تمدُّن العَرب اللغَوي فلسفة الفصل

هذا فصل من الكلام نرمي فيه إلى أقصى غايات العقل العربي في الحياة، وأدنى آفاقه من الخلود؛ إذ نصف مبلغ ما انتهى إليه من الكمال في وضع هذه اللغة وإحكامها على سُنن كيفما تدبَّرتها رأيت فيها المعنى الإلهيَّ الذي لا دليل عليه إلا شعور النفس به، والنفس هي البقية السماوية في الإنسان.

تلك السُّنن التي خرجت بها اللغة كأنها عقل حيٌّ تَتلامح في جهات الحكمة خَطراته وتتراسل من أعين الوحي نظراته؛ بل كأنها معنى إلهيٌّ مُبتكَر ألقي في هذه الطبيعة ليتحوَّل به وجه العالم إلى جهة الله، فما زال ينكشف من أطرافه شيئًا فشيئًا حتى ظهر سر ابتداعه في القرآن الكريم فاتضح عن روعة تملك على الإنسان مذاهب حسِّه، وتناسب في قلبه لتتصل بالروح الإلهي من نفسه.

وقد وصفنا بما تقدم تكوين اللغة في الجملة بما فيها من أسباب القوة والجمال، ونحن واضعون من هذا الفصل مرآةً تصف محاسنها وصفًا معنويًّا تأخذ الأعين منه تفصيلًا في جملة، وجملة في تفصيل؛ لأنه ليس كالأمور المعنوية ما تجد فيه قوة الإفصاح عن الأسرار الصامتة، إذ تكون مقابلة الأوصاف بموصوفاتها نطقًا بليغًا من لسان الحقيقة.

ومن المعلوم بالضرورة أن اللغة صورة الاجتماع، وأن العرب في تمدن جاهليتهم الفصحى لا يوازِنون أمة من أمم التاريخ، بل هم لولا ما سبق في علم الله من أمر سيكون فيهم؛ وقدَر واقع بهم، وشأن في الغيب مخبوء لهم — لما عدوا في الاعتبار الاجتماعي أن يُعَدُّوا موجودات إنسانية مهملة، كأنهم بقايا منسية من التاريخ.

وقد تقرر عند الحكماء أن غنى اللغة بألفاظها، واتساع وجوه التصرف فيها دليل بيِّنٌ على مدنية أهلها وسعة متفَيَّئهم من ظل الاجتماع؛ فلا يبقى إلا أن يكون للعرب تمدن لغوي خصُّوا به من أصل الفطرة؛ إذ هم لم يكونوا في معادن العلوم ولا مواطن الصناعات، ولا كان في أيديهم من أدوات الأمم ومرافق الاجتماع إلا متاع قليل لا يبلغ بجملته أن يكون تفسيرًا موجزًا للفظ (العرب) في معجم الأمم. فالحكمة التي جعلت من قديم مدنية الفنون في أيدي الصينيين، ومدنية العلوم في رءوس اليونانيين، هي التي خصت مدنية اللغات بألسنة العرب.

وإذا تدبرت معنى التمدن بما يعطيك من آثاره، رأيت له في كل مجتمع صورتين: الأولى صورة الفرد في باطنه. والثانية صورة الجماعة في ظاهرها؛ ولن يكون التمدن حقيقيًّا إلا إذا كان أساسه نمو الصفات العقلية في الفرد الواحد بما يتهيأ له من الفضائل التي هي مادة التغير العقلي في نموه وإنشائه نشأة جديدة تستتبع نشأة التاريخ في المجموع؛ ولا مراء في أن الأحوال الظاهرة للجماعة إنما هي مرآة التغيرات الباطنة في الأفراد، فكأن الاجتماع في معناه ليس إلا مجموع آثار العقول وتاريخ التغيرات النفسية.

ونحن إذا اعتبرنا ذلك في العرب لم نرَ لهم حقيقة ولا مظهرًا إلا في اللغة، لأنه لا يكفي أن يكون العربي على أخلاق فطرية تحميها حدود البادية، وتصونها أسوار الحرية الطبيعية، حتى يقال: إن فيه ذاتًا نامية بآدابها؛ لأن هذه الآداب لم تحدث فيهم التغيرات العقلية التي تراءى بها صورة المجموع، إلا في آخر عهدهم الجاهلي حين ضمهم الإسلام، ولكنا إذا اعتبرنا لغتهم رأينا حقيقة التمدن فيها متمثلة، وشروطه في مجموعها متحققة؛ فهي منهم بحر الحياة الذي انصبت فيه جميع العناصر، وانبعث بها هذا التيار العقلي الذي يدفع بعضه بعضًا، وكأنها هي التي كانت تهذب من نفوسهم وتزنها وتعدلها وتخلصها برقَّة أوضاعها وسمو تراكيبها، حتى ينشأ ناشئهم في نفسه على ما يرى من أوضاع الكمال في لغته؛ لأنه يتلقنها اعتياديًّا من أبويه وقومه؛ وَلهِي أقوَمُ على تثقيفهم من المؤدب بأدبه، والمعلِّم بعلمه وكتبه؛ لأنها حركات نفسية مدارها على انجذاب الطبع فيهم، حتى كان العربي القُحُّ ربما أخطأ في الكلمة إذا جذبه طبعه إليها، فيعدل بها عن سَنن الفصيح — كما سيأتي في باب اللحن١ — والكمال متى كان مأتاه من الطبع، وكانت قوته في الغريزة، فأحْر به أن يصنع النفس صنعة غير طبيعية في العادة؛ ونحن نرى العرب لعهدنا لا يزالون في مواطن أسلافهم ولم تتنكر لهم الطبيعة، ولكنهم حين فقدوا خصيصة اللغة فقدوا معها خصائص كثيرة من النظام النفسي، حتى إنهم لا يصلحون في حالتهم الراهنة أن يكونوا مادة نظام سياسي في جزيرتهم، فضلًا عن أن يكونوا مادة حادث اجتماعي عظيم كالإسلام الذي جعله أسلافهم نظام العالم، فكأن بينهم وبين أسلافهم من الفرق ما يستغرق تاريخ العالم كلِّه من عهد الإسلام.
وأخصُّ شروط التمدن الاجتماعي فيما نرى، ثلاثة: هي الحرية، والنظام، والنمو. وهي التي تتخلف عن معانيها الاجتماعية آثار المدنية التي تدل على حضارة الأمم الخالية، كالأبنية والمخلَّفات الأدبية والعلمية والفلسفية، ثم الثروة الاعتبارية التي تدير حركة العمران، من التجارة والصناعة والزراعة. ثم الشرائع. وهذه الشروط هي كذلك أخص مميزات اللغة العربية. فهي حرة في أوضاعها بما يطابق الحرية الشخصية والسياسية. منتظمة في أجزائها بما يماثل نظام القوانين والشرائع، حتى أمكن أن يُحصى منها كل كلمة جاءت شاذة في بابها.٢ نامية في مجموعها بما فيها من ثروة الأوضاع التي تكافئ معاني الاقتصاد السياسي على أتم وجوهها.

فالعرب إذن قوم معنويون كان تمدنهم معنويًّا، ولو جردتهم من مزايا لغتهم وألقيت في أفواههم أصول أي لغة من لغات العالم، لخرجوا بها جنسًا مغمورًا في الأجناس، ولكانت حريتهم عبثًا ونظام قبائلهم فسادًا، ولصاروا في الجملة إلى حال الشعوب التي لا يدور بها الزمان ولكنه يلقي عليهم الأمم كلما دار ويقابلهم بالمكتشفين والفاتحين والمتخطفين وغيرهم من أجناس المجتمعات المتمدنة … بيد أن الحكمة ألقت في طباعهم هذا النظام اللغوي، وجعلتهم بحيث ينساقون في سبيله إلى الكمال، لا تعترضهم عقبة ولا يصرف وجوههم عنه صارف من نظام المدنية، فمضوا على ذلك واللغة تتخطى بهم درجات الاجتماع واحدة فواحدة، حتى انتهت بهم إلى الوحدة الجنسية، فتغير مجموعهم وانصب على العالم بقوة جديدة فتية صادفت دُوَلًا قديمة بالية فصدمتها تلك الصدمة التي هدمت التاريخ وبُني بعدها بناءً جديدًا. ولولا اللغة ما انتظم أمر العرب لأنهم قضوا أجيالًا قبل تمدنهم اللغوي لم يَنْبُهْ لهم شأن في أنفسهم، ولا عَدوْا في اجتماعهم أمر النظام الطبيعي الذي هو وسيلة حفظ الحياة لنظام الحي، لإتمام نظام الحياة، كما هو شأن التمدن الاجتماعي، واللغة هي التي جذبتهم إلى هَدْي الأخلاق بالشعر، وإلى هَدْي السياسة بالخطابة، وإلى هَدْي الدين بالقرآن.

بعض وجوه التمدن

تقدم لنا في غير هذا الموضع ما يُثبت أن تأليف الكلام في هذه اللغة مبني على أسباب لسانية، من عذوبة المنطق ومراعاة النسب اللفظي بين الحروف، بحيث لم يُلاقَ فيه بين حرفين لا يأتلفان ولا يعذب النطق بهما أو يَشْنع ذلك منهما في جَرْس النغمة وحسن السمع، كالغين مع الحاء، والقاف مع الكاف، والحرف المُطْبَق في غير المطبق، كتاء الافتعال مع الصاد والضاد، في خلال كثيرة من هذا الشكل ترجع بجملتها إلى ميل العرب فطرةً عما يُلزم كلامها الجفاء إلى ما يُلين حواشيه ويُرقها؛ وهذه العناية منهم بتأليف الحروف كانت السبب الطبيعي لعنايتهم بتأليف الألفاظ وإحكام الكلام وتوخيهم روعة الأسلوب وفخامة التركيب، وهو ما خص به العرب دون سائر الأمم.

وقد غفل بعض العلماء عن هذا السبب الطبيعي، فذهب إلى أن العرب إنما تعنى بالألفاظ لأنها تغفل المعاني، فتجد من ألفاظهم ما قد نمقوه وزخرفوه ووشَّوه ودبجوه، ولست تجد مع ذلك تحته معنًى شريفًا، بل لا تجده قَصدًا ولا مقاربًا، وعلى هذا النمط أكثر أشعارهم. وقد ردَّ على هؤلاء ابن جني في كتاب الخصائص، وتمحَّل في النضح عن العرب، لأنه كذلك لم ينظر إلى السبب الطبيعي الذي أومأنا إليه. قال: «فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسَّنوها، وحموا حواشيها وهذبوها، وصقلوا عُذوبها (أطرافها) وأرهفوها، فلا تُرَينَّ أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ؛ بل هي عندنا خدمة منهم للمعاني وتنويه بها وتشريف منها.»

والحق أن ذلك في العربية وجه من وجوه تمدنها، وقد جروا فيه على سنن طبيعية ثابتة؛ لأنهم يفرعون من المعاني فروعًا كثيرة بالمجاز والاستعارة، ثم يُجرون عليها الألفاظ التي تناسبها، فكأنهم يستغلونها استغلالًا معنويًّا. وذلك من أمرهم أيضًا في الألفاظ؛ فإنهم لا يفرِّطون في مادة تتقلب عليها حروف المنطق بما ينزل على حكمهم في التأليف من العذوبة والمناسبة، فيفرعون الألفاظ المتقاربة فروعًا كثيرة يُجرونها على المعاني المتباينة، كقولهم: رأوت في الأمر، (فكرت)، وروَّيت رأسي من الدهن، وأمثال لذلك كثيرة؛ فكأنهم بهذا الضرب يستغلون المعاني استغلالًا لفظيًّا.

ومن وجوه التمدن التي تناسب طبائع الاقتصاد المدني، هذه الحركات التي تخصِّصُ المعاني وتعيِّن الأغراض بأيسر إشارة، وهي أخص مميزات السمو العقلي، ومنها حركات الإعراب، كقولهم: ما أحسنَ زيدًا! إذا أرادوا التعجب من حسنه. وما أحسنُ زيدٍ؟ إذا أرادوا الاستفهام عن أحسن ما فيه، وما أحسنَ زيدٌ، إذا أرادوا نفي الإحسان عنه، ولا يوجد ذلك في غير لغة العرب.

ومنها حركات التصريف، كقولهم: مِفْتَح، لآلة الفتح، ومَفْتَح، لموضع الفتح، وهكذا.

ومنها حركات الفروق التي تُنوِّع المعاني، كقولهم: الإدْلاج، لسير أول الليل، والادِّلاج، لسير آخر الليل؛ وأمثلة ذلك فاشية في اللغة.

ومن هذا الباب قولهم: رجل لعْنَةٌ وضُحْكَةٌ، إذا كان يُلْعَن كثيرًا ويُضْحَك منه؛ ورجل لعَنَةٌ وضُحكَةٌ، إذا كان هو كثير اللَّعْنَ والضَّحِك.

ولعلهم لم ينتبهوا لهذه الفروق بالحركات إلا بعد أن أحدثوا مثلها في لغتهم بالحروف، كقولهم: أخفر، إذا أجار؛ وخَفَر! إذا نقض العهد؛ وأَقذى عينَه، إذا أَلقى فيها القذى؛ وقَذَاها، إذ نزع عنها القذى؛ وأَبَعْتُ الفرس، عرضته للبيع؛ وبِعْتُه، إذا انتهى البيع؛ وهكذا، فكأن الاختصار دائمًا تمثيل للانتهاء.

ومما يستنفد عجب المفكر من أمر هذا الباب الاقتصادي، تصرفهم في حروف المعاني المفصَّلة معانيها في كتب النحو، ودلالتهم بالحرف الواحد في الكلمة على المعاني المختلفة، كمعاني الهمزة والباء وغيرهما مما يُتصرف به في مناحي الكلام. ويزيد هذا العجب أن لا يكون بين المعنيين أو المعاني الكثيرة وجوه من الشبه بحيث يُتأول في رد معانيها الأصول بعضها إلى بعض، وقد أشرنا فيما تقدم إلى ما رآه بعض علماء اللغات من أن هذه الحروف بقايا ألفاظ مستقلة بمعانيها، فإن صح ذلك كان (عجبًا من العجب).

وهذا وأمثاله، مما يكشف من اللغة عن سر النموِّ الذي هو أصل من أصول التمدن بالإطلاق، وأن للعرب تصرفًا ليس في لغة من اللغات، وخاصةً أختَي العربية، فإن الزمن وقف بهما عند مُنقطَع لم يتعدَّه، وكأنَّ العربية منهما قرآن لغوي مفتتَح بهذه القاعدة التي يبنى عليها نظام الارتقاء: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا٣ فإن لغة السريان مثلًا لا تجد فيها أثرًا للفعل المبني للمجهول، كضُرِبَ زيد: أي ضربه شخص — وذلك من أنواع الاقتصاد اللغوي — وفي العبرانية لا يوجد إلا صيغتان ثقيلتان من صيغ الفعل، هذا وزنهما: فُعَال، وهُفْعال؛ ولكن العرب يستعملون المجهول في كل الأوزان، ماضيًا ومضارعًا. وقد فاتوا بذلك لغات الدنيا جميعًا.

وتجد العبرانية أيضًا قليلة الأوزان في الفعل المجرد والمزيد بحيث لا تكافئ العربية في ذلك (وقد أسلفنا في موضع تقدم أن صيغة المشاركة التي هي صيغة اقتصادية، مما انفردت العربية به)، وإنما وُضعت الأوزان لتنمية المعاني وسياستها على وجوهها المختلفة سياسة اقتصادية.

ذلك فضلًا عما امتازت به العربية من العذوبة التي كأنها شباب الحياة ورقتها بجانب ذاك الهَرَم الذي تولى العبرانية، حتى كأن ألفاظها من اللبس والتعقيد أيام الكهولة بأقدارها … ومما لا شك فيه أن فقدان ذلك السبب الاقتصادي في العبرانية هو الذي ابتلاها بالفقر من نوابغ الكتاب والخطباء لضيق مَضْطَرَبِ التعبير، حتى كأنما ينفذ المتكلم بها إلى أغراضه من صدوع ومضايق، وفي هذا العسر كله … ولما انتفى ذلك من العربية واستوفت وجوه السياسة الاقتصادية في صيغها وألفاظها، كثر شعراؤها وكتابها وخطباؤها (اللغويون)٤ إلى حدٍّ ترك رجال سائر الأمم عند الترجيح، في كفَّة شائلة.
وهنا أصل طبيعي يحسن التنبيه إليه، لأنه ثَبَتٌ لما نحن بصدده منه، وذلك أن التثنية وهي أخص مظاهر الحياة في الطبيعة، لا أثر لها في اللغة السريانية، وهي في العبرانية مقصورة على معناها الطبيعي أو ما يكون في حكمه، فلا يثنُّون إلا ما وُجِد اثنين في الطبيعة، كاليدين والرجلين … إلخ، أو ما أنزله الاستعمال هذه المنزلة، كالنعلين مثلًا، ولكنها في العربية عامة لكل الأسماء، لأن العدد نظام طبيعي عام لا يتخلف، ومنه الإفراد والتثنية ودرجات الجمع من الثلاثة فصاعدًا.٥

بقي علينا أن نذكر شيئًا من أسرار النظام في هذه اللغة غير ما سبق لنا بيانه، وهو الصلة بين طرفي التمدن اللغوي اللذين هما الحرية والنمو، وقد مضى الكلام عليهما فيما تقدم.

هوامش

(١) وكان منهم من يتوهم موضوعًا فيضع عليه ويجذبه إليه طبعه، كقول بعضهم: سؤق، في سوق جمع ساق، ومؤق، في موق العين؛ وتعليله عند النحاة أن يتوهم أن الضمة التي قبل الواو واقعة على الواو نفسها، ولذلك يهمزها تخلصًا من ثقل الضم ولا أصل لها في الهمز. وزعم الفارسي أن أبا حية النميري الشاعر كان يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة وإن لم يكن لها أصل في الهمزة؛ فيقول: المؤقدان، أي الموقدان، ومؤسى، أي موسى، وهكذا.
وعكس ذلك قولهم أيضًا: الكماة والمراة، في الكمأة والمرأة؛ كأنهم توهموا فتحة الهمزة واقعة على ما قبلها، فكأنها كمأة ومرأة «بسكون الهمزة»، وإذا كانت الهمزة ساكنة وما قبلها مفتوح وأريد تخفيفها قلبت ألفًا فتصير كماة ومراة كما ينطقون. وهذا التعليل — كما قال ابن سيده — من أدق النحو وأظرف اللغة.
وأيضًا ابن جني يعلل ذلك في «سر الصناعة» بأن الساكن إذا جاور المتحرك صارت حركته كأنها فيه. قال: ويزيد ذلك عندك وضوحًا أن من العرب من يقول في الوقف: هذا عمر وبكر «بضم الميم والكاف» ومررت بعمر وبكر (بكسر الميم والكاف)، فينقل حركة الراء إلى ما قبلها؛ وهذه من اللغات التي لم نذكرها فيما تقدم لأن لها في هذا الفصل مكانًا.
(٢) من ذلك كتاب «الشذوذ» لابن رشيد صاحب كتاب العمدة «المتوفى سنة ٤٦٣»يذكر فيه كل كلمة من اللغة جاءت شاذة في بابها. وما تجد من قاعدة في كتب العلماء إلا ولها شواذ محصورة إن كانت مما يدخله الشذوذ.
(٣) سورة البقرة: ١٠٦.
(٤) خصصنا هذه الكثرة بكونها لغوية، لأنها كذلك في الحقيقة؛ إذ القرائح لا تكون من مواهب اللغات؛ واللغة إنما هي امرأة من أدوات الحياة لا أكثر، وعندنا أنه ربما كان من شعراء بعض الأمم من يرجح شعراء العرب جميعًا في منزلة شعره لا في صنعته اللغوية، وكذلك القول في الكتاب والخطباء.
(٥) مما تتم به فائدة هذا المعنى، أن كلمة «زوج» يراد بها في اللغة الفاشية الاثنان — وقد قلبها العامة وجعلوها جوز — قال ابن الأنباري في الأضداد: وهذا «الاستعمال» عندي خطأ، لا يعرف الزوج في كلام العرب لاثنين: بهذا نزل كتاب الله، وعليه أشعار العرب، قال الله عز وجل: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ (النجم: ٤٥) أراد بالزوجين الفردين، إذ ترجم عنها بذكر وأنثى … والعرب تفرد الزوج في باب الحيوان، فيقولون: الرجل زوج المرأة، والمرأة زوج الرجل؛ ومنهم من يقول زوجة … وإذا عدلت العرب عن الناس إلى الحيوان فقالوا: عندي زوجان من حمام، أرادوا عندي الذكر والأنثى؛ فإذا احتاجوا إلى إفراد أحدهما قالوا للذكر فرد وللأنثى فردة … وكذلك يقال للشيئين المصطحبين «زوجان» كقولهم: عندي زوجان من الخفاف … فمن ادعى أن الزوج يقع على اثنين فقد خالف كتاب الله عز وجل وجميع كلام العرب؛ إذ لم يوجد فيهما شاهد له ولا دليل على صحة تأوله. ا.ﻫ وأكثر اللغويين على خلافه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤