الفصل التاسع

طار أبو فراس إلى «برج الروم» على جواده، كأنه القدر المحتوم، ووراءه خادمه أسامة، وبعد ساعة لمح على الأرض أثر جواد يسلك الطريق نفسها، فثارت شبهاته وظنَّ الظنون، وخاف أن يكون أعداؤه قد سبقوه إلى نجلاء لنقلها إلى مكان آخر، فوكز جواده مُستحِثًّا فانطلق ينهب الأرض كأنه البرق الخاطف، أو الخيال الطائف، وبعد ساعتين ظهر شبح فارس، ترفعه النجود، وتخفضه الوهاد، فصاح بجواده وزجره زجر المتيئس، وألهب جنبيه بالسوط، حتى إذا دنا منه وأحس الفارس قربه حاول الفرار فكبا به فرسه، فقبض عليه أبو فراس وتأمل وجهه فإذا هو فهد خادم قرعويه، فسأله عن طيَّته، فتلعْثَم وتردد ثم قال بعد أن بلع ريقه مرتين: أظن أنني لم أكن أسيرًا فارًّا، وأعتقد أن لأي إنسان الحق في أن يذهب في أرض الله متى شاء وحيث شاء دون أن يُرهَق بسؤال.

– صحيح، إلا إذا حامت الشبهة حول شخص يريد الفساد في الأرض.

– وأي فساد يخشى من فارس يمتطي جواده ليسافر من بلد إلى بلد آخر؟

– الفساد في الغرض لا في السفر، وفي النية لا في الوسيلة، فإلى أي بلد أنت ذاهب؟

– إلى «بالس».

فالتفت أبو فراس إلى أسامة وقال: فتِّشه يا أسامة، ففتشه فلم يجد معه شيئًا، ثم أعاد التفتيش فلم يعثر على شيء، وهنا أخذ فهد يسخر منه في شماتة لاذعة، فغضب أسامة ولطمه على وجهه فطارت عمامته من على رأسه، فأسرع فهد في ذعر واهتمام إلى التقاط العمامة، ولحظ أبو فراس اهتمامه فصاح: هات العمامة يا أسامة، فلما ناوله إياها دقَّق البحث فيها ففطن إلى أن أحد جوانب القلنسوة أغلظ من باقيها، ففكَّ خياطتها فإذا ورقة بين الظهارة والبطانة كتب فيها:

من قرعويه قائد جيوش الأمير سيف الدولة، إلى خالد الشمَّاخ، إذا بلغتك رسالتي هذه، فأطلق السجينة نجلاء الخالدية، وابعث بها مع رسولنا فهد.

فلما قرأ أبو فراس الرقعة احتدم وجهه بالغضب، وأمر أسامة أن يقيِّد رجليْ فهد، ويُردفه وراء فرسه، بعد أن يربطه بالحبال إلى السرج. فأحكم أسامة وثاقه، وكان في أشد الحنق عليه والبغض له. وبعد أن ركبا خطر لأسامة وهما يعدوان فوق قمة أكمة، أن يقطع الحبال التي تربط الأسير بالفرس، ليستريح منه، ولتستريح الأرض من شره، فأخرج سكينه في خفية وسرعة، وقطع الحبال، ورمى السكين فسقط المسكين يتدهده من صخرة إلى صخرة، حتى وصل إلى الهاوية مهشَّمًا، فالتفت أبو فراس مذعورًا غاضبًا. وصاح: ويل لك يا أسامة، أأنت فعلت هذا؟

– لا يا سيدي، إن الشرير هو الذي قتل نفسه، ويظهر أنه قطع الحبال بشيء كان معه، وقد أخطأت إذ لم أقيد يديه أيضًا.

– أرجو أن تكون صادقًا … أسرع فقد خفَّ فرسك.

وبعد ساعات وصلا إلى «برج الروم» فترجَّل أبو فراس ووثب إلى داخل البرج قَلِقًا يساوره اليأس والأمل، فلقيه خالد الشماخ، ومال ليقبِّل يده، ولكنه جذبها منه وقال: أين سجينتك نجلاء؟ فأجاب مضطربًا: في الطبقة الثانية يا سيدي. فانطلق أبو فراس كما ينطلق السهم حتى بلغ غرفتها فأطل فإذا كومة من الثياب ملقاة على الأرض، لا تهزُّها حركة. فتأمل فإذا فتاة ساجدة وقد طال سجودها، فهتف وهو يرتعد: نجلاء! نجلاء! فرفعت رأسها فأضاء الغرفة نور وجهها الوضاح، ونظرت فإذا أبو فراس: فوثبت من صلاتها في شبه جنون، وهي تضحك وتبكي وتصيح. ثم ألقت بنفسها عليه والدموع تمتزج بالدموع، وبعد لأي قال أبو فراس وهو يلهث: كيف اختطفوك يا نجلاء! لقد اختطفوا روحي وعقلي وقلبي.

– إنني لم أجزع لاختطافي كما جزعت للبعد عنك، فلو أنهم كانوا اختطفوك معي لعشنا هنا عيشة هنيئة.

فضحك أبو فراس وهو يقول: إنني لا يختطفني إلا جيش جرار أيتها البلهاء، أرأيت كيف يعمل أعداؤنا على تفريقنا؟ أرأيت كيف ينصبون لنا الحبائل؟ فمالت إليه وهي تقول: من صاحب هذه المكيدة الجديدة؟ أتظنه قرعويه؟

– أنا في حيرة، إن الذي نفَّذها جندي يُدعى غالبًا التميميَّ، ولكني لا أعلم لمن كان يعمل، وقد أدركنا في الطريق فهدًا خادم قرعويه ففتشناه فوجدنا معه رقعة من سيده يأمر فيها السجَّان بإطلاقك. فهل يدل هذا على أنه واضع المكيدة؟

– لا، لو كان صاحب المكيدة ما مد فيها إصبعه هكذا علانية، وإنما أراد بالإسراع إلى تخليصي أن ينال عندي حظوة ومنزلة. قل لي: متى نستريح يا صاحبي من هذه الدسائس؟

– حينما نتزوج.

– ومتى نتزوج؟

– حينما لا تبقى قدم رومية فوق أرض عربية.

فتنهدت نجلاء وقالت: لقد أبعدت كثيرًا يا سيدي.

– لم أبعد، وإن سيفي ليحدِّثني بأن نصر الله قريب.

وهنا دخل خالد الشماخ حزينًا ذليلًا، بعد أن علم كيف خدعه اللصوص، وضحكوا من ذقنه، فصاح به أبو فراس: لا تثريب عليك يا صاحبي، فقد خدع الأشرار قبلك من كان يظن أنه أذكى منك.

– لقد دخلوا عليَّ يا مولاي في ثياب الجنود فما شككت في صدق قولهم.

– لقد كانوا جنودًا حقًّا، وإني أعلم أن إخلاصك للدولة، وجمودك في أداء الخدمة حالا بينك وبين الشك والتردد. وهنا قالت نجلاء: لقد كان خالد فيما وراء قيامه بواجبه كريمًا شريفًا.

وبعد أن استراح أبو فراس قليلًا، ركب جواده، وأركب نجلاء فرس فهد، وانطلقا يسابقان الريح حتى طلعا على حلب عند طلوع الشمس، وسرت البشرى في المدينة بعودة نجلاء. وأقبل العظماء والأدباء لتهنئتها، وتوافد على دارها كرائم النساء يعلنَّ السرور، ويتوقعن أن يسمعن حديثًا عجبًا عن اختطافها العجيب، ووصل الخبر إلى رملة فزاد حزنها، وتأجَّجت في قلبها نار الغيرة من جديد، وكاد يمسُّها ما يشبه الجنون.

وكان قرعويه بين القادمين لتهنئة نجلاء، فلما وصل إلى باب الدار تقدَّم أسامة الخبيث نحوه وقد أراد التشفِّي منه فقال في أدب وإجلال: لقد عثرنا على فرس لمولاي في الطريق يرعى العشب وليس معه فارس، رأينا بجانبه هذه القلنسوة، ومدَّ بها يده نحو قرعويه، فظهر منها الجانب الذي نقضت خياطته، فنظر إليها قرعويه والحقد والغضب يأكلان قلبه وقال وهو يبتسم ابتسامة الأسد: لعل حادثًا وقع للفارس يا أسامة، سننظر في كل هذا فيما بعد.

ولاقت نجلاء قرعويه بترحيب، ورآها أبو فراس فحاكاها في ريائها وهو يغمغم١ بقول أبي تمام:
النار تأكل بعضها
إن لم تجد ما تأكلهْ

وصفا العيش لأبي فراس ونجلاء، ومرَّت شهور وشهور وهما في ظلال النعيم يعبثان كما يعبث الطفلان المدلَّلان، فلم يكن يفرِّق بينهما إلا غزوات الروم. فقد غزاهم سيف الدولة في سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة، وكان يقود أعظم كتائبه فارسه المعلم أبو فراس، فأوقع بالروم في «سروج» ثم عرَّج على «مرعش» فأعاد بناء قلعتها وشتَّت جموع الروم، وأسر أبطالهم.

وما كادت تطلُّ سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة، حتى اتجه سيف الدولة بجيشه الزاخر، وأبو فراس في طليعته، نحو «ملطيَّة» فهزم الروم شرَّ هزيمة، ووقع في أسره قسطنطين فوكاس ابن ملك الروم. وفي هذه الموقعة يقول أبو فراس:

وولى على الرسم الدُّمُستق هاربًا
وفي وجهه عذرٌ من السيف عاذرُ٢
فدى نفسه بابنٍ عليه كنفسهِ
وللشدة الصماء تُقنى الذخائرُ٣

ولم تمض على هذه الغزوة إلا سنة حتى انقض جيش سيف الدولة على جيش الروم عند حصن «الحدث». وكان الروم في نحو خمسين ألفًا، فهزمهم وأسر صهر الملك وحفيده وكثيرًا من القواد، وأبلى أبو فراس في هذه الموقعة خير البلاء. حين يقول:

حسبي بها يوم الأحيدب وقعة
على مثلها في العز تُثنى الخناصرُ٤
عدلنا بها في قسمة الموت بينهم
وللسيف حكم في الكتيبة جائرُ
فلم يبق إلا صهره وابن بنتِهِ
وثوَّر بالباقين من هو ثائرُ
وكان يعود بعد كل غزوة وأعلام النصر تخفق فوق رأسه لينعم بالحياة هنيئة رغيدة إلى جانب من يحب، وكانت نجلاء تلوح بزواجهما بين الصَّبوة٥ والحياء، فلا تجد منه إلا إشارة لطيفة تدعوها إلى الصبر والانتظار.

وفي آخر سنة ثمانٍ وأربعين وثلاثمائة، عزم سيف الدولة على ضرب الروم في بلادهم، فعقد الراية لأبي فراس على القسم الأعظم من جيشه، وسار الجيش، ودمَّر كثيرًا من الحصون، وأملى قائد الروم لسيف الدولة وخدعه، حتى انتهى جيشه إلى «خرشنة» فدهمه عندها بجمع لا يُحصى، فحاول التقهقر ولكنه رأى أن الروم سدوا عليه الطرق والمضايق. وكان قرعويه بجانب أبي فراس، وكان الخبيث يعرف منفذًا واحدًا أغفله الروم، فرأى الفرصة وقد سنحت للقضاء على أبي فراس، فأرشده إلى منفذ آخر يُسمى «مغارة الكحل» فانطلق أبو فراس نحوه بجواده فسقط عليه الروم من كل جانب، فلم يستطع عن نفسه دفعًا، فاقتادوه أسيرًا، وفرَّ قرعويه مع سيف الدولة في ثلاثمائة غلام، بعد أن فقد رجاله وسلاحه، وكانت هزيمة منكرة.

اقتاد الأعداء أبا فراس إلى قلعة «خرشنة»، فسار بينهم فوق جواده مرتفع الرأس، ثابت القلب، يتحدَّى الكوارث، ويسخر من طوارق الأيام، وكانت القلعة رومانية البناء ضخمة حصينة شاهقة، تشرف من أكمة على نهر الفرات. فأدخلوه بها والسرور يملأ جوانحهم، والزهو ينفخ خياشيمهم؛ لأنهم ظفروا بصقر العرب وفارسهم المغوار الذي طالما شتَّت جموعهم وفزع قلوب شجعانهم. ودخل أبو فراس حجرته المظلمة الضيقة المنافذ وهو يقول:

إن زرت خرشنة أسيرًا
فَلَكَمْ حللتُ بها مغيرا
من كان مثلي لم يَبِتْ
إلا أميرًا أو أسيرا
ليست تحلُّ سراتنا
إلا الصدور أو القبورا
وبقي في الأسر أكثر من شهر، وهو في كل يوم يفكر في الفرار فلا يجد إليه من سبيل. وكان يخرج في أصيل كل يوم ممتطيًا جواده ليدور في فناء القلعة، وليطلَّ على الفرات، فكان إذا أطلّ عليه رأى بينه وبين القلعة ما يزيد على خمسمائة ذراع، فيحار بصره ويدركه اليأس. ولكن طائفًا من خيال نجلاء كان يبدد هذا اليأس، ويسخر من هذا الارتفاع الشاهق، ويزعم أن للحب أجنحة يطير بها العشاق إلى من يحبون، كان طيف نجلاء لا يفارقه في صحوه ومنامه، وكان اسمها لا يفتر عنه لسانه، وكانت ذكراها لا ترحل عن فكره ولا تريم. رآها مرة في نومها وهي باكية غاضبة، فلما حاول الدنوَّ منها نفرت منه، وقالت: إن الذي لا يستطيع أن يقرب مني في اليقظة، ليس أهلًا لأن يقرب مني في المنام، فهب من نومه جزعًا حزينًا، وخرج إلى فناء القلعة فامتطى جواده، وصمَّم على الفرار، ولو لقي في سبيله الموت. فوقف بفرسه على صخرة ونظر تحته فرأى الفرات من بعد سحيق وهو يمور ويزمجر كأنه الأسد ينتظر فريسته، فنزل وعصب عيني الفرس، ثم امتطاه وجمع قوَّته، واستحثَّ عزيمته، واستنجد بكل ما في نفسه من أمل، ونخس الجواد، وصاح به صيحة يعرفها، فوثب كأنه النسر المنقض، وبقي في الهواء زمنًا، وأبو فراس فوقه، وقد طوق عنقه بذراعيه كأنه الحرباء فوق فرع شجرة في يوم عاصف، حتى سقط في النهر فمات الفرس من شدة الصدمة، وأفاق أبو فراس من ذهوله، فرأى الموج يتواثب حوله ثائرًا صاخبًا، فاسترد عقله وعزيمته، وأخذ يسبح كما يسبح الحوت المذعور، وحراس القلعة ينظرون إليه من أعلاها مشدوهين مأخوذين، وقد قيَّدت الحيرة أرجلهم، وطوَّحت المفاجأة بصوابهم، فلما بلغ الشاطئ انطلق يعدو كالظليم. ويشاء القدر أن يمرَّ به في هذه اللحظة فارس من الروم، يمشي الهوينى، فيثب عليه أبو فراس كالذئب الجائع فيسقطه عن جواده، ثم يعلوه ويندفع به نحو حلب، وقلبه يكاد يطير من بين جنبيه، واستمرَّ يُغِذُّ٦ السير حتى بلغ المدينة، فهبَّت لاستقباله والإشادة ببطولته. وكان ذكره حديثَ المجامع، ووصف فراره ملء الأفواه والمسامع. وسعى إلى داره سيف الدولة في جمع من رجاله وبينهم قرعويه، فمد إليه سيف الدولة ذراعيه ضاحكًا باكيًا، مثنيًا على بطل العرب وصاعقة الروم.

وذهب أبو فراس للقاء نجلاء. وهنا نضع القلم عاجزين. فقد يُفسد الكلام وصف ما لا يستطيعه الكلام. ومال أبو فراس على أذن نجلاء هامسًا: الآن نستطيع الزواج يا حياتي، فإني أخشى ألا تطول حياتي. ففزعت نجلاء لهذا التطيُّر، وعنَّفته في دعابة ودلال، غير أنه لم تمض إلا أيام حتى أقيمت معالم الأفراح، وتزوج زين الأمراء بأجمل بنات حواء.

١  غمغم الكلام: لم يبينه.
٢  الدمستق: لقب كان لقائد جيش الروم.
٣  الشدة الصماء: الخطب الفادح، والداهية النكراء، والنازلة الثقيلة.
٤  أمر تعقد عليه الخناصر، أو تثنى عليه الخناصر؛ أي: يهتم ويعتد به.
٥  الصبوة: الحنين والشوق.
٦  أغذَّ السير: أسرع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤