نمط الكتاب وأبوابه

قد قلنا في طريقة الكتاب: أما تأليفه وأسلوبه ونمطه فإننا لم نأل جهدًا في البحث والتنقيب، ولم نأخذ في أمرنا بالرِّسلة ولو استوطأنا منه الهين الهين؛ بل طاولنا ما طال من التعب، وصابرنا ما يعز عليه الصبر من الضجر، وما زلنا نرد النفس على مكروهها حتى استقرت، فلم نترك كتابًا يمكن أن يستفاد منه حرف مما نحن بسبيله إلا قرأناه في طلبه١ وحملنا على النفس ما يكون من نصبه، وهذا أمر كما ترى متطاول، ومنال ولكن لم نجد له لبعده من متناول، ثم إن مواد هذا التاريخ إذا لم يتولها الكاتب بالذهن الشفاف ولم يعتبرها بالفطنة النفاذة حتى يكون لغيبها كالعراف فقلما تجتمع إلا متفرقة في طلب مواضعها، منازعة إلى منازعها، لأنها في أصلها غير كاملة النسق، ولا قريبة المتسق؛ ومن تحرى ما تحريناه من ذلك يقف من تاريخ الأدب على غور بعيد.

ولم نبالغ في تهذيب العبارة، ولا تدقيق المعاني، ولا تنقيح الألفاظ؛ إذ كان سبيل التاريخ أن لا يجيء عن طبقة واحدة من الناس، فبالحري لا يوضع لطبقة واحدة منهم، وحسبنا من البلاغة أن يكون كتابنا مطابقًا لمقتضى الحال …

ولم نستكثر من الأمثلة (والمختارات)؛ رغبةً منا عن حشو الكتاب بما لا فائدة فيه إلا تعذيب حجمه، وتذنيب نجمه؛ إذ كان ذلك لا يغني شيئًا في مادة التاريخ، إلا قليلًا منه يستوفى به حق النقد، ويدل ببعضه على أثر من آثار ما نحن فيه، والأمثلة مطروحة في طرق النظر من كل كتاب، وقد ابتذلها المتأخرون حتى لم يعد من دونها حجاب.٢

وكذلك ضربنا صفحًا عن الروايات الضعيفة، والمبالغات السخيفة، وما اعترضنا من التكاذيب والتهاويل إلى ما يدل في تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وبالغنا في التثبت والتحقيق وتصفح الآراء وتجريح النقلة والرواة، مقتصدين في الثقة بهم، معتدلين في التهمة لهم، لا نتجاوز مقدار الصواب حتى نقبل ما لا يعقل، ولا مقدار الوهن حتى نلحق ما يُقبل بما لا يُقبل.

وقد جعلنا أبوابه اثني عشر بابًا تنطوي على جملة المأثور، ويدور عليها التاريخ كما تدور السنة على عدة الشهور، وهذه سياقتها بعد فصلين من التمهيد في تاريخ الأدب، وأصل العرب:
  • الباب الأول: في تاريخ اللغة ونشأتها وتفرعها وما يتصل بذلك.
  • الباب الثاني: في تاريخ الرواية ومشاهير الرواة وما تقلب من ذلك على الشعر واللغة.
  • الباب الثالث: في منزلة القرآن الكريم من اللغة وإعجازه وتاريخه، وفي البلاغة النبوية ونسق الإعجاز فيها.
  • الباب الرابع: في تاريخ الخطابة والأمثال: جاهليةً وإسلامًا.
  • الباب الخامس: في تاريخ الشعر العربي ومذاهبه والفنون المستحدثة منه وما يلتحق بذلك.
  • الباب السادس: في حقيقة القصائد المعلقات ودرس شعرائها.
  • الباب السابع: في أطوار الأدب العربي وتقلب العصور به وتاريخ أدب الأندلس إلى سقوطها، ومصرع العربية فيها.
  • الباب الثامن: في تاريخ الكتابة وفنونها وأساليبها ورؤساء الكتاب وما يجري هذا المجرى.
  • الباب التاسع: في حركة العقل العربي وتاريخ العلوم وأصناف الآداب جاهليةً وإسلامًا «بالإيجاز» التاريخي.
  • الباب العاشر: في التأليف وتاريخه عند العرب ونوادر الكتب العربية.
  • الباب الحادي عشر: في الصناعات اللفظية التي أولع بها المتأخرون في النظم والنثر وتاريخ أنواعها.
  • الباب الثاني عشر: في الطبقات وشيء من الموازنات.

هذه هي حوادث التاريخ وأبوابه، ومنها كما ترى فصوله وكتابه، وأنا أسأل الله أن يكون قد كتب فيه من السلامة ما يحقق به الفائدة للقراء، وأن يهب له من حسنات أهل الإنصاف ما يكفر عن سيئات أهل المراء. والحمد لله على ما أنعم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

هوامش

(١) اصطلح بعض المتأخرين على أن يذكروا في مؤلفاتهم أسماء الكتب التي ينقلون عنها؛ ويعتبرون مواضع النقل ليخرجوا من تبعة ما ينقلون إذا كان خطأ؛ فيلقون ذلك على الكتاب زيادةً في حسنات مؤلفه …!
وقد كان سبيل الرواية عند محققي المتقدمين أن يذكر الراوية سنده في كل ما يرويه للقطع بصحته أو فساده، إذ العدالة شرط في الصحة؛ فإن لم يذكر أنه روى عن فلان عن فلان إلخ يسميهم، لم تعرف عدالة المروي عنهم، فلان يوثق بصحة ما يرويه؛ وبذلك لا يكون ذكر السند إلا لإثبات الصحة، وسيأتيك هذا البحث مستفيضًا. أما نحن فلما لم يكن لنا سند، وكنا نستهجن أن نثبت شيئًا لا نمخض الرأي فيه ولا نثق بصحته بعد تقدم النظر، دون أن ننبه عليه إذا مست الضرورة إلى إثباته فقد أهملنا ذكر الكتب؛ لأن ذلك تطويل من غير طائل، ولأننا نبسط كل معنى نأخذ فيه، ولم نعين مواضع ما ننقله لأن علينا تبعته.
(٢) لعلنا نتبع هذا التاريخ بكتاب «القرائح العربية» الذي انتقينا فيه عيون الكلام نظمه ونثره إن شاء الله!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤