الرحلة الثالثة

في بلَادِ الأقزام وَالعَمالقة

(١) هُبُوبُ الْعَاصِفَةِ

بَعْدَ أَنْ عُدْتُ مِنْ رِحْلَتِي الثَّانِيَةِ أَقَمْتُ بِبَغْدَادَ مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ هَادِئَ الْبَالِ مُسْتَرِيحَ الْقَلْبِ لَا يُعَكِّرُ صَفْوِي أَيُّ كَدَرٍ، وَلَكِنَّ نَفْسِي سَئِمَتْ حَيَاةَ الْكَسَلِ وَالرَّاحَةِ وَاشْتَاقَتْ إِلَى السَّفَرِ وَمَا فِيهِ مِنْ رِبحٍ وَفِيرٍ، فَاشْتَرَيْتُ كَثِيرًا مِنَ الْبَضَائِعِ وَسَافَرْتُ بِهَا مِنْ «بَغْدَادَ» إِلى «الْبَصْرَةِ» حَيْثُ اكْتَرَيْتُ أَنَا وَبَعْضُ التُّجَّارِ مَرْكَبًا كَبِيرًا أَقْلَعَ بِنَا وَسَارَ فِي عُرْضِ الْبَحْرِ، وَلَمْ نَزَلْ نَنْتَقِلُ مِنْ بَلَدٍ إِلى بَلَدٍ وَمِنْ جَزِيرَةٍ إِلى جَزِيرَةٍ وَنَحْنُ نَبِيعُ وَنَشْتَرِي وَنَرْبَحُ أَرْبَاحًا طَائِلَةً حَتَّى هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَظَلَّتِ الْأَمْوَاجُ تَتَقَاذَفُ الْمَرْكَبَ وَيُهَدِّدُنَا الْغَرَقُ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ، وَمَا زِلْنَا كَذَلِكَ حَتَّى ضَلَلْنَا الطَّرِيقَ وَمَكَثْنَا عِدَّةَ أَيَّامٍ تَائِهينَ فِي الْبَحْرِ لَا يَقَرُّ لَنَا قَرَارٌ حَتَّى لَاحَتْ لَنَا جَزِيرَةٌ كَبِيرَةٌ، فَلَمْ يَكَدْ يَرَاهَا الرُّبَّانُ حَتَّى لَطَمَ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ وَأَلْقَى بِعِمَامَتِهِ إِلى الْأَرْضِ وَصَاحَ خَائِفًا مَذْعُورًا: «لَقَدْ هَلَكْنَا وَضَاعَ كُلُّ أَمَلٍ فِي نَجَاتِنَا»

(٢) مَعَ الْأَقْزَامِ

فَسَأَلْنَاهُ عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ فَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْجَزِيرَةَ وَمَا يُجَاوِرُهَا مِنَ الْجَزَائِرِ يَقْطُنُهَا قَوْمٌ مِنَ الْأَقْزَامِ الْمُتَوَحِّشِينَ وَهُمْ — عَلَى قِصَرِ قَامَاتِهِمْ — كَثِيرُو الْعَدَدِ، وَلَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِنَا أَنْ نُقَاوِمَهُمْ».

وَلَمْ يَكَدْ يَنْتَهِي الرُّبَّانُ مِنْ كَلَامِهِ حَتَّى خَاضَ إِلَيْنَا الْمَاءَ أُولَئِكَ الْهَمَجُ الْمُتَوَحِّشُونَ وَأَحَاطُوا بِنَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَكَانَ طُولُ كُلٍّ مِنْهُمْ لَا يَزِيدُ عَلَى قَدَمَيْنِ، وَعَلَى جُسُومهِمْ فِرَاءٌ حُمْرُ الْأَلْوَانِ وَتَحَدَّثُوا بِكَلَامٍ لَا نَفْهَمُهُ، ثُمَّ قَادُوا السَّفِينَةَ مُسْرِعِينَ إِلى شَاطِئ الْجَزِيرَةِ فَلَمْ نَسْتَطِعِ الدِّفَاعَ عَنْ أَنْفُسِنَا لِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ، وَاسْتَسْلَمْنَا عَاجِزِينَ عَنْ كُلِّ مُقَاوَمَةٍ.

ثُمَّ أَنْزَلُونَا مِنَ الْمَرْكَبِ عَلَى شَاطِئ الْجَزِيرَةِ وَأَقْلَعُوا بِهِ إِلَى مَكَانٍ نَجْهَلُهُ وَتَرَكُونَا حَيَارَى لَا نَدْرِي كَيْفَ نَعْمَلُ.

فَسِرْنَا فِي الْجَزِيرَةِ كَاسِفِي الْبَالِ لَا أَمَلَ لَنَا فِي النَّجَاةِ وَالْخَلَاصِ مِنْ هَذَا الْأَسْرِ.

(٣) قَصْرُ الْعِمْلَاقِ

وَلَاحَ لَنَا قَصْرٌ كَبِيرٌ — عَلَى مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ مِنَ الْجَزِيرَةِ — فَقَصَدْنَا إِلَيْهِ، حَتَّى بَلَغْنَاهُ، فَوَجَدْنَاهُ قَلْعَةً شَاهِقَةً مُحْكَمَةَ الْبنَاءِ، فَتَعَاوَنَّا جَمِيعًا عَلَى فَتْحِ بَابِهِ الْكَبِيرِ، ثُمَّ دَخَلْنَا فِنَاءَهُ، فَوَجَدْنَا فِيهِ كَوْمَةً مِنَ الْعِظَامِ الْبَشَرِيَّةِ، فَهَالَنَا ذَلِكَ الْمَنْظَرُ وَامْتَلَأَتْ قُلُوبُنَا مِنْهُ رُعْبًا. وَلَمْ يَنْطِقْ أَحَدٌ مِنَّا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ — لِشِدَّةِ مَا لَحِقَنَا مِنَ الذُّعْرِ — وَبَقِينَا خَائِفينَ طُولَ النَّهَارِ حَتَّى إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، سَمِعْنَا صَرِيرَ الْبَابِ الْخَارِجِيِّ وَهُوَ يُقْفَلُ، وَرَأيْنَا عِمْلَاقًا هَائِلًا يَدْخُلُ عَلَيْنَا وَهُوَ — فِي مِثْلِ طُولِ النَّخْلَةِ — أَسْوَدُ الْوَجْهِ، لَهُ عَيْنٌ وَاحِدَةٌ يَكَادُ يَتَطَايَرُ مِنْهَا الشَّرَرُ، وَأَنْيَابٌ طَوِيلَةٌ حَادَّةٌ مُرَوِّعَةٌ!

(٤) فِي حَضْرَةِ الْعِمْلاَقِ

وَلَمْ نَكَدْ نَرَاهُ حَتَّى تَمَلَّكَنَا الرُّعْبُ وَاسْتَوْلَى عَلَيْنَا الْهَلَعُ وَالْفَزَعُ وَصِرْنَا كَالْمَوْتَى وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْنَا نَظَرَاتٍ مُخِيفَةً، ثُمَّ اقْتَرَبَ مِنِّي وَأَمْسَكَ بِي — وَأَنَا كَالْعُصْفُورِ فِي يَدهِ — فَرَآنِي نَحيفًا هَزيلَ الْجِسْمِ، فَتَرَكَنِي، وَأَخَذَ غَيْرِي فَرَآهُ نَحِيفًا فَلَمْ يُعْجِبْهُ أَيْضًا.

figure

(٥) كَيْفَ شَوَى الرُّبَّانَ

وَنَظَرَ الْعِمْلاَقُ إِلَى الرُّبَّانِ فَرَآهُ سَمِينًا فَأَعْجَبَهُ، وَأَمْسَكَ بِهِ وَلَوَى رَقَبَتَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ جَاءَ بِسَفُّودٍ طَوِيلٍ فَأَنْفَذَهُ فِيهِ، وَأَوْقَدَ نَارًا حَامِيَةً وَوَضَعَهُ عَلَيْهَا، وَمَا زَالَ يُقَلِّبُهُ حَتَّى شَوَاهُ فَأَكَلَ لَحْمَهُ وَرَمَى عِظَامَهُ عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ نَامَ فَسَمِعْنَا لَهُ شَخِيرًا عَالِيًا.

(٦) فِي الْيَوْمِ التَّالِي

وَلَمَّا أَصْبَحَ الصَّبَاحُ خَرَجَ الْعِمْلاَقُ مِنَ الْقَصْرِ وَتَرَكَنَا، فَخَرَجْنَا إِلى الْجَزِيرَةِ يَائِسِينَ، وَتَمَنَّيْنَا لَوْ كُنَّا غَرِقْنَا فِي الْبَحْرِ وَلَمْ نَقَعْ فِي قَبْضَةِ هَذَا الْغُولِ الْمُخِيفِ، حَتَّى لَا يَكُونَ نَصِيبَنَا هَذِهِ الْمَوْتَةُ الشَّنْعَاءُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ لِتَخْطُرَ لَنَا عَلَى بَالٍ.

وَبَحَثْنَا طُولَ النَّهَارِ عَنْ مَكَانٍ نَخْتَبِئُ فِيهِ فَلَمْ نَظْفَرْ بِطَائِلٍ، فَعُدْنَا إِلَى الْقَصْرِ خَائِفِينَ، وَجَاءَ الْعِمْلاَقُ بَعْدَ قَلِيلٍ فَشَوَى أَحَدَنَا — كَمَا شَوَى بِالْأَمْسِ رُبَّانَ السَّفِينَةِ — وَأَكَلَهُ وَنَامَ إِلَى الصَّبَاحِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى حَيْثُ لَا نَدْرِي، وَخَرَجْنَا هَائِمِينَ فِي الْجَزِيرَةِ، وَقَدْ أَشَارَ عَلَيْنَا بَعْضُ رِفَاقِنَا أَنْ نُلْقِيَ بِأَنْفُسِنَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى نَنْجُوَ مِنْ هَذِهِ الْمَوْتَةِ الْمُرَوِّعَةِ. وَأَشَارَ آخَرُونَ أَنْ نَحْتَالَ لِقَتْلِ الْعِمْلاَقِ.

(٧) فُلْكُ النَّجَاةِ

فَأَشَرْتُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُهَيِّئُوا فُلْكًا مِنْ خَشَبِ الْأَشْجَارِ، حَتَّى إِذَا لَمْ نَنْجَحْ فِي قَتْلِ الْعِمْلَاقِ هَرَبْنَا مِنَ الْجَزِيرَةِ فِي تِلْكَ الْفُلْكِ، فَفَرِحُوا جَمِيعًا بِهَذَا الرَّأْيِ، وَشَرَعْنَا فِي الْعَمَلِ بِجِدٍّ وَنَشَاطٍ حَتَّى إِذَا تَمَّتِ الْفُلْكُ وَضَعْنَا فِيهَا مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الزَّادِ وَرَبَطْنَاهَا إِلَى شَاطِئ الْبَحْرِ.

(٨) تَنْفِيذُ الْمُؤَامَرَةِ

وَعُدْنَا إِلَى الْقَصْرِ، فَجَاءَ الْعِمْلاَقُ فَفَعَلَ بِثَالِثٍ مِنَّا مَا فَعَلَهُ بِسَابِقَيْهِ ثُمَّ نَامَ كَعَادَتِهِ وَعَلَا شَخِيرُهُ، فَوَضَعْنَا سَفُّودَيْنِ فِي النَّارِ حَتَّى احْمَرَّا، ثُمَّ أَدْخَلْنَاهُمَا مَعًا بِقُوَّةٍ فِي عَيْنِهِ — وَهُوَ نَائِمٌ — فَصَرَخَ صَرْخَةً هَائِلَةً مِنْ شِدَّةِ الْأَلَمِ، وَقَامَ هَائِجًا كَالْمَجْنُونِ يَبْحَثُ عَنَّا بَعْدَ أَنْ عَمِيَتْ عَيْنُهُ، فَلَمْ يَهْتَدِ إِلَى أَحَدٍ، فَسَارَ إِلى الْبَابِ فَفَتَحَهُ وَخَرَجَ، فَفَرِحْنَا بِذَلِكَ وَحَسِبْنَا أَنَّنَا أَصْبَحْنَا بِمَأْمَنٍ مِنْ شَرِّهِ!

(٩) اِنْتِقَامُ الْعَمَالِقَةِ

وَلَكِنَّ فَرَحَنَا لَمْ يَطُلْ، فَقَدْ جَاءَ إِلَيْنَا — بَعْدَ قَلِيلٍ — جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَمَالِقَةِ يُغَايِرُونَهُ فِي الشَّكْلِ وَلا يَقِلُّونَ عَنْهُ وَحْشِيَّةً وَفَظَاظَةً، فَهَرَبْنَا مِنْهُمْ مُسْرِعِينَ إِلَى الْفُلْكِ الَّتِي صَنَعْنَاهَا، فَلَمَّا رَأَوْنَا فِي الْبَحْرِ ظَلُّوا يَرْجُمُونَنَا بِحِجَارَةٍ كَبِيرَةٍ فَقَتَلُوا رِفَاقِي وَلَمْ يَنْجُ مَعِي مِنْهُمْ إِلَّا اثْنَانِ.

(١٠) الْفِرَارُ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَمَالِقَةِ

وَبَعْدَ أَنْ نَجَوْنَا مِنْ شَرِّ أُولَئِكَ الْعَمَالِقَةِ أَصْبَحْنَا تَحْتَ رَحْمَةِ الْأَمْوَاجِ الْهَائِجَةِ — طُولَ نَهَارِنَا وَلَيْلَتِنَا — حَتَّى إِذَا أَصْبَحَ الصَّبَاحُ قَذَفَتْنَا الْأَمْوَاجُ إِلَى شَاطِئ جَزِيرَةٍ كَبِيرَةٍ، فَفَرِحْنَا بِذَلِكَ وَأَكَلْنَا مِنْ فَاكِهَتِهَا الطَّيِّبَةِ وَشَرِبْنَا مِنْ مَائِهَا الْعَذْبِ، ثُمَّ جَلَسْنَا عَلَى شَاطِئ الْبَحْرِ فَرِحِينَ بِالنَّجَاةِ مِنْ أَرْضِ الْعَمَالِقَةِ.

(١١) فِي فَمِ أَفْعَى

وَلَمَّا جَاءَ اللَّيْلُ نِمْنَا فَوْقَ شَجَرَةٍ عَالِيَةٍ وَاسْتَيْقَظْنَا فَزِعِينَ فَرَأَيْنَا حَيَّةً هَائِلةً قَدِ الْتَقَمَتْ وَاحِدًا مِنْ رَفِيقَيَّ، فَسَمِعْنَا عِظَامَهُ تَتَكَسَّرُ فِي جَوْفِهَا وَهِيَ تَبْتَلِعُهُ فَاشْتَدَّ خَوْفُنَا وَهَالَنَا الْأَمْرُ وَقُلْنَا: «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، كُلَّمَا نَجَوْنَا مِنْ مُصِيبَةٍ وَقَعْنَا فِيمَا هُوَ شَرٌّ مِنْهَا».

figure

وَلَمَّا أَصْبَحَ الصَّبَاحُ أَكَلْنَا وَشَرِبْنَا حَتَّى إِذَا جَاءَ اللَّيْلُ صَعِدْنَا إِلَى شَجَرَةٍ أُخْرَى فَنِمْتُ بِأَعْلَاهَا وَنَامَ رَفِيقِي قَرِيبًا مِنِّي، وَبَعْدَ قَلِيلٍ جَاءَتِ الْحَيَّةُ فَالْتَقَمَتْ رَفِيقِي كَما الْتَقَمَتْ صَاحِبَهُ بِالْأَمْسِ!

(١٢) كَيْفَ نَجَا السِّنْدِبَادُ مِنَ الْأَفْعَى

فَمَكَثْتُ طُولَ اللَّيْلِ خَائِفًا حَتَّى إِذَا أَصْبَحَ الصَّبَاحُ هَمَمْتُ أَنْ أُلْقِي بِنَفْسِي فِي الْبَحْرِ فَمَنَعَنِي مِنْ ذَلِكَ حُبُّ الْحَيَاةِ فَتَجَلَّدْتُ، وَلَمَّا اقْتَرَبَ اللَّيْلُ أَحْضَرْتُ أَلْوَاحًا مِنَ الْخَشَبِ وَشَدَدْتُ جِسْمِي إِلَيْهَا شَدًّا وَثِيقًا، وَجَاءَتِ الْحَيَّةُ — كَعَادَتِهَا — تُحَاوِلُ أَنْ تَبْتَلِعَنِي كَمَا ابْتَلَعَتْ رَفِيقَيَّ، فَحَالَتِ الْأَلْوَاحُ الْمَشْدُودَةُ حَوْلِي دُونَ ذَلِكَ، وَظَلَّتِ الْحَيَّةُ طُولَ اللَّيْلِ تُحَاوِلُ أَنْ تَجِدَ مَنْفَذًا إِلَيَّ — مِنْ خِلَالِ الْأَلْوَاحِ — دُونَ أَنْ تَظْفَرَ بِطَائِلٍ، فَلَمَّا بَدَا الصَّبَاحُ عَادَتْ مِنْ حَيْثُ أَتَتْ فَحَلَلْتُ الرِّبَاطَ وَخَرَجْتُ مِنْ بَيْنَ الْخُشُبِ وَأَنَا أَحْمَدُ اللهَ عَلَى السَّلَامَةِ.

(١٣) الْأَمَلُ بَعْدَ الْيَأْسِ

وَجَلَسْتُ عَلَى شَاطِئ الْبَحْرِ يَائِسًا مَهْمُومًا أُفَكِّرُ فِيمَا حَلَّ بِي مِنَ الْمَصَائِبِ، فَلَمَحْتُ مَرْكَبًا كَبِيرًا عَلَى مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ، فَلَمْ أَزَلْ أَصْرُخُ وَأَصِيحُ — مُشِيرًا بِيَدِي مَرَّةً وَمُلَوِّحًا بِعِمَامَتِي مَرَّةً أُخْرَى — حَتَّى فَطِنَ إِلَيَّ بَعْضُ مَنْ بِالْمَرْكَبِ، فَاقْتَرَبُوا مِنَ الْجَزِيرَةِ وَرَسَوْا عَلَى شَاطِئهَا، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمْ فَرَدُّوا عَلَيَّ السَّلامَ، وَفَرِحْتُ بِلِقَائِهمْ فَرَحًا عَظِيمًا، ثُمَّ حَمَلُونِي مَعَهُمْ وَسَأَلُونِي عَنْ أَمْرِي فَقَصَصْتُ عَلَيْهِمْ كُلَّ مَا حَدَثَ لِي، فَعَجِبُوا مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْعَجَبِ وَأَطْعَمُونِي وَسَقَوْنِي وَأَكْرَمُونِي أَحْسَنَ إِكْرَامٍ.

(١٤) رُبَّانُ السَّفِينَةِ

وَلَمْ يَزَلِ الْمَرْكَبُ سَائِرًا بِنَا حَتَّى بَلَغْنَا بَلَدًا كَبِيرًا، فَقَالَ لِي الرُّبَّانُ: «إِنَّ عِنْدِي بِضَاعَةً لِرَجُلٍ اسْمُهُ «السِّنْدِبَادُ الْبَحْرِيُّ» كَانَ مَعَنَا ثُمَّ نَسِينَاه فِي جَزِيرَةٍ مَرَرْنَا بِهَا».

فَتَأَمَّلْتُ الرُّبَّانَ فَعَرَفْتُهُ وَأَخْبَرْتُهُ أَنَّنِي أَنَا «السِّنْدِبَادُ الْبَحْرِيُّ» فَلَمْ يُصَدِّقْنِي أَوَّلَ الْأَمْرِ، وَاجْتَمَعَ التُّجَّارُ حَوْلِي وَكَانَ مِنْ بَيْنِهِم التَّاجِرُ الَّذِي تَعَلَّقْتُ بِذَبِيحَتِهِ — فِي رِحْلَتي السَّابِقَةِ الَّتِي قَصَصْتُهَا عَلَيْكُمْ — فَلَمْ يَكَدْ يُنْعِمُ النَّظَرَ فِيَّ حَتَّى عَرَفَنِي وَقَصَّ عَلَيْهِمْ مَا حَدَثَ لِي مَعَهُ، فَحَدَّقَ الرُّبَّانُ نَظَرَهُ فِيَّ فَعَرَفَنِي وَتَحَقَّقَ صِدْقَ قَوْلِي، فَعَانَقَنِي فَرِحًا مَسْرُورًا.

(١٥) فِي بَغْدَادَ

وَمَا زِلْنَا نَنْتَقِلُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَمِنْ جَزِيرَةٍ إِلَى جَزِيرَةٍ — وَتِجَارَتُنَا رَابِحَةٌ — حَتَّى وَصَلْنَا إِلَى «الْبَصْرَةِ» ثُمَّ سَافَرْتُ مِنْهَا إِلَى «بَغْدَادَ» وَمَعِي أَمْوَالٌ لَا تُحْصَى، وَأَقْبَلَ عَلَيَّ أَهْلِي وَأَصْحَابِي يُهَنِّئُونَنِي بِرُجُوعِي سَالِمًا وَقَدْ فَرِحُوا بِي فَرَحًا لَا يُوصَفُ.

وَلَمَّا انْتَهَى «السِّنْدِبَادُ» مِنْ كَلَامِهِ أَمَرَ لِلْحَمَّالِ بِمائَةِ دِينَارٍ، فَدَعَا لَهُ وَخَرَجَ مَعَ الْحَاضِرِينَ، وَلَمَّا حَضَرُوا فِي الْيَوْمِ التَّالِي بَدَأَ «السِّنْدِبَادُ» يَقُصُّ عَلَيْهِمْ رِحْلَتَهُ الرَّابِعَةَ فَقَالَ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤