مقدمة الطبعة الأولى

بقلم  محمد سعيد العريان
٢٠ من ربيع الآخر سنة ١٣٥٩  /  ٢٧ من مايو سنة ١٩٤٠
قلت عن طريقة الرافعي في الكتابة ما وسعني أن أعرفه بنفسي حين كنت أكتب له، فقد أملى عليَّ أكثر من مائة مقالة، كنت شاهده فيها، إذ يُلَّقى الوحي، ويهذب الفكرة، ويرتب المعاني، ويتألف الألفاظ، حتى تفصل عنه المقالة إلى نفس قارئها، كما هي في نفسه.١

وأحسب أن طريقته العامة في كل ما كتب من المقالات، هي ما وصفت عن عيان وملاحظة، ولكن لم يتهيأ لي أن أشهده حين يؤلف في موضوع من موضوعات العلم، مما يقوم على التتبع، والاستقراء، وتقليب الصحائف، وبعث الدفائن، والارتفاق إلى الكتب، والاستعانة بما انتهى إليه السابقون، من حقائق العلم، ونتائج البحث والروية، ثم التهدي من ذلك إلى رأي، ينتهي بمقدماته إلى نتيجة.

وأنا قد قرأت الجزء الأول من كتاب «تاريخ آداب العرب» منذ بضع عشرة سنة، وألممت منه بما ألممت، واهتديت، ثم عدت إلى نفسي أسائلها: أين، ومتى اجتمع لمؤلفه هذا القدر من المعارف في شئون العرب والعربية، فألف بين أشتاتها في هذا الكتاب؟

وظل هذا السؤال قائمًا في نفسي زمنًا، وما أزال من مطالعاتي في الأدب القديم أقع على شيء بعد شيء، في صفحات متفرقة من كتب عدة، ينسي آخرها أولها، من تباعد الزمان بينها، وكلها مما اجتمع للرافعي في كتابه. وكان ذلك يزيدني عجبًا وحيرة … وهممت أن أسأل الرافعي مرة، ولكني لم أفعل، وهممت أن أعرف بنفسي، فلم أبلغ، ثم عزوت ذلك إلى ذاكرة الرافعي، وسرعة حفظه، وقلت: متفرقات قد عرفها في سنين متباعدة فوعتها حافظته، فلما هم أن يؤلف كتابه، أمدته الذاكرة بما وعت منها، وكان مستحيلًا عليه أن يجمعها، لو لم تجتمع له من ذات نفسها. واطمأننت إلى هذا الاستنتاج، ونسبت إليه عدم ذكر الرافعي للمراجع التي استعان بها في ذلك الكتاب؛ لأنه يروي عن ذاكرته! ثم قرأت له بحثه في «الرواية والرواة»؛ فإذا هو يتحدث عن أثر الحفظ في مؤلفات العلماء، وينادي بإحياء هذه السنة، سنة حفظ العلم، واستظهار كتبه.٢ فتأكد لي ما رأيت، وكان وهمًا من الوهم، عرفت حقيقته فيما بعد …

يعرف قراء العربية أن كل كتب المراجع في لغتنا ليس لها فهارس، تعين الباحث على التماس ما يريده منها في أقصر وقت، إلا بضع كتب من المطبوعات الحديثة؛ فالأغاني، والعقد الفريد، والكامل، والعمدة، والخزانة، والحيوان، والبيان والتبيين، وكتب الطبقات، وحتى كتب الفهارس والتراجم، ليس لها فهارس يمكن الاعتماد عليها عند البحث، فمن أصاب منها غرضًا، فعن طريق المصادفة والاتفاق، أو بعد المطاولة وضياع الزمن. وحسبي أن أذكر أنني ذات مرة أنفقت ليلة كاملة في البحث عن كلمة في البيان والتبيين، ثم لم أعثر بها، فطويته على سأم وملالة، فلما كنت بعد أيام، وقد فات عليَّ الغرض الذي كنت أقصد، فتحت الكتاب عرضًا، فإذا الكلمة التي كنت أريدها أمامي …

هذه الحقيقة يعرفها كل من عانى مشقة البحث في هذه الكتب، فهي كتب للقراءة المجردة، لا للبحث والتنقيب العلمي. عرف الرافعي ذلك فاتخذ له طريقًا …

فكان أول ما يصنع، أن ينتخب كل الكتب التي يعنيه أمرها فيما يمهد له من البحث، فيقرأها كلها قراءة درس؛ أعني ينفضها نفضًا، بحيث لا يفوته منها معنًى يتصل بموضعه. ثم يشرع بعد ذلك في العمل. فيكتب لكل كتاب مما قرأ ملخصًا، يضم المجلدات الكثيرة في كراسة أو كراسات، يرجو أن تغنيه عن أصولها المطولة. ثم يعود إلى هذه الملخصات، فيرتب أجزاءها ترتيبًا يضم القريب إلى القريب، بحيث يجد طلبته عند النظرة الأولى من غير أن يتعب في تقليب الأوراق. ثم تكون الخطوة الرابعة، فيزاوج بين ملخصات الكتب المختلفة، بضم الأشباه منها إلى الأشباه … ثم يكتب …

ثم يعود إلى ذلك المكتوب فيقرؤه قراءة الباحث: يزاوج بين رأي ورأي، ليخرج منهما إلى رأي ثالث … وتجتمع له من ذلك المقدمات، التي تبلغ به النتيجة …

ثم تأتي المرحلة الأخيرة، وهي التهذيب والصقل الفني، من صناعة البيان، وتحكيك الألفاظ، وتجميل المعاني، وتزيين الأسلوب.

سبع مراحل بين البدء والنهاية … ثم يخرج الكتاب لقارئه، ليسائل نفسه في عجب: أين، ومتى اجتمع لمؤلفه ذلك القدر من المعارف في شئون العرب والعربية، فألف بين أشتاتها في هذا الكتاب؟

سؤال كنت أسأله نفسي قبل أن أرى، وأعرف، وأضع يدي على تلك الأوراق التي خلفها في درج مكتبه، لأؤلف من أشتاتها هذا الكتاب.

قلت: كانت المرحلة الأولى من مؤلفات الرافعي العلمية، أن يختار طائفة من الكتب يرجو أن تعينه على البحث … وأقول: إن أول ما كان يختار من ذلك، كتب التراجم. وطريقته في التحصيل من هذه الكتب، أن يقرأ الكتاب ما بين دفتيه، ثم يكتب له ملخصًا، يشمل أسماء أهل الفنون الأدبية، وامتياز كل منهم، مثل الشعراء، والخطباء، والكتاب، والرواة، ثم أسماء الكتب، وموضوعها، وفنون العلم، ومعارضات العلماء بعضهم لبعض، ثم الطرائف الأدبية، التي تشير إلى معنًى يتصل بشيء من موضوعه. وفي كتب التراجم من هذه الطرائف ما ليس في كتاب.

وأستطيع أن أقول جازمًا: إن الرافعي اعتمد على كتب الطبقات والتراجم في الجمع لهذا الكتاب، أكثر مما اعتمد على الكتب الخالصة للأدب، وكان اتجاهه إلى ذلك سببًا في توفيقه إلى ما لم يوفق إليه غيره في موضوعه.

قدمت في الجزء الأول من هذا الكتاب، ذكر السبب الذي حفز الرافعي للتأليف في تاريخ آداب العرب، قلت: إنه انقطع لذلك في منتصف سنة ١٩٠٩، ثم أخرج الجزأين؛ الأول والثاني في سنتي ١٩١١و١٩١٢، ولم يظهر له بعد ذلك شيء، حتى وفاه أجله!

وكنت سمعت منه رحمه الله أنه أتم الجزء الثالث، ورأيت موضعه من خزانة كتبه، ولكني لم أقرأ منه شيئًا، ولم أعرف موضوع بحثه، ثم قرأت على غلاف بعض مؤلفاته المطبوعة إعلانًا عن الجزء الثالث، وموضوعه «تاريخ الخطابة والأمثال والشعر»، فأيقنت أنه كتاب تام التأليف والتصنيف.

فلما كان الشتاء الماضي، واتفقت «المكتبة التجارية» على نشر مكتبة الرافعي، ذكرت فيما ذركت هذا الكتاب، وعرضت أمره، فرغبت المكتبة في نشره، ووكلت إليَّ أن أقوم بترتيب مواده، وتنظيم أبوابه، وتحقيق أصوله، وإعداده للطبع، وضربت لذلك أجلًا قريبًا، فرضيت … كل ذلك ولم أقرأ الكتاب، ولم أستيقن موضوعه، ولم أطلع عليه، وكل مبلغي من العلم به أنني أعرف موضعه من خزانة كتب مؤلفه …

وأخذت أهبتي للعمل، وزرت المكتبة التي خلفها صاحبها أوراقًا مركومة وكتبًا تستند إلى الجدران، وبثحت عن الكتاب حتى عثرت به، وكشفت عنه، فعرفت …

هذا كتاب مطبوع بين يدي قارئه، لا يكاد يخطر بباله حين رآه أن يسأل نفسه: ما كان هذا الكتاب؟ وماذا صار؟ … ولكني محدثه بخبره، لعله — إن عرف — يجد لي عذرًا مما قد يراه فيه موضعًا للعتب أو المؤاخذة.

لقد كنت مخطئًا حين حسبت في أول أمري أني سأجد حين أجد كتابًا تام التأليف والتصنيف، ليس عليَّ منه إلا أن أهيئه للطبع، ثم أصحح تجاربه في المطبعة، فإني ما كدت أحل الرباط عن الأضابير التي تضخمه، حتى وجدت أوراقًا بالية حائلة اللون من تقادم السنين، وقصاصات مبعثرة على غير نظام، لا يكاد يعرف أين مكانها من موضوعات البحث …

ثم جهدت أن أعرف أن موضوعات الكتاب، ونهجه وتبويبه، فلم أهتد إلى شيء، ولم أجد بين يدي إلا ورقات قد اجتمعت على غير ترتيب ولا نظام، في كل صفحة منها حديث عن موضوع، ليس لها بما قبلها ولا بما بعدها سبب …

وحاولت أن أقرأ صحيفة مما بين يدي، فأعياني ذلك إعياء أيأسني من الاستمرار، فإن خط الرافعي — كما قلت في بعض ما كتبت عنه — هو أردأ خط قرأت في العربية، حتى لقد كان يعيا هو نفسه أحيانًا عن قراءة بعض ما يكتبه بخطه بعد مضي ساعات!

وحملت على نفسي ما حملت، ومضيت في القراءة متكلفًا ما لا قبل لي به، فإذا الحديث ينقطع بعد أسطر، وإذا هو يحيل على مراجع مختلفة يريد أن ينقل منها نصًّا، أو خبرًا، أو رأيًا، ومنها ما لا أملك ولا يتيسر لي، وقد يذكر رقم الصفحة المنقول عنها وقد لا يذكره، وحينًا يذكر رقم الصفحة ويغفل اسم الكتاب … وأحيانًا كثيرة يقول: «ص كذا كتاب كذا إلى العلامة». وهو يعني علامة وضعها على الصفحة المشار إليها في نسخته الخاصة. وأين مني نسخته الخاصة، وبيني وبينها من الزمان ربع قرن أو يزيد، وبيني وبين كتبه ما بين القاهرة وطنطا؟

تلك صعوبات لم أكن أتوقعها حين رضيت القيام على نشر هذا الجزء، ولكني لم أستطع أن أنكص، وحاولت أن ينسأ الناشر الأجل المضروب لتقديم الكتاب إلى المطبعة، حتى أفرع منه على وجه تطمئن إليه نفسي، ولكن ضرورات تجارية كانت تحدد له مواعيده …فطأطأت رأسي وقلت: ذلك على أي أحواله خير من إهمال الكتاب حتى يأتي عليه الزمن … وأخذت في طريقي …

أما ترتيب الكتاب، فقد استهديت فيه بما ذكرت المؤلف عن نمط الكتاب وأبوابه في الجزء الأول (ص٢٠، ٢١)، ومقتضى هذا الترتيب أن يكون أول هذا الجزء الرابع في تاريخ الخطابة والأمثال، ولكني لم أجد فيما بين يدي من المخطوط حديثًا عن هذا الباب، إلا فهارس، وجزازات، وأرقام صفحات في مراجع مختلفة. فتركت هذا الباب إلى ما بعده، وجعلت أول الكتاب الباب الخامس في تاريخ الشعر ومذاهبه وفنونه، ثم رتبت فصول هذا الباب على ما بدا لي، وكذلك فعلت في البابين السادس والسابع، ثم تجاوزت البابين الثامن والتاسع؛ إذ كان شأنهما شأن الباب الرابع. ثم أثبت في الباب العاشر فصلين كنت أحسبهما مما يشملهما موضوعه، ثم بان لي من بعد أنه أعدهما ليكونا تمامًا للباب السادس، وموضوعه «تاريخ الشعر العربي ومذاهبه» — كما ذكرت، ولكني كنت قد فرغت من طبع ما قبلهما، فلم أستطع تدارك ما فات … وكان شأن الباب الثاني عشر شأن الأبواب المغفلة مما سبق.

وقد عييت بقراءة خط المؤلف في كثير من المواضع مع وضوح القصد، فالتزمت في مثل هذه الحال أن أثبت في موضع الكلمات المشكِلة ما أراه أليق بموضعها من الكلام، أو ما أراه أشبه بالرسم من كلمات المؤلف، وجعلت ذلك بين العلامتين []، تمييزًا له. وقد أعيا بالقراءة ثم لا يبين لي القصد، فأثبت مكان ذلك علامة الحذف …، على أن ذلك قليل.

وفي بعض فصول الكتاب كان لي تصرف يتم به المعنى، أو يتسق التأليف، ويتساوق الكلام، فنبهت إلى مثل ذلك في هامش الكتاب عند موضعه (انظر فصل الشاعرات وغيره)، وجعلت فرق ما بين التعليق الذي أكتبه والتعليق الذي يكون من عمل المؤلف، أن يسبق التعليق الذي أكتبه علامة: (*)، وكلمة: (قلت).

وإذا كان خط المؤلف على ما وصفت، وعلى ما يدل النموذج المصور مع هذه المقدمة، فإن أشق ما عانيت كان في قراءة الأعلام، ولم تتهيأ لي الفرصة لمراجعة كل هذه الأعلام وتصحيحها، فصححت ما صححت منها، وتركت سائرها على ما هو؛ إذ كان في التعجيل بنشر الكتاب حفظ له من الضياع، وكان تحقيق الأعلام شيئًا يمكن استدراكه. على أني أحسب أن المؤلف رحمه الله لم يكن قد فرغ من تأليف الكتاب، والبلوغ به إلى المرحلة الأخيرة من مراحله في التأليف، على ما وصفت في أول هذا البحث، فنقل كثيرًا من الأعلام كما هي في مراجعها، ولم يفرغ من تحقيقها، وكذلك جاءت في هذا المطبوع.

فهذه معاذيري أقدمها؛ لعلها تكون شفيعًا عند الناقد المتصفح.

ولا يفوتني وأنا أكتب هذه المقدمة، أن أنوه بالمساعدة المشكورة التي أسداها إليَّ «أحمد ممدوح دسوقي أفندي» المدرس بوزارة المعارف؛ فقد قام بنسخ الكتاب عن أصله المكتوب بخط المؤلف، وهو عناء فوق ما أصف، احتمله راضيًا، لوجه العلم، ووفاء بحق الرافعي على أهل الأدب، وتقديرًا لأياديه.

ولا أختم هذا الحديث قبل أن أذكر ما وقفت عليه من تاريخ تأليف هذا الكتاب، فقد كنت أحسب أن ذلك كان بعد سنة ١٩١٢؛ أي بعد الفراغ من إصدار الجزء الثاني، ولكني رأيت إشارات في بعض الفصول من هذا الجزء تدل على أن تأليفها كان قبل ذلك التاريخ (انظر التعليق في بحث «الشعر الحكمي»، وبحث «الشعر الأخلاقي»). ولعله بدأ به مع الجزء الأول في منتصف سنة ١٩٠٩، ثم رتبه أجزاءً وأبوابًا، فنشر منه ما نشر، وطوى ما طوى. ومما يرجح عندي هذا الظن، أن جزازات مما كتب عليها بعض مباحثه، هي (استمارات) استعارة كتب من المكتبة الخديوية، وعليها تاريخ الاستعارة، ولا يكون ذلك إلا أن يكون تاريخ التأليف هو تاريخ الاستعارة. ومما يلذ أن أذكره هنا، أن جزازة من هذه الجزازات هي تذكرة دعوة إلى عرس عليها تاريخها، قد اتخذ ظهرها للكتابة …

أما بعد، فهذا كتاب جديد قديم، أحسب أن قراء العربية كانوا في شوق إليه، فلعلهم إذ يقرؤونه يجدون فيه — على قدمه — جديدًا كانوا يتشوفون إليه، فيذكرون مؤلفه بما بذل للعربية حيًّا وميتًا، فيدعون له دعوة ترطب ثراه، وتكون له شفاعة عند الله.

هوامش

(١) حياة الرافعي: ص١٨٠–١٨٦.
(٢) تاريخ آداب العرب: ج١، ص٣١٠، ٣١١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤