» لا من أموالهم، فلا يتعين لهم إلا بالإخراج. فإذا ميزوه حين ذلك يعرفون أنه لم يكن من مالهم، وإنما كان في مالهم مُدرجًا. هذا هو التحقيق، وكانوا يعتقدون أن كل ما بأيديهم هو مالهم ومِلك لهم، فلما أخبر الله أن في أموالهم حقًّا يؤدُّونه، وما له سبب ظاهر تَركَن النفوس إليه لا من دَيْن ولا من بَيْع إلا ما ذكر الله من ادخار ذلك لهم ثوابًا إلى الآخرة شقَّ ذلك على النفوس للمشاركة في الأموال. فلما علم هذا منهم في جبلَّة نفوسهم أخرج ذلك القدر من الأموال من أيديهم، فقال تعالى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ» (الفتوحات ١: ٥٧٣).

ربما يعبر ابن عربي في النص السابق تعبيرًا دقيقًا عن مفهوم مِلكية المال في القرآن، فالمال مال الله، استخلف عليه الإنسان، وبالتالي يكون الاستئثار به عصيانًا لإرادة المالك الأصلي. وربما يمكن القول إن الإسلام ضد أن يكون المال دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ أي متداولًا بينهم فقط، وهو بالتالي يحض على توزيع الثروة توزيعًا عادلًا لا يبخس المجتهد قدر اجتهاده ولا يكافئ الكسالى. ولكنه يضمن الحد الأدنى الإنساني للحياة الكريمة لكل أعضاء المجتمع وأفراده، بصرف النظر عن الدين أو العقيدة، فالمستحقون للزكاة بنص القرآن الكريم هم: لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ دون تحديد لمسلم أو غير مسلم، ومن هنا يرى الفقهاء أن الزكاة للمسلم ولغير المسلم سواء بسواء. إنها المساواة في متع الحياة الدنيا، أما شأن الآخرة فهو متروك لله «يحكم بينهم فيما كانوا فيه». ويجب أن يُفهَم موقف القرآن من «الربا» في هذا السياق، سياق تحقيق العدل الاقتصادي، بدلًا من مناقشته خارج هذا السياق وحصره في مسألة «فوائد البنوك» على المدخرات أو على القروض.

انطلاقًا من أن الزكاة هي حق للمساكين والفقراء فرضه الله في المال، يستنتج ابن عربي أنها من حقوق الله كالصلاة والصيام والحج، سواء بسواء. وبما هي حق لله على النفس، فما أسهل ما تتم النقلة من المعنى الاصطلاحي إلى «الاعتبار»: «إن الزكاة حق الله تعالى في المال والنفس ما هي حق لرب المال والنفس، فنظرنا في النفس من حيث ما هو لها فلا تكليف عليها فيه بزكاة، وما هو حق الله من تلك الزكاة فيعطيه الله من هذه النفس لتكون من المفلحين بقوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَاوَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فإذا نظرنا للنفس من حيث عينها قلنا ممكنة لذاتها لا زكاة عليها في ذلك؛ فإن الله لا حق له في الإمكان، تعالى الله علوًّا كبيرًا، فإنه تعالى واجب الوجود لذاته غير ممكن بوجه من الوجوه. ووجدنا هذه النفس قد اتصفت بالوجود فقلنا هذا الوجود الذي اتصفت به النفس ما هو عين ذاتها ولا اتصفت به لذاتها فنظرنا لمن هو فوجدناه لله كما وجدنا القدر المعيَّن في مال زيد — المسمى زكاة — ليس هو مالًا لزيد وإنما هو أمانة عنده. كذلك الوجود الذي اتصفت به النفس ما هو لها إنما هو لله الذي أوجدها؛ فالوجود لله لا لها، ووجود الله لا وجودها، فقلنا لهذه النفس: هذا الوجود الذي أنت متصفة به ما هو لك وإنما لله خلعه عليك فأخرجيه لله وأضيفيه إلى صاحبه وابقَيْ أنت على إمكانك لا تبرحي منه فإنه لا ينقصك شيئًا مما هو لكِ. وأنتِ إذا فعلتِ هذا كان لك الثواب عند الله ثواب العلماء بالله، ونلتِ منزلة لا يقدر قدرها إلا الله، وهو الفلاح الذي هو البقاء فيُبقي الله هذا الوجود لكِ لا يأخذه منكِ أبدًا، فهذا معنى قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا أي أبقاها موجودة. انتهى» (الفتوحات ١: ٥٧٤-٥٧٥).

هكذا يصبح زكاة النفس في الاعتبار ألا تعتبر وجودها، بل تفنى في الوجود الحق، وتلك هي حقيقة الزكاة التي يتحقق بها الفلاح. لكن الشيخ الأكبر يحس واجبًا عليه أن يحفر عميقًا للكشف عن مصدر حب المال وأصله الوجودي والمعرفي. فمن الناحية الوجودية يستمد حب المال أصله من حب «الولد»، لأن انبثاق الموجودات أصله التوالد، سواء في ذلك مراتب الوجود الأساسية أم الموجودات العينية، إنه «النكاح الساري في الذراري»، ولهذا فرض الله الزكاة في «المولَّدات»: «اعلم أن الله أوجب الزكاة في المولَّدات، وهي ثلاثة: معدِن ونبات وحيوان. فالمعدن ذهب وفِضة، والنبات حِنْطة وشعير وثمر، والحيوان إبل وبقر وغنم، فعم جميع المولَّدات. فأُطلِق عليها اسمُ المولَّدات لأنها تولدت عن أم وأب؛ عن فلك وحركتِه التي هي بمنزلة الجماع، وهو الأب، والأركان الأم. فكان المال محبوبًا للإنسان حب الولد، ألا ترى الله قرنه بالولد في الفتنة فقال: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ فقدم المال على الولد في الذكر: وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ إذا رزأكم في شيء منها؛ فالزكاة — وإن كانت طهارة للأموال وطهارة لأربابها من صفة البخل — فهي رُزء في المال بلا شك، ولصاحبها أجر المصاب، وهو من أعظم الأجور.»

وبسبب حب المال كانت نصيحة المسيح لقومه: «فقال عيسى عليه السلام لأصحابه: قلب كل إنسان حيث ماله، فاجعلوا أموالكم في السماء تكن قلوبكم في السماء، فحث على الصدقة … فانظر ما أعجبَ كلامَ النبوة وما أدقَّه وأحلاه. فمن ألحَقَ الولد بالوالد ووصله به فله أجر مَن وصل الرحم؛ فينبغي على الإنسان أن يُلحِق مالَه من حيث ما هو مولَّد بأبيه الذي تولد عنه لأنه قطعة منه.» وعلى هذا الأساس يفسر ابن عربي مسارعة بني إسرائيل لعبادة العجل الذي صنعه لهم السامري من حُلِيِّهم وأموالهم: «وانظر في حكمة السامري لما علم ما قال عيسى عليه السلام من أن حب المال مُلْصَق بالقلوب صاغ لهم العجل بمرأًى منهم من حُلِيِّهم؛ لعلمه أن قلوبهم تابعة لأموالهم، فسارعوا إلى عبادته حين دعاهم إلى ذلك. فالعارف من حيث سره الرباني مستخلَف فيما بيده من المال، فهو كالولي على مال المحجور عليه» (الفتوحات ١: ٦١٠-٦١١).

ليس مهمًّا أن ننقد ابن عربي على أساس أن «السامري» كان من قوم موسى، قبل زمن «عيسى» بدهور متطاولة؛ فالحكمة لا زمن لها، هذا فضلًا عن أن مفهوم الزمن عند الشيخ مفهوم وضعي لا حقيقة له في الحقيقة عند العارفين.

(٥-٥) الصوم

إذا كانت الصلاة تواصلًا مع الله، والزكاة حق لله، فإن الصيام تَشَبُّه بالله بما هو امتناع اختياري عن الشهوات. إنه بمثابة «الضياء» الذي ينبع منه «النور». فإذا كانت الصلاة نورًا فالصوم أصلها. ومن المرويات المتواترة عن النبي قوله: «كل عمل ابن آدم له إلا الصومَ فإنه لي وأنا أجزي به». يرى الشيخ الأكبر أن الذين عبدوا المسيح من النصارى ظنوه إلهًا؛ لأنه «كان يصوم الدهر ولا يُفطِر، ويقوم الليل فلا ينام، فكان ظاهرًا في العالم باسم الدهر في نهاره، وباسم القيوم الذي لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ في ليله؛ فادُّعِيَ فيه الألوهية فقيل: إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وما قيل ذلك في نبي قبله، فإن غاية ما قيل في العُزَيْر أنه ابن الله، وما قيل: هو الله. فانظر ما أثَّرت هذه الصفة من خلف حجاب الغيب في قلوب المحجوبين من أهل الكشف حتى قالوا: إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ».

وفي هذا السياق لا يترك ابن عربي النصارى دون أن يبرئهم من «الكفر» بالمعنى الاصطلاحي، ويفسره بالمعنى اللغوي، وهو «الستر»، «فنسبهم [الله] إلى الكفر في ذلك إقامة عذر لهم؛ فإنهم ما أشركوا بل قالوا هو الله، والمشرك من يجعل مع الله إلهًا آخر. فهذا كافر لا مشرك، فقال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فوصفهم بالستر واتخذوا ناسوت عيسى مَجْلًى، ونبَّه عيسى على هذا المقام فيما أخبر الله تعالى تثبيتًا لهم فيما قالوا، فقال المسيح: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ فقالوا كذلك نفعل فعبدوا الله فيه، ثم قال لهم: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ أي حرم عليه كنفه الذي يستره، والله قد وصفهم بالستر حيث وصفهم بالكفر، فهي آية يعطي ظاهرها نفس ما يعطي ما هو عليه الأمر في ذلك. والتأويل فيها يلحق بالذم. فإن تفطَّنْت لما ذكرناه وقعت في بحر عظيم لا ينجو من غَرِق فيه أبدًا. فما أحكمَ كلامَ الله لمن نظر فيه واستبصر، وكان من الله فيه على بصيرة» انتهى (الفتوحات ١: ٦٨٣).

إذا كان الشيخ يبرئ النصارى من ارتكاب خطيئة «الشرك» ويفسر كفرهم بمعنى «الستر»، فإن المشركين كذلك يتمتعون في الأفق التأويلي للشيخ بحق الانتماء إلى الخلاص العام. «ما عبد المشرك إلا الله، لأنه لو لم يعتقد الألوهية في الشريك ما عبده: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ولذلك غار الحق لهذا الوصف فعاقبهم في الدنيا — إذ لم يحترموه — ورزقهم وسمع دعاءهم إذ سألوه الأرزاق لعلمه تعالى أنهم ما لجئوا إلا لهذه المرتبة وإن أخطئوا في النسبة» (الفتوحات ١: ٣٦٦).

لكن إذا كان الصوم الدهري — صوم عيسى — على هذه الدرجة من الالتباس، فهو لا شك غير مستحب؛ لذا كان محمد يصوم ويفطر، ويقوم الليل وينام، تأكيدًا لحقيقة كونه بشرًا. من هنا فإن «أفضل الصيام وأعدله صوم يوم في حقك وصوم يوم في حق ربك، وبينهما فطر يوم، فهو أعظم مجاهدة على النفس وأعدل في الحكم. ويحصل له في مثل هذا الصوم حال الصلاة كحالة الضوء من نور الشمس؛ فإن الصلاة نور والصبر ضياء وهو الصوم. والصلاة عبادة مقسومة بين رب وعبد. وكذلك صوم داود عليه السلام صوم يوم وفطر يوم؛ فتجمع ما هو لك وما هو لربك. ولما رأى بعضهم أن حق الله أحق لم ير التساوي بين ما هو لله وما هو للعبد، فصام يومين وأفطر يومًا.» وهذا الصيام ينسبه الشيخ الأكبر للسيدة «مريَمَ»، التي أرادت أن تلحق بابنها، ومن فكرة «الالتحاق» يعود الشيخ استطرادًا لمكانة المرأة من الرجل من حيث الكمال، ويؤكد أن كمال المرأة مستمد من كمال الرجل. «وهذا كان صوم مريَمَ عليها السلام، فإنها رأت أن للرجال عليها درجةً فقالت عسى أجعل هذا اليوم الثاني في الصوم في مقابلة تلك الدرجة. وكذلك كان؛ فإن النبي شهد لها بالكمال كما شهد بذلك للرجال. ولما رأت أن شهادة المرأتين تعدل شهادة الرجل الواحد قالت صوم اليومين بمنزلة اليوم الواحد من الرجل، فنالت مقام الرجال بذلك فساوت داود عليه السلام في الفضيلة والصوم. فهكذا من غلبت عليه نفسه فقد غلبت عليه أنوثيته، فينبغي أن يعاملها بمثل ما عاملت به مريَمُ نفسها في هذه الصورة حتى تلحق بعقلها. وهذه إشارة حسنة لمن فهمها، فإنه إذا كان الكمال لها لُحوقَها بالرجال فالأكمل لها لُحوقُها بربها كعيسى ابن مريَمَ ولدِها» (الفتوحات ١: ٦٨٣).

(٥-٦) الحج

الحج وإن كان يرتد تاريخيًّا إلى ما قبل الإسلام، حيث كانت «الكعبة» قبل الإسلام قبلة للحج والتجارة بحكم موقعها في «مكة» طريق التجارة من جهة، وبحكم أنها كانت مجمع الأوثان، آلهة القبائل العربية. وما زالت شعيرة الحج في القرآن تحمل مزيجًا من ملامح الديني والدنيوي، إذ الغرض منه أن يشهد الحجيج مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ. وهو في أركان الإسلام يأتي آخرها، إذ إنه مفروض مرة واحدة في العمر بشرط القدرة المالية على تكاليف السفر، والقدرة الصحية على تجشم مشقته. وهو من الناحية الشعائرية أقرب إلى الصلاة الكبرى بحكم ما يتضمنه من تهليل وتلبية وتضحية، تستعيد تمثيليًّا قصة فداء ولد «إبراهيم» الذي استجاب للرب وكاد أن يذبح ولده.

ليس ثمة خلاف ملموس بين الفقهاء والمتصوفة في الفهم الرمزي للحج وشعائره، غير أن تأكيد المتصوفة لرمزية الحج يعتمد على مقارنة وموازاة بين «الكعبة» و«قلب المؤمن» من جهة، وبينهما معًا وبين «البيت المعمور» في الجنة، الذي تطوف حوله الملائكة، من جهة أخرى. ويعلو مجال المقارنة الرمزية عند ابن عربي بصفة خاصة ليصبح «قلب العارف» موازيًا لعرش الرحمن، والخواطر التي تطوف به توازي ملائكة العرش. هكذا يفهم الشيخ أن الكعبة في التعبير القرآني هي «بيت الله»، و«الله» هو الاسم الجامع، من هنا تستمد «الكعبة» طبيعتها الجمعية. من هنا تصح الموازاة بين الكعبة وقلب المؤمن؛ إذ كما يطوف حول الكعبة الصالحون والطالحون، فقلب المؤمن عرضة لأن تطوف به بالمثل الخواطر الخيرة والخواطر الشريرة، خواطر الملَك ووساوس الشيطان سواء بسواء. «العرش» من جهة أخرى يُنسَب إلى الاسم «الرحمن»، ولا تطوف به إلا الملائكة، من هنا يوازيه قلب «العارف». من هنا يمكن المقارنة بين الكعبة والعرش مقارنة عامة، لكن الفارق يبقى عميقًا بينهما، الأمر الذي يسمح للشيخ أن يقول إن قلب العارف — الذي يسع الرحمن — أشرف من الكعبة وأعلى مقامًا. ألم يُنسَب إلى النبي قوله على لسان ربه في حديث قدسي: ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن؟

«اعلم أيدك الله أن «الحج» في اللسان تكرار القصد إلى المقصود، و«العمرة» الزيارة. ولما نسب الله تعالى البيت إليه بالإضافة في قوله لخليله «إبراهيم» عليه السلام: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وأخبرنا أنه أول بيت وُضِعَ للناس معبدًا فقال: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ جعله نظيرًا ومثالًا لعرشه، وجعل الطائفين من البشر كالملائكة الحافِّين مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي بالثناء على ربهم. وثناؤنا على الله في طوافنا أعظم من ثناء الملائكة عليه سبحانه بما لا يتقارب. ولكن ما كل طائف يتنبه إلى هذا الثناء الذي نريده، وذلك أن العلماء بالله إذا قالوا: «سبحان الله» أو «الحمد لله» أو «لا إله إلا الله» إنما يقولونها بجمعيتهم للحضرتين والصورتين، فيذكرونه بكل جزء ذاكر الله في العالم وبذكر أسمائه إياه. ثم إنهم ما يقصدون من هذه الكلمات إلا ما نزل منها في القرآن، لا الذكر الذي يذكرونه، فهم في هذا الثناء نواب عن الحق يُثنون عليه بكلامه الذي أنزله عليهم، وهم أهل الله بنص رسول الله ، فإنهم أهل القرآن. وأهل القرآن هم أهل الله وخاصته فهم نائبون عنه في الثناء عليه. فهو ثناء إلهي قدوس طاهر نزيه عن الشوب الكوني. ولما جعل الله قلب عبده بيتًا كريمًا وحرمًا عظيمًا، وذكر أنه وسِعه حين لم يسَعْه سماء ولا أرض، علِمنا قطعًا أن قلب المؤمن أشرف من هذا البيت، وجعل الخواطر التي تمر عليه كالطائفين. وكما كان في الطائفين من يعرف حرمة البيت فيعامله في الطواف به بما يستحقه من التعظيم والإجلال، ومن الطائفين من لا يعرف ذلك فيطوفون به بقلوب لاهية وألسنة بغير ذكر الله ناطقة، بل ربما يطوفون بفضول من القول وزور، كان كذلك الخواطر التي تمر على قلب المؤمن منها مذموم ومنه محمود» (الفتوحات ١: ٦٩٧).

وثمة سؤال يحوم ابن عربي حوله دون أن يصرح به: هل الحج وقف على المسلمين دون غيرهم؟ وبعبارة أخرى: إذا كانت الدعوة للحج دعوة «إبراهيم» الذي أمره الله — بنص القرآن — أن يؤذن في الناس للحج، فلماذا لا يدخل في إطار الدعوة «الناس» جميعًا؟ من الصعب أن نتوقع أن يطرح الشيخ السؤال هكذا واضحًا صريحًا لا لبس فيه، لكن ما يقدمه من تحليل لمعنى «الإسلام العام» و«الإسلام الخاص»، بالإضافة إلى نفيه وجود «الكفر» في العالم وتأكيده أن «المشرك» ما عبد في الحقيقة إلا الله، ينتهي به إلى نتيجة فحواها أن «الحج» مطلوب من كل مسلم، وما في الكون إلا مسلم: «لأنه ما ثَم إلا منقاد للأمر الإلهي، لأنه ما ثَم مَن قيل له «كن» فأبى، بل يكون من غير تَثبُّط، ولا يصح إلا ذلك. فإذا وقع الحج ممن وقع منه من الناس ما وقع إلا من مسلم. قال رسول الله لحكيم بن حزام (الذي كان يتبرر في الجاهلية بأمورٍ من عتق وصدقة وصلة رحم وأمثال ذلك — الفتوحات ٢: ٦٢٤): «أسلمت على ما أسلفت من خير.» ولم يكن مشروعًا من جانب الله له ذلك في حال الجاهلية وقبل بعثة الرسول — فاعتبره له الله تعالى لحكم الانقياد الأصلي الذي تعطيه حقيقة الممكن، وهو «الإسلام العام». فمن اعتبر المجموع وجد، ومن اعتبر عين الصفة وجد. ولكل واحد شِربٌ معلوم من علم خاص، فإنه يدخل فيه هذا الإسلام الخاص المعروف في العُرْف الحاكم في الظاهر والباطن معًا. فإن حَكَمَ في الظاهر لا في الباطن كالمنافق الذي أسلم للتَّقِيَّة حتى يعصم ظاهره في الدنيا، فهذا ما فعل ما فعل من الأمور الخيرية التي دُعِيَ إليها لخيريتها، فما له أجر. والذي فعلها وهو مشرك لخيريتها نَفَعَتْه بالخير المَنْوِيِّ، فلا بد أن ينقاد الباطن والظاهر، وبالمجموع تحصل الفائدة مكتملة، لأن الداعي دعاه باسمه الجامع: وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ والمدعو دُعِيَ من الاسم الجامع لصفة جامعة وهو «الحج»، والحج لا يكون إلا بتكرار القصد، فهو جمع في المعنى. فما في الكون إلا مسلم، فوجب الحج على كل مسلم. فلهذا لم يُتَصَوَّر فيه خلاف بين علماء الرسوم وعلماء الحقائق، وعالِم الحقائق أتم من عالِم الرسوم في هذه المسألة» (الفتوحات ١: ٧٠١).

هكذا ندرك أننا مع ابن عربي ندور في دائرة، ننتهي فيها من حيث نبدأ، لكننا لا نعود إلى نفس النقطة؛ إذ يزيدنا الطواف في فلك ابن عربي، والسباحة في محيطه، وعيًا يستحيل معه أن تتشابه البداية والنهاية، رغم أنهما نقطة. إنها النقطة التي منها خرج الوجود وإليها يعود. وكما قال لنا ابن عربي في الفصل الأول إنه وصل إلى ما وصل من حالة «الجاهلية» إلى أفق «ختم الولاية» بفضل اتباع الشريعة والسير على نهج خاتم الأنبياء، فإن تحليلنا لتأويله للشريعة في هذا الفصل الأخير من كتابنا قد كشف لنا بعض جوانب التجرِبة وجوديًّا وعرفانيًّا. إن الشريعة هي ميزان الوجود، لها كالوجود ظاهر وباطن، وهي تشمل ظاهر الإنسان كما تشمل باطنه. بالعمل بها ظاهرًا وباطنًا تنكشف الحجب وتتجلى الحقيقة، وينبثق المعنى: معنى الوجود والحياة، لكنه المعنى الإنساني العام، معنى «الدين» و«الإسلام» الذي يشمل كل البشر.

١  يؤكد الشيخ، في نص شديد الدلالة، الفارق بين شهوده وشهود أهل الكمال من المتصوفة وبين شهود فلاسفة الإشراق، كما يمثلهم «شهاب الدين السُّهْرَوَرْدي»، فيقول مميزًا بين التجلي الذاتي — حيث لا لذة ولا كلام ولا خطاب، وحيث لا فاصل زمنيًّا بين «الشهود» و«العلم» — وبين التجلي «الصوري»؛ أي في صور الموجودات حيث يكون الكلام والخطاب والالتذاذ: «قال بعضهم: شهود الحق فناءٌ ما فيه لذة لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ فليس التفاضل ولا الفضل في التجلي وإنما التفاضل والفضل فيما يعطي الله لهذا المتجلَّى له من الاستعداد. وعين حصول التجلي عين حصول العلم لا يُعقل بينهما بونٌ كوجه الدليل في الدليل سواء، بل هذا أتم وأسرع في الحكم. وأما التجلي الذي يكون معه البقاء والعقل والالتذاذ والخطاب والقبول فذلك التجلي الصوري. ومن لم ير غيره ربما حكم على التجلي بذلك مطلقًا من غير تقييد. والذي ذاق الأمْرَين فرَّق ولا بد. بلغني أن الشيخ المسن شهاب الدين السُّهْرَوَرْدي ابن أخي أبي النجيب أنه يقول بالجمع بين الشهود والكلام فعلمت مقامه وذوقه عند ذلك؛ فما أدري هل ارتقى بعد ذلك أم لا. وعلمنا أنه في مقام التخيل وهو المقام العام الساري في العموم، وأما الخصوص فيعلمونه ويزيدون بأمرٍ ما هو ذوق العامة» (الفتوحات ٤: ٢١١).
٢  القائلون بمنع «القياس» هم «الظاهرية» أتباع «ابن حزم»، الذي يرى أن القياس قد يصل إلى تحريم شيء لم يحرمه الله تعالى بل سكت الشرع عنه. ويرى أن ما سكت الشرع عنه يجب أن يظل في دائرة «المباح». ويبدو أن ابن عربي من أتباع المذهب الظاهري على الأقل في منع القياس، لكنه لا يصل إلى حد تحريمه كما يذهب ابن حزم. تسامح ابن عربي مع المخالفين بصفةٍ لافتة، وسنرى في تحليله لمفهوم القياس هذا التسامح الواضح.
٣  هنا لا يحاول ابن عربي فقط الدفاع عن الشافعي، الذي استحق بجدارة لقب «ناصر السنة»؛ لأنه منحها بعدًا إلهيًّا بوصفها وحيًا، وإن كان على خلاف القرآن وحيًا غير لفظي، بل يَنزع إلى ضمه إلى قائمة «الأوتاد» فيضيف في مكان النقط في النص أعلاه: «رُوِّينا عن بعض الصالحين أنه لقي الخَضِر فقال له: ما تقول في الشافعي؟ قال [الخضر]: هو من الأوتاد. قال [السائل] ما تقول في «أحمد حنبل»؟ قال [الخضر] رجل صِدِّيق. قال [السائل] ما تقول في بِشرٍ الحافي؟ قال [الخضر]: ما ترك بعده مثله. فهذه شهادة الخضر في الشافعي.»
٤  قضية «طلاق المُكرَه» من القضايا الشرعية التي كان لها مغزى سياسي عند الفقهاء الأوائل، فيقال إن الإمام مالك بن أنس، حين أفتى بعدم جواز وقوع «الطلاق» بالإكراه، كان ذلك الحكم في جوهره يعني إعطاء مبرر شرعي للتنصل من بيعة خلفاء بني أمية — وبالتالي جواز الثورة ضد سلطتهم — لأن البيعة وقعت تحت التهديد والإكراه. ومن الواضح أن «أبا يوسف» تلميذ الإمام «أبي حنيفة» هو الذي خرق الإجماع وأباح طلاق المُكرَه في عصر الخليفة العباسي هارون الرشيد.
٥  لعله كان في ضمير الشيخ أن يكتب كتابًا على غرار كتاب ابن رشد «بداية المجتهد ونهاية المقتصد»، ولكن من منظور الصوفي الباحث عن الدلالات والمعاني الروحية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤